المحقق

 

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة الناشر

الحمد لله الذي هدانا إلى مصادر الاستنباط، وأرشدنا إلى شرائع الأحكام بمتابعة الكتاب الكريم وأحاديث الرسول النذير، وقفّاهما ببيان أهل الذكر ومعادن التنزيل من آل الرسول صلى الله عليه وعليهم صلاة كثيرة مقترنة بالقبول.

أما بعد، فإنّ الشريعة الإسلامية في جانبها العملي تضم مجموعة أحكام تغطي جميع تصرفات المكلفين ليست من القضايا المدركة بالبداهة، وإن هذه الشريعة خاتمة الشرائع السماوية، وكل مكلف مسؤول بتطبيق هذه الأحكام إلى يوم القيامة، ومكلف من أجل التطبيق أن يتعرف على أحكام الشريعة أيضاً. لذا نجد المجتهد في كل واقعة يريد استنباط حكمها الشرعي من الكتاب الكريم أو السنة المطهرة بل من أي مصدر من مصادر الحكم الشرعي بما في ذلك العقل أو من مصادر أخر لاستنباط الحكم الشرعي المعتمدة التي تشترك لغرض استنباط الحكم الشرعي والتي تعرف بالمسائل الأصولية التي يلتجأ إليها.

ولم تقف مصادر أحكام الشريعة الإسلامية عند النصوص الشرعية التي وردت في القرآن الكريم والسنة المطهرة، وإنما هي أوسع نطاقاً من ذلك، فلها طرق ومصادر أخرى لاستنباط الأحكام يفزع إليها المجتهد التماساً لحكم ما يحدث من الوقائع مما لم تتعرض له النصوص.

وقد كانت مصادر الاستنباط متناثرة في ثنايا المسائل الفقهية، فالفقيه عندما يذكر حكم الواقعة ودليله، يذكر من مصادر الاستنباط ما يرتبط بهذا الحكم والاستدلال عليه.

وهكذا استمر الحال حتى استجدّت حوادث وكثُرت وقائع وتعدد المجتهدون، وتشعبت طرق استنباطهم للأحكام، فكانت الحاجة إلى مصادر استنباط أكثر مما كانت عليه، فأخذت مصادر الاستنباط تتكثر، وأخذ البحث عن كل مسألة يتضخم حتى استحقت هذه المسائل أن تنفصل عن علم الفقه وأصبحت علم مستقل يسمى بعلم أصول الفقه، وقد اهتمت مدرسة أهل البيت  عليهم السلام والحوزة العلمية في النجف الأشرف خاصة بمصادر الاستنباط على كثير من العلوم الشرعية الأُخر، حتى وصل بلوغ هذا العلم في هذه المدرسة إلى الذروة في التعمق، وهذا يفسر لنا اهتمام المصنف  رحمه الله  بهذا السفر المبارك الذي تناول فيه البحوث الأصولية الجديدة المعمّقة، وطرح فيها الأفكار والآراء، وقام باستعراضها ومناقشتها وتحليلها ونقدها.

إنّ هذه الدورة الأصولية الكاملة امتازت برصانتها العلمية ودقتها الاستدلالية، وآرائها المدعمة بالأدلة والبراهين، كما حاول الشيخ  رحمه الله  استعراض أكبر عدد من مصادر الاستنباط والتي عليها التعويل في عملية الاستنباط، مما كانت مورد بحث وخلاف بين العلماء، وقد رتب المؤلف مصنفه على شكل مصادر وعدّها إلى تسعة وعشرين مصدراً.

وقد قامت مؤسسة كاشف الغطاء العامة بتحقيقه خدمة لطلاب الحوزة العلمية والباحثين، والله من وراء القصد.

 

                                                                           مؤسسة كاشف الغطاء العامة

                                                                                      النجف الأشرف

 

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة المحقق

الحمدُ لله الذي علم القرآن، خلق الإنسان، علمه البيان، وأنعم علينا بالولاء والإيمان، وأفضل الصلاة وأتم السلام، على أفضل الرّسل وأعظم الأنام، وعلى آله الأئمة الأعلام، مسالك الرضوان وسُبُل دار السلام، وعلى من قتلهم وآذاهم لعنة الله والناس والملائكة أجمعين إلى قيام يوم الدين.

وبعد, فهذا كتاب (مصادر الحكم الشرعي والقانون المدني) لمؤلّفه آية الله العظمى الشيخ علي كاشف الغطاء  رحمه الله ، جَمَعَ فيه المصنِّف الأدلة والأصول المعتمدة عند المذاهب الإسلامية المختلفة والتي يستمد منها الفقهاء القوانين والأحكام الشرعية، مستعرضاً لها، مبيّناً مواطن الخلاف فيها، مناقشاً لها، معترضاً تارةً مؤيّداً أخرى، ابتدأها بالمصدر الأول القرآن الكريم، واختتمها بالتاسع والعشرين قاعدة (لا ضرر).

ثم إن هذا المصنَّف فريد من نوعه، فلم أر - على قلة اطلاعي- مصنفاً اجتمعت فيه الإحاطة لكلّ مصادر الأحكام عند المسلمين، مع الدقة والعمق في الطرح والمناقشة والاستدلال، مضافاً إلى الأسلوب البديع في الكتابة، ومتانة العبارة، وقوّة الحجة.

ثم إنّي استخرجتُ الآيات القرآنية، واستخرجت جميع الأحاديث المروية عن النبي  (ص)  وأهل بيت العصمة والطهارة عليهم السلام، وأشرت إليها في الهامش، وميّزتها عن المتن، وإنْ كان بعضها موضوعاً، كما وأشرت- ما أمكنني ذلك- إلى ما نقله المصنف عن الأعلام، وذكرتها في الهامش بالجزء والصفحة، ونقلت عبائرهم تسهيلاً للطلبة وللمحقّقين، ولشمول المنفعة، وترجمتُ للأعلام المذكورين ما وجدتُ إلى ذلك سبيلاً، وبقيت موارد لم أشر إليها، أو أشرت إليها بعبارة: (لم نعثر عليه)، وذلك لقلّة ما في اليد من مصادر، ولاعتماده  رحمه الله  على ذاكرته، واعتماده على نسخ خطّية بعضها لم أعثر عليها، ونقله لكثير من الأقوال الّتي سمعها مشافهة، لا سيما ما نقله عن أستاذه الشيخ كاظم الشيرازي، ثم إن كثرة المشاغل كانت سبباً آخراً.

وكان العمل في تحقيق كتاب مصادر الحكم الشرعي والقانون المدني على النسخة الخطية الموجودة في مؤسسة كاشف العظاء العامة، والتي بخط المؤلف آية الله العظمى الشيخ علي كاشف الغطاء  قدس سره.

وأخيراً هذا العمل لم يتم إلا بدعم من قبل الشيخ عباس نجل الشيخ علي كاشف الغطاء  دام ظله، نرجو من الله التسديد له بدوام التوفيق لخدمة الإسلام والمذهب.

 

 

                                                                               أسـامـة الشريفي     

                                                             الاثنين/ 21 جمادى الأولى/ 1440هـ

                                                                               النجف الأشرف

 

 

 

 

ترجمة المؤلف

نسبه:

هو الفقيه الشيخ علي ابن الشيخ محمد رضا ابن الشيخ هادي ابن الشيخ عباس ابن الشيخ علي صاحب (الخيارات) ابن الشيخ الكبير جعفر صاحب (كشف الغطاء) ابن الشيخ خضر، الجناجي النجفي المالكي.

ولادته ونشأته:

ولد  رحمه الله  سنة (1331هـ) في محلة العمارة من محالّ النجف الأشرف، شب
 في بيت علمي، ونشأ مع أسرة أدبية دينية تنحدر من سلالة عربية عريقة ينتهي
نسبها إلى مالك الأشتر([1])، وتولى تربيته جده العلامة الهادي كاشف الغطاء، فكان يلقنه المعارف والحكم، ويغذيه ويدربه على مراقي الفضل والعبقرية،
فنشأ خير منشأ([2])، وبعد أن فرغ من القراءة والكتابة توجه نحو المبادئ من العلوم الأولية، فأتقنها ومهر بها، وجدّ في تحصيل العلوم الدينية من الأصول والفقه حتى صار يُشار إليه بالبنان([3])، فأصبح من فضلاء هذه الأسرة المصلحين،
ومن حملة العلم النابهين، تفوّق على أقرانه وزاحم الشيوخ في معارفهم،
وسبق الكثير منهم في معلوماتهم([4]).

أساتذته:

ومِن أشهر أساتذته الأعلام من غير أسرته الفقيه الكبير الشيخ كاظم الشيرازي، الذي كان مِنْ ألْمع الأساتذة المُدرّسين يوم كانت النجف تَعجُّ بآلاف الطلبة ومئات المحصّلين، وكان هذا الشيخ ذا نظر ثاقب ورأي حصيفٍ وفكرةٍ نـقـّادةٍ، وكان يمتاز أيضاً بقوَّة التقرير وجزالة التحرير والفراسة الصادقة في تمييز مواهب تلامذتـه، ومنْ مصاديق قوّة التَّوَسُّم فيه أنـَّه قدَّم شيخنا المترجَم أعلى الله مقامه على سائر حُضّار بحثه، بلْ كان يُؤثره بإلقاء مطالب عالية في الفقه وأصوله على نحو الاختصاص ولم يشاركه غيره من كبار تلاميذه في حضورهـا، ثم بلغ الأمر بالشيخ الشيرازي أنْ حرَّم على الشيخ كاشف الغطاء أنْ يحضر درس غيره من الأعلام، هذا والشيخ بعد لمّا يزلْ غضَّ الإهاب، لم يخْلع بُرْدَ الفتوَّة، ولم ينـزع جلباب الشباب، وكان جُـلَّ تحصيله عليه حتى تبحر في علوم الفقه والأصول، وتضلَّعَ من المعقول والمنقول، وبلغ درجة الاجتهاد المُطْلق قبل الثلاثين من عُمُرهِ المبارك([5]).

ومن أساتذتـه في المعقول العلامة السيد علي اللكنهوي في الفلسفة والمنطق والعقائد([6])، ومن أساتذته أيضاً الشيخ ضياء الدين العراقي والشيخ محمد حسين النائيني.

تلامذته:

وتلامذتُـهُ هم جمهرةٌ صالحةٌ من كبار العلماء والباحثين والأدباء والنُّحاة واللَّغـَوييّن، من مشاهيرهم:

  • السيد جمال الدين نجل المرجع الديني الأعلى السيد أبو القاسم الخوئي  قدس سره.
  • أخوه السيد علي نجل السيد الخوئي  قدس سره.
  • العلاّمة الحجة الكاتب الإسلامي الشهير الشيخ باقر شريف القرشي.
  • العلاّمة الفقيه الشيخ عبد الكريم القطيفي.
  • العلاّمة الشاعر الكبير الشيخ عبد المنعم الفرطوسي.
  • العلاّمة الكاتب الإسلامي الشهير الشيخ أسد آل حيدر صاحب كتاب (الإمام الصادق والمذاهب الأربعة).
  • الخطيب الكبير العلاّمة الدكتور الشيخ أحمد الوائلي.
  • العلاّمة الشيخ نور الدين الجزائري.
  • العلاّمة الدكتور مهدي المخزومي كبير علماء النحو.
  • العلاّمة الشيخ حسين آل زاير دهام المخزومي النجفي.

دوره الديني والعلمي:

إن شعور الشيخ علي كاشف الغطاء نفسه إن واجبه الديني يفرض عليه أن يكون في وسط الأحداث، مرشداً وناصحاً وموجهاً ومسانداً، كان هو المحفّز للقيام بجلائل الأعمال، وقد كان له بجميع مشاركاته فاعلية وقوة وتأثير، ويمكن الإشارة إلى السمعة الطيبة والمكانة المرموقة التي احتلتها أسرته- آل كاشف الغطاء- في المجالات الدينية والعلمية والسياسية قد ساهمت إلى حد كبير في بزوغه، فهذه الأسرة العربية الصميمة قدّمت الزعماء الدينيين على امتداد قرنين من الزمان (القرن التاسع عشر والقرن العشرين)([7]).

رُجِع إليه في التقليد بعد المرجع الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء، فقد بلغ درجة الاجتهاد المطلق قبل الثلاثين من عمره، وتولى إمامة الجماعة في الصحن الحيدري الشريف في مكان والده وجده الهادي رحمهما الله، وانتقلت إليه مكتبة جده وأبيه، وأضاف إليها كثيراً من الكتب المطبوعة والمخطوطة، فهي من مكتبات النجف المهمة([8]).

وقد كان الشيخ كاشف الغطاء يتصف بِسِمات الرجل الجادِّ الذي يعمل بنشاط وحماس في كل موقف يرى فيه مصلحة للإسلام والمسلمين([9])، فكان يسعى بكل ما أعطي من حول وطول في قضاء حوائج المؤمنين، والحفاظ على دماء المسلمين، والدعوة لوحدة الصف.

إجازته في الرواية:

يروي الشيخ المترجَم بالإجازة عن جدّه الإمام الهادي عن العلاّمة الكبير الفقيه الأصولي الرجالي الشهير السيد أبي محمد الحسن آل صدر الدين الموسوي العاملي الكاظمي، وقد كتبها السيد المذكور للشيخ الهادي جدّ المترجم على نحو التفصيل وفيها من الفوائد ما لا يستغني عنه فقيه ومُحدّث([10]).

آثاره العلمية:

وله  رحمه الله  مصنفات قيّمة في مختلف فنون المعرفة الإسلامية، من الفقه والأصول والمنطق والتراجم والمناظرات بينه وبين كبار علماء الأمة من الفريقين، وهي:

أولاً: المطبوعات:

  1. الأحكام، تقريراً لبحثه الخارج في الأصول (ستة مجلدات)، طبعته مؤسسة الذخائر سابقا -كاشف الغطاء حالياً- طباعة أولية.
  2. أدوار علم الفقه وأطواره، طبعته مؤسسة كاشف الغطاء العامة سنة (1439هـ) بتحقيق الشيخ تحسين البلداوي.
  3. أسس التقوى لنيل جنة المأوى، وهي رسالته العملية، وكانت الطبعة الرابعة منه في سنة (1391هـ) من قبل مطبعة الآداب في النجف الأشرف.
  4. باب مدينة علم الفقه، طبع في مطبعة دار الزهراء في بيروت سنة (1405هـ).
  5. التعادل والتعارض والترجيح، طبعته مؤسسة الذخائر سابقا -كاشف الغطاء حالياً- وعادت طباعته مطبعة سليمانزاده في قم سنة (1430هـ).
  6. شرح العروة الوثقى، تقريراً لدرس استاذه الشيخ كاظم الشيرازي، طبعته مؤسسة كاشف الغطاء العامة سنة (1439هـ) بتحقيق الشيخ كريم الكمولي.
  7. كشف ابن الرضا عن فقه الرضا، رسالة مستلة من كتابه شرح المكاسب، حققها مصطفى ناجح الصراف, وطبعت في بيروت من قبل مطبعة صبح سنة (1432هـ).
  8. الكواكب الدرّية في الأحكام النحوية، طُبِع من قبل الذخائر سابقاً.
  9. المختصر من مرشد الأنام لحج بيت الله الحرام، الطبعة الأولى من قبل المطبعة الحيدرية في النجف الأشرف سنة (1374هـ)، والثانية في النجف أيضا في مطبعة الآداب سنة (1398هـ).
  10. مصادر الحكم الشرعي والقانون المدنـي، (مجلدان)، طبع الأول منه في مطبعة الآداب في النجف الأشرف سنة (1408هـ)، والثاني في مطبعة العاني في بغداد سنة (1410هـ).
  11. نظرات وتأملات، وهو شذرات من المطارحات العلمية والمناظرات الأدبية بينه وبين الدكتور فيليب حتي.
  12. نقد الآراء المنطقية (مجلدان)، طبعته المطبعة الحيدرية في النجف الأشرف، وطبعة أخرى من قبل مطبعة سليمانزاده في قم سنة (1427هـ).
  13. نهج الصواب إلى حل مشكلات الإعراب، طبعته مؤسسة الذخائر سابقاً.
  14. نهج الهدى في علم الكلام، المطبعة الحيدرية في النجف الأشرف سنة (1354هـ).
  15. النور الساطع في الفقه النافع، تقريراً لبحثه الخارج في الفقه (مجلدان)، الطبعة الأولى منه من قبل مطبعة الآداب في النجف الأشرف سنة (1381هـ)، والثانية من قبل ستارة في قم المشرفة في سنة (1430هـ).

ثانياً: المخطوطات:

  1. إظهار الحق، شـرح لحاشية الشيخ ملا عبدِ الله اليزدي.
  2. الحق اليقين في تراجم المعصومين  عليهم السلام .
  3. رسالة في أمارية اليد.
  4. رسالة في وحدة الوجود.
  5. شـرح الرسائل (ستة عشر مجلدا).
  6. شـرح المكاسب (اربعة مجلدات).
  7. شرح تجريد الاعتقاد.
  8. شرح كفاية الأصول (عشرة مجلدات).
  9. شـرح منظومة السبزواري.
  10. الكلم الطيب، مجموعة رسائل ومقالات.

وتعمل مؤسسة كاشف الغطاء العامة على تحقيق وإخراج تلك الدرر ضمن موسوعة تراث الشيخ علي آل كاشف الغطاء.

وفاتُهُ:

لبَّى نداء ربه بعد أنْ أكمل تكبيرة الإحرام من فريضة العشاء، وكان ذلك في ليلة الأربعاء 19 رجب الأصَمّ من سنة (1411هـ)، ودفن في مقبرة جدّهِ الشيخ الأكبر كاشف الغطاء في محلة العمارة من محال النجف الأشرف([11]).

 

 

 

F

مُقَدّمة المؤلّف

الحمدُ للهِ ربّ العالمين والصَّلاةُ والسَّلام على مُحمَّدٍ وآلهِ وصَحْبِهِ الطَّيبين الطاهرين.

وبعدُ، فيقولُ المفتقر إلى الله تعالى علي نجلُ المرحوم الشيخ مُحمَّد رضا نجل المرحوم الشيخ هادي من آل كاشف الغطاء: قد وضعت هذا الكتاب للبحث عن الأدلة والأصول التي تستمدّ منها الفقهاء القوانين الشرعية، وتستنبط منها المسائل الفرعية، وترجع إليها في معرفة الأحكام الفقهية، سواء أفادت القطع بالحكم الشرعي، أو الظّن المعتبر به، أو كانت مما يرجع إليهما في مقام الشك الشرعيّ كالأصول العملية، بل يمكِنُ لأربابِ القوانين المَدَنيّة أنْ يستفيدوا منها ويَنْهَلوا مِنْ مَعينِ مَعْدِنِها، مُتَوخّياً في ذلكَ سبيلَ الاختصار المثمر الذي لعله يغنيهم عن التطويل، وباحثاً عن كلِّ دليلٍ أو أصلٍ اتَّخَذَه الفُقَهاءُ مستنداً للحكم الشرعيّ الفرعي، أو اتَّخَذه أربابُ القوانين المدنية مصدراً، وسمّيته بــ(مصادر الحكم الشرعي والقانون المدني). والله الموفق للانتفاع به.

 

 

 

المصدر الأول
القرآن
 الكريم

القرآن المجيد كتاب لا ريب فيه هدىً للمتقين، ودستور من دساترة رب العالمين، اُنزل على الرسول الكريم  (ص)  في 23 سنة، وقد اشتمل على أغلب القواعد الفقهية، وروعي فيه بيانُ الأحكام الشرعيّة ممزوجةً بالوعظ والإرشاد والوعد والوعيد وقصص الأنبياء والصَّالحين، وما ناله الكُفَّارُ والمخالفون من العذاب الأليم في الدنيا قبل الآخرة، لتقوية الضمير في الطاعة، والبعد عن المعصية، وإيجاد الوازع الديني نحو المثل العليا والأخلاق الفاضلة؛ والحجة فيه هو النّص أو الظاهر.

أمّا النصُّ: فهو الدّالُّ على المراد من غير احتمالٍ لغيره؛ ويقابله المجمل بالمعنى الأعمّ، أعني: ما دَلَّ على المراد مع احتمال غيره، وبالمعنى الأخص: هو خصوص الذي لا يعرف معناه.

وأمّا الظاهر: فهو ما دَلَّ على المراد مع احتمال غيره احتمالاً مرجوحاً؛ وفي مقابله المتشابه.

وأمّا المؤول: فهو الذي أراد به المتكلم خلاف ظاهره؛ وقد يطلقون المتشابه ويريدون به المجمل بالمعنى الأخص والمؤول([12]).

والقرآن قطعيُّ الصدور، لتواتر نقله عند المسلمين من حين نزوله حتى الوقت الحاضر.

وأمّا من حيث الدلالة فقد يكون قطعياً إذا كان اللفظ لا يحتمل فيه إلاّ معنى واحداً كنصوصه؛ وقد تكونُ دلالته ظنية إذا كان اللفظ يحتمل أكثر من معنى واحد كظواهره.

أمّا حجية نصوصه وظواهره فقد منع بعض الأخباريين([13]) منها، وقالوا: إن الكتاب ليس بحجّة مطلقاً، إلاّ ما روي تفسيره عن المعصوم([14]).

ويقال([15]): إنّ أول مَنْ فتح هذا الباب صاحب الفوائد المدنية([16]).

وقيل: إنه يظهر من كلام الشيخ الطوسي في التبيان([17])، والعلامة الحلي في نهاية الأصول([18]) نسبه إلى الحشوية([19]).

ويُدَلُّ على حجّيته السيرة المستمرّة بين المسلمين على التّمسك به من زمن الرسول  (ص)  إلى زمن الصَّحابة والتابعين والسلف الصالحين وثقاة رواة المعصومين بلا رادع من أحد منهم، مع ما في الأخبار المتسالم على صحّتها دلالة واضحة على حُجّيته، مثلَ حديثِ الثقلين المشهور بين الفريقين شهرة كادت أن تبلُغُ حَدّ التواتر وهو قوله  (ص) : (إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي)([20])، وقوله  (ص) : (إذا التبست عليكم الفتن كالليل المظلم فعليكم بالقرآن)([21])، وقوله  (ص) : (القرآنُ هدىً من الضَّلالة)([22])، ونحو ذلك ما وَرَدَ من الأمر بعرض الأخبار على الكتاب، وَرَدّ الشروط المخالفة للكتاب، والأمر بالرجوع إليه([23])، وُيؤيّدُ ذلك الآيات الآمرة بالأخذ به، والعمل به، كقوله تعالى في سورة البقرة: [ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ]([24])، وكقوله تعالى: [وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ] ([25])، وغيرهما من عشرات الآيات.

نعم، لا يجوز التمسُّكُ بالمتشابه منه، وهو الذي ليس بنصّ ولا له ظاهر، بدون دليل ولا شاهد على المراد منه، بل بمجرّد رأيٍ واستحسان ما أنزل الله به من سلطان.

ولقد كانت الآيات المكيّة منه تبعث نحو تكوين العقيدة والأخلاق
الكريمة، ولهذا تجدُ فيها القَصْرَ والإيجاز، ليسهل على القارئ والمستمع
وعيها وتفهّمها، بخلافِ الآيات المدنية، فإنّها كانَتْ تبعث نحو تفهُّم الأحكامِ الشرعيّة، ولهذا تجد فيها الطول، لاحتياج شرح الحكم وبيان حدوده إلى
البسط والتوضيح، وقد ذكروا أنَّ مجموع آياتِ الأحكام (500) آية([26])، وأنَّ
الباقي منها تتعلَّقُ بالعقائد الدينية، والأخلاق الحميدة، والقصص التي فيها الموعظة الحسنة، والأمثال المتنوّعة التي تُرْشِدُنا لما فيه الخير والصَّلاحُ والسَّعَادَةُ والفلاح.

ثم إنّ أقوى ما يتمسَّك به المانعون من العمل بالقرآن المجيد وجوه:

أحدها: الأخبار المتواترة المدّعى ظُهُورُها في المنع عن ذلك، مثل النّبوي: (من فَسَّرَ القرآن برأيه فليتبوّأ مقعده من النار)([27]) والنبوي: (من فّسَّرَ القرآن برأيه فأصابَ الحقَّ فقد أخطأ)([28])، وعن الرضا  عليهم السلام ، عن أبيه، عن آبائه، عن أمير المؤمنين  عليهم السلام ، قال: (قال رسول الله  (ص) : إنَّ اللهَ  عجل الله فرجه الشريف قال في الحديث القُدْسي، ما آمن بي من فَسَّرَ برأيهِ كلامي، وما عَرَفَني من شبهني بخلقي، وما على ديني مَنْ استعملَ القياسَ في دِيني)([29])، وعَنْ مَجْمَعِ البيان، أنه قد صَحَّ عن النبيّ  (ص)  وعن الأئمّة القائمين مقامه عليهم السلام: إنّ تفسير القرآن لا يجوز إلا بالأثر الصحيح، والنّص الصريح([30])، وقوله: (ليس شيء أبعد من عقول الرجال من تفسير القرآن)([31]) إلى غيرِ ذلك مما ادّعى في الوَسَائل في بابِ القَضَاءِ تجاوزُهُا عن حَدّ التواتر([32])، ومرجع هذا الوجه إلى أنَّ المتكلِّم به لم يَقْصِدْ إفادَةَ مُرادِهِ بنفس هذا الكلام فهو خَارِجٌ عن قواعِدِ الخطابة.

والجواب عن ذلك: منع دلالتها على المنع عن العمل بالظواهر الواضحة المعنى بعد الفحص عن نسخها وتخصيصها، وإرادَةُ خلافِ ظاهرها في الأخبار، إذ ليس ذلك تفسيراً، إذ التفسيرُ كشف القناع، لا مطلق حَمْلِ اللفظ على معناه، ولو سُلِّمَ ذلك، فالمراد بالرّأي هو الاعتبارُ العقليّ الظنيّ الراجع إلى الاستحسان، فلا يَشْمَل حمل اللفظ على ظاهره اللغوي والعرفي، فالتفسير بالرّأي إمّا حَمْلُ اللفظ على خلافِ ظاهره، أو أحدُ احتماليه لرُجْحان في نظره القاصر وعقله الفاتر.

الوجهُ الثاني: طروُّ التقييدِ والتَّخصيص والتجوُّز في أكثر القرآن وظواهره، فأوْجَبَ فيهِ الإجمال.

وفيه: أولاً: النّقْضُ بظَواهِرِ السُّنَّة للقَطْعِ بطروّ مُخَالَفَةِ الظَّاهر في أكثرها.

وثانياً: إنّ غاية ذلك وجوبُ الفحص دُونَ السُّقوط؛ لأنّ المعلوم إجمالاً هو وجودُ مخالفاتٍ كثيرة في الواقع فيما بأيدينا، بحيثُ يَظْهَرُ تَفْصيلاً بعد الفحص، وأمّا وجودُ مخالفاتٍ في الواقع زائداً على ذلك، فغيرُ معلومٍ ينفى بالأصل، وحينئذٍ فالمانعُ من العمل قبل الفحص هو احتمال وجود مخصص يظهر بالفحص، وهذا المانع يزولُ بعد الفحص قطعاً، والذي يبقى بَعْدَ الفحص هو احتمالُ وجود مخصِّصٍ في الواقع لم نظفر به بعد الفحص، ومقتضى الأصل عدمه.

الوجه الثالث: ما ذَكَرَهُ بَعْضُهُم أنه ما من آية مُتعلِّقَةٍ بالفُروعِ والأُصول
 إلاّ وَرَدَ بيانَها أو في الحكم الموافق لها خَبَراً وأخبارٌ كثيرة بل انعقد
الإجماع على أكثرها مع أنّ جُلَّ آياتِ الأصول والفروع، بل كلُّها مما
تعلَّق الحكم فيها بأمور مُجْمَلَةٍ لا يمكنُ العمل بها إلاّ بعد أخذ تفصيلها من الأخبار([33]).

وفيه: إنّ هذا وإنْ تَمَّ في الآيات الواردة في باب العبادات جلاّ أو كلاّ،
إلا أنه غيرُ جارٍ فيما وَرَدَ في باب المعاملات، ضرورةَ أنَّ الإطلاقات الواردة
فيها مما يتمسَّك بها في الفروع الغير المنصوصة أو المنصوصة بالنّصوص المتعارضة كثيراً جدّاً، مثل قوله تعالى: [أَوْفُوا بِالْعُقُودِ]([34])، [وأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ]([35])، [تِجَارَةً
عَنْ تَرَاضٍ]([36])، [فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ]([37])، [وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ]([38])، [وَلاَ تَقْرَبُوا
مَالَ الْيَتِيمِ]([39])، [وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ]([40])، [إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا]([41])،
[فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ]([42])، [فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ]([43])، [عَبْدًا مَمْلُوكًا لاَ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ]([44])، [مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ]([45])، إلى غير ذلك، بل وفي العبادات كذلك، مثل قوله: [إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ]([46])، وغير ذلك مثل آيات التيمم والوضوء والغسل والصلاة وغيرها، وهذه وإنْ ورد فيها أخبار في الجملة إلاّ أنه ليس كلُّ فرعٍ مما يُتَمَسَّكُ فيه بالآية وَرَدَ فيه خبرٌ سليمٌ عن المعارض، فلاحظ.

الوجه الرابع: إنَّ وجوبَ العمل بظواهر الكتاب بالإجماع، مستلزم لعدم جواز العمل بظواهره؛ لأنَّ من تلك الظواهر ظواهرُ الآيات الناهية عن العمل بالظنّ مُطْلَقاً حَتَّى ظَواهِرُ الكتاب.

وفيه: أنّ فَرْضَ وُجودِ الدّليلِ على حُجّية الظواهر، يُوجِبُ عَدَمَ ظهور الآياتِ النّاهية في حُرْمَةِ العَمَلِ بالظواهر؛ لأنّه أخصُّ منها، مع أنَّ ظواهر الآيات الناهية لو نَهَضَتْ للمنعِ عَنْ ظواهرِ الكتاب، لمنعت عَنْ حُجَّيةِ أنفسها؛ لأنّها منها، إلا أنْ يمنعَ شمولها لأنفسها فتأمل.

وينبغي التنبيه على أمرين:

الأول: إذا اختَلَفَتْ القراءة، وكان اختلافُها مُوجباً لاختلاف الحُكْمِ الشَّرعي كما في قولِهِ تعالى: [حَتَّى يَطْهُرْنَ]([47])، حيثُ قرأ بالتشديد من التطهّر، الظاهر في الاغتسال، وَقَرأ بالتَّخفيف([48]) من الطَّهَارة الظَّاهرة في النقاء عن الحيض، فمع التكافؤ في القراءة يتوقَّفُ ويَرْجِعُ إلى غيرهما فيستصحب الحرمة فيما نَحْنُ فيه قبل الاغتسال، أو بالجواز بناءً على عُمومِ قوله تعالى: [فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ]([49])، للأزمان، خَرَجَ منه زمن الحيض على الوجهين بكون المقام من استصحاب حكم المخصِّصِ، أو العَمَلِ بالعُمومِ الزَّمَاني، ومَعَ عَدَمِ التكافؤ في القراءة يُؤْخَذُ بأقوى القراءتين.

الثاني: أنه لا يُؤْخَذُ بالقراءة الشَّاذَّةِ في العَمَل بالآية، لِكونِ ما عَداها أرجح منها، خلافاً لما يُنْقَلُ عن بعض العامة([50])، وعليه فلا يعمل بقراءة ابن مسعود في كفارة اليمين: فصيام ثلاثة أيام متتابعات([51])، في وجوب التتابع في كفارة اليمين لأن القراءة المشهورة على خلافها.

 

المصدر الثاني
الإجماع
([52])

والإجماع لغة بحسب التحقيق: هو ضم المتفرّق واجتماعه واتفاقه، وهو يقابل الاختلاف والتفريق([53]).

وفي الاصطلاح: هو الاتفاق من أمة محمد  (ص)  على أمر من الأمور الدينية.

وهو المحكي([54]) عن متقدمي أهل السنة، كالقاضي([55])، والجويني([56])، والغزالي([57])، ولكن متأخريهم لما رأوا أن لا مقالة للعوام في أمور الدين؛ لأنهم همج رعاع أتباع كل ناعق، عدلوا عن ذلك، واقتصروا على اعتبار قول العلماء، وعرَّفوُه بأنّه: اتّفاقُ أهلِ الحَلِّ والعقد من أمّةِ محمّد  (ص)  على أمر من الأمور الدينية([58])، وقيّدوه بالدّينية لإخراجِ الاتّفاق في الأمور الغير الشرعية كالعقليات والعُرفيات، فإنَّ الاتفاق عليها ليس من الإجماع عند الفقهاء.

وكان مالك يذهب إلى أن الإجماع يتحقق باتفاق فقهاء المدينة([59])، وداود الظاهري يذهب إلى أن الإجماع لا يعتبر إلا من الصحابة دون من بعدهم([60])، وأنكر حجيته النّظّام المتوفى سنة (231هـ) معللاً ذلك بأنَّ الإجماع إنْ استند إلى دليلٍ قطعيٍّ فيكونُ ذلك الدّليلُ هو الحجّة، وإنْ استَنَدَ إلى دليلٍ ظنّيٍ فلا يمكن تحقُّقُ الإجماع لاختلافِ العُلَمَاء في الاستنباط منه([61])؛ ونسب إنكار حجيته لفقهاء الأخباريين من الشيعة([62])، وأما الأصوليونَ من الشَّيعة فيذهبون إلى أنَّهُ أعظم حجة إذا كشف كشفاً قطعياً عن رأي المعصوم بمؤداه، سواء كان العلم من جهة اشتمال المجمعين عليه من دون تشخيصه، كاتّفاقُ علماءِ بلدٍ كانَ المعصوم فيها، كاتّفاقِ أهلِ المدينة، أو من جهة الحدس؛ لأنَّ العادَةَ قاضيةٌ بأنَّ أصحاب الشخص إذا اتفقوا على شيء فهو لابُدَّ وأنْ يكونَ قائلاً به، أو من جهة قاعدة اللُّطف، فإنّها تقتضي ردع الله الأمة لو اتفقت على الباطل، فإنَّ من أعظم الألطافِ من الله الواجبة إظهار كلمة الحقّ على لسان داع يدعو لها لأنه إذ ذاك ينكشف به الواقع([63]).

وأما إذا لم يكشف الاتفاق عن رأي المعصوم فلا دليل على حجيته فلا يصحُّ الاعتمادُ عليه في معرفة الحكم الشرعي، ومن هنا يظهر لك أنه لو وجد مع الإجماع آية أو رواية أو مستندٌ آخر احتَمَلَ أنَّ فتوى المجمعين كانت مستندة له سقط الإجماع عن الحُجيَّة عند الشيعة([64])؛ لأنّه حينئذٍ لم يكشف عنْ رأي المعصوم على سبيل القطع، لاحتمال أنّ المجمعين استندوا في فتواهم لذلك المستند، ولابُدَّ حينئذٍ للمجتهد من ملاحظة ذلك المستند ومدى صحته، واعتباره، وحُدود دلالته، ولا وَجْهَ لإنكار حُجيّة الإجماع إذا حصل به الكشف عن رأي المعصوم؛ لأنه يُفْضي إلى إنكارِ حُجيّة قولِ المعصوم، وكلّما دَلَّ على حُجيّةِ قَوْلِ المعصوم، يَدُلُّ على حُجيّتِهِ من العقل والنّقل، وإنْ أراد المنكر أنه لا يتحقَّق الإجماع المذكور، أو لا يمكن العِلْمُ به، أو لا يُمْكن كشفه عن رأي المعصوم، فيكونُ إنكاره إنكاراً لتحقُّقِهِ لا لحجيته.

أدلة حجية الإجماع وإنْ لَمْ يَكْشف عن قول المعصوم

وقد استدلّ علماء أهل السنة على حجيّة الإجماع وإنْ لم يكشف عن قول المعصوم، ذاهبين إلى وجودِ العصمة عن الخطأ في اجتماع العُلَمَاء على رأيٍ واحدٍ، وإنْ جَازَ في كُلِّ واحدٍ منهم الخطأ فيكونُ الإجماعُ عندهم حُجَّة من باب التعبّْد الصِّرف، كالأسبابِ الشَّرعية من اليد والفِرَاش وغيرها، لا من باب الكَشْفِ عَنْ قولِ المَعْصومِ، واستدلّوا على ذلكِ من العقل بما ذَكَرَهُ إمام الحرمين، مِنْ أنَّ الإجماع يَدُلُّ على وُجودِ دَليلٍ قاطعٍ في الحكم المجمع عليه؛ لأنّ العَادَة تقضي بامتناعِ اجتماع مثلهم على مظنونِ كاجتماعهم على أكلْ طعامِ واحدٍ ولبسٍ واحد وفعل واحد([65]).

وفيه: أنّ غايَةَ ما يَثْبُتُ بذلك إنَّ إجماعهم عن مأخذٍ معتَبَرٍ عندَهُم، لا ما أفادَ القَطْعُ لغيرهم، بل لا يُفيدُ ذلك أيضاً إذا لم يعتبر فيه العدالة.

واستدلّوا على ذلك من الكتاب بقوله تعالى: [وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ]([66])، حيثُ تَوَعَّدَ اللهُ تعالى على اتّباع غيرِ سبيل المؤمنين([67]).

وفيه:

أولاً: أنّهُ بقرينَةِ العَطْفِ وكونُ فاعل (يتبع) ضمير يعودُ لمن يشاقق، يكون المراد من سبيل المؤمنين هو سبيلهم في متابعة الرسول من الاقتداء به.

ثانياً: يحتمل أنَّ المراد بالسبيل هو الصراط والطريق للمؤمنين في العقائد الدينية والمعارف الإلهية، لا في فتاويهم الشرعية.

ثالثاً: إنّ فاعل (يتبع) ضمير يعود لمن يشاقق المتبيِّن له الهدى؛ ولا ريبَ أنّ المتبيّن له الهدى إذا اتّبعَ غيرَ سبيل المؤمنين يعذب، لا بمخالفته للمؤمنين، بل لتبين الهدى له، وعليه فتكونُ الآيةُ ناظرةٌ إلى أنَّ مَنْ تبيَّنَ لهُ الهُدى، وعمل على الهدى، ولم يتّبع سبيلَ المؤمنين لا مؤاخذة عليه.

رابعاً: إنّ المعصومَ كالنبيّ  (ص) ، أو الأئمة عند الشيعة من المؤمنين، فلابُدَّ أنْ يكون سبيله سبيل المؤمنين، ومَعَ عدمِ إحراز كَوْنِ المعصوم متّفقاً رأيه مع أهل الإجماع، لم يَعْلَم أنَّ السبيل غير سبيل المؤمنين بأجمعهم، ومع عدم الإحراز
لا حجية للإجماع، لعدم إحراز تحقُّق موضوعها، وهو كونُ السبيل سبيل المؤمنين.

واستدلوا بقوله تعالى: [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ]([68])، فإنّهم لو أجمعوا على الخطأ لكانوا آمرين بالمنكر([69]).

وفيه: أنه يَدُلُّ على عَدَمِ تَعمُّدِ الخطأ، لا عَدَمُ وقوعه؛ لأنّ المراد ما هو معروف ومنكر بنظرهم لا في الواقع.

واستدلّوا بقوله تعالى: [وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ]([70])، باعتبار أنَّ المخالفة لهم تُوجِبُ أنْ تكونَ الأمَّةَ شهداء عليه بالمخالفة، ولو وافقهم تكون الأمة شهداء عليه بالموافقة.

وتقريب الاستدلال بهذه الآية بهذا النحو أحسن مما ذكره القوم من الاستدلال بها باعتبار أنّهم وسط بتفسيره بالعدل([71]).

وفيه: إنّ الشهادة عليه بالمخالفة لا توجبُ بطلانَ قولِهِ في نظره إذا لم يكن مخالفاً واقعاً، فإنَّ مُجرَّدَ الشَّهادة بالفسق لا تُوجِبُ الفسق واقعاً، ولذا ارتكاب العَمَل الموجب لشهادة الغير بالفسق لا توجب حُرْمَةَ ذلك العَمَل عليه إذا لم يَكُنْ في الواقع معصيةً في نظره، على أنّه مع عدم إحرازِ مُوافقة المعصوم لهم لم يَحْصل إحراز شهادَةِ الأمَّة بأجْمَعِها عليه.

واستدلّوا على ذلك من الأخبار بما رواه العامّةُ والخاصّةُ عن النبي  (ص) ، أنه قال: (لا تجتمع أمتي على ضلالة)([72])، كما في رواية أبي اللّيث السَّمرْ قندي.

وفيه:

أولاً: فإنّه مع اجتماع الأمّة بأجمعها لابُدّ وأنْ يكون المعصوم معها وإلاّ لم تكُنْ الأمّة لأنّ المعصوم منها، فَمَع الشكّ في دخول المعصوم مع المجتمعين لم يحرز اجتماع الأمة.

وثانياً: إنَّ الظاهر هو الاجتماعُ على الضَّلالة والمعصية بهذا العنوان،
بأنْ تعلم الأمّة أنَّ العَمَل الفلانيّ معصية وضلالة ويرتكبونه بأجمعهم، وهذا
أمرٌ أجنبيٌ عن الإجماع، وإنّما يَرْجِعُ إلى اتّفاقهم على العصيان غير واقع
منهم.

طرق حصول الإجماع ومعرفتها وحجيتها

إنّ للإجماع طُرُقاً ثلاثة:

الطريقُ الأوّل  [من طرق تحصيل الإجماع]:

وهو المنسوبُ للمتقدّمين من علماء المسلمين، وقد سَلَكَهُ أهلُ السُّنِّة وقُدَمَاءُ الشّيعة من أنَّ الإجماع اتّفاق الكُلّ([73]).

والكلامُ في هذا المسلك تارةً في الصُّغْرَى، وبيانُ اتّفاق الكُلِّ بما يتحقَّقُ وكيفَ يعلم، وأخرى في الكبرى وبيان مدرك الحجية.

أمّا الكلامُ في الكُبْرى لإحراز دخولِ المعصوم فيهم؛ لأنه من الكلّ المتفقين، ودخوله يكون قولاً أو فعلاً أو تقريراً أو تركاً، كأن ترك جماعة الأذان في الصلاة وفيهم المعصوم يكون حجة، ومع عدمه فليس بحجة، وعليه فلو أفتى جماعة، ولو أقل من عشرة، وعلم أن أحدهم المعصوم كالنبي  (ص)  والأئمة

 كان قولهم حجة، وإنْ خالفَهُم الجميع.

وأمّا عِنْدَ أهلِ السُنَّة، فمجرَّدُ الاتفاق من الكلّ، وإنْ لم يَكُنْ المعصوم داخلاً مَعَهُم هو حُجّة، وتقدَّم في ذلك أدلّتهم.

أمّا الكلامُ في الصُّغرى فهو أنَّ إمكان الإجماع، بل وقوعه مما لا ريب فيه، ومجرّد انتشار العلماء في الأقطار واختلاف القرائح والأنظار لو أثّرَ فهو في العلم به، لا في إمكانه أو وقوعه.

والقولُ بأنَّ الإجماع إنْ كان عن تخمينٍ فلا يجوز اتّباعه أو عن دليلٍ قطعي فالعادة تقضي بنقله، فيغني عن الإجماع، أو ظني، فتباين الأنظار واختلاف القرائح يمنع من الاجتماع عليه([74]).

مدفوع بأنَّ ذلك يمنع من الاطّلاع على الإجماع، لا عَنْ إمكانِهِ ووقوعه، بأنَّ عَدَمَ وجوب الاتباع لو كان الإجماع عن تخمينٍ يمنعُ الحُجيِّةَ دونَ الإمكان والوقوع، وكذلكَ إغناء القطعيّ عنه، فتأمّل، واختلافُ القرائحِ غيرُ مانعٍ من الاتّفاق بَعْدَ وجودِ الدَّاعي وهو الدّليلُ المعتبر.

والحاصل: إنَّ إنكارَ الإمكان أو الوقوع مما يحكم بفساده الضرورة والوجدان، وإنّما الإشكالُ في العلم بهِ على هذه الطريقة؛ لأنّ العِلْمَ بفَتَاوَى
كُلِّ واحدٍ من العلماء الموجودين في عَصْرٍ واحِدٍ مما كادَ أنْ يَلْحَقَ بالمحالات، لتوقُّفِهِ على مُشافَهَةِ كُلِّ واحِدٍ منهم، وهو مما لا يمكن عادَةً بَعْدَ انتشارهم في مشارق الأرض ومغاربها، وفي الأصقاع والأقطار والبراري والقفار، وزوايا الخمول، حتّى لو رَامَ المجتهدُ تحصيل الإجماع ولو في مسألةٍ، لا يَحْصل لو أفنى عمره مع احتمالِ السَّهو من المفتي والنّسيان والتقيّة والتورية والرجوع عن فتواه، مع الغضّ عَنْ احتمالِ الكَذِبِ الذي لا يَكَادُ يَخْلُو منهُ إنسان، ونَفْيُها أو نفي بعضها بالأصل لا يجدي في حصول العلم، ولذا نذهب إلى أنَّ طريقةَ القُدَمَاء على ما يساعده الاستقراء لابدّ أن تكون حدسية، بمعنى معرفة موافقة باقي العلماء من اتّفاق هؤلاء الجماعة بالحدس؛ لأنا قاطعون بأنَّ المرتضى([75])،
أو القاضي([76])، أو الاسكافي([77])، أو ابن زهرة([78])، أو سلاّر([79])، أو نحوهم من قدمائنا الكبار لم يشافه كُلّ واحد منهم كُلُّ فَرْدٍ من عُلَمَاءِ عَصْرِهِ، مع أنَّ كُتُبَهُمُ مشحونة من دعوى الإجماع.

والتّحقيقُ أنْ يقال: إنَّ العلم بالإجماع لا يَحْصَلُ إلا بأمورٍ ثلاثة:

أحدها: الحَدَس، بأنْ يطَّلِع على جُمْلَةٍ من فتاوى العلماء المتبحّرين، فيحدس من ذلك موافقة الباقين لهم، لاعتقاده بعدم معقولية المخالفة لهم، كما يقال: إنّ علماء النحو مجمعون على أنَّ الفاعل مرفوع، مع عدم الاطّلاع إلاّ على بَعْضِ فحولِ علمائهم، ولَعَلَّ دعاوي الإجماع من عُلَمَاءِ أهلِ السُّنَّة، بل ومن علماء الشيعة مع عدم الاطلاع على رأيِ باقي العُلَمَاء لكثرة العلماء وصعوبة الاطلاع على أقوالهم كانت من هذا القبيل.

ثانيها: الحِسُّ بالاستقراء لجميع الفقهاء، ضَرورَةَ عدم حصول العلم بالكلّ، مع الشكّ في ثبوت الفتوى بالحكم لبعض الأفراد لم يحصل به بالحس باتفاق سائر الفقهاء.

ثالثها: الفعلُ بأنْ يقوم على الفتوى دليلٌ واضح الدلالة، سهل الاطلاع عليه، بحيثُ الوُضوحُ والسّهولة يُوجبان حُكْمَ العقل باتّفاق الفقهاء على الفتوى بمضمونه، ومن هذا ما قامت عليه ضَرورَةُ الدّين والإجماع في مثل هذه الأيام، غيرُ مستندٍ إلى الثاني وهو الحسّ، لما ذكرنا من عدم إمكان مشاهدة كُلِّ واحِدٍ من العُلَمَاء، فضلاً عن مَعْرِفَةِ فتواهُم في المسألة، إلاّ إذا فُرِضَ كَونُ علماء العصر معدودين حاضرين في مجلسٍ واحد، وهو مجرَّدُ فَرْضٍ غير واقع، مع أنَّ باب احتمال الخلاف مع ذلك غيرُ مُنْسَدٍّ، لاحتمال أنَّ بعضهم لم يحضر، أو لاحتمال السهو في الفتوى والنسيان والخطأ ونحو ذلك، بل حكى الرازي([80]) عن جماعة: إنّا لو فَرَضْنا أنَّ سلطاناً جَمَعَ علماء العالم فَرَفَعوا أصواتهم إنّا أفتينا بكذا لما حَصَلَ العلم بالإجماع، لجواز أنْ يكون مخالِفٌ خاف الجمع أو الملك أخفى صوته بالخلاف من ضَجيج الخلائق([81])، ولا إلى الثّالث لعدم صحة الاعتماد على هذا الإجماع، إنّما المتبع هو ذلك الدليل، فيُؤخَذُ بمقدارِ دلالَتِهِ وحدودهما بالإجماع، لكونِهِ تابع لها، مع أنه لم يكن معرفة الإجماع بطريق الحس بالفتوى منهم، كما هو المفروض.

وأمّا الأول([82]): وهو الحَدَس فيُمْكِنُ الأخْذُ به لمن حَصَلَ عندَهُ الحدس القطعيّ بذلك، ولعلَّ الإجماع المدّعى من المتأخّرين من الفريقين يكونُ من هذا القبيل، وأمّا لو كانَ حَصَلَ عِندَه الحَدَسُ الظنّي بالإجماع، فالظنُّ ليس بحجة؛ لأنه لم يقم دليلٌ على اعتباره. هذا.

مع أنّه لم تَكُنْ معرفة الفتوى منهم من طريق الحسّ، كما هو المفروض، وإنّما كانت من طَريقِ الحَدَس، هذا.

وإنّ بعضهم([83]) قد تخيَّل أنَّ هناك طريق رابع لمعرفة اتّفاق المجتهدين على الفتوى بطريق المكاشفة، كما يتّفقُ لأهلها كثيراً، بل قَدْ يُحْكَى عن بعضِ أهلِ الباطل دَعْوى الانكشاف القلبيّ في كُلِّ جُزئيٍّ من الأحكام الشرعيّة، بحيثُ لو لم يُبْعَثُ الرَّسولُ، أو لم يُبَلِّغُها إلى الأمة وصل هو بنفسه إليها.

وفيه: إنّ المكاشفة إنْ صَحَّتْ ففي استكشاف نَفْسِ قولِ المعصوم منها حينئذٍ كفايةٌ عنه، والعلم بالإجماع بذلك خارجٌ عن كونه حسّياً، بل كان بالمكاشفة.

وفي مرآة العقول للمجلسي: إنّ الاطّلاع على الخبر المجمع عليه بطريق الإفتاء متَعسِّرٌ بل مُتَعَذِّر([84]).

وفي المعالم: الحقُّ امتناعُ الاطّلاع على الإجماع([85]).

وعن الرازي: إنّ الإنصاف أنّه لا يمكن معرفة الإجماع إلا في عهد الصحابة، حيثُ كان المسلمون قليلين، أمّا بعد ذلك فلا([86]).

وعن الإمام والقاضي كذلك([87])، بل حكي عن العضدي، عن أحمد: أنَّ من ادعى الإجماع فهو كاذب([88]).

وكيفَ كان، فلعلَّ عَدَمَ إمكانِ الاطّلاع عَادَةً على هذه الطريقة من الإجماع غيرُ قابلٍ للخلاف والنزاع.

وربما يقال: بأنَّ العُلَمَاءَ من الفريقين يكثرونَ الاحتجاج بالإجماع، بل ذكر بعضهم: أنّ فهم جُلّ الأحكام أو كلّها لا يُمكِنُ إلا بضميمةِ الإجماع([89])، وفي كلمات الأقدمين فضلاً عن غيرهم تصريحاتُ بإمكانه ووقوعه.

ففي الذريعة: (وأمّا قولُ مَنْ نفى الإجماع لتعذّر الطريق إليه فجهالة؛ لأنا قد نعلم اجتماع الخلق الكثير على المذهب الواحد، وتَرْتَفِعُ عنها الشبهة في ذلك أمّا بالمشاهدة، أو النقل، ونَعْلَمُ مِنْ اجْتِماعِهِم واتّفاقهم على الشَّيء الواحد ما يجري في الجلاء والظهور مَجْرى العلم بالبلدان والأمصار والوقائع الكبار، ونحنُ نعلمُ أنّ المسلمين كلهم متفقون على تحريم الخمر، ووطئ الأمهات وإنْ لم نلق كلَّ مسلمٍ في الشَّرقِ والغرب والسَّهل والجبل، ونعلمُ أيضاً أنَّ اليهود والنصارى متفقون على القول بقتل المسيح وصلبه وإنْ كُنَّا لم نلق كُلَّ يهوديٍ ونصراني في الشرق والغرب، ومَنْ أنْكَرَ العِلْمَ بما ذكرنَاهُ كان مكابراً مباهتاً)([90]).

هذا، مع إنَّا نَعْلَمُ بوجودِ الأحكامِ الضَّروريّةِ في الشَّريعَةِ، وتحقُّقِ الضَّرورة بها يَسْتَلزِمُ وُجودَ الإجْماعَاتِ فيها، والعِلْمُ بها كذلك، مع إنّا إذا راجعنا أنفسنا نرى في الفقه أحكاماً كثيرةً معلومة لا مأخذ للعلم بها غير الإجماع.

هذا، ولكنّ الحق أنَّ ذلك لا ينافي ما ذكرناه من عدم إمكان الاطلاع على الإجماع بالطريق المذكور أعني: طريق الحس لأنّ إجماعاتهم التي تمسّكوا بها صريحة أو ظاهرة في كون العلم به من طريق الحدس لا الحسّ، واستلزام الضرورة للإجماع فَرْعُ انحصار طريق حصول الضرورة بالإجماع، لإمكان العلم بالضروريات، من وضوح الدليل عليه، وسهولة الاطلاع عليه، كما هو كذلك في الغالب.

ودعوى انحصار مدرك المسألة في الإجماع بحيث لم يردْ فيها آية أو رواية، لا عموماً، ولا خصوصاً، ولا أصل، ولا قاعدة لعلّه مجرّدُ فُرْضٍ لا واقع له، فلا يَصِحُّ جَعْلُهُ مُسْتَنَداً لصِحَّةِ العِلْمِ بالإجماع في الموارد الكثيرة.

والحاصِل: إن الإجماعاتِ المدّعاةِ في كَلِماتِ القُدَماءِ أقوى شاهدٍ على أنَّ مَسْلَكَهُم في الإجماعْ موافِقٌ لمسلك المتأخّرينَ في كونِهِ حَدَسِيّاً لا حسياً.

الطريق الثاني من طرق [تحصيل] الإجماع:

هو اتفاقُ جميع العلماء غير المعصوم منهم على حُكْمٍ، مع فَقْدِ الكتاب والسنة المتواترة عليه، فيفارق المسلك الأول بخروج المعصوم، بأنَّ قول المعصوم على المسلك الأول مدلولٌ تضمُّنيٌ، دون هذا المسلك، فإنَّ حُجِّيةَ الإجماع من جهةِ كَشْفِهِ عن رأي المعصوم باللُّطف، كما أنَّهُ يَنْدَرِجُ نقل الإجماع على الأول في نقل السُّنّة، بخلافهِ على هذا المسلك، لعدم ثبوتها إلاّ عند الحاكي، وبذلكَ لا يَصْدُقُ الإخبارُ عن المعصوم، كما لو أَخْبَرَ عَنْ دُخولِ الوَقْتِ اعتماداً على صَوْتِ الدّيك.

ثمّ إنّ هذا المسلك وإن اشتهر اختصاصه بالشيخ  رحمه الله ([91])، إلاّ أنه هو
الظاهر من كلام الحمصي في التعليق العراقي([92])، وكلام كمال الدين ميثم البحريني في قواعد الكلام([93])، والمحقق الحلي في المعتبر([94])، والشهيد 
في الذكرى([95])، والمحكي عن العماد الداماد، ولعله في كتابه السبع الشداد([96])، وعن كتاب الغيبة لشيخنا الطّوسي([97])، بل عن المرتضى في الانتصار([98]) والشافي([99])، وعن الغنية لابن زهرة([100])، وعن كنز الفوائد([101]) للشيخ أبي الفتح الكراجكي([102])، وعن الكافي([103]) لأبي الصلاح الحلبي ([104])، وعن إعلام الورى للطبرسي، وكذلك عن مجمع البيان له([105])، إلى غير ذلك من العلماء المستفاد منهم أن العلماء إذا اتفقوا على حكم، لم يدل على خلافه آية محكمة أو سنة قاطعة، ولم نعلم بمخالفة المعصوم منهم، وجب القطع بكونهم على الحق، وإلاّ لَوَجَبَ عليه  عليهم السلام  - على المعصوم - رَدْعُهُم، إذ لولا الرَّدْعُ لَزَمَ بقاؤهم على الضَّلالة، بل تَكْليفُهُم بما لا يعلمون، وأمرهم بما لا يطيقون، وهما منافيان لقاعِدَةِ اللُّطف، فانتفاء اللازم، وهو الرّدع دليلُ انتفاء الملزوم، أي: بطلان ما أجمعوا عليه.

والحاصل: إنّ مناط حُجيّة هذا المسلك هو أنْ يقال: إنّ ما أجمعوا عليه إنْ كان باطلاً، وَجَبَ على المعصوم رَدْعُهُم لأنّه لُطْفٌ، واللُّطفُ واجب([106]).

أما الصغرى، فلصدق حده، وهو ما يقرب إلى الطاعة ويبعد عن المعصية عليه.

وأما الكبرى، فلأن الإخلال باللطف نقض للغرض، وهو قبيح، بل
 قد يقال: إنّ نقل الأدلة الدالة على وجوب إيصال الأحكام إلى العباد
قاضية بوجوبه في خصوص مورد الإجماع، بل في المستفيض عنهم أنّ الأرض لا تخلو إلاّ وفيها عالم، إذا أزاد المؤمنون شيئاً ردّهم إلى الحقّ، وإنْ نقصوا
شيئاً تمّمه لهم، ولولا ذلك لالتبس عليهم أمرهم، ولم يفرّقوا بين الحقّ
والباطل.

وعن عليّ  عليهم السلام  بطرق: (اللهم إنك لا تخلي الأرض عن قائم بحجة أمّا ظاهر مشهور أو خائفٌ مغمور لئلا يبطل حجتك وبيناتك)([107]).

وفي عدة أخبار في تفسير قوله تعالى: [إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ]([108])، أنّ المنذر رسول الله  (ص) ، وفي كُلِّ زمانٍ إمام منّا يهديهم إلى ما جاء به النبيّ  (ص)  ([109])، وعَنْ أبي عبد الله  عليهم السلام ، كأنّه قال: (ولم تخلُ الأرضُ منذ خلقها اللهُ من حُجَّةٍ له فيها، ظاهرٌ مشهور، أو غائب مستور، ولم تخلُ إلى أنْ تقومَ الساعة، ولولا ذلك لم يعبد الله، قيل: كيف ينتفع الناس بالغائب المستور، قال: كما ينتفعون بالشمس إذا سترها السحاب)([110])، إلى غير ذلك من أخبار الباب، بل أنّ الحكمة الداعية إلى تشريع الحكم وبعث النبي ونصب الوصي داعية إلى ذلك أيضاً، ومثل إنّ الغرض من نصب المعصوم في كُلِّ وقتٍ تبليغ الحكم، إلاّ إذا قدّر عدم إمكان التبليغ في حَقِّهِ بطل هذا الغرض.

وهذا المسلك لا يتمّ إلا عند الشيعة الذين يقولون بأنه في كلِّ عصرٍ إلى يوم القيامة يوجد إمام له، إما ظاهر، أو مستور، وأما عند أهل السنة فهو لا يتم إلا في زمن الرسول؛ وخلاصة هذا المسلك يرجع لوجوه:

الأول: قاعدة اللطف.

الثاني: إنّ سكوتَ الإمام مع وجودهُ يكون تقريراً لهم، وتوضيحُ ذلك: إنّهم لمّا أجمعوا على الحُكْم للمسألة فلابّد من اطلاع المعصوم على إجماعهم؛ لأنه المتولّي لشؤونهم، ومع ذلك سَكَتَ ولم يمنعهم، فيكونُ سُكوتُه تقريراً لهم على ما أجْمَعُوا عليه، والتقرير نعم الدليل.

الثالث: ما في الرواية من قوله  عليهم السلام : (إنّ المجمع عليه لا ريب فيه)([111]).

الرابع: ما دَلَّ من أنَّ الأرض لا تخلو من حُجَّةٍ ينتفع به: (إنْ زاد المؤمنون شيئاً رَدَّهُم)([112]).

ويمكن أنْ يناقش في صِحَّةِ هذه الطّريقة بما عَرَفْتَ من عَدَمِ تماميّة الصُّغرى، لعدم إحراز الاتفاق من جميع العلماء.

وأما الكبرى، وهو حُجيّة هذا الاتفاق فباطلة؛ لأنّ الحجية إنْ كان من جهة قاعدة اللطف، فاللطف الواجب على الله هو وجود المعصوم، ووجوب إرشاده وَردْعِهِ هو من شؤون إمامته وتوابعها، وهو إنّما يجب عليه، لا على الله تعالى، نعم لو خالف (وحاشاه) استحقَّ العقاب، ولا ريب إنّما يجب إذا اقتضته المصلحة، ولم يكن مانع عنه، ولعلَّ المصلَحَةَ تقتضي الإجماعَ من العلماء على الحكم الظاهريّ لا الواقعي في عصر المجمعين، ومع هذا الاحتمال لا يحصل القطع بموافقة الإجماع.

هذا، مع أنَّ اللطف إنّما يجب على اللهِ إذا لم يمنع منه المتلطف عليهم، أما مع منعهم وصدّهم عنه مع كمال عقولهم، فلا يجبُ على المتلطف فعله، بل لعله لا يَحْسُنُ فعله، فإنَّ الإكرام للإنسان حَسَنٌ، لكنْ إذا منع منه المتكرّم عليه، أو لا يمكن للمحسن أن يصل إليه وصد عنه لا يحسن، وهنا أنّ النبي  (ص)  أو الإمام قد مَنَعَا من الوصول إليهما والاستفادة منهما العبادَ، أما النبي  (ص)  فقد منع من وصوله لهم الموت، وأمّا الأئمّة بعده عند الشيعة فقد كان الإمام منهم مستتر بإمامته، لا يمكنه الوصول إليهم خوفاً على نفسه، حتّى ألجؤه إلى الاستتار بإمامته، فلا يَجبُ عليه إظهارُ نفسه خوفاً عليها، ولا إبداء رأيه مع الجهل بشَخْصِهِ، إذْ لا أثر له، ولم يعرف عند ذا فقاهته.

على أنّ اللُّطف إنّما يقتضي نَصْبَ النبيّ  (ص)  أو الإمام وأدائهم الرسالة على الوجه المتعارف، وهم أدّوا ذلك على النحو المطلوب منهم، ولا يَقْتضي اللطف أزيد من ذلك، بحيثُ يكونُ على النبيّ  (ص)  أو الإمام إرشادُ كُلِّ جاهلٍ، وَردْعِ كلُّ مشتبه، ولو بطريق السّرّ، وإلا لما وقع الاختلافُ بين الفقهاء، ولأصبح كلُّ مجتهدٍ مصيباً؛ لأنّ المعصوم بحسب ما هو عليه من القوى الخارقة للعادة يتمكن من الوصول لكلّ أَحَدٍ ويقنعه بالنحوّ الخارق للعادة، فلو كان الواجب عليه هو الرّدْعُ والإقناع ولو بالطرق الخارقة للعادة لما أفتى مجتهد بخلاف الواقع.

وأمّا حُجيّة الكبرى إنْ كانت من جهة تقرير المعصوم فتقريرُ المعصوم إنما يكونُ مَعَ حُضورِهِ ومعرفته بشخصِهِ، ولم يَكُنْ مانعٌ عَنْ رَدْعِهِ رَدْعاً بحسب المتعارف، فيكونُ ذلك كاشفاً عن رضاه ورأيه، أمّا مع تستُّرهِ وعدم تمكنه من إبراز شخصه والرّدع عن ذلك بالنّحو المتعارف، كما في زمن الغيبة عند الشيعة، فلا يكونُ عدمُ رَدْعِهِ كاشفاً عن رضاه.

وأمّا إنْ كانَ حُجِّيةُ الكبرى من جهة قوله  عليهم السلام  في المقبولة: (إنَّ المجمع عليه لا ريب فيه)([113])، فالظاهرُ إنّ المراد به الرواية المجمع عليها، كما هو محطّ نظر الرواية سؤالاً وجواباً.

وأما إنْ كانَ حُجّية الكبرى من جهة الروايات المذكورة، ففيه:

أولاً: إنّ المراد هو ردع الإمام لهم بالوجه المعتاد، بأنْ يكون بالأسباب العادية، كما هو المتبادر من إطلاقه، وهذا لا يوجد في زمن الغيبة، وأمّا في زمن الحضور، فقد عرفتَ إمكان تحقّقه، لإمكانِ العلم برأي المعصوم، وأمّا المراد بالانتفاع بالإمام عند استتاره، هو الانتفاعُ بفيوضاته القدسية، وإفاضته الروحية، كما يدلُّ عليه ما في تلك الأخبار، من أنَّ الانتفاع به وهو غائب كالانتفاع بالشمس إذا سَتَرها السَّحَابُ([114])، هذا مع احتمال أنّ المراد بهذه الأخبار هو الردع والمساعدة فيما إذا أوجب تَرْكُهُما انهدامُ الشَّرع، وكَسْرُ بيضة الإسلام، كما لو وَقَعَتْ شُبْهَةٌ في نفوس المسلمين، أو في الطائفة المحقّة منهم يخاف عليهم منها رجوعهم عن الحق، فيجب إذ ذاك على الإمام المستور ردعهم عنها، ومساعدتهم على دفعها، ولو بالوجه الغير المتعارف.

الطريق الثالث من طرق تحصيل الإجماع الذي هو حجة:

ما سلكه كثير من المتأخرين، وهو أنّ الإجماع اتفاقُ جماعةٍ يكشف حَدْساً عن رضاء المعصوم([115])، ولا فَرْقَ فيه بين كون المجمعين جميعاً من عدا الإمام، أو بعضهم، ولا بين كونهم خصوصُ العلماء، أو غيرهم، أو الملفّق منهم، ولا بين كونهم أحياءً أو أمواتاً أو الملفق منهم، ولا بَيْنَ زمن الحُضُور والغيبة، ولا بين العلم بخروج شخص الإمام عن المجمعين أو الشكّ في ذلك، نعم، يُعتبر عدم العلم بدخول شخص المعصوم فيهم، أو قوله في أقوالهم، إذ يخرج بذلك
عن هذا المسلك، ويدخل في الطريق الأول والمسلك الأول، ولا بينَ كونهم في عَصْرٍ واحد وعدمه، ولا بين وُجودِ مجهولِ النَّسَبِ فيهم وعدمه، ولا بَينَ
كَوْنُ المجمع عليه حكماً شرعياً أو غيره، إذ يمكن استظهار رأي رئيس كلّ فنّ من اتفاق آراء جماعة من أهله وصحبه، وهذا المسلك هو العمدة في الإجماع لإثبات الأحكام عند المتأخرين، لما عَرَفْتَ من عَدَمِ تحقُّق الاطّلاع عادةً على الإجماع بالطريق الأول، وعدم ثبوت الطريق الثاني، وقد عزي القول به
إلى معظم المحققين، بل قد يدعى إن مدار دعوى الإجماع في لسان المتأخرين على ذلك.

وكيف كان، فالكلام في ذلك كسابقيه، يَقَعُ تارةً في الصُّغرى، وأنَّ بهِ الكَشْفُ عن رأي المعصوم والشرع، وأخرى في الكبرى، وفي أنَّ هذا الكشف هل هو حُجَّةٌ أم لا؛ فنقول والله المستعان:

أمّا الصُّغْرَى، فالكلامُ فيها في إثباتِ إمكانِ الاستكشاف عن رضا المعصوم والمشرع ووقوعه، والإنصافُ إنَّ إمكانِ الاستكشاف مما لا ينبغي التأمل فيه؛ لأنّ أساطين العلماء الأذكياء الأتقياء مع تباين أفكارهم، وتفاوت أنظارهم، واختلاف قريحتهم، وكونهم منقطعين في معرفتهم إلى المشرع، متحرزين عن الكذب عليه، باذلين جهودهم في تحصيل الحكم الشرعي منه، إذا اتفقوا في حُكْمٍ من الأحكام على أنّه حُكْمُ الشَّرْعِ، يَحْصَلُ لنا العِلْمُ بأنَّهُ كذلك، كما نشاهِدُ ذلك بالوجدان في نفوسنا في المسائل اللغوية، والعلوم الأدبية، فإنَّ اتفاق أربابها على حُكْمٍ مسألةٍ مع ما هُمْ عليه من النّزاع في غير ذلك، يُوجِبُ العلم والقطع بحكمها اللغوي والأدبي، هذا بحسب الإمكان.

وأمّا بحسب الوقوع، فنقول: إنَّ حصولَ العلم برأي المُشرِّع من اتفاق جماعة حَدْساً، قد يقع لأحدٍ دون آخر، أو في حالٍ دون حالٍ، أو وقتٍ دون وقتٍ، ونحو ذلك، حَسْبَ اختلاف الناس في الحَدَسيّات من حيثُ قوَّةُ الذهن وعدمها، فإنَّ الحَدَسَ الذّهنيّ يختلف ضَعْفاً وقوّةً بحَسَبِ الأشخاص والظُّروف والأحوال، ألا ترى أنَّ الإنسانَ لو دَخَلَ مكاناً وفيه علماء تابعين لأبي حنيفة أو الشافعي أو غيرهما، ورأى أنَّ هؤلاء العلماء في صلاتهم يقولون: آمين، أو ذكروا له: إنّ قول إمامنا وجوبُ التأمين بعد الحمد، فهل يَشُكُّ في أنَّ رأيَ إمامِهِم بخلاف ذلك؟

وبالجملة: اتّفاقُ أهل الرّجل وأصحابه وأتباعه ومقلّديه على أمرٍ يمكن أن يكشف كشفاً قطعياً عن رأي ذلك الرجل، وتحقُّقُ أمثال هذا في زماننا غير عزيز، فلو اطلعنا على معتقد زرارة([116])، ومحمد بن مسلم([117])، وليث المرادي([118])، ويونس([119])، ونحوهم من الأجلاّء لقطعنا بأنَّ هذا رأي رئيسهم([120]).

وأمّا الكبرى، فمّما لا ينبغي الإشكال فيها، إذ لا شبهة عندنا في حجية رأي الإمام، خصوصاً في مقام تبليغِ الأحكام، وأمّا احتمالُ كون رأيه من باب التقيّة، فهو يُرْجعُ إلى القَدْحِ في الصّغرى؛ لأنَّ مَحلَّ كلامِنا هو إحراز رأي الإمام الواقعي من الاتفاق والإجماع، مع أنَّ أصَالَةَ عَدَمِ التقيّةِ من الأصول المعتبرة وإن لم يكن الإجماع من جميع الفقهاء قطعياً.

ولا يخفى ما في هذا المسلك، فإنَّ غاية ما يمكن أنْ يكون المستفاد منه على سبيل القطع هو أنَّ المتفقين والمجمعين إنّما استندوا إلى دليلٍ مُعتبرٍ عندهم، ولعله غير معتبرٍ عندنا، أو إلى أصلٍ من الأصول العملية، والمقام عند التحقيق ليس بمجرى ذلك الأصل.

وكيف كان، فلا يستفادُ من الاتفاق بين الفقهاء([121]) بعد انقضاء عصر المعصوم أكثر من العلم بوجود دليلٍ معتبرٍ عندهم، أو أصلٍ صحيحٍ لديهم، وهذا لا يوجب اعتبار ذلك الدليل عندنا، ولا ذلك الأصل لدينا، ولا يستفاد منه القطع برأي الإمام، إلا للأوحدي من الفقهاء أو البسيط منهم، أو([122]) كانت سيرة العلماء الصالحين في زمانه وعند حضوره، ولذا لم تَكُنْ الشُّهْرَةُ في الفتوى حُجَّة عند أكثرِ القُدَماء والمتأخّرين، وسيجيء إنْ شاءَ اللهُ الكَلامَ في حُجيّةِ السّيرة والشهرة.

ما هو مورد الإجماع

لمّا كان اعتبار الإجماع من باب كشفه عن قول المعصوم  عليهم السلام  على ما عليه الأصحاب، يقتصر في مورده على الحكم الشرعي؛ لأن قوله ورضاه إنما يلاحظ فيما بيانه من شأن الشارع ووظيفته.

وعليه: فالاتفاق المنعقد على غير الحكم الشرعي ليس إجماعاً عندهم، وإنْ شاع عليه إطلاق الإجماع؛ نعم، هو حجّة من كلِّ أهلِ فنٍّ في مسائل ذلك الفن، كإجماع الصرفيين في المسائل الصرفية، والنحويين في النحوية، واللغويين في اللغوية، وهكذا، لا في مسائل غيره، كإجماع الفقهاء أو الأصوليين في المسألة اللغوية، كما قد وَقَعَ التمسُّكُ به من بعضهم فيها([123])، وذلك لأن أهل كل فن لهم الخبرة بفنهم، والرجوع إليهم من باب الرجوع لأهل الخبرة.

أقسام الإجماع

ثم إنّ الإجماع باعتبار القول وعدمه ينقسم إلى أقسام ثلاثة:

أحدها: الإجماع القولي، وهو صدُور الفتوى من جميع الفقهاء بالمسألة.

ثانيها: الإجماعُ العَمَليّ، وهو اتّفاقُ الفُقَهاء على القيام بالعمل بهذا النحو، كحجّهم وصومهم بهذه الكيفية، ويسمّى بالسيرة([124]).

ثالثها: الإجماعُ السُّكوتيّ، كأنْ يُفتي بَعْضُ الفقهاء بشيء أو يعمل به ويَسْكُتُ الباقونَ بعد عِلْمِهِم بالفتوى، أو العمل من ذلك المجتهد، ومضي مدة بعد العلم تصلح للفتوى منهم بخلافه، وعَدَمُ التقيّة من مخالفته، وقد ذَهَبَ لحجيّة هذا القسم أكثرُ الحنفية([125]).

وأحمد بن حنبل([126]) ومذهب المالكية([127])، وبعض الحنفية([128])، وأكثر المتكلمين، والشافعية أخيراً إلى عدم كونه إجماعاً وليس بحجة([129]).

الإجماع المحصل والإجماع المنقول

وينقسم الإجماع باعتبار تحصيله ونقله إلى قسمين:

مُحَصَّل: وهو ما حَصَّلَهُ المدّعي له بنفسه، وذلك بأنْ يطّلع على فتاوى المجتهدين واحداً واحداً، ويجدها متفقة.

ومنقولٌ: وهو ما نَقَلَهُ الغيرُ مُستَدلاًّ به على مدعاه.

حُجيّةُ الإجماع المنقول

اختلفوا في حُجيّة الإجماع المنقول بعد البناء على حجية الإجماع المحصَّل، وحُجيّة النقل بنحو التواتر أو الآحاد، ومرجع البحث عن ذلك إلى أن الإجماع المحقَّق عند المنقول عنه الذي هو أَحَدُ الأدلّة الأربعة، هل يثبت بالنقل على وجه التواتر أو الآحاد للمنقول له، بحيثُ يُعْتَمَدُ عليه كما يعتمد على الإجماع المتحقّق عنده، نظيرُ السنة في ثبوتها بالتواتر والآحاد للمنقول له، بحيث يعتمد على نقلها، كما يعتمد عليها إذا تحققت عنده، وحيث أن الإجماع إنما كانت حجيته عندنا من جهة ثبوت السنّة به بالتضمّن، كما هو طريقة المتقدمين([130])، أو بالالتزام العقلي، كما هو طريقة الشيخ([131])، أو التزام الحدسي، كما هو طريقة المتأخرين([132])، كان مرجع البحث هنا إلى أنّ خبر الواحد بعد ثبوت السنة الصّريحة به، هَلْ يَثْبُتُ بهِ السُنَّةُ المدلولِ عليها بالتضمُّنِ أو بالالتزام أو بالحدس أو لا.

فالقائلُ بحجيّةِ الإجماع المنقول، إنّما يقولُ به من جهةِ حُجيَّةِ الخبر الواحد عنده، لشمول أدلّة الخبر الواحد في نَظَرِهِ لنقل الواحد للإجماع، ولذا تجيء أقسامُ نقلِ الخَبرَ الواحد، في نقل الواحد للإجماع، وتَلْحَقُها ما يلحقها من الأحكام من الصحة والضعف وغيرها.

وإن شئت قلت: إنّه لا دليل عندهم لحجية نقل الإجماع بالخصوص إلا أدلة حُجيّة الخبر الواحد، فلابدّ من إثبات شمولها لنقل الإجماع، وإلاّ فهو ليس بحجة.

والتحقيق: أنه ليس بحجة؛ لأنَّ مستندَ علم الناقل للإجماع بقولِ الإمام، تارةً:

يكون بالحسّ، بأنْ سمع قول الإمام في جملة أقوال جماعة لا يعرف أعيانهم، كما عليه طريقَةُ القدماء في الإجماع، فقد تقدَّم أنه عزيز الوجود، بل هو مفقود في حَقِّ هؤلاء الناقلين له، كالشيخين([133]) والسيدين([134]) وغيرهما من قدماء العلماء، فإنَّ الظاهر أنَّ نقله الإجماع من القدماء لم يكن في عصر ظهور المعصومين  عليهم السلام .

وأخرى بقاعدة اللطف، كما عن الشيخ  قدس سره، وقد عَرَفْتَ عدم نهوضها للكشف عن قول الإمام  عليهم السلام ، وإنّ نقل([135]) إجماعات الشيخ كانت مستندة إلى ذلك.

وثالثة بالحَدَس، كما عليه المتأخّرون، وقد عَرَفْتَ أنَّ اتفاق جماعة ليس من المبادئ التي توجب العلم بقولِ المعصوم والشارع لكل أحد، فلعلها مما لا توجب العلم المذكور للمنقول إليه، بل قد عَرَفْتَ فيها بحيث لو حَصَلَ لنا لحصل منه العلم لنا عادةً، وإنّما هي مُوجبةٌ للحَدَس بوجودِ دليلٍ مُعْتَبَرٍ عند المنقول عنه الإجماع، ولا يلزم من اعتباره عند المنقول إليه.

ولو سُلِّم حصول العلم بذلك من اتفاق جميع العلماء، فقد تقدّم منعُ إمكانِ تحصيل الاتفاق عادة فيما بعد زمان وجود النبي  (ص) ، عند أهل السنة([136])، وبَعْدَ زمانِ الغَيبة عند الشيعة؛ فلابُدَّ من حَمْلِ الإجماعات المنقولَةِ الواقعة في كلماتهم في هذه الأزمنة على إرادة القسمين الأخيرين؛ صوناً لكلامهم عن الكذب، لا تصحيحاً للاعتماد على منقولاتهم([137]).

ومن هذا ظهر لك حال الإجمـاع المنقول بنحو التواتر؛ لأن المنقول بالتواتر:

إنْ كان هو الإجماع على مسلك القدماء فهو وإنْ كان أمراً حِسّياً يمكن وقوعُ التواتُرُ فيهِ، إلاّ أنّ الكَلامَ في أَصْلِ تحقُّقِ الإجماع على طَريقَةِ القُدَماء، لما عرفتَ من امتناع الاطّلاعِ عليه عادَةً، فَضْلاً عن نَقْلِهِ بتواترٍ أو آحاد([138]).

وإنْ كان على مَسْلَك الشّيخ فقد تقدَّم عَدَمُ صِحّتِهِ عندنا.

وإنْ كانَ على مسلك المتأخرين فكذلك؛ لأنَّ معرفة قول الشارع منه حدسياً لا علمياً([139]).

ومن هنا تعرف أنّ نقل تواتر الخبر ليس بحُجّة، ولو قُلنا بحجّية خبر الواحد؛ لأنَّ التواتر صفةٌ قائمة في الخبر تَحْصَلُ من إخبار جَمَاعَةٍ تُفيدُ العِلْمَ بصحَّةِ الخبر للمخبر به، وحُصُولُ العِلْمِ بالتّواتر للنّاقل من اللوازم التي تختلف باختلاف الحالات والنفسيات والظروف والأحوال، فحصولُ التواتر لشخصٍ لا يوجب حُصولَهُ لآخر، حتَّى لو علمنا عِلْمَ اليقينِ بأنَّه قد تواتَرَ عندَهْ، فكيف بالخبر الواحد.

الإجماع القولي والإجماع السكوتي

وباعتبار انقسام الإجماع إلى اتّفاق أقوالِ العلماء، وإلى قولِ بعضهم وسكوت الآخر، ينقسم الإجماع إلى إجماع قولي، وإجماع سكوتي، وقد يُسمَّى بعدم الخلاف.

فالإجماعُ القولي: هو عبارةٌ عن تصريح العلماء بحُكْمٍ واحدٍ متَّفقين عليه.

والإجماعُ السّكوتي: عبارةٌ عن حُكْمِ بَعْضِ المجتهدين بشيءٍ اطّلَعَ عليه الباقون فسكَتُوا، وهو ليسَ بحجّةٍ عندنا؛ لما عَرَفْتَ أنَّ الإجماعَ المعتبر هو الاتفاق الكاشف، ومن الظاهر أنَّ السُّكوتَ أعمُّ من الاتفاق، لاحتمالِ أنَّ السّكوت كان لأجل التوقّف، أو لمهلةِ النظر، أو لتجديده، أو لأجل التقية في الإنكار.

وأما عند أهل السنة؛ فلما عَرَفْتَ من أنَّ الإجماع عندهم هو الاتفاق والسُّكُوتُ أعمُّ منه.

انقسامُ الإجماع إلى لفظي ولبّي

وباعتبار اتّفاق المجتهدين في الفتوى لفظاً ومعنىً، كما لو قالوا بمقالة واحدة: (إنّ الكلب نجس)، أو عدم اتفاقهم في اللفظ، بل كُلٌّ عَبَّرَ بتعبيرٍ خاص، مع الاتفاق في المعنى، ينقسم الإجماع إلى لفظي ولبي.

فما كان من القسم الأول، يسمّى باللفظي، وتجري في معقده القواعد اللفظية من العموم، والإطلاق، والتقييد، والانصراف، وعدمه.

وعليه: قد يكونُ الإجماعُ ظنّياً، إذا كانَ اللّفظ ظنّيَّ الدّلالةِ، وإنْ كانَ قطعيَّ السَنَد، كما في ظواهر الكتاب والخبر المتواتر.

وما كانَ من القسم الثاني يُسَمَّى باللّبي؛ لأنّ المعلوم ثبوته هو المضمون الجامع بين الألفاظ، فليسَ يَجْري فيه القواعدُ اللفظية، ويكون كالخبر المتواتر المعنوي، فيؤخذ بالقدر المتيقن.

انقسام الإجماع إلـى بسيط ومركب

وَينْقَسِمُ الإجماعُ باعتبار تحقُّقِهِ إلى بسيط ومركَّبْ.

فالبسيطُ: هو اتّفاقُ الفقهاء على حُكْمٍ واحدٍ في المسألة.

والمركَّبُ: هو الاتّفاقُ الكَاشِفُ عَنْ نفي القَوْلِ الثالث في مسألة أو مسألتين يوجد بينهما قدرٌ جامع كلي، أو مسألتين لا يوجد بينهما قدر مشترك، فالإجماع المركّب على أقسام ثلاثة:

فمن أمثلة قسمه الأول: انحصارُ القولِ بينَ الأصحاب في وجوب السجدة لقراءةِ العزيمة في أثناء الصّلاة وحرمتها، فبَعْضُهم مَنْ قالَ بوجوبها([140])، وبَعْضُهُم من قال بحُرْمَتِها([141])، فالقولُ بالاستحباب أو الكراهَةِ مُوجِبٌ للحُكْمِ بخلافهما، وخرقٌ للإجماع المركب.

ومنها: قولُ بَعْضٍ باستحباب الجهر بالقراءة في ظُهْرِ الجمعة، وقولٌ
آخر بحرمته، فالقول بوجوبه إحداثٌ لقولٍ خارجٍ عنهما خارِقٌ للإجماع المركَّب.

ومنها: أنَّ المشتري الواطئ للأمة الواجدِ فيها عيباً ممنوعٌ من الرّدّ، على قولٍ، ويجوزُ الرّدُّ مع الأرشِ على قولٍ آخر، فالقولُ بالردِّ مجّاناً إحداثٌ لقولٍ ثالث خارج عنهما خارق للإجماع المركب.

ومن أمثلة القسم الثاني: إنّ بعض الأصحاب قال بوجوبِ الغسل لوطء الدُّبُرِ مطلقاً([142])، وقال آخرونَ بعدم وجوبه له كذلك([143])، فالقولُ بوجوبه في دُبْرِ الرَّجُلِ دون المرأة خَرْقٌ للإجماعِ المركَّبِ من غيرِ إحداثٍ لحُكْمٍ زائدٍ خارج عن الأوّلين، كما كانَ كَذَلِكَ في الأمثلة السابقة.

ومنها: إنّ للأصْحابِ قولاً بفسخ النكاح لكلِّ واحدٍ من العيوب([144])، وقولاً آخر بعدمه في كلِّ العيوب([145])، فاختيار الفسخ في بعض العيوب دون بعض خرق للإجماع المركب كسابقه من المثال.

ويسمّى هذا القسم الثاني قولاً بالفصل أيضاً حيثُ وجود القدر الجامع بين المسألتين وهو الدبر والعيب في المثالين.

ومن أمثلة القسم الثالث: قولُ بَعْضِهِمْ بأنَّ المسلم لا يُقْتَلُ بالذمّي، ولا يَصِحُّ بيعُ الغائب، وقولُ بعضهم بقتلِهِ بهِ، وبصحّةِ بيعِ الغائب، فالقول بالقتل وعدم صحة بيع الغائب أو العكس خرقٌ للإجماع المرَّكب، وقولٌ بالفصل.

ومنها: قولُ بَعْضٍ بوجوبِ غَسْلِ الجمعة([146])، ووجوب صلاة الجمعة عيناً([147])، وقولٌ باستحباب الغسل([148]) ووجوب صلاة الجمعة تخييراً بينها وبين صلاة الظهر([149])، فالقول باستحباب الغسل والوجوب العيني لصلاة الجمعة قولٌ بالفصل وخرق للإجماع المركّب.

وبهذا ظهر لك أنّ اعتبار البساطة والتركيب في الإجماع باعتبار منشأ الإجماع، لا في معقده؛ لأنّ معقده في كلا القسمين واحد، فإنَّ البسيط هو الحكم الشرعيّ الواحد، وفي المركَّب هو نفيُ القول الثالث، وأيّما كان التركيبُ في منشأ الإجماع، فإنّه في البسيط كانَ الاتّفاقُ على قولٍ واحد، وفي المرَّكب هو اتّفاقُ بَعْضِ الفُقَهَاءِ على أحدِ القولين، والبَعْضُ الآخر على القول الآخر.

كما ظَهَرَ لكَ الفَرْقُ بينَ خَرْق الإجماع، والقول بالفصل، وأنَّ المناط في خرق الإجماع هو مخالفة الاتفاق، والمناطُ في القول بالفصل هو التفصيل بين موارد الحكم الذي لم يفصّل بينها الفقهاء، فيكونُ بينهما بحسب التحقق عموم من وجه؛ لأنه قد يجتمع خرق الإجماع المركب مع القول بالفصل، كمسألة
وطء الدبر والفسخ بالعيوب، وقد يوجد الأول فقط، كمسألة الجهر في ظهر الجمعة، وقد يكون بالعكس كالقول المقابل للإجماعين البسيطين، كما لو أجمعوا على غسل الثوب من البول، وأجمعوا على وجوب غسله من الروث، فالقول بوجوب غسله من أحدهما دون الآخر قولٌ بالتفصيل، وهو ظاهر، وليس إجماعاً مركباً؛ لأن المناط في الإجماع المركب اختلاف الحكمين وهو مفقود.

والحاصل: إنَّ المناطَ في خرق الإجماع المركَّب هو القولُ المقابل للقولين، أعمُّ من أنْ يكونَ بالنسبة إلى مسألةٍ أو مسألتين، ومَنَاطُ القَولِ بالفَصْلِ التّفْصيلُ بينَ موارد الحكم، أعمُّ من كون تلك الموارد متحدة الحكم أو مختلفة الحكم، فيصيرُ كُلُّ أعمُّ من الآخرِ من جِهَةٍ.

إذا عَرَفْتَ ذلك، فنقولُ: إنَّ خَرْقَ الإجماع المركَّب أو القول بالفصل لا يجوز عند الأصحاب؛ لأنّه إذا أحرز أنَّ المعصوم مع أحَدِ القولين كانَ القول بالفصل وخرق الإجماع مخالفةً قطعيةً للمعصوم، فإذا أثبتنا نجاسَةَ القليل بالملاقاة للعَذَرَةِ بدليلٍ معتبر، فيتمسّك في القول بنجاسته بسائرِ النّجاسات بالإجماع المركَّب، إذ القائلونَ بالنَّجاسَةِ والطَّهارة لا يفرّقون بين الموارد.

نعم، يُستثنى من ذلك ما إذا كان القولُ الثالثُ موافِقاً للاحتياط، أو كان وَجْهُ صُدورِ قَوْلِ المعصوم موافقاً لأَحَدِهما على وجهِ التقية، أو كانَ على وجه ضَرْبِ القاعدة العامّة، فإنّها قابِلَةٌ للتَّخصيص، لكنّ تصوّرَ الأخيرين في الإجماع المركَّب في غايَةِ التعسُّفِ، وغايةِ النُّدْرَة في التحقق.

ثمّ إنّ استكشافَ قَوْلِ المعصوم أو رضاه من الإجماع المركَّب على طريقة القدماء، وعلى طريقة الشيخ في غاية الوضوح، لكونِ قولِ الإمام مع أحد الطائفتين ضِمْناً، لكونِهِ أحد علماء الأمة، أو لكونِ قاعدة اللطف تقتضي عدم إخفائه للحقّ، فلابُدّ أنْ يكونَ مع أحدهما.

وأمّا على طريق المتأخّرين من استكشافِ قولِ([150]) الإمام من اتّفاق جَمَاعَةٍ لم يَكُنْ الإمامُ مَعَهُم كما في زمان الغيبة، فقد يقال: إنّه مشكل؛ لأنّ مدار هذه الطريقة - كما مَرَّ- على الحَدَس، والقَدْرُ المسلّم من حصولِ الحَدَس، هو صُورة اتفاق أصحاب الشخص على قولٍ واحدٍ في حدسِ رأيِ ذلك الشخص، لا ما إذا اختلف أصحابه، فإنّه لا يحصل الحدس لرأيه لقوّةِ احتمال خفائه عليهما، كما قَدْ خَفِيَ على أحدهما قطعاً.

والحاصل: إنّ محلَّ كلامنا هو الإجماعُ المركَّب الذي يعلم أنَّ رأي المعصوم مع أحد شطريه، بانضمامِهِ إلى أحدِ الطائفتين، أو بقاعدة اللطف، أو بالحدس، لو فرض حصوله، فإنّه لا يجوزُ خَرْقُهُ والقول بالفصل، للزوم المخالفة
القطعية للإمام.

إنْ قلتَ: إنَّ خَرْقَ الإجماع المركّب، والقولُ بالفَصْلِ، كما فيه مخالَفَةٌ قطعية للمعصوم فيه موافقةٌ قطعيةٌ للمعصوم؛ لأنَّ الإمام قائلٌ بأحد القولين، واختيارُ التفصيل يستلْزِمُ القَطْعَ بالموافَقَةِ والمخالفة للمعصوم معاً، ولا دليل على لزوم اجتناب المخالفة، حتّى في صُورَةِ القطع بالموافقة اللازمة له، فالأصلُ يقتضي جَوَازَ الخرق، لِعَدَمِ الدّليلِ على حرمته.

قلنا: إنّ بناءَ العُقلاءِ على لزوم اجتنابِ الموافقة اللازمة للمخالفة، ويختارون ما يحتمل الموافقة دون المخالفة، بالأخذ بأحد القولين؛ لأنَّ الضَّرَرَ المحتمل مُقدَّمٌ على مقطوع الضَّرَرِ عنده، هذا عند الشّيعة؛ أمّا عند أهْلِ السُّنَّةِ، فالمحققون منهم وافقونا على عدم جواز الخرق للإجماع المركّب؛ وينسب لبعضهم الجواز مطلقاً([151])، ولعلَّ الحَقّ مَعَهُ لأنَّ الأدلّة التي عندهم إنّما عَبَّدَتُهم باتّفاق الأمة على المسألة وهي لا تَشْمَلُ صُورَةَ اختلافِ الأمة.

لكنْ يُمكِنُ أنْ يُرَدَّ ذلك، بأنَّ الإجماعَ المرَّكبَ كالإجماع البسيط، في أنَّ الاتّفاق في الإجماعِ المركَّبِ على شيءٍ واحد، وهو عَدَمُ القَولُ الثالث؛ لأنَّ كُلاً من الفريقين ينفي القول الثالث.

وظيفَةُ المجتهد لو قَامَ عندَهُ الإجماعُ المركَّب

لا يخفى أنّا لو كُنّا نَعْلَمُ بعَدَمِ خروجِ قولِ المعصوم والمشرّع من أحد القولين، وأنّ رأيه مع إحدى الطائفتين، فلا يجوزُ معه طَرْحُ القولين وإحداثُ قول ثالث، للزومِ طرح قولِ المعصوم والمشرّع.

وعليه فالمجتهدُ أمّا أن يجد على أحد القولين دليلاً اجتهادياً معتبراً فيكون هو المتبع؛ لأنّ الإجماعَ المركَّب:

إنْ كان في مسألةٍ واحدةٍ غير قابلة للفصل، كمسألة صلاة الجمعة، كان المستند هو الدليل المفروض، إذ ليس فيه خَرْقٌ للإجماع، من دون حاجة إلى انضمام الإجماع إليه.

وإن كان في مسألةٍ كلّيةٍ قابلةٍ للفصل:

فإنْ كان ذلك الدليل دَلَّ على تمام أحد القولين، كان هو المستند، من دون حاجة في تتميم الاستدلال إلى انضمام الإجماع المركَّب إليه، كما لو قام الدليلُ في مسألة وطء الدبر على وجوب الغسل لوطئ الدبر مطلقاً، سواء كان دُبْرُ المرأة أو الرجل.

وإنْ كان بحيث ساعَدَ على بعضٍ أحدُ القولين في إحدى المسألتين ويقال له أحد شطري الإجماع المركب فلا إشكالَ في جواز الاستناد إلى الإجماع المركب في ترجيح ذلك القول، لثبوت الملازمة بين الشطرين به، ومرجع الاستدلال بهما حينئذ إثباتُ الملزوم بالدّليل المفروض، وإحرازُ الملازمة بالإجماع المركب، فالدليل المفروض له مدلولٌ مطابقيٌّ في موضوعه، ومدلولٌ التزامي شرعيّ، وهو مثل هذا الحكم في البعض الآخر، ولمّا كانت الملازمة لابُدّ لها من دليل، فالدليلُ عليها الإجماع المركب، وعدم القول بالفصل.

فلو اختلفت الأمّةُ في مسألة كون مسير أربعة فراسخ موجباً لتقصير الصلاة وإفطار الصّوم مثلاً على قولين، مع الاتفاق على أنْ لا فَصْلَ بين المسألتين، ووردتْ روايةٌ في إحدى المسألتين خاصّة، كما لو فُرِضَ وَرَوِّدُ قوله: (قصِّر صلاتك بأربعة فراسخ) مثلاً، كان ذلك مورداً للاستدلال بالإجماع المركب، وعدم القول بالفصل، فيقال: يجب التقصير في الصَّلاة للرّواية، وكذلك الإفطار في الصوم، للملازمة الثابتة بالإجماع المركب، وعدم القول بالفصل، إذ كُلُّ مَنْ قال بوجوب التقصير، قال بوجوب الإفطار([152])، وكُلُّ مَنْ قال بعدم وجوب الإفطار، قال بعدم وجوب التقصير([153]).

وبالجملة: الرواية المفروضة تدلُّ بالمطابقة على وجوب التقصير، وبالملازمة الشرعيّة على وجوب الإفطار، ودليلُ الملازمة الإجماعُ المركّب، ولو وردت رواية تدلُّ على حرمة الإفطار ينعكس الأمر، ولو وردتا معاً، يقع التعارض بينهما بواسطة الإجماع المركّب، لوضوح ثبوت الملازمة بسببه بين الطرفين في كُلٍّ من الإثبات والنفي، فلابُدّ حينئذٍ من العلاج بترجيح أحدهما على الآخر، ومع عَدَمِ المرجّح، فالتخييرُ بينهما ابتداءاً لا استمراراً، حَذَرَاً من المخالفة القطعية لحكم المشرّّع الذي أُحْرِزَ وجوده مع أحدهما.

وتحقيق الحال يطلب مما حَرَّرناهُ في كتابنا النُّورُ السَّاطع في وظيفة المجتهد عند تعارض الروايتين أو العلم بأحد الحكمين([154]).

أمّا لو كانَ مع أحدِ القولين أصلٌ حاكمٌ، أو واردٌ على الأصل الموجود في الآخر، فالأَصْلُ الجاري في السَّبب يُقَدَّمُ على الأصل في المسبَّب، كما لو فرض كُلُّ مَنْ قال بانفعالِ الماء القليل يقول بالنجاسة للملاقي له، وكُلُّ مَنْ قال بَعَدمِه قال بالطَّهارَةِ للمُلاقي له، فالقولُ بطهارَةِ الماء القَليل وبقاء نجاسة الملاقي له، خرق للإجماع، لكنّ استصحابَ طَهَارَةِ الماءِ بَعْدَ الملاقاةِ حاكمٌ على استصحابِ نَجَاسَةِ المُلاقي لَهُ.

ولو كانَ الأصلانِ في الجانبين في درجة واحدة:

فإنْ أمْكَنَ العَمَلُ بهما من دُونِ مخالفةٍ قطعية -كأصالة البراءة النافية لوجوب الصوم ووجوب التقصير- عُمِلَ بهما؛ إذ لا محذور.

وإنْ لم يمكن، بأنْ كانَ إعمالُ الأصلين كُلٌّ في موردِهِ موجبٌ للقولِ بالفصل، وهو مخالَفَةٌ قطعيةٌ لحكم المعصوم والمشرع.

إنْ قلتَ: إنّ الإجماع المركّب إنّما يقتضي الملازمة بين الحكمين في الواقع، لا في الحكم الظاهري، فإنُّ كلاًّ من شطري الإجماع ناظرٌ للواقع، والقول بالفصل كان من جهة الأصل، فيكون تفصيلاً في الظاهر، وتجوزُ المخالفة القطعية في الحكم الظاهري للواقعي؛ لأنّ الأحكامَ الظَّاهريَّةَ مجعولةٌ للأشياءِ في مرتبة الجهل بها، وهي غيرُ مرتبة الواقع، ألا ترى أنَّهُم يحكمونَ بتنصيف العين بين اثنين ادّعياها ولا يَدَ لهما، أو لَهُما يدٌ عليها، ويرتّبون أحكام الزوجية على المقرِّ من الزوجين دون الآخر، وتخييرُ المقلِّد استمراراً بين الأخذ من المجتهدين المختلفين، فيقلَّد في جمعة أحدهما في وجوب الجمعة، والآخر في الجمعة الأخرى في حرمتها.

قلنا: ما ذَكَرتْهُ من الأمثلة إنّما هو في الموضوعات، وكلامُنا في الأحكام، ولَعَلَّ مَنْ جَوّز ذلك في الموضوعاتِ لتنزيل حُكْمِهِم فيها على الخروج الموضوعيّ، ولو بمقتضى الأصل الموضوعيّ، فلا يسري التجويز في الأحكام؛ مضافاً إلى أنّا لا نسلّمُ ذلك مطلقاً، لا في الموضوعات ولا الأحكام؛ لأنَّ العَقْلَ حاكمٌ بحرمَةِ المخالَفَةِ القطعيّة للواقع، حتَّى مَعَ موافَقَةِ الحُكْمِ الظاهري من دون فَرْقٍ بينَ الموضوعات والأحكام، لعمومِ الأدلة الدالة على حرمة المخالفة القطعية للحكم الواقعي المعلوم ولو بالإجمال، هذا كُلُّهُ على مسلكِ من يقول بحرمَةِ المخالَفة القطعيّة([155])، وأمّا مَنْ لَمْ يَقُلْ بها فيجوزُ ذلك عنده([156])، وسيجيء إن شاء الله منّا تحقيق ذلك في أصالة الاشتغال.

 

 

 

المَصْدَر الثَّالِثْ
السُّنَّةُ والحَديثُ والخَبَر
ْ

وهي في اللُّغَةِ: الطَّريقَةِ([157]).

وعند عُلماءِ الحَديث وأهلِ السِّير والتّاريخ هو كُلُّ ما يتعلَّقُ بالرَّسول  (ص)  من سيرة، وخلق، وأخبار، وأقوالٍ، وأفعال، سواء أثبتت حكماً شرعياً أمْ لا([158]).

والسّنة عند الفُقَهاءُ: العِلْمُ الواقع من المعصوم  عليهم السلام ، ولم يكن فرضاً واجباً([159])، وأوضحنا ذلك في كتابنا الأحكام([160]).

وعندَ عُلَمَاءِ أصولِ الفقه([161]): هي قولُ المعصوم لفظاً، أو كتابةً، أو إشارة، أو فعله إذا لم يعلم أنَّهُ من خصائصه، كالزّواج بأكثر من أربعة، أو تركه، كما لو ترك  (ص)  القنوت في صلاة الصبح، فإنَّ تركَهُ  (ص)  دليلٌ على عَدَمِ وجوبه، أو تقريرِهِ لما يصدر عن غيره بسكوتٍ أو موافقة، أو استحسانٍ، مع تمكُّنِهِ من الرَّدْع.

فالأول: يُسمَّى بالسنُّة القولية، كالأحاديث التي تلفَّظَ بها الرسول  (ص) ، مثل قوله  (ص) : (الأعمال بالنيات)([162])، (ولا ضرر ولا ضرار في الإسلام)([163]).

والثاني: يُسمَّى بالسُّنَّةِ الفعلية، وهيَ الأفعالُ التي صَدَرَتْ من المعصوم، يُقْصَدُ بها بيانُ التّشريع، كصلاته ووضوئه.

والثالث: يسمّى بالسنة التّركيّة، ويمكن أنْ تلحق بالسنة الفعلية، باعتبار أن الترك يؤول إلى الكفّ، وهو فعل.

والرابع: يُسمَّى بالسنّة التقريرية، وهي أنْ يستحسن، أو يوافق، أو يسكت المعصوم عن إنكارِ فِعْلٍ، أو تركِهِ، أو قولٍ صَدَرَ في حُضُورِهِ، أو في غَيبتِهِ، وعلم به، ولم يَرْدَعْ عنه.

ولا إشكالَ في حُجّيةِ السُّنَّةِ؛ لأنّها صادرَةٌ عن المعصوم عن الخطأ، وقد قام الإجماعُ، وضرورةُ الدّين على حُجّيتها، وإنّما وَقَعَ النزاعُ في مصاديقها، ففقهاء السُّنّة يرونَ المعصوم هو خُصوص النبيّ  (ص) ([164])، والشيعة الإمامية يرونَ أنَّ
النبي  (ص)  والأئمّة الإثني عَشَرَ من بعده وسيّدَةُ النساء فاطمةُ الزهراء بنت رسول الله  (ص)  كُلُّهُم معصومون من الخطأ والغلط في بيان الأحكام الشرعية([165])، هذا هو المعروف في معنى السنة.

وقد تُطْلَقُ السُّنّة على ذلك، وعلى الحاكي عن تلك الأمور، فيكونُ معناها أعمُّ من المعنى الأول.

والحديثُ لغة: الخبر([166])، واصطلاحاً: ما يحكي السنة من قول المعصوم أو فعله أو تركه أو تقريره([167]).

والنسبة بين السّنة والحديث عمومٌ من وجه:

يجتمعان فيما لو نقل النبي  (ص)  قولُ نفسه، بأنْ قال: لَقَدْ قلتُ لا ضَرَرَ ولا ضرار، وكما لو نقل أحدُ الأئمّة عليهم السلام عن النبيّ  (ص)  أو عن إمام آخر قوله أو فعله أو تقريره، فإنّه من حيث أنّه قوله  (ص)  يكون سنّة، ومن حيثُ أنّه حاكٍ عن النبيّ (ص)  أو عن إمامٍ آخر معصومٌ يكونُ حديثاً.

وأمّا مَادَةُ الافتراق، كقول الصحابي: إنّ المعصوم فَعَلَ كذا، فإنّّه حديثٌ ناقلٌ للسنّة كما أنّ نفس قول المعصوم وفعله سنّة وليس بحديثٍ.

وكيف كان، فإذا قيل: جاءَ في الحديث كذا، وجاءَ في السُّنّة خلافَهُ، فالمراد بالحديثِ هو الحاكي عن السنة بالسنة، وهو المعنى الأول، وهذا الكلام يقال عندما يثبتُ عند القائل بأنَ قولَ المعصومِ أو فعلُهُ أو تقريرُهُ خِلافُ ما دَلَّ عليه الحديث، وعند ذا إنْ أمكن الجمع والتوفيق بينهما جُمِعَ بينهما، وإلاّ أخذ بالراجح، وإلاّ تساقطا، كما هو مذكورٌ في باب التعارض.

وإذا أطلقوا متن الحديث فمرادهم خصوصُ اللّفظ الحاكي للسنّة، وإذا أطلقوا سَنَدَ الحديث، فمرادُهُم طريقُ متن الحديث، أعني: جملة رواته، وإذا أطلقوا الإسناد فمرادهم رفع الحديث لقائله.

والخبر مرادفٌ للحديثِ لُغَةً واصطلاحاً، فإنَّ كليهما في اللّغة بمعنى الإعلام، وكُلٌّ منهما في الاصطلاح ما يحكي عن السنة.

المقام الأول: في نفس السنة

ثمّ إنَّ الكلام في السنَّةِ يَقَعُ في مقامين:

الأوّلُ: في نفس السنة.

والثاني: في نقلها والحكاية لها.

أما المقام الأول: فقد عَرَفْتَ أنَّ نفس السُّنّة عبارةٌ عن القول والفعل والترك والتقرير.

أمّا القولُ الصَّادِرُ من المعصوم، فلا إشكال في حُجَّيتِهِ ووجوبِ العمل بمؤدّاهُ، لمكان عِصْمَةِ قائلِهِ عَنْ الخطأ في كُلِّ ما أخبر به عن الواقع، فيكون ما أخبر به حُجَّة على الواقع، ويَجبُ العَمَلُ بمؤدّاه والأخذ بظاهرِهِ، كما هو الحال عند أهل المحاورات، حيثُ يعملون بالقول بظاهره حَسْبَ ما تقتضيه الأصول اللفظية في مقام المخاطبة، وإنّما لا يلتفتون ولا يدركون الأصول اللفظية، لما هو مركوز في أذهانهم، ومودوع في خزانة أفكارِهِم، من الأصول اللفظية، لكنَّ وجوبَ العَمَلِ بقولِ المعصوم  عليهم السلام  مشروطٌ بشرطين:

الأول: أنْ يكونَ جهةَ صدورِهِِ هو بيانُ الحكم الواقعي، لا لجهةٍ أخرى، من تقيّةٍ أو غيرها من مصالح إظهار غير الواقع بصورة الواقع، ومع الشكَّ فالأصل أنّه لبيانِ الواقع، وهذا الأصلُ عليه بناءُ العقلاء في محاوراتهم.

والثاني: أنْ يكونَ بعد الفحص عن عدم المعارض، وعدم المخصِّصِ والمقيِّد له، وعَدَمُ القرينة الحالية والمقالية.

وأمَّا الفِعْلُ أو التَّرْكُ الصَّادِرُ من المعصوم، فهو حُجَّةٌ يجب العمل به؛ لمكان عصمة الفاعل عن الخطأ في فعله الذي طلبه الشارع في الواقع، وعصمة التارك في تركه الذي أراده الشارع في الواقع، وأمّا كون هذا الفعل أو الترك حجة على المكلّف بدليلِ اشتراك المكلّف مع المعصوم في التكليف، ولا ريبَ أنَّ الفعل من المعصوم يكونُ دليلاً على الحكم، إذا كان الفعل الصّادِرُ من المعصوم بياناً لمجمل ما أمر به، وهكذا الترك الصّادر منه إذا كان بياناً لما نهى عنه.

فإذا أمر المعصوم بشيء، ثمَّ اشتغل بفعل ذلك الشيء، بحيثُ يُعْلَمُ كونه بياناً منه له عبادياً كالصّلاة، أو معامَلياً كالغَسْل (بالفتح)، فالواجب على المكلّف هو متابعة المعصوم في فعله لذلك الشيء في جميع ما علم مدخليّته في البيان، وعدم وجوبه فيما علم بعدم مدخليّتِهِ في البيان.

وأمّا المشكوك مدخليّتُهُ في بيان الفعل، فإنْ كان عَمَلاً، كما لو قَنَتَ المعصومُ في الصّلاة، ولم يُعْلَمْ أنَّ القنوتَ داخلٌ فيها، فمُقتضى وقوعِهِ في العمل الذي هو البيانُ هو وجوبه؛ لأنَّ وقوعَهُ في مقامِ البيان يقتضي أنّه من البيان لما هو مطلوبٌ في العمل من الأجزاء.

وأما إنْ كانَ هيئَةً للعَمَل وخصوصيةً له كالتّوالي بين أجزاء الوضوء والغسل، أو الابتداء من الأعلى في غسل الوجه، فالظَّاهِرُ عَدَمُ اعتباره، لكون الهيئة والخصوصية من لوازم العَمَل، فهو لابُدَّ أنْ يقع على نحوٍ من أنحائها، فلا يراه العرفُ بياناً للعمل، ولذا تراهم لا يعتنون بخصوصيّات الأفعال بتمامها، بل لا يمكن الإحاطةُ بها وإحصاؤها للمكلّفين، فلو أرادَها الشّارعُ كانَ عليه البيان لها.

كما أنّه لا ريب في عدم حجيّة فعل المعصوم ما إذا عُلِمَ اختصاصُهُ به، كما في خصائص النبي  (ص) ، كزواجه زواجاً دائمياً بأكثر من أربعة، وكذا إذا كان الفعلُ من العادات، ومن مقتضيات الطبيعة، كالأكل، والشرب، والنوم، ونحوها مما كان صُدورُهُ من الإنسان بحَسَبِ طبعه وعادته، فإنّه لم يكن دليلاً على الحكم الشرعي.

نعم إنما يدلُّ على إباحَتِهِ، كما يُستَدَلُّ على جواز القبلة من الصائم بما روي عن فعلِ النبي  (ص)  ذلك([168])، وهكذا التروك، كتركه للنوم صباحاً.

وقد يدلّ على استحباب نوعٍ خاصٍّ منها أو كراهَتِهِ، فيما لو دَلَّ على محبوبيّةِ العَمَلِ الخاصّ بهذه الكيفيّة أو كراهته بكيفية خاصة.

إنْ قلتَ: قد اشتَهَرَ، أنَّ المعصومين لا يَصْدُرُ منهم المباح، وإنَّ أفعالُهُم كُلَّها مستحبّة ومندوبة.

قلنا: إنّ مرادهم بما اشتهر هو أنَّ المعصومين لا يأتون بالمباحات الذاتية إلا بعد قصد عنوانٍ فيها يُوجِبُ رُجحانها، كإجابةِ المؤمنِ، أو تَعْظيمه، أو القوة على العبادة، فالحُكْمُ برُجْحَانِ الإتيانِ لا يُنافي الإباحَةَ الذاتية، ومع احتمال الإباحَةِ الذَّاتية لا دَليلَ في الفِعْلِ على الرجحان.

وهكذا لا يَكونُ الفعِلُ حُجَّةً إذا لم يكن بداعي بيان الحكم الواقعي، كأن يكون لأجلِ التقية ونحوها من مصالح إظهار غير الواقع بصورة الواقع.

نعم الذي هو حجة يستكشف به الحكم الشرعي لنظائر الواقعة، هو الفعل الذي قصد به بيانُ العَمَل المطلوب، مع العلم بجهة صُدوره، وإنّه لبيان الحكم الواقعي، لا أنه عَمَلٌ صَدَرَ من جهة التقيّة ونحوها مما يُوجبُ إبراز غير الواقع بصورة الواقع، والعلم بوجهه من الوجوب، أو الاستحباب، أو الإباحة، وعنوانه، فإنه يكون حجّة على ما دَلَّ عليه من متعلّق الحكم الشرعي، فإنَّ الفعل إذا لم يعرف جهة صدوره ولا وجهه عن وُجوبٍ ونحوه لا يُستَفَادُ منه معرفة متعلق حكماً شرعياً، وهكذا إذا لم يعرف العنوان الذي قصد منه، لا يستفاد منه ذلك، لما هو على طبقه ونظائره، ولا نأخذُهُ دليلاً على مَعْرِفَةِ حُكْمٍ ما شابهه، ولو علمنا بأنه صدر منه على جهة التشريع.

فإذا صدر من المعصوم فعل شيء كالتمشّي في المسجد بعد الصّلاة، ولم نعلم أنّه على جهة التشريع، بأنْ احتملنا أنَّهُ من جهة الالتذاذ، أو لرؤية بعض الناس، أو لتنشيط الأعضاء، فلا نستفيد منه حكماً شرعياً، وهكذا لو علم بأنّه على نحو التشريع، ولكنْ علمنا بأنّه لأجل التقية، فلا يَدُلُّ على الحكم الواقعي، وهكذا لو علمنا بأنه صَدَرَ بنحوِ بيان التشريع، ولبيان الواقع، ولكن لا نعلم وجهه من كونه عبادةً، أو غيرها، واجباً، أو غيره، فلا يَدُلُّ على الحكم الواقعيّ، فلا يحكم بعباديته، ولا باستحبابه، ولا بوجوبه، ومع العلم بأنه صدر على نحو الوجوب، ولكن لم نعرف عنوانه من أعمال هذا اليوم، أو لهذه الصلاة، أو بعنوانٍ أنّه طوافٌ، أو أنَّهُ منذورٌ له، فلا نحكم على نظائره.

وهذا هو المراد للفقهاء من قولهم في بعض الوقائع الصادرة من المعصومين (بأنّها قضيةٌ في واقعة، أو حكمٌ في واقعةٍ)([169]).

فإنّ مرادَهُم أنَّ هذا العَمَلُ الصَّادِرُ من المعصوم لا يكونُ دليلاً على الحكم في نظائره، لِعَدَمِ العلم بإرادَةِ بيانِ التَّشريع منه، أو لِعَدَمِ العِلْمِ بِحُكْمِهِ، أو لعَدَمِ معرفة عنوانه، نعم لو كان للفعلِ ظهورٌ في عنوانه، وصدورُهُ لبيانِ التشريع ظهوراً يُعْتَنَى به عرفاً، فيمكنُ القولُ بحجيّة هذا الظهور، كما هو حُجّةٌ في باب الألفاظ، باعتبارِ أنَّ ظهورَ الألفاظ حُجَّة من جهة اعتمادِ العُرْفِ عليه، فهذا أيضاً يكونُ حُجَّةً لاعتمادِ العرف، فما هُو الملاكُ في حُجيّةِ الظهور في الألفاظ بنفسه موجود في ظواهر الأفعال.

وقد عَرَفْتَ أنَّ ما اشتَهَرَ من عَدَمِ صُدور المباح من المعصومين، المرادُ منه أنَّهم لا يأتونَ بالمباح الذّاتي إلاّ بعنوانٍ يُوجِبُ استحبابه، فإتيانُهُم بها لا يَدُلُّ على إباحتها الذاتية.

وعليه: فلا وَجْهَ للاستدلالِ على وُجوبِ الغسل عند التقاء الختانين وإنْ لم ينزل، بما رَوَتْهُ عائشة([170]) عن غَسْلِ النبيّ  (ص) ، لاحتمالِ أنَّه على جِهَةِ الاستحباب.

وهكذا أحكامُ المعصوم إذا لم يعلم جهَةُ صُدورِها كقوله  (ص) : (مَنْ أحيا أرضاً ميتة فهيَ له)([171])، إنْ كانت من بابِ الإذن والولاية فلا يجوز الإحياء بدون إحراز إذنه  (ص) ، وإنْ كانت من باب الفتوى جاز ذلك.

نعم، لو شَكَّ في جِهَةِ التَّشريع، في أنَّها لبيانِ الواقع، أو للتقية، فالأصلُ أنّها لبيانِ الواقع لا للتقية ونحوها، لبناء العُقلاء على ذلك في محاوراتهم، هذا كله في السنة قولاً أو فعلاً أو تركاً.

وأمّا التقريرُ: فهو عبارةٌ عن سكوت المعصوم  عليهم السلام  عن قولٍ، أو فعلٍ، أو تركٍ وَقَعَ باطّلاعه ولم يردع عنه، فإنّ تَرْكَ المعصومِ الرَّدعَ والزَّجْرَ عنه كاشفٌ عن رضائه به، وذلك يقتضي الجواز والصّحة، لوجوب إنكار الباطل والإرشاد إلى الحقّ عليهم  عليهم السلام ، لكون وظيفتهم  ع بيانُ الأحكام، ورفع الجهل بها عن الأنام، ولكنَّ حُجيّة سكوتِ المعصوم  عليهم السلام  على الحكم الشرعيّ يشتَرَطُ فيها شروطٌ ثلاثة:

الأول: أنْ يكونَ المعصوم عالماً بوقوع العمل علماً عادياً، وإلاّ فلا يجب عليه الردع، فإنَّ المعصومين مأمورين بمعاملة الرّعية بالعلوم الحاصلة من الأسباب العادية في باب الموضوعات، ولذا كانوا يحكمون بينهم بالأيمان والبينات، بل المعصومين غير النبي  (ص)  يعاملون الرعية في الأحكام أيضاً بالعلوم الحاصلة من الأسباب العادية أيضاً، ولذا كانوا يستندون في أحكامهم إلى الكتاب والسنة، لا إلى إلهام، فعلمُ المعصوم بالوقائع والكائنات من طريق الإلهام والغيب لا ينفع فيما نحنُ فيه، وإنّما الذي هو شرط، هو العلم من الأسباب العادية، ولو شُكّ في علمِهِ بالحادث من الأسباب العاديّة فبناءُ العقلاء والعُرْفِ على عَدَمِ العلم.

الثاني: أنْ لا يكونَ المعصومُ  عليهم السلام  خائفاً من الرَّدع والإنكار وبيانً الواقع والإرشاد إليه، إذ لو لم نعلم بذلك لم يكن سكوته كاشفاً لنا عن رضائه بذلك، من دونِ فرقٍ بين الخوف على نفسه أو على غيره، ولا بَيْنَ الخوفِ على المال أو العرض أو النفس، ومع الشّكّ في حُصولِ الخَوْفِ للمعصوم  عليهم السلام  فالأصلُ عَدَمُ الخوف، وعَدَمُ حُصولِ المانع من الرَّدْعِ والبيان للواقع.

الثالث: أنْ لا يكونَ الفاعلُ جاهلاً بالموضوع، كما إذا صَلَّى بالثوب النّجس جاهلاً بنجاسَتِهِ بمحضر المعصوم، فقد ذكروا أنْ ليس على المعصوم إرشاده([172])، إذ لا إرشادَ في الموضوعات، كما يَظْهَرُ ذلك من بعض الأخبار([173])، ولا نَهْيَ في حَقِّ الجاهل.

وهكذا، أنْ لا يكونَ مُضْطراً إليه، أو مجبوراً عليه، أو غير ذلك من مصحّحات المخالفة للواقع، فإنّه لو كانَ واحداً من ذلك، فلا يَدُلُّ السُّكوتُ من المعصوم على الصِّحّةِ والجواز، ومع الشكّ في جَهْلِ الفاعل، أو كونه مضطراً إليه أو عسراً عليه تركه، فالأصلُ هو العَدَمُ؛ لأنَّ ظاهر كُلِّ فاعل عند العقلاء أنه عالم بالفعل، غيرُ ناسي، ولا ساهي، ولا مضطر إليه، ولا عُسْرَ في تَرْكِهِ عليه، فيكونُ سكوتُ المعصوم  عليهم السلام  عنه دليلاً على الصّحّةِ والجواز.

المقامُ الثاني: ثبوتُ السنّة بالحاكي لها

إثباتُ الحكم الشرعيّ بالحاكي للسنة وحجيّته عليه، يُتَكلَّمُ فيه من جهات أربعة:

إحداها: إنّ الحاكي للسنّة تَثْبُتُ به السنة، إذ مع عدم ثبوتها به، لا يصحُّ الاعتمادُ عليه، وهذه الجهة هي مَحَلُّ البَحْثِ بينَ العُلَمَاء في حُجيَّةِ ما يحكى بها وعدمه، ويسمّى مَبْحَثُ حجيّة الخبر، ويبحث فيه، وعن أيّ قسمٍ منه يكونُ هو الحُجَّة.

ثانيها: أنْ يكونَ صدورُ السُّنَّة المحكيّة به لبيان الحكم الواقعي، لا لغرض آخر من تقيةٍ ونحوها، مما يصحّحُ إظهار خلافِ الواقعِ بصُورة الواقع، وهذا يُسمَّى بجهة الصدور، فمَعَ العِلْمِ بهِ لا كلامَ لنا، ومع الشَّكَّ، فالأصلُ فيه هو صدور السنة بجهةِ بيانِ الواقع، لا لجهةٍ أخرى من تقيّةٍ أو استهزاء أو نحوها، للقاعدة المجمع عليها بين العُلَمَاء والعقلاء، على حَمْلِ ما يَصْدُرُ من العاقل البالغ قولاً أو فعلاً أو تقريراً على ما هو المقصود منه ظاهراً، بحَسبِ المتعارف لبيان الواقع، لا لغرض التقية، ولا لغَرَض الاستهزاء أو الافتراء ونحوها، ولذا لا يسمع دعواه ذلك، إذا لم يأتِ عليها بشواهد، وحيثُ أنّ هذه الجهة معلومَةُ الحال لم يتكلم فيها على سبيل الاستقلال.

ثالثها: إثباتُ دلالة الحاكي للسنة على الحكم الشرعي، قولاً كانت، أو فعلاً، أو تقريراً، وقد تكلَّفَ للبحث عن دلالة الحاكي للسنة إذا كانت قولاً، مباحث الألفاظ، وأثبتوا فيها أنَّ الظهور اللفظي هو الحُجَّة، كما أنَّ البَحْثَ عن دلالة الحاكي للسنة إذا كانَتْ فعلاً أو تقريراً قد تقدَّمَ في المقام الأول.

رابعها: إثباتُ عَدَمِ المعارض للسنة، وعلاجُ المعارض لها، وقد تكفل لهذه الجهة مبحث التعارض.

وعليه: فالبحثُ عند الأصوليين في هذا المقام، إنما هو في الجهة الأولى فقط، مع الفراغ عن تماميّةِ الجهاتِ الأخرى؛ وعليه يتلخَّصُ البحث في المقام عن الخبر الحاكي للسنة المفروض أنّها لبيانِ الحكم الواقعيّ، والمفروض تمامية دلالته عليها، والمفروضُ عدمُ المعارض له في أنَّها هل تَثْبُتُ بالخَبَر الحاكي لها أمْ لا تَثْبُتُ إلاّ بما يُفيدُ القَطْعُ بصدورها من تواتُرٍ أو قَرائنٍ أو نحوها.

ثُمّ إنّ الخَبَرَ المحكيّ للسنة، إنْ كان رُواته متّصلِين واحداً عن واحد بأسمائهم، سَمَّاهُ الفقهاء بــ(الحديث المسند)، أو المتّصل السند، وإنْ كانوا منقطعين، بمعنى أنّ في السلسلة مَنْ لَمْ يَذْكُر، أو عَبَّرَ عنهُ بلَفْظٍ مُبْهَمٍ، كأنْ يقولُ: عن رجلٍ، أو عَنْ بَعْض أصحابنا، سَمَّاهُ الفُقَهَاءُ بــ(الحديث المرسل أو المنقطع)([174])، والمسند ثلاثةُ أنواع:

الأوّل: المتواتر، وهو ما رواهُ جماعةٌ كثيرة كثرة يمتنع بحسب العادة تواطئهم على الكذب من زمن المعصوم  عليهم السلام  حتّى وَصَلَ إلينا، ويعتبر ذلك في جميع الطبقات لو تعدّدت، وهو على قسمين:

متواترٌ لفظي: وهو ما يفيد القطع بصدور هذا اللفظ من المعصوم  (ص) .

ومتواتر معنوي: وهو ما يفيد القطع بصدور مضمونه كشجاعة علي  عليهم السلام .

والمتواتر حجة بقسميه لإفادته القطع واليقين بالسنة.

الثاني: المشهور، ويسمّى بالمستفيض، وهو ما رواه جماعَةٌ عن المعصوم -ما يفوقون على الثلاثة- مع عدم بلوغهم حَدَّ التواتر، فلو وقعت الشهرة في الطبقة الأولى من الرواة، سمّاهُ الفُقهاءُ مشهوراً قديماً([175])، وإنْ وقعت بين المتأخرين سُمّي مشهوراً متأخراً([176])، وإنْ كانت الشهرة بين المتقدمين والمتأخرين سُمّي مشهوراً على الإطلاق([177])، والأغلب على حجيته، حتّى أنّهم يخصّصون عموم القرآن به، ويقيّدون إطلاق القرآن به، وذلك لحصولِ الوثوقِ بصدور السُنَّة به والاطمئنان بذلك؛ ويكفي في معرفة كونِ الخبر مشهوراً بمراجَعَةِ المصنّفات الفقهية وكتب الروايات.

الثالث: خبرُ الواحد أو الآحاد، وهو مَنْ لم تبلُغْ رواته حَدَّ التواتر ولا الشهرة.

وبعبارةٍ أخرى: هو ما لم يَتَجَاوز رواته الثلاثة، ولو في طبقة من طبقاته.

والكثير من الفُقَهاء على جَعْل القسمين الأخيرين قسماً واحداً، ويجعل الخبر المشهور من الخبر الواحد، فيكونُ عنده الخبر المسند على قسمين: خبر متواتر، وخبر واحد، وقسموا الخبر الواحد غير المشهور إلى أربعة أقسام:

الأول: صحيح، وهو ما كان مسنداً، تتّصلُ رواته بالمعصوم، وكُلُّهم عدول.

الثاني: الحَسَن، وهو ما كان رُواته ممدوحين بمدحٍ لم يبلغ التصريح بالعدالة، أو كانوا عدول، ولكنْ فيهم واحِدٌ ممدوح ولم يصرِّح بعدالته.

الثالث: الموثوق، وهو ما كان رواته مأمونين من الكذب بأجمعهم، أو واحد منهم، وكان الباقون عدولاً.

الرابع: الضعيف، وهو ما لم يحرز كونُ رواته كذلك، ويدخل فيه المرسل.

والعلامة الحلي  رحمه الله  في كتابه المختلف كان يذكر الخبر بوصفه بالصّحة وغيرها ويترك الخبر الضعيف بلا وصف، وقد ذكر  رحمه الله  في خلاصته وصف أخبار كتاب الاستبصار والتهذيب ومن لا يحضره الفقيه، وميّز الصحيح والحسن والموثوق والضعيف([178]).

وكيف كان، فمَحَلُّ الكلام هو الخَبَرُ الغير المفيد للعلم بالصدور، لا الخبر المتواتر، ولا الخبر المفيد للقطع ولو بمعونة القرائن الخارجية، حيث أنّ حجيتهما لا ريب فيها، لحصول القطع بصدور السُنَّةِ بهما، ويَنْحَصِرُ بحثُنا هنا في الخبر الذي لا يُفيد القَطْع، سواءٌ كانَ خبراً واحداً أو مشهوراً.

والكلامُ تارَةً عن إمكانِ التعبُّدِ به، وقد خالف فيه ابن قبة([179])، وبعض العامة([180])، وبطلانه واضح بعد ما سيظهر لك وقوع التعبد به، فإنّ الوقوع أدلُّ دليل على إمكان الوقوع، وإلا لما وقع.

وتارة في وقوع التعبد به شرعاً، وأنه حُجَّة شرعية، وهو محطُّ البحث هنا.

ثم إنّ البحث في حجيته، ووقوع التعبد به شرعاً، تارة يكون من حيث وقوع التعبد به من باب حجية مطلق الظّن في باب الأحكام الشرعية، لدليل الانسداد، أو غيره، فلا يكون خبرُ الواحد على هذا حجّة بنفسه، بل من باب إفادته الظّن ويكون حاله حال سائر ما يفيد الظن، والبحث في ذلك سيجيء إن شاء الله في مبحث حجية مطلق الظّن في باب الأحكام الشرعية.

وأخرى من حيثُ وقوع التعبد به بخصوصه، مع الغض عن حجية مطلق الظن، بحيث يتكلم في حجيته حتى لو كان مطلق الظن ليس بحجة، وهذا هو محطّ النظر في هذا المقام وهو المخصوص بالكلام؛ والفقهاء في ذلك على طوائف:

فمنهم من أنكر حجيّتَهُ مطلقاً، وقال: إنّ الخبر الغير الموجب لقطعية
صدور السنة من المعصوم ليس بحجة، وإنما الحجة ما أفاد القطع،
كالمتواتر، والخبر المحفوف بالقرائن المفيدة للقطع، ونسب هذا القول لبعض
فقهاء الشيعة([181])،كالمرتضى([182])، وابنُ زهرة([183])، وابن البرّاج([184])، وابن
إدريس([185])، والطبرسي([186])، وربما ينسب للشيخ المفيد([187])، وابن بابويه([188])، والمحقق([189])، وعن الوافية أنه لم يجد القول بالحجية صريحاً ممن تقدم على العلامة([190])، وعن ابن الحاجب([191]) نسبة المنع عن العمل بخبر الواحد للرافضة([192])، وهو عجيب([193]).

ومنهم الإخباريون، حيث عوّلوا على ما في الكتب المعتبرة، وهي التي ألفها العلماء المعروفون بالعدالة، وأخذ مؤلفوها على عاتقهم أن ينقلوا فيها ما ثبت عندهم صحته، كالكافي، ومن لا يحضره الفقيه، والاستبصار وغيرها، زعماً منهم بأنَّ ما فيها من الأخبار تُفيدُ القطع واليقين بالصّدور، لوجود قرائن ادّعوا إفادتها القطع بذلك([194])، وفي المحكي عن الوسائل إنهائها إلى خمس وعشرين قرينة([195])، وقد تفطن بعضهم لفساد هذه الدعوى، فتنزل عن قطعية السند إلى قطعية الاعتبار([196])، وعليه؛ فهو يقول بحجية الخبر الواحد، وإنْ لم يفد القطع بالصدور، ولكن يقول بحجية خصوص ما كان في الكتب المعتبرة مطلقاً، حتى ما كان منه ضعيف السند أو مرسل.

ومنهم من قال بهذه المقالة، إلا أنه استثنى ما كان منها مخالفاً للمشهور، فهو غير معتبر عنده، كما هو المحكي عن النراقي  رحمه الله ([197]).

ومنهم من قال: بأنّ الحجَّةَ من الأخبار التي لا تفيد القطع هو خصوص ما عَمَلَ بهِ الأصحاب، ويُنْسَبُ هذا القول للمحقق  رحمه الله ([198]).

ومنهم من قال بأن الحجة([199]) هو خصوص من كان رواته عدولاً أو
ثقاة.

وأمَّا أهلُ السنة فبعضهم أنكر حجيته([200])، ولكن جمهور فقهائهم على حجيته([201])، إلاّ أنَّ الحنفي اشترط في غير ما هو مشهور الرواية ألا يخالف رواية العمل به، وأن يكون موافقاً للقياس والقواعد الشرعية، وأن لا يكون في الوقائع التي تعمُّ بها البلوى، ولا فيما يتكرّرُ وقوعه؛ لأنه لو كان فيها لاشتهر أو تواتر([202]).

والمالكي اشترط في حجيته أن يكون موافقاً لما عليه أهل المدينة([203])؛ واشترط الشافعي أن يكون رواته ثقاة معروفين بالصدق، عاقلين لما يحدثون به، والخبر متصل السند([204]).

إن قلت: قد قام الإجماع من فقهاء الشيعة على العمل بالأخبار المدونة في كتبهم المعروفة المعتبرة، كالكتب الأربعة في هذه الأعصار، بل لا يبعد كون ذلك من ضروري المذهب، كما نص عليه الشيخ الأنصاري ([205]).

قلنا: إن الإجماع إنما قام على العمل بما فيها بنحو الإجمال، لا على العمل بكُلِّ واحدٍ منها، فلا يدرى أيّ نوع منها كيف، والعاملون بها اختلفوا، فبعضهم عمل بها باعتبار أنها قطعية الصدور، كما عن طائفة من الأخباريين([206])، وعليه؛ فالذي لا يقطع بالصدور ليست حجة عنده.

أو من جهة القول بحجية الظن المطلق([207])، وعليه؛ فالذي لا يقول بحجية الظن المطلق ليست بحجة عنده من هذه الجهة.

أو من جهة كون الراوي لها في كل طبقة عدلاً ضابطاً زَكَّاهُ عدلان ويُسمَّى بالصحيح الأعلائي، كما عن صاحب المدارك([208]) وغيره([209])؛ وعليه فلا يكون الخبر الموجود فيها الذي ليس له هذه الصفة حجة عنده، أو من جهة كون الراوي عدلاً زكاه ولو عدل واحد ويسمّى بالصحيح المشهور، وعليه؛ فلا يكون الخبر الموجود فيها الذي ليس فيه هذه الصفة حجّة عنده، أو من جهة كون الراوي ثقة في مذهبه، فيعتبر عنده من الأخبار الموجودة فيها خصوص ما كانت رواته ثقاة، أو من جهة شهرة الخبر، فلا يعمل بغير المشهور منها، أو من جهة عمل الأصحاب به، كما عن المحقق([210])، فلا يعمل بغيره، أو من جهة حصول الوثوق بالصدور، فلا يعمل بغير ما فيه هذه الصفة.

وهذا نظير ما إذا اتفق جماعة من الفقهاء على رؤية امرأة لكونها أخت لأحدهم، وزوجة لآخر، وأم لآخر، وربيبة لآخر، ورضيعة لآخر، فإنه لا يحل لغيرهم رؤيتها، ولو علم أن أحدهم المعصوم، إذا لم تكن هناك جهة محللة لرؤيتها له، فعلمهم هذا لا يعد إجماعاً على صحة الرؤية لتلك المرأة لغيرهم ممن لا تكون له جهة مصححة، فكذا ما نحن فيه، فإن عمل العلماء بالأخبار المدونة في الكتب الأربعة أو السبعة، لا يكون إجماعاً منهم على صحة عمل غيرهم بها، إذا لم تكن إحدى الجهات المحللة للعمل موجودة لديه.

إذا عرفت ذلك، فالتحقيق: إنَّ الخبر الغير مقطوع الصدور سواء كان خبراً مشهوراً أو خبراً واحداً، هو حجة شرعية، إذا حصل الوثوق بصدوره، والدليل على ذلك هو عمل المسلمين به، بل عمل جميع العقلاء به، مع عدم الردع من المعصومين عنه، ولو منعنا عن العمل بالخبر الواحد الموثوق الصدور، لأصبح لنا فقه جديد، مضافاً إلى الآيات والأخبار والروايات المتظافرة التي تؤكد إمضاء الشارع لذلك، وأما لو عارضت السنة القرآن الكريم، فإن أمكن الجمع العرفي بينهما فهو، وإلا فتطرح السنة.

والقرائن التي توجب الوثوق بصدوره:

أحدها: موافقته لأدلة العقل.

ثانيها: موافقته للكتاب، ولو كان خاصاً، والكتاب عاماً.

ثالثها: موافقته للسنة المقطوع بها من جهة التواتر.

رابعها: موافقته للمشهور.

وبعضهم([211]) ذكر أن هذه الأربعة لا توجب الوثوق بصدوره، وإنما توجب الوثوق بمضمونه، لجواز كونه موضوعاً على طبقها.

والحق: إنها إن أوجبت الوثوق بصدوره كان حجة، وإلاّ فلا.

خامسها: أن يَستند المشهور في الفتوى إليه، بأنَّ عملوا به، فإن ذلك
 يوجب الوثوق بصدوره، ولذا عمل الأصحاب بمراسيل ابن أبي عمير([212])، وغيرها([213]).

وأمّا رواية المشهور له مع عدم عملهم به، فيدلُّ على ضَعْفِهِ، إذا لم يكن هناك احتمالٌ لشيءٍ أوْجَبَ إعراضَهُم عَنْ غيرِ ضَعْفٍ لصدوره لديهم، ككونه مثلاً خلاف الاحتياط.

سادسها: أنْ تكونَ الرواة في سلسة سند الخبر جامعين لصفات خمس:

الأول: العقل.

الثاني: البلوغ.

الثالث: الإسلام.

الرابع: الضبط، بأنْ لا يكونَ النسيانُ والسهو والغفلة تغلب عليه، بحيث تكون أكثر من ذكره، أو مساوية له.

الخامس: العدالة، بمعنى الوثاقة، بمعنى: أنْ يكون الراوي متحرزاً عن الكذب وإنْ كان فاسقاً بجوارحه، ونُقِلَ عن الشيخ أنّ الطائفَةَ عَمِلَتْ بأخبار جَمَاعَةٍ هذه صفاتُهُم([214])، ونُسِبَ للمشهورِ اعتبارُ العَدَالة([215])، ونفيُ الخلاف عنه في العدّة للشيخ([216])، ولعَلَّ مراده العدالة بمعنى الوثاقة، بدليلِ ما تقدّم منه  رحمه الله ، وحيثُ أنه لا دليلَ عندنا صحيحٌ على اعتبار العَدَالة بمعنى الملَكَة في الراوي، وإنّما نَعْتَبِرُها في الرّاوي لحُصولِ الوثوق بالصُّدور، فلذا اعتبرنا فيه العَدَالة بمعنى التحرُّز عن الكذب.

وهذان الأخيران، أعني: استناد المشهور إليه، وجمع سلسة السند للصفات الخمسة، إنّما يُوجبان الوثوق بالصّدور في حَدِّ ذاتهما، بمعنى: إذا لم تكن قرائن تقتضي عدم الصدور.

أمّا دلالة الكتاب على حجية الخبر الموثوق الصدور فآيات:

منها آية النبأ في سورة الحجرات: [إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا]([217])، فإنّها
ظاهرة في عدم وجوب التثبُّت في النبأ عند مجيء غير الفاسق به، بحسب مفهوم الشرط.

وقد أورد على الاستدلال بها بما يبلغ أكثر من اثنين وعشرين رَدّاً([218])، إلا أنّ الإنصافَ كما ذكره بعضهم: إنَّ الآية لها دلالةٌ على حُجية الخبر الموثوق بصدوره، لا من جهة مفهوم الوصف، ولا الشرط، بل لأنّ ظاهر مساق الآية هو ورودها في مقام إمضاء ما جرى عليه ديدَنُ الناس من العمل بأخبار الآحاد فيما يتعلق بأمورهم دُنياً أو ديناً، والإنكار عليهم في إغماضهم عن معرفة حال المخبر من كونه فاسقاً لا يبالي بالكذب، أو ممن يتورّعَ من الكذب، فالآية دلت على إنكار الله عليهم ذلك في خصوص الفاسق، وذلك يقتضي أنّ الباقي من الأخبار باقي على حالِهِ من صِحّةِ العَمَلِ به([219]).

وهذا هو الذي يناسبه التعليل، وإلا فلا خصوصية للإصابة بجهالة بالعمل بخبر الفاسق، إذ العمل بخبر العادل تُوجِدُ فيه الجهالة أيضاً، لعدم العمل بالواقع معه، فلابُدَّ أنْ يكون المراد بالجهالة هو السفاهة، وهي فِعلُ ما لا ينبغي صدوره عن عاقل، أو الجهالة التي يصحُّ اللّوم معها، بل هذا هو الذي يقتضيه التعليل بالندم؛ لأنّ النَّدَمَ هو توبيخ العقل والعقلاء على العمل، وهو بحكم العقل مختص بالعمل بخبر الفاسق الذي لا يبالي بالكذب والافتراء، دون العمل بالخبر الموثوق، فإن العقل والعقلاء لم يندموا على العمل به، كالعمل بخبر أهل الخبرة والشهادة.

والحاصل: إن الآية لا تدل على النهي عن الإقدام على خلاف الواقع، وإنما تدلُّ على أنَّ العَمَلَ بخبر الفاسق طريقةُ السفهاء فيجب التبيّن فيه لذلك.

وأمّا طريقة عملهم بالخبر الموثوق بصدوره فهي باقية على حالها، فتكون ممضية من قبل الشارع، وإلا لمنع منها، شأن سائر طرائق العقلاء الغير ممنوع عنها.

وإن شئت قلت: إنّ العمل بخبر العادل لم يصدق عند العقلاء أنه فيه إصابة بجهالة، ولم يكُنْ فيه نَدَمٌ عندهم بالعمل به فيما لو خالف الواقع، فهو كالعمل بقول أهل الخبرة، وكالأخذ بالفتوى والشهادة، فينتفي وجوب التبيّن، ويكون حجّة بحسب المنطوق لانتفاء علة وجوب التبين عنه.

والخلاصة: إنّ المراد بالجهالة السفاهة، إذ لو كان المراد بها عدم العلم، للزم تخصيص التعليل بالعمل بالشهادة، بل بالفتوى، والتعاليل غير قابلة للتخصيص، وإلا لم تكن علة، لعدم انفكاك المعلول بحسب المرتكز الذهني عن علته، فلابّد أن يكون المراد بها السفاهة؛ وبدليل أنّ المراد بالندم هو التنديم من العقل والعقلاء، ولا ريب أنّ العمل بالخبر الموثوق الصدور ليس به تسفيه من العقلاء للعامل به، ولا تنديم من العقل له، كالعمل بالشهادة، وقول أهل الخبرة، والفتوى، وحينئذٍ فمنطوق الآية يدلُّ على عدم وجوب التبين في الخبر الموثوق الصدور؛ لانتفاء علة وجوب التبين فيه، كما أن ظاهر التعليل يقتضي الحصر، فيكون للحكم المعلول مفهوم مثل مفهوم القضية المحصورة.

ودعوى أنّ وجوب التبيّن ثابتٌ لكلٍّ من خبر الفاسق والعادل([220])، لوجوب الفحص عن الدليل المعارض، حتى لو أخبر العادل فاسدةٌ، فإنّ وجوب الفحص والتبين عن المعارض إنما يكون بعد ثبوت دليلية الدليل، ومع عدم دليليته لا يجب العمل به حتى يفحص عن معارضه ويتبين عدمه.

نعم، لو أريد العَمَلُ بخبر الفاسق، وَجَبَ التبيُّن والفحص عن صحته، فإنْ ظفر بما هو الدليل على صحته عمل على طبقه، ومع عدم الظفر لا يعمل به، بخلاف ما هو دليل، فإنّه يجب العَمَلُ به، ويَجِبُ الفحص عن معارضه، ومع عدم الظفر بالمعارضة له يعمل به، وإن لم يوجد دليل على صحته.

ومن الآيات، آية النفر من سورة التوبة([221]) قوله تعالى: [فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ]([222])، حيث دلت على وجوب القبول بإنذار المنذرين، ولو كانوا آحاداً، نظير ما استدل به صاحب المسالك([223]) على قبول أخبار النساء عمّا في أرحامهن بقوله تعالى: [وَلاََ يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ]([224])([225]).

ودعوى أنّ المستفاد منها ليس إلا مطلوبية الحذر عقيب الإنذار، ومن الممكن أن يتوقف وجوبه على حصول العلم بالواقع، ولذا أتى بـ(لعل)، فهي نظير ما دلَّ على وجوب إرشاد الناس، وبيان المعارف الدينية لهم، فإنه لا يقتضي وجوب القبول مطلقاً، حتّى لو لم يحصل العلم بالواقع، ولا نسلّم ما ذكره صاحب المسالك من الدلالة.

فاسدةٌ؛ فإنّها مضافاً إلى ظهورها في كونها تقريراً لما عليه بناء العقلاء من العمل بإنذار المنذر الموثوق به، أنّها ظاهرة في مطلوبية الحذر عقيب الإنذار مطلقاً.

ومجرّدُ إمكان توقف وجوب الحذر على حصول العلم، لا يقدح في الظهور اللفظي، فلو كان وجوبُ الحذر مقيّداً بالعمل بالواقع لنصب قرينة على التقييد، وأصالة الإطلاق تقتضي نفيَ التقييد.

وقد يُستَدَلُّ بالآية بتوجيهٍ آخر، وهو: لا ينكر أنّ الآية ظاهرة في وجوب الحذر بمجرّد الإنذار من غير توقف على شيء آخر، وقد كان الإنذار مطلقاً غير مقيّد، فكذا الحذر، وإلاّ لم يكن مرتّباً على الإنذار المطلق.

ومن الآيات: آيةُ الكتمان، وهي قولُهُ تعالى: [الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى]([226])، بتقريب: أنّ حرمة الكتمان تستلزم وجوب القبول عند الإظهار، وإلا فلا فائدة لإظهاره، نظير ما ذكرناه في آية النفر.

ويرد عليه: أنّه لا ملازمة بينهما، إذ وجوب الإظهار قد يكون للتنبيه على الحكم حتى يبحث عنه فيحصله من الدليل، أو يحصل منه العلم، فيقبل، فهي نظير الأمر بإظهار الحق، ونظير الأمر بأداء الشهادة للحاكم من الواحد، ولا يجب على الحاكم القبول إلا إذا انظمّ إلى الآخر، ولم يكن معارض بشهادة أخرى.

ومن الآيات آيةُ السؤال وهي قوله تعالى: [فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاََ تَعْلَمُونَ]([227])، حيث أنّ وجوب السؤال يستلزم وجوب القبول للجواب، وإلا لكان وجوب السؤال لغواً، فهي لبيان طريقة الاطلاع على المجهولات عند فقد العمل بها، لا لبيان طريقة العلم والقطع بها، فهي تقرير لما عليه طريقة العقلاء في معرفة ما يجهلونه، بالرجوع للمطلعين بالشيء الذي يكون أخبارهم يوجب الوثوق بالشيء لبصيرتهم به.

ودعوى أنّها مختصّةٌ بالأئمة  عليهم السلام ، كما هو مقتضى الأخبار المستفيضة المعقود لها باب في الكافي على حدة، من أنّ أهل الذكر هم الأئمة  عليهم السلام ([228])، فجوابها: بأنّ ذلك التفسير يحتمل لبيان التنبيه على بعضِ أفراد العام، حذراً من عدم التفات عامة الناس لذلك.

وأمّا دلالةُ السنة على حُجيّة الخبر الواحد الموثوق بصدوره، فطوائف كثيرة، كما يظهر من مراجعة كتاب الوسائل وغيرها.

ودعوى أنَّ الاستدلال بها على حجية الخبر الواحد يكون من الاستدلال بخبر الواحد على حجيته، وهو من الدور الواضح، فجوابها أنها:

أوّلاً: أخبارُ آحادٍ مقترنة بقرائن حالية ومقالية، توجبُ القطع بصدورها.

وثانياً: بتواترها، فإنّ التواتر على أقسام أربعة:

الأول: التواتر لفظاً، وهو ما اتفقت الأخبار على لفظ واحد، ومعنىً واحد.

الثاني: التواتر معنىً، وهو ما اتفقت الأخبار على معنى واحد كان هو القدر المشترك بينهما.

الثالث: التواتر إجمالاً، وهو ما كَثُرَتْ الأخبارُ، واختلفت لفظاً ومعنى، إلا أنّه يقطع بصدور بعضها إجمالاً؛ وهذه الأقسام الثلاثة يكون الاستدلال بها استدلالاً بالسنة.

الرابع: هو ما لو كثرت الأخبار المختلفة لفظاً ومعنى، إلاّ أنّها بأجمعها تعطي إنّ هناك أمراً مفروغاً عنه، كما في سؤال السائلين عن بعض خصوصيات شيء، ويكونُ جواب المعصوم عن تلك الخصوصيات تقريراً لهم على ما كان مغروساً في أذهانهم، ومفروغاً عنهم فيما بينهم، على وجهٍ يُفيد القطع بذلك.

وهذا القسم من التواتر يكون الاستدلال به استدلالاً بالسنة التي هي تقرير المعصوم، والقسمان الأوّلان لو سُلِّمَ عَدَمُ وجودهما في المقام، إلا أنّ القسم الثالث لا شكَّ في وجودِهِ؛ لأنّا نقطع بأنّ بعض هذه الأخبار في هذه الطوائف الكثيرة صادر عن المعصوم  عليهم السلام ، وإنْ لم نشخّصه، إلا أنّا نقطع بأنه يدل على حجية الخبر الثقة، إذ لو كان الصّادر هو ما يدلُّ على الأعمّ منه، فإنه يدل أيضاً على خصوصه.

وأمّا القسم الرابع، فلا إشكال في وجودِهِ أيضاً، فإنّ مَنْ تتبع هذه الطوائف من الأخبار يرى أن حجية خبر الثقة كان مفروغاً عنه فيما بين السائلين والمعصومين  عليهم السلام .

وأمّا دلالةُ السيّرة على حُجيّة الخبر الموثوق بصدوره، فهو ما نراه بالوجدان من استقرار سيرة العقلاء من ذوي الأديان وغيرهم على العمل بالخبر الموثوق به من قبل الإسلام إلى زماننا هذا، ولم يَرْدَعْ عن هذا العَمَل لا في الكتاب، ولا في السنة، وإلاّ لَوَصَلَ إلينا الرّدْعُ، واشتهر، وظَهَرَ، لتوفّر الدّواعي إلى نقله، لكثرة مورد الابتلاء، وهذا يكشف كشفاً قطعياً عن رضاء الشارع بالعمل بأخبار الآحاد الموثوقة.

إنْ قلتَ: يكفي في الرّدع الآياتُ والروايات الناهية عن اتباع غير العلم.

قلنا: هذه الآيات والروايات عامة ومطلقة، والسّيرة المذكورة دليلٌ خاصٌ قطعيٌّ، فيُخصَّص بها تلك العمومات وتلك الإطلاقات، ولذا نرى العلماء في كُلِّ أمرٍ استدلّوا به بالسيرة لا يعتنون بهذه العمومات والإطلاقات، كيف، والعمومات والمطلقات تكونُ حجية ظهورها في العموم أو الإطلاق من باب السيرة، فلا يُعْقَلْ أنْ يستند إليها في نفي حُجيّة أيّ سيرة من السير.

أدلة المانعيـن من حجية الخبر الغير المفيد للعلم

استدلَّ المانعون لحجيّة الخبر الواحد من الكتاب بالآيات الناهية عن العمل بغير العلم([229]).

وجوابُهُ: أنّه بعد تسليم دلالتها على المنع، وأنّها ظاهرة في خصوص العقائد، تكونُ من باب العمومات والمطلقات، فهي تُخصِّص بالأدلة التي أقيمت على حجية الخبر.

واستدلّوا من السنّة بروايات، منها: ما في المحكيّ عن بصائر الدرجات ومستطرفات السرائر عن محمّد بن عيسى: (ما علمتم أنه قولنا فألزموه، وما لم تعلموه فردُّوهُ إلينا)([230]).

وجوابه: مضافاً إلى أنّها خبر واحد، فالاستدلال به على المنع من العمل بخبر الواحد يوجب المحال، وإلى أنّها معارَضَةٌ بالروايات والأدلة الدالة
على حجية الخبر، مضافاً إلى ذلك، إنّ العمل بالخبر الذي قامت الحجة على حجيته يكونُ من العمل بما علمنا أنّه قولُ المعصوم؛ لأنَّ الظاهر من العلم هو المعرفة، ولو عن دليلٍ معتبر، لا خصوص اليقين، وإلاّ لَزَمَ طرح أكثر أقوال المعصوم، ولا أقلّ إنّ هذا هو مقتضى الجمع بين ما دَلّ على حُجيّة الخبر وهذه الرواية.

ومنها: أخْبَارُ العَرْض على الكتاب والسنّة، فما وافقهما يؤخذ به، وما خالفهما لا يعمل به، حيثُ إنّها تدلُّ على المنع من العمل بالخبر الذي لم توجد قرينة من الكتاب والسنة عليه، وإنّ ما خالفهما لا يؤخذ به.

والظاهر أنّ المراد بالمخالفة هي المخالفة بنحو المباينة، بمعنى أنَّ المراد منها طرح الخبر المباين للكتاب والسنة، وإلا فالمخالفة بالعموم والخصوص، والإطلاق والتقييد، والإجمال والبيان، ليست بمخالفة، ولو أريد منها ذلك لزم طرح أكثر الأخبار المقطوعة الصدور، حيثُ أنّها مخالفة للكتاب والسنة بهذا النحو من المخالفة، وهو لا يلتزم به أحد.

ودعوى تخصيصُ أخبار العرض بغير الأخبار القطعية الصدور، وإبقاء الأخبار المشكوكة تحتها.

فاسدةٌ؛ لإباء أخبار العرض عن قبول التخصيص، فإنَّ مثل المروي عن النبي  (ص) : (ما خالف الكتاب فليس من حديثي)([231])، أو (فلم أقله) ([232])، والمروي عنهم  عليهم السلام : أنه (زخرف)([233])، أو (باطل)([234])، يأبى عن قبول التخصيص، وإلا لزم أن يكون قد قالوا: الزخرف والباطل المخالف للكتاب والسنة، وهو ما كان مقطوع الصدور منهم.

والحاصل: إن الظاهر بالقرائن العقلية والنقلية، إنّ المراد هو المخالفة بنحو التباين.

ودعوى أنّ حملها على المخالفة بنحو التباين، حمل لها على النادر([235])، إذ يكاد يكون في غاية الندرة، بل معدوماً، ما يكون مخالفاً بنحو التباين، فلا يصحّ حملها عليها.

فاسدةٌ، فإنّ في زمان صدور هذه الأخبار قد كثر الافتراء والوضع والجعل على المعصومين، للحطّ من كرامتهم، ولا ريب أنَّ الذي يحطُّ من كرامتهم هو الوضع والجعل لما يخالف الكتاب والسنة النبوية بنحو المباينة، وإلا فالمخالفة بنحو العموم والخصوص، والإطلاق والتقييد، ونحوهما، ليست مخالفة تحطُّ من كرامتهم، ولا تنقص من مقامهم، فلا ينفع الكاذبين عليهم في عصرهم إلا الجعل عليهم  عليهم السلام  بنحو المباينة.

واستدلوا بالإجماع المحكي عن المرتضى  رحمه الله ، على المنع من العمل بالخبر الغير المفيد للقطع([236])، والمحكي عن ظاهر كلام الطبرسي([237]).

وجوابه: أنه منقول وهو غير حجة، على أنه معارض بما هو المحكي عن الشيخ  رحمه الله  وجماعة على حجية خبر الواحد([238])، وموهون بما هو المشهور عند المتأخرين من حجية خبر الواحد([239])، وبالشُّهْرَةِ المحكيّة عن القدماء في العمل بخبر الواحد([240]).

وأما الخبر المرسل والمنقطع، فالمحكيّ عن أصحابنا أنهُ يعمل به إذا عُرف أنه لا يرسل إلا عن ثقة([241])، كابن أبي عمير، لدخوله إذ ذاك في الخبر الموثوق به وهو حجة، وأما إذا لم يعرف ذلك فليس بحجة؛ لأنّ العدل كما يروي عن الثقة كذلك يروي عن غيره.

والتحقيقُ: إنّ مجرّد ذلك لا يوجب كون الخبر موثوقاً به، إذ غاية الأمر أنه لا يروي إلاّ عن ثقة عنده، ولعلّه كان مجروحاً عند القوم، فلا يكون ثقة عندهم، نعم، لو عرف أنه لا يرسل إلاّ عمَّن كان ثقة عند الجميع، كان المرسل موثوقاً به، لكنّه مجرَّدُ فرضٍ، فالحقُّ أنَّ المرسل إذا عمل به المشهور كان حجة، لحصول الوثوق به، كمراسيل ابن أبي عمير، والمحكيّ عن فقهاء أهل السنّة إنهم متفقون([242]) على العمل بمرسل الصّحابي سواء منهم الأحناف([243])، أو المالكية([244])، أو الحنابلة([245])، أو الظاهرية([246])، أو الشافعية([247])، أما عدا مراسيل الصحابة، فالشافعي لا يعمل بها إلاّ إذا انضم إلى المرسل ما يعضده، كروايته عن طريق آخر، أو روي مسنداً من طريق آخر، أو عمل به بعض الصحابة([248])، وكان يأخذ بمراسيل سعيد بن المسيب؛ لأنه عنده شديد التثبت من الأحاديث المرسلة والتأكد من صحتها واتصالها([249]).

وأما الخبر الضعيف، فالمعروف أنه ليس بحجة، لعدم قيام الدليل على حجيته، فيدخل في أصالة عدم الحجية، ولكن إذا انجبر ضعفه باشتهار روايته، بشرط عدم إعراض الأصحاب عنه، ولو كان عدم إعراضهم بتوجيههم دلالته، أو تأويلهم لها، أو بيان المعارض له من دون القدح في سنده، فهو حجة لحصول الوثوق بصدوره، وهكذا لو عمل المشهور به، واستندوا في فتواهم إليه، وربما أدعي الإجماع على اعتبار الخبر الضعيف الموثوق بصدوره([250])، ويؤيد ذلك آية النبأ، فإن الظاهر من الجهالة فيها هو السفاهة، ومن الندم هو التنديم لو عمل به أحد من العقلاء؛ وخبر الضعيف الموثوق بصدوره لا سفاهة ولا تنديم من العقل والعقلاء على العمل به، فيكون حجة بحكم المنطوق؛ لانتفاء علة وجوب التبين بالنسبة إليه.

وأمّا ما اشتهر روايته، وأعرضوا عنه فليس بحجة، لعدم حصول الوثوق
 به، نعم مَحَلُّ الكلام هو ما إذا كانت الشُّهْرَةُ في الفتوى على طِبْقِهِ، فهل
تكونُ جابرة له، فقد يقال بعدم جبرها له؛ لأنها لا توجب الوثوق به
وإن أوجبت الظن بصدور حكم من الشارع مطابق للخبر، ولذا لا توجب الأولوية، والاستقراء وسائر الأمارات المفيدة للظنّ بالحكم الشرعيّ على طبق الخبر جبر ذلك الخبر الضعيف، وقد يدّعى دلالة ما دلَّ على الأخذ بالمشتهر
بين الأصحاب من المتعارضين في مقبولة ابن حنظلة([251])، ومرفوعة زرارة([252])،
فإن الترجيح للمشتهر عند التعارض يوجب حجيته في مقام عدم المعارض بالإجماع والأولوية.

وفيه ما تقدم، إن ذلك هو شهرة الرواية لا في شهرة الفتوى؛ وقد يدعى دلالة منطوق آية النبأ على حجيته، لحصول التبين فيه، بذهاب المشهور لمضمونه([253])، وفتواهم على طبقه، إلا أن يقال: إن المراد هو التبين الاطمئناني، فمع حصوله لا ريب من الحجية من أي أمارة حصل، وإلا فهو لا يوجب الحجية.

التسامحُ في أدلّةِ السُّنَنْ

ظاهر أكثر الفقهاء إنْ لم يكن كُلُّهم على اعتبار الأخبار الضّعاف في إثبات المندوبات والمكروهات، فقد حَكى غير واحد بأنّها ثبتت بالروايات الضعيفة الغير المنجبرة لا بالقرائن ولا بالشهرة([254])، بل حمل الأخبار الدالة على الوجوب والحرمة على الاستحباب والكراهة، عند ضعف سندها، وعدم الجابر لها، وقد استظهر المنع من التمسك بأدلة التسامح من الصدوق  رحمه الله  وشيخه([255]) في باب صلاة يوم غدير خم والثواب المذكور لصومه([256])، وعن المنتهى المنع أيضاً في موضعين([257])، وعن المدارك في باب الوضوء، إن ما يقال من أن أدلته يتسامح فيها منظور فيه؛ لأن الاستحباب حكم شرعي يتوقف على دليل شرعي([258])، وإن حكي عن صاحب المدارك أنه رجع عن ذلك في باب الصلاة([259])، بل عن ظاهر العلامة أيضاً الرجوع عن ذلك([260]).

واستدل القائلون باعتبار الخبر الضعيف في السنن بأمور ثلاثة:

الأول: الإجماعات المنقولة، فقد حكي عن الوسائل نسبة ذلك إلى الأصحاب، مصرّحاً بشمول الأدلة للمكروهات أيضاً([261])، وعن الذكرى نسبته لأهل العلم([262])، وعن الشيخ الأنصاري نسبته للمشهور عند أصحابنا
والعامة([263])، بل قد اشتهر عندهم القول بالتسامح في أدلة السنن([264]).

والثاني: العقل، لحكمه بحسن إتيان ما يحتمل مطلوبيته للمولى، ورجحان ترك ما يحتمل مكروهيته للمولى.

الثالث: الأخبار المستفيضة، أو المتواترة معنىً، مع تَلَقّيها بالقبول من الأصحاب، وعملهم بها، مع صحّة بعضها، كالصحيح المروي في المحاسن عن هشام بن سالم، عن أبي عبد الله  عليهم السلام ، أنَّهُ قال: (من بَلَغَهُ عن النبي  (ص)  شيء فعمله كان أجر ذلك له وإن كان رسول الله  (ص)  لم يقله)([265])، وروي عن ثواب الأعمال بسندين أحدهما صحيح والآخر معتبر([266])، وعن البحار: إن هذه الرواية مشهورة بين العامة والخاصة([267])، والظاهر من: (شيء)، بقرينة: (فعمله)، وإضافة الأجر إليه، هو الفعل المشتمل على الثواب، وكالحسن أو كالصحيح المروي في الكافي، عن هشام بن سالم، عن أبي عبد الله  عليهم السلام ، أنه قال: (من سمع شيئاً من الثواب على شيء، فصنعه كان له أجره وإنْ لم يكن على ما بلغه)([268])، ويحكى أنَّ صاحب الحدائق ذَكَرَ في آخر الدّرة النجفية اثني عشر حديثاً في هذا الباب([269])، وعن مرآة العقول للمجلسي أنّه: قد رَوَتْهُ العامَّةُ بأسانيد عن النبي  (ص) ، وقد نقل شهرة الفتوى بذلك عن المتقدمين والمتأخرين([270])، وعن عدة الداعي بعد ذكره طائفة من الأخبار المذكورة قال: فصار هذا المعنى مجمعاً عليه بين الفريقين([271])، وعن الشيخ البهائي: إن هذا صار سبب تساهل فقهائنا في البحث عن دلائل السنن([272]).

وأما المانعون من التمسك، فاستدلوا على ذلك بأصالة عدم ثبوت الاستحباب والكراهة، إلا أن يقوم الدليل المعتبر على ثبوتها، أو بأصالة عدم الحجية للخبر الضعيف إلى أن يثبت حجيته.

والتحقيق في المقام، أن يقال: إن القائلين بالتسامح إن أرادوا حجية الأخبار الضعاف في المسنونات والمكروهات نظير حجية الأخبار الموثوقة، بأن تكون حجة في مداليلها، في عرض الأدلة المعتبرة، من التمسك بعمومها وإطلاقها، ويخصص ويقيد بها حتى الأخبار الصحيحة التي هي أعم منها، ويؤخذ بجميع مداليلها، إلى غير ذلك من أحكام الحجية، كما هو الظاهر من كلام الفقهاء حيث يقولون: (هذا العمل مستحب للرواية الكذائية)، فإن ظاهره أن الرواية حجة شرعية يثبت بها الاستحباب، بل هو ظاهر جميع من حرر هذه المسألة([273])، حيث يظهر من كلامهم أن الخبر الضعيف حجة في السنن؛ بأن يثبت به جميع مدلوله، فإن تعبيرهم (التسامح في أدلة السنن)، معناها أن أدلة السنن يتسامح فيها، فلا يعتبر فيها ما يعتبر من الشرائط في أدلة الواجبات والمحرمات.

والحقُّ مع المانعين؛ لأن الأدلة المتقدمة لم يكن لسانها وسياقها لسان جعل الحجية للخبر، الذي تحقق به البلوغ، وإنما سياقها ولسانها هو جعل الاستحباب المولوي للعمل، الذي دَلَّّ عليه الخبر الضعيف، فهي غيرُ دالّةٍ على أنَّ الخبر الضعيف يكونُ حُجَّةً ودليلاً، كسائر الأدلّة على الأحكام الشرعية يثبت به مدلوله من الاستحباب الواقعيّ أو الكراهة الواقعية، مع ما اشتمل عليه مدلوله من جزئية الشيء، أو شرطيته، أو مانعيته، وإنما يقتضي قيامه استحباب العمل أو كراهيته، فمثلاً إذا قام الخَبَرُ الضّعيف على استحباب الوضوء للنوم، وأنه مما يثاب عليه، وأنه يكفي في الطّهارة لما يعتبر فيه الطهارة، فالأدلة المذكورة إنما تقتضي استحبابه للنوم، وحصول الثواب على فعله للنوم فقط، ولا تدل على أنَّ الخبر الضعيف الدال على ذلك يكونُ حُجَّةً شرعية، بأنْ يكون حجة يثبت به مدلوله، من استحباب الوضوء وكفايته في الطهارة لما يعتبر فيه الطهارة، بحيث يكون ذلك الخبر بنفسه دليلاً على ذلك، ولا يحتاج إلى دليل معتبر معه يدل على الكفاية، كما لو كان الخبر المعتبر قد قام على ذلك، فإنه بالخبر المعتبر لو قام على الاستحباب، وثبوت الآثار الشرعيّة يكون حُجَّةً يُتَمَسَّكُ بها على استحباب الوضوء، وثبوت تلك الآثار الشرعية التي دَلَّ عليها، كجوازِ الدّخول به للصَّلاةِ، أو لَمْسِ كتابَةِ القرآن، أو الطَّوافِ به، ونحو ذلك.

والحاصل: إنَّ الأدلّةَ المذكورة، لا تَدُلَّ على أزيد من كون قيام الخبر الضعيف على الثواب على العمل توجبُ استحباب ذلك العمل ممن بلغه ثوابه، وترتَّبَ الثوابُ المذكور عليه نظير الأخبار الدّالّة على جواز الشيء عند الشكّ في حليته، فإنها لا تقتضي حجية الشكّ ودليليته على الحلية الواقعية، بل نظير الأخبار الدالة على الأحكام للأعمال بعناوين طارئة عليها، الموجبة لحسنها، أو قبحها، كعنوان إجابة المؤمن، أو الحرج، أو الضرر، أو أن تلك الأخبار لا تدل إلا على مطلوبية العمل إذا طرأ عليه بلوغ ثوابه ممن بلغه ذلك الثواب، وليست دالّةً على أكثر من ذلك، بأنْ تدلّ على أنَّ الخبر الضعيف يكونُ حُجَّةً فيما دَلَّ عليه كالخبر المعتبر.

إنْ قلتَ: إنّها نظير الأخبار الدالة على ملكية ما في يد المسلم، فإنها تدل على دليلية اليد على الملكية الواقعية إذا طرأت على الملك، ولذا يرتب عليها آثار الملكية الواقعية.

قلنا: إنّ أدلّة اليد ظاهرة في ذلك بما اقترنت بها من القرائن، وليست الأدلة فيما نحنُ فيه ظاهرة في ذلك، بل ظاهرة في عدم الجعل؛ لأنَّ جعل الحجية يقتضي الكشف عن الواقع، وإلغاء احتمال الخلاف، لا فرض عدم الثبوت، كما هو الشأن في هذه الأخبار.

والحاصل: إنّ الأخبار المذكورة تدلُّ على استحباب العمل البالغ ثوابه على ممن بلغه ثوابه لوجوه:

منها: إنّها واردة في مقام الترغيب على العمل المذكور، والترغيب من المولى على شيء يوجب ظهور اللفظ في محبوبيته للمولى، إلا أنْ تقوم قرينة تمنع من انعقاد ذلك الظهور للفظ.

ومنها: الوعد بترتب الثواب عليه، وحُكْمُ الشارع بترتب الثواب على شيء يدلُّ بظاهره على استحبابه استحباباً شرعياً مولوياً، إذ لا ثواب على غير الواجب والمستحب، ولذا تجد الفقهاء يحكمون باستحباب كثير من الأفعال لمجرد ورود الثواب عليها، كالحكم باستحباب تسريح اللحية مثلاً، لقوله: من سرح لحيته فله كذا وكذا، إلا أنْ يكون هناك قرينة تمنع من ذلك الظهور، وإلا فمقتضى الظاهر هو الحكم باستحبابه، ولا ريب عدم وجود قرينة فيما نحن فيه تمنع منه.

ومنها: اهتمام الشارع بفعل ذلك العمل بالأخبار المتكثرة في ذلك، فإنه دليلٌ على مطلوبيته، وسيتضح لك أكثر من هذا.

إن قلت: أنه لا دلالة، ولا إشعار للأخبار المذكورة على أنَّ طُرُوَّ عنوان البلوغ عليها موجب لحدوث مصلحة في العمل بها يصير مستحباً.

قلنا: هي ظاهرةٌ في ذلك، لدلالتها على أنَّ العمل بذلك يوجب ترتب الثواب عليه، إذا صَدَرَ ممن بلغه، لا من غيره، فإنَّ البلوغ لو لم يحدث مصلحة وحسناً، لم يستحق خصوص من بلغه ذلك الثواب، كما هو الشأن في سائر الأدلة التي ترتب الثواب على الأعمال بواسطة طروّ عنوان عليها، كإجابة المؤمن، أو تعظيمه، ونحو ذلك، بل يمكن أنْ تكون نظير ما ذكره القوم في حجية خبر العادل، بناءً على السببية والموضوعية في أنَّ قيامَ خبر العادل موجب لحدوث مصلحة فيما قام عليه، توجبُ إنشاء الحكم على طبقه، غاية الأمر أنَّ أخبار خصوص العادل في وجوب شيءٍ أو حرمته تكون وجهاً من وجوه ذلك الشيء، يقتضي وجوبه وحرمته فعلاً، وأمّا في المستحبّات فيكفي مُطْلَقُ الخبر من كُلِّ مخبر، ويكونُ الإخبار بها وجهاً من الوجوه يقتضي الاستحباب.

إن قلت: إنَّ ظاهر الأمر بها للإرشاد إلى حكم العقل بحسن الانقياد في مورِدِ بُلوغِ الثواب، واحتمال المطلوبية على العمل الذي بلغه عليه الثواب، وإنْ كان الأمر ليس كذلك في الواقع، وتكونُ نظير الأخبار الآمرة بالاحتياط؛ فإنَّ الأوامر فيها ظاهرةٌ في الإرشاد إلى حسن الانقياد، بإتيان ما هو محتمل الوجوب، وترك ما هو محتمل الاستحباب، فإنَّ الظاهر من الأوامر المتعلقة بعنوانٍ يكون حسن عقلاً كونها إرشاد إلى ما يحكم به العقل، بل لا يمكن أن تكون مولوية؛ لأن الأوامر المتعلّقة بالطاعات إرشادية، وإلا لزم التسلسل.

قلنا: لا نسلّم إنّ الأوامر المتعلّقة بالطاعات لا تكون مولوية، فإنَّ من الممكن أن تكون مصلحةً في إطاعة أمر غير الأمر الذي تَعَّلقَ به، فيكون الأمر بإطاعته مولوياً، أو تكون مصلحةً في الاحتياط والانقياد لأمرٍ محتمل، أو نهي محتمل، فيكونُ الأمر بذلك الانقياد والاحتياط مولوياً، والتسلسل غير لازم؛ لأنه تنتهي الأوامر المولوية بعدم الجعل الشرعي لها، وإنما الإطاعة التي لا يمكن أن يكون الأمر بها مولوياً، هو الأمر بالطاعة المنتزع انتزاعاً محضاً من امتثال الأمر بمتعلقه، من غير أنْ يجعل عنواناً برأسه.

إن قلت: نعم، لكن لا ريب أن ظاهر الأوامر المتعلقة بما هو حسن عقلاً كونها إرشادية لحكم العقل، وعليه؛ فيكون الظاهر من أوامر (من بلغ) هي كونها إرشادية لا مولوية، نظراً إلى أنّ موضوعها هو الإتيان برجاء إدراك ما بلغه من الثواب، وفي بعضها قيد بطلب قول النبي  (ص) ([274])، وفي بعضها بالتماس ذلك الثواب، وبَعْدَ ضَمّ الأخبار المقيد منها للمطلق منها، يستفاد منها أن موضوعها هو الإتيان بالعمل برجاء إدراك ما بلغه من الثواب، مضافاً إلى ما يستفاد من تفريع العمل على البلوغ بقرينة الفاء الدالة على السببية، فإنه ظاهر في كون العمل مستند لبلوغ الثواب المحتمل، فينطبق على موضوعها الانقياد، الذي يستقل العقل بحسنه، فيكون الأمر به إرشادياً لا مولوياً.

قلنا: نعم، لا ريب في ظهور الأوامر الإرشادية إذا تعلّقت بموضوع حسن عقلاً، ولكن فيما نحنُ فيه لا نسلّم أنها تعلّقت بالعمل البالغ ثوابه، بقيد أنه يكون برجاء إدراك الثواب، لما فيها من الأوامر المطلقة المتعلقة بنفس العمل البالغ ثوابه، غير مقيد بإتيانه برجاء المطلوبية، كصحيحة هشام المتقدمة، والفاء لا تدل على السببية، بل تدلُّ على الترتُّبِ فقط، مثل قولنا: مَنْ سمع الآذان فدخل المسجد فله كذا من الثواب، وكقولنا: جاء زيد فعمر فخالد.

وعليه: فلم يكن الأمر فيها ظاهراً في الإرشاد، حيث لم يتعلق بالعمل بعنوان الانقياد، بل ظاهر في المولوية، كما هو الأصل في سائر الأوامر المتعلقة بنفس العمل؛ ومُجرَّدُ وجودِ ما في بَعْضِ الرّوايات من تَعَلُّقِ الطلب فيها بالعمل برجاء دَرْكِ الثواب، أو طَلَب لقول النبي  (ص) ، لا يوجبُ تقييد المطلقات، لما تقرّر في الأصول، من أنّ الأمر المطلق، لا يُقيَّد بالأمر المقيّد، خصوصاً في المستحبات، فيكونُ في المقام أمران؛ أحدهما بالمطلق، والآخر بالمقيد، مضافاً إلى أنها لا توجب التقييد، وإنّما هي لبيان عبادية ذلك الأمر الاستحبابي والترغيب إليه، فإنّهُ نظير أنْ يقال: (صَلِّ طلباً للثواب، أو خوفاً من العقاب)، فإنَّ هذا لا يقيّد العمل بكونه بهذا العنوان، بحيثُ يُقيّد به الأوامر الوجوبية بالصلاة، لما عَرَفْتَ أنَّ قصد القربة بأنحائه لا يؤخذ في متعلق الأمر العبادي، وإنما يكون لبيان أنّ العبادية المتحققة بهذا العمل، لا تكونُ إلا بقصد القربة، بنحو قصد الثواب، أو خوف العقاب، فلا رافع لظهورِ الأمر في المولوية في مطلقاتها.

وبعبارةٍ أخرى: إنّ المستفاد من الأخبار استحباب نفس العمل شرعاً، لا استحبابه عقلاً بعنوان الاحتياط والانقياد، والإتيان به لحصول الثواب، ولا رَيْبَ أنَّ العَقْلَ لا يرشد لمحبوبية نفس العمل.

وتوهّمُ أنَّ كونَ العمل يثبت له الأمر بعد عروض صفة البلوغ، يقتضي قصد البلوغ في إثباته مستحباً فاسدٌ، فإنّ ذلك لا يوجب ثبوت الحكم له بقصد البلوغ، ألا ترى أنّ الأحكامَ الثابتة للأعمال بعد عروض التقية أو الاضطرار لا توجد قصدها عند فعلها، إلا إذا قامَ الدّليلُ على لزوم قصدها، وهو أول الكلام.

على أنَّ في المقام قرائنٌ على كون الأوامر في أخبار (من بلغ) مولوية:

منها: ظهورُها في التأسيس لا التأكيد لحكم العقل، ومع الشكّ يحمل
اللفظ على التأسيس، وقد اشَتَهَر عنهم أنَّ التأسيس أولى من التأكيد([275])، وذلك لكون مقام المولى يقتضي إعمال مولويته بالإنشاء للحكم الشرعي، لا تأكيد حكم العقل.

ومنها: أنَّها لو كانت إرشاداً، وتأكيداً لحكم العقل على حسن الانقياد، لم تَكُنْ حَاجَةٌ لهذه الأهميّة في المستحبّات، بحيثُ يحثُّ عليها هذا الحثَّ الشديد، وتكثُرْ الأخبار فيه هذه الكثرة، ولهذا كان اللازم حَمْلُ أخبار الاحتياط على الطلب المولوي، لولا اقترانها بالقرائن الموجبة لحملها على الإرشاد.

ومنها: أنّها لو كانت إرشاداً لم يتوقف الثواب على البلوغ، إذ يكفي مجرد احتمال المطلوبية، فإنّ الظاهر من هذه الروايات أنّ للبلوغ عن النبي  (ص)  دخلٌ في ترتُّب الثواب، ولا رَيْبَ أنَّ ثوابَ الانقياد غير متوقّفٍ على ذلك، بل يكفي فيه مجرّدُ احتمالِ المطلوبية من أين ما حصل.

ومنها: أنّ العقل لا يحكم باستحقاق مقدار الثواب المسموع، كما هو مدلول هذه الأخبار، وإنما يحكم العقل باستحقاق أصل الثواب، فلا تكون هذه الأخبار مؤكدة لحكم العقل، ولا مرشدة له.

ومنها: إنّ فهمَ الأصحابِ للاستحبابِ المولويّ منها، وفهمُ الأصحاب جابر للدلالة عند أكثر الفقهاء، مضافاً للإجماعات المنقولة على استحباب نفس العمل، وفَهْمُ العلماء من الأخبار أنَّ العمل مستحب شرعاً استحباباً مولوياً في نفسه من حيث هو، فإنّ ذلك يقوّي به الظهور المذكور.

هذا كُلُّهُ على القول بثبوتِ الثّواب والعقاب على العَمَلِ الانقياديّ والمتجرّى به، وأمّا على القول بعَدَمِ ثبوتِها عليه، كما هو الظاهِرُ من كلمات الشيخ الأنصاري([276])، أو أنَّ الثوابَ والعِقابَ على صَرْفِ العَزمِ على الطاعة والمعصية، كما يَظْهَرُ من صَاحِبِ الكِفاية([277])، فلابُدَّ من جَعْلِ الأوامر مولوية، ولا تَصْلُحُ للإرشاد، لِعَدَمِ حُكْمِ العقل بثبوتِ الثواب على الانقياد.

إنْ قلتَ: إنّا لو حَمَلْنَاها على الاستحباب المولويّ، يلزم أنْ يُحْمَلَ فيها الثوابُ على الثواب الاقتضائي لا الفعلي؛ لأنه لو كان الخبر الضعيف مطابقاً للواقع، لكان الثواب ثابتاً للعمل في الواقع، وثواب ثابت له بمقتضى أخبار (من بلغ)، فيلْزَمُ اجتماعُ المثلين، فلابُدَّ من حملها على الثواب الاقتضائي، بمعنى أنَّ الثوابَ يَثْبُتُ له اقتضاءٌ لا بالفعل، بمعنى أنّه يَثْبُتُ له مَعَ عَدَمِ المانع، كاجتِماعِ المثلين.

قلنا: لا مَانِعَ من اجتماع الثوابين باعتبارين، سَلَّمنا، لكنَّ الأخبار المذكورة إنما تدلُّ على ثبوت الثواب لو كان الخبر غير مطابق للواقع، لا أنَّ الثَوابَ
يثبت حتَّى مع المطابقة للواقع، فهيَ دالَّةٌ على ثبوتِ الثّوابِ الفعليّ في هذه الصورة.

إنْ قُلْتَ: هذه الأخبارُ مفادها مُجرَّدُ الإخبار عن تَفَضُّلِ الله تعالى على عباده بترتُّبِ الثواب على العَمَلِ الصَّادر ممنْ بَلَغَهُ ثوابُه بمقدار ما بلغه من الثواب، فتكونُ هذه الأخبار شارحة ومخبرة عن تفضُّلِ الله بإعطائه الثواب البالغ على العَمَل الصادر ممن بلغه ذلك الثواب، نظير: (من سَنَّ سنّةً حَسَنَةً فله أجرها، وأجرُ من عمل بها)([278])، وليست في مقام بيان الحكم الشرعي للعمل المذكور حتى يكون مستحباً، ولا أقلّ من احتمال ذلك، والدليلُ متى تطرَّقَهُ الاحتمال بَطَلَ الاستدلال.

قلنا: قد عَرَفْتَ أنَّ الأخبار المذكورة في مقامِ التّرغيب والحَثَّ على العمل المذكور، فهي ظاهرة في بيان الحكم للعمل المذكور.

على أنه قد عرفت: أنَّ مجرَّدَ ترتيبَ الثواب على العمل يُوجِبُ ظهور اللفظ في استحبابه للملازَمَةِ العُرفيّة بينهما، ولذا الفُقَهَاءُ يستفيدونَ استحباب العمل من ترتُّبِ الثّوابِ عليه، كقولِهِ  (ص) : (مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً فله أجرُها وأجرُ مَنْ عَمِلَ بها)؛ مضافاً إلى أنَّ بَعْضَها اشْتَمَلَ على لَفْظِ (كانَ أجْرُ ذلك له)([279])، وهو يقتضي الاستحقاق لا التفضُّلَ بالثواب.

مُضافاً إلى أنَّ التّفَضُّلَ بالثّوابِ لا ينافي المطلوبيَّة الشرعيَّة للعمل، فإنَّ الله في كُلِّ ثوابٍ يُعطيهِ للعبد من باب التفضّل، بل ظاهرُ التفضُّل بالثواب هو المطلوبية المولوية، والمحبوبية الشرعية، حيث لا يعقل تفضّله بالإحسان على عمل وهو غير مطلوب له.

إنْ قلت: إنَّ بلوغ الثواب عن النبي  (ص)  لا يصدق، إلا إذا قام الدليلُ المعتبر عليه، وأمَّا قيامُ الخَبَرِ الضَّعيفِ على الثوابِ فليس ببلوغٍ، وإطلاق البلوغ عليه مجازاً.

سَلَّمنا، ولكنّ الظاهر من هذه الأخبار بيانُ أنَّ حصول الثواب بالعمل البالغ عليه الثواب غير مشروط بمصادفة بلوغه للواقع، فهي بصَدَدِ بيانِ عدم اشتراط الثواب بالمصادفة للواقع، لا بيانُ أنَّ البلوغ بأيّ نحوٍ كان يُوجِبُ حُصولَ
الثواب من العمل، فلا يَصِحُّ التَمَسُّكُ بإطلاق البلوغ؛ لأنَّ الأخبار لَيْسَتْ
بصَدَدِ بيانه، وإنّما هي بصَدَدِ بيانِ حُكْمٍ آخر، وهو إعطاءُ الثواب، نظيرُ
قوله تعالى: [فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ]([280])، فإنّه لا يَصِحُّ التَمَسُّكُ بإطلاقِ الأمرِ بالأكلِ في جواز أكُلِ ما أمْسَكْنَهُ بدون تطهيرِهِ، حيثُ لم يُقيِّده بتطهيرِ مَوْضِعِ إمساك الكلب لها، ووَجْهُ عَدَمِ صحّة التمسّك بالإطلاق هو أنَّ الآية الشريفة بصدد بيان حكم آخر، وهو حلّيّة ما يصطاده كَلْبُ الصَّيد، وأنّه ليس بميتة.

وعليه: فلا يُستَفَادُ من هذه الأخبار حصول الثواب في صورة قيام الخبر الضعيف على الثواب، إذ ليس في الأخبار المذكورة ظهورٌ في خصوصها، كما هو واضِحٌ، ولا فيها ما يَشْمَلُها بإطلاقِهِ، لما عَرَفْتَ مِنْ عَدَمِ إطْلاقٍ للبلوغ المذكور فيها.

قلنا: إنَّ البلوغَ لا يختصُّ بصورَةِ قيامِ الدّليلِ المعتبر، بَلْ يَشْمَلُ مطلق البلوغ، ولو كان بنحوٍ غير معتبر، كالخبر الضعيف.

وأمّا دَعْوى عَدَمُ صِحَّةِ التمسُّكِ بإطلاق البلوغ؛ لأنَّ الأخبار ليست بصدد بيانه، وإنّما هي بصدد بيان ترتُّبِ الثواب ففاسدةٌ؛ لأنّ الأخبار ظاهرة في بيان البلوغ، وتعميمه بقرينة تزيلها بمثل قوله  عليهم السلام : (وإن لم يكن الحديث كما بلغه)([281])، وقوله  عليهم السلام : (وإن لم يكن الأمر كما نقل إليه)([282])، وقوله  عليهم السلام : (وإن كان رسول الله لم يقله)([283])، ونحو ذلك، فإن هذا التذييل بذلك وأمثاله يعقد ظهوراً للكلام في أنّه بصدد بيان أنَّ مطلق البلوغ وصرف وجوده بأيّ نحوٍ كان موجباً لترتب الأثر.

إن قلت: إنّه على هذا تكونُ أخبار (من بلغ) مخصّصة لما دلَّ على اعتبار الشرائط في العمل بخبر الواحد، مع أنَّ بينهما عمومٌ وخُصوصٌ من وجهٍ، حيث أنَّ أخبار (من بلغ) تَعُمُّ الخَبَرَ الواجد لشرائط الحجية، والفاقد لها، وأدلة اعتبار الشرائط في حجية الخبر تعم الخبر الدال على الاستحباب وغيره، فيقع التعارض بينها في صورة قيام الخبر الضعيف الدال على الاستحباب، فلا وجه لتقديم أخبار (من بلغ) على أخبار اعتبار الشرائط في هذه الصورة.

قلنا: إنّ أخبار (من بلغ) حاكمةٌ على الأدلّة المذكورة؛ لأنّها ناظرة إلى أنَّ الشرائط المعتبرة في البلاغ للأحكام غير معتبرة في البلاغ عن المستحبات، وإنَّ مُجرَّدَ البلوغ كافٍ فيها، والحاكم يُقدَّمُ على المحكوم، ولا يلاحظ النسبة بينهما، سَلَّمنا، لكن لو قدّمنا أدلّةَ اعتبارِ الشَّرائط في البُلوغ على أخبار (من بلغ)، إما أنْ لا يبقى لأخبار (من بلغ) مورد،ٌ أو نلتزمُ بأنّها ليست لتأسيس حكم الاستحباب للأعمال التي قام عليها الأخبار الضعاف، وقد تقدَّمَ أنها ظاهرة في التأسيس لحكم الاستحباب، بخلاف ما لو قدَّمنا أخبار (من بلغ)، فإنَّهُ يكون لِكُلٍّ منها مَوْرِدٌ يختَصُّ به، هذا مضافاً إلى أنَّ العمل بها في مورد الاجتماع معتَضِدٌ بالشُّهْرَةِ والإجماع المنقول، فيكونُ التّرجيحُ مَعَهَا، مُضَافاً إلى أنَّ ذلك ليس عَمَلاً بالخَبَرِ الضَّعيفِ، بَلْ هو عَمَلٌ بأخبارِ مَنْ بَلَغَ، غايةُ الأمر أنَّ الخبر الضَّعيف مُحقِّقٌ لوصف البلوغ الذي هو الواسطة في ثبوت الحكم الاستحبابي الشرعي.

حاصل المطلب

والحاصل: إنّ أخبار من بلغ تدلُّ على ثبوتِ استحباب نفس العمل البالغ عليه الثواب على من بلغه، نعم، لمّا كانَ استحقاقُ الثّواب من المولى لا يَثْبُتُ إلا إذا وَقَعَ العَمَلُ بقَصْدِ التَقَرُّبِ إليه، بأيّ نحوٍ كان، بقَصْدِ امتثال أمْرِهِ، أو رجاء امتثاله، أو رَجَاءِ الثّوابِ، أو خَوْفِ العقاب، أو قُرْبِ المنزلة، فمَنْ أتَى بالعَمَل المذكور بنحْوٍ يُوجِبُ التقرُّبَ إلى اللهِ استحَقَّ بمقتضى هذهِ الأخبار الثواب الموعود عليه، فيكون وزان استحباب هذا العمل، وزان وجوب الصلاة مثلاً، في أنه متعلق بنفس العمل، ولكن لا يسقط إلا إذا أتى به بقصد القربة، لكونه أمراً عبادياً، أما في عمل الصلاة فواضح، وأما في العمل الذي قام عليه الخبر الضعيف، فلأنَّ الثوابَ لا يُعْقَلُ أنْ يستحقّه العبد إلا إذا قَصَدَ القربة بأيّ نحو من أنحائها بفعْلِهِ، وبعض أخبار (من بلغ) صَرَّحَتْ بذلك، ومن هنا ظهر لك
وَجْهُ حمل الفقهاء الروايَة الضّعيفَةَ الصَّريحة في الوجوب، فَضْلاً عن الظاهرة فيه على الاستحباب، وإنَّ وَجْهَ الحمل هو أخبار (من بلغ)، باعتبارِ أنَّ الرواية لما كانت غيرُ مثبّتَةٍ للوجوب، ولكنّها يتحقَّقُ بها بلوغُ الثّواب، كانَتْ مقتضيةً لاستحباب العمل، وليس الوَجْهُ في ذلك كونُ ضعفها قرينة على الاستحباب، حتى يقال: إنَّ ضعف الرواية لا يكون قرينةً على التجوّز في دلالتها، وهكذا حملهم للرواية الضعيفة الدالة على الحرمة على استحباب الترك، إنما يكون من جهة ما ذكرناه.

كما ظهر إنَّ مجرَّدَ فتوى الفقيه باستحباب الفعل لا يحرز بها البلوغ، فلا يصحُّ من الفقيه الاعتماد عليها، لاحتمال أنَّهُ استَنَدَ في فتواه إلى روايةٍ غير دالة على الثواب على العمل، أو استند لحكم العقل بالتحسين، أو التقبيح، أو إلى أصلٍ عقلي، فإنّهُ في هذه الصُّوَر لا يتحَقَّقُ عنوانُ البلوغ عن النبي  (ص) .

فتوى المجتهد بمقتضى أدلة التسامح

من هنا ظهر لك صِحَّةُ ما حُكي عن المشهور من الفتوى باستحباب العمل المذكور من دون تقييد الفتوى بمن بلغه ثوابه كما عن بعض([284]).

وكذا لا حاجة إلى أن يذكر في فتواه بالاستحباب بأنَّ الخَبَرَ الضعيف قام على وجوبه واستحبابه، ليتحقَّقَ بذلك عنوانُ البُلوغِ للمقلّد، كما عن بعض آخر([285])، لما عَرَفْتَ مِنْ أنَّ الاستحباب يَثْبُتُ لِنَفْسِ العَمَلِ عند المجتهدِ بواسطة قيام الخبر الضعيف بنحو الواسطة في الثبوت.

إنْ قُلْتَ: إنَّ هذا لا يَتمُّ لو كانَ بأخبار (مَنْ بَلَغَ) يَثْبُتُ حجية الخبر الضعيف، إذ بقيامه حينئذٍ يكونُ الدّليلُ الصَّحيح قد قام على استحباب العمل في الواقع على الجميع، كما هو الحالُ في كُلِّ واقِعَةٍ قامت الأمارة المعتبرة على حكمها الشرعي.

وأمّا بناءً على أخبار (من بلغ) الأمر فيها للإرشاد لحكم العقل بحسن الانقياد، أو أنَّها لبيان التفضُّل على العباد، فلا يجوزُ الفتوى من المجتهد باستحباب العمل، حيثُ لا يجوزُ للفقيه البناءُ على استحباب العمل المذكور، وإنّما على الفقيه حينئذٍ أنْ يأتي به برجاء المطلوبية؛ لأنه لم يثبت عنده إلا استحسان الانقياد به، الذي هو عبارةٌ عن إتيانه برجاء المطلوبية، فلو أراد
أن يفتي فلا يَصِحُّ له أنْ يفتي إلا بإتيانه برجاءِ المطلوبية؛ لأنّ هذا المقدار هو الثابت عنده.

وأما بناءً على أنَّ أخبار (من بلغ) مفادها ثبوت الاستحباب للعمل من جهة البلوغ، فكذا لا يجوز للفقيه الفتوى باستحباب العمل، إلا بتقييد العمل المذكور بالبالغ ثوابه، نظراً إلى موضوعية البلوغ في ترتُّبِ الاستحباب، أو إذا أفتى باستحبابه فلابُدَّ أنْ يخبر بأنَّ في العَمَل خَبَرٌ ضعيفٌ على مطلوبيّته، ليتحقق بذلك البلوغ لمقلّده، ولا يجوزُ للفقيه أنْ يفتي باستحباب العَمَل مطلقاً من دون ذلك، لعدم ثبوتِ هذا الحكم لمن لم يبلغه الثواب، والفرض أنَّ مقلّده العاميّ لم يبلغه الثواب.

قال المرحوم الشيخ محمد تقي([286]) في تقريراته لأستاذنا أغا ضياء  رحمه الله ([287]): ولا يجدي في صحة ذلك أدلة نيابة المجتهد عن المقلد في استنباط حكمه لأنها إنما تكون في فرض شمول أدلة الحكم الشرعي ثبوتاً لغير البالغ إليه الثواب لا في فرض اختصاصه بخصوص البالغ إليه الثواب فلا بُدَّ من تقييدِ الفتوى بما ذكرنا([288]).

قلت: أمّا بناءً على أنّ أخبار (من بلغ) لبيان التفضل، أو أنها للإرشاد، فالحق مع المشكل، وأنَّ الفتوى لا تكون إلاّ مقيدة، كما هو الحال في أخبار الاحتياط.

وأمّا بناء على أنَّ أخبار (من بلغ) تثبت استحبابَ العمل من جهة عروض البلوغ له، فالحقُّ جواز الإفتاء من المجتهد باستحباب العمل غير مقيد؛ لأن بلوغ الثواب عنوان يكون واسطة في الثبوت، وليس له دخل في موضوعية الحكم، نظير الشك في الطهارة، في ثبوت الطهارة في الشبهات الحكمية، وليس داخلاً في موضوع الحكم، كالضرر والحرج، وقد ذكرنا في الجزء الأول من كتابنا النور الساطع، في مقام الردّ على صاحب الكفاية، حيثُ مَنَعَ من تقليد من عمل بالأصول ما فيه الشفاء للصدور بصحّة ذلك([289]).

وإن شئت قلت: إنَّ الإجماع قد قام، والأدلّةَ على جواز التقليد أيضاً قد دلَّتْ على أنَّ كُلَّ حُكْمٍ شرعيٍّ، وكُلَّ وظيفَةٍ شرعيَّةٍ لا يستطيعُ العامّيُ معرفته بنفسه لحكمها، ولا لوظيفته فيها، ولا حَظَّ له في ذلك أنْ يرجع للعالم بها؛ ولا رَيْبَ إنَّ معرفة أنَّ هذا العَمَلَ مما بَلَغَ عليه الثواب تحتاج إلى فهم مدلول الخبر، والبحث عن معارضه، وعلاج التعارض، ونحو ذلك مما هو وظيفة المجتهد، لا وظيفة العامي، فإنَّ معرفة مدلول الخبر تحتاج إلى معرفة علوم اللغة، التي يشخّص بها مدلول اللفظ، والبحث عن المعارض يَحْتَاجُ إلى البَحْثِ عن الأدلَّة، والحاكم منها، والوارد، والبَحْثُ عن الأصول، وعن مجاريها، فلَعَلَّ في المورد أصلٌ يقتضي التحريم أو الكراهة.

وعليه: فلا يصحُّ بقيامِ الخبر الضعيف العمل على طبقه؛ وهذا لا يتحقَّقُ إلاّ ممن عندَهُ مَلَكَةُ الاجتهاد وقوَّةُ الاستنباط.

وعليه: فلا يَصِحُّ من العامّي أنْ يقلّد المجتهد في نفس قاعدة التسامح، إذ ليس يتمكّن من تعيين مجراها، نعم، يجوز من المجتهد أنْ يرخّص للمقلِّد فيما يؤمن فيه من الخطأ، كترخيصِهِ للعامّي العَمَلَ ببعض الأدعية والزيارات، التي لم يكن فيها من الفقرات ما تنافي العقيدة، ولكنّ ذلك في الحقيقة إفتاءٌ منه باستحباب تلك الزيارات أو الأدعية، لا إفتاءٌ منه بقاعدة التسامح.

 

 

 

المصدر الرابع
العقل

والمراد بالعقل: هي القوّةُ المدبّرة والمديرة للبدن، والمسيّرة له في تصرّفاته الاختيارية في صالحه، وليس مرادهم منها: هي القوة الكاملة الموجودة في الأنبياء والأوصياء، ولا الناقصة الموجودة في الهمج الرعاع، وإنما مرادهم بها الموجودة في أواسط الناس الخالية من الشوائب، والأوهام.

فإنّ للعقل المذكور دلالةً على الحكم الشرعي، كالكتاب، والسنة، والإجماع، بواسطة المقدّمات التي أسّسها واستنتج منها الحكم الشرعي، فتلك المقدمات تُسمّى بدليل العقل؛ وليس المراد بدليل العقل، ما دَلَّ العَقْلُ على حُجيّته، وإلا لكان الكتاب، والسنة، والإجماع من دليل العقل.

فتلخص: إنّ العقل باعتبار دلالته على الحكم الشرعي عُدَّ من الأدلة، كالكتاب، فإنّه إنما عُدَّ من الأدلّة باعتبار دلالته على الحكم الشرعي.

ثم إنْ كانت المقدمات التي استنتج منها العقل الحكم الشرعي عقلية محضة، لا يتوقف استنتاجه للحكم الشرعي منها على خطابٍ شرعيّ، كاستنتاجه لوجوبِ رَدِّ الوديعة شرعاً، من حكم العقل بحسن رَدّها، بحيثُ لا يرضى بعدم ردها، مع مقدمة كلّما حكم به العقل حكم به الشرع، فإنَّ العقل يستنتج من هاتين المقدمتين العقليتين وجوبُ رَدّ الوديعة واقعاً، وكحكمه بعدم حرمة شرب التتن الذي استنتجه العقل من مقدمة وجدانية، وهي أنَّ شرب التتن لم يقم دليلٌ على حرمته شرعاً([290])، مع المقدمة التي حكم العقل بها، وهي قبح العقاب بلا بيان، فيسمّى هذا الدليل بالدليل العقلي المستقلّ، ومن هذا الباب سائر المحسّنات والمقبّحات العقلية؛ وربّما يخص الدليل العقلي المستقل بالقسم الأول، وهو ما دَلَّ على الحكم الواقعي باعتبار أنَّ مقدّماته كلها عقلية.

وأما القسم الثاني: وهو ما دَلَّ على الحكم بواسطة مقدمة وجدانية، فيجعل من الدليل العقلي الغير المستقلّ، لكون إحدى مقدّماته وجدانية غير عقلية، فالمقدّمات التي استنبط العقل منها الحكم الشرعي، إنْ كان بعضها عقلية وبعضها شرعية، فيسمّى بالدليل العقلي الغير المستقل، كحكمه بوجوب هذه المقدمة شرعاً، فإنّ الدليل العقلي عليه متوقفٌ على خطابٍ شرعي بذي المقدمة، وعلى مقدّمة عقلية، وهي استلزام وجوب المقدمة شرعاً لوجوب ذيها شرعاً، وكحكم العقل بحرمة هذا الضدّ شرعاً، فإنّه يتوقَّفُ على مقدمة شرعية، وهو حكم الشارع بوجوب ضدّهِ، وحُكْمُ العقل باستلزام وجوب الضدّ شرعاً لحرمة ضدّه شرعا.

وهكذا حُكْمُ العقل بانتفاء هذا الحكم الشرعي، عند انتفاء شرطه بواسطة قيام الخطاب الشرعي على الحكم الشرعي بذلك الشرط، بصيغة مثل الجملة الشرطية، أو الوصفية، أو اللقب.

نعم، لو قلنا بأنَّ استلزام وجوب المقدمة لوجوب ذيها، واستلزام وجوب الشيء لحرمةِ ضِدِّهِ، واستلزام الانتفاء للحكم لانتفاء ما عُلِّقَ عليه بدلالة اللفظ، لا بدلالة العقل، لم يكُنْ الحكم المذكور بوجوبِ هذه المقدمة أو حرمة هذا الضدّ أو الانتفاء عند الانتفاء من الأحكام العقلية أصلاً، لا المستقلة ولا غير المستقلة، وإنّما تكون من الأحكام النقلية المحضة.

والذي يُعَدُّ في صراط الأدلة الأربعة لموضوع الأصول على الأحكام الشرعية، هو القسم الأول، أعني: الدليل العقلي المستقل، الذي يدلُّ على الحكم الواقعي، كمثالِ وجوبِ رَدِّ الوديعة، وأمّا الدليلُ العقليّ المستقلّ الذي يدلُّ على الحكم الظاهري، أعني: ما أخذ الشكُّ في موضوعه، كمثال إباحة التتن، فقد بحثوا عنه في مباحث الأصول العملية([291]).

أما القسم الثاني: أعني: دليل العقل الغير المستقل، فقد بحث عنه الأصوليون في صدر كتبهم، في أبوابٍ متعددة، كباب مقدمة الواجب والنهي عن العبادة، والنهي عن الضد، والمفاهيم، وذلك لأنّ الدليل العقلي الذي جعله الأصوليون في صراط الأدلة الفقهية، هو ما كانَ على وزانها ونظرها من دلالته على نفس الحكم الواقعي، مثلُ الكتاب والسنة، لا الدّليلُ العقليُّ المستقلُّ على الحكم الظاهري، ولذا فإنَّ الأدلّة الدالة على الحكم الواقعي، تسمى بالأدلة الفقاهتية، والدالة على الحكم الظاهري تسمّى بالأدلّة الاجتهادية.

وقد ذَهَبَ المعتزلة إلى أنَّ العقل إذا دَلَّ على شيء فهو حُجَّة، وباعتبار حصول القطع منه يُقدّمُ عند مخالفته للكتاب، أو الإجماع، أو غير ذلك، أو يؤوّلُ ما خالفه، سواء في أصول الدين، أو فروعه، وسواء استقل بالحكم، أو استلزمه([292])؛ وخالفهم الأشاعرة، فذهبوا إلى أنَّ العقل لا دخل له في أصول الدين ولا في فروعه، وإنما عليه الانقياد والإذعان للنصوص الدينية، والعمل على طبقها([293]).

والحاصل: إنّ مَحَلَّ كلامِ القوم في هذا المقام هو البَحْثُ عن حجية العقل، باعتبار دلالته على الأحكام الشرعية الفرعية الواقعية، وأنّها متبعة وحجة عليها أم لا؛ كما أنَّ مَحَلَّ كلامهم في الكتاب، والسنة، والإجماع في أبوابها، باعتبار دلالتها على الأحكام الشرعية الفرعية الواقعية، وأنها متبعة وحجة عليها أم لا.

وليس كلامهم في حجية الدليل العقلي باعتبار دلالته على الطريق للحكم الشرعي، كأنْ يدلّ على حجية الكتاب، أو الإجماع، أو السنة، فإنه بذلك لم يعد في مقابلها، ويكون البحث عنه في أبوابها في علم الأصول([294])، فإنَّ الدليل العقلي على حجية الكتاب يبحث في علم الأصول في باب حجية الكتاب عنه، وهكذا الكلام في الباقي، كالدليل العقلي على حجية الظنّ بالحكم، أو استصحاب الحكم، أو الشهرة، أو القياس، أو الاستحسان، أو غيرها من الطرق لمعرفة الحكم الشرعي، فإنّه يبحث عن الحكم العقلي على حجيتها في أبوابها.

كما أنَّهُ ليس محلّ كلامهم في هذا المقام في حجيّة العقل باعتبار دلالته على وجوب الطّاعة للتكاليف، فإنَّ ذلك من مباحث علم الكلام، إذ فيه يبحث أن العقل يلزم بالطاعة بإتيان الواجبات وترك المحرّمات، سواءٌ علم بها تفصيلاً، أو إجمالاً، أو احتملت احتمالاً؛ نعم، في علم الأصول تَعَرَّضوا لذلك في باب الاحتياط للشُّبْهَةِ التَّحريمية والوجوبية عند العلم الإجمالي بالتكليف([295])، والشبهةِ قبل الفحص، باعتبار أنَّ العقل يَدُلُّ على وجوب الاحتياط ظاهراً في هذه الأمور، فيكونُ العلم الإجماليُّ أو الشبهة المذكورة طريقاً عند العقل للوجوب الشرعي بالاحتياط فيها.

والحاصل: إنَّ البَحْثَ في هذا المقام للأصوليين عن العقل من حيث حجية دلالته على الحكم الشرعي الفرعي الواقعي، كالبحث عن حُجيّة الكتاب من حيث دلالته على الحكم الشرعي الفرعي الواقعي، فإنَّ الكتاب تارةً يبحث عن حجية دلالته على نفس الحكم الشرعي كآية [أَقِيمُوا الصَّلاَةَ]([296]) على وجوب الصلاة، وبهذا الاعتبار يعدُّ من أدلة الأحكام الأربعة، وهو الذي يعد في صراطها وعدادها.

وتارة يبحث عن دلالة الكتاب على حجية الخبر الواحد كآية: [إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا]([297])، وبهذا الاعتبار يبحث عنه في باب حجية الخبر في علم الأصول، وتارة يبحث عن دلالة الكتاب على حجية الأصل، كأصل البراءة، وبهذا الاعتبار يبحث عنه في باب حُجيّة ذلك الأصل، وتارةً يبحث عن دلالة الكتاب على الإطاعة والامتثال للتكاليف، كقوله تعالى: [أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ]([298])، وبهذا الاعتبار يبحث عنه في علم الكلام.

ثمّ إنّ مقتضى القاعدة أنْ يبحثوا في هذا المقام عن الدليل العقلي على الحكم الشرعي، سواءٌ كانَ دليلاً عقلياً مستقلاً أم غير مستقل، لكن المتأخرين من الأصوليين في هذا المقام خصّوا البحث عن الدليل العقلي بالمستقل([299])، وبحثوا عن غير المستقل في أوائل كتبهم، لكون بعضهم ادّعى دلالة اللفظ على الاستلزامات المذكورة دون العقل، لذهابه إلى أنَّ اللزوم بين وجوب المقدمة ووجوب ذيها، ووجوب الشيء وحرمة ضده، وغيرها من الاستلزامات، من لزوم البين، ينتقل له الذهن بمجرّدِ سماعه للخطاب، كدلالة الأربعة على الزوجية([300]).

وعليه: فيكون الدليل على وجوب المقدمة شرعاً ونحوه دليلاً نقلياً محضاً، لا عقلياً غير مستقل، فباعتبار هذا القول أفرد الأصوليون البحث عن ذلك في صدر كتبهم([301]) في مبحث الألفاظ، فبحثوا عن وجوب المقدمة شرعاً، والنهي عن الضد، والمفاهيم، وغيرها مما كان حكم العقل فيها موقوفاً على خطاب شرعي آخر، وإنْ كان أغلبهم لم يذهب إليه، فاختصّ البَحْثُ في هذا المقام، أعني مقام التعرض للأدلة الشرعية على الحكم الواقعي، بالدليل العقلي المستقل، ولكن الشيخ الأنصاري  رحمه الله  لم يذكر الدليل العقلي في عداد الأدلة على الأحكام الشرعية([302])، وإنما ذكر القطع بالحكم الشرعي، فجعل الميزان هو القطع من الدليل العقلي، فالدليلُ العقليّ إنْ أفاد القطع بالحكم الشرعي، كردّ الوديعة يعمل به، وإلاّ فلا؛ كما أنَّ الظنَّ بالحكم الشرعي الحاصل من الدليل إنْ ثبت حجيته من الشرع يعمل به، وإلاّ فلا، فاستراح هو ومن تبعه من مبحث الدليل العقلي ولم يتعب نفسه فيه، وإنْ كانوا قد تعرّضوا في أثناء بحثهم عن القطع لأدلّة المانعين من حجية العقل.

إلاّ أنّ التحقيق: إنّ القطع لا رَيْبَ في وجوب متابعته، ولزوم العمل به، والجري على طبقه؛ لانكشافِ الواقع به لدى القاطع انكشافاً تاماً، لا يتطرَّقُ له أدنى وَهْمٌ أو احتمال، وإلاّ لما كان قاطعاً، فثبوتُ الكَشْفِ له، نظير ثبوت الزوجية للأربعة، ولا يعقل أنْ يَقَعَ النّزاعُ في حُجيّته، وإنّما كلامُ الأصوليين في تشخيص الأدلّة العقلية التي تُوجِبُ القطع بالأحكام الشرعيّة، والعُمْدَةُ عندهم الذي هو مَحَلُّ النزاع في حصول القطع به([303])، هو دليلُ الحسن والقبح العقليين، وهو مبني على دعامتين:

[الدعامة] الأولى: إنّ الأفعال عند العقل مختلفة في نفسها، مع قطع النظر عن الشرع، فبعضها ما يمدح فاعلها، وبعضها ما يذم فاعلها، لخصوصية في ذاتها، أو صفة حقيقية متّصفة بها، أو جهة اعتبارية تقضي ذلك، وإنّ الأفعال كسائر الأشياء المختلفة في الآثار في حَدِّ ذاتها، كالأحجار، والأشجار، والجمادات، فالضرب المورث للحزن والغم والألم يُذَمُّ فاعله، ورَدُّ الوديعة الموجب للفرح والسرور، يمدح فاعله.

وكما أنَّ الأشياء بالنسبة إلى كُلِّ واحدٍ من الحواسّ الظاهرة والباطنة، والطبائع، والغرائز، قد تكون ملائمة، وقد تكون منافرة، وقد لا تكون كذلك، وقد تكون على حدّ سواء، لا ملائمة، ولا منافرة، كذلك القوة العاقلة تكون لها ما يلائمها وما ينافرها، وما هو على حدّ سواء بالنسبة لها، مع قطع النظر عن الشرع بحسب مالها من الخصوصية؛ فالفعل الملائم للعقل يعجبه ويستحسنه من فاعله، إذا صدر عنه بالاختيار، والفعل المنافر للعقل يشمئز منه، ويقبح فاعله، إذا صدر منه بالاختيار، والفعل الذي ليس بمنافر للعقل، ولا بملائم له، لا يقبح فاعله، ولا يستحسنه منه، ولا فرق في ذلك بين الأفعال الصادرة من المولى، أو من العبد، وينسب القول بذلك للإمامية، والمعتزلة، والخوارج، والبراهمة، والثنوية، والحنابلة، والكرامية([304])، بل ولبعض الأشاعرة([305]).

وقد خالف في ذلك جمهورُ الأشاعرة، فقالوا بأنَّ أفعال الله لا تتصف بالحسن أو القبح المذكورين، فلو أثاب العاصي، وعاقب المطيع لم يأت بقبيح([306])؛ لأنه تَصَرُّفٌ منه تعالى في ملكه، فما يفعله فهو في محلّه، وأمّا أفعال العباد، فلبنائهم على عَدَمِ صدورها منهم بالاختيار، وإنّما كانَ صُدورها منهم بالجبر والاضطرار، وإنَّ العَمَل إنّما يكونُ حَسَناً لو أمَرَ بهِ الشَّارع، وقبيحاً لو نهى عنه الشارع، وأنّه قبل الشرع أفعال العباد ليست بحسنة ولا قبيحة، وإنَّ الشارع هو المثبت لها.

والبحث في هذا المقام يسمّى بمبحث الحسن والقبح العقليين، وتتفرع عليه مطالب كثيرة، وثمرات عظيمة.

والحاصل: إنّ الدعامة الأولى للدليل العقلي المستقلّ على الحكم الشرعي ترجع لقضية جزئية، وهي: أنّ العقل قد يحكم في بعض الأفعال بمدح فاعلها، ومنعه من تركها، فتكون واجبة عقلاً، أو بمرجوحية تركها، فتكون مستحبة عقلاً، وبعضها يحكم بذمّ فاعله ومنعه من الفعل، فتكون محرمة عقلاً، أو بمرجوحية الفعل فتكون مكروهة عقلاً، وبعضها يحكم بعدم الذم، وعدم المدح فتكون مباحة عقلاً؛ وبعضها يجهل الحال فيها، وهي الأفعال التي لم يطلع العقل على المصلحة أو المفسدة الموجودة فيها فلا يحكم فيها بشيء.

واستدلَّ القائلون بالتّحسين والتقبيح العقليين([307]):

أولاً: بالضّرورة، فإنَّ العُقلاءَ لا يرتابون في حُسْنِ الإحسان، بمعنى: أنّ فاعله يستحق المدح أو الثواب من حيث كونه فاعلاً له، وقبح الظلم والعدوان، بمعنى أن فاعله يستحق الذم والعقاب من حيث كونه فاعلاً له، وليس ذلك بالشرع، فإنّه يقول به حتى الملاحدة.

وثانياً: أنّه لو كان بالشَّرع يلزم إفحامُ الأنبياء، إذ ليس هناك ما يوجب على العقل النظر لمعجزاته إلا حكم العقل بحسنه، لخوف الضرر، واستحقاق العقاب على الترك.

فلو قلنا بعدم حكم العقل بالحسن والقبح، لم يكن هناك موجب وملزم للنظر عليهم، وللزم تجويزُ العقل ظهور المعجزة على يد الكاذب، لعدم ثبوت القبح عند العقل في ذلك.

وثالثاً: لو لم يكونا بالعقل، للزم ارتفاعُ الوثوق بالمعاد، وبوعد الله ووعيده، إذ لا مانع عند العقل سوء قبح ذلك على الله تعالى، وإذا لم يكن قبيحاً عند العقل جوّز العقل صدوره من الله تعالى.

ورابعاً: جملة من الآيات القرآنية، والأخبار النبوية، كالآيات الدالَّة على إرجاعهم لعقولهم، وأفكارهم، وكالأخبار الآمرة بالرّجوع إلى العقل، وليس إثباتُ هذه الدّعامة يَحْتَاجُ إلى مَزيدِ بيانٍ وإقامة برهان.

ما فرَّعوا على هذه الدعامة الأولـى:

ولقد رَتَّبوا على القول بالتحسين والتقبيح العقليين أمور:

أحدها([308]): مسألة التكليف بالمحال، فمن قال بأنهما عقليان منع منها، ولم يقل بجواز ذلك، وأمّا التكليفُ المحال فهو ممتنع عند الجميع لكون المحال ممتنع بالذات.

ثانيها([309]): وجوب الأصلح على الله تعالى، فإنّ من قال بأنّ التحسين والتقبيح عقليان، قال بوجوب الأصلح على الله تعالى، وفرّعوا عليه وجوب اللطف على الله تعالى، وفرعوا على وجوب اللطف عليه تعالى حسن التكليف، ووجوب صدوره من الله تعالى، ووجوب بعث الرسل، وإنزال الكتب، ونصب الإمام، وغير ذلك من الألطاف الإلهية، مما يوجب القرب للطاعة والبعد عن المعصية.

ثالثها([310]): وجوب شكر المنعم، فأثبته العدلية لحسنه العقلي، وأنكره الأشاعرة.

رابعها([311]): إنّ الأصل في الأفعال الاختيارية التي لا ضرر فيها هو الحظر أو الإباحة.

هذا كلامٌ وقع في البين جرّنا له ناموس تتابع الأفكار، فإنَّ المقصود لنا في المقام بيان الدعامة الأولى للدليل العقلي المستقل على الحكم الشرعي، وقد عرفت أنها ترجع لقضيّةٍ جزئية، وهي أنَّ العقل يحكم في بعض الأفعال بالتحسين والتقبيح العقليين.

الدعامة الثانية: التي يتركَّزُ عليها الدليل العقلي على الحكم الشرعي: هو أنَّ الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع، ترجع لقضية كلية، وهي: كلُّ ما حكم به العقل حكم به الشرع([312])، سواء قلنا بأنها بمعنى التطابق بين الشرع والعقل، بأنْ يكونَ حكمان حكم الشرع وحكم العقل، وحاكمان الشرع والعقل، أو بمعنى: الشرعُ يُصدِّقُ العقلَ في حكمه، لا أنّه يحكمُ بحكمٍ آخر، بأنْ يكون حكماً واحداً هو للعقل، ولكنّ الحاكم اثنان الشرع والعقل؛ فبأيّ التفسيرين فسّرناها تكون هي الدعامة الثانية التي يتركز عليها الدليل العقلي المستقل، حيثُ أنَّ العقل بواسطة هذين الدعامتين يستنتج الحكم الشرعي للحادثة التي يتحققان فيها، فالعقل يحكم بردّ الوديعة، وبمدح فاعله، والمنع من تركه، ولذا قرّر الإلزام به الحكومات والدول حتّى الملحدة منها، فيجبُ بحكم العقل وُجوباً عقلياً، فيتحقَّق فيه الدعامة الأولى، ثمّ بواسطة الدعامة الثانية، وهي كل ما حكم به العقل حكم به الشرع، يثبت وجوبه شرعاً، فقد استفاد العقل الحكم الشرعي بوجوب رَدّ الوديعة من المقدمات التي هي ثابتة عنده، من دون حاجة لخطاب شرعي، بخلاف وجوب المقدمة شرعاً، فإنه يحتاج إلى نصّ شرعي خارج عن الدليل العقلي عليه، يدلُّ ذلك النصُّ على وجوب ذيها، وهكذا في مثل أكل مال اليتيم بلا عوض، يحكُمُ العقل بذمّ فاعله، ومنعه عن فعله، فيحرم بحكم العقل حرمة عقلية، فيتحقَّقُ فيه الدعامة الأولى، ثمَّ بواسطة الدعامة الثانية، وهي كل ما حكم به العقل حكم به الشرع، يثبتُ حرمته شرعاً، فاستفيد الحكم الشرعيّ من الدليل العقليّ المستقلّ، بدون الاحتياج إلى نصٍّ شرعيٍّ في أيِّ مقدّمةٍ من مقدمات هذا الدليل العقلي، أو في الخارج منها، بخلاف حرمة الضدّ على القولِ بها، فإنه يحتاج إلى نصٍّ شرعيٍّ خارج عن الدليل عليها، يدلُّ على وجوب الشيء، لكنّك قد عَرَفْتَ أنَّ هذا إنما يتمُّ فيما لو اطّلع العقلُ على المصلحة والمفسدة في الفعل، وأمّا مع الجهل فلا مجال له، ولذا لم يكن للعقل المستقلّ مسرح في أغلب العبادات، ولا في سائر كيفياتها، والأكثر ذهبوا إلى ثبوتِ الدعامة الثانية([313]).

وناقش في صِحَّةِ هذه الدعامة الثانية بعض الأخباريين([314]) وجملة من فطاحل المتأخرين([315]).

والدليل عليها: إنّ الميزان في صيرورة الفعل محرّماً أو واجباً هو بغضُ المولى له، وإرادته له ولو لم يكن في البين خطابٌ، وليس الميزان الخطابات الصادرة من المولى بالحرمة أو الوجوب، بدليل استقلال العقل بصحّةِ معاقبة العبد على المخالفة، لو علم بإرادة المولى للعمل منه، أو بغض المولى العمل منه، ولو لم يكن خطابٌ للمولى بذلك العمل، بل العقل يستقلُّ بأنَّ العبد لا يستحق العقاب على مخالفة الخطاب بوجوب العمل إذا علم بعدم إرادة المولى لذلك العمل، وهكذا عَدَمُ استحقاق العقاب على فعل العمل إذا خالف الخطاب الحرمة، إذا علم العبد بأنَّ المولى لا يبغض العمل، كما هو الشأنُ في إنقاذ ابن المولى، وإنقاذ عدوّ المولى، فليسَ الحكمُ الشرعيُّ هو الخطاب الشرعي الفعلي، بأنْ يصل إليهم قولُ النبيّ  (ص)  صلّ أو صم، وإنّما هو إرادة المولى وكراهته المكشوف عنهما بالخطاب الشرعي، كما يشهد بذلك الوجدان، فإنَّ من علم إرادة المولى بشيء أو كراهته له وخالفه، عُدّ عاصياً، من غير حاجَةٍ إلى كاشفٍ لفظيٍ عنهما، كيف؛ ولو قلنا بأنَّ العقاب والثواب مقصوران على الخطاب اللفظي، لزم أن لا عقاب ولا ثواب لو قام على إرادة المولى الإلزامية الإجماعُ، أو الضرورةُ، أو التقريرُ، أو السيرةُ على القول بحجيّتها؛ وإذا حَسَّنَ العقلُ شيئاً نراه حسناً
عند المولى، فالمولى يريده، وإذا قَبّحَ العقلُ شيئاً يراهُ قبيحاً عند المولى، فالمولى يبغضه.

ودعوى احتمال إنّ علم العبد بالحسن جهلاً، مدفوعةٌ بأنَّ العالم لا يحتمل ذلك، وإنْ احتمل غيره.

وقد أورَدَ على هذا الدليل بعضُ الفطاحل بما حاصله([316]):

إنّ مجرّد حسن الفعل أو قبحه لا يوجب إرادة المولى له من العبد وزجره عنه، بل لابدّ في حصول الإرادة الباعثة من المولى له، أو الكراهة الزاجرة من المولى عنه، وهما لا يحصلان إلا لدواعٍ أخرى، ولأغراضٍ أخر، بشهادة الوجدان، فإنّ العقلاء كثيراً ما يريدون عدم صدور هذا العمل الحسن من العبد، حرصاً على راحة العبد، أو يريدون صدور هذا العمل القبيح من العبد لبغضهم وكراهتهم لذلك العمل، كإنقاذ العبد لمن تكرهه نفوس مواليهم، فالخطابُ الطلبي متقوّمٌ بالبعث نحو العمل، والخطاب الكراهي متقوّم بالزجر، وهما مرتبتان متأخّرتان بعد الإرادة والكراهة، وليس عِلْمُ المولى بالحسن عِلّةٌ تامّةٌ للبعث نحو العمل، إذ قد يكونُ له دواعٍ وأغراض توجب عدم بعثه نحو ما علم حسنه، وهكذا علم المولى بقبح العمل لا يوجب زجره عنه، إذ قد يكون له دواع توجب عدم زجره.

والحاصل: إنَّ البعث والزَّجر يختلفانِ باختلافِ الأحوال والأشخاص، وغَلَبَةِ الشَّهوات، والتفاوت في الملكات، وملاحظة نظام الكائنات؛ وذلك حتى بالنسبة لله تعالى، كما في صُورَةِ مزاحَمَةِ ما فيه المصلحة الملزمة، لما كان فيه مصلحةٌ ملزمةٌ أهمُّ منه، فإنّه يَقْبُحُ من الله تعالى أنْ يريد المهمّ دونَ الأهمّ، مع ما في المهم من المصلحة الملزمة، وكما في صُورَةِ عَدَمِ استعدادِ العبد وقابليّتِهِ لتلبية بَعْثِ المولى وزَجْرِهِ، فإنّه لا يصدران من المولى للعبد، مع علمِهِ بحسنِ العمل أو مَفْسَدَتِهِ، ألا ترى، كما هو الحالُ بالنّسبة للمسلمينَ في مبدأ الإسلام، فإنَّهُم لم يخاطبوا بتكاليف الإسلام بأجمعها، مع ما فيها المصالح والمفاسد الملزمة، حيثُ لم يَكُنْ لهم استعدادٌ وقابليّةٌ لإرادتها منهم، لنُفْرَتِهِمْ منها، ولذا جَاءَتْ لهم الأحكامُ الشرعيّة الإلزامية تدريجية، وهكذا الصبيُّ المراهق للبلوغ، فإنّه لم يحكم عليه بأحكامِ الإسلام، مع أنَّ الموجبات والمحرّمات بالنسبة إليه فيها مَصَالحُ ومفاسد ملزمة، لكنْ لم يكُنْ له استعدادٌ وقابليّةٌ لإرادتها منه، أو من جهة المشقة والحرج، كما في السّواك فقد رُويَ عن النبيّ  (ص) : (لولا أنْ أشِقَّ على أمّتي لأمرتُهُم بالسِّواكِ مع كل صلاة)([317]).

وكما في صُورَةِ عَدَمِ قابليّةِ المحلّ للإرادة والزَجْر، نظيرُ نفس الطاعة والمعصية، فإنّه يحكم العقل بحسن الطاعة وقبح المعصية مع عدم تعلّق طلب الله تعالى بالطاعة له ولا نهيه بالمعصية له، لعدم الفائدة، فلو تعلّقا كانا لغواً، فظَهَرَ أنّه لا ملازَمَةَ بينَ حُسْنِ العَمَل أو قُبْحِهِ عَقْلاً، وبينَ إرادَةِ الشَّارع وبعثه نحوه، أو كراهَتِهِ لهُ وزَجْرِهِ عنه، اللّتين هُمَا القوام والرّوحُ للخطاب بالإيجاب أو التحريم.

هذا مُلَخَّصُ المناقشة في الدعامة الثانية، ولكنَّ الحق عَدَمُ صِحّتها، فإنَّ المراد بالحسن هو الحسن الفاعلي، أعني: الذي يقطع العبد بأنْ يستحق الثواب بفعله ممن هو وليُّ الأمر، والعقاب على تركِهِ منه، ومَنْ قَطَعَ بذلك لا يتطرّقُهُ الاحتمال بمزاحمة الأهمّ، ولا غير ذلك، وإذا قَطَعَ بذلك لا محالة يقطع بأنَّ المولى يريده منه، ولا يرضى بتركِهِ، وهكذا المرادُ بالقُبح هو القُبح الفاعلي، أعني: الذي يقطع العبد بأنه يستحقُّ العقابُ بفعلِهِ ممّن بيدَهِ الأمر، ومَعَ قَطْعِهِ بذلك لا يتطرّقُهُ كُلُّ احتمالٍ ينافيه، فلا محالةَ عند ذا يُدْرِكُ عقلُهُ أنَّ الشارع الذي هو بيده الأمر يُبْغِضُ صدور ذلك منه، وقد حقّقنا ذلك وأوضحناه في كتابنا الأحكام وشؤونها([318]).

وأمّا الإيراد على هذه الدعامة بالأوامر الامتحانية، بأنْ يأمر المولى العبدَ بشيءٍ لا يريدُهُ المولى ولكن اختباراً للعبد، فهو لا يردُ على هذه الدعامة؛ لأنه لم يحكم العقلُ بشيءٍ لم يحكم به الشرع، وإنّما يرد على عكسها، وهو كل ما حكم به الشرع حكم به العقل، وليس هو محلُّ كلامنا، فمن أراد تحقيق ذلك فليراجع كتابنا الأحكام وشؤونها([319]).

وأمّا الإيراد عليها بالطّاعة والمعصية، وعدم تعلُّق الأمر والنَّهي بهما؛ فجوابه ما أجبنا به عن الإيراد بالحرج من طروِّ عنوانٍ عليهما يبدل الحكم العقلي، وهو حُكْمُ العقلِ باللّغويةُ يُدْركُهُ نفس العاقل للحسن والقبح.

وينبغي التنبيهُ على أمور:

أحدها: إنَّ خلاصَةَ ما تقدَّمَ هو أنَّ الكلام في الدليل العقلي يكون في تشخيص الدليل العقلي الذي يستفاد منه القطع بالحكم الشرعي، ولذا تجدهم في هذا المقام يبحثون في إفادة قاعدة التحسين والتقبيح للقطع بالحكم الشرعي، وهكذا يبحثون عن الاستحسان، والمصالح المرسلة، والاستقراء، والقياس، بناء على أنّها أدلّةٌ عقليةٌ غيرُ مستقلّةٍ، وغيرها من الأدلة العقلية المستقلة.

وأمّا البَحْثُ عن حُجيّة القطع، فليسَ مَحَلُّ كلامهم، كما هو الحال في الظنّ، فإنّهم يَبْحَثون في حُجيّة ما أفاده الظنّ، كخبر الواحد، وظهور الكتاب، والشهرة، ونحوها.

وأمّا مَسْألَةُ حُجيّة الظّن المطلق فيه إنّما كانت في الأزمنة المتأخرة، ولهذا لا نجُد أحداً من المنكرين لحجية القياس ونحوه ويقولون بحجية الدليل العقلي يمنعون من حُجيّة القياس أو الاستقراء أو نحو ذلك إذا أفادت القطع بالحكم الشرعي([320]).

ثانيها: إنّا إذا قلنا: إنَّ العقلَ إنّما تكونُ دلالته حُجَّةً إذا أفاد القطع، كأنَّه مقدَّمٌ على سائر الأدلّة النقلية؛ لأنه مع القطع بالواقع ينكشف الواقع، فتسقط دلالة كلّ دليل بالنسبة للقاطع، فمن المستغرَب جداً ممن يعد العقل الذي يدل دلالة قطعية على الحكم الشرعي في عداد الأدلة الدالة على الحكم الشرعي، ويجعله دليلاً رابعاً عند فقد الأدلة الثلاثة؛ الكتاب، والسنة، والإجماع، مع أنّه من الواضح أنَّ القطع يتجلَّى به الواقع فلا يؤثّر أيُّ دليلٍ معه، فإنَّ مَنْ قَطَعَ بأنَّ هذه هي الشمس الواقعية، لا يؤثّر أيُّ دليلٍ عنده على أنَّها ليست بالشَّمْسِ الواقعية، ويعدُّ القاطع البرهان على خلاف ما قطع به من السوفسطائيات، ولعلَّ منشأ الاشتباه هو اختلاط الأمر عليه بين العقل بحسب دلالته على الحكم الشرعي الواقعي، وبين العقل بحسب دلالته على الحكم الظاهري، فإنَّ الثاني لا يدلُّ إلاّ بعد عدم الظفر بالكتاب والسنة والإجماع، فإذا ظفر بواحد منها أخذ به لا بحكم العقل لزوال موضوع حكم العقل، ومع عدم الظفر بدلالة واحد منها على الحكم الشرعي يحكم العقل حينئذٍ إمّا بالبراءة، أو الاستصحاب، أو التخيير، أو الاحتياط، كما هو رأيُ بعض الأصوليين([321])، وبعضهم الآخر يرجع للنقل مع عدم الظفر، حيثُ أنّ من النقل ما يدل على البراءة، والاستصحاب، والتخيير، والاحتياط([322])؛ وما دَرَى بأنَّ مَحلَّ الكلام هو العقل باعتبار دلالته على الحكم الواقعي الشرعي الفرعي، كالكلام في القرآن والسنة؛ كما يحتمل أنّ منشأ الاشتباه هو أنَّ مثل الاستقراء والقياس، ونحوهما من الأدلّة العقلية، يرجع إليها بعد فقد الكتاب، والسنة، والإجماع في المسألة، وهي تدلُّ على الحكم الواقعي، وما دَرَىَ أنَّ مثل القياس ونحوه من أدلة العقل الظنية لا تفيد القطع، وأما لو أفادت القطع بالحكم تُقدَّمُ على سائر الأدلة النقلية.

ثالثها: إنّ من قال بحكم العقل في الحكم الشرعي([323])، هو حكم العقل بواسطة المقدمات الموجودة عنده، المؤدية إلى حكمه، بأنَّ الشرع قد حَكَمَ بهذا الحكم في هذه الواقعة، وهذا لا ينافي ما هو ضروريُ الدين، من أنّ الحاكم هو الله تعالى، فالعقل وإنْ كان له أحكامٌ إنشائية، وإلزامية، واستحبابية، وكراهية، وإباحية، كما هو الشأن حتّى في عقول الملحدين، فإنَّ عقولهم تنشىء أحكاماً كذلك يعملون على طبقها، ومنها القوانين والأنظمة الدولية، إلا أنّه ليس المراد هي هذه الأحكام، وإنما المرادُ بها هو حكم العقل بأنَّ الشرع هذا هو حكمه في المسألة، نظيرُ ما يحكم العقلُ بأنَّ الملكَ قد حكم بأخذ الضريبة من ذوي الأملاك، وأما ما ذكر من الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع، فالمرادُ بحكم العقل باستحقاق العقاب على فعل الواقعة أو تركها ممن بيده الأمر، فإنَّ هذا الحكم من العقل يلزمه عقلاً أنْ يكون الشّارعُ قد حَكَمَ على طبقِهِ، كما حقَّقْناه في عدَّةٍ من مباحثنا([324]).

رابعُها: إنّ العَقْلَ باعتبارِ دلالَتِهِ الاستقلالية القطعيّةِ على الحُكْمِ الشرعيّ، لا توجد إلاّ في الموارد التي هي من ضروريات الدّين، وهي لابُدَّ وأنْ يوجد على طبقها دليلٌ نقليٌ من الكتاب أو السنة، ولعلّه من الشاذّ النادر، وحتَّى الآن لم أَجِدْ مورداً للعقل يدلُّ على حكمه الشرعي دلالةً قطعية، ولم يكُنْ في مورده دليلٌ نقلي، وربما يُتَوَهَّمُ بأنَّ الاستقراء والقياس وأمثالها هي أدلّةٌ عقلية، وتوجد في موارد كثيرة لم يقم النصُّ عليها، فإنه فاسد لأنها:

أولاً ليس من أدلة العقل القطعية، وإنّما هي من أدلّة العقل الظنية، ولو سلّمنا أنها دلَّتْ دلالةً قطعية، فهي لدى الحقيقة من الأدلّة العقلية الغير الاستقلالية، التابعة للنصّ الشرعي، المسمّاة بالأدلة العقلية التبعية الاستلزامية؛ لأنّ القياس هو إلحاقُ الواقعة بواقعةٍ أخرى في حكمها الشرعي، لمشابهتها له في علّة الحكم، فيكونُ الحكم في المقيس تابعاً للدليل العقلي الموجود في الواقعة المقيس عليها، وهكذا الاستقراء، فإنَّ استقراءَ العقل للأحكام الشرعية للجزئيات ليحكم على كُلِّيها المجهول الحكم بحكمِ تلك الجزئيات، فيكونُ حُكْمُ العقل على هذا المجهول بواسطة الأدلّةِ النقلية على جزئياته، ونحنُ كلامُنا في دليلِ العقل المستقل.

نعم، لو قلنا إنَّ دليلَ العقل المستقلّ يدلُّ على الحكم الشرعي المستقل ولو كانت من جهة انضمام النقل إليه كانَ القياسُ ونحوه دليلاً عقلياً مستقلاً؛ لأنه يدل على حكم الفرع مستقلاً، لا تبعاً لحكم الأصل، فهو ليس نظير وجوب المقدمة، فإنه دائر مدارها.

والحاصل: إنّ المناط في الاستقلال وعدمه هو استقلالُ الحكم المدلول عليه في الوجود، لا استقلال الدليل، إلا أنَّ الظاهر من كلمات الفقهاء بل الذي يقتضيه الاعتبار إنّ المناط في استقلال الدليل العقلي هو عدم توقفه في دلالته على النقل، فالاستقلالُ باعتبار الدلالة لا باعتبار المدلول، وهو الحكم الشرعي.

وقد يتوهَّم فيقال: كيف تدّعي استغناء الشريعة الإسلامية عن الأحكام العقلية، مع أنَّ المدنية الإسلامية في أمَسِّ الحاجة إلى البحث الذي يزيل الغبار الذي تراكم عليها من أمدٍ بعيد، عن أهليتها لقيادة الإنسانية نحو المثل العليا، وتوجيهها نحو المرتبة الأسمى من الصلاح والإصلاح، وهذا لا يتم لنا إلا إذا ظفرنا بالمناهل التي نستمدُّ منها الأحكام الشرعية على الوجه الصحيح، ونستند في فهمها إلى العقل السليم، كيف لا، والمدنية الإسلامية ليس كغيرها من المدنيات التي حددت لنفسها الحياة ضمن إطارٍ خاصّ، أو نظرة للإنسانية من زاوية خاصّة، وإنّما اتجهت للشؤون الحيوية من جميع نواحيها، وتطلَّعت إلى رَفْعِ مستوى الحياة في سائر ميادينها، ونَظَرَتْ للإنسانية بوجودها الفردي والنوعي، وأرعت صالحها في سائر ظروفها وتقاديرها في أسلوبٍ منقطع النظير، وتشريعٍ يساير تطوّر الحياة وتقدّمها، ويشايع شعاب آرائها وتفكيرها في سائر اتجاهاتها.

وعليه: فليس من المعقول والمنطق أنْ نَجْعَلَ العقل بمعزل عن هذه المدنية، بل لابدّ أنْ نراعي مصادر هذه الشريعة على ضوء العقل السليم المجرّد من مخالطة الهوى والشهوات، ولهذا كانت مهمّة الفقيه شاقّة جداً، تتطلّبُ الإحاطة الدقيقة بمصادر الحكم الشرعي، وبالتبصُّر في مؤدّاها، وبالظروف التي وردت فيها، ومدى المصلحة التي اقتضتها، وبطبيعة الحياة الحاضرة، ومساعدة ظروفها للأخذ بها بأيّ نحوٍ، وعلى أيِّ كيفيةٍ، ودرس سنن الطبيعة العامّة المسيّرة للحياة على وجهِ الأرض، وما قد تفاجئ به من التقلُّباتِ والأحداث التي تجعل من الضرورة التوسُّعُ في الحكم والتضييق فيه مراعاةً لرفعِ الحَرَجِ والضَّرَرِ في هذه الشريعة، ومسايرةً للسَّمَاحَةِ والسُّهُولَةِ فيها.

ومما يُحكى في هذا الباب أنَّ بَعْضَ الفقهاء كانَ جَالِساً في مكانٍ جميل، هُيّئتْ فيهِ وَسَائلُ الرّاحة، فسُئل عن الطواف في الحج، فأجابَ السّائل: أنه ينبغي الاحتياط بإعادة الطواف مرّتين، مرّةً بين المقام والكعبة، ومرَّةً خارج المقام؛ فأجابَهُ السَّائلُ قائلاً: سيدي أنتَ هنا في هذا الجوِّ الجميل، وما تَدْري ما يُقاسي الطائفُ بالبيتِ من الصُّعوبة، وهذا ما يَجْعَلُ الإنسانَ يَتْركُ الحَجَّ، ويُصْبحُ من الأعمال التي لا تطيقُها النّفوسُ، ولا تَرْضَاها العقول، فعليكَ بإتعابِ النَّفْسِ في الاجتهاد لمعرفة الحُكْمِ والفتوى دونَ الاحتياط([325]).

نعم قد يتخيّلُ المتخيّلون ذلك، ولكن لا يَصِحُّ أنْ يعطي للعقل السلطة التامة في معرفة الأحكام، والحرية الكاملة في تفهمها، وتعقّلها، ونبذ الكتاب، والسنة، والإجماع وراء الظهر؛ لأنّ ذلك ينتهي بنا إلى إيجاد شرعٍ جديد، كيف؛ والأحكام الشرعية أمورٌ توقيفية لا مسرح للعقل فيها، لقصورِهِ عن الإحاطة بجهاتها وخواصّها وأسرارها، مع ما نَرَى من بناءِ الشَّرْعِ على جمع المختلفات، وتفريق المجتمعات، كما يَشْهَدُ بذلك دِيّةٌ أصابع المرأة([326])، فأيّ عقلٍ يدرك ذلك، وكيف يطمئن العاقل، فضلاً عن الفقيه الخبير بالحكم بالتأمل فيما بدا له من الجهات، ولهذا لا نرى فقيها من أول الطهارة إلى آخر الديات اعتمد على عقله في حكم من الأحكام، بدون الاستناد إلى النصوص والقواعد الشرعية.

نعم، لو حصل له القطع بالحكم الشرعي، كان القطع حجة له وعليه، لكن الكلام في حُصُولِهِ من الأدلة العقلية التي ذكروها، كالأقيسة، والاستحسانات، وغيرها، بل وحتى قاعدة التحسين والتقبيح، فإنها لا توجد إلا في موارد نادرة، ثبتَ حكمُها بالضّرورة، كرَدّ الوديعة، وقتل النفس المحترمة؛ لأنَّ موضوعها هو ما حكم العقل باستحقاق العقاب على تركه، والثواب على فعله، مما بيده الأمور، وله السُّلْطَةُ والسَّطوة، كيفَ؛ ولا رَيْبَ في أنَّه ليس للعاقل الاطلاع على أسرار الأشياء، والإحاطة بجميع جهاتها من حاضرها ومستقبلها، حتَّى يستطيع الجزم باستحقاق العقاب أو الثواب، ويَسْتَكْشِفُ من ذاك حُكْمُ الشَّرْعِ، ولذا نَجِدُ أخبارنا مَشْحُونَةً بما يدلُّ على أنَّ الدّين لا يُصَابُ بالعقول، وأنَّ الأحكام الشرعية لا تدرك بالأفكار، وأنَّ الاستقلالَ في استنباطها مَحْقٌ للشريعة([327]).

نعم، على العقل البحثُ في الأدلّةِ الشرعية، ومعرفة مقاصدها، وكَشْفِ أسرارها، وإظهارِ دفائنها، وما تَهْدِفُ إليه من حقائقَ ودقائق، على أنَّ تكون الأدلّةُ النقليّةُ زَيْتُ سراجٍ، ولولَبُ جهاز، لا أنْ يكون العقلُ له الاستقلال والاستبداد بالحكم بالاستحسانات والظنون التي ما أنزل الله بها من سلطان، وقد أشبعنا هذا الموضوع بحثاً وتدقيقاً في عدة من مقالاتنا المنشورة والمسطورة.

 

 

 

المصدر الخامس
القياس

هو إلحاقُ واقعةٍ لا دليلَ معتبرَ على حكمها بواقعةٍ أخرى قام الدليلُ المعتبر على حكمها، بتسرَيةِ حُكْمِها لها، لاشتراكِهِما في العِلَّةِ التي شرع لها الحكم، قياساً للوقائع بأشباهها، وإلحاقاً لها بنظائرها([328])، ومما مثلوا له به، ما ذكروه في النّبيذ، من أنّه مُحرَّمٌ شربُه قياساً على الخمر، لاشتراكهما في علّة تحريم الخمر وهو الإسكار([329]).

وتسمّى الواقعة المقيس عليها بالأصل، والواقعة المقيسة بالفرع، وهذا يرجع للدليل العقلي الغير المستقلّ المسمّى بالاستلزام؛ ومنع داود الظاهريّ من الأخذ به، وقال: إنّه لا يفيدُ إلاّ الظنّ بالحكم([330]).

والحنفيّةُ يأخذون به، ويقدّمونه على خبرِ الواحِدِ الغير المشهور([331])، وأحمد بن حنبل لا يعمل به إلا عند الضرورة([332]).

والحق: أنه ليس بحجّة إلا إذا أحرز العلة التامة للحكم عند المشرع، لاستحالة انفكاك المعلول عنها، وإحرازها قد يكون بالإجماع، كقوله: اغسل ثوبك من بول ما لا يؤكل لحمه، فإنه يقاس على الثوب كل ما يشترط فيه الطهارة، كالبدن، وموضع السجود، للإجماع على أنَّ علة الغسل النجاسة به، وقد يكون إحراز العلة من الكتاب والسنّة، بأنْ يقال: لعلة كذا، أو لأجل كذا، أو باللام، أو بالباء، أو نحو ذلك، ودعوى أنَّ القياس مطلقاً يفيد الظن، لو سلمت، فالظنّ ليس بحجّةٍ ما لم يقم دليلٌ على اعتباره.

وتوضيحُ الحال؛ أنَّ القياسَ على أقسام ثلاثة:

الأول: هو القياسُ المستنبط العلّة بالحدس، وهو الذي لم يصرّح الشارع بعلّةِ الحكم في الأصل، أعني: المقيس عليه، بل الفقيه استنبط علّة الحكم
في الأصل حدساً، وللعاملين بهذا القسم من القياس طرق في معرفة
العلّةِ واستنباطها.

منها: الدّوران، وهو استلزامُ الشيء للحكم في الأصل وُجوداً وعَدَماً، بمعنى: أنّه عندَ وجودِهِ يوجَد الحكم في الأصل، وعند عَدَمِهِ ينعدِمُ الحكم في الأصل، فيحْدِسُ من ذلك أنَّ هذا الشيء هو العلّةُ للحُكْم، فإذا وُجِدَ في موضعٍ آخر يَثْبُتُ الحكم له، وقد مَثَّلوا له بما لو قال الشارع: الخَمْرُ حَرَامٌ، فيستنبط الفقيه أنَّ عِلَّة حرمة الخمر هو الإسكار، لَدَوَرانِ الحُرْمَةِ مداره؛ لأنَّ ماء العنب قبل بلوغه حَدَّ الإسكار ليس بحرامٍ، وبعد تجاوزِهِ الإسكار وخلوّه عنه وصيرورتِهِ خَلاً أيضاً ليس بحرامٍ، فيفْهَمُ الفقيهُ أنَّ عِلَّةَ الحكم هو الإسكار؛ لأنه قبله ليس بحرامٍ، وَبعْدَهُ أيضاً ليس بحرام، فيحكُم بحرمَةِ النّبيذ لوجودِ تلك العلّةِ المستنبطة فيه.

ومنها: الترديد، ويسمَّى بالسَّبر والتقسيم، وهو عَدُّ أوصافِ الأصل، وسَلْبِ صلاحيّة علّية كُلِّ واحِدٍ منها، فما لا يصلح سلبُ علّيتِهِ للحكم، يحدس بأنه هو العلّة، وإلاّ لزم ثبوتُ الحكم بدونِ ثبوتِ العلّة له، فإذا ثَبَتَ هذا الوصف في الفرع ثَبَتَ الحُكْمُ للفرع.

ومنها: تنقيحُ المناط، وهو إلغاء الفارق بينَ الأصلِ والفرع، فيقال: لا فرق بينَ الأصل والفرع إلاّ كذا وكذا، وهي لا تَصْلُحُ للتفرُّق بينهما في الحكم، فيحدسُ أنَّ القدر المشترك بينَهُما هو العلّة للحكم.

ومنها: تخريجُ المناط، وهو تعيينُ العلَّة في الفرع بمجرّد المناسبة بينها وبين الحكم من غير نصٍّ، كالعدوان في القتل عَمْداً، فإنَّ العَقْلَ ينسبُ إنّه هو سَبَبُ أَخْذِ القِصاص، فلو اعتدى على عضو اقتص منه.

وهذا القسم من القياس، أعني: المستنبط العلة، هو العَمَلُ بالرأي، والتفسير بالرأي، الذين نُهيَ عنهما في أخبارٍ متواترةٍ عن الأئمة الشيعة، وقام الإجماع المحقق، والمنقول من الإمامية على عَدَمِ حُجيّته وحُرْمَةِ العَمَل به([333])، خلافاً لشاذ منهم، فقد حكي القول به عن ابن جنيد الإسكافي من قدماء الإمامية في أوائل أمره([334])؛ والمحكيّ رجوعه بعد ذلك عنه([335]).

وجعلوا تمسُّكَ بعض علمائهم به، كالفاضل والشهيدين في بعض المسائل، إنّما كان لإلزام المخالف([336])، وما يترآى من عمل أئمتنا  عليهم السلام  به، فهو من باب التقية([337])، بل ادّعيَ أنَّ حرمته من الضّرورياتِ في مذهب الإمامية([338])، ولذلك صارت كتبُ ابن جنيد الفقيه الاستدلالية مهجورةً عند الشيعة مع أنَّ له كتب كثيرة جيّدة كما ذَكَرَهُ بعضُ الأصحاب([339])، وقد روى البيضاوي وغيره على ما حُكيَ عنهم أنه  (ص)  قال: (تعمل هذه الأمّة برهة بالكتاب، وبرهة بالسنة، وبرهة بالقياس، فإذا فعلوا ذلك فقد ضَلَّوا)([340])، وحكي عن الرازي في محصوله أنه  (ص)  قال: (ستفترق أمتي على بضعٍ وسبعين فرقة، أعظمهم فتنة قومٌ يقيسون الأمور برأيهم، فيحرّمون الحلال ويحللون الحرام)([341]).

الثاني: هو القياسُ المنصوصُ العلَّة؛ وهو ما نَصَّ الشارع بعلّةِ الحكم في الأصل، كما لو قال الشارع: الخمر حرام لأنه مسكر، وهذا وقع الخلاف في حجيته بين الخاصة على أقوال ثلاثة:

قول عن السيد  رحمه الله  بعدم كونه حجة([342])، يعني لا يمكن التعدّي عن مورد النصّ إلى غيره؛ لأنّ العلل الشرعيّة ليست بعللٍ تامّة حقيقية، حتى لا يمكن تخلّف المعلول عنها حيثُ وجدت العلة.

وقولٌ عن العلامة بحُجيّتِهِ مطلقاً([343]).

وقولٌ بالتفصيل بين كونِ العِلّة بطريقِ الإضافة، كما لو قال الشارع: الخمر حَرَامٌ لأنه مسكر، ولإسكاره، وبين كون العلّة المنصوصة لا بطريق الإضافة، كما لو قال الشّارع: الخمر حَرَامٌ للإسكار، فعلى الأولى ليس بحجّةٍ، وعلى الثاني يكون حجة([344]).

لكنّ المختار عندي هو حُجيَّةُ القياسِ المنصوصِ العِلَّةِ مطلقاً، من غير تفصيل، لفهم العرف من قوله: الخمر حرام لكونه مسكراً، أو للإسكار، هو حرمةُ كُلّ مسكرٍ، من دونِ فرقٍ بين المثالين، فالعُرْفُ يَفْهَمونَ من التعليل المذكورِ ترتيب الشّكل الأوّل، وإنّ التعليلَ بمنزلَةِ كُلّيةِ الكبرى، فالمعنى بمقتضى فهم العرف: أنَّ الخمر مسكر، وكُلُّ مسكرٍ حَرَامٌ، فالخَمْرُ حَرَامُ، وكذا الفرع مثلاً النبيذ مسكر بالوجدان، وكلُّ مسكرٍ حرامٌ، لقولِهِ: لأنّه مسكِرٌ، أو للإسكار، فيُنتجُ: النبيذُّ حَرَامٌ، فيكونُ القياسُ المنصوصُ العلّةُ مُطلقاً حجّة، لحجية الظهور، بدليلِ فَهْمِ العُرْفِ منهُ أنَّ ذلك تمام العلة مطلقاً.

إن قلتَ: إنّ إضافَةَ الإسكارِ إلى ضَمير الخَمْرِ تُفيدُ التقييدَ بالخَمْر، فيكونُ العِلّةُ هو الإسكارُ المقيّد بالخمرية، لا مُطْلَقُ الإسكار، فلا يتعدَّى إلى إسكار غير الخمر؛ لأنّ التعليلَ بالمقيّد لا يُوجِبُ عِلّيةَ المطلَقْ.

قلنا: إنّ مرجع التعليل بشيء هو الاستدلال به بنفسه عليه، فإذا قيل: لا تأكل الرمان الحامض لأنه حامض، أريد الاستدلال بالحموضة على حرمة أكله، ولذا يقتنع به في مقام الخصومة والجدال، ولو أريد به المقيد أعني: حموضة الرّمان، خَرَجَ التعليلُ عن كونه استدلالياً، ويكون من قبيل المصادرة وتعليل الشيء بنفسه، إذْ يرجع إلى قولنا: لا تأكُلْ الرُّمان الحامض؛ لأنه رمان حامض، وهو من السخافة بمكان.

إنْ قلتَ: سَلَّمنا ذلك، وإنَّ العلَّة هي المطلق، لا المقيّد، ولا خصوصية للمورد في التعليل، لكن لا نُسلِّم أنَّها هي العلَّة التامة، فلعلَّها عِلَّةٌ ناقصة، من قبيل المقتضي.

قلنا: إنَّ ظاهر التعليل بشيءٍ لآخر، أنَّهُ هو العلَّة التامة لذلك الآخر؛ لأنه لو تَخلَّفَ عنه في مَورِدٍ، لكانَ أمّا لاشتراطه بأمرٍ غير موجود، أو بعدم شيء كان موجوداً، وهو خلافُ ظاهر التعليل؛ لأنَّ ظاهره أنَّ المذكور وحده علة، وخلاف ما يقتضيه الاقتصار عليه في مقام التعليل، بَلْ في الحقيقةِ يكون المذكور ليس بعلّةٍ، وهو خِلافُ ما تقتضيه الحِكْمَة من المتكلّم، وأمّا يلزم تخلَّف المعلول عن علته التامة.

إنْ قلت: إنّ السيد المرتضى  رحمه الله  ذكر إنَّ العلل الشرعية إنما تنبئ عن الدواعي إلى الفعل، أو عن وجهِ المصلحة فيه، ولا ريبَ أنَّ الشيئين قد يشتركان في صِفَةٍ واحدة، وتكونُ في أحدهما داعية إلى فعله دون الأخرى، وقد تدعو الصفة للشيء في حالٍ دون حالٍ، وعلى وجهٍ دون وجهٍ، وقدرٍ دُونَ قَدَر، وقد تكونُ مثلُ المصلحة مفسدة، تمنعُ من تأثير المصلحة في الفعل، ولهذا جازَ أن يعطي لوجهِ الإحسان فقيرٌ دون فقير، ودرهَمْ دون درهم، وحالٌ دون حال، وإنْ كان فيما لم يفعله الوجه الذي لأجله فَعَلَ الآخر، ثُمَّ ذكر  رحمه الله : أنَّه إذا صَحَّتْ هذه الجملة لم يَكُنْ في النصِّ على العلّةِ ما يُوجِبُ القياس، وجَرَى النصُّ على العلّة مجرى النصّ على الحكم في قصره على مورده، وليس لأحدٍ أنْ يقول: إنَّ ذكر العلّة يكونُ عبثاً؛ لأنّا نقول: إنّه يفيدُ ما لم نكن نعلمه لولاه، وهو ما كان لهذا الفعل المعيّن من المصلحة([345]).

قلنا: الظاهر من كلامه  رحمه الله ، أنَّ العلل الشرعية ليست بعللٍ تامّة، إذ لعله تكون من المقتضيات، فيجبُ الاقتصار على موردها، لكنّك قد عَرَفْتَ أنَّ التعليل بالشيءِ ظاهرٌ في كونِهِ علَّة تامة، والظهور هو الحجة.

نعم، لو قام على التعليلِ ما لا ظهورَ له في ذلك كالأدلّة اللّبية مثل الإجماع، أو اللفظية المجملة، وَجَبَ الاقتصارُ على موردها.

إنْ قلتَ: إنَّ المعروف بين الفقهاء أنَّ علل الشرع مُعرِّفاتٍ([346])، لا عِلَلَ حقيقيّة، فهيَ يَجوزُ انفكاكُها عن معلولها؛ لأنَّ الشيء قد يكونُ مُعرِّفاً لعدّة أشياء، كالظُّلْمَة، فإنّها مُعرِّفَةٌ لوجوبِ صلاة المغرب، ولجوازِ الإفطار.

قلنا: العِلَلُ الشَّرعيّةُ على قسمين:

أحدهما: ما يكونُ الشَّارع قد بيّنها بلسانِ أنَّها أسبابٌ لأحكام
خاصة، كالزّوال لوجوبِ الصّلاة، والعقود والإيقاعات، للنقل والانتقال، والزوجية، والطلاق، والحدث للطهارة، ونحو ذلك، فإنّها تكونُ مُعرِّفات وعلامات للأحكام المرتبة عليها شرعاً، وليست بعلل حقيقية للأحكام المرتبة عليها.

ثانيهما: ما يكون الشارع قد بيّنها بلسانِ أنَّها هي الموجبة للتشريع للحكم، وأنَّها هي المنشأ لجعلِ الحكم، وأنَّ مطلوبيّةَ الفعل أو مبغوضيَّتَهُ مستَنَدِةٌ إليها، كالإسكار في الخمر، فمرادُ الفقهاء بكونِ العلل مُعرِّفات، هو القسم الأول لا الثاني، فإنَّ ما يكون من قبيل القسم الثاني ظاهرٌ في كونه علّة تامة لمحبوبية الشارع للعمل، أو مبغوضيته له؛ ولا رَيْبَ في سَرَيَانِ المحبوبيّةِ بَسَرَيان علّتها التامة، نعم، لو شُكَّ في كونِ العلّة من أيِّ القسمين، كانَ اللّفْظُ مُجْمَلٌ، فلا يسري الحكم بسريان تلك العلة.

الثالث: هو القياسُ بطريقٍ أولى، وتعريفُهُ أنْ يقال: هو إجراءُ الحكم الثابت في الأصل للفرع، لكونِ علّة الحكم في الفرع آكد وأشدّ وأقوى، كقوله تعالى: [فَلاَ تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ]([347])، حيثُ يدلُّ على حرمة ضربهما وشتمهما بطريق أولى، فإنَّ علة حرمة التأفيف كَفُّ الأذى عن الوالدين، ولا شَكَّ أنَّ ذلك آكد وأقوى في الفرع، وهو الضّربُ والشَّتم، وهذا القِسْمُ من القياس على نوعين:

الأول: أنْ يكونَ الأولويةُ مستفاد من اللفظ، بأنْ يكون كلام المتكلم منساقاً للترقي من الأدنى إلى الأعلى، كالآيةِ الشريفة المذكورة، فإنّها منساقة للترقي من الأدنى، وهو حُرْمَةُ التأفيف إلى الأقوى، وهو حُرْمَةُ الضَّرب، وكآية القنطار، وهذا القسم من القياس بطريقٍ أولى حُجّة؛ لأنّ الأولوية فيه مستفادة من اللفظ عرفاً، فيكونُ للّفظِ ظهورٌ في ذلك، والظّهور حجّة وإنْ كانت الدلالة ظنية، وهذا القسم هو المسمَّى بفحوى الخطاب، ولحن الخطاب ومفهوم الموافقة.

الثاني: هو أنْ يستفاد الأولوية من العقل، لا من اللفظ، كما إذا سئل
الإمام  عليهم السلام  عن رَجُلٍ تزوَّجَ امرأةً في العدّة الرجعية، فهل تَحْرُمُ عليه، فقال  عليهم السلام : (إنها مُحرَّمَةٌ عليه أبدا).

فيستفادُ منه عقلاً أنَّ العقد على ذاتِ البَعْلِ أيضاً سَبَبٌ للتَّحريم الأبديّ بطريقٍ أولى؛ لأنّ المطلَّقَةَ الرّجعية في حكم الزوجة، فإذا ثَبَتَ أنَّ العقد عليها في العِدَّةِ يُوجِبُ التّحريمَ الأبديّ مع وجودِ الطَّلاق، فبالطريق الأولى يكونُ العقد موجباً للتحريم الأبديّ مع عَدَمِ الطلاق؛ وهذا القِسْمُ من القياس بطريق الأولوية على قسمين:

أولوية قطعية: وهو مما لا ريب في حُجيّتها لكونِ القَطْعِ حُجّة بنفسه.

وأولوية عقليّة ظنية: وقد وَقَعَ الخلافُ في حُجيّتها على قولين:

فقيلَ بعَدَمِ حُجيّتها، كما عن المحقِّق الثالث  رحمه الله ([348])؛ وقولٌ بحُجيّتها كما هو مختارُ بعض المحققين([349])، وللقول الأوّل أدلّة أربعة:

الأول: الأصل، فإنّ الأصل الأصيل حرمة العمل بالظن.

الثاني: الشهرة العظيمة، إذ المشهور على عدم حُجيّة الأولوية الظنية.

الثالث: إطلاقُ الأخبار الدالّة على حرمة العَمَل بالقياس مطلقاً، وخصوصُ الأخبار الخاصَّة الواردة في الأولوية الظنية الدالة على عدم اعتبارها، منها: ما روي من قوله  عليهم السلام  لأبي حنيفة: (الصّلاة أفضل أم الصيام)؟ قال: بل الصلاة أفضل، قال  عليهم السلام : (فيجب - على قياس قولك - على الحائض قضاء ما فاتها من الصّلاة حال حيضها دون الصيام)([350])، وكذا قوله  عليهم السلام  له: (أيّما أعظم عند الله القتل أو الزنا)؟ قال: بل القتل؛ فقال  عليهم السلام : (فكيف رَضيَ بالقتلِ بشاهدين، ولم يرضَ في الزّنا إلا بأربع)([351])، وكذا قوله  عليهم السلام  له: (البول أقذر، أم المني) فقال: البولُ أقذر، فقال  عليهم السلام : (يجب على قياسك، أنْ يجب الغسل من البول دون المني، وقد أوجب الله تعالى الغسل من المني دون البول)([352]).

إن قلت: إنّه يدلّ على عدم حجية الأولوية مطلقاً، القطعية والظنية، ما رواه الصدوق، وثقة الإسلام في باب ديّات الأطراف عن أبان بن تغلب قال: قلت لأبي عبد الله  عليهم السلام : ما تقولُ في رجلٍ قَطَعَ إصبعاً من أصابع المرأة كم فيها؟ قال: (عشرة من الإبل)، قلت: قطع اثنين، قال: (عشرون)، قلت: قطع ثلاثاً، قال: (ثلاثون)، قلت: قطع أربعاً، قال: (عشرون)، قلت: سبحان الله، يقطع ثلاثاً فيكون عليه ثلاثون، ويقطع أربعة فيكون عليه عشرون، إنّ هذا كان يبلغنا ونحن بالعراق فنتبرأ ممن قاله، ونقول إنّ الذي قاله شيطان، فقال  عليهم السلام : (مهلاً يا أبان، هذا حكم رسول الله  (ص) ، إنَّ المرأة تعاقل الرجل ثلث الدية، فإذا بلغت الثلث رجعت المرأة إلى النصف، يا أبان إنك أخذتني بالقياس، والسنة إذا قيست محق الدين)([353])؛ فإنَّ في هذه الرواية قياسين:

أحدهما: القياس المساوي، وهو أنَّ دية قطع أربعة من أصابع المرأة أربعون من الإبل، وذلك لأن الواحد كان ديته عشرة، والاثنين عشرون، والثلاث ثلاثون، فيكون دية الأربعة أربعين، أو ديته مطلق ما يزيد على ثلاثين، كما هو قضية القياس المساوي.

وثانيهما: هو القياس بطريق أولى، وهو إنه إذا كان دية الثلاث ثلاثين، لا يكون دية الأربع أقل من ثلاثين بطريق أولى.

ثم إنّ وجه الاستدلال بالرواية، إنَّ أبان عمل بالأولوية القطعية في القياس بطريق أولى، كما يشهد عليه إصرار أبان ومبالغته في الإنكار، حيث قال: (سبحان الله)، بتعجّب، ثمّ قال: إنّ هذا كان يبلغنا ونحنُ بالعراق فنتبرّأ ممن قال، ونقولُ إنَّ قائله شيطان، ولا شَكَّ أنَّ تبرأه ممن قال ذلك، والحكم بأنه شيطان، يدلُّ على أنَّه كان قاطعاً بأنَّ ديَّة الأربع ليس أقلّ من ديّة الثلاث، ويشهد عليه الوجدان، فإنّك لو خُلّيت وطبعك، ورجعت إلى وجدانك إذا لم يكن مسبوقاً بالشبهة، ولم تَرَ هذه الرواية أو نظائرها، قَطَعْتَ بأنَّ دية قطع الأربع ليس أقل من دية قطع الثلاث، وعَلِمْتَ أنَّ أبان كان قاطعاً بذلك، والإمام  عليهم السلام  نهاه عن العمل بالأولوية القطعية، فإذا لم تكن الأولوية القطعية حجة، لا تكون الأولوية الظنية حُجّة بطريق أولى، كما لا يخفى.

لا يقال: إنَّ تعجُّبَ أبان إنّما هو للتأسُّف، وإظهارِ النَّدَامَة على ما فَعَلَهُ في العراق من التبرّؤ من قائلِ ذلك الحكم، بأنّه شيطان.

لأنّا نقول: صَرَّحَ أبان بوجهِ التعجُّب، حيثُ قال: سبحان الله، يقطع ثلاثاً فيكونُ عليهِ ثلاثون، ويقطع أربعاً وعليه عشرون؛ فلا معنى للتأويل المذكور في وجه التعجب.

لا يقال: إنّ عتابَ الإمام  عليهم السلام  بالنسبة إلى أبان ليس لأنّه عَمَلٌ بالقياس بطريقٍ أولى، وهو نَهَاهُ عن العمل به، بل لأحدِ أمرين:

الأول: إنّ قوله  عليهم السلام : (أخذتني بالقياس)، معناه: إنّك يا أبان مع دُنوِّ رُتبتك مِنّي، وانحطاطِ شأنِكَ عنّي، لَستُ أقابلها بالمجادلة بالقياس، لا أنَّ القياس غير قابل لأن يجادل به.

الثاني: معنى قوله  عليهم السلام : (أخذتني)، أنّه وإنْ كنتَ رَجُلاً جليل القدر، إلاّ أنَّه لا ينبغي منك أنْ تُجادِلَ معي، مع أنَّي معصومٌ عالم بعلوم الأوّلين والآخرين.

لأنا نقولُ: قوله  عليهم السلام : (والسنة إذا قيست محق الدين)، يدفع كُلاًّ من الاحتمالين، ويعين الاحتمال الأوّل الذي تعنيه، وهو أنّه  عليهم السلام  نَهَاهُ عن العمل بالقياس من حيثُ أنّه قياس كائناً ما كان؛ لأنَّ قوله  عليهم السلام : (والسنة إذا قيست محق الدين)، الذي بمنزلة كلية الكبرى ظاهرٌ في نفي حُجيّةِ القياس من حيث هو قياس.

والجواب: إنَّ هذه الرواية مشتركة الورود؛ لأنها تنفي حجية مطلق المستقلات العقلية، والقطعيات العقلية، وذلك لأنها تنفي حجية الأولوية القطعية، ونفي حجية الأولوية القطعية تنفي حجية المستقلات العقلية، لكون المدرك هو حكم العقل القطعي.

ودعوى الفرق بينها تحكُّمٌ بَحْتٌ؛ لأنَّ العقل إذا حَصَلَ له القطع يحكم على طبق قطعه، سواء كانَ قَطْعُهُ تفصيلاً أم إجمالاً.

فالتحقيقُ أنْ يقال: إنّها بصريحها، وإلاّ فبظاهرها، تَدُلُّ على عدم حجية الأولوية العقلية، بَلْ وسائر المستقلات العقلية، مع وُجودِ النّصّ الصريح، القطعيّ الدلالة والسند.

والحقُّ كذلك؛ لأنَّ النَّص من المعصوم أقوى دلالةً على الحكم الشرعي من العقل، فإنَّ العقل في الأمور الشرعية التعبدية قطعُهُ يكونُ موجوداً ما لم يظفر بنصٍّ أو دليلٍ أقوى منه، كما هو الشأنُ في سائر الأدلة العقلية في تشخيص أحكام الموالي، ولا ريبَ إنَّ النصَّ المقطوعَ السَنَد والمتن من نفس الشارع أقوى دلالةً على الحكم الشرعي من دليلِ العقل، حيثُ لم يَحْصُلُ به القطع مع
وجودِ النصّ الشرعيّ المقطوع الدّلالة والسند، لا أنّه مَعَ حُصولِ القَطْعِ به لا يعمل به.

وبعبارةٍ أخرى: إنَّ الدليلَ القطعيّ يجوزُ أنْ يكونَ الواقع على خلافه، فإذا ظَهَرَ الواقعُ تزول الاستفادَةُ منه، وتَذْهَبُ القطعية بالواقع منه.

والمقام من هذا القبيل، حيثُ إنَّ الإمام  عليهم السلام  أظْهَرَ لَهُ الواقع، لإزالَةِ القطعية من هذا الدليل، كما هو الحالُ في سائر الأدلّة القطعية، كالتي تُقَامُ على وجود اللهِ وصِفاتِهِ، ونبوّةِ أنبيائه، وخلافَةِ أوصيائه في مقابل المنكرين لها.

 

المصدر السادس
الاستحسان

الاستحسان، قد يُفَسَّرُ بالدليل في مقابل القياسِ الجليّ، أعني:
القياس الذي تسبق إليه الأفهام، فإنَّ الدليلَ الذي يعارضُ هذا القياس
الجليّ يكونُ أقوى منه، يسمّى بالاستحسان، سواء كان نصّاً من الكتاب،
أو السنّة، أو إجماعاً، أو قياساً خفياً أقوى من ذلك القياس الجليّ،
وهكذا الرّجوعُ للدّليل المخصِّص، أو المقيّد لقاعدةٍ كليّةٍ من الاستحسان، كالرُّجوعِ لقاعِدَةِ الحَرَج والضَّرر، وبهذا تعرفُ أنَّ الاستحسان يَرْجِعُ
للأدلّة الأربعة المتقدمة. وقد تَمسّكَ به الأحناف([354])، والمالكية([355])،
والحنابلة([356]).

وهو بهذا المعنى لا ريب في صحته إذا كان يرجع فيه للدليل الصحيح الموجود في الواقعة الذي هو أقوى من غيره، وقد يُفَسَّرُ الاستحسان بترك القياس، والأخذ بما هو أوفق للناس أو بطلب السُّهُولَةِ في الأحكام فما يبتلى به الأنام، أو الأخذ بالسَّمَاحَةِ، وابتغاء ما فيه الرحمة([357])، ولا ريب في بطلان الاستحسان بهذه المعاني، فإنه لا دليل على صحته، ويلزم منه التلاعب بالأحكام الشرعية، والقوانين الإلهية، وإعطاء الناس رغباتهم في الإطاعة والامتثال، وفي ذلك فساد عظيم وشر جسيم.

وإلى هذا الاستحسان بهذا المعنى تشير الأخبار الدالة على أن دين الله لا يصاب بالعقول([358]).

وعن الشافعي أنه قال: من استحسن فقد شرع([359]).

والأصحّ والذي هو مَحَطُّ نظر الفقهاء، إنَّ مرادهم بالاستحسان: أنه ما يستحسنه المجتهدُ بطبيعته وعادته وسليقته وذَوْقِهِ، من دونِ دليلٍ شرعيٍّ معتبر، ولعلَّهُ هو المعبّر عنه بشَمِّ الفقاهة، وهو ليسَ بحُجَّةٍ عندنا، لإجماعِ الإمامية على بطلانه، وأنَّه يرجع للعَمَل بالرّأي الذي دَلَّتْ الأخبارُ على بطلانه، والنهي عنه([360]).

وقد يستدلّ على صحة الاستحسان بما روي عن رسول الله  (ص) : (ما رآه المسلمون حَسَناً فهو عند الله حَسَن)([361]).

ويردُّهُ بأنّا لو سَلَّمْنا صِحّتها، فهي دليل على حجية الإجماع، نظيرُ قوله  (ص) : (لا تجتمعُ أمّتي على الخطأ)([362])؛ لأنَّ الظاهر بقرينة (المسلمون) في الرواية، جمعٌ محلّى باللام، هو إرادَةُ جميعهم بنحو الاستغراق المجموعي.

ودعوى أنَّ المرادَ به الاستغراق الأفرادي، نظير: (إنْ جاءك العلماءُ فأكرمهم)، حيثُ يَدُلَّ على وجوبِ الإكرام، ولو بمجيء واحد منهم، فكذا ما نَحْنُ فيه، فيكونُ دليلاً على حُجيّة ما يستحسنه الفقيه الواحد.

فاسدة، إذ يلزم عليها التخصيص بالأكثر؛ لأنّ المسلمين فيهم العوام والفساق، فلا يعقل أنَّ استحسانَ كُلّ واحدٍ منهم يوجب استحسان الله تعالى، ولو سلمنا ذلك، فالرّوايَةُ محتملةٌ لمعنيين الاستغراق المجموعي، والاستغراق الإفرادي، والدليل متى تطرَّقَهُ الاحتمالُ بَطَلَ به الاستدلال.

 

المصدر السابع
المصالح المرسلة

المصالحُ المرسَلَة في السّنة تُسمَّى عندَ المالكيّة([363])، ويسمّيها الغزالي بالاستصلاح([364])، والأصوليون بالمناسب المرسل الملائم([365])، وهو وجود المصالح التي يريدها الشارع، وقد حصرها علماء الأصول في خمسة حفظ الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال([366])، في واقعة لم يقم على حكمها دليل، فإنه يُستفادُ من ذلك حُكْمُ الشارع بمقتضى تلك المصلحة، ومرادهم بالمصلحة: هو ما به الصّلاح والنفع، وليس مرادهم بها اللذة، وإلا فقد يكونُ باللذة المفسدة والضَّرَرُ، كشرب الخمر، وبعضهم عَمَّمَ المصلحة للمنفعة ودفع المفسدة، فجعل دفع المفسدة من المصلحة، وأرادوا بالمفسدة الضَّرر لا الألم، وإلا فقد يكون بالألم النفع، كَقلْع السنّ وشرب الدواء([367]).

وسُمّيت بالمرسلة لأنَّها مطلقة غيرُ مقيّدة في لسانِ الشَّارع بنوع خاص من الوقائع، ولا بوجهٍ عامّ، وعنوانٍ عام من الوقائع، وإنما عرفت، واستنتجها العقل من أهداف الشريعة ومقاصدها، ومصبّ عموماتها، وما ترمي إليه من قواعدها، كالأمور الخمسة المتقدمة، ولهذا لو كانت المصلحة مما نصَّ عليها الشارع بخصوصها في نوع خاص من الوقائع، كالمنع من سبّ الأصنام أمام عبدتها، لأجل أنْ لا يسبّوا الله تعالى، فتسريةُ الحكم بواسطتها ليس من الاستصلاح والمصالح المرسلة، بل هو من القياس، وهكذا، لورود النصّ بوجهٍ عامٍّ من المصالح، كالأمر باجتناب الخبائث، فتسريَةُ الحكم لما كان فرداً من الخبائث، كالدخان ليس من باب المصالح المرسلة، وإنّما هو من باب التمسُّك بالعام في أحد مصاديقه، وبهذا يظهر لك أنَّ التمسُّك بنفي الحرج والضرر في مورد الضرر والحرج، ليس من باب المصالح المرسلة، وإنّما هو من باب التمسّك بالعامّ في أحد مصاديقه، وهكذا التمسُّك بالأمر بالإحسان والعدل، لقوله تعالى: [إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ]([368]) في مورد الإحسان والعدل، ليس من الاستصلاح والمصالح المرسلة، وإنما هو من التمسّك بالعام في أحد مصاديقه.

وبعضهم قسّم المصالح إلى مصالح ثلاث([369]):

الأولى: المصلحة المعتبرة، سواء كانت منفعة، أو دفع مفسدة ومضرة، وهي التي شرع الشارع أحكاماً لتحققها، ودَلَّ الدليلُ على أنَّه قَصَدَها عند تشريعه، وهذه لا إشكالَ في وجودِ الحكم عند وجودها، وتبعيّتِهِ لها، وتسمَّى بملاك الحكم ومناطه، وقد قسموا هذا النوع من المصلحة إلى ثلاثة أقسام([370]):

الأول: ما كانت ضروريةً لا بُدَّ منها؛ بحيثُ إذا لم تنفذ فَسَدَ الاجتماع، واختلَّ نظامُ الحياة، وحَدَثَ الهَرَجُ والمرج، وهو خمسة: حِفْظُ الدّين، والنفس، والمال، والنسل، والعقل، فإنَّ الشارع قد شَرَّعَ أحكاماً لحفظها، ودفع ما يفسدها، كالجهاد، وحرمة الإلقاء في التهلكة، وحرمة الغصب، وحلية النكاح، وحرمة الزنا، وحرمة شرب الخمر، ومن ذلك قتل الكافر المضلّ، فإنَّ المصلحة في قتله هي دَفْعُ مفسدته بالإضلال للغير([371]).

الثاني: ما كانت حاجيّة، وهي التي يحتاجُ الناسُ إليها من حيث التوسعة، ودفع الضرر، والعسر، والحرج، كالإباحة لبعض المحظورات في بعض المناسبات، وكالرخصة لترك بعض العبادات في بعض الأحوال، كالصلاة
من جلوس للعاجز، وكالإفطار للصوم للضرر، وإباحة الطيبات من المأكولات والمشروبات، وإباحة المعاملات، كالبيع، والإجارة، والمصالحة، ورفع
الحرج، والضرر([372]).

الثالث: تحسينية، وهي التي ترجع لمكارم الأخلاق، وتهذيب النفوس، كالأمر بالتستر، والضيافة، والشجاعة، والكرم، وآداب الطعام والشراب، وحسن الجوار، ونحوها([373]).

وهذه المصلحة المعتبرة بأنواعها الثلاثة، هي المصلحة التي لو أدركها العقل لحكم على طبق الشرع، ومن هذا الباب ذكر الفقهاء المستقلات العقلية، فإنّ المراد بها هي الأحكام الشرعية التي يحكم العقل بها، لو لم يطلع العقل على نصٍّ من الشارع عليها، إذا أدرك هذه المصلحة بأحد أنواعها الثلاثة في الواقعة، وقد عرفتَ أنّ مرادهم بالمصلحة أعمّ من جلب المنفعة الموجودة فيها التي تقتضي إرادتها، أو دفع المفسدة الموجودة فيها التي تقتضي عدم إرادتها، وهي محطّ البحث في التحسين والتقبيح العقليين.

والثانية: المصلحة الملغاة، وهي المصالح التي ألغاها الشـارع، كمساواة المرأة للرّجل في الإرث، وهذه لا خلافَ بين العلماء في عَدَمِ وجودِ الحكم بوجودها([374]).

الثالثة: المصلحة المرسلة، وهي التي لم يعلم من الشارع أنه ألغاها أو اعتبرها([375])، ولكنّ العقل أدركها من عمومات الشريعة، واستنتجها من قواعدها، وأهدافها، كإيذاء المتهم بالسرقة للاعتراف بها، فإنّه لم يقم دليل عليه إلا من باب المصالح المرسلة، وهي محلُّ الكلام.

وكيف كان، فهذا الدليل يرجعُ لحكم العقل بالاستلزام، لإدراكه لهذه المصلحة من القواعد والعمومات الشرعية، وقد اعتمد على هذا الدليل المالكية([376])، والحنبلية([377])، والمحكيّ عن الآمدي منع الشافعية والحنفية من التمسك به([378])، وعن الخوارج التمسك به ما دام لم يصادم نصاً ولا إجماعاً، ومنع من العمل به الشيعة([379]) والظاهريون([380])، معللين ذلك بأنَّ فتح هذا الباب معرض لاستغلال أهل الأهواء وذوي النفوذ والسلطان.

ويمكن أنْ يقال في رَدِّهِم: إنَّ الأحكام لما كانت تابعة للمصالح والمفاسد ودائرةً مدارها، لكون الشرع إنّما جاء لسعادة البشرية لا لشقائها، ومعالجة مشكلات الحياة ومسالكها، كان للعقل مجال لمعرفة الحكم الشرعي، إذا أدرك المصلحة والمفسدة، من دون توقفٍ على النصّ الشرعي، وبهذا الاعتبار نقول: إنّ الحكم الشرعي تابعٌ لعلته وجوداً وعدماً، من جهة اشتمال علته على المصلحة والمفسدة، والقائلون بالتحسين والتقبيح العقليين، لا بدّ لهم من الالتزام بذلك، إذا أدرك العقل المصلحة القائمة في العمل الموجبة لحسنه العقلي، للملازمة بين الحسن العقلي، والحسن الشرعي الموجب للحكم عليه.

اختلاف الأحكام باختلاف المصالح والمفاسد

ولما ذكرناه، وَقَعَ النّزاعُ في تغيير الأحكام وتبدُّلها، تبعاً لتبدُّلِ المصالح والمنافع وتغيرها، وإنْ خالفت النصّ والإجماع؛ لأنَّ عَدَمَ التبدّل يوجبُ الضَّرَرَ والحرج، والشريعة الإسلامية تأباه؛ لأنّها قد جاءت لكلّ زمان ومكان ما دام الدهر، فلا بدّ أنْ تساير شؤون الناس ومصالحهم، وذلك لا يكون إلا إذا التزمنا بتبعية الأحكام للمصلحة، ويؤيّدُ ذلك وقوعُ النَّسْخ في الشريعة، والتدرّج في بلاغ أحكامها، فإنّه لا يكونُ ذلك إلاّ لمراعاة مصلحةِ المكلّفين، وإنّ ذلك ليس تقديماً للمصلحة على النصّ، وإنّما هو تفسيرٌ وتقييدٌ للنصّ بحكم العقل، فإنه نظير ما لو قال: (اقتل الأعداء)، فإنَّ العقلُ يقيِّده بغيره الذي فيه مصلحة في بقائه، لعدم قيامه بالضَّرر والفساد، فمثلاً الأضاحي كانت لا تخرُجُ من منى لقلة الحجيج، أمّا اليوم بعد كثرتهم وزيادتهم، أوجب الفساد والضرر في بقائها، فالحكم يتغيّر ويوجب إخراجَ ما فضل منها، أو ذبحه في خارجها، وهكذا الطّوافُ حول البيت، فقد كان بين البيت والمقام، أما اليوم لما كثر الزحام، بحيث يفقد الإنسان الاطمئنان والتوجه في هذه العبادة، فالمصلحة تقتضي تبدل هذا الحكم، إلى الطواف في البيت خارج المقام.

وقد يُجاب عن ذلك: إنَّ هذا منافٍ لما رُويَ من: (حلال محمّدٍ حلال أبدا إلى يوم القيامة، وحرامُهُ حرامٌ أبداً إلى يوم القيامة)([381])، وفي ذلك فتحٌ للتلاعب بالأحكام الشرعية وتأثّرها بالأهواء والشهوات، ومراعاة ذوي النفوذ والسلطان، ويكون الإفتاء بحسب الهوى لا بحسب الحجة العليا.

ويمكنُ الجوابُ عن الرّواية المتقدمة، بأنّه مع تغيّر المصلحة يكون حلال
 محمد  (ص)  وحرامه هو خصوصُ ما فيه المصلحة، وما عداه ليس بحرام لمحمد  (ص)  ولا يشمله دليلُ الحرمة، والمقيّد له هو حكم العقل بإرادة الشارع لحرمته، المستكشفة هذه الإرادة بحكم العقل، بوجوب متابعة المصلحة، والفرضُ إنّ مصلحة الحرمة موجودة، ويؤيّدُ ذلك ويؤكّده ما وَرَدَ في القرآن الشريف، وسنة النبي الكريم من تعليل بعض الأحكام الشرعية بالمصالح والمفاسد، وقد ألف الصدوق كتابه علل الشرائع([382])، تضمن هذا الأمر.

والحقّ في المقام: إنْ أوْجَبَ ذلك القطع بكونِ العلّةِ التامة هي المصلحة الكذائية أو المفسدة الكذائية سَرَى الحكم بسريانها وإلا فلا، لعدم الدليل على اعتبار الظن المذكور.

 

 

 

المصدر الثامن
سد الذرائع وفتحها

والمراد بهذا الدليل: هو ما يتوصل به، ويكون ذريعةً ووسيلةً لشيءٍ معلوم الحكم، فإنّه يكونُ تابعاً لما يُتوصَّلُ به إليه في الحكم، فإذا حَرَّمَ الشارعُ شيئاً وله طرق ووسائل تفضي إليه، وتوصل له ولو بنحو الأغلب، تكونُ تلك الوسائل والذرائع محرّمة عند الشارع، ومفسدة عنده، تحقيقاً لحرمة ذلك الشيء، وتثبيتاً لحرمته، إذ إنّ إباحتها من الشارع نقضاً لتحريمه ذلك الشيء، وإغراءً للنفوس بفعله، وهو خلافُ عدله تعالى وحكمته، وهكذا ذرائعُ الواجبات، وهي: الوسائل والمقدّمات التي تفضي إليها في الأغلب تكون واجبةً عند الشارع، ومفتوح فعلها، وهكذا ذرائعُ المستحبّات والمكروهات، فإنها تابعةٌ لما هي ذريعة له في الحكم الشرعي.

فمقدّماتُ الحرام ووسائله الموصلة له، ولو في الغالب، قد ذهب قسم من الفقهاء إلى سدِّها، وقالوا بحرمتها وعبّروا عنه بسَدّ الذرائع([383])، ومقدمات الواجبات ووسائلها الموصلة لها في الغالب، قد ذهب قسم من الفقهاء إلى فتحها وقالوا بوجوبها وسموه بفتح الذرائع([384])، ولكنّ القوم ركزوا البحث عن خصوص ذرائع المحرمات لاكتفائهم عن البحث في ذرائع غيرها بمبحث مقدمة الواجب، وأنت خبيرٌ بأنَّ هذا البحث يرجع للدليل العقلي الاستلزامي([385]).

والحاصل: إنّ مواردَ الأحكام نوعان:

الأول: ما كانت محطّاً للحكم بالذات، ومطلوب فعلها أو تركها بالذات، وهي ما كانت المصلحة والمفسدة قائمة في ذاتها.

الثاني: ما كانت ذريعة ووسيلة مفضية ومؤدية لما فيه المصلحة أو المفسدة، فالذريعة والوسيلة تأخذ حكم ما يترتب عليها، والفقهاء الأربعة يأخذون بأصل الذرائع([386])، بمعنى أنَّهم يعطون الوسيلة حكم الغاية إذا انحصر الطريق بها، وبعضهم لا يشترط الانحصار، فالنظر إلى عورة الأجنبية حرام؛ لأنه يؤدي إلى المفسدة، وهي الزنا. وقالوا: إنَّ من هذا القبيل ضرب المرأة رجلها للإعلام بزينتها؛ لأنّه وسيلة للافتتان بها، ولذا قال تعالى: [وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ]([387])، و[وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُوُنَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُّبُوا اللهَ]([388])، فإنَّ السبَّ للأصنام ونحوها كان ذريعةً ووسيلة قد تفضي لسبّ الله تعالى، وينسب القول بسد الذرائع وفتحها لمالك، وأحمد، وغيرهم([389])، وينسب المنع للظاهرية وغيرهم([390])، وقد حققنا الكلام في مبحث المقدمة للواجب.

 

 

 

المصدر التاسع
العرف والعادة

وهو ما تَعَارَفَ واعتاد بين الناس فعله، أو تركه أو قوله، وهو المسمّى بالعادة العامة، ويسمّى بالسيرة مع عدم ردع الشارع عنه.

وذكروا إنّ العرف والعادة قد تكون لفظية، وهي ما كانت في اللفظ كاستعمالهم لفظ الولد في الذكر، مع أنه يشمل الذكر والأنثى، وهكذا لفظ الدابة، فإنّ العرف إنما استعملها في خصوص ذات القوائم، مع أنّها موضوعة لكلّ ما يَدِبُّ على الأرض([391]).

وقد تكونُ عملية، وهي ما اعتادَ عَمَلُ النّاس عليه في حياتهم، وكان متعارفاً في تصرُّفاتهم، ومعاملاتهم، وأفعالهم، كما تعارَفوا على بيع المعاطاة، وكما تعارفوا على السبح في الحمامات، والجلوس في المقاهي بأجور معينة، من دون تحديدٍ لزمن البقاء، وقد يكونُ العرف والعادة عندَ بلدٍ خاصّ، كما تعارف في العراق أن البيض يباع بالعدد، فيكون من المعدود، دون البرتقال، فإنه من الموزون([392]).

ومن المعلوم أنّ هذا الدليل:

إنْ كان لمعرفة الحكم الشرعي، كصحة بيع المعاطاة، فهو يرجعُ للسنة؛ لأنَّ منها تقرير المعصوم، فبيعُ المعاطاة كان في زمن المعصوم، وهو لم يَرْدَعْ عنه.

وإنْ كان لمعرفة الموضوع، كاستعمال لفظ الولد في الوصية، فهو يرجع لتشخيص المعنى المراد به.

ولا ريب أنَّ العرف يوجب انعقاد الظهور للفظ في ما يستعمله فيه، وهكذا في كون الشيء مكيلاً أو موزوناً، فإنه يرجع للعرف في تشخيص موضوعات الأحكام وتحققها.

والحاصل: إنّ العرف والعادة تارةً يُستَدَلُّ بها على الحكم الشرعي، وهذا يقتضي ثبوتَها في زمن المعصوم، مع عدم رَدْعِهِ عنها، وتمكنه من الردع، وتارة يُستدلّ بها على تشخيص الموضوع للحكم الشرعي، وهذا أيضاً صحيحٌ؛ لأنَّ الأحكام الشرعية يُرْجَعُ في موضوعاتها للعرف وفهمه؛ لأنّهم هم المخاطبون بها([393]).

نعم، يقعُ الإشكالُ فيما لو كان التعارُفُ والعادة، في مثل ما لو كان قيمة السبح في الحمام، أو الجلوس في المقهى خمسين فلساً، فلما سَبَحَ أو جَلَسَ في المقهى طلب منه صاحبهما أكثر من ذلك، فهل يُرجَعُ للعرف باعتبار أنهما الطرفان للمعاملة، حيثُ لم يظهر منهما خلافُ المتعارف، ويكون البناء منهما على المتعارف، أو يعطي ما طُلِبَ منه، باعتبار أنَّ الناس مُسلَّطون على أموالهم، وهكذا لو خاط عنده ثوباً، وكان المتعارف والعادة قيمة الخياطة ديناراً، فطلب منه الخياط بعد الخياطة أكثر من ذلك، وهكذا لو كان المتعارف ضريبة الملك على المالك، فبعد الإجارة أو البيع، امتنع المالك عن أدائها، ولذلك أمثلة كثيرة في المعاملات والتصرفات.

 

 

 

المصدر العاشر
التلازم القطعي

التلازمُ القطعيُّ الثابتُ من الشرع بين أمرين، مثل قول
الصادق  عليهم السلام : (إذا قَصَّرْتَ أفْطَرْتَ)([394])، فإذا ثَبَتَ التقصير في موردٍ ثَبَتَ الإفطارُ فيه، وهذا يرجع للسنة، لثبوتِ التلازُمِ بواسطتها، وإنْ أرجعه بعضهم لدليل العقل([395])، باعتبار انضمام حكم العقل إليه من امتناع انفكاك المتلازمين، وكيف كان فهو لا يخرج عن دليل العقل والسنة.

 

 

 

المصدر الحادي عشر
عدم الدليل

الحادي عشر: عدم الدليل، فإنّه عندهم دليلٌ على العدم، وقد يعبّر عنه بعدم الوجدان، ويجعل دليلاً على عدم الوجود، فيقال: عدم الوجدان دليل على عدم الوجود.

وهو أعمُّ من أصل البراءة مُطلقاً، لاختصاص أصل البراءة بالأحكام الشرعية التكليفية، وأمّا عدم الدليل، وعدم الوجدان، فهو يجري فيها، وفي غيرها من المسائل الأصولية، كعدم الدليل على حجية الخبر دليلٌ على عدم حجيته، بل ويجري في مباحث الألفاظ، كعدم الدليل على وضع الشارع للألفاظ دليلٌ على عدم وضعه لها.

فيكون عدم الدليل أعمُّ من أصل البراءة مطلقاً؛ لأنّ أصل البراءة مختصٌ بنفي الوجوب والحرمة التكليفيين على ما هو المشهور([396]).

وعدم الدليل يعم جميع الموضوعات، والأحكام الإلزامية، والأحكام الوضعية، والتكليفية.

نعم، لو قلنا مفادُ أدلّة البراءة نفيُ العقاب والمؤاخذة، تكونُ النسبة بينهما بحسب مدلوله المطابقي التبايُن الكلّي، وكيف كان؛ فأصلُ البراءة أصلٌ فقاهي، وعدمُ الدليل دليلٌ اجتهادي، فهو عند العامل به أمارة على عدم الحكم الشرعي، وينسب([397]) القول به للشيخ([398])، وابن زهرة والفاضلين([399]) والشهيد([400])، وغيرهم([401])، ويستند في حجيته، إلى قضاء العادة، واستمرار السيرة من العقلاء والفقهاء على ذلك، وأن السيرة ثابتة في الموارد عموم البلوى بها، وتتوافر الدواعي فيها.

إلاّ أنّ التحقيق أن يقال: إنّ عدم الدليل على الشيء إنْ أفاد القطع بعدم ذلك الشيء فلا إشكال في حجيته، كما في الموارد التي لو وجد الدليل على الحكم لظهر لأغلب الناس، وكما يقال في الأمور الشرعية العامة البلوى، فإنّ عدم الدليل على التكليف بها دليلٌ على عدم التكليف بها.

وأمّا إذا كان لا يفيدُ القطع، فإنْ استقرَّ بناءُ العقلاء وسيرتهم على الأخذ به في الموارد، كما في وضع الألفاظ أخذ به، وإلاّ فلا دليلَ على حجيته واعتباره، فإنّ عدم الوجدان لا يدلُّ على عدم الوجود.

نعم، في الأحكام الشرعية، عدمُ الدليل عليها يُوجبُ قُبْحَ العقاب على مخالفتها، لقاعدة قبح العقاب بلا بيان، لا أنه يوجب انكشاف عدم وجودها، فيكون أصلاً فقاهياً، ولا دليل عليه إلا أدلّة أصل البراءة، بخلافه على الأول، فإنه يكون دليلاً اجتهادياً مستنده قضاء العادة والسيرة.

هذا، وعدم الدليل غير أصل العدم، فإن أصل العدم إنما هو من الأصول اللفظية، كأصالة عدم القرينة، وأصالة عدم التجوز، ونحوها.

 

 

 

المصدر الثاني عشر
التسامح في أدلة السنن

وهو يرجع للسنة؛ لأنه لا دليل عليه إلاّ الأخبار الدالة على أنَّ من بَلَغَهُ ثوابُ عَمَلٍ، فأتى به، فله ذلك الثواب([402])، وأما إذا قلنا بأنه مستفاد من العقل، باعتبار حكم العقل بحسن جلب المنفعة المحتملة([403])، وبقيام الخبر الضعيف على المطلوبية، يحتمل النفع، فهو من الدليل العقلي الاستلزامي، باعتبار أنَّ بلوغ الثواب يستلزم ذلك، لحسن كمال اهتمام العبد في استرضاء مولاه عقلاً، وقد تقدّمَ البحثُ في ذلك مفصلاً في مبحث حجية السنة والخبر، فراجعه([404]).

 

 

 

المصدر الثالث عشر
الاستقراء

فإنّه يرجع لحكم العقل الاستلزامي الظنّي، باعتبار أنَّ ثبوتَ الحكم لأغلب أفراد الكلّي، يستلزم عقلاً بنحو الظنّ ثبوتُهُ لكُلِّيّها، ولباقي أفراده؛ لأنّ ثبوته لأغلب أفراد الكلّي يدرك العقل منه أنَّ طبيعة الكلّي تقتضي ثبوته لها أينما وجدت وحلّت.

وتوضيح الحال: إنّ الاستقراء لغةً هو عبارة عن التتبع([405])، وقَصْدُ القُرى قريةً فقرية.

واصطلاحاً: عبارةٌ عن الحكم على الكلّي بما وُجِدَ في جزئياته([406])، كما في المصابيح، أو بما وُجِدَ في الجزئيات كما في القوانين([407])، قال في النهاية: المراد به إثباتُ الحكم في كلّيٍّ لثبوته في جزئياته، وفي الشمسية: هو الحكم على كلّيٍّ لوجوده في أكثر جزئياته([408])؛ قال الشارح: لأنّ الحكم لو كان موجوداً في جميع جزئياته لم يكن استقراءاً، بل قياساً، ثم قال: ويسمّى استقراءً؛ لأن مقدماته لا تحصل إلا بتتبع الجزئيات، كقولنا: (كُلُّ حيوانٍ يُحرِّكُ فَكَّهُ الأسفل عند المضغ)؛ لأنّ الإنسان والبهائم والسباع كذلك، ثمّ قال: وهو لا يفيد اليقين، لجواز وجود جزئيٍ آخر لم يُستقرأ، ويكون حكمه مخالفاً لما استقرئ، كالتّمساح، حيث نسمع إنه يحرك فكه الأعلى عند المضغ([409]).

ثم لا يخفى عليك، إنَّ التعاريف المذكورة للاستقراء المصطلح في هذا الفن بأسرها مخدوشة ومنقوضة عكساً؛ لعدم شمولها لما إذا قطعنا بانتفاء الحكم في بعض الجزئيات، مع وجوده في غالبها، ولا ريبَ أنَّ العاملين بالاستقراء يأخذون به في الصّورة المذكورة، ويلحقون الجزئيّ المشكوك بالغالب في هذا الحكم، وإنْ حصل لهم القطع بانتفائه عن بعض الجزئيات، ولا ريبَ أنّه
لا يصدق على الاستقراء في الصورة المفروضة أنّه الحكم على الكلّي، إذ لو كان الاستقراء موجباً للحكم على الكلّي امتنعَ انتفاؤه عن بعض الأفراد كما
لا يخفى.

ومن هذا الباب ما اشتهر: من أنّ الشيء يلحق بالأعمّ الأغلب([410])، إلاّ اللّهم أن يقال: إن مرادهم بها بيان مصطلح أهل الميزان، وهو كما ترى منافٍ لما نقلناه عن علماء الأصول في الكتب الأصولية، أو يقال: إنَّ الاستقراءَ في الصورة المفروضة غيرُ معتَبَرٍ عندهم، وهو أيضاً منافٍ لتصريح جَمْعٍ([411]) منهم كالاسترآبادي في المصابيح حيثُ قال: والأقوى هو التَّفْصيل، بأنْ نقولَ بالحُجيّة في الأحكام الشرعية عند تحقُّق المظنّة المطمئنة بها النفس، سواء تحقَّقَ الاستقراءُ في الأجناس، أو الأنواع، أو الأصناف، أو الأشخاص، وسواءٌ ظَهَرَ في مخالفة بعض الأفراد أم لا([412]).

أقول: إذا عَرَفْتَ هذا، فنقول: الأصَحُّ في تعريف الاستقراء في مُصْطَلَحِ هذا الفنّ، أنْ يقال: هو تَصَفُّحُ الجزئيات لتعَدّي الحكم الثابت في غالبها إلى الجزئي المشكوك، الواقع في عَرَضها ومرتبتها.

أو هو تصفّحُ الجزئيات لالتحاق الجزئي المشكوك الواقع في عَرَضِها بحُكْمِ غالبها، أو هو الحُكْمُ على الجزئيّ المشكوك بما وُجِدَ في غالب الجزئيات الواقعة في عَرَضِهِ، سواءٌ كانت الجزئيات المستقرأ فيها مع الجزئي المشكوك أفراداً لصنفٍ واحد، أو أصنافاً لنوع واحد، أو أنواعاً لجنسٍ واحد، فيشمل جميع أفراده.

ثم أنّه قد اشتهر بينهم أنَّ الاستقراء على قسمين([413]):

الأول: الاستقراءُ التام، وهو ما وُجِدَ الحُكْمُ في جميعِ الجزئيات، مثل أنْ يقال: (إنَّ الجسم إمّا حيوان أو نبات أو جماد)، وكلٌّ منها مُتحيِّز، فكلُّ جسمٍ مُتحيِّزٌ، وهو المسمَّى بالقياس المقسم، قال في النهاية([414]): إنّه دليلٌ صحيح؛ وفي القوانين: هو مفيد لليقين، ولا ريب في حجيته([415]).

لكن لا يخفى، أنّه لا يكادُ يوجدُ في الأحكام الشرعية، كما أنَّه ليس ذلك من الاستقراء المصطلح عندنا معاشر الأصوليين([416])، ولا بمثمرٍ لنا في شيء، إذ المفروض ثبوتُ الحكم في كُلِّ واحدٍ من الجزئيات بدليلٍ مُنفَصِلٍ، بحيثُ لا يوجد في البين فردٌ مشكوك، وقد صَرَّحَ في النهاية بأنَّ إطلاق الاستقراء في كلماتهم
لا يشمل هذا القسم.

إنْ قلتَ: إنَّ المشكوكَ حينئذٍ هو نَفْسُ الكُلِّي، وبعد وجود الحكم في جميع الجزئيات، نقطعُ بأنَّ نفس الكلّي حكمه ما وجدناه في جميع جزئياته، فيثمر في مثل ما لو فرضنا وجود فردٍ من هذا الكلّي في الأزمنة الآتية، ونشُكُّ في مشاركته مع الجزئيات الموجود المستقرأ فيها وعدمها، فَنحْكُمُ بالمشاركة لوجود الكلّي في ضمنه قطعاً، وثبوتُ الحكم لنفسِ الكُلّي للاستقراء في جميع جزئياته.

قلنا: لا يخفى ما فيه، إذ لَعَلَّ هذا الفرد ليس حكمه حكمُ كلِّيّهِ، فالأولى أنْ يقال: إنْ حَصَلَ القطعُ أو الاطمئنان بذلك فهو، وإلاّ فلا دليلَ على أنَّ حكم هذا الفرد هو عَينُ حُكْمِ كُلّيّه.

لا يقال: إنَّ الحكم إذا ثَبَتَ للكلّيِّ بنَصٍّ، فإنَّ الأفراد لهذا الكلّي الحادثة في الأزمنة المتأخّرة يثبت لها حُكْمُ ذلك الكلّي، فكذا ما نحن فيه.

فإنّا نقولُ: نَعَم، ولكنْ يَثْبُتُ بواسطة ظهور اللفظ وإطلاقه، وفي المقام ليس لنا ذلك، ولذا لو قَامَ الإجماعُ على حُكْمٍ كُلِّيٍّ، ولم يَكُنْ له مَعْقِدٌ، يستشكل في ثبوتِ حُكْمِ ذلك الكُلّيِّ لأفراده الحادثة.

والثاني: الاستقراءُ النّاقِصُ، وهو ما وُجِدَ الحكم في أكثر جزئياته، كما نقلنا عن شارح الشمسية من التمثيل به([417])، وهذا القسم هو الّذي ينصرف إطلاق لفظ الاستقراء إليه، كما صَرَّحَ به في النهاية، ويَصْدُقُ عليه التّعريفاتُ المذكورة.

ثم أنّه لا ريبَ في كونِهِ مفيد للظّن، بل قد يفيد القطع، ولو بانضمام العادة، كما لا يخفى، خلافاً للعلامة في النهاية، حيثُ قال([418]): والأقربُ أنّه لا يفيد الظنَّ أيضاً إلاّ بدليلٍ مُنْفَصِلٍ، تَبَعَاً للمحقِّقِ في المعارج حيثُ مَنَعَ إفادتَهُ للظنّ أيضاً([419])، على ما حكي عنه في المفاتيح([420])، وهو مخالفٌ للحِسِّ والوجدان والظن المستفاد من الاستقراء بتفاوت درجته، وبتفاوتِ كثرة الأفراد المستقرأ فيها، بل ربما يحصل منه كثرتها الظنّ المتاخم للعلم، كما صَرَّحَ به غير واحد([421]).

بقي الكلامُ في حجية هذا القسم من الاستقراء، وعدم حجيته؛ فنقول: اختلفوا فيه على قولين:

فقولٌ بالحُجيّة في الأحكام الشرعية، وهو مختار المحقق الثالث([422])، والمقدس الاسترآبادي([423])، وشريف العلماء([424])، وهو المحكي عن جمهور القائلين بحجية الظن المطلق([425])، كما استفاده السيد السند في المفاتيح، ونفى الوفاق على عدم حجية الاستقراء، وترقى عن ذلك ونفى الشهرة على عدم حجيته، واستفادة حجيته من القائلين بحجية مطلق الظن، وعلل ذلك بقوله: لأنه من الظنون التي لم يقم دليل على عدم حجيته([426])، بل يظهر من الكرباسي حجية الاستقراء في اللغات، وحكي([427]) عن ابن الحاجب([428])، وصاحب المعالم([429])، أنه طريقٌ قَطْعِيٌّ لا ينكر، أي في اللغات، وبه انقطع النزاع بين كافة العلماء في الحقيقية الشرعية.

ثم استكشف الكرباسيّ المذكور من كلامهما كون حجيّته في اللغات متفق عليها بينهم([430]).

ثم قال: وهو في الجملة مما لا رَيْبَ فيه([431])، لكنّ الاسترآبادي صَرَّحَ بعدَمِ حُجيّتِهِ في اللغات.

وقولٌ بعَدَمِ حُجيَّةِ هذا القسم، وهو المحكيّ عن المحقّق في المعارج([432])، والعلّامة في النهاية([433])، والمنسوب إلى القائلين بحجيّة الظّن المخصوص، وهو الحقُّ لعدم الدليل المعتبر على حُجيّتِهِ، حيثُ إنّا لا نقولُ بحجيّةِ الظنِّ المطلق، كما سيجيء إنْ شاء الله.

 

 

 

المصدر الرابع عشر
ثبوت الحكم في الشرائع الإلهية السابقة

ثبوت الحكم في الشرائع الإلهية السابقة، كالنصرانية واليهودية، ولم ينسخ في شرعنا، وكان مسكوتاً عنه.

فجمهور الفقهاء على الالتزام به في شرعنا([434])، ويحكى الخلاف عن الأشاعرة([435])، والمعتزلة([436])، وبعض الشافعية([437])، بدعوى أن الشرائع السابقة

 


([1]) ماضي النجف وحاضرها، الشيخ جعفر ال محبوبة، ج1، ص176.

([2]) آل كاشف الغطاء مناهل عطاء، شاكر جابر موسى البغدادي، ص23.

([3]) العبقات العنبرية في الطبقات الجعفرية، الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء، ص12.

([4]) ماضي النجف وحاضرها، الشيخ جعفر ال محبوبة، ج1، ص183.

([5]) ذروٌ من حياة الشيخ علي كاشف الغطاء، السيد عبد الستار الحسني، ص10- 11.

([6]) المصدر السابق، ص11.

([7]) مقدمة رسالة الماجستير الموسومة، الشيخ علي كاشف الغطاء ودوره الإصلاحي الديني في العراق.

([8]) ماضي النجف وحاضرها، الشيخ جعفر ال محبوبة، ص176.

([9]) موسوعة العتبات المقدسة، جعفر الخليلي، ص245.

([10]) ذِرْوٌ من حياة الشيخ علي كاشف الغطاء، السيد عبد الستار الحسني، ص14.

([11]) ذِرْوٌ من حياة الشيخ علي كاشف الغطاء، السيد عبد الستار الحسني، ص36.

([12]) الفصول الغروية من الأصول الفقهية، الشيخ محمد حسين الحائري، ص226.

([13]) الفوائد المدنية والشواهد المكية، المولى محمد أمين الاسترآبادي، ص49.

([14]) ذكر الاخباريون روايات تدل على مطلبهم، حتّى جعل لها في الوسائل باباً خاصاً ذكر فيه 82 حديثاً، وأسماه: باب عدم جواز استنباط الأحكام النظرية من ظواهر القرآن، إلا بعد معرفة تفسيرها من الأئمة المعصومين. وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة، محمد بن الحسن الحر العاملي، ج27، ص176، ص206، باب 13 من أبواب صفات القاضي.

([15]) ومنهم جماعة من الاخبارية المدعين انحصار مدارك العلم بالأحكام في الأخبار المأثورة عن
الأئمة G، وأول من أشار إلى ذلك المحدث الأمين الاسترآبادي، وقد ذكر ذلك في الفوائد المدنية. هداية المسترشدين، الشيخ محمد تقي الرازي، ج3، ص539 - 540.

([16]) الفوائد المدنية والشواهد المكية، المولى محمد أمين الاسترآبادي، ص104. والمولى الاسترآبادي من علماء الأخبارية، بل هو رئيس المحدثين وكبيرهم، توفي سنة (1033هـ).

([17]) التبيان في تفسير القرآن، أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي، ج1، ص4 - 5.

([18]) نهاية الوصول إلى علم الأصول، الحسن بن يوسف بن المطهر الحلي، ج1، ص354.

([19]) الحشوية: وسُمّي الحشويةُ حشويَّةً؛ لأنهم يحشون الأحاديث التي لا أصل لها. المقالات والفرق، سعد بن عبد الله الأشعري، ص136.

([20]) نذكر بعض مصادره من الفريقين: كتاب سليم بن قيس، ص201. عيون أخبار الرضا B، الشيخ الصدوق، ج1، ص34، ح40. ص68، ح259. كمالُ الدّين وتمامُ النعمة، الشيخ الصدوق، ص235، ح46. ص236، ح52. ص238، ح56. ص239، ح58. الأمالي، الشيخ المفيد، ص134 - 135، ح3. الأمالي، أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي، ص161 - 162، ح268. ص255، ح460. مسند أحمد، الإمام أحمد بن حنبل، ج3، ص14، ص17. المستدرك على الصحيحين، الحاكم النيسابوري، ج3، ص148. خصائص أمير المؤمنين، النسائي، ص93. وغيرها كثير.

([21]) الاصول من الكافي، أبو جعفر محمد بن يعقوب الكليني، ج2، ص599، كتاب فضل القرآن، ذيل ح2.

([22]) المصدر السابق، ج2، ص600، كتاب فضل القرآن، ح8.

([23]) المصدر السابق، ج1، ص8. ج6، ص58، باب من طلق لغير الكتاب والسنة، ح2.

([24]) سورة البقرة، الآية 2.

([25]) سورة القمر، الآية 17.

([26]) ملاذ الأخيار في فهم تهذيب الاخبار، العلامة محمد باقر المجلسي، ج10، ص389.

([27]) عوالي اللئالي العزيزية في الأحاديث الدينية، ابن أبي جمهور الإحسائي، ج4، ص104، ح154.

([28]) وسائل الشيعة، محمد بن الحسن الحر العاملي، ج18، ص151، باب 13 من أبواب صفات القاضي، ح79.

([29]) الأمالي، الشيخ الصدوق، ص55، المجلس الثاني، ح3.

([30]) مجمع البيان في تفسير القرآن، الشيخ الفضل بن الحسن الطبرسي، ج1، ص39.

([31]) وسائل الشيعة، محمد بن الحسن الحر العاملي، ج27، ص192، ح41. ص203، ح69، ح73. ص204، ح74، باب 13 من أبواب صفات القاضي.

([32]) قال: والأحاديث في ذلك كثيرة جدا، وكذا أحاديث الأبواب السابقة، وإنما اقتصرت على ما ذكرت لتجاوزه حد التواتر. وسائل الشيعة، محمد بن الحسن الحر العاملي، ج27، ص205، باب 13 من أبواب صفات القاضي.

([33]) المكاسب، الشيخ مرتضى الأنصاري، ج1، ص155.

([34]) سورة المائدة، الآية 1.

([35]) سورة البقرة، الآية 275.

([36]) سورة النساء، الآية 29.

([37]) سورة البقرة، الآية 283.

([38]) سورة النساء، الآية 5.

([39]) سورة الأنعام، الآية 152. سورة الإسراء، الآية 34.

([40]) سورة النساء، الآية 24.

([41]) سورة الحجرات، الآية 6.

([42]) سورة التوبة، الآية 122.

([43]) سورة النحل، الآية 43.

([44]) سورة النحل، الآية 75.

([45]) سورة التوبة، الآية 91.

([46]) سورة التوبة، الآية 28.

([47]) سورة البقرة، الآية 222.

([48]) قال: قرأ أهل الكوفة إلاّ حفصاً (حتى يطّهّرن) - بتشديد الطاء والهاء - الباقون بالتخفيف. البيان في تفسير القرآن، أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي، ج2، ص219.

([49]) سورة البقرة، الآية 223.

([50]) قال: وفي الباب عن حفصة عند مالك في الموطأ، قال عمرو بن رافع: إنه كان يكتب لها مصحفا، فقالت له: إذا انتهيت إلى (وحافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى) فآذنِّي، فآذنتها، فقالت: اكتب: (والصلاة الوسطى وصلاة العصر وقوموا لله قانتين). نيل الأوطار من أحاديث سيد الأخيار، محمد بن علي الشوكاني، ج1، ص399.

([51]) تفسير القرآن، عبد الرزاق الصنعاني، ج1، ص193. جامع البيان عن تأويل آية القرآن، محمد بن جرير الطبري، ج7، ص41، ح9754 - 9755. تفسير ابن كثير، اسماعيل بن عمر بن كثير، ج2، ص9.

([52]) لعل السبب في تقديم الإجماع على السنة هو أن الإجماع حاكٍ عن السنة، فهو لو تم يكون سنة مجمع عليها.

([53]) لسان العرب، ابن منظور، ج8، ص57.

([54]) لم نعثر على الحكاية عن القاضي والجويني، وأما الغزالي فحكاه عنه في درر الفوائد، الشيخ عبد الكريم الحائري، ج2، ص371.

([55]) هو أبو بكر محمد بن الطيب بن محمد بن جعفر بن القاسم الباقلاني، أو ابن الباقلاني، ولد بالبصرة، وعاش في بغداد وفيها مات سنة (403هـ).

([56]) وهو أبو المعالي عبد الملك بن عبد الله الجويني، المعروف بإمام الحرمين، شافعيٌ، له مؤلفات عديدة، منها الورقات في أصول الفقه، البرهان في أصول الفقه، الإرشاد في الكلام، العقيدة النظامية، توفي سنة (478هـ). أُنظر وفيات الأعيان، ابن خلكان، ج3، ص167 - 169.

([57]) الغَزَّالي هو أبي حَامِدْ مُحمَّد بن محمد بن محمد الغزالي، فيلسوف، متصوف، له مؤلفات في الكلام والجدل وأصول الفقه والفقه، بلغت نحو مائتي مصنف، توفي سنة (505هـ). المستصفى في علم الأصول، أبو حامد الغزالي، ص137.

([58]) المحصول في علم أصول الفقه، فخر الدين محمد بن عمر الرازي، ج4، ص20.

([59]) قائلا: وقال مالك: إجماع أهل المدينة حجة نقله ابن حجر في فتح الباري، ج13، ص256. قال الدسوقي في حاشيته: ومذهب مالك أن إجماع أهل المدينة حجة، ج4، ص153.

([60]) قال الغزالي في ما نصه: ذهب داود وشيعته من أهل الظاهر إلى أنه لا حجة في إجماع من بعد الصحابة. المستصفى في علم الأصول، أبو حامد الغزالي، ص149.

وداود الظاهري: هو أبو سليمان داود بن علي بن خلف، إصبهاني الأصل، سكن بغداد، المشهور بداود الظاهري، نسبة إلى ظاهر نصوص الكتاب والسنة، لتمسكه به، ولد في الكوفة، وكان رئيس أهل الظاهر، ومؤسس المذهب الظاهري، له مؤلفات كثيرة، منها: الإيضاح، الإفصاح، الأصول، توفي في بغداد سنة (270هـ).

([61]) أنظر: القوانين المحكمة في الأصول المتقنة، الميرزا أبو القاسم القمي، ج2، ص261.

والنظّام: هو إبراهيم بن سيار النظام، رأس المعتزلة، وهو من الموالي، وقد ضاعت كُلُّ كُتُبِهِ، ولكن آراءه ذكرت في ثنايا الكتب.

([62]) الحدائق الناضرة، المحدث يوسف بن أحمد البحراني، ج22، ص340. الفصول المهمّة في أصول الأئمة، محمد بن الحسن الحرُّ العامليُّ، ج1، ص553.

([63]) قال ما نصه: والذي نذهب إليه أن الأمة لا يجوز أن تجتمع على خطأ، وأنّ ما يجمع عليه لا يكون إلاّ حُجَّة. العدّة في أصول الفقه، أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي، ج2، ص602، ص631. القوانين المحكمة في الأصول المتقنة، الميرزا أبو القاسم القمي، ج2، ص234. فرائد الأصول، الشيخ مرتضى، ج1، ص197.

([64]) ويُسمَّى الإجماع المدركي.

([65]) وقال: (.. فالعادة أيضا تحيلُ اتّفاقهم على الحكم الواحد، كما أنّها تحيلُ اتفاقهم على طعام واحد، وهو باطل، فإنّه إنْ كانَ إجماعهم عن دليل قاطع، فإنّما يمتنع عَدَمُ نَقْلِهِ أنْ لو دَعَتْ الحاجة إليه). الإحكام في أصول الأحكام، سيف الدين الآمدي، ج1، ص197.

([66]) سورة النساء، الآية 115.

([67]) قال بعد ذكر الآية: فقد أوجب به اتباع سبيل المؤمنين، وحظر مخالفتهم، فدَلَّ على صحة إجماعهم. الفصول في الأصول، أحمد بن علي الرازي الجصاص، ج3، ص262.

([68]) سورة آل عمران، الآية 110.

([69]) قال بعد ذكر الآية: فشهد للأمة بهذه الخصال، ولو جاز إجماعهم على الخطأ لما كانوا بهذه الصفة، ولكانوا قد أجمعوا على المنكر وتركوا المعروف. الفصول في الأصول، أحمد بن علي الرازي الجصاص، ج3، ص263.

([70]) سورة البقرة، الآية 143.

([71]) قال: فإنه لما وصف الأمة بالعدالة بقوله تعالى: [جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا]، فجعلهم شهداء بعد وصفه إياهم بالعدالة. الفصول في الأصول، أحمد بن علي الرازي الجصاص، ج3، ص261.

([72]) الرواية مذكورة في تنبيه الغافلين لأبي الليث السمرقندي، وهو ليس في أيدينا، والحديث مذكور في جامع بيان العلم وفضله، ابن عبد البر، ج2، ص26، واستدلّ به الكثير من الأصوليين.

وأبو اللّيث السَّمْرقندي: هو أبو الليث نَصْرُ بن مُحَمَّد بنُ إبراهيم بن الخطّاب الفقيه، الحنفي، له مصنّفاتٌ كثيرة، منها: بستانُ العارفين، تفسيرُ القرآن، تنبيهُ الغافلين، حصر المسائل في الفروع، وغيرها، توفي سنة (373هـ).

([73]) نسبه إليهم المحقق النراقي في عوائد الأيام، ص702، قائلاً: إذ المصرّح به في كلام أرباب الاصطلاحين الأولين، أن الإجماع هو: اتفاق كلّ العلماء، أو اتفاق كلّ علماء الرعية.

([74]) تقدم في قوله: وأنكر حجيته النظام المتوفى سنة (231هـ)، فراجع.

([75]) هو السيد الشريف أبو القاسم علي بن الحسين بن موسى بن محمد بن موسى بن إبراهيم ابن الإمام موسى بن جعفر H، الأجلّ المرتضى، علم الهدى، مقدم في العلوم، مولده في رجب سنة (355هـ)، كان أوحد أهل زمانه علماً وكلاماً وفقهاً وحديثاً وشعراً، له مؤلفات عديدة، منها: المقنع في الغيبة، تنزيهُ الأنبياء، الشافي في الإمامة، الانتصار، الناصريات، وغيرها كثير، توفي سنة (433هـ). اُنظر: أمل الآمل، محمد بن الحسن الحُرّ العاملي، ج2، ص182 وما بعدها.

([76]) هو الشيخ سعد الدّين بن عبد العزيز بن نحرير (بحر) بن عبد العزيز بن براج الطرابلسي، من كبار فقهاء الشيعة الإمامية، تلميذ السيد المرتضى، له مؤلّفات عديدة، منها: المهذّب، المعتمد، الرّوضة، وغيرها كثير، توفي سنة (481هـ). اُنظر مستدركات أعيان الشيعة، محسن الأمين، ج1، ص91 وما بعدها.

([77]) هو محمد بن أحمد بن الجُنَيد، أبو علي الإسكافي، وجهٌ في أصحابنا، ثقة، جليل القدر، صَنَّفَ فأكثر، لقب بالإسكافي لأنه منسوب إلى إسكاف، وهي من النهروانات في العراق، له مؤلفات كثيرة جدا، لم يصلنا منها شيء، منها: تهذيب الشيعة لأحكام الشريعة، الأحمدي في فقه المحمدي، توفي سنة (381هـ). راجع رجال النجاشي، ابو العباس احمد بن علي النجاشي، ص358، ر1047.

([78]) هو السيد أبو المكارم حمزة بن علي بن زهرة الحلبي، ينتهي نسبه إلى الإمام الصادق B، من كبار علماء الشيعة الإمامية، له مؤلفات عديدة، منها: غنية النزوع إلى علم الأصول والفروع، توفي سنة (585هـ). أعيان الشيعة، السيد محسن الأمين، ج3، ص9.

([79]) هو الشيخ أبو يعلى حمزة بن عبد العزيز الديلمي الطبرستاني، المعروف بــ(سلاّر)، ذكره ابن داود في رجاله، قائلاً: فقيه، جليل، معظم، من تلامذة المفيد والسيد المرتضى، من تصانيفه: كتاب الأبواب والفصول في الفقه، والرسالة التي سمّاها المراسم (المراسم العلوية)، وغير ذلك P، توفي سنة (448هـ). رجال ابن داود، ص104، ص711.

([80]) هو العلامة الكبير ذو الفنون فخر الدين محمد بن عمر بن الحسين القرشي البكري الطبرستاني الأصولي المفسّر، كبير الأذكياء والحكماء والمصنفين، ولد سنة أربع وأربعين وخمس مئة، مات بهراة يوم عيد الفطر سنة ست وستمئة وله بضع وستون سنة. اُنظر: سير أعلام النبلاء، شمس الدين محمد بن أحمد الذهبي، ج21، ص501.

([81]) قال: (السلطان العظيم يمكنه جمع علماء العالم في موضع واحد). المحصول في علم أصول الفقه، فخر الدين محمد بن عمر الرازي، ج4، ص34.

([82]) في بيان مناقشة الطريق الأول من طرق تحصيل الاجماع.

([83]) أُنظر: بحر الفوائد في شرح الفوائد، محمد حسن الأشتياني، ج1، ص132.

([84]) مرآة العقول، العلامة محمد باقر المجلسي، ج1، ص23.

([85]) معالم الدين وملاذ المجتهدين، الشيخ جمال الدين الحسن ابن الشهيد الثاني، ص175.

([86]) المحصول في علم أصول الفقه، فخر دين محمد بن عمر الرازي، ج4، ص34 - 35.

([87]) النص موجود في شرح مختصر المنتهى الأصولي، لابن الحاجب، ج2، ص319.

([88]) المصدر السابق.

([89]) لعله يشير إلى ما في جامع بيان العلم وفضله، ابن عبد البر، ج2، ص40.

([90]) الذريعة إلى أصول الشريعة، السيد المرتضى علم الهدى، ج2، ص622.

([91]) العدة في أصول الفقه، أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي، ج2، ص633.

وفي ص637، قال: (فأما إذا أجمعوا على قولٍ فلا يجوز أن يراعى الخلاف الذي بعده؛ لأن بالإجماع الأول علم قول المعصوم في تلك المسألة).

([92]) قال المحقق النراقي: ومنهم الشيخ سديد الدين محمود الحمصي، قال في التعليق العراقي: إن الحُجَّةَ هو الإجماع المشتمل على قولِ المعصوم في الجملة، من غير احتياج إلى العلم بتعيينه. عوائد الأيام، أحمد بن محمد مهدي النراقي، ص674.

والحمصي: هو الشيخ سديد الدين محمود بن علي بن الحسن الحمصي الرازي، المتوفى بعد سنة (583هـ)، صاحب التعليق العراقي، وهو من مشايخ الشيخ منتجب الدين، ترجمه وذكر تصانيفه التعليق الكبير، والتعليق الصغير، والتعليق العراقي. الذريعة إلى تصانيف الشيعة، الشيخ آغا بزرك الطهراني، ج2، ص319.

([93]) قواعد المرام في علم الكلام، ميثم البحراني، ص137.

وميثم البحراني هو: كمال الدين ميثم بن علي بن ميثم البحراني، فيلسوف محقق، متكلم بارع، فقيه، محدث، عالم رباني، من مؤلفاته: آداب البحث، اختيار مصباح السالكين (شرح على نهج البلاغة)، استقصاء النظر في إمامة الأئمة الإثني عشر، البحر الخضم (في الالهيات)، شرح الإشارات، غاية النظر، ولد سنة (636هـ)، وتوفي سنة (689هـ) وقيل: سنة (679هـ) وقيل: (699هـ). اُنظر الكنى والألقاب للشيخ عباس القمي، ج1، ص433. أعيان الشيعة، السيد محسن الأمين، ج10، ص197.

([94]) المعتبر في شرح المختصر، المحقق الحلي، ج1، ص31.

([95]) ذكرى الشيعة في أحكام الشريعة، الشهيد الأول، ج1، ص49 - 50.

([96]) العماد الدّاماد هو: العلامة الفيلسوف العماد مير محمد باقر الداماد، ابن بنت الشيخ الكركي، توفي سنة (1041هـ).

([97]) الغيبة، أبو جعفر محمد بن الحسين الطوسي، ص20.

([98]) الانتصار، على بن الحسين الشريف المرتضى، ص81.

([99]) الشافي في الإمامة، علي بن الحسين الشريف المرتضى، ج1، ص78.

([100]) غُنيةُ النّزوع، ابن زُهْرَة الحلبي، ص243.

([101]) كنزُ الفوائد، ابو الفتح الكراجكي، ص193.

([102]) الكراجكي الشيعي مُحمَّد بن علي أبو الفتح الكراجكي شيخ الشيعة، والكراجكي بكافين وجيم هو الخيمي، مات بصور في شهر ربيع الأول سنة تسع وأربعين وأربعمائة، وكان من فحول الرافضة، بارعاً في فقههم، لقي الكبار مثل المرتضى، له كتاب تلقين أولاد المؤمنين، والأغلاط فيما يرويه الجمهور، وموعظة العقلاء للنفس والمنازل، وكتاب عدد ما جاء في الاثني عشر، وكتاب المؤمن. الوافي بالوفيات، الصفدي، ج4، ص96.

([103]) قال: وإجماعُ العلماء من الإمامية يقتضي دخول الحجة المعصوم في جُمْلَتِهِم لكونه واحدا منهم. الكافي في الفقه، ابو الصَّلاح الحلبي، ص507.

([104]) هو أبو الصَّلاح تقيّ أو تقيّ الدّين بن نجم أو نجم الدّين بن عبيد الله بن عبد الله بن محمد
الحلبي، وُلِدَ بحَلَب سنة (347هـ) وتوفي بها سنة (447هـ). قال الشيخ في رجاله فيمن لم يرو
عنهم G: تقي بن نجم الحلبي، ثقة، له كتب، قرأ علينا وعلى المرتضى، يكنى أبا الصلاح.
له مصنَّفاتٌ كثيرةٌ، منها: (الكافي في الفقه، التهذيب ذكره الذهبي، المرشد في طريق التعبد ذكره الذهبي ايضاً، تقريبُ المعارف نسخة منه في مكتبة الحسينية في النجف الأشرف). أعيان الشيعة،
السيد محسن الأمين، ج3، ص634 - 635.

([105]) واستدل بعضهم بقوله تعالى [فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ]: على أنّ إجماع الأمّة حُجّة بأنْ قالوا: إنّما أوجب الله الرد إلى الكتاب والسنة بشرط وجود التنازع، فدلَّ على أنّه إذا لم يوجد التنازع لا يجب الردُّ، ولا يكونُ كذلك إلاّ والإجماع حجة. وهذا الاستدلال إنما يصح
لو فرض أن في الأمة معصوماً حافظاً للشرع. مجمع البيان في تفسير القرآن، الشيخ الفضل بن
الحسن الطبرسي، ج3، ص115.

([106]) العدة في أصول الفقه، أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي، ج2، ص642.

([107]) كمال الدين وتمام النعمة، الشيخ الصدوق، ص139، باب 4 في غيبة إبراهيم B، ذيل ح7، والحديث طويل.

([108]) سورة الرعد، الآية 7.

([109]) الاصول من الكافي، أبو جعفر محمد بن يعقوب الكليني، ج1، باب أن الأئمة G هم الهداة، ص191- 192، ح2 - 3 - 4.

([110]) كمال الدين وتمام النعمة، الشيخ الصدوق، باب 21 العلة التي من أجلها يحتاج إلى الإمام B، ص207، ح22.

([111]) الأصول من الكافي، أبو جعفر محمد بن يعقوب الكليني، ج1، ص68، باب اختلاف الحديث، ح10، والحديث طويل.

([112]) الأصول من الكافي، أبو جعفر محمد بن يعقوب الكليني، ج1، ص178.

([113]) الأصول من الكافي، أبو جعفر محمد بن يعقوب الكليني، ج1، ص68، ح10.

([114]) كمال الدين وتمام النعمة، الشيخ الصدوق، ص207، باب 21 العلة التي من أجلها يحتاج إلى الإمام B، ح22.

([115]) قال: على ما يراه المتأخرون في الإجماع من أنه الاتفاق الكاشف بطريق الحدس. الفصول الغروية في الأصول الفقهية، الشيخ محمد حسين الحائري، ص6. في ص262، وقال: (.. ولا على ما قررناه في معنى الإجماع من أنه الاتفاق الكاشف عن قول المعصوم بالحدس).

([116]) زرارة بن أعين بن سنسن، مولى لبني عبد الله بن عمرو بن السمين بن أسعد بن همام بن مرة بن ذهل بن شيبان أبو الحسن، شيخ أصحابنا في زمانه ومتقدمهم، وكان قارئا، فقيها، متكلما، شاعرا، أديبا، قد اجتمعت فيه خلال الفضل والدين، صادقا فيما يرويه، ومات زرارة سنة خمسين ومائة. رجال النجاشي، ابو العباس احمد بن علي النجاشي، ص175، ر463.

([117]) محمد بن مسلم بن رياح، أبو جعفر الأوقص الطحان، مولى ثقيف الأعور، وجه أصحابنا
في الكوفة، فقيه، صحب أبا جعفر وأبا عبد الله H، وروى عنهما، وكان من أوثق الناس،
ومات محمد بن مسلم سنة خمسين ومائة، رجال النجاشي، ابو العباس احمد بن علي النجاشي، ص323 - 324، ر882.

([118]) ليث بن البختري المرادي أبو محمد، وقيل: أبو بصير الأصغر. رجال النجاشي، ابو العباس احمد بن علي النجاشي، ص321، ر876. قال: سمعت أبا عبد الله B: (بشر المخبتين بالجنة، بريد بن معاوية العجلي، وأبو بصير ليث بن البختري المرادي، ومحمد بن مسلم، وزرارة، أربعة نجباء أمناء الله على حلاله وحرامه، لولا هؤلاء لانقطعت آثار النبوة واندرست). في اختيار معرفة الرجال (رجال الكشي)، أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي، ج1، ص398، ح286.

وفي ح287: (..، ومنهم ليث المرادي وبريد العجلي، وهؤلاء القوامون بالقسط، وهؤلاء السابقون السابقون أولئك المقربون).

([119]) يونس بن عبد الرحمن، مولى علي بن يقطين بن موسى، مولى بني أسد، كان وجها في أصحابنا، متقدما، عظيم المنزلة، ولد في أيام هشام بن عبد الملك، وكان الرضا B يشير إليه في العلم والفتيا..، وكان وكيل الرضا وخاصته، إني سألته فقلت: إني لا أقدر على لقائك في كل وقت، فعمن آخذ معالم ديني؟ فقال: (خذ عن يونس بن عبد الرحمن). اُنظر رجال النجاشي، ابو العباس احمد بن علي النجاشي، ص446، ر1208.

([120]) أُنظر: مقالات الاصول، آغا ضياء الدين العراقي، ج2، ص176.

([121]) أنظر: أوثق الوسائل في شرح الرسائل، موسى التبريزي، ص305.

([122]) عطف على قوله: أو أصل صحيح.

([123]) أنظر: تقريرات في أصول الفقه، تقرير بحث البروجردي، الاشتهاردي، ص281، قال: ثانيهما: أعم من هذا، وهو اتفاق أهل كل فن على أمر متعلق بذلك الأمر، كاتفاق النحوي على مسألة نحوية، والصرفي على الصرفية، ونحو ذلك.

([124]) أُنظر: فرائد الاصول، الشيخ مرتضى الأنصاري، ج3، ص350.

([125]) نسبه إليهم في تحفة الأحوذي، المباركفوري، ج3، ص141 - 142، قائلاً: قلت: العجب من العيني أنه لم يجب عن الإجماع السكوتي بل سكت عنه وهو حجة عنده وعند أصحابه الحنفية.

وقال في إجمال الإصابة في أقوال الصحابة، العلائي، ج1، ص20، وهذا هو المسمى بالإجماع السكوتي، ولأئمة الأصوليين في تصوره طريقان:

أحدهما: من جعل ذلك في حقّ كلّ عصرٍ من عصور المجتهدين، وهذا هو الذي صرح به الحنفية في كتبهم.

عندما نقل قول ابن الهمام الحنفي، وقال: بل ذكر الإمام ابن الهمام وقوع الإجماع السكوتي من الصحابة على الوقوع. تفسير الآلوسي، الآلوسي، ج28، ص130.

([126]) القول الرابع: أنه إجماع بشرط انقراض العصر؛ لأنه يبعد مع ذلك أنْ يكون السّكوتُ لا عن رضا، وبه قال أبو علي الجبائي، وأحمد في رواية عنه. إرشاد الفحول إلى تحقيق علم الأصول، محمد بن علي بن محمد الشوكاني، ج1، ص153.

وتفصيل المذاهب على هذه الطريقة أنّ أحْمَد بن حنبل وجُمْهُورُ الحَنَفيّة وكثيراً من أصحابنا قالوا إنّه إجماع وحجة. وفي إجمال الإصابة في أقوال الصحابة، العلائي، ج1، ص20.

([127]) الثاني: أنّه إجماعٌ وحُجَّةٌ، قال الباجي: وهو قولُ أكثرِ أصحابنا المالكيين، والقاضي أبي الطيّب، وشيخنا أبي إسحاق، وأكثر أصحاب الشافعي. البحر المحيط في أصول الفقه، الزركشي، ج3، ص539.

([128]) الذي ذهب إليه جمهور أصحابنا وبعض الحنفية وداود الظاهري أن ذلك لا يكون إجماعاً ولا حجة. إجمال الإصابة في أقوال الصحابة، العلائي، ج1، ص20.

أقول: العلائي هو صلاح الدين أبو سعيد خليل بن كيكلدي العلائي، وهو شافعي.

([129]) في مسألة اختلاف الخلفاء في القسمة بين الناس، وسكوت الصحابة ورضاهم، قال: لا يقال لشيء من هذا إجماع، ولكن ينسب كُلُّ شيء منه إلى فاعله، فينسب إلى أبي بكر فعله، وإلى عمر فعله، وإلى علي فعله، ولا يقال لغيرهم ممن أخذ منهم موافقة لهم ولا مخالفة، ولا ينسب إلى ساكت قول قائل ولا عمل عامل. كتاب الأم، الإمام الشافعي، ج1، ص178.

قال: مسألة: (الإجماع السكوتي) إذا أفتى بعض الصحابة بفتوى، وسكت الآخرون، لم ينعقد الإجماع، ولا ينسب إلى ساكت قول، وقال قوم: ..، والمختار: أنه ليس بإجماع ولا حجة. المستصفى في علم الأصول، أبو حَامِدْ الغزالي، ص151.

 الأول: أنه ليس بإجماع ولا حجة، قاله داود الظاهري، وابنه المرتضى، وعزاه القاضي إلى الشافعي واختاره، وقال: إنه آخر أقوال الشافعي، وقال الغزالي والرازي والآمدي: إنه نص الشافعي في الجديد، وقال الجويني: إنه ظاهر مذهبه. إرشاد الفحول إلى تحقيق علم الأصول، محمد بن علي بن محمد الشوكاني، ج1، ص153.

ولكن في نسبة نفي الحجية للشافعية كلام، فقد صرح ابن حجر (الشافعي) في فتح الباري: ج12، ص16، بحجيته، قائلاً: فإن الإجماع السكوتي حجة، وهو حاصل في هذا.

وفي ص248: لأن عمر أطاع أبا بكر فيما رأى من حق مانعي الزكاة، مع اعتقاده خلافه، ثم عمل في خلافته بما أداه إليه اجتهاده، ووافقه أهل عصره من الصحابة وغيرهم، وهذا مما ينبه عليه في الاحتجاج بالإجماع السكوتي، فيشترط في الاحتجاج به انتفاء موانع الإنكار.

وفي ص539: وقال النووي في شرح الوسيط: لا تغترن بإطلاق المتساهل القائل بأن الإجماع السكوتي ليس بحجة عند الشافعي، بل الصواب من مذهب الشافعي أنه حجة وإجماع.

وقال في هداية المسترشدين: ويتدرج في الاجماع السكوتي وليس بإجماع عندنا.

([130]) قال: (..، علمت أقواله بإجماع الطائفة التي نقطع على أن قوله في جملة أقوالهم، وإن كان العلم بذلك من أحواله لا يعدو أما المشافهة أو التواتر). رسائل المرتضى، على بن الحسين الشريف المرتضى، ج1، ص11.

وفي ص250، قال: (وهاهنا طريق آخر يتوصل به إلى العلم بالحق والصحيح من الأحكام الشرعية، عند فقد ظهور الإمام وتميز شخصه، وهو إجماع الفرقة المحقة من الإمامية التي قد علمنا أن قول الإمام - وإن كان غير متميز الشخص - داخل في أقوالها وغير خارج عنها).

([131]) قال: (لأن الإجماع عندنا إذا اعتبرناه من حيث كان فيه معصوم، لا يجوز عليه الخطأ، ولا يخلو الزمان منه، وطريق ذلك العقل دون السمع). العدة في أصول الفقه، أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي، ج1، ص8.

([132]) فلم يبق مما يصلح أن يكون المستند في الاجماعات المتداولة على ألسنة ناقليها إلا الحدس. اُنظر: فرائد الأصول، الشيخ مرتضى الأنصاري، ج1، ص198 - 199.

([133]) المفيد والطوسي.

([134]) المرتضى وابن زهرة.

([135]) عوائد الأيام، أحمد بن محمد مهدي النراقي، ص683 - 684.

([136]) الفصول الغروية في الاصول الفقهية، الشيخ محمد حسين الحائري، ص258. وقال في الوافية في أصول الفقه، عبد الله بن محمد البشروي، ص155، (الحق التوقف في الاجماع المنقول بخبر الواحد لما عرفت. ولاختلاف الاصطلاحات في الاجماع، فإن الظاهر من حال القدماء - كالسيد المرتضى والشيخ وغيرهما- إطلاق الاجماع على ما هو المصطلح عند العامة، من اتفاق الفرقة غير المبتدعة - ولو في زمان الغيبة- على أمر. وحينئذ، فكيف الوثوق بالاجماعات الواقعة في كلامهم.

([137]) مفاتيح الاصول، محمد الطباطبائي الكربلائي، ص459، ص461.

([138]) فرائد الاصول، الشيخ مرتضى الانصاري، ج1، ص179.

([139]) تعليقة على معالم الاصول، السيد علي الموسوي القزويني، ج5، ص186.

([140]) أنظر جواهر الكلام، حسن الجواهري، ج9، ص344، ص347.

([141]) ذكرى الشيعة في أحكام الشريعة، الشهيد الاول، ج3، ص323.

([142]) المقاصد العلية في شرح الرسالة الالفية، زين الدين بن علي الشهيد الثاني، ص69.

([143]) نزهة الناظر في الجمع بين الاشباه والنظائر، يحيى بن سعيد الحلبي، ص13.

([144]) تفصيل الشريعة في شرح تحليل الوسيلة كتاب النكاح، فاضل النكراني، ص371.

([145]) الحدائق الناظرة، المحدث يوسف بن أحمد البحراني، ج24، ص88.

([146]) نقلا عن ذخيرة المعاد، محمد باقر السبزواري، ج1، ص6، ق1.

([147]) أنظر: تذكرة الفقهاء، الحسن بن يوسف بن المطهر العلامة الحلي، ج4، ص8.

([148]) أنظر: تذكرة الفقهاء، الحسن بن يوسف بن المطهر العلامة الحلي، ج2، ص137.

([149]) درر الفوائد، عبد الكريم الحائري، ج2، ص653.

([150]) بحوث في علم الاصول، تقريرات بحث محمد باقر الصدر، محمود الشهرودي، ج4، ص317.

([151]) راجع القوانين المحكمة في الأصول المتقنة، الميرزا ابو القاسم القمي، ج2، ص286، وأما العامة، فأكثرهم قد وافقنا على ذلك، وذهب الأقلون منهم إلى الجواز.

([152]) الفوائد المدنية والشواهد المكية، المولى محمد أمين الاسترآبادي، ص573.

([153]) الهداية في الاصول تقرير بحث السيد الخوئي، حسن الصافي، ج3، ص92.

([154]) النور الساطع في الفقه النافع، الشيخ علي كاشف الغطاء، ج1، ص546، ص556، (الطبعة الاولى).

([155]) فرائد الاصول، الشيخ مرتضى الانصاري، ج1، ص83.

([156]) أوثق الوسائل في شرح الرسائل، موسى التبريزي، ص206.

([157]) النهاية في غريب الحديث والأثر، ابن الأثير، ج2، ص409.

([158]) إرشاد الفحول، محمد بن علي بن محمد الشوكاني، ص33.

([159]) ملاذ الأخيار، العلامة محمد باقر المجلسي، ج1، ص203.

([160]) كتاب الأحكام، الشيخ علي كاشف الغطاء، ج2،ص93ـ97.

([161]) زبدة الاصول، بهاء الدين محمد بن الحسين البهائي، ص87.

([162]) تهذيبُ الأحكام، أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي، ج1، ص83، باب 4 صفة الوضوء، ح67.

([163]) وسائل الشيعة، محمد بن الحسن الحر العاملي، ج26، ص14، باب 1 من أبواب موانع الإرث
من الكفر والقتل والرق، ح10.

([164]) عمدة القارئ، محمود بن أحمد العيني، ج1، ص102.

([165]) اقطاب الدوائر، الشيخ عبد الحسين بن مصطفى، ص11.

([166]) لسان العرب، ابن منظور، ج2، ص133.

([167]) زبدة الاصول، بهاء الدين محمد بن الحسين البهائي، ص87.

([168]) فقه الرضا، الشيخ الصدوق، ص212. المغني، أبن قدامة، ج2، ص260.

([169]) مفاتيح الاصول، محمد الطباطبائي الكربلائي، ص224.

([170]) مسند أحمد، أحمد بن حنبل، ج1، ص239.

([171]) الأصول من الكافي، أبو جعفر محمد بن يعقوب الكليني، ج5، ص280، باب في إحياء أرض الموات، ح6.

([172]) الفصول الغروية في الأصول الفقهية، الشيخ محمد حسين الحائري، ص344.

([173]) وسائل الشيعة، محمد بن الحسن الحر العاملي، ج3، ص487، باب 47 من أبواب النجاسات والأواني والجلود، ح1 - 2.

([174]) المصطحات، إعداد المجمع الفقهي، ص957.

([175]) رسائل آل طوق القطيفي، أحمد بن صالح آل طوق القطيفي، ج2، ص295.

([176]) جواهر الكلام، محمد حسن النجفي، ج1، ص338.

([177]) جامع المدارك، أحمد الخوانساري، ج1، ص222.

([178]) قال: الفائدة الثامنة: اعلم أن الشيخ الطوسي  عليهم السلام  ذكر أحاديث كثيرة في كتابي التهذيب والاستبصار عن رجال لم يلق زمانهم، وإنما روى عنهم بوسائط، وحذفها في الكتابين، ثمّ ذكر في آخرهما طريقه إلى رجل رجل مما ذكره في الكتابين، وكذلك فعل الشيخ أبو جعفر ابن بابويه. خُلاصَةُ الأقوال في معرفة الرجال، الحسن بن يوسف بن المطهر العلامة الحلي، ص435.

([179]) حكاه المحقق الحلي قائلاً: (المسألة الثانية: يجوز التعبد بخبر الواحد عقلاً، خلافاً لابن قبة من أصحابنا، وجماعة من علماء الكلام). معارج الأصول، المحقق الحلي، ص141.

وابن قبة: هو محمد بن عبد الرحمن بن قبة -بكسر الأول وتخفيف الثاني- الرازي، أبو جعفر، متكلم، عظيم القدر، حسن العقيدة، قوي في الكلام، كان قديماً من المعتزلة، وتبصَّر وانتقل، له كتب في الكلام، وقد سمع الحديث، وأخذ عنه ابن بطة، وذكره في فهرسته. رجال النجاشي، ابو العباس احمد بن علي النجاشي، ص375 - 376، ر1023. الذريعة إلى تصانيف الشيعة، آغا بزرك الطهراني، ج2، ص335، المعاصر للشيخ الكليني تقريباً، وتلميذ أبي القاسم عبد الله ابن أحمد الكعبي، المتوفى سنة (317هـ).

([180]) كإبن داود والقاساني، نسبه إليهم الآمدي، قائلاً: المسألَةُ السّابعة: الذين قالوا بجواز التعبُّد بخبر الواحد عقلاً، اختلفوا في وجوب العمل به، فمنهم من نفاه، كالقاساني، والرّافضة، وابن داود. الإحكام في أصول الأحكام، سيف الدين الآمدي، ج2، ص51.

أقول: إنّ رافضة الباطل لم يقولوا بما نسبه إليهم، بل أكثرهم على العمل بخبر الواحد، ولم يشذ منهم إلاّ المرتضى وابن إدريس على ما أعلم.

([181]) نسبه في الوافية، قائلاً: فالأكثر من علمائنا الباحثين في الأصول، على أنه ليس بحجة، كالسيد المرتضى، وابن زهرة، وابن البراج، وابن إدريس، وهو الظاهر من ابن بابويه في كتاب الغيبة، والظاهر من كلام المحقق، بل الشيخ الطوسي أيضا. الوافية في أصول الفقه، عبد الله بن محمد البشروي، ص158.

([182]) قال: (الصحيح أن العبادة ما وردت بذلك، وإن كان العقل يجوز التعبد بذلك وغير محيل عنه). الذريعة إلى أصول الشريعة، السيد المرتضى، ج2، ص528 - 529.

([183]) قال: (لكان من أخبار الآحاد، التي لا يجوز العمل بها في الشرعيات). غنية النزوع، ابن زُهْرَة الحلبي، ص329.

([184]) حكاه في معالم الدين؛ قائلاً: وهل هو واقع أو لا؟ خلافٌ بين الأصحاب، فذهب جمع من المتقدمين، كالسيد المرتضى، وأبي المكارم بن زهرة، وابن البراج، وابن إدريس إلى الثاني. معالم الدين وملاذ المجتهدين، الشيخ جمال الدين الحسن ابن الشهيد الثاني، ص189.

([185]) قال: ولذلك أبطلنا العمل في الشريعة بأخبار الآحاد؛ لأنها لا توجب علما ولا عملا. السرائر، ابن إدريس الحلي، ج1، ص47.

([186]) قال: وفي هذا دلالة على أنَّ خبر الواحد لا يوجب العلم ولا العمل؛ لأنَّ المعنى: إنْ جاءكم من لا تأمنون أنْ يكون خبره كذباً فتوقفوا فيه. تفسير مجمع البيان، الشيخ الفضل بن الحسن الطبرسي، ج9، ص221.

([187]) نسبه في المعارج، قائلاً: وذهب شيخنا أبو جعفر إلى العمل بخبر العدل من رواة أصحابنا، لكن لفظه وإن كان مطلقا فعند التحقيق تبيّن أنه لا يعمل بالخبر مطلقاً، بل بهذه الأخبار التي رويت عن الأئمة G، ودوّنها الأصحاب، لا أنّ كُلَّ خبر يرويه الإمامي يجب العمل به، هذا الذي تبيّن لي من كلامه. معارج الأصول، المحقق الحلي، ص147.

([188]) نسبه في الوافية، وقد تَقَدَّمَ، وكتاب الغيبة للشيخ الصدوق مفقود.

([189]) وهو الذي يظهر من مناقشته لأدلة القائلين بحجيته، في المسألة الثالثة، راجع معارج الأصول، المحقق الحلي، ص142، ص147.

([190]) الوافية في أصول الفقه، عبد الله بن محمد البشروي، ص158.

([191]) هو أبو عمرو عثمان بن عمر بن أبي بكر ابن يونس الدوني ثم المصري، الفقيه، المالكي، المعروف بابن الحاجب، ولد سنة (570هـ) وتوفي سنة (640هـ). اُنظر وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان،
ابن خلكان، ج3، ص 248- 250.

([192]) راجع شرح مختصر المنتهى الاصولي، ابن الحاجب، ج2، ص426.

([193]) لا عجب من ابن الحاجب ومن غيره، فالافتراء على المذهب الحق بدأ ولم ينته، وسوف يبقى حتى يرث الله الأرض ومن عليها.

([194]) وأقول سابعا: لنا لتصحيح الأحاديث مقام آخر، وهو أنا نعلم عادة أن الإمام ثقة الإسلام محمد بن يعقوب الكليني، وسيدنا الأجل المرتضى، وشيخنا الصدوق، وشيخ الطائفة - قدس الله أرواحهم- لم يفتروا في إخبارهم بأن أحاديث كتبنا صحيحة، أو بأنها مأخوذة من الأصول المجمع عليها، ومن المعلوم أن هذا القدر من القطع العادي كاف في جواز العمل بتلك الأحاديث. الفوائد المدنية والشواهد المكية، المولى محمد أمين الاسترآبادي، ص492 – 493.

([195]) الظاهر أنها اثنان وعشرون قرينة، راجع وسائل الشيعة، محمد بن الحسن الحر العاملي، ج30، ص249، ص265، في الفائدة التاسعة.

([196]) حكاه المحدث يوسف بن أحمد البحراني في عوائده الايام، وقال: (ولما رآى جمع آخر من متأخري الأخباريين، ظهور فساد هذه الدعوى، قالوا: إن المراد من قطعية الأخبار: قطعية حجيتها). عوائد الأيام، أحمد بن محمد مهدي النراقي، ص356- 357.

وحكاه في توضيح المقال، فقال: ومن هؤلاء من راعى بعض الإنصاف، وتحرز عن
بعض الجزاف، لكن بنى على اعتبار جميع ما في الكتب الأربعة لشهادة مصنفيها الثقات بذلك، فأخبارها وإنْ لم تَكُنْ قطعيّةَ الصُّدور، إلا أنّها قطعيّةُ الاعتبار. توضيح المقال في علم الرجال،
 الملا علي كني، ص36.

([197]) بداية الوصول إلى شرح كفاية الاصول، محمد طاهر آل الشيخ راضي، ص158.

([198]) قال: والتوسُّط أصْوَب، فما قبله الأصحاب أو دلَّت القرائن على صحّتِهِ عُمِلَ بهِ، وما أعرض الأصحابُ عنه أو شذَّ، يجب اطّراحه. المعتبر في شرح المختصر، المحقق الحلي، ج1، ص29.

([199]) لعلَّ مقصوده من الحُجَّة هو الصحيح، فلا قائل - على ما نعلم - بأن الحجة في الحديث هو خصوص من كان رواته ثقات أو عدول، وبين الحجة والصحيح عموم وخصوص من وجه، وفي منتهى المطلب في تحقيق المذهب، الحسن بن يوسف بن المطهر العلامة الحلي، ج1، ص9 - 10 ما نصه: الصحيح، ونعني به: ما كان رواته ثقات عدول. انتهى. ولعله أول من قال بهذا التعريف للصحيح.

([200]) قد ذهب الجمهور إلى وجوب العمل بخبر الواحد وأنه وقع التعبد به، وقال القاساني والرافضة وابن داود: لا يجب العمل به. وحكاه الماوردي عن الأصم وينسب لابن علية، وقال: أنهما قالا: لا يقبل خبر الواحد في السنن والديانات ويقبل في غيره من أدلة الشرع. إرشاد الفحول إلى تحقيق علم الأصول، محمد بن علي بن محمد الشوكاني، ج1، ص93.

ثم قال: قال ابن السمعاني: واختلفوا، يعني القائلين بعدم وجوب العمل بخبر الواحد في المانع من القبول، فقيل: منع منه العقل، وينسب إلى ابن علية والأصم، وقال القاشاني من أهل الظاهر والشيعة: منع منه الشرع.

([201]) قال: فقلت: خبر الواحد عن الواحد حتى ينتهي به إلى النبي، أو من انتهى به إليه دونه. الرسالة للإمام المطلبي، الامام الشافعي، ص369 - 370، باب خبر الواحد.

وفي ص383، قال: وتثبيت خبر الواحد أقوى من أن أحتاج إلى أن أمثله بغيره، بل هو أصل في نفسه. قال: ..، وأنه يجوز العمل بالظن، وهو خبر الواحد هنا مع القدرة على اليقين بالمشافهة. المجموع، محيي الدين النووي، ج2، ص144. وقوله (ولو أخبرت..) ببناء المفعول، فيصدق بما لو كان المخبر واحداً، فيرشد إلى أنَّ خبر الواحد كاف، كما سيأتي. حواشي الشرواني، الشرواني والعبادي، ج2، ص427. قال: لأن خبر الواحد في أمر الدين حجة، إذا كان المخبر حجة. المبسوط، السرخسي، ج1، ص87. وغيرها كثير.

([202]) ولأن أبا حنيفة لا يقبل خبر الواحد فيما تعم به البلوى. المجموع، محيي الدين النووي، ج5، ص221. ومذهب أبي حنيفة أن خبر الواحد إذا ورد على خلاف القياس لم يقبل، ولهذا لم يقبلوا حديث المصراة. أضواء على السنة المحمدية، محمود أبو رية، ص369.

([203]) قائلاً: (ومن يرى حجية) إجماع أهل (المدينة) كمالك (يستثنيه) فيقول: إلاّ أن يكون فيه إجماع أهل المدينة فالعمل بإجماعهم (كإجماع الكل) لأن الإجماع متقدم على خبر الواحد. التقرير والتحبير في علم الأصول، ابن أمير الحاج، ج2، ص355.

([204]) قال: ولا تقوم الحجة بخبر الخاصَّة حتى يجمع أموراً: منها: أن يكون من حَدَّثَ به ثقة في دينه، معروفاً بالصدق في حديثه، عاقلاً لما يحدث به. الرسالة للإمام المطلبي، الامام الشافعي، ص370، باب خبر الواحد.

([205]) قال: ثم اعلم أنَّ أصل وجوب العمل بالأخبار المدوَّنَةِ في الكتب المعروفة مما أجمع عليه في هذه الأعصار، بل لا يبعد كونه ضروري المذهب. فرائد الأصول، الشيخ مرتضى الأنصاري، ج1، ص239.

([206]) تقدَّمَ عن الفوائد المدنية والشواهد المكية.

([207]) قال: لنا أن الضابط في قبول خبر الواحد العدالة، فلا يثبت القول مع عدمها، ولأن مطلق الظن لا يجوز الرجوع إليه. مختلف الشيعة، الحسن بن يوسف بن المطهر الحلي، ج2، ص72.

([208]) هو السيد شمس الدين بن محمد بن علي بن الحسين بن أبي الحسن الموسوي العاملي الجبعي، صاحب المدارك، كان فاضلاً متبحراً ماهراً محققاً له مؤلفات عديدة منها مدارك الأحكام في شرح شرائع الإسلام، نهاية المرام في شرح مختصر شرائع الإسلام، حاشية الاستبصار، حاشية التهذيب، حاشية على ألفية الشهيد، ولد سنة (946هـ) وتوفي ليلة السبت 18 ربيع الأول سنة (1009هـ). اُنظر أعيان الشيعة، السيد محسن الأمين، ج10، ص6- 7.

([209]) قال: أصل: تعرف عدالة الراوي بالاختبار بالصحبة المؤكدة، والملازمة بحيث يظهر أحواله، باشتهارها بين العلماء، وأهل الحديث، وبالقرائن المتكثرة المتعاضدة.. وهذا عندي هو الحق، لنا أنها شهادة ومن شأنها اعتبار العدد فيها. معالم الدين وملاذ المجتهدين، الشيخ جمال الدين بن الحسن ابن الشهيد الثاني، ص203.

([210]) قال: والتوسط أصوب، فما قبله الأصحاب، أو دلت القرائن على صحته عمل به، وما أعرض الأصحاب عنه أو شذ، يجب اطراحه. المعتبر في شرح المختصر، المحقق الحلي، ج1، ص29.

([211]) قال: (المسألة الرابعة: قد يقترن بخبر الواحد قرائن تدل على صدق مضمونه، وإن كانت غير دالة على صدق الخبر نفسه، لجواز اختلافه مطابقا لتلك القرينة، والقرائن أربع: إحداها: أن يكون موافقا لدلالة العقل، أو لنصّ الكتاب، خصوصه، أو عمومه، أو فحواه، أو السنة المقطوع بها، أو لما حصل الإجماع عليه). معارج الأصول، المحقق الحلي، ص148.

([212]) هو محمد ابن أبي عمير، زياد بن عيسى، أبو أحمد الأزدي، لقى أبا الحسن موسى B، وسمع منه، وروى عن الرضا B، جليل القدر، الجاحظ يحكي عنه في كتبه، وقال في البيان والتبيين: حدثني إبراهيم بن داحة عن ابن أبي عمير، وكان وجها من وجوه الرافضة. رجال النجاشي، ابو العباس احمد بن علي النجاشي، ص326، ر887، بتصرف.

([213]) قال الشيخ الطوسي في العدة، ج1، ص154. وإذا كان احد الراويين مسندا والاخر مرسلا، نظر في حال المرسل... ولذلك عملوا بمراسيلهم إذا انفردوا عن رواية غيرهم.

([214]) قال: (فأما من كان مخطئا في بعض الأفعال، أو فاسقا بأفعال الجوارح، وكان ثقة في روايته، متحرّزا فيها، فإن ذلك لا يوجب رد خبره، ويجوز العمل به؛ لأن العدالة المطلوبة بالرواية حاصلة فيه، وإنما الفسق بأفعال الجوارح يمنع من قبول شهادته، وليس بمانع من قبول خبره، ولأجل ذلك قبلت الطائفة أخبار جماعة هذه صفتهم). العدة في أصول الفقه، أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي، ج1، ص152.

([215]) نسبه السيد محمد المهدي بحر العلوم P، قائلا: وبهذا يزول الإشكال في القول بحجية الحسن، مع القول باشتراط عدالة الراوي، كما هو المعروف بين الأصحاب. الفوائد الرجالية، السيد بحر العلوم، ج1، ص460.

([216]) قال: (إن من شرط العمل بخبر الواحد، أن يكون راويه عدلا، بلا خلاف). العدة في أصول الفقه، أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي، ج1، ص129.

([217]) سورة الحجرات، الآية 6.

([218]) فرائد الأصول، الشيخ مرتضى الأنصاري، ج1، ص256، ص274، وقد أحصى أكثرها.

([219]) راجع الأصول العامة للفقه المقارن، السيد محمد تقي الحكيم، ص206، فقد قال: (والظاهر من الآية بقرينة مورد نزولها، أنها واردة مورد الردع عن بناء عقلائي قائم إذ ذاك، وهو الاعتماد على خبر الواحد، وإن كان غير مؤتمن على النقل، وقد صبت الآية ردعها على خصوص خبر الفاسق بما أنه غير مؤتمن على طبيعة ما ينقله، بقرينة تعليقها التبين على نبأه بالخصوص).

وتخصيص التبين بخبر الفاسق، يكشف بمفهوم الشروط عن إقرارهم على الأخذ بخبر غيره.

([220]) منتهى الاصول، تقريرات بحث السيد الروحاني، السيد صاحب الحكيم، ج4، ص261.

([221]) في الأصل (البقرة).

([222]) سورة التوبة، الآية 122.

([223]) روض الجنان في شرح ارشاد الاذهان، زين الدين بن علي العاملي، ج1، ص211.

([224]) سورة البقرة، الآية 228.

([225]) قال: لأن النساء مؤتمنات في أرحامهن، وقد قال تعالى: [وَلاََ يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ]، ولولا أن قولهن مقبول لم يأثمن بالكتمان؛ لأنه لا اعتبار بكتمانهنّ حينئذ. مسالك الأفهام إلى تنقيح شرائع الإسلام، الشهيد الثاني، ج9، ص194.

([226]) سورة البقرة، الآية 159.

([227]) سورة النحل، الآية 43.

([228]) الأصول من الكافي، أبو جعفر محمد بن يعقوب الكليني، ج1، ص210 - 212، باب أن أهل الذكر الذين أمر الله الخلق بسؤالهم هم الأئمة G.

([229]) الذريعة اصول الفقه، الشريف الرضي، ج2، ص555.

([230]) بصائر الدرجات الكبرى في فضائل آل محمد G، محمد بن الحسن الصفار، ص544 - 545، باب 20 في التسليم لآل محمد G فيما جاء عندهم، ح26. مستطرفات السرائر، محمد بن إدريس الحلي، ص584.

([231]) قرب الإسناد، عبد الله بن جعفر الحميري القمي، ص92، ح305.

([232]) الأصول من الكافي، أبو جعفر محمد بن يعقوب الكليني، ج1، ص69، ح5.

([233]) الأصول من الكافي، أبو جعفر محمد بن يعقوب الكليني، ج1، ص69، ح3 - 4.

([234]) المحاسن، أحمد بن محمد بن خالد البرقي، ج1، ص221، ح129.

([235]) فرائد الاصول، الشيخ مرتضى الانصاري، ج4، ص148.

([236]) قال: (وإنّما أوردنا بهذه الإشارة أنَّ أصحابنا كلهم، سلفهم، وخلفهم، ومتقدّمهم، ومتأخّرهم، يمنعون من العمل بأخبار الآحاد). رسائل المرتضى، علي بن الحسين الشريف المرتضى، ج1، ص203.

([237]) قال: (وفي هذا دلالة على أن خبر الواحد لا يوجب العلم، ولا العمل). مجمع البيان في تفسير القرآن، الشيخ الفضل بن الحسن الطبرسي، ج9، ص221.

([238]) قال: إنَّ خبر الواحد إذا كان وارداً من طريق أصحابنا القائلين بالإمامة، وكان ذلك مروياً عن
النبي صلى الله عليه واله وسلم..، ثمّ قال: والذي يدل على ذلك إجماعُ الفرقة المحقّة، فإنّي وَجَدْتُها مجمعة على العَمَلِ بهذه الأخبار، التي رووها في تصانيفهم ودَوَّنُوها في أصولهم، لا يتناكرون ذلك، ولا يتدافعونه. العدة في أصول الفقه، أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي، ج1، ص126.

([239]) راجع مختلف الشيعة، الحسن بن يوسف بن المطهر الحلي، ج2، ص72، قال فيه: (ولأن مطلق الظن لا يجوز الرجوع إليه، أما أولاً: فلعدم انضباطه، وأمّا ثانياً: فلحصوله من الكافر، فلابُدَّ من ضابطٍ، وليسَ إلاّ خَبَرُ العادل؛ لأنه أصْل ٌثبت في الشرع اعتباره في خبر الواحد).

وفي الوافية، عبد الله بن محمد البشروي، ص159، ولكنّ الحقَّ أنّه حُجَّةٌ كما اختاره المتأخرّون منا، وجمهور العامة.

([240]) قائلاً: (والأصوليون منهم- كأبي جعفر الطوسي وغيره- وافقوا على قبول خبر الواحد، ولم
 ينكره أحد، سوى المرتضى وأتباعه لشبهة حصلت لهم). نقله عنه في معالم الدين وملاذ المجتهدين، ص191.

([241]) وقال: (ومراسيل ابن أبي عمير نص الأصحاب على العمل بها؛ لأنه لا يرسل إلا عن ثقة، باتفاق الكل). إيضاح الفوائد في شرح إشكالات القواعد، الحسن بن يوسف بن المطهر الحلي، ج4، ص162.

قال: (ولا يعمل أصحابنا من المراسيل، إلا بما عرف أن مرسله لا يرسل إلا عن ثقة، كابن أبي عمير، وأبي بصير، وابن بزيع، وزرارة بن أعين، وأحمد بن أبي نصر البزنطي، ونظرائهم ممن نص عليه علماء الأصحاب). رسائل الكركي، المحقق علي بن الحسين الكركي، ج3، ص43.

([242]) قال بعض العلماء: (وإطلاق رواية أبي داود من غير أن يقول مرسلاً يدلُّ على أن له رواية، مع أن مرسل الصحابي حجة إجماعاً). عون المعبود شرح سنن أبي داود، محمد شمس الحق العظيم آبادي، ج10، ص219.

([243]) بل ادعى بعض الأحناف الإجماع على أن مرسل الصحابي حجة. أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، الشنقيطي، ج8، ص175.

وأيضا في عمدة القاري، محمود بن أحمد العيني، ج2، ص105. وفي الفصول في الأصول، أحمد بن علي الرازي الجصاص، ج3، ص145.

([244]) قفو الأثر في صفوة علوم الأثر، رضي الدين محمد بن إبراهيم الحلبي الحنفي، ج1، ص67، والمختار في التفصيل قبول مرسل الصحابي إجماعاً ومرسل أهل القرن الثاني والثالث عندنا وعند مالك مطلقاً.

([245]) فصل: مراسيل أصحاب النبي صلى الله عليه واله وسلم مقبولة عند الجمهور، وشَذَّ قومٌ وقالوا: لا يقبل مرسل الصحابي إلاّ إذا عرف بصريح خبره أو بعادته أنه لا يروي إلاّ عن صحابيّ، وإلاّ فلا لأنه قد يروي عَمَّنْ لم تثبت لنا صحبته، وهذا ليس بصحيح. روضة الناظر وجنة المناظر، ابن قدامة المقدسي، ج1، ص125.

([246]) لم أعثر على تصريح لهم بما عندي من مصادر، ولعلهم يدخلون بالإجماع المتقدم.

([247]) قال: (وأما مرسل الصحابي، وهو روايته ما لم يدركه أو يحضره كقول عائشة Oأول ما بديء به رسول الله صلى الله عليه واله وسلم، من الوحي الرؤيا الصالحة، فمذهب الشافعي والجماهير أنه يحتج به). صحيح مسلم بشرح النووي، ج1، ص30.

قال: (إذا قال الصحابي: أمرنا بكذا، أو نهينا عن كذا، أو من السنة كذا، أو مضت السنة بكذا، أو السنة بكذا، ونحو ذلك، فكله مرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه واله وسلم، على مذهبنا الصحيح المشهور، صرح به الغزالي، وآخرون). المجموع، محيي الدين النووي، ج1، ص59. صرح في فتح الباري، ابن حجر، ج1، ص133.

([248]) قال: (فقلت له: المنقطع مختلف، فمن شاهد أصحاب رسول الله صلى الله عليه واله وسلم من التابعين، فحدث حديثا منقطعا عن النبي، اعتبر عليه بأمور، منها: أن ينظر إلى ما أرسل من الحديث، فإن شركه فيه الحفاظ المأمونون، فأسندوه إلى رسول الله صلى الله عليه واله وسلم، بمثل معنى ما روى، كانت هذه دلالة على صحة من قبل عنه وحفظه، وإن انفرد بإرسال حديث لم يشركه فيه من يسنده قبل ما يفرد به من ذلك، ويعتبر عليه بأن ينظر، هل يوافقه مرسل غيره ممن قبل العلم عنه من غير رجاله الذين قبل عنهم، فإن وجد ذلك، كانت دلالة يقوي بها مرسله، وهي أضعف من الأولى، وإن لم يوجد ذلك نظر إلى بعض ما يروى عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه واله وسلم قولا له، فإن وجد يوافق ما روى عن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم، كانت هذه دلالة على أنه لم يأخذ مرسله إلا عن أصل يصح إن شاء الله). الرسالة للإمام المطلبي، الامام الشافعي، ص461، ص463.

([249]) قال: (وإرسال ابن المسيب عندنا حسن). مختصر المزني، اسماعيل المزني، ص78.

([250]) قال: (اتفق المتقدمون والمتأخرون من القائلين بحجية الخبر الواحد، على أن الخبر الضعيف المنجبر بالشهرة وأمثالها، حجة، بل استنادهم إلى الضعاف أضعاف استنادهم إلى الصحاح، بل الضعيف المنجبر صحيح عند القدماء، من دون تفاوت بينه وبين الصحيح). الفوائد الحائرية، الوحيد البهبهاني، ص487.

([251]) قال: (..، ينظر إلى ما كان من روايتهما عنا في ذلك الذي حكمنا به، المجمع عليه عند أصحابك، فيؤخذ به من حكمنا، ويترك الشاذ النادر..). وسائل الشيعة، ج27، ص106 - 107، باب 9 من أبواب صفات القاضي، ح1.

([252]) قال: وروى العلامة قدست نفسه، مرفوعا إلى زرارة بن أعين، قال: سألت الباقر B، فقلت: جعلت فداك، يأتي عنكم الخبران أو الحديثان المتعارضان، فبأيهما آخذ؟ فقال: (يا زرارة، خذ بما اشتهر بين أصحابك، ودع الشاذ النادر..). عوالي اللئالي العزيزية في الأحاديث الدينية، ابن أبي جمهور الإحسائي، ج4، ص133، ح229.

([253]) الهداية في الاصول تقريرات بحث السيد الخوئي، سيد حسن الصافي، ج3، ص214.

([254]) ذكرى الشيعة في أحكام الشريعة، محمد بن مكي العاملي، ج1، ص448. قال: إلا أن روايات السنن مبنية على المسامحة، فيقبل فيها الخبر الضعيف، خصوصا إذا اشتهر مضمونه. جامع المقاصد في شرح القواعد، المحقق علي بن الحسين الكركي، ج1، ص440.

قال: ومع أن الخبر الضعيف في مقام الاستحباب في حكم الصحيح، ولا يعجز عن إثبات الحكم. مستند الشيعة في أحكام الشريعة، المحقق أحمد بن محمد مهدي النراقي، ج4، ص111.

([255]) محمد بن الحسن بن الوليد القمي، جليل القدر، عارف بالرجال، موثوق به. اُنظر الفهرست، أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي، ص237، ر124.

أقول: هو شيخ القميين في وقته، وكان ضليعاً في الرجال، خبيراً بهم، وأقواله في الرجال - توثيقاً وتضعيفاً - معتبرة عند الطائفة، بل مدار التوثيق والتضعيف عليها عند كثير منهم.

([256]) قال: وأما خبر صلاة يوم الغدير، والثواب المذكور فيه لمن صامه، فإن شيخنا محمد بن الحسن L، كان لا يصححه، ويقول: إنه من طريق محمد بن موسى الهمداني، وكان كذاباً، غير ثقة، وكل ما لم يصححه ذلك الشيخ P، ولم يحكم بصحته من الأخبار، فهو عندنا متروك، غير صحيح. من لا يحضره الفقيه، الشيخ الصدوق، ج2، ص90- 91.

([257]) في مسألة رؤية الهلال، والعمل برواية الخمسة من العام الماضي، فقال: قال في الاستبصار: هذان الخبران خبر واحد، لا يوجب علماً ولا عملاً، وأنَّ راويهما عمران الزعفراني، وهو مجهول، وفي إسناد الحديثين قوم ضعفاء لا نعمل بما يختصّون بروايته، وهو جيد. منتهى المطلب في تحقيق المذهب، الحسن بن يوسف بن المطهر الحلي، ج2، ص592، (ط.ق).

([258]) مدارك الأحكام في شرح شرائع الإسلام، السيد محمد بن علي العاملي، ج1، ص13.

([259]) لم نعثر على الحكاية، ولعله الظاهر من قول السيد محمد بن علي العاملي: وألحق به
الشارح - الشهيد الثاني- كل مكتوب ومنقوش، وهو جيد للمسامحة في أدلة السنن، وإن كان للمناقشة في أمثال هذه المعاني المستنبطة مجال. مدارك الأحكام في شرح شرائع الإسلام، السيد محمد بن علي الموسوي العاملي، ج3، ص238.

([260]) قال في مسألة رؤية الهلال: فإن غمت الأهلة أجمع، فالأقرب الاعتبار برواية الخمسة. منتهى المطلب، الحسن بن يوسف بن المطهر الحلي، ج2، ص593، (ط.ق).

أقول: مستنده رواية ضعيفة.

([261]) قائلا: وعن الوسائل نسبته إلى الأصحاب، مصرّحاً بشمول المسألة لأدلة المكروهات أيضاً. حكاه في الرسائل الفقهية، الشيخ مرتضى الأنصاري، ص138 - 139.

أقول: لم أعثر عليه في الوسائل بالرغم من البحث والتدقيق؛ ولعله موجود في كتاب آخر غير الوسائل.

([262]) قال: لكن أحاديث الفضائل يتسامح فيها عند أهل العلم. ذكرى الشيعة، الشهيد الأول،
ج2، ص34.

([263]) قال فيه: المشهور بين أصحابنا والعامة التسامح في أدلة السنن. رسائل فقهية، الشيخ مرتضى الأنصاري، ص137.

([264]) قال - بعد نقل الروايات- : فصار هذا المعنى مجمعا عليه عند الفريقين. عدة الداعي ونجاح الساعي، احمد بن فهد الحلي، ص10.

ولا يخفى أن إثبات الحكم به مشكل، لكن لا بأس بالقول به للشهرة بين الأصحاب، بناء على التسامح في أدلة السنن. مشارق الشموس في شرح الدروس، المحقق الخوانساري، ج1، ص34، (ط.ق).

في صلاة يوم الغدير، ما نصه: والظاهر أن ما ذكرناه من هذه الأخبار مع ما اشتهر من التسامح في أدلة السنن، صار سببا في اشتهار هذه الصلاة بين قدماء الأصحاب ومتأخريهم. الحدائق الناضرة، المحدث يوسف بن أحمد البحراني، ج10، ص535.

([265]) المحاسن، أحمد بن محمد بن خالد البرقي، ج1، ص25، باب 1 ثواب من بلغه ثواب شيء فعمل به طلبا لذلك الثواب، ح1 - 2.

([266]) ثواب الأعمال وعقاب الأعمال، الشيخ الصدوق، ص132.

أقول: لا يوجد إلاّ سند واحد في ثواب الأعمال، ولم نعثر عليه في مصنفات الشيخ الصدوق الأخرى، والظاهر أنه سهو من المصنف؛ فالمحاسن هو من رواه بسندين.

([267]) قال ما نصه: بيان: هذا الخبر من المشهورات، رواه الخاصة والعامة بأسانيد. بحار الأنوار، العلامة محمد باقر المجلسي، ج2، ص256.

([268]) الأصول من الكافي، أبو جعفر محمد بن يعقوب الكليني، ج2، ص87، ح1.

([269]) الدرة النجفية، المحدث يوسف بن أحمد البحراني، ص229.

([270]) مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، العلامة محمد باقر المجلسي، ج8، ص113.

([271]) عدة الداعي ونجاح الساعي، احمد بن فهد الحلي، ص10.

([272]) حكاه عنه في هداية المسترشدين، قائلا: وقال شيخنا البهائي  عليهم السلام  بعد الإشارة إلى بعض ما مر من الأخبار: وهذا هو سبب تساهل فقهائنا في البحث عن دلائل السنن. هداية المسترشدين، الشيخ محمد تقي الرازي، ج3، ص466.

([273]) فرائد الاصول، إفادات النائيني، الشيخ كاظمي الخراساني، ج3، ص407. رسائل في دراية الحديث، أبو الفضل حافظيان البابلي، ج2، ص555.

([274]) دراسات في علم الاصول، السيد علي الهاشمي الشاهرودي، ج3، ص306.

([275]) راجع إيضاح الفوائد، الحسن بن يوسف بن المطهر الحلي، ج4، ص143. الدروس الشرعية في فقه الإمامية، الشهيد الأول، ج2، ص151. الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية، الشهيد الثاني، ج9، ص134. كشف اللثام عن قواعد الأحكام، الفاضل الهندي، ج6، ص171. وغيرها كثير.

([276]) حيث قال: الثاني: مجرد إتيان محتمل المطلوبية، من دون ملاحظة كون الداعي هو الاحتمال، وهذا لا يترتَّبُ الثواب عليه إلا إذا وَرَدَ الأمر به شرعاً؛ لأنَّ ترتُّبَ الثواب لا يكون في فعل، إلا إذا كان الداعي عليه طلبا محقّقاً أو محتملاً، واحتمال الأمر موجود، لكنه لم يَصِرْ داعيا بالفَرْضِ، فإذا كانَ الأمر المحقق غير موجود، فلا ثواب. ما يظهر من الرسائل الفقهية، الشيخ مرتضى الأنصاري، ص152، ص153.

([277]) قال: وإنْ قلنا بأنّه لا يَسْتَحِقُّ مؤاخذةً أو مثوبة، ما لم يعزم على المخالفة أو الموافقة. كفاية الأصول، الآخوند الخراساني، ص259.

([278]) الأصول من الكافي، أبو جعفر محمد بن يعقوب الكليني، ج5، ص9 - 10، باب وجوه الجهاد، ح1.

([279]) المحاسن، أحمد بن محمد بن خالد البرقي، ج1، ص25، ح2.

([280]) سورة المائدة، الآية 4.

([281]) الأصول من الكافي، أبو جعفر محمد بن يعقوب الكليني، ج2، ص87، باب من بلغه ثواب من الله على عمل، ح2.

([282]) وسائل الشيعة، محمد بن الحسن الحر العاملي، ج1، ص82، باب 18 من أبواب مقدمة العبادات، ح8.

([283]) تقدم ذكره عن المحاسن.

([284]) نقل الحكاية آغا ضياء الدين العراقي، وإن أشكل عليهم، وقال: وعليه: يشكل ما حكي عن المشهور من الفتوى باستحباب العمل مطلقاً من غير تقييدٍ بكونه لمن بلغ إليه الثواب، حيث لا ينطبق على القواعد. نهاية الأفكار، تقرير بحث آغا ضياء الدين العراقي، الشيخ محمد تقي البروجردي، ج3، ص281.

([285]) أما بناء على استفادة الحكم الطريقي منها، الراجع إلى حجية الخبر الضعيف، القائم على وجوب شيء واستحبابه بالنسبة إلى أصل الرجحان، فلا محذور في الفتوى باستحباب العمل على الإطلاق. نهاية الأفكار، تقرير بحث آغا ضياء الدين العراقي، الشيخ محمد تقي البروجردي، ج3، ص281.

([286]) هو الشيخ محمد تقي البروجردي، من أبرز تلاميذ آغا ضياء الدين العراقي، وكان من تلاميذ المحقق النائيني والسيد أبو الحسن الإصفهاني، له مؤلفات عديدة، منها: حاشية استدلالية واسعة على العروة طبع منها جزءان فقط، ورسالة في الرد على البابية مخطوطة، ورسالة في منجزات المريض مخطوطة، ورسالة في الاجتهاد والتقليد مطبوعة، وغيرها كثير، توفي في طهران سنة (1391هـ).

([287]) هو الشيخ ضياء الدين العراقي، ولد في مدينة آراك، وانتقل في بداية شبابه إلى إصفهان ودرس فيها، وانتقل إلى النجف، وأكمل دراسته فيها على يد السيد محمد الفشاركي والآخوند الخراساني، له مؤلفات عديدة منها: شرح التبصرة (دورة فقهية كاملة)، حاشية استدلالية على العروة الوثقى مخطوط، حاشية على كفاية الأصول، حاشية على فوائد الأصول، مقالات الأصول، توفي في النجف الأشرف سنة (1361هـ). انظر موسوعة طبقات الفقهاء في اصحاب الفتيا من الصحابة والتابعين، اللجنة العلمية في مؤسسة الإمام الصادق، ج14، ص287.

([288]) نهاية الأفكار، تقرير بحث آغا ضياء الدين العراقي، الشيخ محمد تقي البروجردي، ج3، ص281.

([289]) النور الساطع في الفقه النافع، الشيخ علي كاشف الغطاء، ج1، ص59، ص61.

([290]) مصباح الاصول، تقرير بحث السيد الخوئي، محمد سرور الواعظ البسهودي، ج3، ص266.

([291]) زبدة الاصول، السيد محمد صادق الروحاني، ج1، ص21.

([292]) نسب إليهم في المواقف، عبد الكريم الإيجي، ج3، ص281، وأما المعتزلة فقالوا: ما يدرك جهة حسنه أو قبحه بالعقل من الأفعال التي ليست اضطرارية ينقسم إلى الأقسام الخمسة.

وفي نخبة اللآلي لشرح بدأ الأمالي، محمد بن سليمان الحلبي، ص92، وقالت المعتزلة: العقل علة موجبة لما استحسنه، ومحرمة لما استقبحه على القطع فوق العلل الشرعية.

وفي نظرات في التصوف والكرامات، محمد جواد مغنية، ص33، قال المعتزلة: إذا تعارض ظاهر نص مع العقل وجب تأويله بما يتفق مع منطق العقل.

([293]) نسب إلى الأشعري في نظرات في التصوف والكرامات، محمد جواد مغنية، ص31، بل صرح الأشعري بأن النظر العقلي المستقل عن الوحي لا يجوز أن يؤخذ به طريقاً إلى العلم بالشؤون الإلهية، وهو - أي الأشعري- وإن رآى أن العقل في وسعه أن يدركه الله، إلاّ أن هذا العقل عنده ليس إلاّ أداة للإدراك، وأما الطريق الوحيد لمعرفة الله فهو الوحي.

([294]) هداية المسترشدين، محمد تقي الرازي، ج3، ص498.

([295]) مصباح الاصول، تقريرات بحث السيد الخوئي، محمد سرور الواعظ البسهودي، ج2، ص79.

([296]) سورة الأنعام، الآية 72.

([297]) سورة الحجرات، الآية 6.

([298]) سورة النساء، الآية 59.

([299]) أصول الفقه، محمد رضا المظفر، ج2، ص264.

([300]) قال: والثاني: مسائل الملازمات، كاستلزام وجوب الشيء وجوب مقدمته، واستلزام وجوب الشيء حرمة أضداده، والظاهر أن ما كان فيها اللزوم بيّنًا بالمعنى الأخص، خارج عن الأدلة العقلية؛ لاندراجه اذن في المداليل اللفظية. هداية المسترشدين، الشيخ محمد تقي الشيرازي، ج3، ص497.

([301]) بحوث في علم الاصول، تقريرات بحث محمد باقر الصدر، محمود الشهرودي، ص271.

([302]) فرائد الاصول، الشيخ مرتضى الانصاري،ج1، ص168.

([303]) الفصول الغروية في الاصول الفقهية، الشيخ محمد حسين الحائري، ص316. الدرر النجفية من الملتقات اليوسفية، المحدث يوسف بن احمد البحراني، ج2، ص245.

([304]) قال: قال المصنف في نهاية الوصول: هذا المذهب، أي الحكم بكون الحسن والقبح عقليين صار إلية جميع الإمامية والكرامية والخوارج والبراهمة والثنوية وغيرهم، سوى الأشاعرة. إحقاق الحق وإزهاق الباطل، السيد المرعشي النجفي، ج1، ص370 في الشرح.

([305]) قال: قد نسب إلى جملة من الأشاعرة إنكار الحسن والقبح العقليين، وأن العقل لا يدرك حسن الأشياء وقبحها. راجع فوائد الأصول، الشيخ محمد علي الكاظمي الخراساني، ج3، ص57.

([306]) الفصل في الملل والأهواء والنحل، علي بن أحمد بن حزم الظاهري، ج3، ص70.

([307]) الفوائد الطوسية، الشيخ محمد بن الحسن العاملي، ص368.

([308]) المواقف، عبد الكريم الإيجي، ج3، ص262.

([309]) بداية المعاراف الإلهية في شرح عقائد الإمامية، محسن خرازي، ج1، ص232.

([310]) دلائل الصدق لنهج الحق، محمد حسن المظفر، ج2، ص155.

([311]) فرائد الاصول، الشيخ مرتضى الانصاري، ج2، ص90.

([312]) انظر: هداية المسترشدين، الشيخ محمد تقي الرازي، ج3، ص503. تعليقة على معالم الاصول، السيد علي الموسوي القزويني، ج5، ص503 وما بعدها.

([313]) درر الفوائد، عبد الكريم الحائري، ج2، ص475.

([314]) نسبه إليهم في الفوائد، وقال: وأنكر هذه الملازمة بعض الأخباريين، وتبعهم بعض الأصوليين، كصاحب الفصول، حيث أنكر الملازمة الواقعية بين حكم العقل وحكم الشرع، والتزم بالملازمة الظاهرية. راجع فوائد الأصول، الشيخ محمد علي الكاظمي الخراساني، ج3، ص60.

([315]) قال: فالحق عندي في المقام الأول - استلزام حكم العقل بالوجوب والحرمة لحكم الشرع كذلك أو لا- أنه لا ملازمة عقلاً بين حسن الفعل وقبحه، وبين وقوع التكليف على حسبه ومقتضاه. الفصول الغروية في الأصول الفقهية، الشيخ محمد حسين الحائري، ص337.

قال: أمّا امضاءً، فالوجه في دعوى ذلك هي قاعدة الملازمة بين ما حكم به العقل وما حكم به الشرع، ولكنَّها دعوى فاسدة، فإنّه مضافاً إلى ما سيأتي من عدم صِحّةِ هذه القاعدة. بداية الوصول في شرح كفاية الأصول، الشيخ محمد طاهر آل الشيخ راضي، ج6، ص167.

([316]) الفصول الغروية في الأصول الفقهية، الشيخ محمد حسين الحائري، ص339.

([317]) الأصول من الكافي، أبو جعفر محمد بن يعقوب الكليني، ج3، ص22، باب السواك، ح1.

([318]) كتاب الأحكام، الشيخ على كاشف الغطاء، ج2، ص93، ص98، (الطبعة الاولى).

([319]) المصدر السابق.

([320]) بحر الفوائد في شرح الفرائد، محمد حسن الاشتياني، ج1، ص140.

([321]) حيث قال: بحيث لا يبقى مانع عن الرجوع في المسائل الخالية عن الخبر وأخواته من الظنون الخاصة، إلى ما يقتضيه الأصل في تلك الواقعة من البراءة، أو الاستصحاب، أو الاحتياط، أو التخيير. راجع فرائد الأصول، الشيخ مرتضى الأنصاري، ج1، ص386.

([322]) لم نعثر عليه.

([323]) قوانين الاصول، الميرزا أبو القاسم القمي، ص105.

([324]) كتاب الأحكام، الشيخ علي كاشف الغطاء، ج2، ص93، ص97، (الطبعة الاولى).

([325]) لم نعثر عليه.

([326]) نصه: عن أبان بن تغلب، قال: قلت لأبي عبد الله B: ما تقول في رجل قطع إصبعا من أصابع المرأة كم فيها؟ قال: (عشر من الإبل)، قلت: قطع اثنين؟ قال: (عشرون)، قلت: قطع ثلاثا؟ قال: (ثلاثون)، قلت: قطع أربعا؟ قال: (عشرون)، قلت: سبحان الله، يقطع ثلاثا فيكون عليه ثلاثون، ويقطع أربعا فيكون عليه عشرون؟ إن هذا كان يبلغنا ونحن بالعراق، فنبرأ ممن قاله، ونقول: الذي جاء به شيطان، فقال: (مهلا يا أبان، فهذا حكم رسول الله صلى الله عليه واله وسلم، إن المرأة تقابل الرجل إلى ثلث الدية، فإذا بلغت الثلث رجعت إلى النصف، يا أبان، إنك أخذتني بالقياس، والسنة إذا قيست محق الدين). الأصول من الكافي، أبو جعفر محمد بن يعقوب الكليني، ج7، ص299 - 300، باب دية المرأة في النفس والجراحات، ح6.

([327]) قال: قال علي بن الحسين H: (إنَّ دينَ اللهِ U لا يُصاب بالعقول الناقصة، والآراء الباطلة، والمقاييس الفاسدة، ولا يُصَابُ إلاّ بالتسليم، فمَنْ سَلَّمَ لنا سلم، ومن اقتدى بنا هدى، ومن كان يعمل بالقياس والرأي هلك، ومن وجد في نفسه شيئاً مما نقوله أو نقضي به حرجاً كَفَرَ بالذي أنزل السبع المثاني والقرآن العظيم وهو لا يعلم)؛ وتقدم ما عن الكافي. كمال الدين وتمام النعمة،
الشيخ الصدوق، ص324، الباب 31 ما أخبر به علي بن الحسين H من وقوع الغيبة، ح9.

([328]) معارج الاصول، المحقق الحلي، ص182، ص183. الفصول في الاصول، أحمد بن علي الرازي الجصاص، ج4، ص9.

([329]) قال: (ومثاله حكمنا أنَّ كلّ ما أسكر من مشروب أو مأكول فيحرم، قياساً على الخمر). المستصفى في علم الأصول، ابو حَامِدْ الغزالي، ص173. في تعليقه على قول المصنف: أيّ الدليل على كونها علّة شرعية. فقال: كقياس النبيذ على الخمر لعلّة الإسكار. شرح الأزهار، الإمام أحمد المرتضى، ج1، ص28. قال: وأمّا النبيذ فقسمان: مسكر، وغيره، فالمسكر نجس عندنا، وعند جمهور العلماء، وشربه حرام، وله حكم الخمر في التنجيس والتحريم ووجوب الحدّ. المجموع، محيي الدين النووي، ج2، ص564. قال: وأما النبيذ، فبالقياس على الخمر، مع التنفير عن المسكر. مغني المحتاج، محمد بن أحمد الشربيني، ج1، ص77.

([330]) لم نعثر على عبارة داود الظاهري، ولكنا عثرنا على من نسب إليه القول بنفي القياس، قال: وذلك شبيه بما يقول بعضهم بداود الظاهري: أنه القياسي، ومعناه: نافي القياس. تفسير البحر المحيط، ابو حيان الأندلسي، ج4، ص286.

([331]) فلم يعملوا بحديث المفلس وحديث المصراة - لكون راوي الأول ليس فقيهاً، والثاني خبر آحاد- وعملوا بالقياس، ذكر ما قالته الحنفية عن حديث المفلس، وقال: وقال بعض الشافعية: في الحديث المذكور حجة على أبي حنيفة، حيث قال: هو أسوة الغرماء، وأجابوا عن الحديث بأجوبة..، وقالوا: والحديث إذا خالف القياس يشترط فيه فقه الراوي. عمدة القاري، محمود بن أحمد العيني (الشافعي)، ج12، ص241.

([332]) قال: الخامس: القياس للضرورة، فإنْ لم يكن عند الإمام أحمد في المسألة نص، ولا قول الصحابة، أو واحد منهم، ولا أثر مرسل، أو ضعيف، عدل إلى الأصل الخامس - وهو القياس - فاستعمله للضرورة، وقد قال في كتاب الخلال: سألت الشافعي عن القياس، فقال: إنما يصار إليه عند الضرورة. إعلام الموقعين عن رَبّ العالمين، ابن القيم الجوزية، ج1، ص32.

([333]) كما أنَّ نفي القياس في الشريعة من شعارهم، الذي يعلمه منهم كل مخالط لهم. رسائل المرتضى، علي بن الحسين الشريف المرتضى، ج3، ص309.

([334]) حكاه في المسائل السروية، الشيخ المفيد، ص72، قائلاً: فأما كتب أبي علي الجنيد، فقد حشاها بأحكامٍ عمل فيها على الظنّ، واستعمل فيها مذهب المخالفين في القياس.

([335]) وقال: وأمّا القياسُ: فقد قال به ابن الجنيد من أصحابنا، ثم رجع عنه، على ما قيل. حكى القول بالرجوع صاحب الفوائد المدنية والشواهد المكية، المولى محمد أمين الإسترآبادي، ص269.

قال: وقد أطبق أصحابنا على عدم حجيته، إلا ابن الجنيد، فإنه قال بحجيته، على ما حكي عنه، في أوائل الأمر، ثم رجع عنه. والفصول الغروية في الأصول الفقهية، الشيخ محمد حسين الحائري، ص383.

([336]) قال: وما يرى من تمسّك العلامة في بعض المسائل بالقياس، فإمّا أنْ يريد بذلك الرّد على من خالفه من أهل الخلاف بطريق الإلزام، أو تنبيههم عليه..، ومثله الكلام فيما وقع في كتب الشهيدين من الاحتجاج به في بعض المسائل. الفصول الغروية في الأصول الفقهية، الشيخ محمد حسين الحائري. ص383.

([337]) قال: ويقوى بذلك احتمال حمل الأخبار المتقدمة -على تقدير تسليم دلالتها- على التقيّة، وكذا يحمل عليها ما له على الجواز ظهور دلالة أو صراحة. رياض المسائل، السيد علي الطباطبائي، ج3، ص94.

([338]) ورابعاً: إنَّ القياس ليس بحديث، بل حرام عند الشيعة بالضرورة، وكونه حراماً ضروري مذهب أهل البيت. الرسائل الفقهية، الوحيد البهبهاني، ص224.

قال: وبطلانه في مثل زماننا يُعَدُّ من ضرورياتِ المذهب عند المحصّلين. والفصول الغروية في الأصول الفقهية، الشيخ محمد حسين الحائري، ص383.

([339]) قال: محمد بن أحمد بن الجنيد، يكنّى أبا علي، كان جيّد التصنيف، حسنه، إلاّ أنه كان يرى القول بالقياس، فتركت لذلك كتبه ولم يعوّل عليها. الفهرست، أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي، ص209، ر601.

([340]) الحديث مروي في عوالي اللئالي العزيزية في الأحاديث الدينية، ابن أبي جمهور الإحسائي، ج4، ص64، ح18. ولم نعثر على الحكاية عن البيضاوي بما لدينا من مصادر.

([341]) المحصول في علم أصول الفقه، فخر الدين محمد بن عمر الرازي، ج5، ص104- 105. ولم نعثر على من حكاه عن الرازي، والحديثُ مرويٌّ في العديد من المصادر.

([342]) قال: بل الذاهب إلى هذه الطريقة ربما يقول: لو نص الله تعالى على العلة في تحريم الخمر، وصرح بأنها الشدة المطربة، لوجب حمل ما فيه هذه العلة عليها، وإن لم يتعبد بالقياس، ويجري عنده مجرى أن ينص على تحريم كل شديد. الذريعة إلى أصول الشريعة، السيد المرتضى، ج2، ص683 - 684.

وهذا غير صحيح؛ لأن العلل الشرعية إنما تنبيء عن الدواعي إلى الفعل، أو عن وجه المصلحة فيه، وقد يشترك الشيئان في صفة واحدة، وتكون في أحدهما داعية إلى فعله، دون الآخر مع ثبوتها فيه.

([343]) الأقوى عندي أن العلة إذا كانت منصوصة وعُلم وجودها في الفرع كان حجة. تهذيب الوصول إلى علم الأصول، الحسن بن يوسف بن المطهر الحلي، ص248.

([344]) ذكره في الفصول الغروية في الأصول الفقهية، الشيخ محمد حسين الحائري، ص384.

([345]) الذريعة إلى أصول الشريعة، السيد مرتضى علم الهدى، ج2، ص683 - 684، وقد تقدم بعضه.

([346]) المحقق الكركي في رسالة الارض المندرسة المطبوعة ضمن رسائل الكركي، ج2، ص205.

([347]) سورة الإسراء، الآية 23.

([348]) مما يُوجِبُ التّعَدِّي عن مقتضى النصِّ أيضاً: القياسُ بطريقٍ أولى، والشّيعَةُ مُجْمِعَةٌ على حُجيّتِهِ، نعم نزاعهم في طريقها. الفوائد الحائرية، الوحيد البهبهاني، ص149 - 150.

والحق: أنّه الدلالة الالتزامية، فلو لم يصل إلى هذا الحد لم يكن حجة.

([349]) منتهى الاصول، بحث تقريرات السيد الروحاني، ج4، ص110.

([350]) وسائل الشيعة، محمد بن الحسن الحر العاملي، ج27، ص48، باب 6 من أبواب صفات القاضي، ح28.

([351]) وسائل الشيعة، محمد بن الحسن الحر العاملي، ج27، ص48.

([352]) المصدر السابق.

([353]) من لا يحضره الفقيه، الشيخ الصدوق، ج4، ص118 - 119، باب الجراحات والقتل بين النساء والرجال، ح5239. الأصول من الكافي، أبو جعفر محمد بن يعقوب الكليني، ج7، ص299 - 300، باب دية المرأة في الجراحات، ح6. وفيه: تقابل بدل تعاقل.

([354]) الفصول في الأصول، أحمد بن علي الرازي الجصاص، ج4، ص223. قال: (قال أبو بكر: تَكَلَّمَ قومٌ من مخالفينا في إبطال الاستحسان، حيثُ ظنّوا أنّ الاستحسان حُكْمٌ مما يشتهيه الإنسان ويهواه، أو يلذه، ولم يعرفوا معنى قولنا في إطلاق لفظ الاستحسان).

وقال في ص226: (وجميع ما يقول فيه أصحابنا بالاستحسان، فإنهم إنما قالوه مقرونا (بدلائله وحججه)، لا على وجه الشهوة واتّباع الهوى، ووجوه دلائلِ الاستحسان موجودة في الكتب التي عملناها في شرح كتب أصحابنا).

 وفي ص243: (قال أبو بكر: قد بيّنا وجه الاستحسان، الذي هو إلحاقُ الفرع بأحد النظيرين اللذين يأخذ الشبه منهما، وهذا الضربُ ليس فيه تخصيصُ الحكم مع وجود العلّة، ولا تركها لمعنىً أوجب ذلك لها، وإنّما هو قياسُ الحادثة على أحَدِ الأصلين دون الآخر). اما السرخسي فقال: (أو معناه: طلب الأحسن للاتباع الذي هو مأمور به، كما قال تعالى: [فَبَشِّرْ عِبَادِي الَّذِينَ يَسْتَمِعونَ الْقَوْلَ فَيَتَبِعونَ أَحسَنَه]). أصول السرخسي، ابو بكر السرخسي، ج2، ص200.

([355]) قال: إن الاستحسان يراه معتبرا في الأحكام مالك وأبو حنيفة، بخلاف الشافعي. الاعتصام، ابو إسحاق الشاطبي، ج2، ص137.

فإن قلت: كيف تكون مستحسنات الإمام قاصرة عن هذه المسائل الأربعة، مع أن الاستحسان في مسائل الفقه أغلب من القياس، كما قال المتيطي، وقال مالك: إنه تسعة أعشار العلم. حاشية الدسوقي، شمس الدين الدسوقي، ج3، ص479.

([356]) قال: الاستحسان: ولابد أولا من فهمه، روضة الناظر وجنة المناظر، ابن قدامة المقدسي، ص167.

قال: وهذا ظاهر كلام أبي الخطاب في كتاب الهداية، في مسألة العينة، حيث قال: لا يجوز استحسانا. المسودة، آل ابن تيمية، ص399.

([357]) قال: كان شيخنا الإمام يقول: الاستحسان: ترك القياس، والأخذ بما هو أوفق للناس؛ وقيل: الاستحسان طلب السهولة في الأحكام، فيما يبتلي به الخاص والعام؛ وقيل: الأخذ بالسعة، وابتغاء الدعة؛ وقيل: الأخذ بالسماحة، وابتغاء ما فيه الراحة؛ وحاصل هذه العبارات: أنه ترك العسر لليسر. المبسوط، السرخسي، ج10، ص145.

([358]) وقد تقدم ذكرها.

([359]) نقل قول الشافعي غير واحد، ولم نعثر عليه في مؤلفاته الموجودة عندنا. المغني، ابن قدامة، ج7، ص24.

([360]) (.. إذ عَدَمُ حجيّةِ جُمْلَةٍ من الظنون في الشريعة ولو بالنسبة إلى هذه الأزمان مما قضى به إجماع الفرقة، بل ضرورة المذهب، كظنّ القياس والاستحسان ونحوهما). هداية المسترشدين، الشيخ محمد تقي الرازي، ج3، ص438.

([361]) عمدة القاري، محمود بن أحمد العيني، ج23، ص226. الاستذكار، ابن عبد البر، ج8، ص13.

([362]) لم نعثر على الحديث بهذا اللفظ، وما عثرنا عليه عدة ألفاظ، منها: (سألت الله أن لا يجمع أمتي على ضلالة فأعطانيها..). اُنظر مسند أحمد، أحمد بن حنبل، ج6، ص396. ومنها: (.. وإن الله U وعدني في أمتي وأجارهم من ثلاث: لا يعمهم بسنة، ولا يستأصلهم عدو، ولا يجمعهم على ضلالة). سنن الدارمي، عبد الله الدارمي، ج1، ص29. ومنها: (إن أمتي لا تجتمع على ضلالة، فإذا رأيتم اختلافاً فعليكم بالسواد الأعظم). سنن ابن ماجة، محمد بن يزيد القزويني ابن ماجة، ج2، ح3950.

([363]) قال في التوضيح: وذَكَرَ أبو المعالي أنَّ مالكاً كثيراً ما يبني مذهبه على المصالح، وقد قال: إنه يقتل ثلث العامة لمصلحة الثلثين. المازري: وهذا الذي حكاهُ أبو المعالي عن المالكي صحيح، انتهى. راجعُ مواهب الجليل لشرحِ مُخْتَصَر خليل، الحطّاب الرعيني، ج7، ص558.

([364]) الأصل الرابع من الأصول الموهومة: الاستصلاح، وقد اختلف العلماء في جواز اتباع المصلحة المرسلة. المستصفى في علم الأصول، ابو حَامِدْ الغزالي، ص173.

([365]) شرح مختصر المنتهى الاصولي، ابن الحاجب، ج3، ص424.

([366]) لكنا نعني بالمصلحة المحافظة على مقصود الشرع، ومقصود الشرع من الخلق خمسة، وهو: أن يحفظ دينهم، ونفسهم، وعقلهم، ونسلهم، ومالهم. المستصفى في علم الأصول، ابو حَامِدْ الغزالي، ص173.

أما التي في محل الضرورة، فهي التي تتضمن حفظ مقصود من المقاصد الخمسة، وهي: حفظ النفس، والمال، والنسب، والدين، والعقل. المحصول في علم أصول الفقه، فخر الدين محمد بن عمر الرازي، ج5، ص159 - 160.

([367]) المصلحة: هي ما يوافق الإنسان في مقاصده لدنياه، أو لآخرته، أو لهما، وحاصله: تحصيل منفعة أو دفع مضرة. معارج الأصول، المحقق الحلي، ص221.

قال: أما المصلحة؛ فهي في الأصل عبارة عن جلب منفعة، أو دفع مضرّة. ثمّ قال: ولسنا نعني به ذلك، فإنّ جلب المنفعة، ودفع المضرة من مقاصد الخلق. وراجع المستصفى في علم الأصول، ابو حَامِدْ الغزالي، ص174.

المدخل إلى مذهب الإمام أحمد بن حنبل، عبد القادر الدمشقي، ج1، ص293. والمصلحة جلب نفع، أو دفع ضرر.

([368]) سورة النحل، الآية 90.

([369]) المصالح تنقسم ثلاثة أقسام: معتبرة شرعا، وملغاة، ومرسله. معارج الأصول، المحقق الحلي، ص221.

المصلحة بالإضافة إلى شهادة الشرع ثلاثة أقسام: قسم شهد الشارع لاعتبارها، وقسم شهد لبطلانها، وقسم لم يشهد الشارع لا لبطلانها ولا لاعتبارها. المستصفى في علم الأصول، ابو حَامِدْ الغزالي، ص173 - 174.

([370]) المصلحة باعتبار قوّتها في ذاتها تنقسم إلى ما هي في رتبة الضرورات، وإلى ما هي في رتبة الحاجات، وإلى ما يتعلق بالتحسينات والتزيينات. المستصفى في علم الأصول، ابو حَامِدْ الغزالي، ص174.

([371]) وهذه الأصول الخمسة حفظها واقع في رتبة الضرورات، فهي أقوى المراتب في المصالح. المستصفى في علم الأصول، ابو حَامِدْ الغزالي، ص174.

([372]) الرتبة الثانية: ما يقع في رتبة الحاجات من المصالح والمناسبات، كتسليط الولي على تزويج الصغيرة والصغير. المستصفى في علم الأصول، ابو حَامِدْ الغزالي، ص175.

([373]) الرتبة الثالثة: ما لا يرجع إلى ضرورة، ولا إلى حاجة، ولكن يقع موقع التحسين والتزيين، والتيسير للمزايا والمزائد، ورعاية أحسن المناهج في العادات والمعاملات. المستصفى في علم الأصول، ابو حَامِدْ الغزالي، ص175.

([374]) القسم الثاني: ما شهد الشارع لبطلانها. المستصفى في علم الأصول، ابو حَامِدْ الغزالي، ص174.

([375]) القسم الثالث: ما لم يشهد له من الشرع بالبطلان ولا بالاعتبار نصّ معيّن، وهذا في محل النظر. المستصفى في علم الأصول، ابو حَامِدْ الغزالي، ص174.

([376]) نسبه الغزالي إلى مالك، قائلاً: فإن قيل: فالضرب بالتهمة للاستنطاق بالسرقة مصلحة، فهل تقولون بها؟ قلنا: قد قال بها مالك  عليهم السلام ، ولا نقول به. المستصفى في علم الأصول، ابو حَامِدْ الغزالي، ص176.

([377]) واختلف في حجية المصالح المرسلة، فذهب أصحابنا إلى اعتبارها، على ما أسلفناه. المدخل إلى مذهب الإمام أحمد بن حنبل، عبد القادر الدمشقي، ح1، ص293.

([378]) النوع الرابع: المصالح المرسلة: ..، وانقسامها باعتبار شهادة الشارع لها إلى معتبرة، وملغاة، وإلى ما لم يشهد الشرع لها باعتبار ولا إلغاء..، ولم يبق غير القسم الثالث، وهو المعبر عنه بالمناسب المرسل، وهذا أوان النظر فيه. الإحكام في أصول الأحكام، سيف الدين الآمدي، ج4، ص160.

وقد اتفق الفقهاء من الشافعية والحنفية وغيرهم، على امتناع التمسك به، وهو الحق، إلا ما نقل عن مالك أنه يقول به، مع إنكار أصحابه لذلك عنه، ولعل النقل إن صح عنه، فالأشبه أنه لم يقل بذلك في كل مصلحة.

([379]) كذا لا حجة لنا في التعرض للاستحسان والمصالح المرسلة، بعدما أطبق أصحابنا على عدم حجية ذلك. الفصول الغروية في الأصول الفقهية، الشيخ محمد حسين الحائري، ص387.

([380]) ما عدا الظاهرية، فإنهم لا يفرقون بين العبادات والعادات، بل لكل تعبد غير معقول المعنى، فهم أحرى بأن لا يقولوا بأصل المصالح، فضلاً عن أن يعتقدوا بالمصالح المرسلة. الاعتصام، ابو إسحاق الشاطبي، ج2، ص133.

([381]) الأصول من الكافي، أبو جعفر محمد بن يعقوب الكليني، ج1، ص58، باب البدع والرأي والمقائيس، ح19.

([382]) الشيخ الأجل ورئيس المحدثين أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن موسى بن بابويه الصدوق القمي  عليهم السلام ، ولد بقم حدود سنة (306ه‍)، ولم ير في القميين من يضاهيه في سمو مكانته ورفيع مقامه العلمي. وبنو بابويه من بيوتات القميين الذين ذاع صيتهم بالعلم والفضيلة. الذريعة، آغا بزرك الطهراني، ج1، ص72.

([383]) وقال ابن الرفعة: أنه قد ينازع في ذلك قول بعض الأصحاب، أن الشخص إذا باع في مرض موته شقصاً من دار بدون ثمن مثله، ولوارثه فيه شفعة، أن الوارث لا يأخذ بالشفعة سدّاً لذريعة التبرع عليه، وكذا قول الأصحاب، أن الولي إذا باع على اليتيم شقصاً له شفعة، لا يأخذه بالشفعة. المجموع، محيى الدين النووي، ج10، ص158. وفي ص159- 160، قال: فسَدُّ الذرائع الذي هو محلّ الخلاف بيننا وبين المالكية، أمرٌ زائد على مطلق الذرائع، وليس في لفظ الشافعيّ تعرض لهما، والذرائع التي تضّمنها كلام لفظه لا نزاع في اعتبارها... فحاصل القصة: أنا قلنا بسدّ الذرائع أكثر من غيرنا. انتهى كلامه.

وذكر القرطبي والآبي في أوائل شرح مسلم في منع بيع العنب لمن يعصرها خمراً قولين. قال الآبي: والمذهب في هذا سدّ الذرائع. مواهب الجليل، الحطّاب الرعيني، ج6، ص50.

([384]) اعلم أن الذريعة كما يجب سدها، يجب فتحها، ويكره، ويندب، ويباح، فإن الذريعة هي الوسيلة، فكما أن وسيلة المحرم محرمة، فوسيلة الواجب واجبة، كالسعي للجمعة، والحج. الذخيرة، شهاب الدين القرافي، ج1، ص153.

([385]) تطرق علماء الإمامية لقسم آخر من هذه المسألة، وهو ذريعة الحرام تحت عنوان مقدمة الحرام، ولكن لم ينتهوا إلى حرمة المقدمة للحرام، إذ بإمكان المكلف أن يأتي بمقدمة الحرام ولم يأت بنفس الحرام، نعم إذا كانت مقدمة الحرام بمثابة العلة التامة التي لم يتمكن من عدم إتيان الحرام إذا جاء بها فحرمت أيضا. وبهذا نعرف أيضاً أن ما يرد على لسان الشارع من ردع عن المقدمات التي هي علة تامة للمحرمات إنما هو من قبيل الإرشاد إلى حكم العقل. الربا فقهياً واقتصادياً، حسن محمد تقي الجواهري، ص33 - 34.

([386]) الواقع أن الفقهاء جميعاً يأخذون بأصل الذرائع، مع اختلاف في مقدار الأخذ به، وتباين في طريقة الوصول إلى الحكم، إذ المشاهد في أحكام الفروع أن أكثر الفقهاء يعطي الوسيلة - الذريعة- حكم الغاية إذا تعينت الوسيلة لهذه الغاية، أما إذا لم تتعين طريقاً لها، فالمشهور عن الإمام مالك أنها تعتبر أصلا للأحكام، ويقرب منه في ذلك الإمام أحمد، وتبعهما ابن تيمية، وابن القيم. المدخل للفقه الإسلامي، محمد سلام مدكور، ص270.

([387]) سورة النور، الآية 31.

([388]) سورة الأنعام، الآية 108.

([389]) الذريعة: الوسيلة للشيء، ومعنى ذلك حسم مادة وسائل الفساد، دفعا له، فمتى كان الفعل السالم من المفسدة وسيلة إلى المفسدة، منعنا من ذلك الفعل، وهو مذهب مالك. الذخيرة، شهاب الدين القرافي، ج1، ص152.

([390]) أبجد العلوم الوشي المرقوم في بيان احوال العلوم، صديق بن حسن القنوجي، ج1، ص105. أيضاً ابن القيم الجوزية يمنع هذه القاعدة وتبعه في ذلك تلميذه بن تيمية، والشافعي الظاهري وغيرهم على المنع. شرع المعتمد في اصول الفقه، الدكتور محمد حبش، ج1، ص67.

([391]) أنظر: القواعد الفقهية، السيد محمد حسن الموسوي البجنوردي، ج4، ص294.

([392]) تقسيمه إلى عرف عملي وقولي:

1. العرف العملي: وأرادوا به العرف الذي يصدرون عنه في قسم من أعمالهم الخاصة، كشيوع البيوع المعاطاتية في بعض البيئات.

2. العرف القولي: وهو الذي يعطي الألفاظ عندهم معاني خاصة، تختلف عن مداليلها اللغوية، وعن مداليلها عند الآخرين من أهل الأعراف، كإطلاق العراقيين لفظة الولد على خصوص الذكر، بينما يطلق في اللغة على الأعمّ من الذكر والأنثى. راجع الأصول العامة للفقه المقارن، السيد محمد تقي الحكيم، ص421.

([393]) أنظر: كشف الغطاء عن مبهمات الشريعة الغراء، الشيخ جعفر كاشف الغطاء، ص166.

([394]) وسائل الشيعة، محمد بن الحسن الحر العاملي، ج10، ص184، باب 4 من أبواب من يصح منه الصوم، ح1.

([395]) والتلازم: قد يكون مستفادا من الشرع، كتلازم القصر في الصلاة، المستفاد من قوله: (إذا قصرت أفطرت، وإذا أفطرت قصرت). وقد يكون مستفاداً من حكم العقل، كما يقال: إن الأمر بالشيء في وقت معين لا يزيد عليه، يستلزم عدم الأمر بضده في ذلك الوقت بعينه، وإلا لزم التكليف بما لا يطاق، وهو قبيح عقلا. الوافية في أصول الفقه، عبد الله بن محمد البشروي، ص219.

([396]) الوافية في أصول الفقه، عبد الله بن محمد البشروي، ص199، والظاهر أن الفقهاء يستدلون بهذه الطريقة على نفي الحكم الواقعي، وبأصالة البراءة على عدم تعلق التكليف. هداية المسترشدين، الشيخ محمد تقي الشيرازي، ج3، ص550 ..، بل هو كالصريح في حجية أصالة البراءة مطلقا في نفي التكليف عنا بعد الفحص... الفصول الغروية في الأصول الفقهية، الشيخ محمد حسين الحائري، ص51، وأما أصل العدم، فإن أريد به عدم التكليف، كان بمعنى أصل البراءة. فرائد الأصول، الشيخ مرتضى الأنصاري، ج1، ص396، وقد ثبت في مسألة البراءة أن مجراها الشك في أصل التكليف، وفي ج2، ص450، أن مفاد أدلة أصل البراءة مجرد نفي التكليف.

([397]) فرائد الأصول، الشيخ مرتضى الأنصاري، ج2، ص334، قال: (وأما عدم الدليل دليل العدم فالمستند فيه شيء آخر، ذكره كل من تعرض لهذه القاعدة، كالشيخ، وابن زهرة، والفاضلين، والشهيد، وغيرهم).

([398]) العدة في أصول الفقه، أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي، ج2، ص758، قال: (وإذا تتبعنا جميع الأدلة، فلم نجد فيها ما يدل على أن الحالة الثانية مخالفة للحالة الأولى، دل على أن حكم الحالة الأولى باق على ما كان).

([399]) المعتبر في شرح المختصر، المحقق الحلي، ص32، قال: (الثاني: أن يقال: عدم الدليل على كذا، فيجب انتفاؤه، وهذا يصح فيما يعلم أنه لو كان هناك دليل لظفر به، أما لا مع ذلك، فيجب التوقف، ولا يكون ذلك الاستدلال حجة، ومنه القول بالإباحة لعدم دليل الوجوب والحظر). نهاية الوصول الى علم الاصول، الحسن بن يوسف بن المطهر الحلي (مخطوط)، ص424.

([400]) ذكرى الشيعة في أحكام الشريعة، الشهيد الأول، ج1، ص51، قال: (ولا يلزم من عدم الظفر بالدليل عدم الدليل، وفي ص52: التمسك بأصالة البراءة عند عدم الدليل، وهو عام الورود في هذا الباب- كنفي الغسلة الثالثة في الوضوء، والضربة الزائدة في التيمم، ونفي وجوب الوتر - ويسمى استصحاب حال العقل).

([401]) الوافية، عبد الله بن محمد البشروي، ص199، قال: (القسم الخامس: التمسك بعدم الدليل، فيقال: عدم الدليل على كذا، فيجب انتفاؤه).

([402]) أنظر: معجم المحاسن والمساوئ، ابو طالب التجليل التبريزي، ص13.

([403]) أنظر: رسائل فقهية، الشيخ مرتضى الأنصاري، ص155.

([404]) تقدم بعنوان التسامح في أدلة السنن من هذا الكتاب.

([405]) تاج العروس، الزبيدي، ج20، ص74.

([406]) أوثق الوسائل في شرح الرسائل، موسى التبريزي، ص465. المصطلحات، إعداد مركز المعجم الفقهي، ص276.

([407]) القوانين المحكمة في الأصول المتقنة، الميرزا أبو القاسم القمي، ج3، ص178.

([408]) شروح الشمسية مجموعة حواشي وتعليقات، نجم الدين عمر بن علي القزويني، ج2، ص188.

([409]) شروح الشمسية مجموعة حواشي وتعليقات، نجم الدين عمر بن علي القزويني، ج2، ص188.

([410]) مصباح الفقاهة، السيد ابو القاسم الخوئي، ج4، ص19.

([411]) يمكن ان يستفاد من كلام مفاتيح الاصول، محمد الطباطبائي الكربلائي، ص525، قال: هل الاستقراء حجة في نفس الأحكام الشرعية كما أنه حجة في المسائل اللغوية، أو لا اختلفوا في ذلك على قولين:

الحكم في فرد من إفراد النوع لا يلزم منه وجوده في باقي الأفراد. ومنها أنه لا يفيد العلم بالحكم الشرعي فلا يكون حجة.

الثاني: أنّه حجة وهو للمحكي عن بعض، وإليه ذهب بعض فضلاء للقول الأول وجوه: منها ما تمسك به في المعارج فقال الحق أنه ليس بحجة. ومنها ما يفيد الظن بناءً على اصالة الظن. لا فرق في الاستقراء بين أن يكون في الأجناس أو الأنواع أو الأصناف، لا فرق في ذلك بين صورتي ظهور مخالفة بعض الأفراد وعدمه.

([412]) لم نعثر عليه.

([413]) أنظر: زبدة الاصول، السيد محمد صادق الروحاني، ج4، ص17.

([414]) نهاية الدراية في شرح الكفاية، الشيخ محمد حسين الغروي الاصفهاني، ج3، ص37.

([415]) قوانين الاصول، الميرزا أبو القاسم القمي، ص355.

([416]) تعليقة على معالم الأصول، السيد علي الموسوي القزويني، ج1، ص49.

([417]) شروح الشمسية مجموعة حواشي وتعليقات، نجم الدين عمر بن على القزويني، ج2، ص188.

([418]) نهاية الوصول إلى علم الاصول، الحسن بن يوسف بن المطهر الحلي، ج2، ص59.

([419]) معارج الأصول، المحقق الحلّي، ص220 - 221، فإنْ قيلَ: مع كثرة الصور، يَغْلِبُ الظنَّ أنَّ الباقي مماثلٌ لما وُجِدَ، والعمل بالظن واجب.

قلنا: لا نسلم أنْ يغلب على الظن (أن الباقي مماثل لما وجد)، إذ لا تعلق بين ما رأيت، وبين ما لم تره، وبين ما علمته من ذلك، وبين ما لم تعلمه، ولو سلّمنا حصول الظنّ، لكنّ الظنَّ الحاصل من غير أمارة لا عبرة به، وليس وجود الحكم فيما رأيته من أجزاء الجملة، أمارة لوجوده في الباقي، سلمناه، لكن الظن قد يخطيء، فلا يعمل به إلا مع وجود دلالة تدل عليه.

([420]) مفاتيح الأصول، السيد محمد الطباطبائي الكربلائي، ص73، وانظر أيضا ص526 وما بعدها.

([421]) مفاتيح الاصول، محمد الطباطبائي الكربلائي، ص72.

([422]) الفوائد الحائرية، الوحيد البهبهاني، ص277، والأولى التمسك بالاستقراء، ويقال: إن الفقهاء ربما يحكمون بحكم كلي، بتتبع جزئيات كثيرة غاية الكثرة، إلى حد يحصل لهم الاعتقاد بعدم مدخلية الخصوصية.

([423]) الفوائد المدنية والشواهد المكية، المولى محمد أمين الاسترآبادي، ص64.

([424]) هو الشيخ شريف ويقال: محمد شريف بن ملا حسن علي البيقسي المازندراني أصلا الحائري مسكنا ومدفنا، المعروف بشريف العلماء، توفي في طاعون (1246هـ) أو(1245هـ) بكربلاء، ودفن فيها في داره، شيخ الشيوخ، العالم المحقق المؤسس المتفنن المتبحر، صاحب التحقيقات التي لم يسبق إليها. أعيان الشيعة، السيد محسن الأمين، ج7، ص338.

([425]) بدائع الأفكار، حبيب الله الرشتي، ص88.

([426]) مفاتيح الأصول، السيد محمد الطباطبائي الكربلائي، ص527.

([427]) حكاه في إشارات الأصول، محمد ابراهيم محمد حسن الكرباسي، ص33.

([428]) نقلا عن مفاتيح الاصول، السيد محمد الطاطبائي، ص27.

([429]) معالم الدين، حسن العاملي، ص37.

([430]) إشارات الأصول، محمد ابراهيم محمد حسن الكرباسي، ص33، قال: وهو يكشف عن كون حجيته متفقاً عليه بينهم.

([431]) المصدر السابق. محمد إبراهيم بن محمد حسن الكرباسي العجمي الفقيه الشيعي المتوفي سنة (1262هـ) في اصفهان نسبه إلى حوض كباس، محلة بهراة، له عشرة كتب بالعربية والفارسية، منها: منهاج الهداية إلى أحكام الشريعة، وكتاب اشارات الاصول. الأعلام، خير الدين الزركلي، ج5، ص305.

([432]) معارج الأصول، المحقق الحلي، ص220، ومثاله في الفقهيات، إذا اختلف في الوتر، فنقول: هو مندوب؛ لأنه لو كان واجباً لما جازَ أنْ يصلّى على الراحلة، والمقدّم مستفاد من الاستقراء، إذ لا شيء من الواجب يصلّى على الراحلة، والاستثناء معلوم بالإجماع.

([433]) نهاية الوصول إلى علم الاصول، الحسن بن يوسف بن المطهر الحلي، ج2، ص50.

([434]) أضواء البيان، الشنقيطي، ج1، ص376، وكون شرع من قبلنا الثابت بشرعنا، شرعاً لنا، إلا بدليل على النسخ، هو مذهب الجمهور، منهم مالك، وأبوحنيفة، وأحمد في أشهر الروايتين.

المسودة في أصول الفقه، آل تيمية، ج1، ص174، مسألة شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد شرعنا بنسخه في أصح الروايتين، وبها قال الشافعي وأكثر أصحابه، واختاره القاضي، والحلواني، وأبو الحسن التميمي، وبها قالت الحنفية، والمالكية، وابن عقيل، والمقدسي.

([435]) المسودة في أصول الفقه، آل تيمية، ج1، ص174، والثانية: لا يكون شرعا لنا إلا بدليل، واختاره أبو الخطاب، وبه قالت المعتزلة والأشعرية.

([436]) المنخول من تعليقات الأصول، الغزالي، ص318، أجمعت المعتزلة أنه لم يكن على شرعة رسول، فإنه يورث التنفير، فإن التابع لا يكون متبوعا.

([437]) اللمع في أصول الفقه، ابو إسحاق إبراهيم بن علي الشيرازي، ص184، والذي يصح الآن عندي، أنَّ شيئاً من ذلك ليس بشرع لنا.

المستصفى في علم الأصول، ابو حَامِدْ الغزالي، ص165، الأصل الأول من الأصول الموهومة: شرع من قبلنا من الأنبياء، فيما لم يُصَرِّحْ شرعُنا بنسخه.

المنخول من تعليقات الأصول، الغزالي، ص321، والمختار: أن لا رجوع إلى دين أحد من الأنبياء.

الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع، محمد بن أحمد الشربيني، ج2، ص20، ولم أستدل بالآية لأن شرع من قبلنا ليس شرعاً لنا وإنْ ورد في شرعنا ما يقرره.

أضواء البيان، الشنقيطي، ج1، ص376، وخالف الإمام الشافعي  عليهم السلام  في أصحّ الروايات عنه، فقال: إنَّ شرع من قبلنا الثابت بشرعنا ليس شرعاً لنا، إلا بنصٍّ من شرعنا على أنه مشروع.

ومنع منها الظاهرية أيضاً، راجع الإحكام في أصول الأحكام، ابن حزم الاندلسي، ج5، ص739، قال أبو محمد: فصح بهذه الآية (سورة البقرة، الآية 136) أنَّ الذي تساوى فيه كل من ذكر الله من النبيين، هو اللازم لنا، وليس ذلك إلا التوحيد وحده، وإلاّ فلا خلافَ بينَ أحدٍ من المسلمين، في أنَّ شرائعهم كانت مختلفة، فسَقَطَ عَنَّا بذلك جميع شرائعهم، إلاّ الذي سوى بينهم فيه، وهو التوحيد فقط.

مختصة بأممها، بخلاف شريعتنا، فإنها جاءت عامة ناسخة للشرائع السابقة، ولأن الرسول  (ص)  لما أرسل معاذ بن جبل لليمن ليحكم فيها قال له: (بم تقضي؟ قال: بكتاب الله، فإن لم أجد فبسنة رسول الله، فإن لم أجد اجتهد)([1])، فلو كان شَرْعُ مَنْ قبلنا مَصْدَراً عند انعدام النصّ، لأمره رسولُ اللهِ بالرُّجوعِ إليه، لا أنْ يُقِرُّهُ على الاجتهاد.

وهو يَرْجِعُ للسنّة، إنْ كان من بابِ تقرير النبيّ  (ص)  له، باعتبار أنَّه حُكْمٌ كان ثابتاً في الشرع السابق، وحيثُ لم ينسخه الرسول  (ص)  فقد أقره، أو للاستصحاب، باعتبار أنّ الحكم في الشريعة السابقة كان ثابتاً يقيناً، ونشك في ارتفاعه بشريعة الرسول، ولا ينقض اليقين بالشك، فنستصحبه إلى شرعنا الحاضر.

ولا نسلم أنَّ الشرائع السابقة قد نُسِخَتْ بأحكامها جميعاً، بل في القرآن ما يؤكد إمضاءه للشرائع السابقة، كقوله تعالى: [يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ]([2])، وكقوله تعالى: [مُصدّقاً..]([3])، وكقوله تعالى: [مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ]([4]).

وأما قصة معاذ فإنه بأخذه بأحكام الشريعة السابقة، يكون آخذاً بالكتاب والسنة، لما قد عرفت أنّهما يدلان على ثبوتِ أحكامِ الشَّريعَةِ السَّابقة، وتحقيقُ الحال يُطْلَبُ ممّا كَتَبْناهُ في استصحابِ أحكام الشّرائع السابقة.

 

 

 

المصدر الخامس عشر
مذهب الصحابي

وهو القول والعمل الذي يصدر من الصحابي المشتهر بالفقه والفتوى، ولديه الملكة الفقهية، من دون أنْ يعرف له مستندٌ في الواقعة، فإنّه يَدُلُّ على حكمها؛ واستدلوا على حجيته: بأنَّ الصحابة كانوا أقرب الناس للنبي  (ص) ، فهم أعلمُ الناس بسنّته([5])، وبقول النبي  (ص) : (أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم)([6]).

ويُنْسَبُ لمالك([7]) وابن حَنْبَل([8]) الاعتماد على قول الصَّحابيّ، وهو مؤخَّرٌ عندهم عن الإجماع، ومُقدَّمٌ على القياس، واختار الآمدي أنه ليس بحجة([9])، وقد عَدَّه الغزالي من الأصول الموهومة([10]).

والحق: أنّه لا دليلَ لنا على حُجيّته، إذ لعلَّ الصّحابي استند قوله لحدسه ورأيه، وقد أخطأ، فهو نظير فتوى المجتهد ليس بحجة على الغير([11]).

والحديثُ لا يَدُلُّ على لزوم العمل والاقتداء برأي الصحابي، ولعله يراد به الأخذ بروايته لا برأيه، مضافاً إلى ضعف الحديث، كما في كتاب الإحكام([12]) وأعلام الموقعين([13]) والتقرير والتحبير([14]).

نعم، قولُ الصّحابي: (كنا نفعل كذا، ونصنع كذا، ونقول كذا، عند رسول الله  (ص) )([15]) هو داخل في نقل السنة، فهو من الخبر الواحد لتقرير الرسول  (ص) .

 

المصدر السادس عشر
تنقيح المناط

وهو معرفة تمام علّة الحكم للواقعة، فإنّه لو وُجِدَ في غيرها ثَبَتَ الحُكْمُ فيه([16])، وهو يَرْجِعُ للقياس، وَقَدْ عَرَفْتَ أنَّهُ من الدليل العقليّ الاستلزامي.

 

 

 

المصدر السابع عشر
السيرة

السيرةُ من المسلمين، أو من الفقهاء الصالحين على العمل، فإنّها تدلُّ على صِحّتِهِ، وتسمّى بالإجماع العملي([17])، فقد ذكر العلماء في وجه حجيتها: أنا إذا رأينا سيرة المسلمين، أو العلماء الصالحين قد استدامت، واستمرَّتْ طريقَتهُمُ على عملٍ خَاصٍّ يتعاطونه، مواظبين عليه، ويتداولونه راغبين إليه من غير دليل يوافقهم، أو يخالفهم، ولم ينكر إمامهم عليهم ذلك، كشف عن أنه راضٍ به، نظير استكشاف رأي المجتهد عن استمرار عمل مقلديه على شيء، فإنّ إطباقهم كاشفٌ عن رأيه، وكذلك استكشاف رأي كلِّ رئيسٍ في كُلِّ فنٍّ من طريقة اتباعه([18]).

نعم، للاستكشاف المذكور شرائط، مثل أنْ لا يكون العمل المذكور ناشئاً عن المسامحة وقلة المبالاة، إذ لو لم يعلم ذلك لما حصل العلم برأي الإمام، ولذا لا يكشف سيرتهم على المعاملة مع الأطفال بالبيع والشراء عن رأي إمامهم، مع أنه متداول في الأعصار والأمصار، ولا استقرارها على المعاطاة عن كونها بيعاً عند المشهور، ولا استقرارها على التكلّم مع الأجنبية أزيد من مقدار الحاجة عن الجواز، ولا على عدم تحفّظ النساء من ستر ما يقرب من الزند وحواشي الوجه في الصَّلاةِ عن الصِّحّة، وهكذا، ومثلُ أنْ لا يكونَ هُنالك إجماعٌ قولي، أو نَصٌّ، أو حُكْمٌ عقليٌّ على خلاف مُقتضى السيّرة، إذ لا يجامع ذلك الاستكشاف المذكور، ومثل أنْ لا يكونَ عملهم منتهياً إلى تقليد مجتهد، إذ لو علم ذلك كشف عن رأي المجتهد، ومع الشكّ لم يكشف عن رأي الإمام، ومثل أنْ يحرز وجه العمل، وهو العُمْدَةَ، إذ بدونه لا يمكن استكشاف وجهٍ خاصّ، فإنَّ العَمَل الواحد قابلٌ لوجوهٍ عديدة، والأفعالُ مسلوبَةُ الدلالة على جهَةٍ خاصّة، ولذا قالوا في بابِ التأسّي، كما يأتي إن شاء الله:

إنّ فعل المعصوم إنما يكون حُجّة إذا علمنا بوجهه الذي أوقعه عليه([19]).

فنظره  عليهم السلام  إلى امرأة، أو أكله شيئاً، لا يثبت جواز ذلك في حقنا، لاحتمال وقوعه في حقه عن ضرورة، أو محرمية، فلو نظر جماعة منا إلى امرأة، لا يكشف عن جواز النظر إليها في حَقِّ غيرهم، لجواز أنْ تكون زوجة لأحدهم، وأمّاً لآخر، واختاً لثالث، وهكذا.

ومن هذا لا يجوز استناد حجية أخبار الكتب الأربعة إلى عمل الأصحاب بها قديماً وحديثاً، بعد احتمالِ اختلافهم في الوَجْهِ، فيعمل واحد لقطعيتها صدوراً أو دلالة، أو صدوراً ودلالة أو عملاً، أو صدوراً وعملاً، أو لكونها آحاداً محفوفَةً بقرائنَ قطعية، أو لإفادتها الظنّ الشّخصي أو النوعي، أو من جهة الانسداد، وهكذا، فلا يحرز عنوانُ العَمَل، ومُجرَّدُ استكشاف الحُجيّة لا يجدي، بعد بناءه في مذهبه على جهة خاصة.

هذه هي الشروط التي ذكروها لحجية السيرة، والواجب إضافة أمر آخر، وهو عدم كون عملهم عن إكراه، فاجتماعُ الشيعة على مثل صلاة الجمعة في بلاد العامة، لا يكشف عن وجوبها، إلا أنْ يدرج في الشرط الثالث([20]).

والحاصل: إنّ اعتبار سيرة العلماء والمسلمين، إنما هو لأجل كشفها عن تقرير المعصوم  عليهم السلام ، ويشترط فيه -كما قُرِّر في محلّه- علمه  عليهم السلام  بما جرت عليه سيرتهم، وكون علمه على سبيل العادة المتعارفة، دون طريق الإعجاز وكشف المغيبات، وتمكنه من الردع، واحتماله  عليهم السلام  لارتداع الفعل عند ردعه  عليهم السلام  عن ذلك الفعل.

 

 

 

المصدر الثامن عشر
الشهرة

والشهرة لغةً: الواضح المعروف، ومنه: فلان شهر سيفه([21]).

وفي الاصطلاح اتفاقُ جُلّ العلماء على فتوىً أو رواية، ونظيرُها الشهرة في الموضوعات، إلا أنّ اسمَ الشُّهْرَةِ عندَ الفُقَهَاء قد خُصّ بالشهرة في الأحكام، كما أنَّ الشهرة في الموضوعات قد خُصَّتْ باسم الشياع واسم الاستفاضة.

وعن الروضة أنَّ الشياع هو إخبار جماعة بأمرٍ تأمَنْ النَّفْسُ من تواطئهم على الكذب ويحصل بخبرهم الظنُّ المتاخم للعلم([22]).

والشُهْرَةُ في الأحكام على ثلاثة أقسام:

الأول: الشهرة في الرواية، وهي عبارَةٌ عن اشتهار الرواية بين الرواة وأرباب الحديث، بكثرة نقلها، وسيجيء إنْ شاءَ اللهُ بيانُ أنَّها من المرجّحات في باب التعارض.

الثاني: الشُّهْرَةُ العملية([23])، وتسمَّى بالشُّهرَة الاستنادية؛ وهي عبارَةٌ
عن اشتهار العمل بالرواية عند قدماء أصحابنا، واستنادهم في فتواهم
إليها، وسيجيء إن شاء الله بيان أن هذه الشهرة في الاستناد إلى الرواية عند القدماء جابرة لضعف الرواية، وموجبة لاعتبارها وحجيتها، وقد ضرب لها بعض الفقهاء([24]) المثل بالحديث النبوي المشهور (على اليد ما أخذت حتى تؤدي)([25])، فإنَّ فقهاءنا تمسّكوا به لعمل الأصحاب القدماء به مع أنَّ هذا الحديث لم يَذْكُرْهُ أَحَدٌ من رواتنا في كتبهم([26])، وإنّما رَوَتْهُ العامَّةُ في كتبهم، وكان في سَنَدِهِ الحَسَنُ البَصْريّ، عن سمرة بن جندب، عن النبيّ  (ص) ، وسمرة بن جندب صاحب القضية التي قال فيها النبي  (ص) : (لا ضرر ولا ضرار)([27])، وحكي عن أرباب الحديث أن الحسن البصري لم يرو حديثاً منه قط، فمع هذه
الأمور كلها، كان الحديث المذكور حجة عند فقهائنا، باعتبار عمل القدماء
من أصحابنا به، وذلك لأن عمل المشهور من القدماء يوجب الوثوق
بصدوره.

الثالث: الشهرة في الفتوى([28]): وهي عبارة عن اشتهار الفتوى بالحكم الشرعي، وهي محل كلام القوم في مبحث الأدلة، فقد وقع النزاع بينهم في أن الشهرة في الفتوى حتى عند القدماء يثبت بها الحكم الشرعي الذي تدل عليه الفتوى أم لا، وفي المسألة أقوال:

الأول: القول بحجيتها مطلقاً، وقد حكي([29]) اختياره عن الشهيد في الذكرى([30])، والخوانساري([31])، وولده جمال العلماء([32]).

الثاني: القول بعدم حجيتها وهو المشهور([33])، ويرشد إلى ذلك ما ذكره القوم في الدليل على عدم حجيتها، من أن الشهرة لو ثبتت حجيتها، لزم عدم حجيتها؛ لأن المشهور عدم حجيتها، فيلزم من وجودها عدمها، وما يستلزم وجوده عدمه فهو باطل([34]).

الثالث: التفصيل بين الشهرة المدَّعاة قبل زمان الشيخ الطوسي فهي حجة، وبين الشهرة بعد زمانه فهي ليست بحجة، واختاره صاحِبُ المعالم([35]).

الرابع: التفصيلُ بين الشهرة المقترنة بوجود خبر ولو كان ضعيفاً لم يروه إلاّ أهل السنة، وبين غيرها، فالأولى حجّة دون الثانية، وحكي هذا القول عن صاحب الرياض([36])، وعن الوحيد البهبهاني([37]).

وهذه الشهرة التي يوجد على طبقها الخبر على قسمين:

استنادية: وهي التي يستند المفتون في فتواهم إلى ذلك الخبر([38]).

وتطابقية: وهي التي لا يستند المفتون في فتواهم إلى ذلك الخبر.

ولعلَّ السر في اعتبار ضَمّ الخبر، هو التحرُّزُ عن مخالفة المشهور القائلين بعدم حجيتها، حيث نزلوا كلام المشهور على الشهرة المجردة، فالقول بالحجية للشهرة المطابقة للخبر ليس فيه مخالفة للمشهور([39]).

وقد يستدل على حجيتها بأدلة:

منها: إن العقل حاكمٌ بأنَّ اتفاق جماعةٍ من العلماء الأخيار المتبحرين، يوجب العلم والاطمئنان الذي هو بمنزلة العلم بحصول مستند معتبر لديهم([40]).

وجوابه: إنا لو سلّمنا ذلك فهو إنّما يوجبُ الوثوق بحصول دليل صحيح، أو أصل معتبر لديهم، ولا يلزم أنْ يكون صحيحاً أو معتبراً عندنا.

ومنها: إنَّ رأي المتبوع يستكشف من رأي تابعيه، فإنا نستكشف رأي أبي حنيفة من آراء فقهاء الحنفية.

وجوابه: إن الاستكشاف لم يكن على سبيل القطع، بل هو على سبيل الظن، فنحتاج إلى الدليل عليه([41]).

ومنها: إنّ أدلة حجيّة الخبر الواحد تدلُّ على اعتبار الخبر من باب الظن، فتدلُّ بالفحوى، ومفهوم الأولوية، على حُجيّة الشهرة، لكون الظَّنّ الذي تفيده الشهرة أقوى مما يفيده الخبر، مضافاً إلى أنَّ عمومَ التعليل في آية النبأ شامل للشهرة، ضرورَة أنَّ المستفاد منه: أنَّ كلَّ ما لا يوجب العملُ به الوقوعَ في التنديم عند العقلاء يجوز العمل به([42]).

ومن المعلوم أنَّ العمل بالشهرة لا يوجب ذلك، ودعوى اختصاصُه بالخبر يدفعها أنّ العبرة بعموم التعليل لا بخصوصيّة المعلّل، بل لَعَلَّ التعليلَ في الشُّهْرَةِ أقوى وأولى من الخبر.

ويَرِدُ عليه: أنّ أدلّة حُجيّة الخبر تَدُلَّ عليه بخصوصِهِ أفادَ الظنَّ أم لم يفد، ولذا نقول بحجيّتِهِ حتَّى لو قامَ الظنُّ الشخصيُّ على خلافه.

ولو سَلَّمنا، لم ينفع ذلك، لوضوح الفرق بين الظنّ بالحكم الحاصل من إخبار العادل به عن الإمام، وبين الظنّ الحاصل من شهرة الفتوى به، فإنَّ
الظنَّ من جهة الشهرة ينتهي إلى الحَدَس، والظنُّ من الخبر الواحد ينتهي إلى الحس.

وأمّا عمومُ التعليل في آية النبأ، فهو إنّما يقتضي الاعتمادَ على المفتين في أنَّ فتواهم كانت مستندة لشيءٍ معتَبَرٍ عندَهُم، من دليلٍ أو أصلٍ، لا لقولِ الإمام، إذ لم يعلم، بل يُقْطَعُ بعَدمِ مشافَهَتِهِم له، ولا رَيْبَ أنَّ ما كان معتبراً عندهم ليس بمعلومٍ اعتبارُهُ عندنا، إلا إذا اطّلعنا عليه بنفسه([43]).

ومنها: ما في الرّوايَةِ المشهورة عن الشيعة من قوله  عليهم السلام : (خُذْ بما اشتهر بين أصحابك)([44]).

وفيه: إنَّ المراد به هو الأخذُ بالرواية المشتهرة به، ولا يَعُمُّ الفتوى المشتهرة، كما هو أوْضَحُ من أنْ يخفى؛ لأنّ مَحَطَّ النظر في الرواية المذكورة هي الروايات المتعارضة، وهي لا ربط لها بالفتوى.

وتوضيحُ ذلك: إنَّ الروايَة ليس فيها ما يَدُلُّ على العموم، عدا كلمة الموصول، والموصول عمومه تابع للعهد بصلته، ولم يكن هنا عهد بالصلة بنحو العموم للشهرة في الفتوى، حتّى يقال بعموم الموصول لها، ويدلُّ على ذلك قول الراوي في هذه الرواية بعد الفقرة المذكورة، (فقلت: يا سيدي هما معاً مشهوران مأثوران عنكم)، لوضوح عدم إمكان تحقق الشهرة في الفتوى في حكمين متضادين.

ثم إنّ الشهرة في الفتوى وإنْ لم تكن حجة، فهل توجب حجية الرواية المطابقة لها، بأنْ يفتي الكثرة بما يطابق مضمون الرواية الضعيفة من غير أن يستندوا في فتواهم إليها، كما أفتى المشهورُ بنجاسة العصير العنبي إذا غلى واشتدّ من دون تمسكهم بالرواية الضعيفة المطابقة لهذه الفتوى([45])، وقد ذهب جماعة إلى حجية هذه الرواية بواسطة هذه الشهرة المطابقية([46])، والظاهر أنه كذلك لحصول الوثوق بصدورها.

وأمّا الشهرَةُ في الفتوى الاستنادية، بأنْ يفتي الكثرة بما يطابق مضمون الرواية الضعيفة، مع الاستناد في فتواهم إلى تلك الرواية الضعيفة، كما حكموا بالطواف بين البيت والمقام([47]) استناداً لرواية ضعيفة تدل على ذلك([48])، فقد ذهب الكثير إلى أنَّ هذه الشهرة توجب حُجيَّة الرواية الضعيفة([49])، وهو الحق لحصول الثقة بصدورها.

نعم الشهرة في الرواية الّتي هي عبارة عن كثرة نقلها، ويقابلها الندرة والشذوذ في الرواية، وهي عبارة عن عدم اشتهار روايتها، وفي كتب الأخبار قد جعلوا باباً للنوادر، يريدون بها الأخبار التي لا مثيل لها في الدلالة على مطلبها، أو كان، ولكنْ قليلٌ جدا، ولا مُعارِضَ لها، ولا كلام في صِحَّتها([50]).

والشُّهْرَةُ من المرجّحات للرواية في بابِ التعارُض، بمعنى أنَّ الرواية إذا اشتهر نقلها بين الأصحاب تُرَجَّحُ على الرواية المعارضة لها، إذا لم تكن بمثابتها في الشهرة، وذلك لما في مقبولة عمر بن حنظلة([51])، ومرفوعة زرارة([52])، الواردتين في مورد تعارض الروايات من أمره  عليهم السلام  بالأخذ بما اشتهر بين الأصحاب، كما أنها موجبة لحجية الرواية، وإن كانت ضعيفة السند؛ لكونها موجبة للوثوق بصدورها، ولقوله  عليهم السلام  فيما تقدم بالأخذ بما اشتهر بين الأصحاب، لكن بشرط عدم إعراض الأصحاب عنها من جهة صدورها، وإلا فذكرها، والمناقشة في دلالتها، وإعراضهم عنها من جهة دلالتها لا يوجب وهنها، إذ لو لم تكن معتبرة الصدور لناقشوا في الصدور لا في الدلالة، فإنّ إعراضهم عنها مع كونها بمرأى منهم ومسمع يوجب وهنها، وعدم الوثوق بصدورها أو ضعف دلالتها.

وبهذا تعرف وجه ما ذكره القوم من أن الشهرة في الفتوى عند القدماء موجبة لضعف الرواية المخالفة لها، وإن كانت صحيحة، بحيث توجب الشهرة خروج الرواية الصحيحة عن الحجية؛ لعدم الوثوق إذ ذاك بصدورها([53]).

 

المصدر التاسع عشر
أصل البراءة

أصل البراءة من التكليف المشكوك وجوده، وهو يثبت به نفي التكليف في مورد الشكّ فيه شكّاً غير مسبوق بالعَمَل بالحكم للواقعة، وبعد الفحص عن حكمها بمقدار لا يوجب العسر والحرج، وعدم الظفر به، وهذا الدليل يسمّى بأصالة البراءة([54])، وأصالة النفي، والبراءة الأصلية، كما لو شككنا في وجوب نصح المستشير، فإنّ هذا الشك يثبت به عدم وجوب النصح المذكور، وكما لو شككنا في حرمة شرب التتن، فإنّ هذا الشكّ يثبت به عدم حرمته، خلافاً لبعضهم، كما هو المحكيّ عن معظم الأخباريين من القول بالاحتياط([55]).

والدليلُ على أنَّ الشك المذكور يثبُتُ به عدم التكليف من الكتاب آيات، منها: [لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ مَا آتَاهَا]([56])، بناءً على إرادَة التكليف من الموصول، فواضح، وهكذا بناءً على أنّ المراد ما آتاها من القدرة عليه من العلم والمال، حيثُ لا يصدق الإتيانُ عند عدم الدليل المعتَبَر على التكليف الشرعي.

ولا ينافي عمومَ الموصولِ خصوصيّة المورد، على أنَّ الآيات القرآنية أحكامها مستقلة؛ لأنها نزّلت نجوماً، فلا يكونُ ما قبلها مُقيَّداً لما بعدها، أو بالعكس.

ومنها قوله تعالى: [لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا]([57])؛ لأنَّ النفسَ لا وسعَ لها قبل معرفتها للتكليف.

ودعوى أنَّ لها الوسع بالاحتياط، ينافي كون الآية في مقام الامتنان، ولا رَيْبَ أنَّ الاحتياطَ فيه ضيّق لا وسعة.

وأمّا من السنة فأخبارٌ كثيرة، منها: النبويّ المرويّ في الخصال بسندٍ صحيح، كما في التوحيد([58])، عن حريز، عن أبي عبد الله  عليهم السلام ، قال: (قال رسول الله  (ص) : رفع عن أمتي تسعة أشياء: الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه، وما لا يعلمون، وما لا يطيقون، وما اضطروا إليه، والطيرة، والحسد، والتفكّر في الوسوسة في الخلق ما لم ينطقوا بشفه)([59])، والحديث عن التّهذيب([60]) (وضع) مكان (رفع).

والظاهر منه، هو رفع التكليف الفعلي المنَجَّز عن الشيء الذي لا يعلم حكمه، بقرينة السياق، فإنَّ رفع الخطأ والنسيان في الحديث المذكور، ليس المراد به عدم وقوع نفسهما في هذه الأمة قطعاً، لوجودهما فيها وجداناً، فلا بدّ أن يكون المراد رفع التكليف المنجّز عمّا وقع فيه الخطأ والنسيان، كما هو مقتضى وروده في مقام المنّة ممن هو مشرع.

والحاصل: إنّ المراد به في جميع الفقرات هو رفع الشيء الذي اضطر إليه، والشيء الذي وقع الخطأ فيه، والشيء المضطر إليه، والشيء المكره عليه.

وباعتبار أنّ الرفع إنما كان من الشارع بما هو شارع، فيكون المراد رفع الحكم الإلزامي المنجّز، بمعنى عدم العقاب على مخالفته، ومقتضى هذا السياق يكون معنى رفع ما لا يعلمون باعتبار صدوره من الشارع، وهو رفع حكمه المنجّز الإلزامي، بمعنى عدم العقاب على فعلِ شيءٍ لا يعلم حكمه، سواء كان عَمَلاً أو تركاً.

ومنها: الموثق الذي رَوَاه الكليني  دام ظله في باب حُجج الله على خلقه، عن الصَّادق  عليهم السلام : (ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم)([61]).

ومنها: الخبر المشهور من قوله  عليهم السلام : (الناس في سعة ما لا يعلمون)([62])، فإنّ (ما) أما ظرفية، أي: في سعة ما داموا لم يعلموا، أو موصولة مضاف إليها، أي: في سعة من الذي لا يعلمونه، وكيف كان، فهي تقتضي عدم الضيق الحاصل بالتكليف عند الجهل به.

ومنها: ما في صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج في من تَزَوَّج امرأة في عدّتها قال  عليهم السلام : (أما إذا كان بجهالة فليتزوجها بعد ما تنقضي عدتها، فقد يعذر الناس في الجهالة بما هو أعظم من ذلك..)([63]) الخبر، فإنّه يدلّ على أنَّ الجهالة بالحرمة عذر في المخالفة.

وأما العقل، فلحكمه بقبح العقاب بلا بيان، ويشهد له حكم العقلاء بقبح مؤاخذة المولى عبده على فعل لم يبين له حكمه.

ودعوى حكم العقل بوجوب دفع الضَّرر المحتمل([64]) فاسدة، فإنّه إنْ أريد به الضَّرر الدنيوي، فالعقلُ غير حاكمٍ بوجوبه، ولذا ترى العقلاء يرتكبون أغلب الأشياء المحتمل ضررها الدنيوي، بل يرتكبون المقطوعة الضَّرر الدنيوي، ولو سلَّمنا وجوبَ دفعِهِ عقلاً، كما عن الشيخ  دام ظله([65])، فالشَّرْعُ قد جَوَّزَ ارتكاب القطعيّ منه إذا لم يبلغ حَدَّ التهلكة.

نعم، يمكن أنْ يقال: بأنه لو احتمل الضَّرر الدنيوي البالغ حَدَّ التهلكة، كما لو احتمل السّم، فالعقل يمنع منه، ولعلَّ ارتكابه يكون من باب إلقاء النفس في التهلكة؛ لأنه يكونُ بارتكابه للمشكوك السُمّية إقدام منه على التهلكة([66]).

وإنْ أريدَ به الضَّرر الأخروي، فحُكْمُ العقل بقُبْحِ العِقاب يَرْفَعُ احتمال الضرر الأخروي، فيكون وارداً عليه؛ لأنه مزيل لموضوعه، وهو احتمال الضرر الأخروي.

وبهذا ظهر لك أنَّ القاعدة هي البراءة عن التكليف المشكوك في الواقعة، سواء كان وجوباً أو تحريماً، وسواء كان من جهة فقد النصّ فيها، كما في شرب التتن، أو من جهةِ إجمال النصّ فيها، من جهة إجمال ما دَلَّ على الحكم الشرعي، كالأمر المردَّد بين الوجوب والاستحباب، والنهي المشترك بين التحريم والكراهة، أو من جهة إجمال متعلق الحكم كالغناء، فإنَّ مفهومه مجمل، والفرد المشكوك منه يجري فيه أصلُ البراءة، أو من جهةِ إجمالِ المراد منه، كما لو شُكّ في إرادة الخمر الغير المسكر من لفظ الخمر الذي حكم الشارع بحرمة شربه، فإنه يجري أصل البراءة إذا لم تجرِ أصالة إطلاق العموم، أو كان الشك من جهة الاشتباه في الشيء لأمر خارجي، كما لو شك في حرمة شرب مائع من جهة تردّده بين كونه خمراً أو خلاً، ونحو ذلك مما يكون الشكّ فيه شكّاً في واقعة جزئية، المعبّر عنه في لسانهم بالشبهة الموضوعية.

إن قلت: إنّه في الشبهة المذكورة، أعني: الشبهة الموضوعية، يحكم العقل بالاجتناب، نظراً إلى أنَّ الشارع قد بَيَّنَ حكم الخمر مثلاً، فيجب الاجتناب عن ما شَكّ في خمريته وخليته، مقدمة للعلم باجتناب الخمر، فيكون من قبيل المقدمة العلمية للامتثال، فكما أنّه يجبُ ترك المائعَيْن المعلوم كون أحدهما خمراً والآخر خلاً، من جهة كون تركهما مقدّمة علمية لامتثال التكليف بحرمة الخمر، فكذا ما نحنُ فيه، ولا يلزم العقاب بغير بيان للعلم بالحرمة، كما ذكره بعضهم في دَوَران الصّلاة الفائتة بين الأكثر والأقلّ من وجوب الاحتياط من باب المقدمة العلمية([67]).

وبعبارة أوضح: إنّ المقام يكون من باب الاشتغال؛ لأنه قد اشتغلت ذمته يقيناً بالتكليف، كحرمة الخمر، ويَشُكُّ في فراغ ذمّتِهِ من هذا التكليف لو ارتكب مشكوك الخمر، فتجيءُ قاعدة الاشتغال الناطقة، بأنّ الاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني.

قلنا: في الشبهة الموضوعية لا يوجد علم باشتغال الذمة بالتكليف، فإنّ هذا الفرد المشكوك خمريته لم يعلم بوجود التكليف بالاجتناب عنه، لا علماً تفصيلياً، ولا علماً إجمالياً، فلم يَكُنْ اشتغالاً يقينياً بالتكليف، حتّى يجب امتثاله في هذا الفرد، والمقدمة العلمية إنما تجب إذا كان التكليف معلوم وجوده فيها تفصيلاً أو إجمالاً.

وبعبارةٍ أوضح: إنَّ الأفراد المعلومة الخمرية يوجد فيها اشتغال الذمة يقيناً، فتجيءُ القاعدة العقلية، من أنَّ: اشتغال الذمّة اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني، وأمّا الأفراد المشكوكة الخمرية، فهي غير ميقن اشتغال الذمة بها، فلا اشتغال يقيناً بها حتّى يستدعي هذا الاشتغال فراغ الذمة منها.

ومن هنا يظهر لك الجواب عن شبهة وجوب الاحتياط، بدعوى إنا نعلم إجمالاً بمجيء الشريعة بتكاليف كثيرة، قد اشتغلت ذمّتنا بها، والاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني، وهو لا يحصل إلا بالاحتياط بإتيان كُلّ ما احتمل فيه التكليف في موارد الشبه.

فإنّا نقول: إنَّ الاشتغال اليقيني بالتكاليف الشرعية إنّما هو في مورد قيام الأمارات المعتبرة والأصول الصحيحة، وأمّا فيما عدا ذلك، فعندنا شَكٌ في اشتغالِ الذمة، فلا يقينَ باشتغالها، لا تفصيلاً، ولا إجمالاً، فلا يجيء أصلُ الاشتغال.

وبعبارةٍ أوضح: إنّ الذي يسلّمه العقل ويحكم به، هو وُجوبُ تحصيل البراءة اليقينية بقدر ما ثبت به الاشتغال اليقيني، وليس هو إلاّ الأقلّ الذي قامت عليه الأمارات، والأدلّة، والأصول المعتبرة، والزائد عليه مشكوكٌ من أول الأمر، فلا تقتضي قاعدة الشغل وجوبه، هذا مضافاً إلى أنَّ المشرّع بوضعه للطرق والأصول يعلم منه اكتفاؤه بما قامَتْ عليه، ولم يَلْزَم بما عَدَاهُ في تكاليفه الشّرعية، وإلاّ لَنُصِبَ عليه الطرق.

شرائطُ الرُّجوع لأصلِ البراءة

ثمّ إنّ الرجوع لأصل البراءة في المورد المشكوكِ التكليف يشترط فيه:

أولاً: أنْ يكونَ بَعْدَ الفحص عن الدليل في الشبهة الحكمية، فإذا فَحَصَ ولم يظفر بالدليل صَحَّ له الرجوع لأصل البراءة، وذلك للأدلة الدالة على وجوب تحصيل العمل، كآية النفر([68])، والسؤال([69])، والأخبار المتظافرة الدالّة على وجوب تحصيل العلم والتفقه([70])، مؤيّداً ذلك بالإجماع المنقول([71])، ولأنّه لو أهمل الفحص عند إجراء البراءة يلزم إهمال التكاليف، بل حصولُ شرع جديد، ومقدار الفحص هو إلى حَدِّ عَدَمِ لزومِ الحَرَج والعُسْر، للأدلّة الدالّة على نفي العسر والحرج في تكاليف الشريعة الإسلامية.

وأمّا الشُّبهة الموضوعيّة فلا يعتبر في إجراء الأصل الفحصُ، فمتى شكّ في نجاسة بدنه، ولم يكن له حالة سابقة، أجرى أصل البراءة من وجوب تطهيره، وليس عليه الفحص، ويدلُّ على ذلك إطلاقُ الأخبار، مثل قوله  عليهم السلام : (كلُّ شيءٍ لك حلال حتَّى تعلم أو حتَّى تستبينُ لكَ غير هذا أو تقوم به البيّنة أو حتى يَجيئك شاهدان يشهدان أن فيه الميتة)([72])، ونحو ذلك([73]).

وثانياً: أنْ لا يكون أصلٌ مُقَدَّمٌ عليه، فإذا شكَّ في حرمة أكلِ لَحْمِ الحيوان من جهةِ الشكّ في تذكيَتِهِ، فلا يُرْجعُ لأصلِ البراءة في نفي الحرمة؛ لأنّ أصالة عدم التذكية مقدّمة عليه، إنْ قلنا بجريانه.

وثالثاً: أنْ لا يعارضه أصلٌ مثله، كما في الإناءين المعلومة خمرية أحدهما، فإنّ أصالَةَ البراءة من الحرمة في كُلٍّ منها معارَضٌ بأصالةِ البراءة عن الحرمة في الآخر، إذا قلنا أنَّ بينهما معارضة، وسيجيءُ إنْ شاءَ الله في أصالة الاشتغال تحقيق الحال.

ورابعاً: أنْ لا يكون في جريانه خلافُ الامتنان على الأمّة؛ لأنَّ أدلته واردة في مقام المنّة على العباد، كما يُرْشِدُ إلى ذلك قولُهُ  (ص) : (رُفِعَ عن أمّتي)([74])، فلو لزم جريان أصلُ البَرَاءَة والفساد والضرر، فلا يجري.

 

المصدر العشرون
أصالة التخيير

أصلُ التخيير فيما لو دَارَ الأمرُ بينَ محذورين، فإنّه يَرْجع لحكم العقل بقبح التكليف بالمتنافيين، ولكنّه بعد الفحص وعدمِ الظَّفَرَ بالدّليل على الحكم لأحدهما([75]).

وهو إنّما يجري في مَوْرِدٍ يَعْلَمُ بالتّكليف إجمالاً بينَ أمرين أو أكثر، ولكنْ لا يُمكنُ الجَمْعُ بينهما، كما لو علم بالوجوب بين أمرين متضادّين، لا يُمكِنُ وجودهما معاً، أو بالحرمة بين أمرين لا يمكن تركهما معاً، فإنّه يتخيّر بينهما لعدم التمكُّن من الإتيان بهما معاً، فلا يُعْقَلُ أنْ يريدهما الشارع من المكلَّف معاً، ولكنْ عليه أنْ يأتي بأحدهما، وإلاّ لَلَزَمَ المخالفة القطعيّة، فالموافقة القطعية وإنْ لم يمكن تحقّقها من العبد، لكنْ تَرْكُ المخالفة القطعية ممكنٌ أنْ يتحقَّقَ منه، فالعَقْلُ يمنع منه.

وهكذا يجري أصلُ التخيير فيما لو شُكَّ في التّكليف من جهَةِ تردُّدِهِ بين الوجوب والحرمة، مع عدم احتمال حُكْمٍ آخر في الواقعة، وعَدَم حالة سابقة لواحدٍ منها المعيّن، بحيثُ يكون مجرىً للاستصحاب، سواء كان من جهة فقد النصّ، كما لو اختلفت الأمّةُ على قولين بالوجوب أو بالحرمة، أو عُلِمَ بوجود حُكْمٍ في الواقعة، أمّا الوجوبُ أو الحرمة، وقامَ النّصُّ أو الإجماع البسيط على نفي الأحكام الثلاثة الغير الإلزامية([76])، وإنْ كان هذا الفَرَضُ نادراً، بل
لا يُوجد، كما لو شُكَّ في وجوب إيقاظ النائم للصلاة وحرمته([77]).

والعقلُ حاكمٌ بالتخيير بينهما، لعدم تنجّز العلم الإجمالي، لاضطرارِهِ لمخالفة أحدهما، إذ المكلّف لا يخلو عن الفعل أو التَّرك، فهو مُضْطَرٌ لمخالفة الوجوب أو الحرمة، فيجري أصلُ البراءة عن كُلٍّ منهما، ولذا لا يترتَّبُ الآثار الخاصّة للوجوب، ولا الآثار الخاصة للحرمة.

ومَحَلُّ الكلام فيما كان الوجوبُ والحرمة توصليين، أو أحدهما لا بعينه تعبدّي، مع وحدة الواقعة، إذ لو كانا تعبديين، أو أحدهما بعينه تعبدي، يلزم من إجراء الأصلين -البراءة عن الوجوب والبراءة عن الحرمة- المخالفة القطعية لو أتى بالفعل بدونِ قَصْدِ القربة؛ لأنّه لو كانَ واجباً، فهو لم يأتِ به؛ لأنّه فَعَلَهُ بدون قصد القربة، ولو كان محرّماً فهو لم يتركه بقصد القربة، فالعقلُ غيرُ حاكم بالتخيير بين الفعل والترك، وإنّما يحكم بفعله بقَصْدِ القربة، أو تركه بقصد القربة، فيما لو كان تعبديين، أو بفعله تعبدياً، وبتركه، فيما لو كان الوجوب تعبدياً، أو بتركه تعبداً، وفعله، فيما لو كان الترك تعبديا.

نعم، لو كان أحدهما تعبدياً لا بعينه، لم يحرز المخالفة القطعية بارتكاب أحد الطرفين، فراراً عن المخالفة القطعية.

والحاصل: أنّه فيما ذكرناه، أعني: فيما كانا توصليين، أو أحدهما لا بعينه تعبدي، لم يتنجز التكليف المعلوم بالإجمال، لعدم قابليته لذلك؛ لأنّ إطاعته وامتثاله العلمي، ومخالفته وعصيانه العلمي غير مقدورين، والاحتمالي منهما مضطرٌ إليه، فالتّكليفُ الواقعيُّ المعلوم بالإجمال لا يكون باعثاً ولا زاجراً، وخصوصُ أحدهما المعيّن لا بيانَ عليه، فهو مرفوعٌ ومعذور عنه عقلاً، نظيرُ التكليف المعلوم بالإجمال في الشبهة المحصورة المضطرّ لارتكاب أحد أطرافها.

وأما مع تعدّد الواقعة، كأنْ يعلم الوليُّ بوجوبِ واحد لا بعينه، من دفع المال للوارث القاصر أو القصاص من القاتل، أو حُرْمَةِ أحدهما لا بعينه، ففي هذه الصُّورَةُ يدورُ الأمر بين الموافقة الاحتمالية مع المخالفة الاحتمالية، بأنْ يفعل أحدهما ويتركُ الآخر، فإنّه يحتمل الموافقة للواقع، كأنْ يكون ما فعله هو الواجب، وما تَرَكَهُ هو الحرام، وبَيْنَ الموافَقَةِ القَطْعيّة مع المخالفة القطعية، بأنْ يفعلهما معاً، أو يَتْرُكُهما معاً، فإنّه إذ ذاك يَعْلَمُ بأنَّ ما هو الواجبُ قد فعله، وما هو الحرام قد ارتكبه، ليعلم بالموافقة القطعية والمخالفة القطعية، والعقل يرجح الأول على الثاني؛ لأنّ عندَ دوران الأمرِ بَينَ مُحْتَمَلِ الهَلَكَةِ، وبين مقطوعها، يُقدَّمُ الأول على الثاني([78]).

ومن هنا يظهرُ لكَ أنَّ التخيير إنّما يكونُ بَدْويّاً لا استمرارياً، لِلُزومِ المُخَاَلَفَةِ القطعيّةِ من استمرار التخيير، وإنْ حَصَلَتْ بها الموافَقَةُ القطعيّة، من دونِِ فَرْقٍ بينَ ما لو كانت الواقعةُ متعدِّدَةً أو واحدة، فإنّه يحكم العقل بالاستمرار على ما اختاره أولا.

فتلخّص: أنَّ العقل يحكم بالتخيير بين الفعل والترك، عند الدوران بين الوجوب والحرمة، ما لم يلزم المخالفة القطعية، ويحكم بالتخيير الشرعي بناءً على الملازمة بين حكم العقل والشرع.

وأمّا وجوبُ الالتزام والتديُّن والانقياد - لو قُلنا به- فهو في المقام حاصِلٌ؛ لأنه مع العلم الإجماليّ المطلوب منه هو الالتزامُ والانقيادُ لِحُكْمِ الواقعة الواقعيّ على إجماله، وهو في المقام يمكنه الالتزام به على إجماله.

ودعوى لزوم خُلوِّ الواقعة عن الحكم الظاهري لا تضرّ؛ لأنه لا دليل على لزوم الحكم الظاهري للواقعة، وإنما الدليلُ دَلَّ على لزومِ الحكم الواقعي للواقعة، وهو موجودٌ فيها، غايةُ الأمر أنّه مُرَدَّدٌ بَيْنَ الوُجوبِ والحُرْمَةَ([79]).

ودعوى أنَّهُ قد ثَبَتَ شَرْعَاً عند تَعَارُض الخبريين يُتَخَيَّرُ بينهما، ولا رَيْبَ أنَّ المناط في التخيير هو الأخذُ بأحد الحكمين موجودٌ ههنا، فنأخُذُ بأحَدِ الحكمين، ونَعْمَلُ بهِ، كما في تَعَارُضِ الخَبَرين([80]).

فاسدةٌ؛ فإنّ دليل التخيير في الخبرين يرجع إلى التخيير بين الحجتين، ولم يعلم أنَّ مناطه هو العلم الإجمالي بأحد الحكمين، بل لَعَلَّ مناطه هو العلم الإجمالي بأحد الحجتين؛ وفيما نحن فيه فَرْضُ الكلام عدمُ الحجة في المقام.

ودعوى أنّه لا وَجْهَ للحُكم بالتخيير مطلقاً، بل يؤخذ بذي المزية منها، أو محتمل المزية منهما، ويكون المقام من باب اجتماع الأمر والنهي أو من باب المتزاحمين([81]).

مدفوعة: بأنّه في المقام يعلم بوجود أحدِ الحكمين وعدم الآخر في باب اجتماع الأمر والنهي، وباب التزاحم يعلم بوجودهما معاً، ولكنْ لا يمكن امتثالُهُما؛ هذا كلُّهُ في دَوَرَانِ الأمرِ بَينَ الوُجوب والحُرْمَة مع عَدَمِ النَّصّ.

وأمّا عندَ دورانه من جِهَةِ إجمال النَّصّ، كما لو أمَرَهُ بشيءٍ، ولكنْ تَرَدَّدَ الأمرُ بين الوجوب والتهديد، أو أمَرَهُ بشيءٍ مشتركٍ لفظيٍّ بين الفعل والترك، كلفظ (القرء)، فحكمُهُ حكمُ سابقه من صورة فقد النصّ.

وأما لو دارَ الأمرُ بينَ الوجوبِ والحرمة من جِهَةِ تعارُضِ النّصّين، فبيانُ حكمه في باب التعارض.

وأما لو دار الأمرُ بينهما من جهة اشتباه الأمور الخارجية، فإنْ كان إطلاق دليلْ الوجوب ودليلِ الحرمة يَشْمَلُ الواقِعَةَ أو عَلِمَ وُجودَ ملاكيهما في الواقعة، فالمقامُ من بابِ اجتماع الأمْرِ والنَّهي، أو يُعامَلُ مُعَامَلَةَ المتزاحِمَينِ، فمَعَ التّساوي يُتَخَيّر، ومَعَ وُجودِ المزيَّة أو احتمالها في أحَدِهِما يُؤْخَذُ به، وأما لو عَلِمَ بعَدَمِ وجودِ ذلك، واحتمل وجود أحدهما وعدم الآخر، كما لو نذرت المرأة قراءة سورةٍ للعزائم في يومٍ مُعيَّن، واتّفَقَ ذلكَ اليوم في أيام استظهارها، فالحكم هو التخيير الابتدائي.

هذا كلُّهُ بناءً على منجّزية العلم الإجمالي، وتمشّياً مع المشهور في منجزيته([82])، وإلاّ فسيجيءُ منّا إنْ شاء الله عَدَمُ منجّزيته في أصَالَةِ الاشتغال.

وشرطُ الرجوع للتخيير يُعتبر في الرجوع لهذا المصدر - أعني: أصالة التخيير- في موارد، هو الفحص عن المرجح لآية النفر، والسؤال، والأخبار الدالة على وجوب التعلم، والنفر مؤيداً ذلك بالإجماع المنقول، ومقدار الفحص أن لا يبلغ حد الحرج لأدلة الحرج.

 

 

 

المصدر الواحد والعشرون
الظن المطلق

واستدلّوا على ذلك [خمسة] أدلة([83]):

[الدليل] الأول([84]): إنّ في مخالفة المجتهد لظنّه المتعلّق بالوجوب أو التحريم مظنّةٌ للضرر، ودَفْعٌ الضَّرَر المظنونِ واجبٌ؛ أمّا الصُّغرى: فلأنَّ الظنَّ بالحكم الإلزامي يلزم الظنّ بالعقوبة الأخروية على المخالفة لظنّه؛ وأمّا الكُبْرى: فلاستقلال العقل بوجوب دفع الضَّرر الأخروي المظنون، بل هو من جبلاتِ النفوس؛ لأنَّ النفوس الرشيدة العاقلة قد طُبِعَتْ على عَدَمِ الإقدام على ضَرَرِها ولو لاحتمالٍ مُعْتَدٍّ به.

وجوابه: مَنْعُ الصُّغرى، فإنَّ الظنَّ بالحكم الإلزامي إذا لم يَقُمْ دليلٌ على حُجيّته، لا تكونُ مخالفَتُهُ موجبة للضَّرر الأخروي، لقبح العقاب بلا بيان.

إنْ قلت: إنَّ الظنَّ بالحكم الإلزاميّ احتمالُ الضَّرَر الدنيوي، وهي المفْسَدَةُ بناءً على تَبَعيّة الأحكام للمَصَالح والمفاسد، ودَفْعُ الضَّرر المظنون لازمٌ، ألا ترى إنَّ من احتمل أنَّ في الإناء سُمَّاً لا يُقْدِمُ على شربه.

قلنا: حيثُ أنّ العقل والشرع قد رَفَعَ التّكليف مع الظنَّ الذي لا دَليلَ على حُجيّتِهِ بأصلِ البراءة، لم يَبْقَ مع هذا الظنّ بالتكليفِ احتمالُ الضَّرَر،
وإلاّ يكونُ الشَّارعُ قد أوْقَعَهُ في التّهلُكَة، فلابُدَّ أنْ يكونَ الشّارعُ أمّا تداركه،
أو لم يكن موجوداً.

الدليل الثاني([85]): إنّه لو لم يؤخذ بالظنّ، لَزَمَ ترجيحُ المرجوحِ على الراجح، وهو قبيحٌ.

وفيه: إنَّ هذه القضية هي آخرُ مقدّمات دليلِ الانسداد، الذي هو الدليلُ الرّابع على حُجيّة مطلق الظنّ، وَيَلزَمُ الترجيحُ المذكور لو كان الظنُّ قد قام الدليلُ على حجيته؛ وأمّا مع عدم قيام الدليلِ المعتَبَرِ على حُجيّتِهِ، بَلْ قيام الدليل أو الأصل المعتَبَرِ على خِلافِهِ، فلا يَلْزَمُ التّرجيحُ المذكور، وفي موارد الظنّ مع عَدَمِ الدليل نرجع للأصول العملية التي هي المعتبرة والحجة، فيكون العمل بها ترجيحاً للراجح شرعاً.

الدليل الثالث([86]): إنه لا ريبَ في وجودِ واجباتٍ ومحرّمات كثيرة بين المشتبهات، ومقتضى ذلك وجوب الاحتياط، بإتيان كلّ ما يُحتَمَلُ وجوبه، وتَرْكُ كُلُّ ما يحتمل حرمته، لكن مقتضى قاعدة نفي الحرج عدمُ وجوبِ ذلك كله؛ لأنّ فيه عُسْرٌ شديدٌ، ومُقْتَضَى الجمع بينَ قاعِدَةِ الاحتياط، وقاعِدَةِ نفي الحَرَجْ هو العمل بالمظنوناتِ دُونَ المشكوكات والموهومات؛ لأنَّ الجَمْعَ بغيرِ ذلك باطلٌ إجماعاً.

وفيه: إنَّ هذا بَعْضُ مُقدِّماتِ دَليلِ الانسداد.

الدليل الرابع: على حجية مطلق الظن وهي باطلة؛ لأنّا بعدما أثبتنا وجود أدلّة خاصّةٍ على التكاليف، كالكتاب والسنّة كثيرة جداً بمقدار ما عُلِمَ إجمالاً بثبوتِهِ من التكاليف، فيكونُ المَرْجِعُ ما دَلَّتْ عليه، والباقي يُرْجَعُ فيه للأصول المعتبرة، ولا أَثَرَ لقاعدة الاحتياط؛ لانحلال العلم الإجمالي بها.

الدليل الخامس: ما يسمّى بدليلِ الانسداد، وهو مركَّب من مقدمات خمسة([87]):

أولها: إنّا نَعْلَمُ إجمالاً بثبوتِ تكاليفِ شَرْعية كثيرة فعليّة منجّزة علينا.

ثانيها: أنّه انسدَّ بابُ العلم والعلمي علينا في كثيرٍ منها، بمعنى أنَّه لا يوجد القَطْعُ بها، ولا تُوجَد حُجَّة شرعية معتبرة في أكثرها.

وهذه المقدّمة هي العُمْدَة في هذا الدليل، فلذا نُسِبَ هذا الدليل إليها.

ثالثها: إنه لا يجوز لنا إهمال تلك التكاليف وعدم امتثالها.

وهذه المقدمة ترجع للأولى؛ لأن العلم بأنها فعلية منجزة، معناه أنه لا يجوز إهمالها وعدم امتثالها.

رابعها: أنه لا يجب الاحتياط في أطراف علمنا؛ للزوم العُسْرِ والحَرَج، ولا الرّجوعُ إلى الأصول العملية؛ للزوم إهمالِ التّكاليف والخروج عن الشريعة الإسلامية.

خامسها: أنّه يَلْزَمُ تَرْجيحُ المرجوح على الرّاجح، وهو قبيحٌ لو تركنا العمل بالظنّ بالأحكام الشرعية، أمّا لو عملنا بالظنّ، فلا يلزم إهمال التكاليف، ولا يلزم العسر والحرج، ولا ترجيح المرجوح، وهو العَمَلُ بالوهم، أو الاحتمال على الرّاجح، وهو العَمَلُ بالظنّ([88]).

وفيه: إنّكَ قد عَرَفْتَ فيما تَقَدَّمَ أنَّ باب العلم والعلمي غير منسد، لقيام الدليل على حُجيّةِ كثيرٍ من الأمارات الخاصّة، كالكتاب والسنّة، وهي تَدُلُّ على التكاليف بمقدار المعلومة بالإجمال، بل أزيد منها، وحينئذٍ فيرجع فيما عَدَاها لما قامَتْ عليه الأصولُ المعتبرة، ولا يَلْزَمُ الخروجُ عن الشريعة بذلك.

 

 

 

المصدر الثاني والعشرون
أصل الاشتغال

أصلُ الاشتغال، وقاعدة الاشتغال، ويسمّى بذلك لأنه يوجبُ اشتغالَ ذِمّة المكلّف ومقدار اشتغالها، وموردُ هذا المصدر هو الشكُّ في المكلَّفِ بهِ، مع العلم بأصل التكليف، سواء علم بنوع التكليف، كما لو علم بحرمة الخمر وتردَّدَ بين إناءين، أو علم بخبر التكليف، كما لو علم بوجوب هذا الشيء أو بحرمة ذلك الشيء، وسواء تردَّدَ المكلَّفُ به بين متباينين، كما لو علم بوجوبِ الظُّهر أو الجمعة، أو تردَّدَ بين الأقلِّ والأكثر، كما لو عَلِمَ بوجوب دَيْنٍ عليه لزيد، ولكنّه لا يدري أنّها سَبْعَةُ دراهم أو أكثر منها.

ثمّ إنّ أصل الاشتغال قد يَكونُ في بَعْضِ مواردِهِ أصْلُ الاحتياط، فإنَّ الاحتياط هو الأخذ بما هو الأقرب للواقع، والعَمَل بما لا يحتمل الضَّرَرَ أصلاً، كالإتيان بجميع الأفراد المحتمل فيها التكليف الإلزامي عند دوران الفعل المكلف به بين أمرين متباينين، أو بما يحتمل الضرر احتمالاً مرجوحاً، كالإتيان بالمظنون للتكليف عند الدوران بين محذورين، أحدهما مظنون التكليف والآخر موهوم التكليف، أو بما يحتمل أن يكون أقل ضرراً، كالإتيان بذي المزية الراجحة عند الدوران بينه وبين فاقدها.

وأما أصل الاشتغال، فإنه تارة يكون موافقاً للاحتياط، وأخرى يكون مخالفاً له، حيثُ أنّه لما كان في بعض موارده يوجب الإتيان بما هو الأقرب للواقع، كما في دوران الأمر بين المتباينين، فإنَّ أصل الاشتغال يوجب الإتيان بهما معاً، كان موافقاً لأصل الاحتياط؛ لأنّه يُوجِبُ الإتيان بما هو الأقرب للواقع، وقد يتخلَّف عنه، كما في دوران الأمر بين الأقل والأكثر، فإنَّ أصل الاشتغال يقتضي الإتيان بالأقل؛ لأنه القدر المتيقن، ولكنّ الاحتياط يقتضي الإتيان بالأكثر؛ لأنه الأقرب للواقع؛ وعليه فلا وجه لتسمية بعضهم أصل الاشتغال بأصل الاحتياط([89]).

وكيف كان، فمورد أصل الاشتغال هو ما لو علم المكلف بالتكليف، وتَرَدَّدَ العَمَلُ المكلَّف به بين متباينين، أو بين الأقل والأكثر، فالكلام فيه يقع في فصلين:

أحدهما: فيما لو تردَّدَ المكلف بين أمور متباينة.

والثاني: فيما لو تردَّدَ المكلف بين الأقل والأكثر.

دورانُ الأمر بيـن المتباينيـن

وهو تردُّدُ العَمَل المكلّف به، ودورانه بين أمورٍ متبايَنَةٍ، سواء كان التردّد والدورانُ من جهة اختلاطِ الأمور الخارجية، كما لو تردَّدَ الخَمْرُ بينَ إناءين لِعَدَمِ مَعْرِفَتِهِ أيُّهُما خمراً، وكما لو علم بوجوب القصر عليه أو الإتمام، لعدم معرفته ما هو الفائت منه، أو من جهة إجمال النصّ، كما في مفهوم الغناء الثابت حرمته، إذا تردَّدَ بين مفهومين بينهما عمومٌ من وجه، فإنَّ مادتي الافتراق تكونان من هذا الباب، وكقوله  عليهم السلام : (من جَدَّدَ قبراً أو مَثَّلَ مثالاً فقد خَرَجَ عن الإسلام)([90])، حيثُ قَرَأ (جَدَّد) بالجيم والخَاء والحَاء([91])، وكما في التردُّد بين وجوب الجمعة والظهر، لإجمال النص على وجوبها في زمن الغيبة، وكما لو تردد بين وجوب شيء عليه أو حرمة شيء آخر عليه، كما لو علم بأنه صدر منه يمين ولكنه لم يعلم بأنه على وطيء زوجته هند أو ترك وطيء زوجته فاطمة.

فإنَّ المشهور هو وُجوبُ الاحتياط([92])، بمعنى حرمة المخالفة القطعية للتكليف المعلوم بالإجمال، ووجوب الموافقة القطعية له بإتيان المتردد بينهما فيما لو كان التكليف المعلوم بالإجمال هو الوجوب، كما في مثالِ التردُّدِ بَينَ القصر والإتمام، والجمعة والظهر، فإنّه يَجبُ الإتيانُ بالقَصْرِ والتَّمَام، والجمعة والظهر، ويجبُ الاحتياطُ بتركهما، فيما كانَ المعلومُ بالإجمال هو الحرمة، كما في مثال الخمر المتردّد بين الإناءين، والغناء المتردّد مفهومه بين موردين، فإنّه يَجبُ عليه تركُ الإناءين، وعَدَمُ استماع الموردين، ويَجبُ الاحتياط بفعل أحدهما وترك الآخر، فيما كانَ المعلومُ بالإجمال هو التّكليف، ولكنّه تَردَّدَ بينَ وجوبِ هذا العمل أو حرمة ذلك العمل الآخر، كما في مثال اليمين المتقدم، فإنه عليه أن يطأ هند ويترك فاطمة.

والكلامُ في هذا يقع في مقامين:

الأوّلُ: في حُرْمَةِ المخَالَفَةِ القَطْعيّة للعِلْمِ الإجمالي.

والثاني: في وُجوبِ الموافقة القطعية له.

أمّا المقام الأول: وهو حُرْمَةُ المخالفة القطعية للعلم الإجمالي؛ فقد اختلفوا فيها على أقوال:

أحدها: وجوبُ الاجتنابِ عن الجميع كما نُسِبَ إلى المشهور([93])، وعليه الشيخ الأنصاري([94]).

وثانيها: جوازُ ارتكاب الجميع، كما قَوَّاهُ المجلسي في مَحكيّ أربعينه([95])، بل مَالَ إليهِ المحقّق الثالث بَعْضَ الميل([96]).

وثالثها: جواز الارتكاب إلى أنْ يبقى ما يُساوي الحرام فلا يَجوزُ، كَمَا اختاره المحقّق الثالث ([97])، والمحقق النراقي([98]).

لكن مع اختلافهما في المسلك، حيثُ أنَّ وجوب بقاءِ ما يساوي الحرام عند الأول على خلافِ القواعد، قد ثَبَتَ بدليلٍ خارجيٍّ، زاعماً بأنَّ الخطابات الشرعية مسوقَةٌ لبيان الكبريات خاصّة، من غير نظرٍ فيها إلى إحراز الصغريات، فلابُدَّ حينئذٍ في ترتيب كبرياتها على صغرياتها من إحراز الصُّغريات من الخارج بطريقِ العلم أو الظنّ المعتبر، فمَعَ الشّكّ فيها، كما هُو الفَرْضُ في المقام تَسقُطُ تلك الخطابات، فيُحْكَمُ بجوازِ ارتكاب المحتملات عَمَلاً بالبراءة السليمة عن المعارض، لكنّه لمّا ثَبَتَ بدليلٍ من خارج، وجوبَ الاجتناب عن الحرام أو النّجس، فيَجبُ إبقاءُ ما يُساوي الحرام، حَذَراً عن المخالفة القطعية لهذا الدليل، وإلاّ فلولاهُ لكانَ المتّجه جوازُ ارتكاب الجميع.

وعند الثاني أنّه على طبق القاعدة، زاعماً بأنَّ عموم أدلة البراءة يقضي بجواز ارتكاب الجميع، وقوله: اجتنب عن النجس([99]) مثلاً، يقضي بوجوب الاجتناب عن النجس، فيعمل بعموم الأول، إلى أنْ يلزم مخالفة الثاني، فيحكم بعدم الجواز فراراً عن المخالفة.

وبتقرير آخر: إنَّ في ذلك جَمْعَاً بين الدليلين، وذلكَ بعينه نظيرُ مسلكه في العام المخصّص بالمجمل، مثلُ قوله: (اقتلوا المشركين إلاّ بعضهم)، حيث قال بحجيته، وعدم سراية إجمال المخصِّص إليه، خلافاً للمشهور([100])، نظراً إلى أنّ العموم المذكور يَنْطِقُ بوجوبِ قتل كُلِّ مشرك، فيعمل بمقتضاه، إلى أن يلزم طَرْحُ قوله (إلا بعضهم)، فيجبُ حينئذٍ إبقاءُ واحدٍ منهم؛ لأنّه أقلُّ ما يصدق عليه البعض، لئلا يلزم مخالفة ذلك الخطاب، بل ويقتل الباقي عملاً بالعموم الناطق، ولَعَلَّ هذا هو الوجهُ في ما ذهب إليه من عَدَمِ وجوبِ الفَحْصِ عن المعارض والمخصِّص.

وكيف كان، فهُما وإنْ كان قد تخالفا في المدرك، إلاّ أنهما متفقان في
الحكم والنتيجة، وهو وُجوبُ إبقاءُ ما يساوي الحرام، وجوازُ ارتكاب
 ما عداه، بل قد نسب([101]) ذلك إلى المحقق الأردبيلي، وجماعة ممن تبعه كالسبزواري([102])، والبحراني([103])، وصاحب المدارك([104]).

ورابعها: القول بالقرعة؛ لأنَّهُ لكُلِّ أمرٍ مُشْكِل، ولخصوصِ ما وَرَدَ في قطيع الغنم، وإنْ أَرْجَعَهُ في الهداية([105]) إلى القول الأول، باعتبار أنه لا يجوز ارتكابهما قبل القرعة، وبعد القرعة يخرج عن الشبهة، فيَخْرُجُ عن محلِّ الكلام، لكنه محل نظر.

وخامسها: التفصيلُ بين ما لو كان المشتبهين مندرجين تحتَ حقيقة واحدة وبين غيره، فيجبُ الاحتياط في الثاني دون الأول، كما يُنْقَلُ من المحدّث البحراني([106]).

وسادسها: التفصيل بين ما لو تقصد ارتكاب الحرام وبين غيره، كما
يستفاد من الأنصاري([107])، وإنْ لم يكن مُخْتَارُهُ عند الرَّدّ على صاحِبِ الفُصول([108])، حيث اعترض على المحقق الثالث، بأن قضية ما ذكر إمكان التوصل إلى فعل جميع المحرمات على وجه مباح، بأن يجمع بين الحلال والحرام المعلومين على وجه يوجب الاشتباه فيرتكبهما.

وسابعها: التفصيل بين ارتكابهما دفعة فلا يجوز، وبين ارتكابهما تدريجياً فيجوز([109]).

قيل: إنه ليس قولاً بالتفصيل في المسألة إذ الإجماع على عدم جواز الارتكاب دفعة، فإنه مخالفة معلومة تفصيلاً، فما أظنُّ أحداً يتوهم جوازه فضلاً عن القول به.

والحاصل: إنَّ بعضهم جَوَّزَ المخالفة القطعيّةَ للعلم الإجمالي من جهة عدم وجودِ المقتضي لحرمتها، كما هو المحكيُّ من مسلك صاحب القوانين  رحمه الله ([110])، فإنه مَنَعَ من وجود المقتضي لها لاختصاص الخطابات بالمشافهين، واشتراك غيرهم معهم فيها إنما هو لأدلّة الاشتراك الموقوفة على الاتحاد في الصنف الغير الثابت في المقام، حيث يحتمل كون المشافهين عالمين بالخطاب حكماً وموضوعاً تفصيلاً فلم يتوجه الخطاب بالاجتناب عن الخمر مثلاً إلينا إذا لم نعلمه تفصيلاً، وبعضهم من جهة كون الخطابات لبيان الكبريات كما سيجيء إن شاء الله بيان ذلك تفصيلاً؛ وبعضهم من جهة وجود المانع، وهو ما دل على البراءة في أطراف العلم الإجمالي على تقدير وجود المقتضي.

وذهب أستاذنا المحقق الشيخ كاظم الشيرازي  قدس سره، تبعاً للمشهور إلى أن العلم الإجمالي علة تامة لحرمة مخالفته كالعلم التفصيلي، بمعنى أنه لا يجوّز العقل للشرع الترخيص فيها، فلو وَرَدَ دليلٌ كانَ ظاهرُهُ ذلك، وَجَبَ تأويله أو طرحه، مستدلاً  رحمه الله  على ذلك بأنّ العلم الإجمالي بالتكليف يقتضي الإرادة الجدية من المولى للتكليف، فيحكم العقل بتنجّزه، بمعنى عدم جواز مخالفته القطعية، واستحقاق العقاب عليها؛ لأنها عصيان للتكليف([111]).

ولا يخفى ما فيه، فإنّا وإنْ سَلَّمنا أنَّ الشارع له إرادةٌ جدّية للتكليف، لكن لا نسلّم تنجّزه على العبد المتردّد في مصاديق مَوضُوعِهِ، نظيرُ التكليف المعلوم مع الشُّبهة البدوية في مِصْداقِ موضوعه، فإنَّ التكليف مرادٌ بإرادةٍ جِدّية، لكنه غير مُنَجَّز على العبد، حتى لو كان ذلك المشتبه من مصاديق موضوعه في الواقع؛ لأنّ التكليف إنما يتنجَّز على العبد فيما إذا علم بأنّه مرادٌ منه، لا أنه مراد في نفسه، ولا يَحْصلُ للعبد العلمُ بذلك، إلا إذا صارَ لديه شَكْلٌ أوّلٌ مركَّب من صغرى، تثبت أنّ هذا الشيء الذي يصدر من العبد من مصاديق موضوع التكليف، ومن كبرى هي نفس التكليف، وهذه الصغرى أما أن تكون معلومة بالوجدان، أو محرزة بالدليل والبرهان، فإنَّ الخطابات المولوية، بل سائر القوانين الدولية، شرعية كانت أم غير شرعية، إنّما هي مسوقةٌ لبيان الكبريات، وتنجّزها الذي هو عبارة عن العقاب على مخالفتها، إنما يكون بعد إحراز الصغريات علماً أو ظناً معتبراً، وفيما نحنُ فيه الصُّغريات لم تُحْرَزُ بشيءٍ من الأمرين؛ لأنه ليس عندنا إلاّ نَفْسُ الخطابات، وهي لا تُحْرَزُ بها الصُّغريات، وإنّما تُحْرَزُ بها الكبريات.

والعِلْمُ الموجود عندنا لا يفيد شيئاً؛ لأن غاية ما يقتضيه هو وجوب الاجتناب عن الخمر الواقعي في الواقع، وهذا لا ينكره الخصم، والذي يدعيه الخصم سقوط هذا الخطاب عن التنجز عند الشك في تحقق موضوعه، وهو الخمر في كل من الأفراد، وعلى المستدل إثبات تنجز هذا الخطاب، ولذا نرى أن للموالي أن يرخصوا في أطراف العلم الإجمالي، فإن المولى إذا قال: (أكرم زيداً)، له أن يقول لعبده عند تردد زيد: معذور في ترك إكرامه، بل للعبد أن يترك إكرام زيد عند تردده فيه بين أفراد معدودين، وليس له أن يعتذر فيما لو علم بزيد تفصيلاً.

إن قلت: نرى بالوجدان ترك الأكل عند العلم بأنَّ أحد الإناءين فيه سُمٌّ.

قلنا: هذا حتَّى عند الشبهة البدوية، فإنّا نترك مُحْتَمَلَ السُّمّ، والسرُّ في ذلك عَدَمُ المؤمّن منه، بخلافِ ما نَحْنُ فيه، فإنَّ الخصم يَدَّعي المؤمّن من العقاب عند الشكّ، ليحكم العقل بقبح العقاب بلا بيان.

وبعبارةٍ أخرى: إنَّ احتمال الضَّرَر الدُّنيوي لا يزولُ مَعَهُ الضَّرَرُ حتى في الشبهة البدوية، بخلاف الضّرر الأخروي، فإنّه يزول عند الشك.

وإن شئت قلت: إنّ محلّ كلامنا العقاب، فإنّ احتماله هو الموجب للإطاعة، وبالشكّ يرتفع كما في الشبهة البدوية؛ والخصمُ يدّعي ارتفاعه عند الشبهة الإجمالية أيضاً.

إنْ قلت: إن الحكم المعلوم بالتفصيل لا يجعل في مورده حكماً ظاهرياً؛ لأنّ الحكم الظاهري سِمتُهُ سمةُ الطريق للواقع، ومع انكشافه لا يعقل جعله مماثلاً للواقع، ولا مغايراً له، وهكذا العلم الإجماليّ يكون كاشفاً للواقع، فلا يصحُّ جَعْلُ الحكم الظاهريّ في مَورِدِهِ؛ لأنّه يَصْطَدِمُ بمقدارِ الكَشْفِ الحاصِلِ بالعلم الإجمالي، فإنَّ هذا الكشف الجزئي يُنافيه التّرخيص في سائر الأطراف بمقداره، نعم ترخيص بعضها لا ينافيه.

وتوضيحُ الحال: إنَّ عَدَمَ فعلية التكليف: أمّا تكون لعدم المقتضي، لبلوغه إلى هذه المرتبة، كسائر الأحكام في صدر الإسلام، ثم صارت فعلية في زمن الأئمة  عليهم السلام ، وفي هذه الصورة لا وجه لجعل الحكم الظاهري لمثل هذه الأحكام الغير الفعلية.

وأما أنْ تكون عدم الفعلية لمانع من أمور خارجية كالعسر والحرج ونحوها، ومنه قوله  (ص) : (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك مع كل صلاة)([112])، فإنَّ وجوبَ السِّواك حكمٌ غيرٌ فعلي، لوجود المانع، وهو المشقة، ومن هذا الباب المستحبات التي يزيد ثوابها على ثواب الواجبات.

وأما أن تكون عدم الفعلية لعدم الانكشاف، فإنْ كان لعدمه أصلاً، بحيث لم ينكشف الواقع بأدنى منفذ، كالشبهة البدوية، فلا مانع من جعل الحكم الظاهري في مورد الحكم الواقعي، وإنْ كانَ لعدم الانكشاف في الجملة، بحيث يكون للواقع انكشاف في الجملة، كما في صورة العلم الإجمالي مع جعل الحكم الظاهري في أحد الأطراف، ولا يجوز جعله في كلها، ضرورة أنّ الإجمال يكون مانعاً بقدره، لكونه فيه مقدار من الكاشفية، فيقدر المنع بقدرها.

قلنا: إنّما يؤثّرُ هذا الانكشافُ الجزئيُّ لو أَوْجَبَ فعليّةَ التكليف وتنجُّزها، وهو أوّلُ الكلام، فلِلخَصْمِ أنْ يقول: إنَّ هذا التردُّد كانَ مانعاً من التنجُّز أو الفعلية.

والحاصل: إنَّ العِلْمَ الإجماليّ حَلَقَةٌ متوسطة بين العلم التفصيلي والشك البدوي، فهو يتبع أخسّ المقدمات الحاصلة به لمعرفة الحكم الشرعي.

إن قلت: إنَّ شمول الخطاب لأحدهما، يقتضي ثبوت الاجتناب عنه، فإنّ النزاع في منجّزية العلم الإجمالي، بحيثُ لو انقلب إلى عِلْمٍ تفصيليٍّ لتَنَجَّزَ التكليف، وهذا إنّما يكونُ بَعْدَ الفراغ عن تماميّة التكليف، وهي إنّما تكون بعد شُمولِ الخطابات لأحَدِ الأطراف، ولا رَيْبَ في ظُهورِ الخطابات الواقعيّةِ في فعلية التكاليف الواقعية على وجهٍ تَتّصِفُ بالباعثية والزاجرية الفعلية.

قلنا: لا يكفي شمول الخطاب، بل لابدّ للمستدلّ من إثبات تنجّزه في الطرف المشمول لها، وإنّ الشكَّ ليس بعذرٍ للمكلّف، فإنَّ أدلّة الخطابات الواقعية إنما يقتضي ظهورها في الباعثية والزاجرية الفعلية في ظرف وصولها للمكلّف، وإلا فنفس الخطاب لا يصلُحُ لإثباتِ التنجُّز، وفعليّةِ استحقاق العقاب، ولذا لا تقتضي ذلك عند الجهل بها، كما في الشُّبهَةِ البدوية؛ وفيما نحنُ فيه لم تصل إلى المكلّف؛ لأنّ وصولها له يحتاج إلى ترتيب قياس مركَّب من صغرى، تثبت تحقق الموضوع في الخارج، وكبرى الخطاب، وغاية ما يمكن أنْ يتصور القياس في المقام بوجهين:

أحدهما: أنْ يقال: هذا خمر، وكلُّ خَمْر يجب الاجتناب عنه، ولا ريب في بطلان الصغرى؛ لأنه لأيّ الفردين أشار إليه لم يحرز أنه خمر.

ثانيهما: أنْ يقال: إنّ أحد هذين الإناءين خَمْرٌ، وكُلُّ خَمْرٍ يجب الاجتناب عنه، أو كُلُّ شيئين يكون أحدهما خمراً يجب الاجتناب عنهما، ولا ريب في عدم تسليم الكبرى.

أمّا الكُبرى الأولى، فلأنه لا يسلّم الخصم أنّ كُلَّ خمر حتّى الذي يكون أحد هذين الإناءين لا على التعيين يجبُ الاجتناب عنه، لعدم تسليمه تنجز حكم الخمر، مع الاشتباه والتردّد، وعدم وصوله إليه تفصيلاً، بل هو عينُ المتنازع فيه.

وهكذا الكلام في الكبرى الثانية، فإنّها عَينُ المتنازع فيه.

وكيف يدّعى أنّ العلم الإجمالي علّةً تامة لحرمَة المخالَفَةِ القطعية، بحيثُ يؤوّلُ أو يطرح الدليل الدالّ على جوازها، مع أنّا لو رجعنا لوجداننا وعقولنا، نجد أنّ للمولى أنْ يقول: يجبُ رَدُّ السّلام على زيد أو إكرامه، ثُمَّ يقول: لو تردَّدَ زَيدٌ بين الجالسين، فلا يجب عليك الردّ عليه، ولا إكرامه، ولو لأجلِ المنّةِ من المولى والتفضُّل على عبده.

فمَنْ يا تُرى العَقْلُ والوجدان ليستنكر هذا الخطاب الثاني من المولى ويعتبره إذناً في المعصية التي استقلّ العقل بقبحها، ومناقضاً ومنافياً لتكليفه الأول، أو لحكم العقل بوجوب الطاعة، فيؤوّله أو يطرحه، كلا وحاشا، بل يراه نظير الحرج الذي يرفع العقاب عن التكليف مع بقاء التكليف، فإنَّ الشارع بطروّ الحرج رَفَعَ فعليّة التكليف وتنجُّزه، منةً منه وتفضُّلاً.

وفيما نَحْنُ فيه، للشّارع أنْ يرفع الفعلية والتنجّز للتكليف، ويأذن ويُبيحُ الأطراف مِنّةً منه وتكرُّماً.

إن قلت: نعم العلم الإجمالي ليس بعلّةٍ تامّةٍ لحرمَةِ المخالفة القطعية، ولكنّه مقتضي لها، لوجود المقتضي للاجتناب، وعدم المانع منه، أمّا ثبوتُ المقتضي فلعمومِ دَليل تحريم ذلك العنوان للمشتبه، فإنَّ قول الشارع: اجتنب عن الخمر، يشمل الخمر المعلوم المردَّد بين الإناءين، ولا وَجْهَ لتخصيصه بالخمر المعلوم تفصيلاً، مع أنّه لو اختصّ بهِ خَرَجَ الفَرْدُ المعلوم بالإجمال عن كونِهِ حراماً واقعياً، وهو التصويب الباطل؛ وأمّا عَدَمُ المانع، فلأنّه لا دليلَ عقلاً ولا شرعاً يمنعُ من وجوب الاجتناب عن المشتبه.

قلنا: شُمولُ الخطاب، وعمومُ الدّليل للخَمْرِ المشتبه، لا يُفيد شيئاً، ولا ينكره الخَصْمُ، بل الذي يدّعيه الخَصْمُ سقوط هذه الخطابات في الظاهر عند الشكّ في موضوعها عن التنجز والفعلية؛ لأنّ تنجُّزها إنّما يكون بعد إحراز صغرياتها، والمفروضُ عَدَمُ قابلية الخطابات بأنفسها لإحراز صغرياتها، وإلاّ لما نشك فيها، وليس عندنا في الظاهر ما يحرز الصغريات، فتسقط الخطابات في مرحلة الظاهر، لعدم وصولها لنا، وترجع للأصول المعتبرة التي تحرز صغرياتها في مرحلة الظاهر، كالبراءة في أطراف العلم الإجمالي، فالمقتضي الذي ادّعاه المستدل غير موجودٍ في مرحلة الظاهر، سَلَّمنا وجوده، لكنَّ المانع منه موجود، وهو الأخبارُ الدالّة على جوازِ ارتكاب الأطراف للعلم الإجمالي، كحديث الرفع، والحَجْبِ، والسَّعة، والحليّة، والطهارة.

ودعوى([113]) أنّها مُغيّاةٌ بالعلم، وهو يَشْمَلُ العلمُ الإجماليُّ، فاسدَةٌ؛ لانصراف الغاية فيها للعلم التفصيليّ؛ لأنّها غاية له، فمُقتضى المساق أنْ تكون مثله، بل ربما يقال: إنَّ ذلك لا يعقل؛ لأنّ كُلَّ واحدٍ من الأطراف تشمله الأدلّة في حَدّ ذاته من دون نظرٍ للآخر، وهو لم يَعْلَمْ عند ارتكابه حُرْمَته، لا تفصيلاً ولا إجمالاً، وإنّما يَعْلَمُ عند ضَمِّهِ لطَرَفِهِ الآخر عند الارتكاب به.

إنّ قلتَ: نِعْمَ، ولكنّ العلم الإجماليّ يقتضي نفي الآخر.

قلنا: هذا لازمٌ عَقْليٌ له، والأصول ليست حُجّة في اللوازم العقلية، سَلَّمنا عَدَمُ الظهور، لكنّ بعض الأخبار صريحٌ أو كالصّريح في أنَّ الغاية هو العلم التفصيلي والأخبار بَعْضُها يُفسِّرُ بَعْضَاً كقوله  عليهم السلام : (كُلُّ شيءٍ هو لك حَلالٌ حتّى تَعْلَم أنّه حَرَامٌ بعينِهِ)([114])، وكَمَا في موثّقة سماعة، في رَجُلٍ أصابَ مالاً
من عُمّالُ بني أمية، وهو يتصدّق منه، ويقولُ: [إِنَّ الحَسَنَاتَ يُذهِبنَ السَّيِئاتِ]([115])، فقال  عليهم السلام : (إنّ الخطيئة لا تَكْفُر الخطيئة، ولكنّ الحسنة تحطُّ الخطيئة - إلى أنْ قال-: إنْ كان خَلْطُ الحَرَام حلالاً فاختلطا جميعاً فلم يَعْرِفْ الحلال من الحرام فلا بأس)([116])، وكما في الصَّحيح: (كُلّ شيءٍ يكونُ فيه حلال وحرام، فهو حَلالٌ لك أبداً حتّى أنْ تعرف الحرام منه بعينه فتدعه)([117])، وكصحيح عليّ بن جعفر عن أخيه  عليهم السلام ، عن رَجُلٍ امتخط، فَصارَ الدَّمُ قطعاً صغاراً، فأصاب إناءه، هل يَصِحُّ الوضوء منه؟ قال  عليهم السلام : (إنْ لم يَكُنْ شيءٌ يستبين في الماء، فلا بأس)([118])، فإنّه إنْ لم يَكُنْ ظاهرٌ في الشُّبهة المحصورة التي أطرافُها محل الابتلاء، فلا أقلّ من شموله لها، ونحو ذلك مما يساعِدُ على ذلك إطلاق الأمثلة المذكورة في بعضها مثل الثوب المحتمل للسرقة، والمملوك المحتمل للرقية، والمرأة المحتملة للرضيعة([119])، إذ الغالب فيها ثبوتُ العلم الإجمالي، فإنّ قوله  عليهم السلام : (بعينه)، قرينة واضحة على إرادة العلم التفصيليّ من الغاية المذكورة فيها؛ لأنّ المعلوم بالإجمال لم يعلم حرمته بعينه.

ودعوى([120]) أنَّ قوله  عليهم السلام : (بعينه) في الحديث الأول تأكيداً للضّمير المنصوب، لإفادته الاهتمام في اعتبار العلم، نظير قولك: (رأيتُ زَيْداً نفسه)، فإنّه تأكيداً لوقوع الرؤية عليه لا على غلامه أو من يمثله، وفيما نحنُ فيه يكونُ تأكيداً لوقوع العلم على الحرام، لا على ما يُجاورُهُ أو يشارفه، فهو لا يدلُّ على اعتبار العلم التفصيليّ بالحرام؛ لأنّ كُلّ شيءٍ علم حرمته فقد علم حرمته بنفسه، فحرمة إناء زيدٍ قد علم بنفسه بأنه هو الحرام، غاية الأمر أنّه لم يميّز عن إناء عمر.

نعم، قوله  عليهم السلام : (بعينه) في الحديث الثاني ظاهر في ذلك؛ لأنه وقع قيداً للمعرفة، فيقتضي المعرفة بشخصه متميزاً عن الحرام، فإناء زيد لم يعرف بشخصه في المثال المذكور؛ لأنّ المعرفة الشخصية فَرْعُ إمكان الإشارة الحسية، ونحنُ نأخذ بالأخبار العامّة في معرفة الحكم، نظيرُ قولنا: (أكرم النحويين، وأكرم سيبويه).

فاسدةٌ؛ بأنّ الفرقَ بين الخبر الثاني والخبر الأول يجعل (بعينه) تأكيداً في الأول، وقيداً في الثاني خلافُ الظاهر، بل الظاهرُ كونُه فيهما قيداً للمعرفة، سلّمنا؛ لكن بقرينة الخبر الثاني الذي هو كالصريح في ذلك يوجب انعقاد ظهور الأول في ذلك، لاتحادهما لفظاً وسياقاً، بل في جميع الجهات.

كيف، والغايةُ للحُكْمِ الواحد يُؤخَذُ بالخاصّة منها، كما لو قال: (أكل السمكة إلى رأسها)، وقال: (أكل السمكة إلى أعلاها)، حمل أعلاها على رأسها.

وأخبارهم  عليهم السلام  يكشف بعضها عن بعض، ومجرّد زيادة (فيه حلال وحرام) في الثاني لا يوجب اختلاف الظهور في التأكيد والقيدية، إذ لا ربط له بذيل الخبر، بل يمكن دعوى أنّ المعرفة لا يستعمل إلاّ فيما إذا كان عرف الشيء على وجه يميزه عما عداه، بحيث يكون قابلاً للإشارة الحسية، وهي لا تكون كذلك إلا إذا كانت تفصيلية لا إجمالية.

ودعوى([121]) أنّ هذه الأخبار كما دلَّتْ على حِلّيّة كُلٍّ من المشتبهين، دلَّتْ على حرمة ذلك المعلوم بالإجمال، حيثُ أنّه مما علم حرمته، والحلّية فيها مُغيّاةٌ بعَدَمِ العلم بالحرمة، فلا تشمل المقام.

فاسدةٌ؛ فقد عَرَفْتَ أنَّ الغاية ظاهرةً في العلم التفصيلي، على أنّه لدى التحقيق، يمكن أنْ يقال: إنَّ العلم الإجمالي لا يَعْلَمُ بهِ حُكْمُ الفرد المشتبه، وإنما يعلم به الحكم المنتزع من الأطراف، فإنَّ الوجوبَ المشترك بين الظهر والجمعة منتَزَعٌ من وجوبِ كُلِّ واحِدٍ منهما، فهو ليس بشرعيٍّ، وإنّما الشّرعيُّ هو وجوب كُلُّ واحدٍ بخصوصه، وهو غيرُ مَعْلُومٍ، وأصلُ البراءة إنّما يَجري في الشرعيّ لا الانتزاعي العقلي.

ودعوى أنَّ دليل حرمة ذلك العنوان المشتبه، مثل قوله: (اجتنب عن الخمر)([122])، ينافي ظهور الحديثين المذكورين، لوضوح أنَّ الإذن في كُلِّ المشتبهين حُكْمٌ بعَدَمِ حُرْمَةِ الخمر في الواقع.

مدفوعةٌ، بأنّه إنّما يُوجبُ المنافاة لو قلنا بأنَّ مفادَهُ إباحة المشكوك في الواقع، بأنْ يكون مفاد الحديثين لبيانِ الحكم الواقعيّ للمشتبه؛ وهذا لا نقولُ به؛ لأنه يوجبُ التَّصويبَ الباطل بالنَّص والإجماع([123]).

أمّا لو قُلنا بأنَّها مسوقَةٌ لبيانِ الحُكْمِ الظَّاهريَّ عند عَدَمِ علم المكلّف بالحرام تفصيلاً، ولبيان معذوريّته في ارتكاب الحرام الواقعي، وعَدَم العقاب عليه مع عدم العلم التفصيلي به، ويكونُ طروُّ الجهل على الحرام الواقعيّ نظيرُ طروّ الحرج على القول، يكون الحرج عذراً مع بقاءِ الحكم الواقعيّ، فلا يَلْزَمَ المنافاة بينهُما أصلاً، ضرورَة أنَّ قوله: (اجتنب عن الخمر) إنّما يَدلُّ على حُرْمَةِ الخمر في الواقع، والحرمة الواقعية غير ملازمة للعقاب على مخالفتها، إلاّ على تقدير وصولها، ولذا صَحَّ ارتكابُ الشبهة البدوية.

والحاصل: إنَّ القَدَرَ المسلّم من التنافي هو ما إذا تَنَجَّزَ التكليف بالحرمة، بحيثُ يعاقب على مخالفته، وهو عينُ المتنازع فيه، فإنْ أذن الشارع بالارتكاب الكاشف عن عَدَمِ تنجُّزه ومخالفة الحكم الظاهريّ للواقعي لا إشكال في
جواز وقوعها من المشرّع مع الجهل لرجوعه إلى معذورية الجاهل، أو إلى بَدَليّة الحكم الظاهري عن الواقعي، أو كونه طريقاً مجعولاً إليه على اختلاف
المباني.

ودعوى([124]) أنّه بناءً على ذلك يلزم اجتماع المتضادَّين الموجب للتناقض في نفس الأمر؛ لأنَّ المشتبه يكونُ قد ثَبَتَ له الحكم بالحلَّ، والحُكْمُ بالحرمة، وهو اجتماع للمتضادّين في موضوعٍ واحدٍ، مدفوعةٌ:

أولاً: بأنَّ الشّارع إنّما حَكَمَ برَفْعِ المؤاخَذَة والعقاب عند الجهل والاشتباه، مُعَبّراً عنه بالحلّ، وهذا ليس حكماً شرعياً ليلزم التناقض، نظير موارد الحرج.

وثانياً: بأنّا لو سلَّمنا بأنّه حُكْمٌ بالحَلّ، فإنّما يلزم التناقض مع اتحاد المرتبة، أمّا مع تعدُّدها، كما في المقام، حيثُ أنَّ مرتبة الحرمة هو الواقع، ومرتبة الحلّ هو الظاهر ومقام الامتثال، فلا يَلْزَم التناقُضُ، نظير الماهية، وفي مرتبة نفسها ليست موجودَة، وفي مَرْتَبةِ وجودِ علّتها موجودة.

والحاصل: إنّ مرتبة الفعلية للحكم الواقعيّ التي يقتضيها ظهورُ الخطاب فيه، لا تنافي الحلّية في المرتبة المتأخّرة عن الواقع، الّتي هي مرتبة الإطاعة له، بداهة اجتماع القطع بالحكم تفصيلاً مع إباحة عَدَمِ امتثاله عند الشكّ في طاعته، كما في قاعِدَة الفراغ والتجاوز، وخُروجُ الوقت، والمخالفة التدريجية عند المشهور([125])، وفي الشُّبْهَة الغير المحصورة.

ودعوى([126]) أنَّ مُجرَّد تغايُر المرتبة واختلاف الجهة من حيث الواقع والظاهر، إنما هو باعتبار اختلاف حال المكلف، واتّصافه بالعلم التّفصيليّ والجهل، وذلك لا يُوجب تعدُّد الموضوع، فإنَّ الموضوع هو شُرْبُ الخَمْرِ على أيِّ حالٍ، فإنَّ الموضوع الخارجي لا يتبدَّل ولا يتغيّر، مدفوعة:

بأنّ مقتضى هذا إبطال أدلّة الطُرُق الشّرعيّة من الأدلّة والإمارات والأصول، حيثُ أنَّ مؤدّاها قد يُخالِفُ الواقع في الشُّبهاتِ البَدْويّة الحُكْميّة والموضوعية، حيثُ إنّه يمكن أنْ يكون الإناء المشكوك كونُهُ خَمْراً شَكَّاً بدوياً الذي حَكَمَ الشَّارع بحلّيّتِهِ، أنْ يكون خمراً واقعياً، فإنَّه يجيءُ فيهِ نَفْسُ الكلام من أنّه إنْ صارَ حلالاً واقعياً لَزَمَ التّصويب، وإذا لم يَصِرْ حَلالاً واقعياً لَزَمَ التناقُضُ، بَلْ الكلام يجري حتّى بالنسبة للشبهة الغير المحصورة، فإنّها كالشبهة المحصورة في اشتراكهما في جميع الجهات، حتّى في وجود العلم الإجمالي، وإنما يختلفان بالحصر وعدمه.

ودعوى أن في الشبهة البدوية لا تَلْزَمُ المخالفة من ارتكاب المشتبه، بخلافِ الشُّبْهَةِ المقرونَةِ بالعلم الإجمالي([127])، فإنّه يَلْزَمُ ذلك.

مدفوعة: بأنّ نقضنا بالشبهة البدوية ليس مبنياً على لزوم المخالفة، حتّى يمنع حصول المخالفة فيها، بل على إمكان جعل الشارع الحلّية في الظاهر في موضوع المحرّم الواقعي، مع أنَّ عَدَمْ لزوم المخالفة فيها، إنْ أريدَ بهِ عَدَمِ لُزومِ مخالفة الحكم الواقعي فهو باطل؛ لأنه لا رَيْبَ في مخالَفَةِ الحُكْمِ بالحلّية للحكم بالحرمة الواقعية في الشبهة البدوية، التي واقعها مُحرَّم، سواء كانت بدوية أو مقرونة بالعلم الإجمالي، وإنْ أريد به لزوم المخالفة المستتبعة للعقاب، فلزومها في المقام أول الكلام، وهو عَينُ مَحَلّ النزاع؛ لأنّا ننكر تنجُّز التكليف المعلوم بالإجمال؛ ومنه يعلم أنَّ لزوم العلم بالمخالفة في العلم الإجمالي لا يُقرّ؛ لأنه لم يكن مستتبعاً للعقاب، كما اعترفوا بذلك في الشبهة الغير المحصورة، وبعضهم في المخالفة التدريجية.

ودعوى أنّ في الشبهة الغير المحصورة لا يجوزُ ارتكاب جميع أطرافها، بل يترك من أطرافها ما يساوي الحرام بدلاً عن الواقع([128]).

مدفوعة: بأنّ القائلين بجواز ارتكاب الشبهة المحصورة أطلقوا القول بالجواز([129]).

قال بعض المحققين([130]): أنه لم يقع تقييد الجواز لارتكاب أطراف الشبهة الغير المحصورة من أحدهم بذلك، مع أنَّ في جعل غير الحرام بَدَلاً عن الحرام لا وجه له، ضرورةَ أنّه إنْ كانَ فيه المصلَحَة الملزمة للترك لكانَ أيضاً محرّماً، وإلا فكيف يكونُ الفعل الخالي عن المصلحة الملزمة بَدَلاً عن الحرام المتضمّن لتلك المصلحة، بل كيفَ يُصيّر المحرّم الواقعي حلالاً، مع أنّه إنْ أرادَ من جَعْلِ البَدَلِ تدارك المفسدة اللازمة من فعل الحرام الواقعيّ بشيء لا نَعْلَمُه والشّارع يعلمه، فهو أمرٌ ممكنٌ بلا جَعْلِ بَدَلٍ، كما في الشُّبهة البدوية ونظائرها، وإنْ أرادَ به جَعْلُ شيءٍ في الظاهر نحنُ نَعْلَمُه، كجَعْلِ أحدِ الإناءين بدلاً عن الحرام الواقعي، فلازم ذلك عَدَمُ جوازِ الإذن في الشّبهة البدوية، إذ لا بَدَلَ فيها للحرام الواقعيّ في الظاهر نحن نعلمه.

وإن شئت قلتَ: إنَّ الحكمَ بحرمة الخمر مثلاً، إنْ كانَ ثابتاً منجزاً لا يتغير ولا يتخلّف، فجَعَلَ البدل الظاهري لا يفيد في تحليله، كما أنَّ جعل البدل الواقعيّ مُوجباً للتصويب، وأَما إنْ كانَ حُكماً غيرُ مُنجَّز وغير ثابت، فكما يمكن رَفْعُ اليد عنه بجَعْلِ البَدَل، كذلك يُمكنُ رَفْعُها عنه مع عَدَمِ جَعْلِ البَدَل متداركاً للشارع له بما يراهُ من المصالح العامّة، مثل السُّهولة على المكلّفين، كما في الشبهة البدوية، والأمور الحرجية، وأمثال ذلك.

كيف، وليس في النّصوص والفتاوى ما يَشْعُرُ بجعلِ الشَّارع أحد الأطراف المشكوكة بدلاً عن الواقع، ولا فيها ما يَدُلُّ على أنَّ الآتي به آتياً به قاصداً البدلية، بل الذي تقتضيه القواعد رَفْعُ الشارع اليَد عن الواقع، على تقدير المخالفة، بمعنى جَعْلِ المكلَّف معذوراً، كما هو مَفَادُ أدلّةِ البراءة.

إنْ قُلْتَ: هذا بالنسبة إلى الأصول الغير التنزيليّة كالبراءة، يَتمُّ، وأمَّا
في الأصول التنزيلية كالاستصحاب ونحوِهِ مما كانَ ناظراً للواقع، فيُمْنَعُ من جريانها في أطرافِ العلم الإجماليّ، باعتبار أنّه بالعلم الإجماليّ يعلم بانتقاض الحالة السابقة في أحدِ الأطراف، فالإناءان الطّاهران سابقاً إذا عُلِمَ
نجاسة أحدهما بالإجمال فقد انتقضت الحالة السابقة لأحدهما، فكيف يُعَبّدنا الشارع فيهما معاً ببقائهما، لامتناع التعبُّد بخلاف الواقع المحْرَز بالوجدان، بل لا يحرز في كُلِّ من الاستصحابين تماميّة أركان الاستصحاب؛ لأنّه في كُلِّ منهما يحتمل الانتقاض باليقين بالنَّجَاسة، لاحتمال أنَّ مورده هو المتيقّن النجاسة إجمالاً.

قلنا: قد عَرَفْتَ أنَّ الموضوع للاستصحاب هو كُلُّ واحدٍ من أطراف المعلوم بالإجمال في حَدِّ ذاتِهِ، من دونِ نَظَرٍ لغيره، وكلُّ واحدٍ منها لم تنقلب فيه الحالة السابقة بخصوصه، فإنّا بالوجدان نَشُكُّ بالطهارة فيه بخصوصه مع سبق اليقين بها، واحتمال انطباق المتيّقن الإجمالي عليه لا يخرجه عن الشكّ في بقاء الحالة السابقة، بل هو يَرْجِعُ أيضاً للشكّ؛ لأنّ النتيجة تتبعُ أخسَّ المقدمات.

وعليه: فلا منافاة في كُلِّ واحدٍ من الأطراف في حَدِّ ذاتِهِ بينَ التعبُّدِ ببقاء حالته السابقة، وبينَ العِلْمِ بانتقاضها أو انتقاض حالة الآخر منها، بل ظاهر أدلة الاستصحاب أنْ يكونَ الناقض لليقين السّابق هو اليقينُ بالخلاف المتعلق بما تَعَلَّقَ به اليقين السابق، وهنا لم يتعلَّق بكلِّ طرفٍ يقينٌ بخلاف حالته السابقة، مثل اليقين بحالته السابقة من كونه يقيناً تفصيلياً، ولذا تراهُمْ يجرون الاستصحابَ لبقائه الحدث، والاستصحاب لطهارة البدن في من توضّأ غفلة بمائع مردّد بين البول والماء، مع العلم الإجمالي بانتقاض أحدهما؛ لأنّه لو كان المائع بولاً فبدَنُهُ غيرُ طاهرٍ، وإنْ كان المائع ماءً فالحَدَثُ غيرُ باق.

إنْ قلتَ: إنَّ أدلَّة الاستصحاب غيرُ شامِلَةٍ لأطراف العلم الإجمالي؛ لأنه يَلْزَمُ من شمولها لها مُناقَضَةٌ ذيلها لصدرها؛ لأنَّ صدرها يتضمَّنُ عَدَمَ النقض للحالة السابقة، وذيلها يتضمَّن نَقْضَ الحالة السابقة باليقين بارتفاعها، وهنا كان العلمُ الإجماليّ قد تعلّق بارتفاعها، وما يلزم من شموله المناقضة يكون غير شامل لعدم صدور المناقضة من الحكيم، فلا يصحّ شمول أدلة الاستصحاب للأطراف ودخول الأطراف تحتها.

قلنا: الظاهر من أدلّة الاستصحاب ونحوها هو أنّ الغاية العلم التفصيلي، فإنّ الظاهر من اليقين الموجود في الذيل أنه متعلق بما تعلق به اليقين في الصدر، فهو غير شامل للإجمالي، على أنّ في بعض الأخبار ما هو خالٍ عن هذا الذيل، فيرجع لإطلاقها من عَدَمِ النَّقْض بالعلم الإجمالي.

إنْ قُلْتَ: إنَّ المجعول في الأُصولِ التنزيليّة كالاستصحاب ونحوه، هو البناءُ على الأخذ بمجراه على أنّه هو الواقع، فيَمْتَنِعُ جَعْلُهُ في جميعِ أطراف العلم الإجمالي، إذْ لا يُعْقَلُ التّنزيلُ على خِلافِ الواقع المعلوم بالوجدان إجمالاً، كما عن المرحوم النائيني  رحمه الله ([131]).

قلنا: الأصول سواء كانت تنزيلية أو غيرها، إنّما هي وظائف للجاهل، وليست لها حكاية عن الواقع.

نعم، الأصولُ التنزيلية فيها نَظَرٌ لجعل مؤداها منزلة الواقع، فإنّ أدلة الاستصحاب أو قاعدة الفراغ، إنما تقتضي أنْ يجعل أحد طرفي الشكّ المطابق لليقين السابق، كما في الاستصحاب، أو المطابق للصحة، كما في قاعدة الفراغ، مُنزّل منزلة الواقع، لا أنّه له كاشفية للواقع، بخلاف غير التنزيلية، فإنّها تجعل أحدَ طرفي الشكّ حُكماً ظاهرياً، لا أنّه مُنزّل منزلة الواقع، ولذا تلك سُمّيت بالتنزيلية، وهذه خُصِّصَتْ بغير التنزيلية.

سلّمنا إنّها جعلت باعتبار كاشفيتها عن الواقع، لكنّها إنّما اعتبر الشارع كاشفيتها عن خصوص مؤداه، لما تقرر في محلّه من أنّ الأصول مطلقاً إنما تُثبت مؤدّاها ولا تدلُّ على نفي ما عداه؛ لأنه من اللوازم العقلية، والأصول لا تثبت بها اللوازم العقلية، كما قُرِّر في محله؛ ولذا مَنْ توضّأ غَفْلَةً بماء مردَّد بين البول والماء، وصلّى، يُجري قاعدة الفراغ، ويستصحب الحَدَثَ الأصغر مع العلم الإجمالي بعدم مطابقة أحدهما للواقع، وذلك لأنّ قاعدة الفراغ إنما تثبت صحة الصلاة، ولا تثبت لازم ذلك من كون الماء طاهراً، وكون الوضوء صحيحاً، فإثباتُ كُلٍّ من الأطراف بالأصل لا يُوجبُ بطلانها بالمخالفة للواقع، لعدم إثبات خلاف مؤدّى الآخر حتّى يكونُ حُجَّةً عليه، ويعارض الأصل الآخر، بخلاف البيّنات والإمارات، فإنّها تثبت لوازمها، فلا تجري في أطراف العلم الإجمالي؛ لأنّ كُلاّ منها حُجّة على نفي خلاف مؤداها، فيعارض الحجة.

وبعبارة أخرى: أنه لا مانع من إجراء الأصول في أطراف الشبهة المحصورة؛ لأنّ كُلّ واحدٍ منها بخصوصه جامعٌ لشرائط الجريان، فإنْ كان له حالة سابقة استصحبت، وإنْ لم يكن له حالة سابقة، جَرَى أصل البراءة، وذلك لأنه كُلُّ واحدٍ منها بذاته غيرُ معلومِ الحكم الشرعي؛ لأنَّ العلم بالحكم الشرعي لا يتحقّق إلا بعد العلم بصدور الخطاب، والعلمُ بالموضوع والمحمول، فمع فَقْدِ أحدهما لا علم بالحكم الشرعي.

والعلم بالحكم المردّد بين الأفراد يكونُ علماً بأمرٍ انتزاعي عقلي، ليس بحكم شرعيّ واقعي، لما عرفت من أنَّ الحكم الشرعي، هو حُكْمُ كُلّ واحدٍ من الأطراف في حد ذاته، دون ما هو منتزع من مجموعها، فالتكليف الشرعي غير معلوم، والمعلوم لم يكن حكماً شرعياً.

ودعوى أنّ العلم الإجمالي يُوجِبُ العلم بكَذِبِ أَحَدِ الأصلين، فيكون كل من الأصلين دال على نفي الآخر عقلاً([132]).

فاسدةٌ؛ فإنَّ هذا العلم لا يمنعُ من جريانهما، ولا يُوجِبُ عَدَمَ التعبُّدِ بهما؛ لأنَّ الأصول إنّما تُوجبُ نفيَ الآخر عَقْلاً في الشّبهة المقرونة بالعلم الإجمالي، وقد تقرَّر في محلّه أنَّ الأصولَ ليست بحجّة في نفي لوازمها العقلية، ونفي الآخر لازمٌ عقليٌ له، نعم، لو كانَ العلم الإجماليُّ مُنجِّزاً للتكليف يَقَعُ التعارض بين الأصلين، للعلم بفساد أحدهما، وعدم جعله؛ لأنّ الشارع لا يُعقل أنْ يجعل الأصل في الطرف الذي كان منجّز التكليف فيه، ولأنَّ جعلهما حينئذٍ يكون ترخيصاً منه في العصيان، لكنّ الخصم يمنع من تنجّز التكليف بالعلم الإجمالي.

وعليه: فلا مانع لديه من إجراء الأصول في الأطراف وإنْ خالفت العلم الإجمالي، وقد استدلّ المرحوم الهمداني ([133]) على ذلك، وأنّ العلم الإجمالي كالتفصيلي مُنجِّزٌ للواقع، تحرم مخالفته القطعية بما يرجع إلى مقدمات:

الأولى: إنّ محلَّ كلامنا في التكاليف الثابتة لنفس الشيء وذاته، من غير تقييد بالعَمَل بذلك الشيء، كما هُو الشأنُ في جُلِّ التكاليف الشرعية.

الثانية: يَجبُ على المكلّف بحكُم العقل بعد علمه بالتكليف المذكور الخروجُ عن عهدته، إلاّ إذا كان له عذرٌ مقبولٌ عقلاً في المخالفة؛ فالتكليفُ الواقعيُّ غير كافٍ في لزوم الخروج عن عهدته، بلْ هو مقتضٍ لذلك، والأعذار مانعة عن تأثيره، فيكونُ عَدَمُها شرطاً في تَنَجُّز التكليف الواقعي.

الثالثة: بأنَّ الجهل عُذْرٌ عقلي في المخالفة للتكليف، لحكم العقل بقبح العقاب بلا بيانٍ، ولكنّه مع العلم الإجمالي لا يكون عذراً؛ لأنَّ العقل لا يحكم بقبح عقابه عند المخالفة، حيثُ يرى أنَّ هذا الجهل غيرُ صالحٍ لأنْ يعتذر به في المخالفة، لكون العلم الإجماليّ كالعلم التفصيلي في البيان.

سلّمنا وقلنا: إنّ العقل متوقّفٌ في عُذْريّة هذا الجهل، فهو أيضاً يكون مستقلاً بلزوم الاحتياط دَفْعاً للعقوبة المحتملة، هذا مع التنزّل، وإلا فلا تردُّد في ذلك أصلاً، بل من ضرورياتِ العقل أنّ المولى إذا كلَّفَهُ بشيءٍ ولم يعتبر العلم في موضوعه، وَجَبَ عليه امتثاله ولو علم به إجمالاً، ولا يعقل أنْ يُرَخِصّه الشارع في ذلك بعد التكليف به.

نعم، يُمكنُ أنْ ينصب الشارع طريقاً ظنياً، أو قاعدة تعبدية من قرعة ونحوها، لتشخيص ما به يتحقَّقُ التكليفُ من أطراف الشبهة المحصورة، كما أنه يمكن أنْ يقنع بالموافقة الاحتمالية، إذا كانَ في الموافقة القطعية مفسدة منافية لما تعلَّق به غَرَضُ الشارع من التوسِعَة والتسهيل، وغيرُ ذلك مّما يقتضيه اللطف والامتنان، إذ ليس في هذين الأمرين منافاةٌ لمطلوبيّة التكليف في الواقع، بل يؤكّدها، وإلاّ لم يُوجِبْ الموافقة للتكليف بنَصْبِ الطريق، أو بالاكتفاء بالموافقة الاحتمالية، إذ يكون ما وَافَقَ بهِ التّكليف احتمالاً، أمّا هو المكلف به، فيخرج عن عهدة التكليف، أو هو ما يدل عنه في مقام الامتثال في كونه مبرئاً للذمة.

وغاية ما يلزم في المقام، أنه يجب أنْ يكون رضا الشارع بالموافقة الاحتمالية، أو بما قام عليه الطريق أو القاعدة، مصلحة يتدارك بها المفسدة، لو فات الواقع، أو أخطأت القاعدة، أو لم يصب الطريق.

ودعوى أنَّ ذلك يستلزمُ أمّا نَسْخُ الحكم الواقعي، أو المنافاة لحكم العقل بوجوب إطاعته، حيثُ رَخَّصَ الشّارعُ في تركها([134]).

فاسدةٌ؛ فإنّ اعتبارَ العلم في موضوع حكم العقل بوجوب الإطاعة من باب الطريقية المحضة، فمتى أدرك العقلُ أنَّ الشارعَ أرادَ منه فعلَ شيء أو تركه إرادة حتمية استقلّ بلزوم تحصيل ذلك الشيء مع القدرة عليه، ولكنّ حكمه لهذا ليس لأجل أنّ حصول ذلك الشيء من حيث هو يكون له موضوعية بالذات في نظر العقل، بل لأجل أنّه مرادٌ للشارع ورضاه به، فإذا علم العقلُ أنَّ الشارعَ قد رضي بالخروج عن عهدة تكليفه بالموافقة الاحتمالية، صَحَّ له الخروج بها عن عهدة ذلك التكليف.

وعليه: يكونُ الدّليلُ الدّالُّ على رضا الشارع بها حاكماً على ما يَستقِلُّ به العَقْلُ من لزوم تحصيلِ الموافقة القطعية، لا منافياً له.

نعم، لو رَخَّصَ في ارتكابِ جميع أطراف الشُّبهة، فلا مَحالَةَ يتحقَّقُ التنافي بينه وبينَ دليلِ ذلك التكليف؛ لأنَّ الإذنَ في ارتكاب جميعِ الأطراف يكونُ إذناً في تَرْكِ ذلك التكليف.

إنْ قُلْتَ: إنّه قد قُرِّرَ في إمكان جعل الأصول الظاهرية ونصب الطرق الظنية، بأنَّ العقل يجوّز أنْ يكون في موردها مصلحةٌ يتدارك بها مفسدة مخالفة الواقع على وَجْهٍ لا يلزم التصويب؛ وعليه فمِنَ الجائز أنْ يكونَ في أطراف الشبهة المحصورة أيضاً كذلك.

قلنا: هذا إنّما يُعْقَلُ فيما إذا لم يكن التكليفُ الواقعي منجّزاً في حقّ المكلف، بأنْ كانَ مشكوكاً شكّاً بدوياً، أمّا مع عِلْمِهِ بالتّكليف، فلا يُعْقَل، لاستلزامه توارُدَ حُكمين مُتَضَادّين على مَوضُوعٍ واحِدٍ، في مَرْتَبَةٍ واحدة، لرُجُوعِهِ إلى التناقض والإذن في المعصية، وهُما مما يمتنع صدورهما من الشارع، فإنّ الإذن في ارتكاب أطراف الشبهة إذنٌ في ارتكاب مخالفة التكليف المعلوم بالإجمال، وهو غير جائز عقلاً.

وأما مع شكّ المكلّف بالتكليف شكّاً بدوياً، فلا يرد هذا المحذور، إذ لا أثر للتكليف الواقعي الذي لم يطّلع المكلف عليه في باب الإطاعة والمعصية، حيث أنه غير مؤثّر في اتصاف ما صَدَرَ منه بالقبح، وكونه معصية للشارع، فلا استحالة حينئذٍ في أن يلحقه حكم آخر في مقام تكليفه الظاهري، كالصّلاة في الدار المغصوبة لدى الجهل بغصبيتها، بخلافِ ما لو علم بالتكليف، فيمتنع أنْ يلحقه حُكْمٌ إلاّ على تقدير ارتفاع ذلك الحكم الواقعي، ألا ترى أنَّ الشارع إذا قال: الخَمْرُ حَرَامٌ، وعَلِمَ المكلَّفُ بالخَمْرِ في أَحَدِ الإناءين، فإنْ كانَ عُروض الاشتباه مؤثّراً في حُدوثِ مَصْلَحَةٍ في شِرْبِهِ، يُتدارَكُ بها مَفْسَدَةُ الخَمْرِ، امتَنَعَ بَقَاءُ الخمر على صِفَةِ الحُرْمَة، وهو خلافُ الفَرْضِ، وإنْ لم يؤثّر ذلك فلا يعقل الرخصة في ارتكاب ذلك الخمر المشتبه، كما في صورة العلم بالتفصيل، لرجوعه للتناقض والإذن في المعصية.

هذا خلاصة استدلال المرحوم الهمداني  قدس سره([135]).

وفيه: إنّ تَنَجُّزَ الخطاب على المكلّف يتوقّفُ على وصوله له، ووصوله له يتوقف على إحراز صغراه علماً أو ظناً معتبراً، وأمّا مع الشكّ فيها، فلا يكون واصلاً له، ومع الشبهة المحصورة الصُّغرى مشكوكة، كما عرفت سابقاً.

ودعوى أنّ العُقلاءَ يعدّون المخالفة القطعية معصية من دون فرقٍ بين الخطاب المعلوم تفصيلاً أو إجمالاً([136]).

فاسدةٌ؛ فإنَّ الوجدان شاهدٌ أنَّ الشَّاكَّ في صُغرى التكليفِ إذا خَالَفَ التّكليفَ، لم يُعَدَّ عاصياً، وإنْ ظَهَرَ بَعْدَ ذلكَ أنّه بعَمَلِهِ هذا قد خَالَفَ المولى.

ودعوى أنَّ المقتضي للامتثال موجود، وهو عمومُ الخطاب للجاهل والعالم([137])، إذ ليس مَحَلُّ كلامنا الخطابات المختص العالم بها، والمانعُ مفقودٌ لأنّ المانع المتصوّر في المقام هو الجهل بالصُّغرى في الشبهة المحصورة، وهو غَيرُ مَانعٍ عقلاً ولا نقلاً.

أمّا العَقْلُ، فهو إنّما يكونُ من جهة حُكْمِهِ بأنَّ الجهل عذراً، أمّا لعجز الجاهل عن الإتيان بالواقع حتّى يرجع الجهل إلى فَقْدِ شرطٍ، وهو القدرة والتمكّن من إتيان المطلوب، وهو باطلٌ، لفرض التمكّن مع الجهل المذكور من إتيان المطلوب، أو من جهةِ كَوْنِ المكلَّف الجاهل غيرُ قابلٍ لتوجّه الخطاب إليه، وهو باطلٌ أيضاً، لِصِحَّةِ عِقابِ الجاهل المقصر.

وأمّا النقلُ؛ فليسَ ما يَدُلُّ على العُذْرِ منه إلاّ أدلّة البراءة، وهي غَيْرُ جارية في المقام، لاستلزامِ جَرَيَانها التعارض.

فاسدةٌ؛ لأنّه إنْ أرَادَ بالخِطاب العام للعالم والجاهل الخطاب الواقعي الثابت في اللوح المحفوظ.

ففيه: أنّه مُسلَّمٌ، ولكنّه غيرُ مُجد في المقام، فإنَّ الخطابَ من حيثُ هو ما لم يتنجَّزُ لا يستدعي الإطاعة، ولا يَحْكُمُ العَقْلُ بوجوب امتثاله، لما تقرَّر في محله من أنَّ العلم من الشرائط العامّة، نظيرُ شرطيّة العقل والبلوغ والقدرة، غايةٌ الأمر أنَّها شَرْطٌ لنفسِ التكليف، والعِلْمُ شرط لتنجزه، وإنْ أرادَ بهِ الخِطابُ الظاهري الفعليُّ المنجّز، فهو مُختَصٌّ بالعالم دون الجاهل؛ وفي الشُّبْهَةِ المحصورة الأطراف تكونُ مجهولة الحكم.

والحاصل: إنَّ المانعَ من تنجُّز الخطاب العقل والنقل.

أمّا العقل؛ فبحُكْمِهِ بقُبْحِ العقاب بلا بيانٍ، ولا يَصْدُقُ البيان مع العلم الإجمالي، فالجاهلُ غيرُ قابلٍ لتوجّه الخطاب إليه، لوجود المانع من تَوَجُّهِ الخطاب إليه، وهو حُكْمُ العقل بقبح العقاب بلا بيان، كحُكْمِهِ بقبح الكذب والظلم، فحَيْثُ يوجَدُ هذا المانع يمتَنعُ التكليف؛ أمّا الجاهل المقصر، أو المطلوب منه الاحتياط بدليلٍ خاصٍّ في خصوص المسألة، كما في اشتباه القبلة، أو الشك في القصر والإتمام، أو الجمعة والظهر، فلا يوجد المانع، وهو قبح العقاب بلا بيانٍ؛ لأنّ حكم العقل بوجوب الفحص، والدليل الخاص في الأمثلة المذكورة أحسن بيان.

وأمّا النقلُ؛ فبَعْضُهُ صَريحٌ في اشتراط التَّكليف بالعلم التفصيلي، مِثْلُ ما
دَلَّ على حلّية المشتبه حتّى تعرفُ الحرام بعينه، ومنه ما هو ظاهرٌ في ذلك،
كقوله  عليهم السلام : (الناس في سَعَةٍ ما لم يعلموا)([138])، وأمثاله، ولعلّكَ بملاحظة ما ذكرناه سابقاً يتّضِحُ لك مواضع النظر في كلامه رفع الله مقامه أكثر وأكثر.

ودعوى أنَّ الاشتغال اليقيني يستدعي ويقتضي الفراغ اليقيني، وقد اشتغلت الذمة بالحرمة لشرب الخمر، وفراغها بترك الإناءين([139]).

مدفوعةٌ؛ بأنّ هذا صحيح إذا كان المقتضي وهو اشتغال الذمة موجوداً ومتيقناً، مع عدم صدور إذنٍ من الشارع، ولكنّنا نُنْكِرُ وجودَ المقتضي واليقين باشتغال الذمة بالتكليف المعلوم بإجمال، لما عَرَفْتَ مِنْ عَدَمِ إحرازِ الصُّغْرى المبيّنة لوجودِ مَوْضُوعِ التَّكليفِ في كُلٍّ من المشتبهين، ولو سَلَّمنا، فالإذنُ صادِرٌ من الشَّارع بارتكابها بأدلّة البراءة ونحوها.

ودعوى أنَّ تجويزَ ارتكاب المشتبهين يُفْضِي إلى إمكانِ التوصُّل إلى ارتكاب جميع المحرّمات على وَجْهِ مُباح، بأنْ يجمع بين الحلال والحرام المعلومين تفصيلاً، كالخمر والخلّ على وَجْهٍ يُوجِبُ الاشتباه، فَيرْتَكِبُ شرب الخمر محللاً([140]).

مدفوعةٌ؛ بأنَّ حرمة الارتكاب في هذه الصُّورة لا مَجَالَ لإنكارها، لتحقق قصد العصيان منه مع ارتكابه للحرام الواقعيّ عند امتزاجهما، فيكونُ مرتكباً للمُحرَّم المعلوم تفصيلاً؛ لأنه بَعْدَ الامتزاج صَارَ هذا المائع معلوماً بالتفصيل.

وأمّا عندَ عَدَم الامتزاج، فإنّه كذلك لا يَجوزُ له ارتكابُ أيُّ واحدٍ منها، فضلاً عن مجموعهما، لإمكانِ تحقُّقِ قصدِ ارتكابِ الحرام مَعَ فِعْلِ الحرامِ فيما لو ارتكبهما، وفي ما إذا ارتكب أحدهما، وكان هو الحرامُ الواقعيّ، كانَ وقوع الحرام منه بقصده، نظير من ألقى نفسه من شاهق للموت، فإن موته كان بقصده واختياره، والعقل يحكم باستحقاق العقاب أيضاً، لسوء تجريه بناءً على حرمة التجري.

ودعوى أنَّ الأحكام الظاهرية إنّما جُعِلَتْ نظراً للواقع، وللتوصُّل إليه، وجوازُ ارتكاب الأطراف للعلم الإجماليّ يُوجبُ انكشافَ خلاف الواقع، فلا يتوصل بها للواقع.

فاسدة؛ فإنّ الأصول إنّما هي وظائفُ للجاهل، فللشارع في مقام الجهل أنْ يجعل منها ما يشاءُ، ويمنع من فعليّة الواقع لمصلحةٍ هناك، وليست بمجعولَةٍ للطريق الواقع والتوصُّل إليه.

نعم، جعل الطرق في مورد العلم الإجماليّ على خلافه لا يجوزُ، ولذا كان قيامُ الأمارات على خلاف العلم الإجمالي يُوجِبُ تعارضها، كما لو قَامَتْ على طهارَةَ أحدِ الإناءين بيّنة، وعلى طهارة الآخر بينة أخرى، مع العلم الإجمالي بنجاسَةِ أحدهما، فإنَّ البينتين يتساقطان للعلم بكذب أحدهما.

ودعوى أنّ أمْرَ المولى مع موضوعِهِ قد أحرز في العلم الإجمالي، كما في العلم التفصيلي، فإنَّ التكليفَ في العلم الإجمالي قد علم، وهو الحرمة مثلاً، وموضوعه قد أحرز، وهو الخَمْرُ مثلاً، ولكنْ لم يُعْلَمْ كيفيّة امتثالِهِ بترك هذا الإناء أو ذاك الإناء([141]).

فالجَهْلُ في العلم الإجماليّ في مرتبة الامتثال لا في مرتبة التكليف، إذ التكليفُ بكامله قد وَصَلَ وجداناً، وعلمنا به عياناً، ولم ينثلم منه شيءٌ، وعليه؛ فالعقل يحكُمُ بلزوم إيجاده؛ لأنَّ مرتبة المطلوبية والتكليفية بكاملها حاصلة وواصلة لنا، بدليل أنَّ العلم الإجمالي لو انقلب إلى تفصيليٍ، بحيثُ تَعَلَّقَ بعين ما تَعَلَّقَ بهِ العلمُ الإجمالي لتنجُّز، وإنما المتردّد فيه هو مرتبة الامتثال، ولا ريب أنَّ حُكْمَ الشّارع بإباحةِ الأطراف يكون مناقضاً لها، وإباحة لعصيانه، وترك طاعته، نظير ما لو أباح في مرتبة الامتثال للتكليف بالحرام المعلوم بالتفصيل، فإنّ الإباحة تكونُ إباحةً لعصيانه، وترك لطاعته، وهو قبيحٌ عقلاً؛ لأنَّ التميُّز غير مأخوذٍ في موضوعاتِ التكاليف.

ونحنُ لا نمنع أنَّ الشارعَ يُبيحُ ترك إطاعة التكليف، حتّى المعلوم بالإجمال لشؤون خاصّة، كالحرج ونحوِهِ، فإنَّهُ عند ذا يكونُ ذلك أمّا من قبيل التخصيص أو التقييد، أو من قبيل النَّسخ، أو من قبيلِ التّكاليف الغير الواصلة، كالتكاليف في أوّلِ البعثة، لكنّ محلَّ كلامنا فيما لو خُلِّي التكليف وطبعه، من دونِ تصريحٍ من الشارع بإلغائه، فإنَّ محلَّ الكلام هل أنّه يرفعُ اليدَ عنه، وأنَّ التصريح الذي يكون عمومه وإطلاقُهُ بخلافه يُوجِبُ رَفْعَ اليدِ عنه، كما في أدلَّةِ البراءة بالنسبة لأطراف العلم الإجمالي، أو أنه يكونُ من قَبيلِ المناقِض والمضادّ له، نظير المتعارضين فيتساقطان، أو يجمعُ بينهما بظاهرية، أو أظهرية، أو حكومة، أو ورُودٍ، أو يُرَجَّحُ أحَدُهُما على الآخر، إلى غير ذلك مما يُذْكَرُ في باب علاج المتعارضين، وبهذا ظَهَرَ لكَ أنَّ العِلْمَ الإجماليّ عِلّةَ تامة لحرمة المخالفة القطعية.

وتوهُّمَ أنّه لو كانَ كذلك، لما جازت المخالَفَةُ القطعية في الشبهة الغير المحصورة، باطلٌ؛ فإنّا أيضاً لم نجوِّزها، ونلتزم بأنّه لابُدَّ مِنْ تَرْكِ بَعْضِ أطرافها بمقدار المعلومِ بالإجمال.

فاسدةٌ فإنّ التكليفَ إنّما يَجِبُ امتثاله إذا تَوَجَّهَ إلينا، ولا يتَوجَّهُ إلينا إلاّ إذا وَصَلَ إلينا، ولا يَصِلُ إلينا إلاّ إذا عَلِمَ بهِ، وعَلِمَ بتحقُّق موضوعِهِ، أمّا لو علم به، ولم يعلم بثبوتِ مَوضُوِعِهِ، فَلَمْ يَصِلْ إلينا، وفي صُورَةِ العِلْمِ الإجماليّ، وإنْ كان التكليفُ قد عُلِمَ به، ولكنّه في كُلِّ واحدٍ من أطرافِ العِلْمِ الإجماليّ لم يعلم بتحقُّقِ موضوعه، فلمْ يَصَلْ إلينا في كُلِّ واحدٍ منها، وليس لأدلّة التكاليف عمومٌ أو إطلاقٌ بالنسبةِ لحالتَيْ العِلم والجهل؛ لأنّها من الطوارئ على التكليف الحادثة بعده.

ولا نُسَلِّمُ أنَّ جَعْلَ الحُكْمِ في أَطْرافِ العِلْمِ الإجماليّ يكونُ بترخيصٍ في المعصية، بل هُو عَينُ المتنازَعِ فيه، حيثُ أنّه إنّما يكونُ كذلك لو كانَ العلم الإجمالي مُنَجَّزٌ للتكليف، ويُوجِبُ استحقاقَ العقاب على مُخالَفَةِ التكليف.

أمّا مَعَ عَدَمِ تنجُّزِهِ، كما هُو مدّعى الخصم، فلا يكونُ جَعْلُ الحُكْمِ على خلافه إذنٌ في المعصية، ولا يُقَبّحِهُ العقل، والاستدلالُ على ذلكَ بعَدَمِ أخذ التمييز في موضوعاتِ التّكاليف من أغرب الأشياء، فإنَّ التكاليفَ لا تُنجَّز إلا بقيام ما يَدُلُّ عليها، مع أنَّ قيامَ ما يَدُلُّ عليها ليس بمأخوذٍ فيها، فإنَّ العلم، والدليل، وعَدَمُ الفحص، كُلّها طوارئٌ على التكاليف، وفي مرتبة متأخّرة عنها، فلا يُعْقَلُ أَخْذُها فيها، مَعَ أنَّها معتبرَةٌ في تَنَجُّزها، فكذا التمييز لموضوعِ التّكليف ومعرفته، وكيفَ لا يُعتَبَرُ، فإنَّ موضوعَ التكليف إذا لم يُعرف لم يتنجز التكليفُ، كما إذا لم يَعْرِفْ نفس التكليف.

ودعوى أنَّ الأَصْلَ في كُلٍّ من الأطرافِ يَجري مُنْضَمَّاً إلى جَرَيانه في باقي الأطراف؛ لأنّها بالنسبة إلى الأصل في مرتبةٍ واحدةٍ، لا أنه يجري في كُلِّ واحدٍ متفرّداً عن الآخر، نظير الخبرين المتعارضين بالنسبة لدليلِ الحُجيّة، فإنّه يشملها دَفْعَةً واحدةً في مرتبة واحدة، فلذا نقول بتساقط الخبرين، لا أنه يَشْمَلُ كُلُّ واحدٍ منهما على حِدَه، وإذا كان الأمرُ كذلك لَزَمَ من إجراء الأصل في أطراف العلم الإجمالي مخالفة التكليف قطعاً؛ لا تنفعُ مدّعيها، فإنّ الخصم لا يُنْكِرُ ذلك، وإنّما يقول لا تضرّ مخالفة التكليف، كما في الشّبهة البدوية لعدم تنجُّزِهِ، وأنّه على المكلّف أنْ يرجع في أطرافِ الشُّبهة للأصولِ، كما لو كانت مشكوكة بالشكّ البدوي.

نعم، لو قام الدليلُ في موردٍ خاصّ على حُرْمَة المخالفة القطعية، أخذ به، كما فيما لو تردَّد الواجب بين القَصْر والإتمام، أو الظهر والجمعة، فإنّ الإجماع، بل الضّرورة قام على حُرْمَةِ المخالفة القطعيّة فيهما.

وحاصِلُ الكلام؛ إنّا نقول: إنّه للمشرّع رَفْعُ المؤاخذة والعقاب عن الحرام الواقعيّ الذي لم يعلمه المكلَّف تفصيلاً، ولا مانع عنه عقلاً، بل لا مانع من جعل الإباحة في الظاهر له، والمناقَشَةُ في ذلك تَرْجِعُ إلى ما ذَكَرَهُ ابنُ قِبة([142]) من الوجه في استحالة التعبّد بخبر الواحد، من أنّه يُوجبُ تحليلَ الحرام، وتحريم الحلال، فمَعَ الشُّبهة المحصورةُ يرجع للأصولِ الجارية في الأطراف، إلاّ إذا قام الإجماع، أو الضرورة، أو دليل خاصّ على حُرْمة المخالفة القطعية، كما لو تردَّد المكلّف بين وجوبِ صَلاة القصر عليه أو التمام، أو وجوب صلاة الجمعة أو الظهر عليه في يوم الجمعة، فإنَّ الإجماع أو الضّرورة قامتا على حرمة المخالفة القطعية في هذين المثالين، وقد وَرَدَ التّصريحُ بجواز المخالفة القطعية للعلم الإجمالي في الأخبار المتقدّمة، التي فيها الصّحيح والموثوق، ولا داعيَ لفتح بابِ التأويل فيها بتخصيصها بالشبهات البدوية، أو بالشبهة الغير المحصورة، بل هو كالاجتهاد في مقابل النصّ، بل مؤيّداً ذلك بما وَرَدَ في الشرع من جَعْلِ الطَّرف والأصول والإمارات المؤديّة كثيراً بخلافِ الواقع، بل وَقَعَتْ في الشَّرع المخالفة للعلم الإجماليّ في الشُّبهة المحصورة فَوْقَ حَدّ الإحصاء، كالأخبار الدالّة على حَلِّ جميع المال المختلط بالرّبا، التي سيجيءُ إنْ شاء الله نقل بعضها.

فلو كانَ يستحيلُ ترخيصُ الشّارع في ارتكاب المشتبهين، لما صَحَّ من الشارع الترخيص المذكور، وقد أفتى الفقهاء لا سيّما في أبوابِ المعاملات والسياسيات بما دَلَّ على جواز المخالفة القطعية:

منها: إنّ المقرّ إذا قال: هذا المالُ لزيدٍ، بل لبكرٍ، بأنَّ الحاكم يَحْكُمُ
بأخذ المال لزيد، وقيمته لبكر، مع أنّه نعلم إجمالاً بأنَّ أحدهما أخذ المال بالباطل([143]).

وهكذا ذكروا أيضاً في باب الصّلح، أنّه لو كانَ لأحدِ الوَدَعيين درهم، والآخر درهمان، فتلف درهمٌ من الثلاثة، لا يَعْلَمُ لأيّهما، من أنّه يقسم واحداً من الدرهمين الباقيين نصفين بينهما([144])، فإنّ في ذلك مخالفة للعلم الإجمالي، من أنّ هذا الدرهم لأحدهما، إلى غير ذلك مما يجده المتتبّعُ في كلماتِ القوم وفتواهم([145]).

ودعوى أنَّ الحاكم وظيفته أخذ ما يستحقّه المحكوم له بالأسباب الظاهرية، كالإقرار، والحلف، والبيّنة، وغيرها، فهو قائمٌ مقام المستحقّ في أخذِ حَقِّهِ، ولا عبرة بعلمه الإجمالي.

قال جَدّي الهادي  رحمه الله ([146]): وذلك لأنَّ الملحوظ حالَ المستحقّ، دون علم الحاكم، قال الشيخ  رحمه الله : ونظير ذلك ما إذا أفتى المفتي لكلٍّ من واجدي المني في الثوب المشترك بدخول المسجد، فإنّه إنّما يفتي لكلٍّ منهما بملاحظة تكليف نفسه([147]).

وإنّ مسألة الصُّلح حُكْمٌ تعبديّ، وكأنّه صُلْحٌ قهريٌ بين المالكين، أو يحمل على حصولِ الشركة بالاختلاط.

وبالجملة: فلا بُدَّ من التوجيه لكلِّ ما يُتوَهَّمُ منه جوازُ المخالَفَةِ القطعيّة لمنعِ العَقْلِ منها والنقل.

مدفوعةٌ: بأنّ الكلام في إمكان جعل هذه الوظيفة للحاكم فيما يلزم العمل بها المخالفة القطعية، ولا رَيْبَ أنّه لو يُحْكُمُ العَقْلُ بحُرْمَةِ المخالفة القطعية يستحيلُ أنْ يجعل تلك الوظيفة للحاكم مِنْ أخذِ المال ودَفْعِهِ لكلٍّ من زيدٍ وبكر، وهكذا يستحيلُ أنْ يجوز له الشَّارع أنْ يحكم بما لا يُجوِّزُهُ العَقْلُ من المخالفة القطعية، ولو جوّز الشارع للحاكم أخذ المال المذكور ودفعه للمقرّ لهما مع علمه بالمخالفة العملية القطعية، وجوّزنا له الحكم بذلك، لكانَ يجوز للشارع أنْ يجوّز ارتكاب المشتبهين، وفتوى المفتي بذلك؛ لأنّه يَعْلَمُ من ذلك أنَّ العلم الإجمالي ليس بعلّة تامة، فإنّ تَخَلُّفَ المعلول عن العلّة في موردِ يعلم منه أنَّ العلة ليست بتامة، وإنّ تماميتَهما بشيءٍ آخر، وتنظيرُهُ ذلك بفتواه لواجد المني لعلّه يؤكد عَدَمَ تأثير العلم الإجمالي؛ لأنه قد عُلِمَ إجمالاً بحُرْمَةِ إحدى الفتويين، لعدم مطابقتها للواقع، فلابُدَّ من الالتزام بجوازِ المخالفة القطعية لهذا العلم الإجمالي.

وأمّا مسألة الصُّلح، فكونُ الحكم فيها تعبُّديّ، ولو بصُلْحٍ قَهْريّ لا يرفع الإشكال، إذْ الكلامُ في إمكانِ مثل هذا التعبُّد ولو بالصُّلْحِ القهريّ، مع مخالفته للعلم الإجمالي.

وتخيّل توقُّف رَفْع الخصومة به ممنوع، لعدم انحصار الطريق فيه، ضرورةَ إمكان رَفْعُ الخصومة بالقرعة، بَلْ هو المتعيّن بناء على حُرْمَةِ مُخَالَفة العلم الإجماليّ القطعية، ولابُدّ من طَرْحِ الدليل المخالف لذلك أو تأويله.

وأضْعَف منه التّوجيه بحصولِ الشّركة القهريّة بالاختلاط، لوضوحِ أنَّ موردها الاختلاط على وَجْهِ الامتزاج، كامتزاجِ الحنطة بالحنطة، والدّهن بالدّهن، بل في الأخبار ما يدلُّ على جواز ارتكاب المشتبهين.

ففي صحيحِ الحلبي: أتى رَجُلٌ أبي، فقال: إنّي وَرِثْتُ مالاً، وقد عَرَفْتُ أنَّ صاحبه الذي ورثته منه كان يربو، وقد أعرف أنّ به رباً، وأستيقن ذلك، وليس يطيب لي حلاله، لحال علمي فيه، وقد سألتُ فُقَهَاء أهل العراق وأهل الحجاز، فقالوا: لا يَحِلُّ أكله، فقال أبو جعفر  عليهم السلام : (إنْ كُنتَ تَعْلَمُ بأنَّ فيه مالاً معروفاً رباً، وتعرف أهله، فخُذْ رأس مالك، ورُدّ ما سوى ذلك، وإنْ كانَ مختلطاً فكُلهُ هنيئاً مريئاً، فإنَّ المال مالك، واجتنب ما كان يصنع صاحبه)([148]).

ودعوى إمكان أنْ يكون المال الرَّبوي من مجهول المالك، فصارَ ملكاً للإمام عليهم السلام ، فأذِنَ له بالتصرُّف، أو ملكه إيّاه، أو أنه ملك للفقراء والوارث منهم.

مدفوعةٌ؛ بأنَّ الظاهر هو بيانُ الفتوى بحكم الشارع في الواقعة، لا أنه من باب الإذن والترخيص.

ومثل ما في موثّقة سماعة، عن أبي عبد الله  عليهم السلام ، عَنْ رَجُلٍ أصابَ مالاً
من عُمّال بني أمية، وهو يتصدَّقُ به ويقول: [إِنَّ الحَسَنَاتَ يُذهِبنَ السَّيِئاتِ]([149])،
 فقال  عليهم السلام : (إنَّ الخطيئة لا تكفر الخطيئة، ولكن الحسنة تحطُّ الخطيئة) ثمَّ
قال  عليهم السلام : (إنْ كان خَلَطَ الحرام حلالاً فاختلطا جميعاً، فلم يعرف الحلال من الحرام فلا بأس)([150])، فإنّه ظاهرٌ في جواز التصرّف بالجميع؛ لأنَّ التصدّق وإمساك الباقي هو تصرُّفٌ في جميع المال بصرفه وإمساكه.

نعم، لو كان الإمام  عليهم السلام  أمره بردّ الباقي إلى مالكه مع العلم بالمالك، أو إلى الإمام  عليهم السلام  نفسه، أو إلى حاكم الشرع، أو نائبه، أو بالتصدّق به عن مالكه، لم يكنْ له ظهورٌ في تناول الجميع؛ وفرضُ كون الرجل من الفقراء قد احتسب الإمام الباقي عليه من باب رَدِّ المظالم، كما ترى.

ومثلَ ما في صحيح عليّ بن جعفر، عن أخيه  عليهم السلام ، عن رَجُلٍ امتخط، فصَارَ الدّمُ قطعاً صغاراً، فأصابَ إناءَه، هَلْ يَصِحُّ الوضوءُ منه؟ قال  عليهم السلام : (إنْ لم يَكُنْ شيء يستبينُ في الماء، فلا بَأسَ)([151])، فإنّه ظاهرٌ في الشّبهة المحصورة التي أطرافها محلّ الابتلاء، لا سيّما والسائل مثل (علي)، ولا أقلّ من شمول إطلاقه لها بترك الاستفصال، وعدم التقييد.

إنْ قلتَ: إنَّ الأخبار الدالّة على جواز ارتكاب الشُبهة المحصورة يعارضها ما عن النبي  (ص) : (ما اجتمع الحلال والحرام إلا غلب الحرام الحلال)([152])، والمرسل: (اتركوا ما لا بأس به حذراً عما به البأس)([153])، وضَعْفُها ينجبر بالشُّهرةِ المحقّقة، والإجماع المنقول على حُرْمَة ارتكاب أطراف الشُّبهة المحصورة، وبمثل رواية ضرير، عن السّمن والجبن في أرضِ المشركين، قال: (أمّا ما علمت أنّه قد خلطه الحرام فلا تأكُلْ، وأمّا ما لم تعلم فكله حتّى تَعْلم أنّه حَرَامٌ)([154])، فإنَّ الخلط يصدق عند الاشتباه، كما في الشّبهة المحصورة، وبروايةِ ابن سنان([155])، كما في رسائل الشيخ، أو عبد الله بن سليمان([156]) كما في الدرة النجفية([157]): (كُلُّ شيءٍ لك حَلال حتَّى يجيئك شاهدان إنّ فيه ميتة)([158])، ولا رَيْبَ أنَّ الشُّبْهَةَ المحصورة التّي يعلم إجمالاً أنّ أحَدَ أطرافها ميتة، يكون فيها الميتة، وبرواية إسحاق بن عمّار: (يشتري منه ما لم يعلم أنّه ظَلمَ فيه أحداً)([159])، وبحديثِ التّثليث، وهو قوله  (ص) : (حلال بيّن، وحرام بيّن، وشُبُهاتٌ بين ذلك، فمَنْ تَرَكَ الشُّبهات نجا من المحرّمات، ومَنْ أخَذَ بالشبهات وقع في المحرّمات وهَلَكَ مِنْ حيثُ لا يعلم)([160])، وبمثل صحيح عبد الرحمن في جزاء الصيد: (إذا أصبتم مثل هذا فلم تدروا، فعليكم بالاحتياط حتّى تسألوا عنه فتعلموا)([161]).

قلنا: أمّا النبويُّ الأوّلُ، ففي بعض الروايات له: (إلا غلب الحلال الحرام)([162])، فيكونُ على مطلوب الخصم أدَلّ، وقراءة الحلال بالنّصب، ليكون مفعولاً مقدَّماً، والحرام بالرفع، ليكونَ فاعلاً مؤخّراً، حتّى ينطبق على الرواية الأولى، ليس بأولى من العكس، بأنْ يقرأ في الرّواية الأولى الحرام بالنصب مفعولاً مقدّماً، والحلال فاعلاً مؤخراً.

وكونُ الرّواية الأولى أشهر، والأشهرية موجبة للترجيح ممنوع، فإنّ الأشهرية لا تُوجِب التّرجيح في القراءة، ولو سَلَّمنا ذلك، فالأخبار المعارضة الدالة على جواز ارتكاب المشتبه بالشُّبهة المحصورة مقدَّمة؛ لأنّها أصحُّ سنداً منه، على أنّه ظاهرٌ في الاجتماع بنحو المزج، لا بنحو الاشتباه، بل رُبّما يقال بعدم إمكان إرادة غير المزج، إذْ الاجتماع بغير المزج، إمّا أنْ يكون في الذهن، بأنْ يراد اجتماع احتمال الحرام واحتمال الحلال، وهو لا يصحّ إلا بارتكاب نوع من الإضمار، بأنْ يقدّر: (ما اجتمع احتمال الحلال، واحتمال الحرام، إلا غلب احتمال الحرام).

وهو خلافُ الأصل، لا يُصار إليه إلاّ بقرينة، وهي مفقودةٌ في المقام، مع
أنَّ مقتضى ذلك وُجوب الاحتياط في الشبهة البدوية مطلقاً، وهو خلاف الإجماع.

وإمّا أنْ يكونَ المرادُ بالاجتماع في المكان، ولا رَيْبَ أنَّ الاجتماع في المكان لا بنحو المزج إنّما يُتَصوَّرُ بأنْ يلاصق الحرام الحلال، وهو غيرُ مَعْقولٍ الإرادة، فإنّه مُستَلْزِمٌ للكذب، إذ الحرام إذا اجتمع مع الحلال والتَصَقَ به لا بنحو المزج لم يغلب أحدهما الآخر، فإنَّ لك أنْ تستعمل الحلال، وأنْ تترك الحرام، فإناءُ الخمر وإناءُ الماء لو جعل أحدهما بجنب الآخر، لم يغلب أحدهما على الآخر في حكمه، فإنّ لك أنْ تستعمل إناء الماء.

نعم، لو اجتمعا بنحو الامتزاج غَلَبَ الحرام، ولا يصحُّ لكَ شربُ الماء؛ لأنه بشربه تشرب الخمر، فيكونُ فعلُهُ عبارَةٌ عن فعلِ المعصية، فإذن تعيَّنَ حمل النبويّ المذكور على الاجتماع بنحو المزج، يكونُ أجنبياً عن المقام.

وأمّا المرسل المذكور، فالظّاهرُ أنَّ الأمر فيه للإرشاد، إلاّ أنَّ ترك المشتبه يوجِبُ الحَذَرَ من فعل المحرم، فإنَّ النفس بذلك تتعوَّد على ترك المحرَّمات، ويهونُ عليها التجنُّب عنها، فيكونُ مَفَادُهُ مَفَادَ قوله  عليهم السلام : (فمَنْ تَرَكَ ما اشتبه عليه من الإثم فهو لما استَبان له أترك)([163]).

وأمّا دعوى انجبار النبويّ والمرسل بالشُّهرة والإجماع، فهيَ فاسِدَةٌ؛ لأنه للخصم أنْ يمنع انجبارها بذلك، بعَدَمِ استناد المشهور في الحكم بالاحتياط إليهما، كما هو المشهور([164])، بل إلى القاعدة، سَلَّمنا كفايةَ الشُّهْرَة في الانجبار، لكنْ مَعَ وُضوحِ مَدْرَكِ الشُّهْرَة وضعفه لا يعوّل عليها في الجبر، والإجماعُ المدَّعى واضحٌ الخلاف، لما عَرَفْتَ من خلافِ جُمْلَةٍ من العلماء، مُضافاً إلى معلومية ضَعْفِ مَدْرَكِهِ، وهو القاعدة العقلية.

وأمّا رواية ضَرير، ففيها: إنّ لفظ الخلط ظاهرٌ في المزج، بقرينةِ السَّمن والجبن، حيثُ أنَّ الاختلاط فيهما لا محالة يكونُ بنحو المزج غالباً.

وأمّا روايةُ ابن سنان، فظاهرها قيام البيّنة على أنَّ المشتبه ميّتة،
فيكونُ مفادُها الأخبارُ الدالّة على حِلّية المشتبه حتَّى تعلم الحرام بعينِهِ،
لا سيّما موضوعُها كُلُّ شيء، والضّمير في (فيه) عائدٌ إليه، فإنَّ الشيئية ظاهِرَةٌ
في الموجود الواحد، لا الموجودات المتعدِّدة، فلا تَصْدُقُ الرّواية على
الشبهة المحصورة التي فيها الميتة، ولا أقلّ من الشكّ في الصِّدق، فيَسْقُطُ الاستدلال.

وأمّا روايةُ إسحاق بن عمّار، فإنَّ الظاهر منها هو العلم التفصيلي بأنَّ هذا الذي يشتريه فيه ظُلْمٌ بعينِهِ لأحد؛ وعليه فالرّواية دالّة على جواز ارتكاب أطرافُ الشبهة المحصورة؛ لأنّ كُلّ واحدٍ منها لا يَعْلَمُ بأنَّ ظلم فيه أحدا.

وأمّا حديثُ التثليث، ففيه: أنّه محمولٌ على الاستحباب، كما عن بعضهم([165])، أو على الإرشاد كما عن جماعة([166])، والغريب أنّ الشيخ
الأنصاري  رحمه الله  في الشبهة البدوية في مقام الرّد على الأخباريين حمله على الإرشاد([167])، وفي هذا المقام استشهد به على وجوبِ الاحتياط([168]).

ولو سلّم دلالته على وجوب الاحتياط، فالأخبار الدالة على جواز ارتكاب الشبهة المحصورة المتقدمة، مقدمة على هذا الحديث، حاكمة عليه، فإنّ الحديث المذكور إنما يدلُّ على الاحتياط مع عدم الأمن من الهلكة، والأخبار المذكورة تعمّ المؤمن من الهلكة، فيرتفع موضوعُ الحديث حُكماً، وإنْ لم يرتفع حقيقة، فلا وَجْهَ لجعلِهِ معارضاً لأدلة البراءة.

وأمّا صحيحُ عبد الرحمن، ففيه: أنّه مختصٌّ بصورة التمكُّن من السؤال والفحص، فهو ظاهرٌ في الجاهل المقصِّر، فلا دخل له في المقام.

إنْ قلتَ: إنّه يُستفادُ من أخبارٍ كثيرةٍ كونُ الاجتنابِ عن أطرافِ الشبهة المحصورة أمراً مُسلّماً مفروغاً عنه بين الأئمّة والشيعة، بل العامة أيضاً.

منها: ما وَرَدَ في المائعين المشتبهين، كخبر سماعة، عن الصادق  عليهم السلام ، في رَجُل معه إناءان، وَقَعَ في أحدهما قذر، لا يدري أيُّهما هو، وليس يقدّر على ماء غيرِهِ، قال  عليهم السلام : (يُهريقُهُما ويتيَمَّم)([169]).

وموثَّقة عَمَّار، عنه  عليهم السلام ، قال: سئل عن رَجُلٍ معه إناءان فيهما ماء، وَقَعَ في أحدهما قَذَرٌ، لا يدري أيّهما هو، وليس يقدر على ماء غيره، قال  عليهم السلام : (يهريقهما جميعاً ويتيمَّم)([170])، خُصوصاً مع فتوى الأصحاب بلا خلاف بينهم على وجوب الاجتناب عن استعمالهما مطلقاً، وعن المعتَبَر نسبة عمل الأصحاب إلى الخبرين([171])، وعن المنتهى أنَّ الأصحاب تَلَقَّتهما بالقبول([172])، وعن المدارك أن رواية عمار ضعيفة المستند بجماعة من الفطحية([173]).

ومنها: ما وَرَدَ في الصَّلاة في الثوبين المشتبهين، مثل مكاتبة صفوان بن يحيى، لأبي الحسن  عليهم السلام ، يسأله عن رجل معه ثوبان، فأصاب أحدهما البول، ولم يدر أيُّهما هو، وحضرت الصلاة، وخاف فوتها، وليس عندَه ماء، كيف يصنع؟
قال  عليهم السلام : (يُصلّي فيهما جميعاً)([174]).

ومنها: ما وَرَدَ في وُجوبِ غَسْلِ الثّوب من الناحية التي يعلم بإصابة بعضها للنجاسة، مُعلّلاً بقوله  عليهم السلام : (حتّى يكونُ على يقينٍ من طهارته)([175])، مثل الصحيح: (تغسل ثوبك من الناحية التي ترى أنه قد أصابها، حتَّى تكون على يقين من طهارتك)([176])، فإنَّ وجوب تحصيل اليقين بالطَّهارة على ما يُستفاد من التعليل، يَدُلُّ على عَدَمِ جَرَيانِ أصالة الطهارة بعد العِلْمِ الإجماليّ بالنجاسة، وهو الذي بَني عليه وجوب الاحتياط في الشبهة المحصورة، وعدم جواز الرجوع فيها إلى أصالة الحلّ، فإنّه لو جَرَى أصلُ الطهارة، وأصالةُ حِلِّ الصلاة في أحد المشتبهين، لم يَكُنْ للأحكام المذكورة وَجْهٌ، ولا للتعليل في الحِكْم الأخير بوجوب تحصيل اليقين بالطهارة.

ومنها: ما دَلَّ على بيع الذبائح المختلط ميتتها بمذكّيها من أهل الكتاب، ففي صحيح الحلبي: (إذا اختلط الذكيّ والميتة، باعَهُ ممن يستحلُّ الميتة)([177])، فلو لم يجب الاحتياطُ في الشبهة المحصورة، لكان يجوز البيعُ ممّن يستحلّ، وممن لا يستحل، لا تخصيص الجواز بمن يستحل.

وقد يستأنس للقول بوجوب الاحتياط في المقام، بما وَرَدَ من وجوب القرعة في قطيع الغنم المعلوم إجمالاً وجود الموطوء فيه، وهو الخبر([178]) المحكي عن جواب الإمام الجواد  عليهم السلام  لسؤال يحيى بن أكثم عن حكم القطيع المذكور، فإنّه لو لم يجب الاحتياط لا تجب القرعة لتعيين الموطوء منها.

قلنا: هذه موارد خاصّة، قام الدليلُ على وجوبِ الاحتياط فيها، ويكون الدليلُ عليها نظيرُ الإجماع الذي قام على وجوبِ إتيان القصر والتمام، والجمعة والظهر عند العلم الإجمالي بوجوب أحدهما؛ هذا مضافاً إلى أنَّ ما ورد في المائين المشتبهين يدلُّ على عدم اقتضاء العلم الإجماليّ لحرمة المخالفة القطعية، على عكس المدّعي؛ لأنه يَعْلَمُ إجمالاً بحُرْمَةِ تَرْكِ الوُضوءِ بأحدهما بإراقة الماء.

والحاصل: إنَّ الإهراقَ للمائين ليس تقتضيه القاعِدَةُ لو تَمَّتْ هنا، بل يَدُلُّ على عدمها؛ لأنه يمكن أن يتوضأ بأحد الإناءين، ويتطهر بالآخر، ثم يتوضأ بالآخر ويتطهر بالأول، فإنه يقطع بزوال الحدث؛ لأنه إنْ كان الأول ماءاً طاهراً كان وضوؤه صحيحاً، وإن كان الأول نجساً، فالماء الآخر قد تطهر به، ووضوءه يكون صحيحاً، ويتعارض استصحاب طهارة بدنه عند تطهيره بالماء الطاهر منهما، باستصحاب نجاسة بدنه عند إصابة بدنه بالنجس منهما، فيتساقطان، ونرجع إلى أصالة طهارة بدنه، فتصحُّ منه الصلاة.

وظاهرُ جواب الإمام  عليهم السلام  الأمر بالتيمم وبالإهراق سواء كان الإناءان يكفيان للوضوء والتطهير، أو للوضوء فقط، أو يصلي بصلاتين بالوضوء بكل واحد منهما، غاية الأمر بعد الصلاة بهما يتطهر عندما يجد الماء، للعلم التفصيلي بنجاسة بدنه، وإزالة النجاسة ليست فورية، فالذي اشتمل عليه النصّ حكم تعبدي للتسهيل على المكلفين، فلا يكون دليلاً للمدّعى، بل المورد من قبيل المتزاحمين بين وجوب الاجتناب عن النجس والصلاة، وبين حرمة ترك الوضوء للصلاة، فيكونُ المورد من دوران الأمرين المحذورين، أمّا الصلاة بلا طهارة حدثية بالماء، أو بلا طهارة خبثية، والإمام قدم الطهارة الخبثية عن الحدثية بالماء، لوجود البدل للطّهارة الحدثية بالماء، وهو التيمُّمُ، للتسهيل على المكلّفين، فلابُدّ من عملٍ بهذه الرواية يلتَزِمُ بأنّها حُكْمٌ تعبديٌّ مَحْض، وليس من جهةِ كون الشبهة المحصورة تقتضي حرمة المخالفة القطعية في العمل المذكور أيضاً مخالفة قطعية، حيث تيمم مع تمكّنه من أنْ يتطهر بالماء الطاهر منهما بالوجهين المذكورين.

نعم، هذا الخبر يَدُلُّ على عَدَمِ جَرَيانِ أصالَة الطهارة أو استصحابها مع العمل الإجمالي بالنجاسة في هذا المورد، ولَعلَّه من جهة أنَّ المورد مورد قاعدة الطهارة؛ لأنه ليس ما يَدُلُّ على سَبْقِ اليقين بالطَّهارة فيها دونَ الاستصحاب، لِعَدَمِ اتصال زمان الشك بزمان اليقين، وقاعدة الطّهارة لا تجري؛ لأنّها مغيّاة بالعلم بالنجاسة الذي هو أعمّ من الإجمالي والتفصيلي، بخلاف الاستصحاب، فإنّه ولو سُلّم، فهو حُكْمٌ في موردٍ خاصّ مُلغياً بالعلم التفصيليّ، كما قُرِّرَ في محله.

وأمّا ما وَرَدَ في الثَّوبين المشتبهين، فكذلك غيرُ دَالٍّ على القاعدة، بَلْ يَدُلُّ على عدم جريانها؛ لأنّ الصّلاة بالثوب المعلوم النجاسة تحرم، فصلاته فيهما يحصل بها العلم التفصيلي بالصلاة بالثوب المحرّم، فلو كان العلم الإجمالي يقتضي الاشتغال، لكانَ الإمام  عليهم السلام  يأمرُهُ باجتنابِهِما والصّلاة عارياً، وإذا لم يَجِدْ غيرهِما تجنّب الثّوبين لا ارتكابهما.

وإنْ شئتَ قُلتَ: إنَّ الكلام فيما يثبت به القاعدة ويمنع من إجراء أصل البراءة في الأطراف، والخبر المذكور لا يمنع من ذلك، وإنّما يلزم بإتيان الصلاة بهما، وهو لا يمنع من جواز استعمالهما الذي هو مقتضى أصل البراءة.

وبعبارةٍ أخرى: مَحَلُّ كلامِنا ثبوتُ ما يُعارِضُ كُلّ شيءٍ حلالٌ ونحوه، في أطراف الشبهة المحصورة.

نعم، هذا الخبرُ يَدُلُّ على عَدَمِ جريان أصالةِ الطَّهارة أو استصحابها
مع العلم الإجمالي بالنَّجاسة في هذا المورد بخصوصه، والكلام فيه هو
الكلام فيما تقدمه.

وأما ما وَرَدَ في وُجوبِ غسل الثوب، ففيه: إنَّ وجوب غسله ليس نفسياً، بل غيرياً للصلاة معه، وهو ساترٌ ليس معه ساتر، ويشترط فيه الطهارة، فمع عدم غسل ما يرى فيه النّجاسة، يعلم تفصيلاً أنه صلّى بثوبٍ نجس، ولو غسل بعض يعلم بواسطة الاستصحاب أنّه صلّى بساترٍ نجس، فلا مَنَاصَ له من غسل تمام الناحية، على أنَّ الخبر يدلُّ على غسل خصوص ما رأى النجاسة فيه، لا ما علم إجمالاً نجاسته.

وأما ما دَلَّ على بيع الذبائح المختلطة، ففيه: أنّه بظاهره مخالف للإجماع والعمومات الدالة على حُرْمةَ ِبيع الميتة، ولو سُلِّم، فهو يَدُلُّ على جواز بيع الحلال المشتبه بالحرام، وهو مساوقٌ لجواز استعمال أحدهما، فلا يَدُلُّ على وجوب الاجتناب، فتأمل؛ ولو سُلِّم، فهو حُكْمٌ تَعَبُدّيٌ، ثَبَتَ في مورد خاص، لا يتعدَّى عنه إلى غيره.

وأمّا مسألةُ القرعة، فيُمْكُن أنْ يقال بدلالته على عدم وجوب الاشتغال، إذ لو كان واجباً لوجب تجنب الجميع، مضافاً إلى إمكان القول بدلالته على استحباب القرعة، وعليه؛ فيدلُّ على البراءة، على أنه لو دلَّ على وجوب القرعة، فهو إنّما يَدُلُّ على تميز الحرام عمّا عَدَاه بطريقِ القرعة بخصوصية في المورد، كالبيّنة، أو يَدُ المسلم على بَعْضِها، كما أنّه يُمكِنُ أنْ يكون من باب مجاراة الخصم الذي يريدُ أنْ يمتحن الإمام  عليهم السلام  في معرفة المحرّم، وكان بناءه على الاحتياط في الشبهة، وكثيرٌ من الأجوبة من الأئمة  عليهم السلام  التي كانت في مقام امتحانهم يراعون فيها معرفة السائل بكون السؤال امتحانياً.

وأما المقام الثاني: وهو وجوب الموافقة القطعية، بأن يأتي بجميع أطراف العلم الإجمالي في الشبهة الوجوبية، ويترك جميعها في التحريمية، وهل أنَّ العلم الإجمالي علّة تامة لها، بحيث يمتنع ورود ترخيص من الشارع في عدمها، أو أنَّ العلم الإجمالي مقتضى لها، بمعنى أنَّ العقل يحكم بوجوب الموافقة القطعية للعلم الإجمالي لو خُلّي ونفسه، إلا أنّه لا يمنع من صدور ترخيص من الشارع في عدمها، بأنْ يأذن الشارع بارتكاب ما عدا مقدار المعلوم بالإجمال من أطراف العلم الإجمالي، هذا بناءً على ما اختاره المشهور([179]) في المقام الأول من حرمة المخالفة القطعية، نظراً لوجود المقتضي، وهو عموم الدليل الدال على الحكم الواقعي لصورة العلم الإجمالي الدال على تعلّق غرض المولى بترك أحدهما في الشبهة التحريمية، وفعل أحدهما في الوجوبية، والعلم بمتعلق غرض المولى من العبد موجبٌ لوجوب تحصيله.

وأمّا عدم المانع فلعدم الدليل على جواز الارتكاب لأطراف الشبهة المحصورة، لعدم شمول ما دَلَّ على الإباحة، والحلّية، والرفع، والحجب لأطرافها في كمال الوضوح.

وأمّا بناءً على ما قويناه، وقوّاه الأستاذ الجليل المحقّق المدقق أحمد بن الحسين من فقد المقتضي، باعتبار أنّ مجرّد العموم لا يوجب التنجز واستحقاق العقاب في الظاهر من جهة الشكّ في الموضوع، ووجود المانع على تقدير وجود المقتضي لشمول أدلة حلية المشكوك وحديث الرفع (لما لا يعلمون) لأطراف الشبهة، فيسقط هذا المقام؛ حيث بناءً عليه لا تجب الموافقة القطعية.

ثم إنَّ المتّجه إلغاء تعدّد العنوانين في هذا المبحث، أعني مبحث العلم الإجمالي، فلا ينبغي أنْ يجعل البحث فيه تارةً في حرمة المخالفة القطعية، وتارة في وجوب الموافقة القطعية له، بل ينبغي أنْ يجعل البحث فيه واحداً؛ لأنه بناءً على مُنجّزية العلم الإجمالي تحرم المخالفة وتجب الموافقة القطعية، لعدم الفرق بين الأطراف، وبناءً على عدم المنجزية، لا تحرم المخالفة القطعية، ولا تجب الموافقة.

فالأولى أنْ يُجْعَلَ البَحْثُ في الشبهة المحصورة في عنوانٍ واحد، وهو منجزية العلم الإجمالي، وذكر الأقوال، وبيانُ الحجج والمناقشات فيه، كما صنعه من تقدّم على الشيخ الأنصاري  رحمه الله .

وكيفَ كان، فقد نقل عن جماعة عدم وجوب الموافقة القطعية،
منهم المحدث المجلسي([180]) والمحقق الأردبيلي([181])، والفاضل السبزواري([182])، وصاحب المدارك([183])، والمحقق القمي([184])، والفاضل النراقي ([185])، ونسبه([186]) إلى ظاهر النافع([187]) والإرشاد([188])، وابن طاوُس، وحُكيَ عن الشّيخ في النهاية([189])، وعن القاضي في مسألةِ اشتباه السَّمَك الذي مات في الماء بغيره([190]).

إن قلت: لا فرق في وجوب الاحتياط بين خطاب المولى بأن يقول: (اجتنب عن الخمر المردّد بين الإناءين)، وبين أدلّة حرمة الخمر إلا العموم والخصوص، كما استدل بذلك الشيخ الأنصاري  رحمه الله ([191]).

قلنا: إنّ الأول نصٌّ في وجوب الاحتياط، وإنّ غرض المولى عدم تحقق ارتكاب الخمر في الخارج رأساً، علم به المكلف أم لم يعلم، بخلاف الثاني.

وبعبارة أخرى: إنه في الخطاب الأول بالنسبة لكلّ طرفٍ يكون شكلاً أولاً، فيقال: هذا إناء مردّد الخمر بينه وبين الإناء الآخر، وكلُّ إناء مردّد الخمر بينه وبين غيره من إناء آخر يجب الاجتناب عنه، فهذا يجب الاجتناب عنه، بخلاف الخطاب الثاني، فإنَّ الصغرى فيه غير محرزة بالنسبة لكلّ طرف من أطراف الشبهة.

إنْ قلتَ: إنّ الاشتغال اليقيني بما علم به إجمالاً قد تحقَّق بواسطة العلم، وهو يقتضي الفراغ اليقيني، ولا يتحقَّق الفراغ اليقيني إلاّ بالموافقة القطعية.

قلنا: هذا مُتّجه بعد تسليم المقتضي، وهو اشتغال الذمة بالمعلوم بالإجمال في الشبهة المحصورة بنحو التنجيز واستحقاق العقاب على مخالفته، مع عدم صدور أمن من الشارع في ارتكاب الأطراف، أما مع إنكار المقتضي المذكور، أو دعوى صدور الأمن من الشارع بواسطة شمول أدلّةِ البراءة للأطراف ونحوها، فلا يتّجه ذلك.

إنْ قلتَ: إنَّ أصلَّ البراءة في أطراف الشبهة المحصورة متعارضة، وقد تقرَّر في محلِّه إنَّ الحكم في تعارض الأصول إذا لم يكن أحدها حاكماً هو التساقط، وعليه فلا مُبرِّرَ لارتكاب أحدها، ويتعيّن الاحتياط.

قلنا: إنَّ مقتضى القاعدة في تنافي الأدلّة الاجتهادية أو الفقاهتية هو التخيير إذا كان دليلُ حُجيّتها يشمل لحال تخالفها وتنافيها، على وجهٍ يعلم بأنّ الشارع يريد العمل بمؤدّاها، كما في إنقاذ الغريقين، حيثُ لا قصور فيه من جهة المقتضي، وإنما القصور من جانب العبد، حيث لا يتمكّن من العمل بهما جميعاً، ولا يمكنه تَرْكُ العمل بهما جميعاً، لمكان العلم بأنَّ إنقاذهما مطلوب للشارع، فيَحْكُم العَقْلُ حينئذٍ بالتّخيير من بابِ الاضطرار، ومن هذا الباب تعارُضُ الخبرين بناءً على الموضوعية والسببية، بَلْ على الطريّقية أيضاً، وأمّا لو كان القصور من جانب المقتضي، بأنْ لم يشمل دليلها لحال التنافي، فمقتضى القاعدة التساقط، لعدم الدليل عليها في هذه الحال، أعني حال التعارض.

ومن هذا الباب كلُّ أصل أو أمارة كان اعتبارهما من باب الظن الفعلي، كالشهرتين، والاستقرائين، ونحوهما لانتفاء مناط الحُجيّة فيهما.

إذا عَرَفْتَ هذا، ظَهَرَ لَكَ الحال من أنَّ أصل البراءة في أطراف العلم الإجمالي يتساقط إذا قلنا بأنَّ العلم الذي جعل غاية في دليل أصل البراءة يشمل التفصيلي والإجمالي، حيثُ لا يشمل دليلها لحال التعارُض، لحصول الغاية وهو العلم الإجمالي، ويرتفع موضوع أصل البراءة في الأطراف، فلا يكون أصل البراءة في شيءٍ منها حُجّة فيتساقط، وأما إذا قلنا بأنَّ الغاية في دليل أصل البراءة هو العلم التفصيلي، فلا يتساقط أصلُ البراءة في أطراف العلم الإجمالي، ويَعْمَلُ بالأصل المذكور فيها، لشمول دليله لها، ولا تعارض فيها، وقد تقدَّم بيانُ وَجْهِ عدم التّعارض عن قريب، من أنَّ حاصله أنَّ دليلَ الأصل إنما يثبت وجوبُ العمل بمؤدّاه، ولا يَدُلُّ على ثبوتِ لوازمه العقلية، كنفي الآخر، فلا يدلُّ على بطلان العمل بمؤدّى الآخر إلاّ بناء على حجية الأصل المثبت، بخلاف دليل الأمارة، فإنّه يدلُّ على حُجيّتها في مؤدّاها ونفي لوازمه؛ لأنَّ الأمارة يثبت بها لوازمها، فتدل على بطلان مؤدى الأخرى وتكون حجة فيه.

شروط أصالة الاشتغال

ثُمَّ إنّ العقل إنّما يحكم بالموافقة القطعية للعلم الإجمالي عند من يقول بوجوبها بشروط:

أحدها: أنْ يكونَ كُلّ واحد من أطراف العلم الإجمالي بحيث لو فرض القطع بثبوت موضوع التكليف فيه كان التكليف مُنَجَّزاً بسببه، فلو لم يكن كذلك، كما لو عُلِمَ بالاضطرار إلى غير المعيّن منهما، وَجَبَ عليه اجتناب أحدهما؛ لأنه لم يضطر للحرام، فيكونُ الحرام منجّزاً عليه، لكن لما كان اجتناب هذا الحرام المنجّز عليه لا يمكن إلا بترك أحدهما مع ارتكاب الآخر للاضطرار إلى أحدهما الغير المعين، تعيّن عليه الموافقة الاحتمالية.

ثانيها: أنْ لا يكون مؤمن من مخالفته للعمل الإجمالي في أحد أطرافه، فلو فرض وجودِ المؤمن، كأنْ قامت أمارةٌ أو أصلٌ معتَبَرٌ في أحدِ الأطراف بلا معارض على جواز المخالفة، مثل ما لو علم إجمالاً بوجوب صلاة الظهر أو الجمعة، وقامت الأمارة أو الأصل على عدم وجوب الجمعة مثلاً، فإنه يجوز ترك الجمعة، وكما لو علم بغصبية أحد الإناءين، وقامت الأمارة على عدم غصبية أحدهما بعينه، ولا تجوز في هذه الصورة المخالفة القطعية، للعلم بحدوث التكليف، غاية الأمر الشارع قد رَخَّصَ في ارتكاب أحدِ محتملاته، لوجود العذر عن المخالفة.

قد يقال: إنَّ هذا يقتضي عدم كون العلم الإجمالي علّة تامة للموافقة القطعية، وإلا لما انفكت عنه، كما لا تنفكُّ عن العلم التفصيلي، وإذا لم يكن علّة تامة للموافقة القطعية جاز تخلّفها عن العلم الإجمالي، وعليه لا بدْ من إثباتها للعلم الإجمالي بدليلٍ خاصّ، وحيثُ لا دليلَ عندنا، فالأصلُ براءة الذّمة من الموافقة القطعية في كلّ علمٍ إجماليٍ، نَعَمْ هو عِلّةٌ تامّةٌ لحرمة المخالفة القطعية لتحقق العصيان بها.

وجوابه: إنَّ مَنْ يقول بمنجّزية العلم الإجمالي للتكليف يَذْهَبُ إلى أنَّ العلم الإجمالي عِلّة تامة بالنسبة لحرمة المخالفة القطعية، لكونها يَحْصَلُ بها العصيان للمولى، فلو وَرَدَ دليلٌ على جوازها، لَزَمَ طَرْحُهُ أو تأويله لتنجُّز التكليف به؛ لأنَّ التكليف قد عُلِمَ بشروطه، وإنّما الشّكُّ كان في المكلّف به، لا بالتكليف، كما لو علم بالتفصيل التكليف، ولكنه بالنسبة إلى الموافقة القطعية يكون مقتضى تام لها، بمعنى أنه لو خُلّي وطَبْعُهُ تلزم موافقته القطعية إذا لم يَرْدِ دليلٌ على جواز ارتكاب بعض الأطراف، فلو وَرَدَ دليلٌ أخذ به؛ لأنّ إطاعة أمر المولى وامتثاله وكيفيّّاتها بيد المولى، فله أنْ يرضى بالبدل، كما في التيمُّم، أو الاكتفاء ببعض المحتملات كما في اشتباه القبلة.

وعليه: فمُقتضى الأصل هو الإطاعة القطعية، لا براءة الذمة من التكليف، ولا يعدل لبدلها، أو الاقتصار على بعض المحتملات إلا بالدليل، هذا على مسلك من يقول بمنجزية العلم الإجمالي.

ثالثها: أنْ تكون أطراف العلم الإجمالي محصورة، فلو كانت أطراف العلم الإجمالي غير محصورة، بأنْ تبلغ الأطراف من الكثرة بحيث لا يعتني العقلاء بالعلم الإجمالي الحاصل فيها، بأنْ يكون احتمال المعلوم بالإجمال في الأطراف ضعيفٌ جداً، كما لو احتمل أنّ قطرة بول وقعت في أحد أجزاء أرض داره الواسعة، فلا تجب الموافقة القطعية للضرورة الدينية على ذلك، كما عن بعض المتأخرين([192])، ولدعوى الإجماع([193]) عن الروض([194])، وجامع المقاصد([195])، وللزوم الحرج في الموافقة، بل للاطمئنان بعدم المعلوم بالإجمال في الأطراف لغرض ضعف احتماله في كلٍّ منها، فيجوزُ الارتكاب لها، إلى أنْ يبقى منها مقدار الحرام، لحرمة المخالفة القطعية، كما ذَهَبَ إليه بعض المتأخرين([196])، أو ارتكاب جميع أطرافها، كما هو ظاهر الكثير من المتقدمين([197]).

وأما لو كانت الأطراف تبلغ من المقدار بحيث يعتني العقلاء بالعلم الإجمالي الحاصل فيها لقلة الأطراف أو لكثرة المعلوم بالإجمال فيها بحيث يكون من شبهة الكثير في الكثير، كأنْ علم بغصبية ألف ثوب في أربعة آلاف من الثياب وَجَبَ عليه الاجتناب لاعتناء العقلاء بالعلم الإجمالي الحاصل فيها، وتحقيق الحال يطلب مما حرّرناه في كتبنا الأصولية.

رابعها: أنْ تكون أطراف العلم الإجمالي دفعية لا تدريجية؛ لأنّ التدريج يمنع من توجُّه الخطاب بالأمر المستقبل، لِعَدَمِ صِحَّةِ الخطاب بالواقعة المستقبلة، فلا يَكونُ الخطاب مُنَجَّزاً بالنّسبة إليه، وعليه؛ فتكونُ الواقعة الفعلية مشكوكة التكليف بالشكَّ البدوي، كما لو كانت زوجته مضطربة الوقت، بأنْ كانت تعلم بأنّها تحيض في الشهر ثلاثة أيام، فهل يجب عليها اجتناب زوجها في الشهر كله؟ وهل عليها تركُ دخول المساجد وقراءة العزائم؟ وكما لو علم تاجر بابتلائه بمعاملة ربوية في شهره أو يومه، فهل عليه اجتناب سائر المعاملات التي لا يعرف حكمها في ذلك الشهر؟ أو اليوم؟ وكما لو نذر ترك وطئ زوجته في ليلة، واشتبه في تلك الليلة بأيام الأسبوع أو الشهر، فهل عليه اجتناب وطئها في ذلك الأسبوع أو ذلك الشهر؟ فالقائل بعدم وجوب الاجتناب يجوز المخالفة القطعية.

ففي المثال الأول يستصحب الطهر إلى أن تبقى ثلاثة أيام من الشهر، فيجري أصل الحلّ لعدم جريان الاستصحاب، ويجري في كلِّ معاملة في المثال الثاني أصالة إباحة المعاملة مع أصالة الفساد فيها، فكلُّ معاملةٍ يشكل فيها يجري أصالة إباحتها، لكنّه لا يترتب الأثر عليها.

وقد أشْكَلَ بَعْضُهُم على ذلك بأنَّ من يقول بمنجّزية العلم الإجمالي لا يسلم عدم جواز الخطاب بالأمر الاستقبالي ولو سُلّم فهو يدعي استقلال العقل بالاحتياط وإنْ لم يتنجّز في وقتٍ واحد لئلا يقع في المخالفة القطعية.

وفيه: إنّه مع عدم تجويز الخطاب بالأمر المستقبل، لا علم إجمالي بالتكليف المنجز، ولا مخالفة قطعية له؛ نعم، إذا جوّزنا ذلك وكان التكليفُ من هذا القبيل، وكان التدّّرج غير مُوجبٍ للخروج عن الابتلاء، وعليه؛ فلا ينبغي أنْ يفرق بين الأطراف التدريجية والدفعية، نعم، عليه أنْ يفرّق في التدريجية بين ما كان الخطابُ بالفرد اللاحق مطلقاً فعلاً، وبين ما كان مشروطاً، كما فرَّقَ بعضهم([198]) بينَ ما إذا عَلِمَ بحيضية زوجته ثلاثة أيام، فإنّ الاجتناب مشروطٌ بالحيض، أو نَذَرَ ترك وطئها ثلاثة أيام، فإنّ الاجتناب غير مشروطٍ بشيء، واشتبهت تلك الثلاثةُ بين أيّام الشهر، أو علم أنّ إحدى المعاملات التي يبتلى بها هذا اليوم ربوية، فإنَّ الاجتناب عنها غيرُ مشروط بشيء، فمنع من الاحتياط في الأول وحكم به في الأخيرين.

وقد يُورَدُ عليه بعدم الفرق بينهما، ويمكن الفرق بينهما بأنَّ الحيض عنوان للمكلَّف به، وموضوعٌ له، ومن المعلوم أنَّ الخطاب لا يتوجَّه مع عدم تحقق موضوعه، بخلاف مسألة المعاملة والنذر، ففي مسألة الحيض يستصحب الطهر إلى أنْ يعلم نَقْضُ الحالة السابقة، وفي مسألةِ النذر يُرْجَعُ إلى أصالة إباحة الوطء، وفي مسألة المعاملة يُرْجَعُ إلى أصالة الفساد.

دوَران الأمر بيـن الأقل والأكثر

أمّا الكلام فيما دَارَ الأمرُ بينَ الأقلّ والأكثر، بأنْ تردَّدَ العَمَلُ المكلَّفُ به بينهما على نحوٍ يكونُ الشكُّ في كُلْفَةٍ زائدة على الأقلّ، بحيث لو كان الأقل هو الواجب واقعاً لم يضرّ إتيان هذه الزيادة معه، كما لو شك في جزئية الاستعاذة للصلاة، وأما لو تردَّد العَمَلُ بينهما لا على هذا النحو، بأنْ كان إتيانُ الزيادة مضرّاً ومبطلاً للواجب لو كان الواجب هو الأقل، كما لو تردَّد الواجب بين القصر والتمام، والجمعة والظهر، فهو خارِجٌ عن مَحَلّ البَحْثِ، ولا يسمى بدوران الأمر بين الأقلّ والأكثر، ويكونُ داخلاً في دَوَرَانِ الأمر بين المتباينين.

والحاصل: إنَّ الزيادة إذا احتمل بطلانها للواجب وإفسادها له، أو قطع بذلك، كان المقام من قبيل دوران الأمر بين المتباينين، ومتى لم يحتمل فيها ذلك، وإنما يحتمل فيها الوجوب فقط، كان من دوران الأمر بين الأقل والأكثر، ثمّ الكلام في هذا الفَصْلُ يتصور على قسمين:

أحدهما: ما تكونُ صِحّة الأقل منوطةٌ بضمّ الأكثر لو كان الواجب في الواقع هو نفس الأكثر، كما لو تردَّد العمل المكلَّفُ به بين الصلاة مع الاستعاذة أو بدونها، فإنّه على تقدير وجوبِ الصَّلاة مع الاستعاذة في الواقع تكونُ الصلاة بدون الاستعاذة باطلة، ويسمَّى هذا القسم بالأقل والأكثر الارتباطيين؛ لأنَّ أكثرية الأكثر من الأقلّ كانت بمدخلية الأقلّ فيه.

ثانيهما: بعكس ذلك، بمعنى أنْ لا تكون صحة الأقلّ منوطة بصحة الأكثر، ولو فرض أنّ الأكثر هو الواجب في الواقع، كما لو تردَّد الدَّيْنُ بين عشرة دنانير أو ثمانية، ويسمّى هذا القسم بالأقل والأكثر الاستقلاليين.

ولا رَيْبَ في جريانِ أصالة البراءة في هذا القسم الثاني في الزائد على الأقل؛ لأنه شكّ في التكليف به، ومن هذا الباب ما لو شكّ في عدد أيام الصيام الفائتة منه أو عدد الصَّلاة الفائتة منه.

أمّا القسم الأول، فالحقُّ أنَّ العلم الإجمالي فيه ينحَلُّ إلى علمٍ تفصيليٍ بالمكلّف به، وشَكٌ بدويٌ في التكليف بالأكثر، وهو يتصوّر على صورتين:

أحدهما: أنْ يكونَ الشكُّ في أجزاء المركّب أو شروطه أو قيوده، مثل أن يعلم بأنّ المطلوب منه هو الصلاة، ولكنّهُ يشكُّ في جزئية الاستعاذة لها، أو شرطيّة الطهارة لها، أو بقيد كونها في المسجد.

ثانيهما: أنْ يكونَ الشّكُّ في تعيين الواجب، أو التخيير بينه وبين غيره، مثل ما لو علم إجمالاً أمّا بوجوب تقليد الأعلم عليه، أو أنه مخيّر بين تقليده وبين تقليد غير الأعلم، ومثلُ ما لو علم بوجوب الظهر عليه، أو أنه مخيّر بينها وبين الجمعة، ونحو ذلك، فإنّه في الصُّورَةِ الأولى ينحلُّ العلم الإجمالي إلى علم تفصيليّ بوجوبِ الأقل، وشكٍ بدوي في الزائد عليه، فيجبُ إتيان الأقل للعلم التفصيلي به، ويجري أصالة البراءة في الكلفة الزائدة عليه، حتّى لو كان الشكّ شكاً في تقييد المطلق، كما لو شكَّ في أنه مكلّفٌ بالرقبة مطلقاً، أو خصوص المؤمنة، فينفي الكلفة الزائدة بالإيمان في الرّقبة بالبراءة، فينحلُّ الخطاب المعلوم بالإجمال إلى خطابٍ معلوم بالتفصيل بالأقل، وخطابٍ مشكوك بالأكثر، ولو سلَّمنا عدم الانحلال الخطابي، فيكفينا الانحلالُ العقابي، لاستقلالِ العقل بقبح مؤاخذة المولى عبده بأكثر لم يبيّن له إلا الأقل منه؛ لأنها مؤاخَذَةُ بلا برهان، وعقاب على شيء بلا برهان، والوجدان شاهد على أنَّ سيرةَ العقلاء على ذلك.

وفي الصُّورَةِ الثانية، قد ذَهَبَ الكثير إلى أنّ العلم الإجمالي ينحلُّ إلى علم تفصيليّ بوجوبِ المعيّن وهو تقليدُ الأعلم وصلاةُ الظهر في المثالين المذكورين، وشكٌّ بدويٌ في صحّة الآخر، والأصلُ عَدَمُ براءة الذمّة به، فتكونُ قاعدة الاشتغال تقتضي إتيان محتمل التعيين، وعدم الاجتزاء بالآخر.

ولا يخفى ما فيه؛ لأنا نَشُكُّ في الكُلْفَةِ الزّائدَة في محتمل التعيّين منهما نظير الصُّورة الأولى، فإنَّ أصل البراءة في الشكّ في الوجوب للشيء المعيّن، وإن سلّمنا أنه يُعارضه أصَلُ البراءة في الوجوب المخيّر، فيتساقطان، ويبقى العلم الإجماليّ بالتكليف المردّد بينَهُما على حاله، إلاّ أنَّ الكُلْفَة الزّائدة بتعيين محتمل التعيين لما كانت مشكوكة، جَرَى فيها أصالَة قبح العقاب بلا بيان بلا معارض.

وكيف كان، فقد أورد على انحلال العلم الإجمالي إلى علم تفصيلي بوجوبِ الأقلّ، وشَكٌّ بدويٌ في وجوبِ الأكثر بوجوبِ البراءة منه بإيرادات عديدة:

الإيراد الأول: منعُ العلم التفصيليّ بالأقل، ومنع الانحلال في رَفْعِ تنجُّز الخطاب بالأكثر؛ لأنَّ العلم التّفصيلي بفعليّة التكليف بالأقلّ إنّما يتحقّق لو كان التكليف بالأقلّ ثابِتٌ على سائر التقادير، سواء كان متعلقاً بالأقلّ أو الأكثر، وإلاّ لم يَكُنْ التكليفُ بالأقل معلوماً بالتفصيل؛ لأنه لو كان التكليفُ على تقدير تعلّقه بالأكثر مشكوكاً يرفع بأصل البراءة، ارتفع العلم التفصيلي بوجوب الأقل، ضرورةَ ارتفاع الشيء بارتفاع علّته؛ لأنّ علّة وجوبِ الأقلّ على أحد التقادير هو وجوبُ الأكثر، فيلزم من العلم التفصيلي بوجوب الأقلّ ارتفاع نفس هذا العلم التفصيلي بوجوبِ الأقل، وهُو باطلٌ؛ لأنّه يكونُ من قبيل ما يلزم من وجوده عدمه.

وبتعبير آخر: يلزم أن يكون الانحلال الذي يوجب كون التكليف بالأكثر مشكوكاً بدوياً يَرْفَعُ نفسه أيضاً، إذ به يرتفع العلم التفصيلي بالأقل، فيرتفع الانحلالُ، وما يلزم من وجوده عدمه باطل.

وإنْ شئتَ قلت: إنّ الإتيان بالأقلّ على تقدير وجوب الأكثر في الواقع ليس بواجب، لا أصالةً ولا تبعاً، إذ الأقلّ المطلوب تبعاً هو الذي انضمّ إليه باقي أجزاء الأكثر، إذ المفروض إناطة صِحّة الأقل بانضمام الأكثر وارتباطه به عليه، فكيف يحصل العلم ببراءة الذمة من التكليف اليقيني، المفروض بمجرد الإتيان بالأقلّ الذي لم يعلم أنّه الواجب المعلوم بالإجمال.

وأجاب عنه أستاذي الشيخ كاظم الشيرازي أعلى الله مقامه: بأنّ ذلك إنما يلزم لو كان أثرُ الانحلال رَفْعَ التكليف بالأكثر مطلقاً، أمّا لو كان أثرُ الانحلال رَفْعَ التكليف في الأكثر بالنسبّة للجهة المشكوكة، فلا يَلْزَمُ ذلك، فإنَّ العقل إنما يَسْتَقِلُّ برفع العقاب عن الأكثر لو استند تركُهُ إلى تَركِ الجُزءِ المشكوك؛ لأنّه هو الذي يُوجِبُ أنْ يكونَ عقابه بلا بيانٍ، وأمّا العقاب على ترك الأكثر المستند إلى ترك الجزء المعلوم، أو إلى ترك جميع الأجزاء للأقلّ والأكثر، فهو عقاب مع البيان.

ثمَّ أورد على نفسه، بتوضيحٍ منّا وتنقيح، بأنّه: لو ارتفعت فعلية الخطاب بالأكثر من بعض الجهات، يرتفع التكليفُ به، إذ لا يحتمل التجزّء في مطلوبية الأكثر، فلو ارتفع الخطاب عن الأكثر، بمعنى أنّه لم يتنجَّز الخطاب بالنسبة لجزئه المشكوك فيه، لم يعقل أنْ يبقى الخطاب بباقي أجزائه، لوحدة المطلوب وارتباط أجزائه، لما عرفت من أنَّ فَرْضَ الكلام في الأقل والأكثر الارتباطيين، وإلا لكان من الأقل والأكثر الاستقلاليين.

وأجابَ  رحمه الله  بتوضيحٍ وتنقيحٍ منّا، وله المنّةُ والفَضْلُ عَلَيْنا عن الإيراد المذكور، بأنَّ: البراءَةَ ورفع الفعلية ليس فيها تصرّف في الواقع، ولا في مدلول الدليل الواقعيّ، حتّى يدّعي الخصم أنه لا يحتمل التفكيك في الأجزاء للأكثر، وإنّما البراءة تصرّف في استحقاق العقاب، وهو قابلٌ للتفكيك، وفي المقام لما كان الترك للأكثر بترك جميع الأجزاء يعلمُ باستحقاق العقاب عليه، لم يجوِّزه العقل؛ لأنه عقابٌ مع العلم والبيان، وهكذا ترك الأكثر بترك خصوص الأجزاء المعلومة، يعلم باستحقاق العقاب عليه، لم يجوّزه العقل لأنه عِقابٌ مع العلم والبيان.

نعم، تَرْكُ الأكثر بترك الأجزاء المشكوكة لم يعلم باستحقاق العقاب عليه، للشكّ في وجوبها، فلذا حَكَمَ العَقْلُ بجوازه؛ لأنّ العقاب عليه عقاب بلا بيان.

والحاصل: أنّ الكلام هنا في مقامين:

أحدهما: في وجوب الأقل.

والثاني: في عدم وجوبِ الزائد عليه بوجوب الأكثر منه.

أمّا الأول: فلا إشكالَ فيه؛ لأنه بتركِهِ يستحقُّ العقاب لا محالة، إذ لو كان الواجبُ هو الأقلُّ فقد تَرَكَه، ولو كان الواجبُ هو الأكثر فقد تَرَكَهُ بتركه للأقل.

وأمّا الثاني: فلأنّ أصلَ البراءة جاري فيه، إذ لا يعلم أنّ بتركه يترك الواجب، إذ لعلّ الواجب هو الأقلّ وقد أتى به، فأصلُ البراءة بالنسبة للعقاب جاري في المقام.

الإيراد الثاني: المنع من تأثير هذا الانحلال؛ لأنّ العلم التفصيلي بالتكليف في بعض أطراف العلم الإجمالي إنما يوجب تَنَجُّزُ التكليف بهِ، والشكُّ البدوي في الآخر لو كانَ قبل العلم الإجمالي، أو مقارناً له، ولذا لو علم إجمالاً بنجاسة أحد الإناءين، ثُمَّ علمنا بعد ذلك بوقوع قَطْرَةِ بولٍ في أحدهما المعيّن تفصيلاً، فإنّ هذا العلم التفصيلي لا ينجّز التكليفُ المعلوم بالإجمال في هذا الفرد المعين، وإلاّ لم يَكُنْ مَحلٌّ لأمر الإمام  عليهم السلام  بإراقةِ الإناءين والتيمُّم، وكان عليه أن يأمر بتنجيس أحدهما بعينه، والوضوء من الآخر، وما نحنُ فيهِ من قبيل الثاني؛ لأنّ العلم التفصيلي معلول للعلم الإجمالي، فيتأخّر عنه طبعاً، وعليه؛ فلا يكون موجباً لانحلاله.

والجواب: بأنّ العلم التفصيلي الذي لا يُوجبُ الانحلال، هو العلم التفصيليّ الذي لا يمنع من شمولِ أدلّةِ الأصول للأطراف، حيثُ إذ ذاك تبقى الأصول متعارضة فيها.

وأمّا العلمُ التفصيلي المانع من دخول أحد الأطراف تحتَ أدلة الأصول، فيوجب الانحلال، حيثُ يعلم بالعلم التفصيليّ وجود التكليف به، ويجري الأصل في الآخر بلا معارض.

وفيما نحن فيه، كان الأمر كذلك؛ لأنّ العلم التفصيلي بالأقل كان ملازماً للعلم الإجمالي، وإنما هو متأخرٌ عنه طبعاً لا خارجاً، فأوجَبَ هذا العلم التفصيلي عدم كون الأقلّ مشكوكاً في زمانٍ حتّى يكون داخلاً تحت دليل الأصل، فلا يجري فيه الأصل حتّى يعارض الأصل في الآخر.

وعليه: فيجري الأصلُ في الآخر بلا معارض، نعم، لو كان متأخراً عنه زماناً، كانَ الأصلُ يجري في الأطراف ويتعارض، فيتساقط، ويرجع للاحتياط.

الإيراد الثالث: وهو يرجعُ إلى أنّ المتعلّق في المقام بسيط غير مركَّب من أقلّ وأكثر؛ وهو الفعل الذي يكون لطفاً في الواجب العقلي، لما عليه المشهور بين العدلية([199]) من أنَّ الواجبات الشرعية ألطاف في الواجبات العقلية، فيكون الواجب هو الفعل المتّصل بعنوان اللطفية([200]).

وإنْ شئتَ قلتَ: إنّ الواجب الشرعي في الواقع هو الفعل المتّصفُ بالمصلحة الملزمة عقلاً، لما عليه العدلية من تبعيّة الأحكام للمصالح والمفاسد، فيكون الشكّ في المقام شكّاً فيما يتحقّق به الواجب ويُحصّله، كما لو علمنا بأنَّ المطلوب إزالة النجاسة، وشَكَكْنا في أنّ الإزالة تحصل وتتحقق بغَسْلَةٍ واحدة أو أكثر، ونحو ذلك ممّا كان الشكُّ فيما يتحصَّل به المفهوم المبين ويتحقَّق به، فإنّه يجب الاحتياط، للعلم باشتغال الذمة بالمفهوم المبين المعلوم بالتفصيل، والشكُّ فيما يُحَصِّلُهُ ويحقِّقه الاشتغال اليقيني، يقتضي البراءة اليقينية.

وإنْ شئتَ قُلتَ: إنّ الواجبَ يكونُ هو اللّطف؛ لأنّه يكونُ هو المطلوب حقيقةً، لا الأقل، ولا الأكثر، فيجبُ تحصيلُ اليقين بالفراغ منه، وهو لا يحصل إلا بالإتيان بالأكثر.

وجوابه: المنع من اقتضاء قواعد العدلية كون المصلحة عنواناً وموضوعاً للواجب، وإنّما هي جهة باعثة للوجوب، نظير الفائدة والغرض والغاية من العمل، فإنّما تبعث نحو العمل وليست تعنونه، وفي مقام الإطاعة ليس العقل يلزم إلاّ بما جعله الآمر متعلّقاً لحكمه؛ لأنّ العقل يحكم بأنَّ الغرض للمولى، والمصلحة قائمة بما جعله المولى متعلّقاً للتكليف، إذ لو كانَ غيره لبيَّنه، وإلا لزم تفويتُهُ على العبد، وحيثُ ثَبَتَ إنّ متعلق التكليف هو الأقل لا غيره، كان الأقلُّ هو المحصَّل للمصلحة والغرض.

وإن شئت قلتَ: إنَّ التكليف يتعلَّقُ بمصداق ما فيه المصلحة، لا بعنوان ما فيه المصلحة، فإنّ هذا العنوان انتزعه العقلُ بعد كَمَالِ التكليف، نظير عنوان المراد والمطلوب للأمر، والصَّحيح، ونحوها من العناوين، فإنَّها لو سُلِّم أنَّها عناوين لمتعلّق التكليف إلا أنه تنتزع له بعد كمال التكليف، نظير عنوان الواجب.

وعليه: فيكونُ التّرديد في متعلَّق التكليف نفسه، وليس التّرديد في مصاديقه ومحقّقاته ومحصّلاته، سلّمنا؛ لكنّ الشكَّ في المحصّل للعنوان إذا كان مما يخفى على الناس معرفته بأجزائه تماماً وَجَبَ على المولى بيانه، فإذا أقامَ الدّليل على مجموعِ أمور تحصّله جرى أصلُ البراءة عَمَّا عداها، كما ذَكَرُوهُ في قَصْدِ الوَجه.

على أنّ البناء على كونِ مُتَعَلَّق التكليف عنوان المصلحة أو ما فيه المصلحة خروجُ عن مَحَلّ النزاع، وهو دَوَرَان متعلَّق التكليف بين الأقلّ والأكثر، وإذا فُرضَ كونُ المتعلَّق هو العنوان المذكور، لازمه أنْ لا يكون المتعلّق دائرٌ بين الأقلّ والأكثر، وإنّما هو العنوان الواحد، ولذا ترى الأشعريّ داخلاً في النزاع مع كونه منكراً للمصلحة.

سَلَّمنا؛ لكنّ الجواب عنه يكونُ هو الجواب عن الإيراد الرابع الذي سيجيء إنْ شاء الله فيما يخصّ وضع العبادات للصحيح أو الأعم، هذا كلُّهُ بناءً على المشهور من مذهب العدلية من تبعيّةِ الأحكام للمصالح والمفاسد القائمة في متعلّقاتها، وأمّا بناءً على تبعيّة الأحكام للمصالح والمفاسد القائمة بذات الأحكام، كما هو الحال في الأحكام الوضعية، كالملكية، والزّوجية، والرّقّية ونحوها، فالإشكالُ غيرُ واردٍ؛ لأنَّ الحُكْمَ موجود مع الأقل.

الإيراد الرابع: ومرجعه أيضاً إلى أنَّ متعلَّق التكليف أمرٌ بسيط، والشكُّ يكونُ في مُحصَّله، وذلك لما تقرّر في مسألةِ الصَّحيح والأعمّ من أنَّ الجامع بين العبادات الصحيحة لا يكونُ إلا أمراً بسيطاً، حيثُ أنّ كُلَّ ما يفرض جامعاً مركّباً خارجياً يمكن أنْ تصحّ العبادة بدونِهِ، بل يكونُ فاسداً بالنسبة إلى طائفة، وصحيحاً بالنسبة إلى أخرى.

وعليه: فالمأموُر به هو ذلك الجامعُ البسيط المنطبق على المصاديق الصحيحة، الذي يكشف عن وُجودِهِ تحقُّقِ الأمر الشرعي.

وعليه: فيكونُ الشّكّ في قلّةِ أجزاء الواجب وأكثريّتها شكٌّ في محصَّل ذلك الأمر البسيط، والقاعدة تقتضي الإتيان بالأكثر، لإحراز امتثال الواجب به، دون الأقلّ لعدم إحراز الامتثال به، فالاشتغالُ اليقينيُّ بنفس الواجب وذاته قد تحقّق، وهو يستدعي الفراغ اليقيني منه، وهو لا يكونُ إلا بإتيان الأكثر.

نعم، لو قُلنا بأنَّ العبادات موضوعةٌ للمركَّب الصَّحيح، وشكّ في جزئية شيء لها، جرى أصلُ البراءة؛ لأنَّ التكليف حينئذٍ يكونُ متعلّقاً بأمرٍ مُجْمَلٍ مردَّد بين الأقلّ والأكثر، لا بشيءٍ مُعيّن مبين، ولذا ذهبوا إلى أنَّ المولى إذا أمره بغسلِ ظاهرِ البَدَن، وتردَّد في باطن الأذن بين كونِهِ من ظاهرِ البَدَن أو من باطِنِهِ، رَجَعَ إلى أصل البراءة عن باطن الأذن، وكما لو بَاعَهُ الدَّار، وتردَّد الماء والكَهَرَباء من الدّار أم لا، رَجَعَ إلى أصَالَةِ عدم الانتقال.

وجوابُهُ: أنّا لو سَلَّمنا أنَّ الواجب أمرٌ بسيطٌ في العبادات، فلا نُسلِّمُ أنَّ مقتضى القاعدة هو الاحتياط، فإنَّ المحصَّل للمأمورِ به البسيط إذا لم تَكُنْ بيّنة واضحة أجزاؤه، وكان مما يخفى على عامّة الناس، كان على المولى بيانه، لحكم العقل لقبح إهمال البيان مع الحاجة إليه، لا سيّما إذا كانَ الأمرُ البسيط غير معلوم، أو منتزَعٌ من الأمر بأشياء، كما في أوامر العبادات، فإنّه على القول بوضعها لأمر بسيط، فإنَّ ذلك البسيط لما لم يعرف بنفسه، وإنّما يستكشف وجودِهِ مَنْ تَعَلُّق الأمرُ، فيكونُ تابعاً لتحقّق الأمر، فإذا دَلَّ الدليلُ على عدم تعلّق الأمرُ بالأكثر، كانَ البسيط المستكشف هو المنتزع بطريقِ الأقلَّ بطريق الإن.

وإنْ شئتَ قُلْتَ: إنَّ العُقَلاء في مثلِ هذا المنتزع البسيط إذا شكّوا في اعتبار تحقَّق محصّلة بأكثر مما قام الدليل عليه لا يعتنون به، مضافاً لجريان أصل البراءة العقابي؛ لأنَّ العقاب قطعاً يتحقَّقُ بتَرْكِ الأقلّ، ويشك في تحققه بالنسبة إلى الزائد عليه، فالأصلُ عَدَمُ العِقاب عليه لعدم البيان فيه.

وإنْ شئتَ قلتَ: إنّا نَشُكُّ في حُرْمَة المخالفة للواجب بترك الجزء المشكوك، فترفع بالأصل، بخلاف حُرْمَة المخالفة له بترك الأقلّ، وما عن بعض أعاظم الفن من أنَّ الأمرَ البسيط إذا كانَ متدرّج الحصول، كالنّور الحاصل من ضمّ عِدَّة شُموعٍ، وكالطَّهارة، حَيْثُ دَلَّت الأخبارُ على أنَّ كُلَّ جُزْءٍ يطهر بوصولِ الماء إليه، كما في الصَّحيح: (ما جَرَىَ عليه الماء فَقَدْ طَهُر)([201])، فإنَّ أصلَ البراءة يجري عند الشكَّ في المحقق، والمحصَّل له، حيثُ أنَّ مرجع الشكِّ في الجزءِ إلى الشّكّ في سِعة ذلكَ الأمر البسيط وضيقه، وإلى الأقلّ منه أو الأكثر.

وعليه: فلعلّ العبادات كلُّها من هذا القبيل، فليس عندنا علمٌ باشتغال الذمة بأمرٍ بسيطٍ يحصل دفعةً واحدةً عند تحقُّق الجزء الأخير من علّته، فهو فاسدٌ؛ فإنَّ البسيط من هذا القبيل يكونُ مرَّكباً من عدّة أجزاءٍ منه، كالماء فهو ليس بسيط، وإنّما البسيط ما كان من النّوع الثاني، وهو ما كان يجعل عند الجزء الأخير على أنّه يرجع الأمرُ إلى الشّكّ بين المتباينين للعلم الإجماليّ بالواجب المردَّد بينهما([202]).

الإيراد الخامس: ومرجعه إلى أنَّ الاشتغال بالأقلّ لا يرتفع إلا بالإتيان بالأكثر، وذلك لأنّ الأمر إنّما يكونُ فعلياً، إذا كان مورده محصّلاً للغرض، وأما إذا لم يكن محصّلاً مورده للغرض، فلا يكون إلا شأنياً، فإذا شُكَّ في حصول الغرض من الأمر بإتيانِ الأقلّ، فلا يعلم كونُ الأمرِ فعلياً بالنسبة إليه، ومعه لا يعلم بحصول الامتثال بالنسبة إلى الأمر الفعليّ المنجّز المعلوم بالإجمال، كما قيل في قَصْدِ الوجه للعبادة.

والجوابُ عنه هو الجوابُ عن الرابع، فإنَّ فعلية الأمر بالنسبة إلى العمل المحصِّلِ للغرض يكفي في العلم بمطلوبيّة الأقلّ؛ لأنه أمّا محصّل له أو دخيل فيه، وما زاد عليه يَقْبُحُ من المولى عِقابُهُ على تَرْكِهِ، لِعَدَمِ العِلْمِ بتعلُّقِ غرضه به.

الإيراد السادس: ومرجعه أيضاً إلى أنّ الاشتغال بالأقلّ لا يرتفع إلا بالإتيان بالأكثر، وذلك أنَّ الأقلّ لا يعلم تعلّق الأمر النفسي به، والأمر الغيري غير قابل للتقرُّب به، مع أنَّ تعلّقه بالأقلّ غير معلوم؛ لأنّ الأمرَ الغيريّ يتبع تنجّز الأمر بذيه، فيكونُ الأقلُّ غيرُ معلومٍ كونُهُ متعلّقاً لأمرٍ قابلٍ للتقرُّب به، فيجبُ الإتيانُ بالأكثر ولو مقدّمةً لتحصيل الامتثال بالأقلّ.

وجوابه: إنَّ الإتيان بالفعل فراراً عن عقابِ المولى المعلوم ترتُّبِهِ على ترك ذلك الفعل يكونُ وَجْهَاً من وجوهِ التقرُّبِ والعبادة؛ على أنّ الإتيان لاحتمال الأمرِ النفسي يكفي في التقرب.

الإيرادُ السّابعُ: ومرجعه أيضاً إلى أنَّ الاشتغالَ بالأقلّ لا يرتفع إلا بالإتيان بالأكثر، وذلك لأنَّ التكليف بالأقلّ المعلوم تنجُّزُه مما يجبُ تحصيلُ البراءة عنه، ولا تَحْصَلُ البَرَاءَةُ عنه إلاّ بعد إتيانِهِ على وجه يحصل الامتثال بذلك الإتيان على كل تقدير، ولما دَارَ طَلَبُ الأقلّ بينَ أنْ يكونُ نفسياً أو غيرياً، وَجَبَ الإتيانُ به على وجهٍ يَحْصَلُ الامتثالُ به بالنسبة إلى الأمرِ الغيري أيضاً لو كان موجوداً، ولا يكون ذلك إلا بإتيانه في ضمن الأكثر.

وجوابه: بأنَّ المقدار المعلوم من الطلب المتعلّق بالأقلّ هو الطَلَبُ الجامعُ بين النفسي والغيري، وهو يمتثلُ بمجرّد فعلِ الأقلّ خوفاً من العقاب المترتّب على ترك الأقلّ؛ فوجوبُ الأكثر وإنْ كانَ محتمَلُ وِجداناً، إلا أنَّهُ نَقْطَعُ بعدم العقاب على تركِهِ بتَرْكِ الجزء المشكوك، لقبحِ العِقاب بلا بيان.

الإيراد الثامن: إنّ الانحلالَ موقوفٌ على وجوبِ المقدّمات الداخلية بالوجوبِ المقدّمي الغيري، وهو ممنوع.

وجوابه: لو سلَّمنا عَدَمَ وجوبها، فيكفي في الانحلالِ سببية تَرْكُها للعقاب، فيقال: تركُ الأقلّ سببٌ يقيني للعقاب، ولا يَعْلَمُ سببيةَ ترك الأكثر له.

الإيراد التاسع: إنَّ الشكَّ في الجزء للعبادة شَكٌّ في صِدْقِ لفظ العبادة على المأتيّ به، فلا يَنْفَعُ إجراءُ أصلِ البراءة فيه لعدم إحرازِ تحقُّقِ العبادة بدونه.

وجوابه: إنَّ مَحَلَّ الكلام في الجزء الغير المقوّم للمسمّى، بحيثُ تَصْدُقُ العبادة بدونِهِ، قالَ المرحوم الشيخ عبد الحسين الكاظمي في حاشيته: (إنَّ الظاهر أنَّ مَنْ تَتَبّع كلمات الأصحاب في هذا الباب يشرف على القطع بما ذكرناه)([203])، ويخطر بالبال أنّ ممن صَرَّحَ بذلك المحقق القمي  رحمه الله .

الإيراد العاشر: هو عَدَمُ تأثير الانحلال؛ لأنه به يَحْدُثُ عِلْمٌ إجماليٌّ بين أمرين متباينين، فَيجِبُ الاحتياطُ، ويقرّر ذلك بوجوه:

أحدها: أنّه لو ترك السُّورَةَ المشكوكة مثلاً، ودَخَلَ في الرّكوع، يحدث عنده علم إجمالي، أما بوجوب الإتمام لو كان في الواقع الواجب هو الأقل، لحرمة إبطال العمل، وأمّا بوجوب الإعادة، بإتيان الأكثر لو كان هو الواجب في الواقع.

وثانيها: أنّه قَبْلَ تَرْكِ السّورَةِ يعلم ببطلان صلاته إجمالاً، أمّا بترك السورة في محلها، أو بفعل المنافي بعد ذلك؛ لأنه لو كانَ الواجبُ هو الأكثر، كانَ بُطلانها بترك السّورة، ولا يكونُ المنافي كالحَدَث ونحوه مُبطلاً؛ لأنّها قد بَطَلَتْ على ذلك التقدير بالترك للسورة، وإنْ كان الواجب هو الأقل، فيكونُ فعلُ المنافي هو المبطل، لا تَرْكُ السُّورَةْ، ومُقْتَضَى هذا العلم الإجماليّ تَرْكُ الأمرين، بأنْ يترك تَرْكَ السّورة، وبأنْ لا يأتي بالمنافي، كالحَدَث ونحوه.

وثالثها: أنّه يَعْلَمُ بَعْدَ الدخول في الصَّلاة قبل ترك الجزء المشكوك بحرمة إبطال الصّلاة، ولا يعلم بسقوطِ هذا الأمر، وحُصولِ امتثاله، إلا بإتيانِ كُلِّ ما يحتمل مدخليّته في صِحّتها.

وجوابه: أنّه بَعْدَ الانحلال يكونُ الأقلُّ هو الواجب، وتَرْكُ الأكثر مرخَّص فيه، فلا يبقى بعد ذلك مجالٌ لتأثير العلم الإجماليّ الحادث الذي كان حدوثه ينشأ من عدم مراعاة الانحلال المذكور، مُضافاً إلى أنَّ العلم الإجماليّ المذكور قد قَامَ بما تَنَجَّزَ أَحَدُ طرفيه سابقاً بالعلم التفصيليّ بوجوبِ إتمام الصَّلاة، وبوجوبِ تَرْكِ المنافي، وبسقوطِ الوجوب، على أنَّ العلم الإجماليّ المذكور يَنْحَلُّ إلى شَكٍّ بَدْويٍ، وعلمٍ تفصيلي.

أمّا في الوجه الأول، فلأنه يعلم تفصيلاً بوجوبِ الإتيان بالأقلّ؛ لأنّه على كُلِّ تقديرٍ واجبٌ إتيانه، لثبوتِ العقاب بتَرْكِهِ قطعاً، وشَكٌّ بدويٌ بوجوبِ الإعادة بإتيانِ الأكثر.

وفي الوَجْهِ الثّاني، يَعْلَمُ بأنَّ إتيانَ المنافي بهِ يَحْصَلُ بطلان الصلاة، أما بترك السّورة أو بفعلِ ذلك المنافي، وشكٌّ بدويٌّ في بطلانِها بتركِ السّورة فقط.

وأمّا في الوجه الثالث، فحيثُ أنَّ حُرْمَةَ الإبطال مردَّدة بين الأقلّ والأكثر، فهو يَعْلَمُ تفصيلاً بثبوتِ حُرْمَةِ الإبطال بترك الأقلّ؛ لأنّه يَعْلَمُ بأنّه واجبٌ، أمّا بنفسِهِ أو بغيره، ويشكّ في حُرْمَةِ الإبطالِ بترك الأكثرِ، لعدم إحراز وجوب الجزء المشكوك، فالأصل عدمها.

الإيراد الحادي عشر: أنّه بَعْدَ جريانِ البَرَاءَةْ عن وجوبِ الجُزءِ المشكوك، ورفع العقاب بتركه لا يُثْبِتُ وجوبَ الأقلّ إلاّ على القولِ بالأصل المثبت؛ لأنّ وجوبَ الأقلّ لازمٌ عقليٌ لِعَدِم وجوبِ الجزءِ المشكوك.

وجوابه: إنَّ الأقلّ وجوبه ثابتٌ بالعلم التفصيليّ الوجداني، لا بواسطة البراءَة عن وجوبِ الجزء المشكوك؛ لأنه إمّا واجبٌ بالغير، أو واجب بنفسه.

وإنْ شئتَ قلتَ: إنَّ المكلَّف عالِمٌ بحصولِ العِقابِ بتركِهِ، وذاك يقتضي العلم بإرادَةِ المولى له.

الإيراد الثاني عشر: إنَّ المقامَ من قبيل القسم الثاني من الاستصحاب الكلّي؛ لأنَّ الواجب مردَّدٌ بين الفرد القصير، وهو الأقل، وبين الفرد الطويل، وهو الأكثر، فإذا أتى بالأقلّ يشكُّ في بقاءِ الواجب الذي هو الأكثر، لاحتمال أنَّ الأكثر هو الواجِبُ، فيُسْتَصْحَبُ بقاءُ الواجب ووجوبه، وعند ذا يَحْكُمُ العقلُ بوجوبِ إتيان الأكثر، تحصيلاً للفراغ منه، وليس هذا الاستصحاب من الأصول المثبتة بالنسبة لهذا الأثر؛ لأنه من آثار ثبوت الحكم في الظاهر، فإنَّ وجوبَ الإطاعة والامتثال من آثار الحكم الثابتِ حتَّى في مرحلة الظاهر، ولذا استصحابات الأحكام الشرعية يُرَتَّبُ عليها وجوبُ الإتيان بها، كاستصحاب وجوبِ صَلاةِ الجُمُعَة، أو حرمَةِ شُرْبِ الخمر عندما لم يسكر به الشارب.

وجوابه: أنّه لو سَلَّمنا صِحَّةَ هذا القِسْمِ من الاستصحاب، فلا مَجَالَ له هنا؛ لأنَّ أحدَ الفردين مُحرَز حُكْمُهُ بالوجدان، وهو الأقلّ، فلا يجري فيه الأصل، وَيبْقى الثاني مَجْرَى للأصل، وهو استصحابُ عَدَمِهِ بلا مُعارض، وقد قُرِّرَ في محلّه أنَّ الاستصحاب الكلّي إنّما يجري فيما إذا كانت الأصول متعارضة في أفراده، كما إذا تردَّد الحدث بين الأصغر والأكبر بعد أنْ توضأ، فإنَّ استصحاب عَدَمِ الأكبر مُعَارَضٌ باستصحابِ عَدَمِ الأصغر، أمّا إذا لم تتعارض الأصول، كما إذا كان المكلّف مُحْدِثاً بالأصغر، ثمَّ خَرَجَ منه بَلَلٌ احتمل أنّه أكبر، فإنَّ استصحاب عَدَمِ الأكبر جارٍ؛ لأنه لا يُعارِضُهُ استصحابُ عَدَمِ الأصغر، لليقين بالأصغر، سَلَّمنا؛ لكنَّ استصحابَ الواجب أو الوجوب الكلّي مُعارَضٌ باستصحابِ عَدَمِ وُجوبِ الأكثر، بَلْ رُبّما يُقالُ بأنه حَاكِمٌ عليه؛ لأنَّ الشكَّ في بقاءِ الوجوبِ مُسبَّبٌ عن الشَّكّ في وجوب الأكثر.

الإيرادُ الثالث عشر: وَينْسَبُ للمرحوم النائيني؛ أنَّ العلم التفصيليّ بوجوب الأقلّ غيرُ مُوجِبٍ للانحلال؛ لأنّه عِلْمٌ بوجوبِ الأقلّ المردَّد بين التقييد بالجزء المشكوك، وبين الإطلاق، وعدم التقييد به، فلم يَكُنْ علماً تفصيلياً بوجوب الأقلّ بنحو الإطلاق، ولم يَكُنْ عِلماً بواحِدٍ معيَّن من المحتملات، ولو كان مُوجباً للانحلال، لكانَ العلم الإجماليّ في المتباينين موجباً للانحلال؛ لأنه علم تفصيليٌّ بالجامع بين الوُجوبين، والشكُّ في الخصوصية لكلٍّ منهما([204]).

وجوابه: قد عُلِمَ مما سَبَقَ من أنَّ الانحلال ليس بحقيقيٍ، بَلْ هو بواسطة حكم العقل والشرع، حيثُ أنَّ العقل حَكَمَ بعدم صِحَّةِ العقابِ على ترك الجزء المشكوك، وهكذا الشّارعُ حُكْمَ بذلك، وفي الأقلّ حَكَمَ العَقْلُ بصحّة العقاب على تَرْكِهِ وتَنَجُّز الوجوب الموجود فيه بسبب العلم به، ولذا سمّيناه بالانحلال الحكمي، وأمّا في صورة المتباينين، فلأنَّ الأصلَ في خُصوصيّة أَحَدِهِما معارضة بالأصلِ في خُصوصيّة الآخر، فيَصِحُّ العِقاب على مخالفتهما، لِعَدَمِ المؤمِّنِ من المخالفة عند من قال بتنجُّز التكليف بالعلم الإجمالي بين المتباينين.

البراءة الشرعية عند دورانِ الأمر بيـن الأقلّ والأكثر

ما تقدَّم كانَ في إثباتِ البراءة بحكم العقل عن الكلفة الزائدة، وأمّا بحكم الشرع فكذلك الأخبار المتكاثرة الدالّة على عدم العقاب على ترك الكلفة الزائدة، كحديثِ: (رُفِعَ عن أمّتي ما لا يعلمون)([205])، ونحوه.

ولا يقال: إنَّ وجوب الأقلّ مشكوكٌ كوجوبِ الأكثر، فيتعارض أخبار البراءة الشرعية فيها.

لأنا نقول: إنَّ وجوب الأقلّ معلومٌ تفصيلاً، أمّا لأنه واجب نفسي أو غيري، أو من جهة العلم بأنّ بتركه يَثْبُتُ العقاب، فوجوبُه الجامعُ بين النفسي والغيري يكونُ مَعلوماً وغير محجوبٍ عن العباد، فلا تشمله الأخبار، بخلاف وجوب الأكثر، وهكذا العِقابُ على تركِ الأقلّ معلومٌ، فلا تدلُّ أحاديث البراءة على رفعه، وأمّا العقاب على تَرْكِ الأكثر بتَرْكِ الجزء المشكوكِ فغيرُ معلومٍ، فتدلُّ الأحاديث على رَفْعِهِ.

هذا مُضَافاً إلى إمكانِ دَعْوى شُمولها لِنَفْسِ وجوبِ الجُزءِ المشكوكِ،
بأنَّ يقال: إنّ وجوبَ هذا الجزء من الشرع مشكوكٌ ومُحْجُوبٌ عنّا، فهو
مرفوع.

ودعوى إنَّ الشكَّ في وجوبِ الجُزْءِ مُسبَّبٌ عن الشكَّ في وجوبِ الأكثر،
 فلا مَجَالَ للأصل إلاّ بالنسبة إلى الأكثر، مُضافاً إلى أنَّ الذي يرفعه الشارع
هو الذي يَضَعُهُ، ووجوبُ الجزء لم يَضَعْهُ الشَّارع، وإنّما وُضِعَ وُجوبُ
الأكثر.

مدفوعةٌ؛ بأنَّ سببيّة وجوب الأكثر لوجوبِ الجُزْءِ المشكوك وإنْ كانت مُسلَّمة، إلا أنَّها لا تُنافي كونُ وجوبِ الجزء المشكوك مَجْعُولاً للشارع، غاية الأمر بجعل الأكثر، فللشّارع أنْ يرفع فعليّته وحده، بل له أنْ يرفع وجوب الأكثر بالنسبة إلى هذا الجزء المشكوك فقط، دون أنْ يرفعه بالنسبة لباقي الأجزاء، حيث لا يلزم من ذلك رَفْعُ وُجوبِ الأكثرِ الفعليّ في باقي الأجزاء، إذ ليست الأصولُ حُجّة في لوازِمِها العَقْليّة.

دَوَرَانُ الأمر بيـنَ الأقلّ والأكثر في الشُّبهة الموضوعيّة

ما تَقَدَّمَ كان في دَوَرَانِ الأمر بينَ الأقلّ والأكثر الارتباطيين في الشُّبهة الحكمية، وأمّا إذا كانَ الأمرُ دائراً بين الأقلّ والأكثر الارتباطيين في الشبهة الموضوعية، كما لو أمر بإزالة الحدث، فشكّ في جزئية شيء لها، أو أمر بصوم اليوم، وشكّ في جزئية ذهاب الحمرة لليوم، فقد ذَهَبَ الشيخ الأنصاري إلى أنَّ القاعدة هو الاحتياط؛ لأنّ الشكَّ فيها يرجع إلى الشكّ في المحصّل للتكليف والمحقّق له؛ لأنَّ التكليف معلومٌ مبيّن تفصيلاً، وإنّما الشكّ في تحقّقه وحصوله في الخارج بالأقلّ، والأصلُ يَقْتضي عَدَمُ تحقّقه وعَدَمُ حصولِهِ، والعَقْلُ يحكم بوجوب اليقين بحصوله، إذْ لا قُبْحَ لو عَاقَبَ المولى على تَرْكِهِ بترك الأكثر لو كان الجزء المشكوك جُزْءاً واقعاً([206]).

ولا يَخْفى ما فيه؛ فإنّه إنْ كانَ من الأمر بالمجمل المردَّد بين الأقلّ والأكثر لإجمالِ الفعل المقصود منه، فهو شُبْهَةٌ حُكْميّة، والتّكليف المنجَّز به هو الأقلّ، وإنْ كانَ من الأمر بالماهيّة البسيطة، أو الشكَّ في حُصولها بالأقلّ والأكثر، فقد تَقَدَّمَ منّا في الإيراد الرابع المتعلّق بالصّحيح والأعمّ ما يَظْهَرُ لَكَ فيه أنَّ الأصل هو البراءة من وجوب الأكثر.

نَعَمْ، يُمْكِنُ تصوّر الشبهة الموضوعية في دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر فيما لو علم متعلّق التكليف بأجزائه تفصيلاً، ولكنّه لَمْ يَدْرِ بأنّه بعَمَلِهِ هذا هل يَحْصَلُ التعلّق أم لا، كما في صَومِ اليوم الغائم إذا شُكَّ في آخره، بأنَّ إمساكه فيه من اليوم أم بعده، فَيجِبُ عليه الإمساكُ إلى أنْ يَحْصَلُ اليقينُ بحُصُولِهِ إمساك اليوم.

شرائطُ العَمَل بالاحتياط

يُعْتَبَر في الاحتياط إحرازُ موضوعه، بأنْ يُعْرَفَ إحرازُ الواقع المشكوك فيه به، أو أنه أقْرَبُ الطرق لحصول الواقع به، وعدم اختلال النظام به، وعدم صيرورته لعباً بأمر المولى، فإنّه حَسَنٌ في العبادات والمعاملات، ولو استلزم التكرار، حتّى مع التمكّن من عدمه، بأنْ كان مقدوراً له تحصيل العلم التفصيلي بالواقع، بل حتَّى لو قامَتْ عندَهْ الحجّة المعتبرة على الواقع، لعموم أدلّة رجحان الاحتياط عقلاً لحسنه؛ لأنه أقرب الطُّرق لحصول الواقع، ونقلاً للأخبار المتظافرة على حُسْنِهِ مطلقاً([207]).

وما وَقَعَ من الكلام في صِحَّتِهِ في بَعْضِ الموارد إنّما هو من جهة عدم إحراز موضوعه فيها، كما في العبادات إذا شُكَّ في حُكْمها أو حكم أجزائها، فإنه قد يقال، بل قد قالوا بعَدَمِ تحقُّق الاحتياط فيها؛ لأنّه يُعْتَبَرُ في صحّتها وسقوط التكليف بها من نية وجه فعلها من وجوبها أو استحبابها، وما دامت مشكوكة الحكم لا يقدر على نية الوجه، فلا بُدَّ من الفحص، ومن معرفة حكمها من وجوب أو استحباب ليأتي بنيته، فالاحتياطُ فيها بالتكرار، أو إتيان الجزء المشكوك، لم يَكُنْ موجباً لإحراز الواقع، فلم يتحقَّق موضوعُهُ فيها، وكما في العبادات قبل الاجتهاد أو التقليد في معرفة حكمها، فإنّه قد قيل، بل قد قالوا ببطلان عبادات تارك الطريقين حتى لو قلنا بعدم اعتبار نية الوجه وعلم بمطابقتها للواقع إجمالاً.

ولكن لا يخفى عَدَمُ اعتبار نيّة الوجه في العبادات، ولذا يرى العقل والعقلاء أنَّ الآتي بالعَمَل امتثالاً لحكمه الواقعي مطيعاً لمولاه وإنْ لم يشخص الحكم الواقعي، ولم يعرف أنه الوجوب أو الاستحباب، بل يكفي قصد التقرب
لله تعالى، ولا دليل على اعتبار نية الوجه في الإطاعة، لا عقلاً، ولا شرعاً، سوى ما يحكى عن المتكلّمين من اتفاقهم على اعتباره([208])، وما يُحكى عن السيّد الرضي  رحمه الله  من دعوى إجماع أصحابنا على بطلان صلاة من صلّى صلاة لا يعلم أحكامها([209])، وعن أخيه المرتضى  قدس سره تقرير على ذلك في مسألة الجاهل بالقصر([210])، فهو إجماعٌ منقولٌ لا يُعْتَمَد عليه، لعلَّ مستنده توهم توقف صدق الإطاعة عليه، أو قيام دليل خاصّ عليه، وهما ممنوعان.

أمّا الأول: فلِما عَرَفْتَ من صدق الإطاعة عقلاً وعرفاً على من يأتي بالعمل بقصد الأمر الموجود في الواقع، وإنْ جهل أنه الوجوب أو الاستحباب.

وأمّا الثاني: فلعدم الظّفر بما يَدُلُّ على ذلك، والإطلاق المقامي يقتضي عدمه، فإنَّ مقتضى الإطلاق المقامي هو عدم اعتبار ما يشك في دخله في الغرض من نحو هذه القيود التي يغفل عنها عامة الناس.

وأمَّا بُطْلانُ عبادة تارك الطريقتين، الاجتهاد والتقليد، فلا دليل عليه إذا كان يحتاط لإحراز الواقع فيها بتكرار العبادة، أو إتيان ما يحتمل اعتباره فيها مع عدم احتماله فسادها بإتيانه، كالاستعاذة، إذ مع احتماله، فالاحتياط بتكرار العبادة مرة معه ومرة بدونه، بل العقل يرى أنَّ ذلك من كمال الإطاعة، نعم لو كان من باب اللعب بأمر المولى والاستهزاء به كان باطلاً.

 

المصدر الثالث والعشرون
الاستصحاب

وهو لغةً: طلبُ الصُّحبة([211])، نظير الاستعلاج، والاستخراج، أو صيرورة الشيء صاحباً، نظير الاستحجار، فإنّ معناه صيرورة الشيء حجراً، أو الاستنسار أي: صيرورة الشيء نسراً، فإنّ الأغلب في وضع باب الاستفعال هو طلب المصدر، قال في منظومة الشافعية:

وباب الاستفعال للسؤالِ
 

 

مطّرد في غالبِ الأحوالِ
 

 

نعم، تارةً يكونُ الطَّلَبُ صريحاً، نحو استكتاب زيد، فإنَّ معناه طلب الكتابة منه، وأمّا تقديراً نحو استخراج الوتد من الحائط، فإنّه ليس هناك طلب صريح، وإنّما كانت محاولة لإخراج الوتد من الحائط مُنزَّلة منزلة الطلب لإخراجه.

وقد يُستعملُ بابُ الاستفعال للصيرورة والتحوُّل، أي: تحوّل الفاعل إلى أصل الفعل، وصيرورَة الفاعل متّصفاً بالفعل الذي اشتُقّ هو منه، كقولك استحجار الطين، فإنّ معناه صيرورة الطين حجراً، وتحوله إلى صفة الحجرية، ومنه: (إن البغاث بأرضنا تستنسر)([212]).

وإطلاق الأصوليين الاستصحاب على استصحاب الحالة السابقة،
أو استصحاب اليقين السابق إلى زمن الشكّ اللاحق، يمكن أنْ يكون بالمعنى الأول الذي هو الغالب في هذه الصيغة، باعتبار أنّ المستصحِب (بالكسر)
يطلب صحبة الحالة السابقة إلى زمان الشكّ، أو يطلب صحبة اليقين السابق إلى زمان الشكّ.

ويمكن أنْ يكون بالمعنى الثاني، باعتبار أنّ المستصحب صاحباً للحالة السابقة، أو اليقين السابق إلى زمن الشكّ، ومنه قولهم: استصحاب الشخص أجزاء ما لا يؤكل لحمه في الصلاة، حيثُ أنّهم يريدون منه صيرورة الشخص صاحباً للأجزاء المذكورة.

وعليه: لا وَجْهَ لما ذَكَرَهُ غيرُ واحدٍ من الأصوليين، كالشيخ الأنصاري([213]) في رسائله وغيره([214]) من جعله بحسب اللغة أخذ الشيء مصاحباً.

فإنّه ليس الأخذُ معنىً للاستصحاب في ما اطّلعنا عليه في كتب اللغة، ولا يساعد على ذلك قواعد الصَّرف، فإنّ بابَ الاستفعال الغالب فيه هو المعنى الأول، ويجيءُ للمعنى الثاني، وقد يَجيءُ بمعنى الفعل المجرّد كاستقرّ، بمعنى قَرَّ.

وبالمعنى الثالث يكونُ معنى الاستصحاب للحالة السابقة هو صُحْبتها.

ولم يُذْكَرُ في معانيه الأخذُ، مع أنّه لا وَجْه أيضاً لأخذِ مادّةِ الاستصحاب من المفاعلة، أعني: المصاحبة، وإنّما هو مأخوذٌ من صحب.

الاستصحاب في الاصطلاح

والاستصحابُ في اصطلاح الأصوليين إبقاءُ العبد ما كانَ وُجوداً وعدماً على ما كان، لأجل أنّه قد كانَ سابقاً، لحُكْمِ الشّرع بذلك، أو العقل، والمراد بالإبقاء هو ترتيبُ العبد آثار البقاء في مقام العمل، وإنّما زدنا (وجوداً وعدماً) لأنّ الأصوليين يجرون الاستصحاب في العدميات، فلو اقتصرنا على (ما كان) لتوهُّم اختصاصه بالوجوديات، وشأنُ التّعاريفِ أنْ تكونَ موضّحة، وقيّدناه بـ(سابقاً) لئلا يتوهَّمُ دخول الاستصحاب القهقري في التعريف، مع أنه ليس من الاستصحاب، فإنّ الكون إذا لم يقيّد بالسابق يكونُ شاملاً للاحق، وقيّدناه بـ(لأجل أنه قد كان) ليخرج إبقاء على ما كان لا لأجل ذلك، بل لأجل قيام الدليل على بقاء الحُكم في الحالة الثانية، كالدّليل الدالّ على بقاءِ وجوب الطهارة بعد قطع بعض الأعضاء، أو لأجلِ بقاء العلّة، أو إلى التلازم القطعي بين الحالتين، أو لأجل عدم القول بالفصل بينهما، فمثلاً بقاءُ الحكم بعد خروج الوقت لأجل أدلّة القضاء ليس من الاستصحاب في شيء، كما أنا زدنا (ما كان) حذراً من أن يشمل التعريف إبقاء ما كان على غير ما كان، كإبقاء الطلب على غير الوجوب، ويخرج بهذه الزيادة ما إذا أبقي مع تغير الموضوع، فإنه لم يكن من الاستصحاب.

استصحاب الحال والإجماع ونحوها

لا يخفى أنّه وَقَعَ التعبيرُ باستصحاب الحال، كما في محكيّ العدّة([215])،
أو باستصحاب حال الإجماع، كما في محكي المعارج([216])، وغيره باستصحاب حال العقل([217]).

والمراد بالحال هو الحالة السابقة، والمراد باستصحاب حال الإجماع والعقل هو استصحاب الحالة السابقة التي قام عليها الإجماع أو العقل.

وقد يُطْلَقُ الاستصحابُ ويُرادُ به استصحابُ عموم النصّ وإطلاقه، وهو الأخذ بعموم النصّ في مورد الشكّ في تخصيصه، أو بإطلاقه في مورد الشكّ في تقييده، وربما جعله البعضُ قسماً برأسه، وقال بحجيته وعدم حجية غيره، حتى نسب إليه القول بالتفصيل في حجية الاستصحاب، كالغزالي([218]).

والتحقيق: إن الأخذ بعموم النص وإطلاقه قاعدة عقلائية، استقر بناء العقلاء في محاوراتهم عليها، وإلا فلا يقين بالعموم والإطلاق إلا نادراً، لاحتمال سبق التخصيص أو التقييد صدوراً على صدور العام، أو المطلق في أغلب الموارد، كما ذكره المرحوم الشيخ عبد الحسين في حاشيته على الكفاية.([219])

الأدلّة على اعتبار الاستصحاب شرعاً

والدليلُ على اعتبار الاستصحاب أمور:

أحدها: بناء العقلاء، والسيرة عليه في أمورهم العادية، مع إمضاء الشارع له، أمّا بناء العقلاء عليه، فلأنه هو أمرٌ غريزي فطريٌّ، بدليل أنَّ الناس، بل الحيوانات ترجع لأماكنها استصحاباً لوجودها بفطرتها، ولو قُدِّرَ عَدَمُ عملهم به فذلك من باب الاحتياط، أو من جهة خوفِ الضَّرر أو التفريط بالأموال، وعن القوانين أنه لولا ذلك لاختلّ نظامُ العالم وأساسُ عيش بني آدم([220])، وعن الفصول أنّه أمرٌ مركوزٌ في النفوس، حتَّى الحيوانات، فإنّها تطلب المواضع التي عهدت فيها الماء والكلأ، بل حتّى في الطيور، فإنّها ترجع للأوكار بعد مفارقتها([221]).

وأمّا إمضاؤه شرعاً، فيكفي فيه عدمُ صدور رادع من الشارع.

إنْ قلتَ: إنّا نمنعُ من عدم صدور الرّدعِ عن العمل به، كيف؛ وما دَلَّ على عدم جواز العمل بغير العلم، بل وما دَلَّ على البراءة والاشتغال كافيان في الرَّدْعِ عن العمل على طبق الحالة السابقة.

قلنا: إنَّ هذه الأمور لا تكفي في الردع؛ لأنّ العاملين بالاستصحاب لما كانوا يرون بناء العقلاء والسيرة من الناس على العمل به، يجدون أنفسهم قد عملوا بما هو الطريق الواقع، فلا مجال للبراءة والاشتغال، ولا غيرهما من الأصول التي ليست لها كاشفية للواقع، بل يرون أنفسهم أنهم عملوا بالعلم، لا بغيره من ظن أو وهم؛ لأنّ الدليل عندهم لدليليته يكون علماً بحسب نظرهم، فلو كان الاستصحابُ ليس بمعتَبَرٍ، لردعِ الشرع عنه بخصوصه، كما صَنَعَ في القياس، بل يكفي ما ذكرناه في انصراف العمومات إلى غير الأدلّة العقلائية، ومن هذا يظهر لك عدم كفاية هذه العمومات ونحوها في الردع، ولابدّ في الردع عن الأدلة المتعارفة من النصّ بالرّدع على الدليل بخصوصية، كما في القياس.

ثانيها: الإجماع على حجيته شرعاً، كما عن المبادئ([222])، والنهاية([223]).

وفي منع تحصيله، وعدم حجية المنقول منه، مكابرة؛ فإنّه يمكن تحصيله بملاحظة نقل الإجماع من هؤلاء الأجلّة، وملاحَظَةُ بعض القرائن الخارجية، كتتبع أبواب الفقه، وتمسُّك الأصحاب فيها بالاستصحاب؛ ولا أقلّ من الشهرة العظيمة على حُجيّته التي كادت أنْ تبلغ الإجماع([224])، وما حكي عن صاحب الحدائق  رحمه الله  من إسناد القول بعدم حجيته إلى الأكثر([225])، لا يلتفت إليه بعد أن تظافر النقل للإجماع عليه.

وفي النهاية أسند عدم الحجية إلى أكثر الحنفية([226]).

ثالثها: الأخبار، منها ما في صحيحة زرارة المضمرة: (ولا ينقض اليقين أبدا بالشك، ولكن ينقضه بيقين آخر)([227])، فإنه ظاهر في ضرب قاعدة كلية لصغرى جزئية، وهي اليقين السابق بالوضوء، والشك اللاحق فيه من جهة الخفقة والخفقتين، وهذا يقتضي كون (ال) في (اليقين) للجنس، مع أن حمل اللام على العهد باليقين بخصوص الوضوء، موجب للتكرار، إن أريد من اليقين في الكبرى اليقين بشخص الوضوء، ويلزم أن تجعل جملة: (وإلا فإنه على يقين من وضوئه)، بمعنى الإنشاء، حيث يصير المعنى: وإن لم يستيقن أنه قد نام فيجب عليه الأخذ باليقين بالوضوء، وفيه من التكلف وخلاف الظاهر ما لا يخفى.

وإن أريد من اليقين في الكبرى اليقين بنوع الوضوء، لزم التكرار؛ لأنه هذا المقدار من التعميم مستفاد من قوله: (فإنه على يقين من وضوئه)، ولزم الاستخدام؛ لأنه في الصغرى يريد اليقين بشخص الوضوء، لاحتمال النوم، وفي الكبرى يريد عدم نقض نوع اليقين بالوضوء، وإن لم يكن لاحتمال النوم، فاختلف العهد والمعهود، بخلاف ما إذا جعلت اللام للجنس، فإنه لا عهد.

هذا، مع أن مجرد السبق لا يوجب الحمل على العهد، ما لم يصل إلى حد القرينة الصّارفة عرفاً، وإلا فغايته الاحتمال والصلوح للحمل على العهد، وهو بمجرده لا يوجب صرف اللام عن ظاهرها وحقيقتها، وهو الجنس.

على أن الظاهر هو بيان قاعدة كلية مرتكزة في أذهان العقلاء يرجعون لها في أعمالهم، لكون الإمام  عليهم السلام  في مقام الاستدلال على استصحاب الوضوء، إذ لو لم تكن كذلك لا معنى لاستدلال الإمام  عليهم السلام  بها على هذا الحكم الظاهري، ومقتضى استدلال الإمام بها هو إمضاؤها بنحو ما صدرت منه  عليهم السلام ، فيتبع في عمومها وخصوصها بيانه لها.

ولا يَضُرُّ إضمارُ الرّواية، لابتناءِ الرُّواة في كتبهم على تقطيع الرواية، وإلا فهو في الأصل ليس بمضمر، وبعض أصحابنا لم يضمرها، ورواها عن زرارة، عن الباقر  عليهم السلام ([228])، مضافاً إلى أن زرارة لجلالة شأنه وعظمة مكانه يقطع أو يطمأن بأنه لا يضمر لغير الإمام  عليهم السلام ، ولا يروي عن غير الإمام.

كما إن الظاهر، أن السؤال فيها عن شبهة حكمية، وهي كون الخفقة والخفقتان موجبتان لنقض الوضوء ابتداء، باعتبار أنهما كالنوم، وإن لم يكونا منه، نظير الشك في المذي؛ لأنه كالجنابة، وإلا فبعيد من مثل زرارة، يسأل عن أنهما من النوم أم لا بنحو الشبهة الموضوعية، والإمام  عليهم السلام  بصدد بيان أنه لا توجد فيهما ملاك النوم والسكر، وإنما هما مثل الغفلة في الحكم.

ولو سلّمنا أنّ السؤالَ عن الشكّ في أنَّهما من النوم أم لا، لكنَّ الشبهة أيضاً حكمية؛ لأنه شكّ من زرارة في مفهوم النوم أنه شاملٌ لهما أم لا، نظير الشكّ في مفهومِ الغناء، فيكونُ السؤالُ عن شُبْهَةٍ حكمية، فلا وَجْهَ لما عن بعضهم أنه سؤالٌ عن شبهة موضوعية([229]).

نعم، لو كان السؤال عن أنه يتحقق النوم المعلوم المفهوم بتحققهما بنحو الملازمة، يكون عن الشبهة الموضوعية، نظير السؤال عن تحقق الغروب بعدم رؤية القرص، أو بذهاب الحمرة، إلا أنه خلاف ظاهر الرواية، كما أنه يستفاد منها أن الاستصحاب حجة حتى مع الظن بالخلاف، فإنه مع عدم التفطن بما حرك في جنبه -كما في الرواية- يَظنُّ بالنوم، ومع هذا أمر بالاستصحاب للطهارة.

إن قلت: إنّ اللام للاستغراق، فتكونُ الرواية دالّةً على عدم نقض مجموع اليقينات بالشكّ، كما هو مقتضى كلّ استغراقٍ داخل تحت النفي، مثل لا تأخذ كل الدراهم.

قلنا: إنَّ اللام الداخلة على المفرد حقيقة في الجنس، بخلاف الداخلة على الجمع، فإنّها حقيقة في الاستغراق، سلَّمنا؛ لكنّ القرينة المقامية تقتضي حمله على عموم السلب، لا سلب العموم؛ لأنه لو حمل على سلب العموم لزم الإجمال المنافي لوظيفة الشارع، لا سيما وأنه  عليهم السلام  في مقام الاستدلال، ولا ريب أن الاستدلال لا يحسن مع الإجمال.

وقد يورد على هذه الصحيحة، من أنّ الظاهر منها إجراء استصحاب الوضوء عند الشك في تحقق النوم، مع أنّ الشكّ في بقاء الوضوء مُسبَّبٌ عن الشك في تحقُّق النوم، فكانَ اللازُم إجراءُ استصحابِ عَدَمِ النّوم، مع أنَّ النوم سببٌ شرعيٌ لعدم الوضوء، وهو من آثاره، لقول أبي عبد الله  عليهم السلام : (لا ينقض الوضوء إلا ما خرج من طرفيك أو النوم)([230]).

والحقُّ في الجواب: أنّه مع حدوث الخفقة والخفقتين، لم يحرز بقاء الحالة السابقة عند العرف، فإنّ العرف لا يرى أنّ بحالة الخفقة بقاء لذلك العدم للنوم، وإنما يراه عدم للنوم بنحو آخر، وبفرد آخر، فذلك العدم قطعاً زال بالخفقة، وإذا وجد عدم للنوم بالخفقة فهو عدم آخر، فلذا الإمام لم يستصحب في الشك السببي، وسيجيء إن شاء الله إذا لم يجرِ استصحاب في السَّبَب، جرى في المسبب.

ومنها: صحيحته الثانية المضمرة، في زيادات أبواب الطهارة من كتاب التهذيب([231])، وفيها فقرتان: أحدهما في بيان علة عدم إعادة الصلاة على من ظن أنه أصاب ثوبه دم أو غيره وتفحص فلم ير في ثوبه شيئاً، ثم بعد أن صلى فيه رأى فيه نجاسة، وهي قوله: قلت: فإن ظننت أنه قد أصابه، ولم أتيقن ذلك، فنظرت فلم أرَ شيئاً، فصليت فرأيت فيه، قال  عليهم السلام : (تغسله ولا تعيد الصلاة)، قلت: ولم ذلك؟ قال: (لأنك كنت على يقين من طهارتك، ثم شككت، وليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك أبداً)، فإنها ظاهرة في أن عدم النقض المذكور قاعدة كلية معتبرة عند أهل الشرع، قد استدل بها الإمام  عليهم السلام ، وهي أظهر في كون اللام للجنس، حيث ليس التعليل مسبوقاً بالشرط.

وبعبارة أخرى: إنّ هذه الفقرة ظاهرة في أنَّ زرارة يسأل الإمام عَمَّنْ ظنّ بإصابة ثوبه النّجاسة، وتفحَّصَ فلم يجدها، فكانَ دُخولُه في الصَّلاة بثوبٍ متيقَّن طهارته، ثُمَّ بَعْدَ الصَّلاةِ فيه، رأى فيه نجاسة، لكنّه لم يعلم أنَّها هي التي ظنها أو قد حدثت جديداً بعد الصَّلاة، فأمره  عليهم السلام  باستصحاب اليقين بالطهارة إلى ما بعد الصلاة، ومن آثاره صِحّةُ الصلاة في هذا الثوب، ولازمه عدم الإعادة، كما هو الحال في سائر الشروط التي تجري فيها الأصول.

إن قلت: إنّ هذه الفقرة تدلُّ على قاعدة اليقين، لا على الاستصحاب؛ لأن المراد بقوله: (لأنك كنت على يقين من طهارتك)، هو اليقين حال الفحص، وهذا اليقين قد سرى إليه الشك؛ لأن الشك المذكور أوجب احتمال أن النجاسة كانت عند الفحص ولم يطلع عليها.

قلنا: المراد باليقين هو اليقين بعدم النجاسة وبالطهارة الأزلية، وهذا لم يسر إليه الشك المذكور.

إن قلت: كان على الإمام أن يتمسك بقاعدة الطهارة.

قلنا: مع وجود استصحابها يكون الاستصحاب مقدّماً عليها.

إن قلت: قوله  عليهم السلام : (فليس ينبغي) يدلُّ على الكراهة، لا على الحرمة، ولا أقلّ من الشكّ، فتكون مجملة، فلا دلالة لها على الاستصحاب.

قلنا: نمنع من ظهور (فليس ينبغي) في الكراهة، وإنما هي ظاهرة الحرمة، والظاهر في الكراهة (لا ينبغي)، سلَّمنا؛ لكن ظهور المعلل في حرمة الإعادة يوجب ظهور التعليل في الحرمة، سَلَّمنا؛ لكنَّ الإجماع المركب يقتضي حرمة النقض؛ وتوهُّمُ أنَّ الإعادة أمرٌ جائز إجماعاً يدفعه أن الجائز هو الإعادة على سبيل الاحتياط، وأما الإعادة بعنوان أنه حكم واجب واقعي فهو حرام.

والفقرة الثانية منها، قوله  عليهم السلام : (لأنك لا تدري لعله شيء أوقع عليك فليس ينبغي أنْ تنقض اليقين بالشك)، وهي أظهَرَ في كونِهِ اللام للجنس، حيث لم يسبق له عهد حتى تجعل اللام إشارة إليه.

إن قلتَ: إنَّ الفاء في قوله  عليهم السلام : (فليس) تفريعية، لتفريع حرمة نقض اليقين على احتمال تأخير الوقوع، وهو يأبى حَمْلُ اللام على الجنس.

قلنا: لابدّ في التفريع من أن يكون المتفرع، أعني: مدخول الفاء التفريعية أمراً جزئياً، والمتفرَّع عليه أمراً كلياً، حيث أنَّ تفريع الأعم على الأخص أمر مستهجن جداً، لا يصدر عن عالم، فضلاً عن إمام معصوم، والأمر في المقام بالعكس، لظهور قوله  عليهم السلام : (فليس ينبغي..) في بيان قاعدة كلية بالنسبة للمورد، بل لا يمكن حمل اللام إلا على الجنس، لعدم سبق لفظ اليقين في هذه الفقرة، فتعين كون الفاء لبيان ضرب القاعدة والتنبيه عليها، فالأصح حملها على السببية، أي أنك تبني على صحة صلاتك لهذه القاعدة، إذ لو لم يبنِ عليها، لنقض اليقين بالشك، أو تكون الفاء للتحلية والتأكيد.

إن قلت: إن الإعادة بعد انكشاف وقوع الصلاة في النجس ليس نقضاً لليقين بالطهارة بالشك فيها، بل اليقين بارتفاعها، فكيف يعلل عدم الإعادة بأن الإعادة تستلزم نقض اليقين بالشك، وإنما يصح أن يعلل جواز الدخول في الصلاة بذلك، لوجوب إحراز الطهارة قبلها.

قلنا: لو كان انكشاف أنّ الصلاة واقعة في النجاسة المظنونة سابقاً، أمكن أنْ يقال ذلك، لكن ليس للرواية ظهورٌ في ذلك، وإنّما تدلُّ على أنه رأى نجاسة في ثوبه بعد الصَّلاة، ولم يعلم أنها كانت سابقاً أو وجدت لاحقاً بعد الصلاة، فليس عنده انكشاف لوقوع الصلاة بالنجاسة.

ومنها: ما في الصّحيحة الثالثة لزرارة عن أحدهما H، فإنّ فيها: (وإذا لم يدرِ في ثلاثٍ هو أو في أربع، وقد أحرز الثلاث، قام فأضاف إليها أخرى، ولا شيء عليه، ولا ينقُضُ اليقين بالشك، ولا يدخل الشكّ في اليقين، ولا يخلط أحدهما بالآخر، ولكنّه ينقض الشكّ باليقين، ويتمُّ على اليقين، فيبني عليه، ولا يعتّد بالشك في حال من الحالات)([232])، وهي ظاهرةٌ في إرادة الاستصحاب، بملاحظة وحدة التعبير، والسياق، والتوافق في ذكر اليقين، والنقض، والشك، وما شابه ذلك، وقد تمسك بها في الوافية([233])، ووافقه على ذلك شارحها([234])، وتبعه جماعة ممن تأخر عنه([235]).

والمراد بالاستصحاب، هو استصحابُ الاشتغال اليقيني بالصلاة، وأنه لا ينقض بالشكّ في الامتثال بالاكتفاء بالركعة المشكوكة، بل يجبُ أنْ يضيف إلى الصّلاة ركعة أخرى، غاية الأمر، إنَّ كيفية إضافة تلك الركعة لم يتعرض لها في الرواية، فيمكن أنْ تكون الإضافة بعد التسليم، كما عليه الإمامية([236])، أو قبل التسليم، كما عليه غيرهم([237]).

وكيف كان؛ فالإضافة تفهم كيفيتها من غير هذه الرواية.

والحاصل: إن قوله  عليهم السلام : (ولا ينقض..)، بياناً للقاعدة التي تقتضي إضافة الركعة للصلاة، فإن في المقام لا ينقض يقينه بعدم الرابعة سابقاً، بالشك في فعلها لاحقاً، بأن لا يأتي بها أصلاً.

ولا يقدح في كلية القاعدة رجوعُ الضمير إلى من (لم يدرِ في ثلاث هو أو في أربع)، بدعوى أنّ هذا الاستصحاب مختص به.

ووجهُ عَدَمُ القدح أنَّ قوله  عليهم السلام : (ولا ينقض اليقين بالشك)، ظاهرٌ في ضرب القاعدة الكلية، والاعتماد عليها، ولأنّ الحكم قد اعتمد فيه على نفس اليقين والشكّ من دون إضافةٍ لشيء، وهذا يقتضي الظهور في الكلية.

إن قلت: إنَّ المراد باليقين فيها هو اليقين بالبراءة، بالبناء على الأكثر، والاحتياط بفعل صلاة مستقلة قابلة لتدارك ما يحتمل نقصه، بقرينة ما في الموثقة من قوله  عليهم السلام : (إذا شككتَ فابن على اليقين)، فإنَّ المراد منها البناء على ما هو المتيقَّنُ من العدد والتسليم عليه، مع جبره بصلاة الاحتياط، مضافاً إلى أن العلماء لم يفهموا منها إلا ذلك، فالصحيحةُ دالة على وجوب الاحتياط لا على الاستصحاب.

قلنا: نمنع صلاحيّةَ اليقين في الموثَّقة أنْ يكونَ قرينة على كون المراد باليقين في هذه الصحيحة هو اليقينُ بالبراءة بالمعنى المذكور، مَعَ وضوح مغايرة التعبير فيهما، بملاحَظَةِ ذكر لَفْظِ النَّقْض وبَعْدَهُ الشَّكُّ، بل الأولى أن تجعل الصحيحتين الأوليتين قرينة على إرادة الاستصحاب من هذه الصحيحة، لوحدة السياق والتعبير.

وأمّا دعوى أنَّ العلماء لم يفهموا منها إلاّ البناء على الأكثر، فهي ممنوعة، وغير معلومة، وإنّما الذي فهمه العلماء منها هو إضافَةُ ركعة للصلاة ليس إلا.

وأمّا كيفيّةُ الإضافة فهي تُعْلَمُ من خارج الرواية.

إنْ قُلتَ: إنَّ مقتضى أصلِ الاستصحاب في المقام هو التعبُّدُ ببقاء المتيقن، وهو عدم الإتيان بالرابعة، ولا ريب أنَّ عمل مَنْ لم يأتِ بها في المقام هو ترك التشهّد والتسليم، والإتيان بالرابعة متصلة بالصلاة، وأما إتيانها بعد التشهد والتسليم، فليس عَمَلاً للمتيقّن بعدم إتيانها، فلابُدَّ من حملها على قاعدة الاشتغال.

وقد أجيب عن هذا الإشكال بجوابين:

أحدهما: حَمْلُ تطبيق استصحاب المورد على التقية، لفتوى العامة بإتيان الرّكعة الرابعة متصلة بالصَّلاة، وهو لا محذور فيه.

إنْ قلتَ: إنَّ صدرَ الرواية صريحٌ في الانفصال، بقرينة الأمر فيه بالفاتحة في الصّلاة المضافة لحكمه بتعيّن الفاتحة فيها، مع أنَّ المضافة إذا كانت متصلة لا تتعين الفاتحة فيها، فليست الرواية واردة مورد التقية.

قلنا: ليس الصدر ظاهر في الانفصال، والأمر بالفاتحة لعله من جهة أنه أفضل من التسبيح، ومما يؤكّد أنّها غيرُ ظاهرةٍ في انفصال الصلاة المضافة، عدم تعرض الإمام لوجوب التشهّد والتسليم في الصّلاة المشكوكة المضاف إليها، مع أنَّهُ يلزم على مذهبنا، فالحقَّ أنها يمكن حملها على التقية.

ولا يخفى ما في هذا الجواب؛ لأنَّ حمل التطبيق على التقية إنْ تمَّ فهو يُضْعِفُ ظهورَ الكلية في كونها حكماً واقعياً، مضافاً إلى أنه لا وجه لجعل الاستشهاد بالقاعدة من باب التقية، فإنَّ التقية لا يناسبها التمسك بالقاعدة الحقة، ولا تتوقفُ التقية على بيانها، إذ تحصل بمجرد بيان الحكم على وفق مذهب المخالفين.

والجواب الثاني: إنّ الإمام  عليهم السلام  لما كان بصدد بيان لزوم الإتيان بالركعة، من دون نظر لاتّصالها أو انفصالها، والاستصحاب يقتضي لزومَ الإتيان فاستشهد به، وأمّا كيفيّة الإتيان بالرّكعة فأوكله لبيان آخر.

ثمّ إنَّ هذا الإشكال واردٌ حتَّى لو حملت على قاعدة الاشتغال، فإنَّ قاعدة الاشتغال تقتضي إعادة الصلاة حذراً من زيادة الركعة لو أتي بالركعة متصلة، وحذراً من الفصل بين الثالثة والرابعة بالتشهد والتسليم، أو أتي بها منفصلة، فهي لا تصلح لبيان أصل الاشتغال إلا بالاستعانة بالأخبار الخاصة، كما لو قلنا إنها لبيان أصل الاستصحاب، كما أنّه لا وجه لجعل الاستشهاد بالقاعدة من باب التقية، فإنَّ التقية لا يناسبها التمسُّكُ بالقاعدة الحقَّة، ولا يتوقَّفُ على بيانها، إذ تحصل بمجرد بيان الحكم على وفق مذهبهم.

والتحقيق أن يقال: إنّ الروايةَ ظاهرةٌ في استصحاب عدم الإتيان بالركعة الرابعة، وأنه لا ينقض بالشكّ في إتيانها، وليست بظاهرة في قاعدة الاشتغال؛ لأنَّ التعبيرَ بعَدَمِ النّقض ظاهرٌ في البقاء على الأمر المبرم والاستمرار عليه، وهو الاستصحاب، ثمّ لما كان الاستصحاب يقتضي الإتيان بالركعة الرابعة، مع الاتصال بالصّلاة، أراد الإمام  عليهم السلام  أنْ يُبيّن أن الاتصال لا يجوز، فبيَّنَهُ
بقوله  عليهم السلام : (ولا يدخل الشك في اليقين، ولا يخلط أحدهما بالآخر)، فإنّ الشكَّ إنّما يتصور دخوله في اليقين مع اختلاطه به في المقام، إذا أتى بالركعة الرابعة المشكوكة متّصلة بالثلاثة المتيقنة، فإنَّ اليقين بالثلاثة إذ ذاك يختلط بالشكّ بها، ويدخل الشك معه، بخلاف ما إذا أتى بها منفصلة، فإنه لا يختلط الشكُّ باليقين الموجود فيها، ولا يدخل فيه، ولا معنى للإدخال مع الاختلاط إلا ذلك بحسب الظاهر.

ثُمَّ طَلَبَ الإمام  عليهم السلام  منه أنْ ينقض شكَّهُ في الرابعة بالإتيان بالرابعة، ويتمّ على اليقين بإتيانها، لكن لا على نحو الإدخال والاختلاط بالثلاثة، فلم يكن الإمام  عليهم السلام  اعتمد على الأخبار الخاصة، بل قَرَنَ دليلَهُ على مُدَّعاه، وهو الاستصحاب بما يدلُّ على مقدار ما يقتضيه في المقام، نظير من شَكَّ في وجوب قضاء الصلاة عليه لما صار عاجزاً عن القيام، فإنَّ الاستصحاب للوجوب عليه يقتضي الإتيان بالصلاة بنحو صلاة العاجز لا المتمكن.

والمرادُ بعدم الاعتداد بالشكّ في حالٍ من الحالات هو عدمُ ترتيبِ بطلانِ الصّلاة على شكِّهِ المذكور، سواء وقع حال القيام، أو القعود، أو السجود، أو غيرها من الحالات.

ثمّ إنَّ تفسير إدخال الشكّ في اليقين واختلاطه معه يجعل شكّه بمنزلة اليقين بالإتيان بالرابعة، فلا يأتي بها؛ بعيدٌ عن منطق الاستعارة والبلاغة، فإنَّ جَعْلَ الشكّ بمنزلةِ اليقين لا يُعبَّرُ عنه بالإدخال والخلط إلا على ضربٍ من المجاز لا يستسيغه الذوق، لا سيما في بيان التكاليف الشرعية.

إن قلت: إنّ هذا مخالِفٌ للمذهب، من البناء على الأكثر في الصلاة، والرواية على هذا تقتضي البناء على الأقل؛ لأنه هو المتيقن.

قلنا: إنّ الرواية لم تشتمل على البناء على الأقل أو الأكثر، وإنما فيها: (ويتم على اليقين، فيبني عليه)، والمراد به كما هو الظاهر، هو إتمام الصلاة بركعة رابعة، ويبني على صحة ما صدر منه من الصلاة، والركعة المنفصلة، وفراغ ذمته به.

هذا مُضافاً إلى أنَّ المرادَ بالبناء على الأكثر عندنا، هو البناءُ عليه من جهة الحكم بإتيان التشهُّدِ والتسليم بعد الركعة المشكوكة، وإلاّ فليس هناك بناء حقيقة، وإلاّ لم تلزم الركعة المنفصلة.

ومنها: موثَّقَةُ عَمَّار عن أبي الحسن  عليهم السلام ، قال: (إذا شَكَكْتَ فابنِ على اليقين)، قلتُ: هذا أصل؟ قال  عليهم السلام : (نعم)([238])، وهذه الموثقة ليست مختصة بمورد خاص، لاسيّما وقد جعلها الإمام  عليهم السلام  أصلاً يعمل به، فإنّها ظاهرةٌ في أنَّ اليقين يعمل على طبقه، فيشمل صورة الاستحباب؛ لأنه يكونُ فيه شكٌ في بقاء الشيء مع اليقين به، لليقين بوجوده سابقاً، فهي نظير ما إذا قال لك: إذا شككتَ فاعمل بخبر الواحد العدل، في اعتبار خبر العدل عند الشك في الشيء، فكذا هنا، فإنه ظاهر في اعتبار اليقين عند الشك في الشيء.

إن قلت: على هذا تكون الرواية ظاهرة في قاعدة اليقين، المسمّاة بقاعدة الشك الساري في ألسنة بعض المتأخرين، لسريان الشكّ المتأخر إلى اليقين، فيزول اليقين، ويتبدل بالشك.

وحاصلها: الشكُّ في صحّة الاعتقاد السابق، والتردّد في صحة مطابقته للواقع، كمن اعتقد بعدالة زيد يوم الجمعة فصلّى خلفه، وقَبِل شهادته، ثم بعد هذا شكَّ في عدالته في نفس ذلك اليوم، أعني يوم الجمعة، وهي بخلاف الاستصحاب، فإنه يكون الشكُّ فيه طارئٌ على اليقين، غير مزيل له؛ لأنه شك في بقاء الشيء، ولذا يسمى بالشك الطارئ.

والحاصل: إنّ الرواية ظاهرة في العمل باليقين فيما إذا تعلَّقَ الشّكُّ بنفس ما تَعَلَّقَ به اليقين، فتكونُ الرواية أجنبية عن المقام.

قلنا: قاعِدَةُ اليقين قام الإجماع على عَدَمِ العَمَلِ بها، لا سيّما عند تبيُّن فساد المدرك لليقين السّابق، وهو أَغْلَبُ أفرادها، فيلزَمُ التَّخصيص بالأكثر، وأما حُكْمُ العلماء بصحّةِ الأعمال الواقعة على طبق اليقين السابق في بعض الموارد، كالصلاة سابقاً خَلْفَ من يعتقد عدالته، ثمّ شكَّ، فهو لأجل قواعد أخرى، كقاعدة الفراغ، أو الشكَّ بعد تجاوز المحلّ، أو خروجِ الوقت، لا للقاعدة المذكورة.

وقد تَقَرَّرَ في غير المقام، أنه إذا لم يَجُزْ العمل بظاهر الدليل للإجماع على خلافه، يجب التنزُّلُ إلى ما هو الظَّاهِرُ منه، وهكذا إلى أنْ يَصِلَ إلى حَدِّ الغلط فيُطْرَح، ومعلومٌ أنَّ الاستصحاب هو الظّاهِرُ بعد عَدَمِ إرادَةِ قاعدة اليقين، مُضافاً إلى أنَّ قوله  عليهم السلام : (فابن على اليقين)، ظاهرٌ في وجود اليقين عند الشك؛ لأنَّ طَلَبَ البناء على الشيء ظاهرٌ في وجودِ ذلك الشيء حين البناء عليه، فلو قيل: (أكرم العلماء)، فإنّه ظاهرٌ في كونهِ عالماً حَالَ الإكرام، فالرّواية ظاهِرَةٌ في اعتبار وجودِ اليقين في ظرف ترتُّب الحكم عليه، وهو البناء عليه عند الشكّ في الشيء، والجري على مقتضاه حال الشكّ فيه، وفي القاعدة لا يكون الأمر كذلك، لعدم وجود اليقين فيها حالَ الشكّ، بل ينقلبُ اليقين إلى الشكّ والجهل بالواقع، مضافاً إلى أنَّ هذا التعبير يناسب التعابير عن الاستصحاب في الموارد الخاصة، فيستفاد منه الاستصحاب؛ لأنّ كلامهم  عليهم السلام  بمنزلة كلام واحد، يكشف بعضه عن بعض، ويفسِّرُ بعضه بعضاً، ويكون قرينةً عليه، بحيث ينعقد له ظهور في ذلك، كما هو الحال عند العلماء في القرآن الكريم، وعليه؛ فيستفاد منها الاستصحاب.

سَلَّمنا أنَّها ظاهرةٌ في القاعدة، ولكن يُفْهَمُ منها بطريقِ الأولويّة حُجيّةُ الاستصحاب؛ لأنّ اليقينَ إذا كان يبنى عليه مع زواله، للقطع بفساد مدركه، أو نسيانه أو الشكّ فيه فبالطريق الأولى أنْ يبنى عليه مع بقائه والعلم بصحة مدركه.

سَلَّمنا عَدَمَ قيام الإجماع، وعَدَمَ الظّهور المذكور، فيُمْكِنُ إرادتهما معاً، فإنَّ في الاستصحاب يكونُ الشك في الشيء عند العُرْف، ولذا اعتبرنا فيه بقاء الموضوع عُرْفاً، فهو نظيرُ ما لو قلنا: إذا شَكَكْتَ في الشيء فأعمل بخبر العدل، فإنه يشمل الشكّ في بقاء الحكم، كما يشمل الشكّ في حدوثه.

ودعوى عدمُ الجامع بين القاعدة والاستصحاب؛ لأنَّ الشك في الاستصحاب يكون في بقاء الشيء، وفي القاعدة بنفس وجود الشيء، فالشك في كلٍّ منهما ملحوظاً بالنسبة للشيء بلحاظٍ غير اللحاظ الآخر، فلا يمكن جمعها بإرادة واحدة، لاختلاف اللحاظين، وإرادة معنيين من لفظٍ واحد، بإرادة واحدة، وهو باطل.

قلنا: لا يلزم ذلك، ويكفي لحاظُ نفسِ اليقين بما هو عنوانٌ من العناوين، وكذلك الشكُّ في متعلّقِهِ بما هو شَكٌ، وعنوانٌ من العناوين، فيكونُ المراد معنىً واحدٌ ليَشْمَلَ القاعِدَةَ والاستصحاب، بل يَشْمَلُ قاعدة الاشتغال، لما فيها من يقينٍ وشَكٍّ، وهذا نظيرُ ما إذا قَالَ لكَ المولى: إذا شَكَكْتَ فاعْمَلْ على خبر العدل، فإنّه يَشْمَلُ صُورَةَ الشّكّ في بقاءِ مؤداه، أو في نفس حُدوثه، أو في فراغ الذمّة، كما لو شُكَّ في فراغ ذِمّته من الصَّلاة، وقام الخبر على عدم فراغها، أو على فراغها، فإنّه يعمل بالخبر بمقتضى ذلك، بل قد عرفتَ أنَّ العُرف يرى أنّ الشكَّ في البقاء شكٌّ في نفس الشيء، ولذا يرى أنه لو لم يعمل باليقين عند الشكّ في البقاء، كان ناقضاً لليقين ومخالفاً له؛ وقيام الإجماع على عدم حجية قاعدة اليقين لو تمَّ، كان مخصّصا للرواية بغيرها.

إن قلت: إنّها ظاهرةٌ في قاعدة الاشتغال في وجوبِ تحصيل اليقين بفراغ الذمة، عند الشكّ في فراغها.

قلنا: الروايةُ ظاهرةٌ في موجودية اليقين، وحدوثِ الشكَّ، بقرينة
قوله  عليهم السلام : (فابن على اليقين)، فإنّه يعقد لها ظهورٌ في العَمَل باليقينِ الموجود، لا بتحصيل اليقين، كما هو مُقتضى قاعدة الاشتغال، فإنَّ المطلوب فيها تحصيل اليقين.

إن قلت: إنَّ حَمْلَ الموثقة على الاستصحاب يوجبُ طَرْحَها، لاقتضائها البناء على الأقلّ في عدد الركعات؛ لأنه هو المتيقّن، وهُو ينافي الأخبار الواردة عن أئمتنا الأطهار، مثل قولِهِ  عليهم السلام : (أجمع لك السهو كله في كلمتين: متى [ما] شككت فخذ بالأكثر)([239])، فالوجه في الموثقة أمّا حملها على التقية ومجارات أهل الحلّ والعقد، أو إرادة قاعدة الاحتياط بإتيان الأقلّ، والاحتياط بفعل ركعة منفصلة.

قلنا: لو سُلِّمَ ذلك فإنّما يتّجِهُ لو اختصَّ موردُ الموثّقةِ بالشّكوكِ المتعلّقة بالصّلاة، وليسَ كذلك، فَضْلاً عن عَدَدِ ركعاتها، كما هو الظّاهرُ من جعله  عليهم السلام  إنَّ ذلك أصلُ وقاعدة كُلّية، فلا تنافي الأخبارَ المذكورة، وتكونُ الأخبار المذكورة مُخصِّصة لها، ولا إشعار فيها بقاعدة الاحتياط؛ لأنها كما عرفت ظاهرة في العمل باليقين الموجود، لا في تحصيل اليقين، فيكونُ حالُها حال الصحيحتين الأوليتين في الدلالة على قاعدة الاستصحاب في جميع الموارد، غايةُ الأمر أنها كالصحيحتين قد خُصَّت بغير الشك في عدد الركعات، ولا ضير فيه.

ومنها: ما روي عن البحار للعلامة المجلسي، في بابِ مَنْ نسي أو شكَّ في شيء من أفعال الوضوء، عن الخصال، بسنده عن محمّد بن مسلم، عن أبي عبد الله، قال  عليهم السلام : (قال أمير المؤمنين  عليهم السلام : مَنْ كانَ على يقينٍ، فأصابه شكٌّ، فليمض على يقينه، فإنَّ اليقينَ لا يُدْفَعُ بالشك)([240])، وفي رواية أخرى عن الخصال، في حديث الأربعمائة، عن الباقر  عليهم السلام ، عن أمير المؤمنين  عليهم السلام : (من كان على يقين، فشك، فليمض على يقينه، فإنّ الشك لا ينقضُ اليقين)([241])، وقد حُكي عن البحار عدُّها في سلك الأخبار التي يستفاد منها القواعد الكلية([242]).

وقد يُناقَشُ في الاستدلال بها على الاستصحاب، تارَةً بضَعْفِ السند، وأخرى بقصور الدلالة.

أمّا في السند، فإنَّ فيه محمد بن عيسى اليقطيني، وهو ضعيفٌ، لاستثناء أبو جعفر بن بابويه له من رجال نوادر الحكمة، وقال: لا أروي ما يختص بروايته([243])، وضعفه الشيخ أيضاً في رجاله([244])، وأيضاً فيه القاسم بن يحيى، فإنه من المجاهيل، ولم يمدح بتوثيق أو غيره([245])، بل حكي عن العلامة تضعيفه([246])، ولكن لا يُصغى إلى ذلك لما صرَّح به المجلسي من أنها في غاية الوثاقة والاعتبار على طريقة القدماء، وإن لم تكن صحيحة بزعم المتأخرين، ولأن الكليني  رحمه الله  وغيره من المحدثين الثقاة اعتمدوا عليها، ولا ريب أنَّ ذلكَ يُوجِبُ الوثوق بها، فإنَّ نقل الثقاة يُولِّدُ الوثوقَ بالمنقول([247]).

وعن المرحوم الفاضل أحمد النراقي دعوى اشتهارها رواية وفتوى، هذا وحكي أنَّ العلامة لم يضعِّف القاسم في الخلاصة([248])، وإنما ضعفه ابن الغضائري([249])، والمعروف أن تضعيفه غير ضائر([250]).

وأما المناقشة في دلالتها بدعوى ظهورها في قاعدة اليقين بقرائن ثلاثة:

الأولى: إنّ الرواية ظاهرةً في اختلاف زمان اليقين والشك، بقرينة (الفاء) المفيدة لترتب الشكّ على اليقين، والاستصحاب لا يعتبر فيه اختلاف زمان الوصفين، إذ يجوز اتحاد زمانهما، أو تقدم وصف الشك على اليقين، بخلاف القاعدة، فإنه لا بد فيها من تقدم اليقين على الشك.

الثانية: إن ظاهر الرواية أن متعلق الشك واليقين واحد، وفي الاستصحاب لا يكون المتعلق لهما واحد؛ لأن اليقين فيه يتعلق بوجود الشيء، والشك يتعلق ببقائه.

[الثالثة]: إنّ النقض في القاعدة حقيقة؛ لأنه رفع اليد عن الآثار التي ترتبها على الشيء عند اليقين به، بخلاف النقض في الاستصحاب، فإن النقض فيه يكون برفع اليد عن آثار الشيء في غير زمان اليقين، وهذا لدى الحقيقة ليس نقضاً لليقين.

ويمكن دفع المناقشة المذكورة بأنَّ غايَةَ ما تَدَلُّ عليه (الفاء) هو أنَّهُ في مَوْرِدِ حُدوثِ الشكِّ بعد اليقين يمضي على اليقين، وهذا مما يجامع الاستصحاب، بل هو الفَرْدُ الغالب منه، لا أنّه ينافيه، فلا يُوجِبُ ذلك ظهور الرواية في القاعدة، على أنَّ الفاء إنّما تقتضي الترتيب، أعمُّ من الزمانيّ أو الرتبي، وفي الاستصحاب يكونُ اليقينُ رُتْبَةً مقدَّماً على الشكّ، باعتبار متعلّقِهِ، فإنَّ المتيقِّن فيه سابق على المشكوك، وهذا يُوجِبُ التقدُّمَ الرتبيَّ لليقين على الشكَّ، لقيام هذه الأوصاف بمتعلّقاتها، كما أنَّ دعوى ظهورها في وَحْدَةِ المتعلِّق لليقين والشك فاسدة، إذ لا يُوجبُ لها ظهوراً عرفياً في القاعدة؛ لأنّ العرفَ يَرَى أيضاً وَحْدَةَ المتعلق في الاستصحاب، مع أنَّ حذف المتعلق لا يقتضي وحدته، بل هو أعمّ من وحدته وجوداً، أو وحدته شخصاً وإن اختلف حدوثاً وبقاءً، بل مع الحذف يكون الثاني هو الأظهر، بل هو المتيقن، لكون المتعلّق أعمّ عند الحذف، كما أنّ استعمال النقض لا يوجب الظهور العرفي في القاعدة؛ لأنَّ العرف بعدما كان يرى وحدة المتعلق، يرى تحقُّقَ النقض في مورد الاستصحاب، كما في القاعدة.

إن قلتَ: غايةُ ذلك أنْ تكونَ الرّوايَةُ قابلةٌ لإرادة القاعدة والاستصحاب، ولا مُعيّن لأحدهما، فيسقط الاستدلال بها للاستصحاب.

قلنا: لابدّ من حمل الرواية على الاستصحاب، لأمور:

أحدها: إنَّ قوله  عليهم السلام : (فليمض على يقينه)، ظاهرٌ في وجوب اليقين الذي يمضي عليه عند الشك؛ وفي القاعدة يكون اليقين قد زال عند الشك، بخلاف الاستصحاب، فإنه لم يزل وباق على حاله.

ثانيها: إنّ هذا التعبير في جملة من الروايات أُريدَ به الاستصحاب، وذلك يُوجِبُ انعقاد ظهور له في ذلك، لكون المتكلّم واحد حقيقة أو حكماً، فإنَّ الأئمّةَ  عليهم السلام  في حُكْمِ مُتكلِّمٍ واحد؛ ومن هنا اشتهرَ أنَّ أخبارهم  عليهم السلام  يكشف بعضها عن البعض الآخر.

هذا، مع أنَّ المذكور في الرواية الثانية هو الدفع، وهو أنسب في الاستصحاب من القاعدة.

مع أنّه يُمْكنُ أنْ يقال: إنَّ الرواية لو كانت ظاهرة في القاعدة، فهي تدلُّ على اعتبار الاستصحاب بطريق أولى، ضرورةَ أنَّ اعتبار اليقين السابق، مع نسيان مدركه، أو الشك، أو القطع بفساده، كما في القاعدة، فإنّ اليقين
إنما يتبدل بالشكّ، أمّا من جهة نسيان مدركه، أو من جهة الشك، أو العلم بفساد مدركه، واحتمال أنَّ هناك مدرك آخر له يقتضي اعتبار اليقين مع
بقائه، والعلم بصحة مدركه، كما في الاستصحاب بطريق أولى، كما أنه لو فُرِضَ قيامُ الدليل على عدم اعتبار الاستصحاب، فإنّه يحكم بعدم اعتبار هذه القاعدة بطريق أولى، واحتمال أنَّ اعتبار القاعدة من باب التعبد المحض بعيد جداً.

مع أنَّه يَظْهَرُ من كلامِ الشيخ الأنصاري  رحمه الله ([251])، وغيره([252]) دعوى الإجماع على عَدَمِ اعتبارِ القاعدة، فيَدورُ الأمرُ بينَ طَرْحِ الخَبَرِ المذكور، أو حمله على الاستصحاب، ولا شكَّ أنَّ الثاني هو الأولى، لما قد قُرِّرَ في محلّه من أنَّ الإجماع إذا قام على خلافِ ظاهر الدليل النقليّ المعتبر، يَجِبُ حَمْلُ الدّليل النقلي على ما هو الظاهر بعده، وهكذا إلى أن يصل إلى حدّ الغلط فيُطرح، ومن هنا اشتهر إذا تعذَّرت الحقيقة فأقرب المجازات متعيّن([253])، ومن المعلوم أنه لو سُلِّمَ ظهور الخبر المذكور في القاعدة فَبَعْدَ قيام الإجماع على خلافه، يكونُ الظّاهِرُ منه هو الاستصحاب.

ومنها: خَبَرُ الصّفار، عن مكاتبة عليّ بن محمد القاساني، قال: كتبت إليه وأنا بالمدينة عن اليوم الذي يُشَكُّ فيه من رمضان، هل يُصام أم لا؟ فكتب: (اليقينُ لا يدخل فيه الشكّ، صُمْ للرؤية وأفطر للرؤية)([254])، ووجه الاستدلال بها أن السائل سأل عن اليوم المشكوك أنه من رمضان، سواء كان من أول رمضان أو آخره، فأجابه الإمام  عليهم السلام ، بأنَّ اليقين بالشهر سواء كان رمضاناً أو غيره لا ينقضه الشكُّ فيه، فإنَّ الدخل في الشيء عبارة عن فساد الشيء، والعيب فيه.

فيكون المعنى: إنَّ الشك لا يفسد اليقين ولا يعيبه، وهو عبارة عن المنع عن نقضه، ففي المقام: اليقينُ بأنَّ الزَّمانَ من شعبان، لا ينقضُهُ الشكُّ في أنه من شعبان، واليقين بأن الزمان من رمضان، لا ينقضه الشك في أنه من رمضان.

وفَرَّع على ذلك الصوم للرؤية، والإفطار للرؤية، إذ بالرؤية لهلال رمضان ينقض اليقين من شعبان باليقين برمضان، لا بالشكّ فيه، وبالرؤية لهلال شوال ينقض اليقين من رمضان باليقين بشوال، لا بالشكّ فيه، فيكون قوله  عليهم السلام : (اليقينُ لا يدخل فيه الشكّ)، كالصّريح في بيان الكبرى الكلّية، لا سيما وعدم مسبوقية (اللام) بما يَصْلُحُ أنْ يكونَ عَهْدَاً له، وعدم احتمال إرادة قاعدة اليقين؛ لأنّ الشكَّ المرادَ فيها هو الشَّكُّ في البقاء، كما هو ظاهرُ السؤال، وظاهر الجواب، بل لا يَصْلُحُ إرادتها منه؛ لأنَّ شعبان لم يَزُلْ اليقينُ به، وإنما شك في بقائه، وهكذا رمضان.

ثم أنّ التفريع بالصوم للرؤية والإفطار لها مما يؤكد إرادة الاستصحاب، وأنَّ الشهر يستصحب بقاؤه إلى أن يقطع بزواله برؤية الهلال للشهر الذي بعده.

والمناقشة فيها:

تارة في سندها، لإضمارها، فلا يعلم استنادها للإمام  عليهم السلام ، وكونها مكاتبة، ولعلها مزوَّرة على الإمام  عليهم السلام ، وبأنَّ علي بن محمد قد ضعفه جماعة([255]).

فاسدة؛ لأنّ ذلك لا يضر في حجيتها لتمسُّك الأصحاب بها، واشتهارها بينهم، وذكرهم لها في كتبهم الفقهية([256]).

وتارة في دلالتها بوجهين:

أحدهما: أنه يحتمل فيها أنها لبيان قاعدة الاشتغال بالصوم في آخر شهر رمضان، لليقين به، والشك في ارتفاعه بدخول شوال.

وجوابها: أولاً: لو لم يجر الاستصحاب في المقام، لكان من دوران الأمر بين محذورين، وهما وجوب الصوم لاحتمال أنه من رمضان، وحرمته لاحتمال أنه العيد، وهذا بالنسبة لآخر يوم من شهر رمضان، وأما بالنسبة لأوله، فالأصل هو البراءة، فليس المقام من الاحتياط في شيء.

نعم، لو قلنا: إن التكليف بالصوم في الشهر تكليف واحد، كان من قبيل دوران الأمر بين الأقل والأكثر في محصل التكليف، ويكون شبهة موضوعية، نظير ما لو شك في حصول الطهارة بالغسل، فالقاعدة هو الاشتغال، لكن الظاهر أنه تكاليف متعددة بتعدد الأيام.

سَلَّمنا؛ لكنّه لا يلتئم مع قوله: صُمْ للرؤية، فإنه يقتضي الصوم عند القطع بدخول شهر رمضان، مع أنَّ الاحتياط يقتضي الصوم مع الشك في دخول رمضان، فالرواية أجنبية عن قاعدة الاشتغال.

ثانيهما: أنّا سَلَّمنا دلالتها على الاستصحاب، فهي غيرُ عامَّةٍ، بل هي مختصَّةٌ في استصحاب شهر شعبان ورمضان، ولو تنزّلنا وقلنا بأنّها تَدُلُّ على استصحاب عامّة الشهور، فهي مختصَّةٌ بالشّهور، والقول بعدم الفصل لو سَلَّمنا حُجيَّته، فهو لا يكون في مسألة كثرت فيها الأقوال بالتفصيل فيها.

والجوابُ عن هذه المناقشة: إنَّ (اللام) مع حذف المتعلَّق، مع عدم سبق ما يصلح أنْ يكونَ عهداً له، يقتضي العموم لسائر الأفراد، مثل: [وَأَحَلَّ اللّهُ البَيعَ]([257])، فإنّ اللام مع عَدَم ذكر المبيع وعدم سبق عهدٍ ببيع خاص يدلُّ على حلية البيع بأي مبيع تعلق؛ وهكذا فيما نحن فيه، فإنّ اللام وحذف متعلق اليقين مع عدم سبق ما يصلح للعهد، وهكذا اللام وحذف متعلق الشكّ مع عدم ما يصلح للعهد، يقتضي أنّ اليقين بأيّ شيء تعلّق بحكم شرعي، أو بموضوع خارجي ذي أثر شرعي، ثمّ عَرَضَ الشكُّ في بقائه، فإنَّ هذا الشكُّ لا يَدْخُلُ في اليقين، ولا يفسده، ولا يعيبه، ولا ينقضه، فالرواية كالنصِّ في عموم الاستصحاب.

ومنها: خبر عبد الله بن سنان، في من يُعير ثوبه للذمّي وهو يعلم أنه يشرب الخمر، ويأكل لحم الخنزير، قال: فهل عليّ أن اغسله؟ فقال: (لا؛ لأنك أعرته إياه وهو طاهر، ولم تستيقنْ أنه نجَّسَه)([258])، وهو واضح الدلالة على اعتبار الاستصحاب، بظهوره في تعليل الحكم باليقين به سابقاً، والشكّ فيه لاحقاً.

هذه جملة من الأخبار، وهي كافيةٌ في إثبات حُجيّة الاستصحاب شرعاً مطلقاً، من دون فرقٍ في المستصحب من حيث كونه وجودياً أو عدمياً، موضوعاً خارجياً أو حكماً شرعياً، جزئياً أو كلياً، تكليفياً أو وضعياً، ومن دون فرق في الشكّ في البقاء من جهة الشكّ في المقتضي، أو من جهة الشكّ في وجود الرافع، أو رافعية الموجود، ومن دون فرقٍ في الدليل الدّالّ على ثبوتِ المستصحب في الزمن السابق، من كونِهِ لُبياً من عقلٍ أو إجماع، أو لفظياً، إلى غير ذلك من الأمور التي لأجلها كثرت الأقوال في المسألة، وحيثُ كانَ المهمّ في نظر العلماء، وفيه يكثر الابتلاء، وبه محل النزاع، وهو عموم الأدلة لموارد ثلاثة، نتعرض لها.

حجية الاستصحاب في الموضوعات والأحكام

المورد الأول: عمومُ الأدلّة للموضوعات والأحكام؛ فنقول: الحقّ إنَّ أدلّة الاستصحاب تدلُّ على حجيته في الموضوعات والأحكام؛ لأنّها تدلُّ على التعبّد بوجود المتيقّن، والبناء عليه عملاً، وهذا المعنى يقتضي الحكم الشرعيّ المماثل للسابق، أو الجري عليه إذا كان المتيقّن السابق حُكْماً شرعياً، ويقتضي جعل الأثر الشرعي إذا كان المتيقّن السابق موضوعاً ذا أثر شرعيّ، وليس في ذلك استعمال للفظ في أكثر من معنى واحد.

إن قلتَ: لا يصحُّ استصحاب الأحكام الشرعية؛ لأنه إنّما يشكّ فيه إذا تبدل قيدُ موضوعه، ومَعَ تبدّله يختلفُ الموضوع، ويكونُ الاستصحاب من قبيل إسراء حكم موضوعٍ إلى موضوع آخر، وإن اتَّحَدَ معه في الذّات، إلا أنّه مختلفٌ في الصّفات، وإلاّ لما شُكَّ في البقاء، ومن المعلوم إنّ أدلة الاستصحاب مختصة بصورة ما إذا كان الشكّ شكّاً في البقاء، حتّى يصدق النقضُ للحالة السابقة، أو عدم نقضها، والشكُّ في بقاء الأحكام لا يُتَصَوَّرُ إلا إذا كان الموضوع المشكوك بقاء الحكم له عينَ الموضوع المتيقّن ثبوتُ الحكم له، بحيثُ تكون القضية المشكوكة عينُ القضية المتيقنة، وإلا لما كان الشكّ شكّاً في البقاء، بل شكّاً في حكم آخر.

قلت: نعم، لا بدّ من كونه عينه، لكن لمّا كان المخاطب بالكلام هو العرف، كان المطلوبُ منهم إبقاءُ الحكم المتيقّن فيما يرونه بقاء له، ولا رَيْبَ أنَّهم يرونه بقاءً له فيما كان الموضوع عندهم واحداً، فالمعتبر هو وحدة الموضوع وعينيته عندهم، لا بحسب الدّليل، ولا بحسب الدقة العقلية، وطالما يرون الموضوع واحداً وباقياً، وإنْ اختلفت حالاته وصفاته، بل كثيراً ما يكون الشيءُ له دَخْلٌ في ثبوت الحكم، ولكنّه ليس له دَخْلٌ في موضوعه، كالسَّبب، وعدم المانع، والشرط، فإنه لابدّ منها في ثبوتِ الحكم لموضوعه، مع أنّها خارجةٌ عنه، نظيرُ الزوال فإنه سبب لثبوتِ وجوب الظُّهر للشّخص، وليس له دَخْل في موضوعه، ولذا الظهر يكون واجباً حتى مع ذهاب الزوال، وسبباً لوجوب القضاء عليه إذا انضمّ إليه الفوت لصلاة الظهر؛ ونظير ذلك في الأحكام الشرعية ما لا يُحصى، حتَّى الوضعية منها، ألا ترى أنَّ الغليان موجب لنجاسة العصير العنبي، والملاقاة موجبة لنجاسة الملاقي للنجس، وليس لهما دَخْلٌ في موضوع النَّجَاسة، لكونها تبقى مع زوالهما.

إن قلت: إنّه مع اتحاد الموضوع، لا يُعْقَلُ الشكُّ في البقاء، لكون الموضوع علّة تامة لثبوتِ الحكم له، إلاّ على البداء الممتنع على الله تعالى، ففي الآن الثاني الذي يُشَكُّ في ثبوت الحكم فيه، إن كان الموضوع السابق معلوم الوجود فيه، فكيف يمكن الشكّ في ثبوتِ الحكم له، وإنْ كان معلوماً عدمُ وجوده، فلا مجال للاستصحاب؛ لأنه عبارة عن إبقاء الحكم، ومع العلم بتعدُّد الموضوع، يمتنع الإبقاء؛ لأنه لا يتحقّق إلاّ مع وحدة الموضوع، وإنْ كان الموضوع مشكوك البقاء فيُشَكُّ في تحقُّق الإبقاء، فلا يمكن التمسّك بدليل الاستصحاب على إبقاء الحكم في ثاني الحال؛ لأنه يكونُ من قبيل التمسُّك بالعامِّ في الشُّبهَةِ المصداقية، لعدم إحراز أنه إبقاءً للحكم.

قلنا: إنّا نختارُ عَدَمُ إحراز بقاءِ الموضوع على الوَجْهِ الذي كان علّةً لثبوت الحكم، ومع ذا لا مانع من الاستصحاب؛ لأنّ العِلَّة لثبوتِ الحكم وجوداً وعَدَمَاً هو الموضوع بوجودِهِ الحقيقي الدّقّي، دُونَ الوجود المسامحي العرفي، والعرف يرى الموضوع هو العمل الذي تعلّق التكليف به، دون ما ألحقه الشارع به من الزمان والشروط ونحوها، فإنّه يراها من الحالات للموضوع.

وإنْ أبيتَ عن ذلك؛ فالميزانُ هو أنْ يرى العُرْفُ أنَّ نفس التكليف باقٍ لو نَصَّ الشارع على ثبوته مع تغيُّر ذلك الحال، وهو إنّما يكون إذا كان ما يراه العرف موضوعاً للتكليف باقياً.

وعليه: فالذي يلزم إحرازه في مقام التمسُّك بالاستصحاب هو وجود الموضوع عرفاً، حتّى يصدق البقاء والإبقاء عند العرف؛ لأنهم هم المخاطبون، فلابدّ من أنْ يكون المولى يُريدُ بخطاباته ما يفهمونه.

إذا عرفت ذلك، فنقول: إنّ وجود الموضوع وإنْ كان مشكوكاً، بل معلوم الارتفاع أحياناً، ولذا نشُكُّ في ثبوت الحكم في الآن الثاني، إلا أنَّ الوجود العرفي للموضوع الذي هو المناط في صدق البقاء والنقض محرز، فلا مانع من الاستصحاب.

إن قلت: أولاً: نمنعُ من كفاية الوجود العرفي في جَرَيانِ الاستصحاب، وما قَرَعَ سَمْعُكَ من أتباع العرف في فهمه إنّما هو بالنسبة إلى نفس مداليل الألفاظ، حيثُ أنَّ تشخيصها مَوكول إلى فهم العرف، حتَّى أنه يقدَّم على تنصيصِ اللغويين، وأمّا مُسامَحَته في التّشخيصاتِ فلا دليلَ على اتباعه.

وبعبارةٍ أخرى: بَعْدَ كونِ البقاء والنّقض عبارةٌ عن ثبوتِ الحكم ورَفْعِهِ في الموضوع الأول، يجبُ إحرازُ وحدة الموضوع حقيقة، ولا يُعتنى بالمسامحة العرفية.

وثانياً: ما ذُكِرَ من المسامحة إنما يتمُّ إذا استندنا في مَدْرَكِ حُجيّة الاستصحاب إلى الأخبار، وأمّا إذا اعتمدنا فيه إلى بناء العقلاء تعبُّداً أو ظناً، فاللازم هو الأَخْذُ بالقدر المتيقِّن، وهو ما إذا عُدَّ الموضوعُ في ثاني الحال، هو الموضوع في أوّلِهِ، بل لا معنى لدعوى الظنّ بثبوت الحكم ثانياً في موضوعٍ مغاير أو مشكوك التغاير للمتيقّن، فإنّه أشبه بالقياس من الاستصحاب.

قلنا: أمّا الجوابُ عن الأول، فيمنَعُ كونُ ذلك من الرجوع إلى العرف في المسامحة، بل هو رُجوعٌ إليه في فَهْمِ معنى البقاء والنَّقْضِ، ولا رَيْبَ أنَّ البقاء والنّقض عند العرف موضوعٌ لاستمرار الحكم ورَفْعِهِ فيما يراه متّحدُ الموضوع، فما رآه متّحداً في نظره كان باقياً حقيقة.

قال المرحومُ أحمد الحسيني، بتنقيح منا: إن الموضوع الذي يعتبر بقاؤه في الاستصحاب هو الموضوع الخارجي، الذي هو معروض للحكم في الخارج، دون المبتدأ عند النًّحاة، والمسند إليه عند أهل البيان، حيثُ إنَّ العرف هو المحكم في ذلك، ومن المعلوم أنَّ الموضوع الخارجيّ هو ذاتُ الشيء، دونَ الذات مع القيود، ولا الذّات المقيّدة بها، فالموضوعُ في الخارج للقبح هو ذاتُ الصّدق، ولا وصف الضّررية، ولا الصّدق المقيّد بها، لاستحالةِ قيامِ العرض بالعرض، وإنّما كان لوصف الضَّررية مَدْخَلٌ في عروض الحكم، إلاّ أنّ انتفاءَهُ لا يُوجب تبدّل الموضوع أصلاً، وإنْ كانَ قد يوجب انتفاء الحكم، كما لو كان ذلك القيد علّة حقيقةً أو جزء علة، كالمثال المذكور، لكنّ انتفاء الحكم مع ذلك غيرُ مستند إلى تبدُّلِ الموضوع، بل إلى انتفاء علّته، أمّا إذا كانَ القيدُ عِلَّة إعدادية، أعني: علّة مُحْدَثة كالباني بالنسبة للبناء، أو احتمل كونه كذلك، وشُكَّ في بقاءِ الحكم بعد انتفائها، يمكنُ إجراء الاستصحاب فيه.

وأمّا الجواب عن الثاني: فبدعوى تحقُّق بناء العقلاء على الحكم باستمرار الحكم الثابت إلى الآن الثاني، عند بقاءِ ما يراهُ العرف موضوعاً للحكم في الآن الأول، كما أنّه يمكن دعوى حُصول الظنّ بذلك أيضاً، ويؤيِّدُ ذلك أنَّ منشأ الظنّ بالبقاء ليس إلاّ الغلبة الخارجية، والذي يمكن دعواه ليس إلاّ الغلبة في مثل الفرض، وأمّا البقاء فيما كان مع الموجود الأوّلي واحداً حقيقةً، فهو معلومٌ دائميٌ لا غالبي، كذا أفاد ذلك أستاذنا الشيخ كاظم الشيرازي  رحمه الله .

إنْ قلتَ: أنه لا يجوز استصحابُ الأحكام؛ لأنَّ الحكم إنّما يستصحبُ إذا شُكَّ في بقائه من جهة تبدُّلِ الموضوع الذي أخذ في الدليل أو احتمل أخذه في الموضوع، لمعارضته باستصحاب العَدَم الأزلي لذلك الحكم الثابت للعنوان الفاقد للقيد المأخوذ في الدليل أو المحتمل أخذُهُ فيه، فمثلاً إذا شُكَّ في بقاء وجوبِ صَلاةِ الجُمُعة عند غيبة الإمام  عليهم السلام ، فاستصحابُ وجودِ الوجوب، يُعارضَهُ استصحاب عدمِ الوجوب الأزليّ عند الغيبة، فإنّه عند الغيبة يحتمل بقاءُ الوجوب فيستصحب، ويُحتمَلُ بقاءُ العَدَمِ الأزليّ للوجوب، فإنَّ الصلاة عند الغيبة لم تكن واجبة أزلاً فيُسْتَصْحَبُ بقاؤه.

والحاصل: إنَّ هنا شكّاً واحداً في وجوب صَلاةِ الجُمُعَةِ بعد الغيبة ويقينان، فإنّه بهذا القيد متيقّن عَدَمُهُ من الأزل والأبد فيُستصحب هذا العدم، كمّا أنه قبل الغيبة متيقَّنٌ وُجودُهُ، فيستصحب هذا الوجود للوجوب، فيَقَعُ التعارض بينهما.

قلنا: هذا الإيراد قد نُسِبَ للفاضل النراقي  رحمه الله ([259])، وتبعه جملة من المحققين، ومنعوا من استصحاب الأحكام الشرعية.

والتحقيق في جوابه أن يقال: أنه لما كان المعتبر في النقض والبقاء في الاستصحاب هو نظر العرف، وقد عرفت أنَّ العرف يرى القيودَ المأخوذة في موضوع التكليف، ويرى الزّمان المأخوذ فيه من حالاتِ التكليف وظروفه وغير منوعة له ومقسّمة له، وإنَّ بقاء التكليف وموجوديّته به لا بقيوده، وانعدام التكليف بعدمه لا بعدم قيودِهِ، وإنَّ التكليفَ ينتقض لو رفع عنه، فإذا كان العُرْفُ يرى ذلك، كانت أدلّة الاستصحاب تشمل وجود التكليف عندما يشك في وجوده بواسطة زوال الحالة أو الزمان الذي قيّده الشارع به، أو قيّد موضوعه به، ويرى العرف عند زوال ذلك يكونُ رفعُ اليدِ عن الحكم الشرعي نقضاً له، وحينئذ فلا مجال لاستصحاب العدم الأزليّ للتكليف عند زوال القيد؛ لأن العُرْفَ يرى أنَّ التكليف باقٍ عند زوال القيد لبقاء موضوعِهِ عنده، حتَّى بَعْدَ زوالِ القيد، فالعَدَمُ الأزليُّ عند العرف قد زَاَلَ عن التكليف، حتَّى حالَ الشكّ في نفس التكليف؛ ففي المثال العُرف يرى أنَّ وجوب الجمعة موجود عند الغيبة، وإنّ عَدَمَهُ قد زال، وإنَّ البناءَ على عَدَمِهِ نَقْضٌ للحالة السابقة، والبناءُ على وجودِهِ إبقاءٌ للحالة السابقة، فعلى المكلّف الشاكّ أنْ يُبقي الحكم السابق ولا يَنْقُضُهُ، وإذا كان الأمرُ كذلك، فلا يُعْقَلُ أنْ يرى العرف عدم الوجوب الأزلي موجوداً حَالَ الغيبة حتَّى يستصحبه الشاكّ فيه، لما عرفت من أنَّ العرف لا يرى القيود منوّعة للموضوع ومُقسِّمة له حتى يستصحب هذا العدم للتكليف المقيد، فإنّ للعرف نظراً واحداً لا نظرين.

نعم، العدم الأزلي إنّما يستصحب التكليف إذا كان العُرْفُ يرى أنَّ وجود التكليف حال الشك وجوداً مستقلاً، لا إنه بقاء للوجوب السابق فيستصحب عدمه، لبقاء العدم في نظره.

لكن قد عَرَفْتَ؛ أنَّ العرف يراه وجوداً استمرارياً للوجود السابق، فلا يعقل أنْ ينظر التكليف بالنظر الاستقلالي.

وعليه: لو فرض أنَّ العُرْفَ رأى للواقِعَةِ موضوعين مُتَعَدّيين، جَرَى استصحابُ العَدَم الأزليّ للوجوب للموضوع الآخر المشكوك الوجوب، كما لو قال الشارع: صومُ يوم الخميس واجبٌ، فإنّ العرف يراه موضوعاً غير موضوع صوم يوم الجمعة، فيستصحب عدم وجوب صوم الجمعة، لكن بخلاف ما إذا قال: صم إلى المغرب، ولم يعلم المغرب أنه بسقوط القرص أو ذهاب الحمرة المشرقية، فإنَّ العرف يرى أنَّ وجوب الصَّوم حتَّى سقوط القرص عين وجوب الصوم حتى الحمرة المشرقية فيستصحبه، فعلى الفقيه أنْ يدرك نظر العرف عندما يشك في البقاء.

وكيفَ كان؛ فلا وَجْهَ لدعوى المعارضة بين الأصل الوجوديّ للحكم والأصل العَدَميّ له؛ لأنَّ العرف إنْ كان يَرَى أنّ بتغير القيد، أو بتبدله، أو اختلاف الزمان للحكم، أو موضوعه من قبيل تبدل الحالات، أو تغير الظروف، وإنَّ الشك في الحكم بسبب ذلك شكٌ في بقاء ذلك الحكم السابق لذلك الموضوع الذي كانَ ثابتاً له، جَرَى الاستصحاب، ولا معنى للاستصحاب الأزليّ لعدم الحكم، حيثُ أنَّ الفرض أنَّ العرف يراه شكّاً في بقاء وجود الحكم السابق، ولا يراه شكاً في بقاء عدم أزلي لحكم جديد، نظير الشك في بقاء وجود الأشياء الخارجية، كزيد وعمر بواسطة تبدل الحال أو الزمان.

وأمّا إنْ كانَ العرف يرى أنَّ الشكَّ في الحكم بسبب تغيّر القيد شكّاً في ثبوته لموضوعٍ آخر لا لذلك الموضوع الأول، فيكونُ شكُّهُ شكّاً في حُكْمٍ آخر لموضوع آخر، فيستصحب عدمه الأزلي، ولا يجري استصحاب الحكم السابق؛ لأنه ليس الشكُّ شكّاً في بقائه، وإنّما هو شكٌّ في موضوعٍ جديد، فالميزانُ نَظَرُ العرف إلى موضوع التكليف، وأنه واحدٌ بوحدة توجب عدم تعدده وتنوعه، وإن كان بحسب الشرع ودقة العقل متعدد ومتنوع.

والمحكيّ عن المرحوم الشيخ الجليل الشيخ عبد الكريم القمي  رحمه الله ([260])، بتوضيحٍ منّا، حيثُ لم تحضرني دُرَرُه: أنّه لا معارضة بين الاستصحابين، فإنَّ فرض الكلام أنَّ العُرف يرى أنَّ موضوع التكليف باقٍ، وإنَّ التغيّر الذي طرأ عليه لم يؤثّر على بقائه، فتدلُّ أخبار الاستصحاب على بقائه في ثاني الحال، وحينئذٍ فيستفاد من دليل التكليف بضميمة أدلّةِ الاستصحاب بقاءُ التكليف المطلق الغير المقيّد بالحال الأول، ولا بالحال الثانية، فيكونُ في المثال المتقدم وجوب الجمعة مطلقاً، سواء قبل الغيبة أو بعدها، والاستصحاب العدمي إنما هو بالنّظر للتكليف بعد تغيُّر الحالة السابقة، فإنَّ التكليف المقيّد بما بعد تلك الحال كان مَعْدُوماً في الأزل فنستَصْحِبُ عَدَمَهُ، وهذا الاستصحابُ إنّما يقتضي رَفْعَ التكليف المقيّد، وهو لا يُنافي ثبوتَ التكليف المطلق، فإنَّ وجوب الجمعة بقيد أنّه بعد الغيبة، وبخصوصيّة أنّه بما بَعْدَ الغيبة ليس بموجُودٍ، وإنّما الموجود هو وُجوبُ الجُمُعَةِ مُطْلَقاً قبل الغيبة وبعدها، فالاستصحابان جاريان ولا معارضة بينهما([261]).

إن قلتَ: لا وجه لاستصحاب الأحكام الشرعية؛ لأنَّ الاستصحاب إنما عمل به حيثُ لا نَصَّ على الحكم الشرعيّ، وقد ثَبَتَ بواسطة تواتر الأخبار بأنَّ كُلَّ ما تحتاج إليه الأمة وَرَدَ فيه خطابٌ شرعيّ، حتى إرش الخدش.

قلنا: أنه قد ثَبَتَ إنّه كثيرٌ مما وَرَدَ مخزونٌ عند أهل الذكر  عليهم السلام .

إنْ قلتَ: تواترت الأخبار بحصر المسائل بالنسبة إلى الأحكام الشرعية في ثلاثة أقسام: بَيِّنٌ رُشْدُه، وبَيِّنٌ غَيِّهُ، ومُشتَبِهٌ أمُرُهُ يَتَوقَّفُ فيه([262]).

قلنا: أخبار الاستصحاب حاكمة عليه؛ لأنها تُوضِّحُ الحكم الشرعي وتبينه.

حجية الاستصحاب في الشك من جهة المقتضي أو الرافع

المورد الثاني: الذي وقع الكلام فيه، وهو محلُّ الابتلاء، هو: عُموم الأدلَّة لصورةِ الشَّكّ في البقاءِ من جِهَةِ الشكَّ في المقتضي، أو من جهة الشكَّ في الرافع، بمعنى أنّ أدلّة الاستصحاب تعمُّ الشكَّ في البقاء، سواء كانَ الشكُّ في البقاء للمتيقَّن السابق من جهةِ الشكّ في اقتضائه للاستمرار واستعداده للبقاء، كما لو شُكَّ في بقاءِ الزّوجية المنقطعة للشكّ في مدّتها، أو من جهة الشكّ في وجود الرافع والمزيل لبقاء المتيقن، بحيث مع عدم هذا الرافع يكونُ وجوده مستمّراً، كالموجوداتِ التي حُدوثها مُوجِبٌ لدوامِها واستمرارها، إلاّ إذا جاء الرّافِعُ لها كالملكية، فإنَّ حُدوثَها مُوجِبٌ لدوامها، إلاّ إذا حَدَثَ الموتُ، أو النقل من المالك، فإنَّ الشكَّ في بقائها لا يكونُ إلا شكاً من جهة الرّافع لها؛ لأنَّ المقتضي لبقائها هو حُدوثها، ومثل الزوجية الدائمة، والطهارة، والنجاسة، أو كان المقتضي لها محرز، كالحمّى الناشئة من الإمساك، فإنّه قد يُشَكُّ في بقائها من جهة تأثير الدواء، مع إحراز المقتضي لها.

وكيف كان؛ فلا وَجْهَ لما عن بعض أساتذة العصر من تقييد الشكّ في الرافع بما كان حدوثه علّة لبقائه([263]).

وقد ذهب الشيخ الأنصاري  رحمه الله  إلى حُجّية الاستصحاب في خصوص صُورَةِ الشكّ في الرافع([264])، وينسب هذا القول للمحقق الحلي  قدس سره([265])، وللخوانساري في شرح الدروس([266]).

وقد يستدل عليه: بأنّه القَدَرُ المُسَلَّمُ من الأدلّة هو ذلك؛ لأنّ الإجماع لو تمَّ، والسيرة لو ثبتت، فهما إنّما يكونان حُجّة في القَدُر المتيقّن منهما، والقَدْرُ المتيقن من ثبوتهما هو صورةُ الشكّ في الرافع([267]).

وأمَّا الأخبار: فلأنَّ المرادَ من اليقين في قضيّةِ (لا تنقضُ اليقين بالشك)، هو المتيقَّن، لا نفسُ اليقين؛ لأنه لا إشكال في أنه قد انتقض بالشكّ قطعاً، ولا آثار نفس اليقين؛ لأنَّ هذه القضية قد ذكرت في الأخبار، للنّهي عن نقض آثار المتيّقن، كالطهارة ونحوها، فاليقينُ مأخوذٌ فيها على سبيل المجاز في المتيقن، ولا يَصِحُّ نسبةُ النَّقْضِ إليه، إلاّ إذا كانَ المتيقَّنُ مما كان له البقاء والاستمرار؛ لأنَّ حقيقةَ النَّقض هو حل الشيء المستحكم إبرام أجزائه، ولذا ينسب للغزل، فيقال: (هذه نقضت غزلها)، وينسب للبناء فيقال: (نقض البناء، إذا هدمه) وينسب إلى الحبل، فيقال: (نقض الحبل، إذا حل أجزاءه)، ويقال: (أنقضت الأرض، إذا خرج نباتها منها)؛ فإذا كان المتيقن مّما كانَ له الدوام والاستمرار يكونُ مبرماً مستحكماً، ويكون رفع اليد عن بقائه للشكّ في وجودِ رافع بقاؤه نقضاً له.

أمّا إذا لم يكن كذلك، بأنْ كانَ الشكُّ فيه من جهة الشكّ في دوامه، لم يكن مستحكَماً مُبْرَماً، فلا يكونُ رَفْعُ اليد عنه نقضاً له، ومن المعلوم إنّما يحرز بأنَّ المتيقّن له الدوام والاستمرار، لولا الرّافعُ المشكوكُ إذا أحرز وجود المقتضي لدوامه واستمراره، ولو على نحو الإجمال، وإلاّ فالشيءُ الممكِنُ في نفسه ليس له الدوام والاستمرار.

فتلخَّصَ: إنَّ النهيَ عن نقض المتيقَّن عبارةٌ عن ترتيب آثاره عليه عند إحراز استمرار وجوده لولا رافعه.

وبتقريب آخر لأستاذنا المحقق الشيخ كاظم الشيرازي  رحمه الله ، بأنَّ: حقيقة النقض لم يمكن إرادتها في المقام، فلابُدَّ من إرادة المعنى المجازي للنقض، ولا مناصَ عن اختيارِ الأقرب للمعنى الحقيقيّ، وليس هو إلاّ رَفْعُ اليد عن الأمر الثابت المستحكم، ولو بحسب المقتضي، وإطلاقُ النَّقض على مطلق رفع الأمر، وإنْ لم يَكُنْ فيه مقتضى البقاء، وإنْ كانَ صحيحاً أيضاً، إلاّ أنَّ الواجب عند تعدُّدِ المجازات هو المصير إلى أقربها.

وبتقريب آخر للمرحوم الشيخ عبد الحسين الكاظمي: إنَّ ظاهر الرواية لا يَعُمُّ مطلق اليقين بالشيء، بل المراد منها ما يصحُّ إسنادُ النقض إليه، والذي يصحُّ إسناد النقض إليه هو اليقينُ الذي تعلَّقَ بالشيء، الذي يكون حدوثه يقتضي استمراره، فإنّه هو الذي يصحُّ إسنادُ النقض إليه عند عَدَمِ العَمَلِ به في الزمن اللاحق.

وقد أجاب صاحبُ الكفاية: بأنَّ النقض تَعلَّقَ باليقين، وهو فيه الاستحكام والإبرام في تحقُّق المتيقّن، وليس هو مثل الظنّ والوهم والشكّ، وهو كاف في صحة تعلّق النقض به حتّى لو كان الشك من جهة المقتضي([268]).

ورَدَّ على صاحبِ الكفاية أستاذُنا الشيخُ كاظم الشيرازي  رحمه الله ، بتوضيح منّا: إنَّ الاستحكام في اليقين المدّعى في المقام إنْ كان بالنسبة إلى زمانِ أصلِ وجود المتيقّن فهو صحيحٌ، إلاّ أنّه لا ينفع في المقام؛ لأنَّ متعلَّق النقض هو بقاءُ المتيقَّن، لا أصل وجوده، مع أنَّ اليقين بالنسبة إلى أصل وجود المتيقن في الاستصحاب لم ينتقض؛ لأنه مفروض البقاء؛ وإنْ كان الاستحكام في اليقين المدّعى في المقام بالنسبة إلى بقاء المتيقن، فنمنعُ استحكامه، لفرض الشكّ في بقاء المتيقن.

إن قلت: إنَّ المراد هو الأول، أعني: الاستحكام في اليقين بالنسبة لأصل وجود المتيقن، وحيثُ في الاستصحاب يلغى عرفاً التقييدُ بالزمان في المتيقن بين أصل وجوده وبين بقائه، فكان وجودُهُ في الزَّمانِ الثاني عَيْنُ وجودِهِ في الزمان الأول عرفاً، وصَارَ عَدَمُ ترتيب الآثار على بقائه في الزَّمان الثاني نَقْضَاً لليقين بالنّسبةِ لأصلِ وُجودِ المتيقَّن، فيكونُ المصحِّحُ لاستعمال النَّقْضِ في المقام اجتماع الأمرين، وهما كونُ اليقين فيه الاستحكام والإبرام والثبوت في محله، والثاني عدّ المتيقن في زمان الشكّ عينه في زمان الحدوث عرفاً، فيكون رفع اليقين في الزمان الثاني كرفعه في الزمن الأول في كونه نقضاً.

قلنا: إنَّ الاستصحاب لمّا كانَ مَبنياً على اليقينِ بالحُدوثِ، والشّكُّ في البقاء كانَ ملحوظاً فيه التعدُّد الزَّمانيّ ومتقوّماً به، وإلاّ لم يَكُنْ يقيناً بالحدوث وشكّاً في البقاء، فلا يعقل إلغاءُ التعدّد الزماني فيه.

نعم، يُعْتَبَرُ أنْ يكونَ الموجودُ في الزّمان الثاني عَيْنُهُ في الزَّمانِ الأوّل عند العرف من غير جهة الزمان.

سَلَّمنا إنَّ التعدُّد الزماني مُلغىً في الاستصحاب، وإنه يكفي في صدق النقض المضاف إلى اليقين، إلاّ أنه مبنيٌ على أنْ يكون المتعلَّق للنقض هو اليقين نفسه، ومن المعلوم عدمه، لما عرفتَ أنّه ليس المرادُ عدم نقض نفس اليقين ولا أحكامه، وإنّما المرادُ به عَدَمُ نَقْضِ المتيقّن وأحكامه، فيكونُ المتيقن هو متعلق النقض حقيقة، فيجب أنْ يراعى حاله من كونه فيه اقتضاء الاستمرار والإبرام؛ لأنه إذ ذاك تكون أجزاؤه لها هيئة اتصالية استمرارية، يتعاقب بعضها ببعض، ومبرم بَعْضُها ببعض لاستمرارها، فيصحُّ إذ ذاك نسبةُ النقض إليه عند رفعه، وعَدَم ترتيب آثاره عليه؛ لأنَّ الرفع يكونُ حَلاً لهيئة الاستمرار بين الأجزاء، وفكّاً لإبرام بَعْضِها عن بعض.

إنْ قُلْتَ: إنّا سَلَّمْنا أنَّ المراد حقيقةً هو المتيقَّن، لكنَّ ذلك يُتَصوّرُ على أنحاء ثلاثة:

أحدها: أنْ يكون ذلك بالتجوّز واستعارة اليقين للمتيقّن، نظير استعارة الأسد والتجوّز به عن زيدٍ في قولك: (جاء الأسد عارضاً رمحه)، مريداً بذلك زيداً.

وثانيها: بالإضمار بإرادة أحكام المتيقّن الثابتة بواسطة اليقين، حتى يكون الملحوظ بالذات هو المتيقن.

ثالثها: أنْ يكون ذلك على نحو الكناية، بأنْ يكون نسبة النقض إلى اليقين بنحو الحقيقة، لكن بعنوان مرآتية اليقين، وطريقيته للمتيقّن، فإنّه لازمه، وإنْ كان هو أنْ يتعلّق النقض باليقين، إلاّ أنّه من قبيل الكناية عَنْ عَدَمِ نَقْضِ المتيقن، نظير الكناية بكثرة الرماد عن الكرم.

وعليه: فيكونُ الملحوظُ بالذّاتِ هو نفس اليقين لا المتيقّن، ويصحُّ النّسبةُ إليه، لما فيه من الاستحكام، وإنْ لم يَكُنْ المتيقَّن فيه اقتضاءُ الاستمرار والاستحكام، فتكونُ القضيّة المذكورة إنشاءاً للنهي عن عدم النقض لليقين أولاً وبالذات، لينتقل منه إلى لازمه، كما إذا أراد المخبر بأنَّ زيداً كثير الرّماد، هو كثرة رماده، لينتقل إلى كرمه وجوده.

وعليه: فلعلَّ المرادُ بالقضية هو المتيقَّن، لكنْ بهذا النحو الثالث، وهو يشمل المتيقَّن، سواء كان فيه استمرارُ الدّوامِ أو لا.

قلنا: إنَّ ما ذُكِرَ من الكناية لا يَنْفَعُ في إثباتِ الدَّعوى، لإمكانِ أنْ يكون الاستعمال وَقَعَ على النَّحو الأوّل، ولا مُعيّن لأحدهما على الآخر، فيكون حَمْلُ الرّواية عليه بلا سَنَد، ولابُدَّ حينئذٍ بالأخذِ بالقَدْرِ المتيقّن من الروايات، وهو صُورَةُ الشكّ في الرافع، مع إحراز المقتضي، مضافاً إلى أنّ التجوّز في المقام أرجح إرادته من الكناية؛ لأنَّ الكناية تحتاجُ إلى ملاحظة أمرين: ملاحظة الاستحكام في اليقين، وملاحظة وحدة متعلّق اليقين بالنسبة للزمان الأول والزمان اللاحق، يعني إلغاء التعدد الزمني.

وأمّا على التجوّز، فيحتاجُ إلى أَمْرٍ واحد، وهو ملاحظة الوجودات المتدرّجة للمتيقّن المستمرّ، كأنّها مُبْرَمٌ بعضها ببعض، فالتجوّز يحتاج لملاحظة مسامحة واحدة، وهي تنزيلُ الأجزاء في اتّصالها الاستمراريّ منزلة المبرم بعضها ببعض، بخلاف الكناية فإنها تحتاج إلى مسامحتين:

أحدهما: تنزيلُ اليقين بالنسبة لمتعلقه منزلة الأمر المستحكم المبرم أحدهما بالآخر.

والثانية: تنزيلُ مُتعلَّق اليقين بالنسبة إلى اليقين، بحيثُ ينزل اليقين في الاستصحاب بالنسبة إلى حُدوثِ الشيء وبقائه منزلة اليقين بنفس الشيء.

ولا إشكال أنَّ الأول أقلَّ عنايةً وأقرب إلى الحقيقة، فيكونُ هو المتعيّن؛ لأنه أقل كلفة، وهو يقتضي أنْ يكونَ المتيقَّن مستمرّ ومتماسِكٌ بوجوداته المتعاقبة، بحيثُ يكون انعدامه في أثنائها كأنه فلٌّ وفكٌّ للمفتول، ونقضٌ للمغزول، وهذا إنّما يتصوّر إذا فرض وجود المقتضي له في زمان الشك.

هذا غايةُ ما يُمكن أنْ يقال في تقريب قول المفصّلين بين الشكّ في المقتضي والرافع، لكن لا يخفى ما فيه:

أولاً: إنَّ ظاهر قضية (لا تنقض اليقين بالشك)، هو نسبة النقض لليقين، لا المتيقن، وهي إنما كانت باعتبار ارتباط اليقين بالمتيقن، فإنَّ ارتباطه به ارتباط محكم لا يزول بالسهولة والسرعة، بخلاف ارتباط الظن والوهم والشك بمتعلقاتها، فإنها تزول عنها بالسرعة، ولا ريب إنّ عدم ترتيب وجود المتيقن على اليقين، أو عدم ترتيب آثار المتيقن على اليقين، يكون نقضاً لليقين نفسه حقيقة، كما في نقض البيع، أو العهد، أو اليمين، أو البيعة، فإنّ النقض ينسب إلى نفسها حقيقة عند عدم ترتيب آثار المعاهد عليه، أو المقسم عليه، أو المبايع عليه، فالمتيقّن إذا لم يُرتّب آثاره عليه صَحَّ نسبةُ النقض إلى نفس اليقين المتعلق به حقيقة، وإنْ لم يكن حقيقةً، فمجازاً بالتشبيه، لاستحكام اتّصال اليقين بالمتيقّن، وقوّة ارتباطه به، وشدّة إبرامه به، بإبرام أجزاء الحبل، وحيث كان المتيقن في الاستصحاب عند العرف واحد، وإنّ المتعدد هو زمانه كسائر الموجودات المستمرة، كان عند العرف عدمُ ترتيب آثار المتيقن في الزمان الثاني نقضٌ لليقين حقيقة، أو مجازاً يقرب للحقيقة، نظير نقض البيعة بعدم ترتيب آثار المبايع عليه، واليمينُ عند عدم ترتيب آثار المقسم عليه، فمَنْ تيقَّنَ بوجودِ، زَيْدٍ ثُمَّ شَكَّ في وجوده، ولو من جهة عدم استعداد وجوده للبقاء، فإنَّ العُرْفُ يرى إنَّ عَدَمَ ترتيبِ آثارِ وُجودِهِ نَقْضَاً لليقين؛ لأنه يَرَاهُ وجوداً واحداً للمتيقن مستمراً، وإنْ تَعدَّدَ الزَّمَنْ، فإنَّ الزَّمانَ ليس من مقوّمات الوجود حتَّى يكون مُوجباً للتعدُّد، فلا مَجَاز في المقام، ولو وُجِدَ المجازُ فهو إنّما يَكونُ بالنّسبة لتشبيهِ ارتباطِ اليقين بمتعلّقه، بارتباطِ أجزاءِ الحبل والبناء، ولا مجازَ حِينئذٍ في نسبة النقض، نظير (أنشبت المنية أظفارها)، فإنّه لما شَبَّهَ المنيّة بالأسدِ المفترس وجَعَلَها من أفراده، كان نسبة الأظفار لها على سبيل الحقيقة.

هذا مع التَنَزُّلِ، وإلاّ فإنَّا نقول: إنَّ النَّقْضَ هو حَلٌّ وفَكٌّ لكلِّ ارتباطٍ، سواء كان للارتباطِ بينَ أجزاء الحبل، أو البيعة بالنسبة للمبايع عليه، أو نحو ذلك، فإنَّ العُرْفَ لا يرى أنّ أدنى تجوز، ولا أيّ تنزيل في نسبته لليقين، أو البيعة، أو اليمين، أو نحو ذلك.

وعليه: فالروايات تَشْمَلُ صورة الشكّ في البقاء من جهة الشكّ في المقتضي، كما تشملها من جهة الشك في الرافع للحقيقة.

والحاصل: إنَّ النَّقْضَ المستعمل في المقام إنّما هو باعتبارِ إنَّ شدَّة الارتباط بين اليقين والمتيقّن تنحلُّ وتنفَكُّ عند عَدَمِ الأخذ بالمتيقَّن، وعدم ترتيب آثار المتيقن على اليقين سابقاً، لا باعتبار انحلال استحكام المتيقَّن وانفكاك إبرامه بذلك، ولا باعتبار اليقين وحده، بل إنّما هو باعتبارِ اليقين بالنسبة للمتيقَّن عند عَدَم الأخذ بالمتيقّن، وعدم ترتيب آثاره عليه.

وفيه ثانياً: إنَّ المراد بالنّقض هو مُطْلَقُ الرّفع والإبطال والإفساد، فإنّه كثر استعماله في ذلك كقولهم: (نقيضُ كُلِّ شيءٍ رفعه)([269])، ومنه نقائضُ جرير([270])، ونقائض المتنبي([271]).

والقرينة على إرادة هذا المعنى منه في المقام ما وَرَدَ في جملةٍ من الأخبار في سياق تلك (القضية) من قوله  عليهم السلام : (لكنّه ينقض الشكَّ باليقين)، فإنَّ ظاهر السياق أنَّ وجه إسناد النَّقْض إلى اليقين هو بعيْنِهِ وَجْهُ إسناده إلى الشك، ومن المعلوم أنَّ الوجه في إسناد النقض للشك، هو كونُ اليقين رافعاً للشكّ، فليكن الأمر في إسناد النقض لليقين كذلك، لوحدة السياق.

وفيه ثالثاً: بأنَّ الأخبار الدالّة على حُجيّة الاستصحاب غيرُ منحصرة بما اشتَمَلَ عليه لَفْظُ النقض، بل هناك أخبار لم تشتمل عليه، كموثقة عمّار عن أبي الحسن  عليهم السلام  المتقدمة، وخبر الصفّار المتقدم في صوم يوم الشكّ، وخبر عبد الله بن سنان المتقدم، ورواية الخصال المتقدمة، التي صَرَّح المجلسي  رحمه الله  عنها بأنها في غاية الوثوق.

ودعوى أنّ هذه الرواية، أعني: رواية الخصال مشتملة على الأمر بالإمضاء، وهو مساوق للنهي عن النقض؛ لأنّ الإمضاء هو الجري فيما له إثبات ودوام؛ مدفوعةٌ بأنّها مشتملةٌ على المضيّ على اليقين السابق، وهو عبارة عن تنفيذه والعمل على طبقه، ولا يلزم من الجري على الشيء أنْ يكون له الدوام والاستمرار، فإنّه يقال: فلانٌ مَضَى وجَرَى على سيرَةِ القُدَمَاء، مع أنَّ سيرَتَهُم ذَهَبَتْ بذهابهم.

ودعوى أنّها أيضاً مشتملةٌ على الدفع، وهو إنّما يكونُ في الشيء له الاستمرار والثبوت؛ مدفوعةٌ بأنَّ الدفع غيرُ الرفع، والدّفع هو المنع عن الشيء والحيلولة دونه، ولا يقتضي وجود المدفوع وثبوته، ولذا يقال: هذا الحرز يدفع الأذى عنك، ويدفع عنك الحمّى، وإنْ لم يوجد الأذى ولا الحمى؛ نعم، الرفع يقتضي ثبوت المرفوع.

حُجيّةُ الاستصحاب عند الشكّ في التكليفيّ أو الوضعي

المورد الثالث: الذي وَقَعَ فيه النزاع، ويكثر الابتلاء فيه، هو عمومُ أدلة الاستصحاب للشكّ في الحكم، سواء كانَ تكليفياً أو وضعياً.

أمّا الحُكْمُ التكليفيّ، كالوجوب والحرمة فواضِحٌ؛ لأنّه مَجْعولٌ للشارع، وجعله ورفعه بيده.

وأمّا الوضعي، فَما كانَ مَجْعولاً للشّارع بالذات، فهو كذلك في جريان الاستصحاب فيه؛ لأنه كالحُكْمِ التكليفيّ، وضعه ورفعه بيد الشارع، فيجري فيه ما يجري فيه، وما كان من الحكم الوضعي غير مجعول للشارع، ولكنه له أثر شرعي، فيجري أيضاً الاستصحاب فيه، كما يجري في الموضوعات الخارجية ذات الآثار الشرعية.

وأما ما كان من الحكم الوضعي ما هو مجعول بالتبع لجعل التَّكليف الشرعيّ، فإنّ أمر رفعه ووضعه، وإنْ كانَ بيدِ الشارع، لكون منشأ انتزاعه بيد الشارع رفعُهُ ووضعُهُ، فهو مما تناله يَدُ التصرُّف من الشارع بالتَّبع، إلاّ أنَّه لا مجال لاستصحابه لأنه مُسبَّب عن منشأ انتزاعه، والاستصحابُ في المسبَّب لا يجري؛ لأنه محكومٌ لاستصحاب سببه، ومنشأ انتزاعه، وتوضيحُ الحال، وتنقيحه يحتاج إلى ذكر أمور:

الأول: إنّ الحكم من مقولةِ الإنشاء، الذي هو عبارةٌ عن الجعل والإيجاد، الذي هو من أوصاف المنشئ، والوجود له وجود وتحقُّق في عالم نفسه، كما له تحقُّقٌ في الخارج بواسطة اللفظ الدالّ عليه ونحوه، ومنه يظهر أنَّ الوجوب والحرمة ونحوها، والكراهة والاستحباب ليست بأحكامٍ، بَلْ هي محكومة بها، إذ الحكم من مقولة الإنشاء، وهو قائم بنفس الحاكم، فلا ربط له بالمحمولات المنتسبة إلى متعلّقاتها، فإنَّ تلك المذكورات من المحمولات القائمة بالفعل، حاصلةٌ من الإيجاب والتحريم، ولا رَبْطَ لها بالحُكْمِ أصلاً، وتسمية الفقهاء لها بالحكم مسامحة، باعتبارِ كونها من لوازمه.

الثاني: إنّ الجعل في الشرعيات مساوق للخلق في التكوينيات، وليس الجعل إلا عبارة عن الإنشاء، الذي هو من أوصاف المنشئ، وهكذا الخلق عبارة عن الإيجاد، الذي هو من أوصاف الموجب، وهذا الإنشاء والجعل إنْ تعلق بالتكوينيات والموجودات الخارجية، فالتغاير بينه وبين متعلقه حقيقي، والإضافة في مثله لامية، وإنْ تعلَّق بالأمور القائمة في النفس كالجعل المتعلّق بالطلب القائم بنفس الطالب، وبالحكم القائم بنفس الحاكم، والبيعُ القائم بنفس البائع، ونحو ذلك من الأمور التي يكون تحقُّقها بصدورها وقيامها بنفس فاعلها، فالإضافة بيانية، ولا مغايرة بينه وبين متعلَّقه إلا بالاعتبار، فإنشاءُ الحكم والطلب والبيع، ونحو ذلك عين هذه الأشياء، ولا مغايرة بينهما إلا بالاعتبار، كمغايرة الضرب الصادر من الضارب، للضرب الواقع على المضروب.

وعلى هذا، فإنشاءُ الحكم الشرعيّ عين الحكم الشرعي، وما يلزمه من الطلبية والمطلوبية ونحوها، أمورٌ اعتبارية لا تأصُّلَ لها.

الثالث: إنّه وقع الخلافُ بين الحكماء([272]) في لوازم الماهيات، كحلاوة الحلويات، وحرارة النار وضوئها، ومرارة السمّ، هل هي مجعولات بجعل
مغاير لمحالّها، كما ذهبت إليه الأشاعرة([273])، واستدلّوا عليه بقوله تعالى: [جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا]([274])، أو أنَّها منجعلة بجعل محلّها، كما ذهب إليه المعتزلة([275])، وأشار إليه ابن سينا بقوله: وما جعل الله المشمش مشمشاً بل أوجده على هذا، فالسببية كسببية البول للطهارة في الصلاة، وكالكسوف لوجوب الصلاة، أو الشرطية كشرطية الاستطاعة للحج، والمانعية، كما نصّ به الدين
 من وجوب الحج على المستطيع، والقاطعية كقاطعية الضحك للصلاة، وقاطعية قصد الإقامة للسفر وأمثال ذلك، من قبيل لوازم الماهية في عدم تأصّلها، كالطالبية والمطلوبية، وليست بهذا الاعتبار من مقولة الإنشاء القائم
بنفس المنشئ، بل تكون من العوارض والتوابع الطارئة التي يحكم بها العقل على جعل الحكم الشرعي.

فالمجعولُ الشرعيُّ بالذات هو الحكم التكليفيُّ، مُقيَّداً بوجودِ شيء، أو عَدَمِهِ، فينتزع منه العقل سببية ذلك الشيء، أو مانعيّته، أو قاطعيّته، ولا منشأ لانتزاعها سوى ذلك، كما يذهب إليه المنكرون لجعلها، أو أنها لها وجود منشأ انتزاع خاصّ لها، مغاير للأحكام التكليفية، لابدّ في جعلها من جعل الشارع لها، وتكونُ من مقولة الإنشاء القائم بنفس المنشأ، كما ذَهَبَ إليه المثبتون من أنَّ الوضعيّات المعروفة تحتاجُ إلى جَعْلٍ غير جَعْلِ الأحكام التكليفية، فإذا قال المولى: [أَقِمْ الصَّلاَةَ]([276])، يفهم منه جعلان للتكليف والوضع، وهو سببية الدلوك لإقامة الصلاة، وإلاّ فلا سببية يحكم بها العقل.

والحاصل: إنَّ المنكرين يقولون ليس عندنا إلاّ أحكام تكليفية، غايةُ الأمر أنَّ العقلُ ينتزع منها معنى يُسمَّى بالحكم الوضعي؛ والمثبتون يمنعون عنه ويدّعون أنّ كُلاً منها أمرٌ مستقلٌ مجعولٌ في عَرَض آخر.

إذا عَرَفْتَ ذلك، فنقولُ: وَقَعَ الخلاف في المسألة إلى أقوال: منهم من ذهب إلى جعلها بالاستقلال مطلقاً، وهو المنسوب([277]) إلى العلامة في النهاية، وللعلامة الطباطبائي، والسيّد الصدر في شَرْحِ الوافية، وإلى الباغنوي، والغزالي، والسيد الشريف، وصاحب المحصول، والفاضل أحمد النراقي، والمحقق الكرباسي، بل يمكن استظهاره من كلّ من نفى الجزئية أو الشرطية المشكوكتين بالأصل، فإنها لو لم تكن مجعولة عنده لما صح ذلك منه.

ومنهم مَنْ ذَهَبَ إلى النفي مطلقاً، وينسب([278]) لصاحب الزبدة([279])، وتلميذه في شرحها([280])، وللخوانساري([281])؛ ومنهم من فصل بين الجزئية، والشرطية، والسببية، والمانعية مما كان جزءاً للعلة، وبين غيرها، فأنكره في الأول، وأثبته في غيرها([282])؛ ومنهم من فَصَّل بين ما يكون مسبوقاً بالتكليف ويتبع الحكم التكليفي، كالصّحة، والفساد، والجزئية، والشرطية، ونحو ذلك، وبين ما يترتب عليه الأحكام الشرعية، كالملكية، والزوجية، والطهارة، والنجاسة، وأمثالها، فأنكر الجعل الاستقلالي في الأول دون الثاني.

ويدلُّ على قولِ المثبتين لجعلها وجوه:

أحدها: أنّه لا شبهة في عدم المناسبة الذاتية بين الأسباب الشرعية ومسبباتها، ولا بين الشرائط الشرعية ومشروطاتها، ولا بين الأجزاء الشرعية ومركباتها، كما أنّه لا شبهة في حدوثِ العُلْقة والرّبط بجعلِ الشارع للأسباب والشروط والأجزاء، أمّا لمصلحة يراها في ذلك، كما عليه العدلية، أو أنه اقتراح منه، على ما عليه الأشاعرة، وعلى كُلِّ تقديرٍ فهذه العُلْقَة لم تَكُنْ بينها قبل جعل الشارع، وإنّما حَدَثَتْ بعد حُكْمِ الشَّارع بالشرطية والسببية ونحو ذلك.

وليس جَعْلُ الحكم الوضعيّ إلاّ عبارة عن إحداث هذه العلقة، وإنشاء هذا الرّبط في عالم التشريع ومرتبة سنّ القانون وجعله.

وعلى هذا؛ فإنْ كان الخصم ينكر إحداث وجود ذلك الرّبط، وتلك العلقة، فمع أنّه يُكذِّبه الوجدان وتردّه البديهة والعيان، ويلزمه الالتزام بلغوية تقييد الطلب في مثل قوله تعالى: [أَقِمْ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ]([283])، وقوله  عليهم السلام : (لا صلاة إلا بطهور)([284])، ونحو ذلك، ضرورَة أنَّ وجود القيد مع عَدَم الربط بينه وبين المقيد، كعَدَم القيد، فلم يَكُنْ فَرْقٌ بين هذا الخطاب، والخطاب المطلق، كأنْ يقول: أقم الصَّلاة، بلا تقييد، وإنْ كانَ الخصم يعترف بالرّبط والعُلْقَة والتقييد، فيقال له: أنّه هَلْ جَاءَ بذلك الشرع أم لا.

فإنْ قال بالثاني، كَذَّبَهُ الوجدان والعيان، وإنْ قالَ بالأول، فهو المطلوب.

الثاني: إنَّ الأحكام الوضعية تفهَّم من الأدلة، كما تفهم الأحكام التكليفية الشرعية منها، فهي أحكامٌ مفهومة من الأدلّة كغيرها، فيلزم العمل بها، وإرجاعها إلى الأحكام التكليفية ارتكابٌ لِخلافِ الظّاهر، فيكونُ تصرُّف بالحجة بلا حجة.

الثالث: إنَّ الحكم الوضعيّ لو لم يكن مَجْعولاً، وكانَ منتَزَعاً عن الحكم الطلبيّ عقلاً، لاستحال انفكاكه عنه، لاستحالة تخلف التابع واللازم عن متبوعه وملزومه، والتالي باطل بالوجدان، لما نشاهده من ثبوت الحكم الوضعي في موارد يعلم بعدم الحكم التكليفي فيها، كثبوت الضّمان والجنابة والنجاسة، ونحوها في حَقّ الصبيّ والنائم والمجنون وغيرهم، بإيجاد أسبابها من إتلاف مال الغير، وإدخال الحشفة في الفرج، والإنزال، وملاقاة البول، وغير ذلك، مع انتفاء الحكم التكليفي الذي هو منشأ الانتزاع.

ودعوى أنّ الحكم التكليفي الذي هو منشأ الانتزاع أعمُّ من التَنَجُّزيّ أو الشأني، وفي المذكورات ثابت الحكم الشأني، بل الحكم التعليقي، أعني: المعلق على البلوغ، والإفاقة من الجنون، وهو كافٍ في انتزاع الحكم الوضعي.

فاسدةٌ؛ ضرورَة أنَّ البلوغ والعقل والقدرة التي هي من الشروط العامة من شروط أصل تعلّق التكليف، لا من شروط تَنَجُّزِهِ، فمَعَ انتفاءِ أَحَدِها لا تكليف شأناً، ولا فعلاً، لحكم العقل بعدم الفرق بين فاقدها، وبين البهائم والجمادات.

هذا مُضَافاً إلى أنَّ ظاهر كلماتهم هو ثبوتُ الأحكام الوضعيّة المذكورة من الضمان ونحوه فعلاً، وتَنَجُّزها بمجرّد وجود أسبابها في مواردها، مع أنَّ الحكم التكليفي لو كان موجوداً فإنّما يكون معلّقاً أو شأنياً، ولا يعقل فعليّة التابع واللازم وتَنَجُّزهما، مع انتفاء فعلية المتبوع والملزوم وعدم تنجّزهما، حيث يستحيل أنْ يكون المنتزع منجّز، والمنتزع عنه معلّقاً أو شأنياً، وحينئذٍ فلا بُدّ أما أنْ يقال: إنّ الضمان والنجاسة مثلاً أيضاً تعليقي، كالمنتزع منه، وهو خلاف ظاهر كلماتهم قاطبة، أو بفعلية المنتزع منه كالمنتزع، وهو خلافُ الإجماع، بل الضرورة، أو بمنع الانتزاع والاعتراف بأنّه مجعول مستقلٌّ في عرض الحكم التكليفي، وهو المطلوب.

مضافاً إلى أنَّ توجُّهَ الخطاب التعليقيّ إلى الصبيّ والمجنون لا يُعقل، فإنّه إنْ كانَ هو نفسُ الخطاب المتوجّه للمكلّفين أيضاً، لزم استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد، ضرورةَ أنَّ الخطاب التنجيزي غير الخطاب التعليقي، وإنْ كان بخطاب خاص، فمع أنه غير موجودٍ لدينا، يَرِدُ عليه: أنه حينئذٍ لا يمكن أنْ يكون إنشاءاً، بل يكونُ إعلاماً بأنّهم سيصبحون مكلّفين، ولا دَخْلَ للإعلام بالأحكام، مع أنَّ الإعلام بعد حصول الشرائط لا ينهض لإثبات التكليف بالنسبة إلى ما سبق سببه، ضرورةَ استحالة انقلاب الأخبار إلى الإنشاء، فلا بد من خطابٍ جديدٍ ينتزع منه الضّمان والجنابة والنّجاسَة والطهارة قبل حدوث هذا الخطاب الجديد.

ودعوى انتزاع الأحكام الوضعية المذكورة من الحكم التّنجيزي المتوجّه للولي.

فاسدةٌ؛ فإنّها غيرُ جاريةٍ في الجنابة والنجاسة والطهارة، مُضافاً إلى أنّه لازم ذلك أنْ يُضافَ الحكم الوضعيُّ للولي، لا إلى الصبيّ والمجنون، إذ الأمر الانتزاعي تابعٌ لموردٍ منشأ انتزاعه، ولا معنى لإضافة المنتزع إلى غيرِ مَنْ تَعَلَّقَ به منشأ الانتزاع.

الرابع: ما وَرَدَ في الشَّرْعِ الشَّريف من القضايا الظَّاهرةِ في جَعْلِ الحكم الوضعيّ، كقوله  عليهم السلام : (من أتلفَ مالَ غيره فهو لَهُ ضَامِنٌ)([285])، وقولُهُ  عليهم السلام : (قد جَعَلْته عليكم حاكماً)([286])، وقوله  عليهم السلام : (الماءُ كُلُّه طاهِرٌ)([287])، وسائرُ الأدلّة المثبتة للخيارات ونحوها مما هو ظاهرٌ في جَعْلِ الحكم الوضعيّ، ولا وَجْهِ لصرفها عن ظاهرها؛ لأنَّ الظاهر حُجَّة، فمخالفته تحتاجُ إلى دليل، وهو مفقود.

إنْ قُلْتَ: إنَّ المولى إذا قالَ لعبده: (أكرم زيداً إنْ جاءك)، لا يجد من نفسه أنه أنشأ إنشائين، وجَعَلَ أمرين، أحدهما وجوبُ إكرام زيد، والثاني كون مجيئه سبباً لوجوب إكرامه، بل يَجِدُ من نفسه أنَّ الثاني مفهومٌ منتزع من الأول، لا يحتاج إلى جَعْلٍ مُغايرٍ لجعله الأول، بل حتَّى لو قال المولى: (الدّلوك سبب لوجوب الصلاة)، فإنّا لا نعقل منه جعل السببية، لا بجعلٍ مُستقلٍّ، ولا بالتَّبَع، وإنما نعقل منه إنشاء الوجوب عند الدلوك، وانتزاعُ العقل السببية للدلوك، هذا كُلّه في السَّبَب والمانع والشرط.

وأمّا الصّحة والفَسَاد؛ فهُما في العبادات: موافَقَة العمل المأتيّ به للمأمور به، أو مخالفته، ومن المعلومِ أنَّ الموافقة والمخالَفَةَ ليستا مجعولَتَينِ بجَعْلِ جَاعِلٍ، وأما في المعاملات، فهُما ترتَّب الأثر على المعاملة، وعدم الترتّب، ومرجع ذلك إلى سببيّةِ المعاملة للأثر وعَدَمِ سببيّتها، وقد عَرَفْتَ أنَّ السببية غير مجعولةٍ للشارع.

والحاصل: أنَّ هذهِ الأشياء ليست بأحكامٍ مجعولة للشارع، لا بنفسها، ولا بتبع غيرها، بل هي أمّا أمورٌ واقعيّة كَشَفَ عنها الشّارع، كسببيّة الدّم للنجاسة، أو أمورٍ انتزاعيّة من الأحكام التكليفيّة كالملكية، فإنّها مُنْتَزَعَة من جواز الانتفاع بالشيء وبعوضه بلا بدل([288]).

قلنا: إنّ ما ذكره الخصم كُلُّه راجعٌ إلى دعوى الوجدان الممنوعة عليه، والمصادر العارية عن البيّنة والبرهان، ومَعَ ذلك في كلامِهِ مواقع للنظر.

منها: قوله: (لا يَجِدُ المولى من نَفْسِهِ أنه أنشأ إنشائين).

قلنا: نعم، إنّه أنشأ إنشائين، أحدهما إنشاء العلقة والربط بين المجيء وبين الوجوب، والثاني طلبُ الإكرام عند المجيء، غاية الأمر أنّه كان يخاطب واحد، ولا ضير فيه بعد ما كان دلالة الخطاب على أحدهما، وهو التكليف بالمطابقة على الآخر، وهو الحُكْمُ الوضعيُّ بالالتزام، فيكونُ الآخر مجعولاً للشارع جعلاً أصلياً لا انتزاعياً، ولكنّ استفادته من الخطاب بالتَّبَع وبالدّلالة الالتزامية، نظير ما ذكروه في قوله تعالى: [أَوْفُوا بِالْعُقُودِ]([289]) من دلالته على الصّحة التي هي الحكم الوضعي بالالتزام، فاستفادة الحكمُ الوضعيُّ من الخطاب المذكور، وإنْ كانت تبعية، إلا أنَّ ذلك لا يقتضي أنْ يكون المستفاد أيضاً تبعياً، بل المستفاد أيضاً أصلياً، بل يُمكِنُ أنْ يكون كلاهما بالمطابقة؛ بأنْ يقال: إنّ التكليف مستفاد من الأمر، والحُكْمُ الوضعيُّ مستفادٌ من التقييد بالدّلوك وبالمجيء في المثالين المتقدّمين، فيكونُ الخطاب من قبيل الدّالّين على مدلولين.

ومنها: قوله: (وأمّا الصّحة والفساد).

ففيه: إنّ ما ذكره إنّما يتوجّه إلى تفسير المتكلمين لهما بذلك، وأما بناءً على تفسير الفقهاء للصّحة عن إسقاط القضاء، والفساد عن عدمه، فيمكن دعوى تعلّق الجعل بهما، إذ هما بهذا المعنى ليسا من الأمور العقلية لا تتغير ولا تتبدل بجعل الجاعل، ولا بالأمور المنتزعة من أمرٍ آخر، بل هما مما للشارع التصرُّفُ فيهما، بأن ْيحكم بسقوط القضاء وإنْ لم يأتِ المكلّف بالمأمور به، كما في صلاة العيدين والجمعة، كما للشارع أنْ يجعل الفعل المأتيّ به المخالف للمأمور به الواقعيّ مُسْقِطاً له بناءً على إجزاء الأوامر الظاهرية عن الواقعية، كما لو صلّى باستصحاب الطهارة مع فقدها في الواقع، ونظير ذلك بذل المتبرع دين غيره، أو صداق زوجة غيره، فإنّه مسقط لوجوب الأداء عليه.

ومنها: قوله: (أمور واقعية كشف..).

ففيه: إنّها صارت أحكاماً شرعيّة بعد جَعْلِ الشّارع لها، ولو بنحو الإمضاء، مع أنه لو كانت أموراً واقعية لا تحتاج إلى الجعل، لم تكن حاجة لكشف الشارع عنها؛ لأنها إنْ كانت يعرفها العقلاء والعُرْفُ فواضحٌ، وإنْ لم يعرفها، فنحنُ نمنع ذلك، وليس هو أولى من الالتزام بالجعل لمصلحةٍ هناك تقتضي جعلها، كما اقتضت المصلحة جعل التكليف، ثُمَّ كيف يدّعي الخصم أنّها منتزعة من الأحكام الشرعية، مع أنّها أمور واقعية، إذ على هذا التقدير تكون أسبق من الأحكام.

إنْ قلت: إنّ الأحكام الوضعيّة غير قابلةٍ للجعل، فإنَّ مواردها مشتملة على خصوصية تكوينية موجبة لتلبس ذيها بالحكم الوضعيّ في عالم التكوين والإيجاد، فالسَّبب، والشرط، والمانع، والرّافع للتكليف، لم تتصف بهذا الوضع والحكم، إلا لأجل تلك الخصوصية، وإلاّ لزم أنْ يكون كُلُّ شيءٍ متصفاً بهذه الصّفات، ومن المعلوم أنَّ مجرَّد الإنشاء لمفاهيمها، مثل أنْ يقول: (دلوك الشمس سبب لوجوب الصلاة)، إنشاء لسببية الدلوك، لا يوجب سببية الدلوك لوجوبها ما لم يكن في الواقع خصوصية في الدلوك توجب الوجوب للصلاة، وعليه فيكون إنشاء الحكم الوضعي كاشف عن وجود تلك الخصوصية، لا أنه موجد لها، بخلاف إنشاء سائر الأحكام، فإنّه موجد لها، فسببية العقد أو الحيازة ونحوها لجواز التصرف، وشرطية الاختيار في التصرف لتأثيرها وعدم المانع منها من سبق عقد الغير أو حيازته أو نحو ذلك من أجزاء العلة، كلها أمور واقعية تكوينية، كشف عنها الشارع، ولم يجعلها الشارع.

قلنا: إنَّ الجواب عن ذلك بالنقض بنفس التكاليف، فإنّها لابُدَّ وأنْ تكون لخصوصية في موردها.

وعليه: فيكونُ إنشاؤها كاشفاً عن تلك الخصوصية، وليس بكاشف عن الجعل للشارع لها.

وبالحلّ: نُسلِّمُ أنّه لابُدَّ من خصوصية، لكن تلك الخصوصية تقتضي جعل مَنْ بيده الجعل السببية للتكليف، أو الشرطية له، أو نحو ذلك، حيث يرى المصلحة تقتضي ذلك، كما أنَّ رؤيته للمصلحة الواقعية في العمل تقتضي إيجابه أو تحريمه.

والحاصل: إنّ السببية التشريعية للتكليف أو سائر أجزاء علّته مثلاً، فإنها وإنْ كانت تتوقّفُ على كونِ الشيء ذا خصوصيّةٍ في الواقع، ومصلحة في نفس الأمر مقتضية لترتّب التكليف عليه، إلاّ أنّه نفسُ الجَعْل لها من الشَّارع في عالم الإنشاء يكونُ لأجل حُصولِ تلك الخصوصية والمصلحة في الخارج، فالمجيء بذاته، والدّلوك في نفسه، والجنابة في الواقع، وإنْ كانت فيها خصوصية ومصلحة تقتضي التكليف بالإكرام والصّلاة والغسل، إلا أنَّ حصول تلك الخصوصية تحقّق تلك المصلحة لا يُحصِّلُها العَبْدُ ولا يظفر بها المكلف، إلا بعد جَعُلِ الشَّارع لها سبباً أو شرطاً أو نحو ذلك للتكليف، نظير الخصوصيات والمصالح في الأعمال الموجبة للتكليف بها.

وإنْ شئتَ قلتَ: إنَّ المصلحة المقتضية للتكليف لا تتحقّق إلا بعد حصول تلك الأمور، فالمولى جَعْلها أسباباً ليحصل العبد المصلحة المقتضية للتكليف.

إنْ قلتَ: إنَّ السبب للحكم، والشرط له، وعدم المانع، والرافع، كلها في مرتبة العلّة لصدور الحكم من الحاكم، فالإرادةُ للحكم، والمصلحة الموجبة له، لا يُعْقَلُ أنْ تكون مجعولة من الحاكم للحكم.

قلنا: مَحَلُّ كلامنا ليست هذه الأمور التي هي في مرتبة العلة لصدور الحكم، فإنّها بالنسبة إلى الحكم يكون اتّصافها بحسب التكوين لا بحسب التشريع، لا بالذات ولا بالتَّبع، فإنَّ الإرادة من الحاكم للحُكْمِ سَبَبٌ تكوينيّ لصدوره منه، وإنّما مَحَلُّ كلامنا هذه الأمور التي هي في مرتبة الموضوع والمتعلّق للحكم الشرعيّ، بحيث يكونُ جَعْلُه وثبوته منوطاً بها، كالدلوك، والقدرة، وعدم الجنون لوجوب الصلاة، والاستطاعة للحج، وبلوغ النصاب للزكاة.

وذَهَبَ أُستاذنا الشيخ كاظم الشيرازي  قدس سره في هذا المقام، بتوضيح منا: أنَّ مُرادَ القوم بكونِ الوضع مجعولاً وعدمه بقرينة ما رتّبوا عليه من جواز الاستصحاب، نظير استصحاب الأحكام التكليفية، وعدم جوازه إلا بتبع استصحاب منشأ الانتزاع، نظير الأمور الاعتبارية، هو جعلها بالجعل التشريعي على نحوٍ يكونُ للتعبّد ببقائها أثرٌ عمليٌّ خارجيٌ، كما إنَّ التعبد ببقاءِ التكليف له عَمَلٌ خارجيٌ، كالطّاعة أو العصيان، فَمَرْجِعُ النزاع إلى أنَّ الأحكام الوضعية هل لها عَمَلٌ خارجيٌّ صَحَّ باعتباره جَعْلُ البقاء والاستصحاب التشريعيّ لها، كالأحكام التكليفية أم لا؛ فالقائلُ بعَدَمِ الجعل، يقولُ: نَحْنُ لا نعقل لغير التكليف أثرٌ من طاعَةٍ أو عصيانٍ يُعبِّدُنا الشارعُ ببقائه باعتبار ذلك الأثر؛ والقائل بالجعل يَدَّعي وجودَ ذلك، وأنَّ الأثر هو الإتيانُ بالتكليف عند حصول السبب، وإتيان الجزء في ضمن امتثال الأمر بالشكل، وعليه؛ فالجزئية والسببية تستصحب مع سبق اليقين بوجودها، وترفع عند الجهل بها مع عدم اليقين السابق بها، باعتبار ذلك الأثر.

ثمّ اختار  رحمه الله  على هذا المبنى الوجه الأول، وهو عَدَمُ الجعل لعدم عمل خارجيٍ لنفس جعل بقائها، وما ذكر من الأثر في الأمثلة المتقدمة إنما هو أثر عَمَليٌ للتكليف بالكُلّ، أو لتعلّق التكليف بالجزء في ضمن الكلّ، ولا أثر عملي لنفس الجعل للبقاء حتى في الملكية والولاية والقضاء، ومجرّد أنّه يجعل بجعل من له الأمر لا يصحّ جَعْلُ بقائها إذا لم يَكُنْ لها عَمَلٌ تَعَبُديٌ، وحينئذٍ لابُدَّ في استصحابها من أثرٍ عملي في الخارج، كاستصحاب الموضوعات الخارجية، بل كاستصحاب الأحكام الشرعية إذا رتب عليها أثر شرعي.

والحاصل: إن الأحكام الوضعية كالموضوعات الخارجية، لابد في استصحابها من ملاحظة التكاليف المرتبة عليها، التي تكون هي بمنزلة الموضوع لها، ولا ريب أنّها في هذه المرتبة يكونُ استصحابُها مثلُ استصحاب الموضوعات الخارجية، لا يصحُّ بدون ترتّبِ أثرٍ شرعيّ عليها، ولا نعقل أمراً غير التكليف قابلاً لوضع بقائه ورَفْعِهِ بعنوانِ المولويّة المؤثرة. هذه خُلاصَةُ مرامه، رفع الله مقامه، وأنتَ بعد ما أوضحنا لك الحال تَعْرِفُ حقيقة هذا المقال.

 دفـــع تــوهــم

هذا، وقد يُتَخيّلُ أنَّ الاستصحاب لا يجري في مثل الشرطية، والسببية، والمانعية؛ لأنَّ الشكَّ فيها مسبَّبٌ عن الشكَّ في منشأ انتزاعها، فإذا شككنا في شرطيّة الاستقبال للصلاة مثلاً، نجري الاستصحاب في منشأ انتزاعها، وهو كون الأمر بالصّلاة مقيّداً بالاستقبال؛ لأنّها مُسبَّبة عنه.

وفيه: أنّه لابُدَّ من ملاحَظَةِ الدَّليل الشرعيّ، فقد يكونُ الأمر كما ذكره المتخيّل، كما لو كانَ لسانُ دليلِ الشرطية: إذا صَلَّيتَ فاستقبل القبلة، وقد يكونُ الأمرُ بالعكس، كما لو كانَ لسانُ دليلها: الاستقبالُ شرط للصلاة.

ثمرات القول بجعل الحكم الوضعي

الأولى: أنه على القولِ بالجعل، يجوزُ إجراءُ أصالةِ العدم في نفي الجزئية والشرطية فيما يُشَكُّ في أنه جزءٌ أو شرط في عبادة، أو في معاملة، وهو مُقَدَّمٌ على أصل الاشتغال؛ لأنّه أَصْلٌ موضوعيٌ حاكِمٌ على قاعدة الاشتغال، بخلافه على الآخر، لِعَدَمِ جَرَيَانِ الأصل في اللَّوازِمِ والتَّوابع والأمور الانتزاعية.

الثانية: أنّه بناءً على حُجيّة الاستصحاب مُطْلَقاً، يجوزُ إجراءُ الاستصحاب في الوضعيّ على القولِ بالجعل، فيَجْري استصحاب سببيّة الغليان للنجاسة في العصيرُ الزبيبيّ لو تَمَّ أركانُهُ، ولو قُلنا بعَدَمِ حُجيّة الاستصحاب التعليقيّ، ولا يجوزُ على القولِ بعَدَم جَعْلِ الوضعي.

الثالثة: أنّه يصحُّ الحُكْمُ بارتفاع الحُكْمِ الوضعيّ بنَفْسِهِ عندَ الشكّ بمقتضى حديث الرّفع، ولا يصحُّ على القول بعدم جعله.

الرابعة: ما رُبَّما يُقالُ من ظهورِ الثَّمَرَة في انتقاضِ الفتوى بالفتوى في الأسباب الشرعية، كما لو تَزَوَّجَ مجتهد مثلاً بمن حَصَل بينه وبينها عشر رضعات لفتواه بعدم نشر الحرمة، ثمّ تبدَّلَ رأيه إلى انتشارِ الحُرْمَةِ بها، فَعَلىَ القول بالجَعْلِ يُستصحَبُ الزوجية المسبَّبَةُ من العقد السابق، فيُحْكَمُ بصحَّةِ النكاح؛ لأنَّ التبدُّل في الفَتَوَى بالتكليف إنّما كانَ في التكليف وهو الحُرْمَة، وهو لا يُستَلزم التبدّل في الحكم الوضعيّ، ويُشَكُّ في بقائه فيستصحب، بخلافه على القول بالعدم، إذ الوضعيّ تابع للتكليف، فمَعَ انتقاضِ المتبوعِ ينتقِضُ التابع، ولا يُشَكُّ في بقائه.

تنبيهات الاستصحاب

التنبيه الأول: الاستصحاب من الأحكام الظاهرية

وينبغي التنبيه على أمور مهمة:

الأول: لمّا كان العمدة في أدلّة الاستصحاب هو الأخبار الصحيحة المتقدمة، وهي إنما تدلّ على أنَّ الاستصحاب وظيفةٌ للشاكّ تثبت للشيء بوصف أنه مشكوك الحكم، كان من الأحكام الظاهرية، والأصول العملية، نظير البراءة والاشتغال والتخيير.

وهو ظاهرُ كُلِّ مَنْ تَمَسَّكَ بها واعتمد عليها، وذكر غير واحد([290]): أنّ أول من تمسَّكَ بها هو الشيخ حسين بن عبد الصمد الحارثي S والد الشيخ البهائي([291]) في العقد الطهماسبي([292])، وتبعه السبزواري([293])، والخونساري([294])، ومن تأخر عنهم([295]).

ويشعر بذلك تعبير الحلي في سرائره بنقض اليقين باليقين في مقام الاستدلال على نجاسة الماء المتنجس بالنجس إذا زال تغيره من قبل نفسه([296]).

وعليه: فيكفي في الاستصحاب مجرد عدم العلم بزوال الحالة السابقة، ولا يعتبر فيه الظن ببقائها، بل يجري حتى مع الظن بالخلاف، كما تقتضيه صحيحة زرارة السابقة في أول الأخبار.

كما أنه يكون من الأصول العملية؛ لأنه يكون تعبداً بالحكم السابق في مورد الشك في بقائه؛ وعلى تقدير قيام بناء العقلاء عليه أو الإجماع على اعتباره، فنقول: إن ذلك هو القدر المتيقن منها.

وأما المتقدمون من الأصحاب فظاهر الأكثر كالشيخ([297])، والسيدين([298])، وغيرهم([299])، بل وعامة المخالفين([300]) على أن الاستصحاب من الأدلة العقلية؛ لأنه حكم عقلي يتوصل به لحكم شرعي بواسطة خطاب شرعي، فيقال: إنَّ الخطاب الشرعي قام على أنَّ حكم الشيء الفلاني الشرعي سابقاً هو كذا، ونشك في بقاء الحكم الشرعي في الحال، وكل ما كان كذلك فهو باق.

فالصغرى شرعية، والكبرى عقلية ظنية، فهو نظير القياس والاستحسان في كونه من المستلزمات العقلية الغير المستقلة، ومن الأدلة الاجتهادية الظنية والأمارات الشرعية، نظير الخبر، وليس من الأصول العملية، ولذا لم يتمسك هؤلاء بالأخبار.

نعم ذَكَرَ الشيخ الأنصاري في رسائله: أنَّ الشيخ في العُدَّة انتصاراً لحجية الاستصحاب ذكر ما روي عن النبي  (ص) ، من: (إن الشيطان بين اليتي المصلي فلا ينصرفن أحدكم إلا بعد أن يسمع صوتاً أو يجد ريحاً)([301])، ثم أورد عليه الأنصاري S: أن الرواية ضعيفة، ومختصة بموردها([302]).

ولا يخفى أن الانتصار بذلك ليس من الشيخ نفسه بل نسب الانتصار به إلى غيره، حيث قال: (فاستدل من نصر استصحاب الحال بما روي عن النبي (ص) )([303]).

وعليه: فيعتبر فيه الظن ببقاء الحالة السابقة، إلا أنَّ المعهود من طريقة الفقهاء عدم اعتبار إفادة الاستصحاب الظن، بل يجري حتى مع الظن بالخلاف؛ نعم يظهر من المحكي([304]) عن الحبل المتين للشيخ البهائي([305])، والشهيد في الذكرى([306]): أن المدار هو الظن ببقاء الحالة السابقة.

لكن قد عرفت أن العمدة في أدلته هو الأخبار، وهي ظاهرة في جعل الحكم السابق عند الشك في بقائه، وبيان الوظيفة عند التردد فيه، كأصل البراءة والاشتغال في جعل الإباحة أو الاحتياط في مقام الشك.

ولو سلمنا دلالة بناء العقلاء والإجماع عليه، فالقدر المتيقن منها هو ذلك، بمعنى أن بناء العقلاء على أنه الوظيفة في مقام الشك لا أنه أمارة على الواقع، وهكذا الإجماع.

التنبيه الثاني: فيما يعتبر في تحقق الاستصحاب

أنه لا بد في تحقق ماهية الاستصحاب أمور ثلاثة:

الأول والثاني: اليقين الفعلي بوجود الشيء، والشك الفعلي في بقائه، ولا يكفي اليقين التقديري، بأن يكون الشيء فيه سبب يوجب اليقين به، بحيث لو التفت إليه لتيقن بوجوده، كما لا يكفي الشك التقديري في بقائه، بأن يكون بحيث لو التفت إلى بقائه لشك فيه؛ لأن اليقين التقديري ليس بيقين حقيقي، ولا الشك التقديري شكاً حقيقة، فإنه مضافاً إلى أن حقيقته متقوّمة بذلك؛ أن الأدلة المعتبرة على اعتباره قد أخذ في موضوعها اليقين والشك، وهي ظاهرة في الفعلين، كما هو الظاهر من الموضوعات المأخوذة في سائر الأدلة، ألا ترى حجية الخبر لما أخذ في موضوعها الثقة، فإنه يراد به الثقة بالفعل لا بالتقدير، هذا مضافاً إلى أنه لو أريد من اليقين اليقين التقديري، لَزَمَ مع الشك في وجود الشيء أنْ يستصحب وجوده على تقديرٍ وجوده سابقاً؛ لأنه مع وجوده في السابق يكون متيقناً به تقديراً؛ لأنه لو التفت إليه لتيقن بوجوده.

وعليه: فلا يصحُّ إجراء أصل البراءة في كل مورد؛ لأنه في موردها يحتمل الوجود السابق للحكم الشرعي، ويكون متيقناً تقديراً، فيستصحب على تقدير وجوده، وهو يقتضي تنجُّزه لو كان موجوداً سابقاً، واشتغال الذمة به على تقدير وجوده، نظيرُ صورة الشكّ في الحكم قبل الفحص، فإنَّ المانع من إجراء البراءة فيه هو احتمالُ تنجُّزه لو كان موجوداً، ومن هنا يتوجَّهُ الإشكال على استصحاب الأحكام الشرعية التي قامت عليها الأمارات الظنيّة المعتبرة، كخبر الواحد بناءً على أنَّ المجعول في مورد الأمارات الظنية ليس إلاّ الحجية للأمارة التي نتيجتها هو تنجُّزُ الواقع على تقدير المصادفة، والعذر على تقدير المخالفة، لا جعل الحكم الظاهري في موردها على طبق مؤداها، وذلك لأنَّ المستصحب على البناء الأول -أعني: جعل الحجية- لو كان هو الحكم الواقعي فهو غير متيقن وجوده، وإن كان الحكم الظاهري، فهو معلوم العدم؛ لأن الفرض أنه لم يجعل في موردها حكماً ظاهرياً، نعم، لو قلنا بجعل حكم ظاهري في موردها صح استصحابه لليقين الفعلي به عند قيامها.

وقد أجاب عنه صاحب الكفاية([307])، بتوضيح وتنقيح منا، بأنا نلتزم بالاستصحاب للمتيقّن وإنْ لم يكن يقيناً فعلياً به، بأنْ يكون المستصحب هو الحكم الواقعيّ الذي هو مدلول الدليل على تقدير وجود ذلك الحكم؛ لأنّ مفاد أدلّة الاستصحاب هو الملازمةُ بين وجود الشيء وبقائه؛ لأنّ اليقين والشك ليس لهما موضوعية وخصوصية، وإنّما ذكر اليقين باعتبار ثبوت المتيقن به، فهو مأخوذ باعتبار الطريقية المحضة، وهكذا الشكّ أخذ لبيان عدم الاعتناء به مع اليقين لا لخصوصية له.

وعليه: فالأمارة إذا قامت على وجود الحكم، وكانت تقتضي تنجزه لو طابقت الواقع، يثبت بها لوازم وجوده، وهو البقاء على تقدير مطابقتها ببركة أدلة الاستصحاب، فيتنجز بها البقاء على تقدير المطابقة للواقع، كنفس تنجز مدلولها على تقدير مطابقتها للواقع، فتكون الأمارة ببركة أدلة الاستصحاب منجزة لوجود الواقع ولبقائه، على تقدير مصادفتها للواقع، كما تنجز سائر آثار الواقع الشرعية الثابتة له عند الشرع، ونظير ذلك ما إذا قام الدليل على الملازمة بين الإفطار والقصر للصلاة، وقامت الأمارة على وجوب الإفطار عند السفر، فيتنجز وجوب القصر فيه ببركة أدلة الملازمة بينهما، وإن كانت الأمارة التي قامت على وجوب الإفطار يتنجز بها الواقع لو طابقت الواقع، وتكون عذراً عند المخالفة، فإنه إذ ذاك يكون وجوب القصر كوجوب الإفطار في تنجزه لو صادَفَت الأمارة الواقع؛ لأنّه بالأمارة يثبت الملزوم، وإذا ثبت الملزوم ثبت اللازم.

وبعبارة أخرى: إنَّ أدلة الاستصحاب تدل على الملازمة الظاهرية بين وجود الحكم، وبين بقائه عند الشك فيه، فإذا ثبت حدوثه بالأمارة أو بغيرها، يثبت اللازم له بالاستصحاب، وهو بقاؤه عند الشك فيه.

وأما دعوى أنه يلزم أنْ لا يجري أصلُ البراءة لجريان الاستصحاب المذكور، وأنْ لا ينحلّ العلم الإجمالي بالحرام إذا قامت الأمارة على حلّية بعض أطرافه فهي فاسدة؛ لأنّ الاستصحاب يكون للحكم بالمرتبة الموجودة فيها وفي البراءة، وصورة انحلال العلم الإجمالي يكون الحكم على تقدير وجوده في مرتبة عدم التنجز، فاستصحابه على تقدير وجوده بمرتبة عدم التنجز لا يوجب تنجزه لو كان في الواقع موجوداً، بخلاف ما إذا قامت الأمارة المعتبرة عليه، فإنه على تقدير وجوده يكون منجزاً، والاستصحاب على هذا التقدير يكون استصحاباً له في مرتبة تَنَجُّزِهِ، فهو أيضاً يقتضي على تقدير وجودِهِ يكون باقياً بنحو التنجز، وعلى تقدير عدم وجودِهِ يكونُ العَمَل بالاستصحاب عذراً للمكلَّف؛ هذا غاية ما يمكن أنْ يقرب به هذا الوجه.

وأمّا لو قلنا بجعل الحكم الظاهري في مورد الأمارة فلا إشكال؛ لأنَّ الحكم الظاهري متيقّن الوجود عند قيامها، فيستصحب نفسه.

ويَرِدُ على هذا الجواب: بأنَّ تنجيز بقاء الحكم أمّا بالأمارة أو بالاستصحاب، فإنْ كان بالأمارة فهو باطل، لعدم دلالتها إلاّ على مجرَّد ثبوت الحكم حسب الفرض، وحُجيّتها مقصورة على مقدار مدلولها سعة وضيقاً، فكيف تكونُ حُجَّة على بقاءِ الحكم مع فرض خروجِهِ عن مقدار مدلولها.

وإنْ كانَ بالاستصحاب يثبت البقاء على تقدير الوجود، بأن يكون الاستصحاب عبارة عن تعبد الشارع لنا بالبقاء على تقدير الوجود عند الشك في البقاء، بأنْ يكون الاستصحاب عبارة عن الملازمة بين الوجود والبقاء، والبقاء من لوازمه، وحينئذٍ يكون المنجّز للوجود منجّز للبقاء، فهو أيضاً باطل؛ لأنّ الاستصحاب متقوّم بكون المستصحب حكماً أو موضوعاً ذا حكم، وفيما نحن فيه، وإنْ كان المستصحب حكماً قامت الأمارة على وجوده، إلاّ أنّه لما كان غير معلوم الوجود والجعل كان الاستصحابُ لشيء غير معلوم التحقق، وبقاء شيء غير معلوم التحقق سابقاً ليس له أثر ولا عمل، فجعل البقاء للشيء إنما ينفع مع العلم واليقين به، أما عدم اليقين به فيكون جعلاً على تقدير وجوده، ووجوده حسب الفرض غير معلوم، فيكون الجعل للبقاء أيضاً غير معلوم، وإن فرضنا أنّه يكفي في تنجُّزِهِ قيام الأمارة عليه، إلاّ أنّ الاستصحاب مؤداه فقط الملازمة بين الوجود والبقاء، فلا بُدَّ من إحراز الوجود حتى نحرز تحقق لازمه وهو البقاء، أما مع عدم إحرازه، فنحن نشكّ في تحقق اللازم له وهو البقاء.

إن قلت: إنّا نستصحب التنجُّز للحكم الذي قامت الأمارة عليه، أو نستصحب الحكم المذكور على تقدير وجوده بمرتبة تنجزه، فنقول: كان الوجوب على تقدير وجوده منجزاً، فهو الآن كذلك، ونتيجة ذلك هو وجوب الاحتياط، والعمل على طبق الوجوب، إذ بمجرّد ذلك تنقطع البراءة، ويرتفع العقاب بلا بيان.

قلنا: إن الحكم المدلول للأمارة إنما كان منجزاً على تقدير وجوده بقيام الأمارة بمقدار دلالتها عليه، وأمّا فيما أزيد من ذلك المقدار فلا منجز له، فنبقى نحن وأدلة الاستصحاب، والكلام في أنها تدلُّ على تنجُّزه في غير مقدار مدلول الأمارة أم لا.

فنقول: إنْ كان المراد بـ (اليقين) فيها هو اعتبار الصفة الوجدانية، بأنْ يكون أخذ اليقين فيها بنحو الموضوعية، بأن الشارع أخذ اليقين بما هو طريق للواقع موضوعاً للاستصحاب، كما هو ظاهرُ أدلّة الاستصحاب، فهي غيرُ دالّة على التنجيز لعدم وجود صفة اليقين فيما نحن فيه، وإنْ كان المراد منها نفس المتيقن بأن يكون أخذ اليقين فيها بنحو الطريقية المحضة لثبوت الواقع، ولا يكون لصفة اليقين أيّ أثر في الاستصحاب فكذلك تكون أدلة الاستصحاب غير دالة على تنجز الحكم في غير مقدار مدلول الإمارة؛ لأنّ أدلة الاستصحاب حينئذٍ إنما تدل على لزوم البقاء في ظروف الشكّ لما هو الموجود الواقعي، حيثُ يكون هو الموضوعُ فيها، فلا بُدَّ من إحرازه في تحقّق الاستصحاب، ومع عدم إحراز الموجود الواقعي لم يحرز تحقّق موضوع أدلّة الاستصحاب، فلا يحرز دلالتها على البقاء، لعدم إحراز موضوعها، وهو الوجود الواقعي.

ولا يخفى ما فيه؛ فإنَّ الملزوم إذا ثَبَتَ يَثْبُتُ لازمه، وفيما نحنُ فيه قد ثَبَتَ الملزوم، وهو مدلولُ الأمارة، فيثبت لازمه وهو بقاؤه عند الشك فيه.

إن قلت: إنَّ الملزوم لو كان هو الثبوت لوجود الحكم صحَّ ما ذكر، لكن الملزوم هو نفسُ وجود الحكم؛ لأنَّ اليقين كما ذَهَبَ إليه الخصم أريد به نفس المتيقّن الذي هو الوجودُ الواقعيُّ له، وبهذا أيضاً نلتزم في وجوبِ الإفطار والقصر، فإنّه إنْ كانت الملازمة بين نفسهما وقلنا بجعل الحجية لم يكن قيام الأمارة على الملزوم منها مثبتاً للازمه.

وإنْ قُلنا: إنَّ الملازمة بين الثبوتِ للملزوم، وبين نفس اللازم يثبت بأمارة ذلك.

قلنا: لما تحققت الملازمة بين نفسيهما، أعني بين وجود الحكم، وبين بقائه عند الشكّ، فما كان ينجز الملزوم منهما على تقدير تحققه ينجّز لازمه على ذلك التقدير للملازمة بينهما، ومقتضى ذلك اشتغال الذمة بهما وعدم المعذورية لو صادفت الأمارة الواقع، والمعذورية عند مخالفتها.

نعم، على هذا يكونُ العَمَلُ بالبقاء من باب الاحتياط؛ لأنَّ بقاء الحكم كان محتملاً، وإنّما وَجَبَ امتثاله لأنَّ احتماله يكون احتمالاً منجزاً، نظير احتمال الحكم قبل الفحص.

والحقُّ أنْ يقال: إنَّ الظاهر من أدلة الاستصحاب، أنَّ المراد باليقين فيها هو الحجة، سواء كانت يقيناً أو أمارة أو أصلاً، وليس المرادُ به هو الصفة الخاصة الوجدانية، والمراد بالشكّ هو عدمها، والدليلُ على ذلك هو فهم المتشرعة منها ذلك، فإنّهم لم يتوقفوا في جريان الاستصحاب عند قيام الأمارة أو الأصل على وجود الحكم أو الموضوع عند الشك في البقاء، مضافاً إلى أنه لو أريد باليقين الصفة الوجدانية، لم يكن للاستصحاب مورد، وإنْ وَجَدَ فهو في غاية القلة؛ لأنَّ اليقين بالأحكام المشكوك بقاؤها لا يكادُ يوجد، وإنْ وجد فهو في غاية القلّة، وهكذا الموضوعات المذكورة فيها، كالوضوء وطهارة الثوب المعار للذمّي، فإنَّ اليقين بها لا يكاد يوجد، وإنما تقوم الحجة عليها.

سلّمنا؛ لكن أدلّة الأمارات لو قلنا بعدم جعل الحكم الظاهري على طبق مؤداها تنزلها منزلة اليقين، فيرتب عليه آثاره التي منها عدم نقضه بالشك.

والحاصل: إنّ الاستصحاب متقوِّمٌ باليقين الفعلي، أو ما نَزَّلَه الشارع منزلته كالأمارات المعتبرة، والأصول المجعولة، فإذا قامت الأمارة المعتبرة على الحكم الشرعي، وشكّ في بقائه استصحب مؤداها، وهكذا لو قام أصل الطهارة على طهارة الثوب، وشُكّ في بقائها لاحتمال عروض النجاسة له استصحب تلك الطهارة الظاهرية، كمَنْ أعار ثوبه للذمّي الذي لا يتقيَّد من الطهارة والنجاسة.

وحيثُ قد عرفت أنَّ الاستصحاب متقوّم بالشكّ الفعليّ، كما هو متقوم باليقين الفعلي، فلا استصحاب مع عدمه، ومن هنا يظهر لك أنّ المتيقن بالحدث إذا غفل عن حاله وصلّى وبعد الصلاة احتمل أنه قد تطهّر وصلّى، فلا يجري في حقه الاستصحاب للحدث المتيقن سابقاً، ويحكم بصحة صلاته لقاعدة الفراغ، بخلاف ما إذا شَكَّ قبل الصلاة ثمّ غفل ثمّ صلّى، كانت صلاته فاسدة، لاستصحاب الحدث المتيقن سابقاً، ولا تنفعُ قاعدة التجاوز، ولا قاعدة الفراغ لتمام أركان الاستصحاب قبل الصلاة، فيكونُ محكوماً بالحدث عند دخوله في الصلاة.

إن قلتَ: سَلَّمنا تحقق الشكّ بعد اليقين بالحدث قبل الصلاة، وثبوت الحدث عند الشك، إلاّ أنه لمّا كانَ أمراً ظاهرياً استصحابياً، كانَ دائراً مدار موضوعه، وهو الشكُّ، فهو إنّما يبقى ما دام الشكّ، وبالغفلة يزولُ الشكُّ ويزول الأمر الاستصحابي ببقاء الحدث، فلا حَدَثَ ظاهر حين الدخول في الصلاة، فتجري قاعدة الفراغ والتجاوز بعد الصلاة.

نعم، لو كان الشكُّ موجوداً حين الدخول في الصّلاة، كانت الصلاة فاسدة للأمر الاستصحابي ببقاء الحدث.

قلنا: إنه لما صار محكوماً بالحدث بواسطة الاستصحاب، صار محدثاً، وإذا دَخَلَ في الصلاة دَخَلَ وهو محكوم بالحدث، ومن المعلوم أن الغفلة لا تزيل الحدثية عنه.

الأمر الثالث: الذي يعتبر في الاستصحاب: بقاءُ الموضوع والمعروض للمستصحب في زمان الشك، لما عرفت من أنّ الاستصحاب متقوِّمٌ باليقين والشكّ، وهُما لا يوجدان بدون النسبة، فإنَّ اليقين هو الإذعان والتصديق بثبوت شيءٍ لشيء؛ والشكُّ هو الاحتمال والتردُّد في ثبوتِ شيءٍ لشيء، والنسبة لا بُدَّ لها من طرفين منسوب ومنسوب إليه.

والمنسوب إليه في باب الاستصحاب يسمّى بالموضوع والمعروض؛ لأنّه هو المركز والمتقوّم به المنسوب والعارض عليه، كما إنَّ المنسوب يسمى بالمستصحب؛ لأنّه هو المراد إثباته وبقاء صحبته للموضوع، وبهذا ظهر لك أن الاستصحاب يعتمد على قضيتين، قضية متيقنة سابقة، وقضية مشكوكة لاحقة، فاستصحاب عدالة زيد المتيقنة سابقاً والمشكوكة فعلاً، يرجع لقضيتين:

إحداهما: زيد عادل سابقاً، وهو القضية المتيقنة.

وثانيهما: زيد عادل فعلاً، وهي القضية المشكوكة.

والموضوع في هذا الاستصحاب الذي عرض عليه المستصحب، والمتقوم به المستصحب هو (زيد)؛ والحكم المستصحب الذي هو العارض والمحمول والمتركز في الموضوع، والمتقوم بالموضوع هو العادل، وحيث كان الشك في الاستصحاب هو الشك في بقاء المتيقن السابق، الذي هو المستصحب لا في حدوثه، بخلاف قاعدة (اليقين والشك)، فإنّ الشكّ فيها يكون في الحدوث، وكان اللازم في الاستصحاب بقاء الموضوع للمستصحب في زمان الشك، أما المقدم، أعني: كون الشك في الاستصحاب شكاً في البقاء، فلأن الدليل على الاستصحاب أما الإجماع، أو بناء العقلاء، أو الأخبار.

فأما الأولان، أعني: الإجماع وسيرة العقلاء، فهما كانا ثابتين في الشكّ في بقاء المتيقن السابق، وهو يقتضي بقاء الموضوع؛ لأنه مع عدم وحدة الموضوع واختلافه لم يكن الشكّ شكّاً في بقاء المستصحب المتيقّن سابقاً، بل يكون شكاً في أمرٍ حادث؛ لأنَّ الموضوع هو المقوّم للمستصحب، والمستصحب متركز به وعارض عليه، ومع اختلاف المقوِّم يختلف المتقوَم، ومع اختلاف الموضوع يختلف المحمول، ومع اختلاف المعروض عليه يختلف العارض.

وأمّا لو كانَ الدليلُ على الاستصحاب هو الأخبار، فإنَّ لسانها النهيُ عن نقض اليقين بالشك، أو ما يؤدي معناه، وهو يرجع إلى إبقاء المتيقن السابق، ولا يتحقّق الإبقاء إلاّ مع بقاء الموضوع في ظرف اليقين إلى ظرف الشكّ ووحدته، وإلاّ لم يكن البقاء للمستصحب بقاء له، لما عرفتَ من أنَّ اختلاف الموضوع للشيء يُوجِبُ اختلاف ذلك الشيء، فلا يكونُ عدم ترتيب آثار المتيقن سابقاً عند الشكّ نقضاً للمتيقن السابق، وإنّما هو رفعٌ لآثاره عن أمرٍ مغاير له، وأجنبيٍ عنه، وهو ليس بنقض له.

ومن هنا ظهر لك أنَّ معنى بقاء موضوع المتيقن السابق عند زمان الشك هو وحدته، بمعنى إنّ موضوع المستصحب عند اليقين به عينه عند الشك في بقاء ذلك المستصحب، بأنْ يكون موضوع القضية المتيقنة في السابق التي محمولها المستصحب عين موضوع القضية المشكوكة في اللاحق، التي يكون محمولها المستصحب، ففي مثل استصحاب وجود زيد المتيقن سابقاً عند الشك في وجوده، كان الموضوع المستصحب وجوده هو زيد، وهو عينه عند الشك في المستصحب، فمعنى بقاء الموضوع هو عَدَمُ تبدّل الموضوع بغيره، وليس معنى البقاء هو الوجود المستمر حتّى يشكل باستصحاب الوجود للموضوعات الّتي شكّ في وجودها بعد اليقين به، أعني: الهليات البسيطة، وهكذا لا يصح الإشكال باستصحاب العدم لذات الشيء عند الشك فيه مع سبق اليقين به، أعني الليسيات البسيطة، كما لو استصحب عدم زيد أو عدم ابنه، وذلك لما عرفت من أنّ مصدر اعتبار البقاء في موضوع المستصحب هو أن يصدق عدم النقض عند ترتيب آثار المتيقن السابق عند الشك اللاحق، وأن لا يكون الشك في أمرٍ حادث جديد، وهذا إنّما يقتضي وحدة الموضوع، وعدم تبدله، وعدم تغيره، وعدم اختلافه بين حالة اليقين وحال الشكّ، هذا في استصحاب الوجودات الخارجية والعدميات، ومثل ذلك يقال في الشكّ في بقاء الحكم أو عدمه، فإذا شُكّ في وجوبِ صلاة الجمعة بعد اليقين بها سابقاً، كانت القضية المتيقنة سابقاً هي صلاة الجمعة واجبة، والقضية المشكوكة فعلاً هي نفسها، أعني: صلاة الجمعة واجبة، وهكذا مثل ذلك يقال في استصحاب العدم للحكم، كعدم الوجوب لصلاة النافلة.

ومن هنا ظهر لك أنّه لا بُدَّ من إحراز بقاء الموضوع للمستصحب في ثبوت الاستصحاب، ولا يكفي احتمال بقائه، إذ مع احتمال عدم بقائه لا يحرز صدق عدم النقض عند عدم ترتيب آثار المتيقن، ولا صدق النقض عند عدم ترتيب الآثار، ويكون التمسُّك بأدلّة اعتبار الاستصحاب في اعتبار هذا الاستصحاب من قبيل التمسك بالعامّ في الشبهة المصداقية، نظير التمسك بوجوب إكرام العلماء في وجوب إكرام مشكوك العالمية.

إن قلت: إنَّ المحمول أيضاً يعتبر في الاستصحاب وحدته، كما هو ظاهر، فلماذا ذكروا اشتراط وحدة الموضوع وبقائه، دون المحمول الذي هو المستصحب.

قلنا: إنَّ المقام في ذكرها هو معتبر إحرازه في الاستصحاب، ووحدة المحمول وبقائه عبارَةٌ عن نفس الاستصحاب لُبّاً وحقيقةً، فإذا أحرز بقاءه لم يصحّ الاستصحاب، بخلافِ وَحْدَةِ الموضوع وبقائه، نَعَم، المستصحب لا بُدَّ من وحدته، وإنّما لم تذكر لأنه لو لم يَكُنْ واحداً لم يكن مستصحباً.

ثمّ إنّما يعتبر في الاستصحاب هو بقاءُ الموضوع ووحدته بحسب نظر العرف، ولا يعتبر بقاؤه بحسب الدقة العقلية، أو بحسب الشرع، بمعنى إن ما يراه العرف موضوعاً لحكم الشرع هو الذي يعتبر بقاؤه في الاستصحاب، لا ما كان موضوعاً للحكم بحسب نظر العقل ودليله، ولا ما كان موضوعاً بحسب لسان الدليل الشرعيّ للحكم، فمثلاً إذا وَرَدَ من الشّارع: العنب إذا غلى يَحرُمُ استعماله، وشُكَّ في ثبوتِ حرمته له عندما يكون زبيباً، فلو كان المناطُ في وَحْدَة الموضوع في الاستصحاب هو وحدته بحسب العقل، لم يَصِحّ استصحاب الحرمة لحال الزبيبية، ولا مجال له؛ لأنَّ العقل يحتمل أنَّ الموضوع للحكم هو عنوان العنب بما فيه من خصوصيات يقتضي حكم الشارع بحرمته عند الغليان، ويحتمل أن هذه الخصوصيات غير موجودة فيه عندما يكون زبيباً، فلا يُحْرَز بقاء الموضوع للحكم الشرعيّ عند العقل، بل على هذا لا يجري الاستصحاب في الأحكام الشرعية في أغلبها إنْ لم نَقُل بأجمعها؛ لأنّ الشكَّ في بقائها لا يكونُ إلاّ لزوال بعض الخصوصيات، ومع زوالها يحتمل العقل أنَّ الموضوع له قد زال، لاحتمال أنَّ لها دَخَلَ في الموضوع بحسب الواقع، وأمّا إنْ كانَ المناطُ هو وحدة الموضوع بحسب ما أخذ في لسان الدليل على الحكم الشرعي، كان الموضوع للحرمة في المثال المذكور هو نفس العنب بوصف أنه عنب، فأيضاً لا يصح استصحاب الحرمة عندما يكون زبيباً لعدم اتحاد الموضوع؛ لأن القضية المتيقنة بحسب ما أخذ في لسانه الدليل هو هذه الثمرة بوصف أنها عنب، فالموضوع هو الثمرة بوصف أنها عنب، والقضية المشكوكة هي أن هذه الثمرة بوصف أنها زبيب مشكوك حرمتها، فالموضوع هو هذه الثمرة بوصف أنها زبيب فالموضوعان مختلفان وليسا بمتحدين.

وأمّا إنْ كان المناط هو وحدة الموضوع بحسب نظر العرف، وما يرتكز في أذهانهم ويرونه في أنظارهم بحسب الجهات والمناسبات بين الحكم وموضوعه، ففي المثال المذكور يكون الموضوع للحرمة هو هذه الثمرة لذاتها، لا بوصف أنها عنب، ولا بوصف أنها زبيب؛ لأنَّهم يرون إنَّ وصف العنبية والزبيبية من الحالات والعوارض الطارئة على الموضوع والمتعاقبة عليه، وأنَّ مركزها والمحلَّ المتقوِّمة به هو ذات العنب، لا بوصف أنه عنب بحيث لو كان الزبيب محكوماً شرعاً بغير حكم العنب، كان نقضاً لحكم العنب، ورفعاً للحكم عن موضوعه في أحد حالاته، ولو كانَ الزبيب محكوماً بحكم العنب كان من بقاء الحكم في الموضوع.

فالعرف وإنْ كان بحسب فهمهم من الدليل يكونُ الموضوع هو خصوص العنب، ولكن بحسب نظرهم يرونَ أنَّ الموضوع ومعروض الحكم ومركزه هو نفس الذات، لا بوصف العنبية، وأنَّ وصف العنبية أخذه الشارع في موضوع دليل هذا الحكم لغايةٍ من الغايات، كالاهتمام به، أو لكثرة الابتلاء به، أو لكون حدوثهِ واسطةٌ في الثبوت، فالعُرْفُ مع جزمه بأخذ الوصف في موضوع الدليل الشرعي، إلا أنَّه لم ير أنَّه هو المركز للحكم المذكور، ويرى أنَّ المركز والمحلّ له هو الأعمّ، بحيثُ لو حكم الشارع بعدم الحرمة لكان نقضاً بحرمة العنب، ولو حكم بالحرمة لكان إبقاءً له، وحينئذٍ يصحُّ للفقيه الاستصحاب، لاتحاد موضوع القضية المتيقّنة مع المشكوكة في نظر العرف، وإنْ لم يتحقَّق الاتحاد بحسب لسان الدليل الشرعي، ولم يحرز الاتحاد بحسب النظر العقلي.

وعليه: يَظْهَر لكَ فسادُ ما رُبّما يَصْدُرُ من بعضهم من أنّ الموضوع الشرعي غير الموضوع العرفي.

ووجْهُ الفساد: إنَّ الموضوع الشرعيّ هو المتّبع، ولا وَجْهَ لأنْ يكون موضوع حُكْم الحاكم يتّبع فيه غيره، فالموضوعُ للحكم الشرعيّ هو الموضوع الذي جعله الشارع له، غايةُ الأمر يختلف لسان الدليل الشرعيّ، وظاهرُ الدَّليل عن العرف في تشخيصه وتعيينه، فلسانُ الدّليل يقتضي أنَّ الموضوع الذي جَعَلَهُ الشَّارع هو هذه الثمرة بوصف أنّها عنب، وأمّا بوصفٍ آخر كالزبيبية فهو مسكوتٌ عنه، وقاصرٌ الدليل عن إثبات الحكم له.

وأمّا العرف، فيرى أنَّ الموضوع الذي جَعَلَهُ الشَّارع هو نفس الثمرة، كما أنَّه قد يَخْتَلِفُ مع الموضوع العقليّ، فمثلاً نجاسَةُ الدَّم موضوعها عند العرف هو هذه المادة، ولا تَصْدُقُ على اللون، مع أنَّ العقل يرى أنَّ لون الدم يستندُ إلى أجزائه الثابتة في محلِّ إصابته، فالعُرْف لا يرى الموضوع باقياً فلا يُسْتَصْحَبُ، بخلاف العقل، فإنّه يَرَاهُ عند بقاءِ لونه الموضوع باقياً؛ لأنَّ موضوع النجاسة هي نفس ذات الأجزاء.

فالصحيحُ أنْ يقال: إنَّ الموضوع الشرعيّ في لسان الدّليل غير الموضوع الشرعيّ عند العرف، وقد يتّحدان، نظر العرف ولسان الدليل الشرعي في الموضوع، إذا كان ما يراه العرف موضوعاً شرعياً للحكم هو بنفسه يقتضيه لسان الدليل، كما لو قال: صم يوم الخميس، فإن العرف ولسان الدليل يتفقان في أنّ الموضوع للوجوب عند الشرع هو الصَّومُ المقيّد بيوم الخميس، فلا يصحُّ استصحاب الوجوب لصوم يوم الجمعة، لعدم بقاءِ الموضوع، وهو صوم يوم الخميس بذهاب القيد، وهو يومُ الخميس، كما أنَّ الدليل لو كان له ظهور في نفي الحكم عن غير العنوان الذي أخذ فيه، بحيثُ كان مثبتاً لعدم الحكم في غير ذلك العنوان، كان العرف يرى أنَّ الحكم مختصٌ بهذا العنوان، ولا يجري الاستصحاب، ويكونُ ذلك في نظر العرف من باب اختصاص الحكم ببعض حالات موضوعه، وأنَّ الشارع لم يبقه، وقد نَقَضَهُ في هذه الحالة.

وإنّما اعتبرنا الاتحاد في الموضوع بحسب نظر العرف؛ لأنّ أصحَّ أدلة الاستصحاب هي الأخبار، بل قد عَرَفْتَ أنَّ ما عداها من الأدلّة لو ثبتت وعمدتها السيرة، فالأخبار ممضيةٌ لها، فتكونُ تابعة الأخبار، إذ الإمضاء من الشارع إنما يكون بمقدار إفادة الأخبار سعة وضيقاً، وحيث إنّ الأخبار إنما تساق بنظر العرف كما هو طريقة العقلاء في تفهيم مطالبهم، والشارع سلك مسلكهم، وإلا لأظهر المخالفة لهم في تفهيم مطالبه، وحيثُ إنَّ الأخبار قد أخذ فيها الشارع (النهي عن النقض)، وصارَ كأنَّه الأصلُ فيها، ولا ريب أنَّ النقض وتركه إنّما يكون بالإبقاء وعَدَمُ الإبقاء، كان المطلوب للشارع من عدم النقض هو الإبقاء، والنهيُ عن عدمه؛ وقد عَرَفْتَ أنَّ الشارع يسلك مسلك العرف في نظرهم في تَشْخيص المفاهيم وبيانها، فلا بُدَّ أنْ يكون مراده هو الإبقاء عندهم في ما يرونه إبقاءٌ لا ما هو إبقاءٌ في نَظَرِ العَقْل أو بحَسَبِ الدَّليل.

وإن شئتَ قُلْتَ: إنَّ أدلَّة الاستصحاب عَدَا الأخبار عُمْدَتُها السيرة الّتي كان عليها بناء العقلاء، وحُكْمُ العقل، وهُما من بابِ إفادَةِ الاستصحاب الظنّي بالبقاء، ومَعَ بقاءِ الموضوع عند العُرْف يَحْصَلُ الظنُّ بالبقاء.

وأمّا الإجماعُ فإنَّ المتمسكين به يعملون بالاستصحاب عند بقاء الموضوع عُرفاً، وأمّا الأخبار فقد عَرَفْتَ دلالَتها على ذلك.

ومن هُنا يَظْهَرُ لك لسانُ الدّليل الشرعيّ لو كانَ يُحدِّدُ الموضوع، بأنْ كانَ ينفيه عمّا عداه، كما لو قال الشارع في المثال المذكور: يَحْرُمُ العنب إذا غلى بخصوصه، أو قال: دون ما إذا صار زبيباً، أو ما يؤدّي هذا المعنى، فإنَّه لا يجري الاستصحاب؛ لأنَّ الدليل دَلَّ على اختصاص الحُكْمِ بهذهِ الثَّمرة، بهذا العنوان، ونفيه عَمَّا عداه نظيرُ ما إذا قامَ دليلٌ آخر على حلّية الزبيب، فإنَّه يقدم على الاستصحاب.

والحاصل: إنَّ الاستصحاب إنّما يَجري إذا لم يَكُنْ الدليلُ دالاًّ على أنَّ الحكم يَدورُ مَدَار الموضوع المأخوذ فيه وجوداً وعدماً، بأنْ كانَ قاصِراً وساكتاً عن ثبوتِ الحكم عن غير ذلك العنوان، ولم يَكُنْ دليلاً آخر يَدُلُّ على انتفاء الحكم عند ارتفاع عنوانه، وكانَ العُرْفُ يَرَى أنَّ مركز الحكم ومُقوِّمِهِ يكون موجوداً عند ارتفاع عنوانه وتبدُّلِهِ بالعنوان الذي شكَّ الفقيه في ثُبوتِ ذلك الحكم له، كما أنَّه يظهر لك إنَّ ذلك ليس من باب المسامحات العرفية، بل العرف هو يرى بنظره ذلك، وإنْ اطلّع بأنَّ الشارع قد جعل في دليله الموضوع هو هذا العنوان، لكنّه يرى أنّه من باب التعبير بالخاصّ لإرادَةِ العامّ؛ لأنّه أكثرُ ابتلاءاً، أو أهمّ في نظره، أو أنّه واسطة في حدوثه، كما لو قال الطبيب: لا تأكل الرّمان، فإنَّ العُرْفَ يرى أنَّ مركز الحكم هو ذاتُ جسمه، بحيثُ لو صارَ الرُّمّان مربّى يكون الحكم ثابتاً له، أو كانَ من جهة الانصراف للأخصّ، كما لو قال: الخمر نجس، فإنّه بحسب ظاهر لسان الدليل هو الخمر المسكر؛ لأنّ اللفظ ينصرف إليه، ولكن العرف يرى أن مركز النجاسة وموضوعها هو نفس المائع، أعم من كونه مسكراً أم لا، فيستصحب النجاسة له.

وهذا الاختلافُ بينَ لسان الدليل الشرعيّ وبين النظر العرفي هو الذي يوجب شكَّ الفقيه في بقاءِ الحُكْمِ بعد ذهاب العنوان المأخوذ في الموضوع، وهذا الاختلافُ بين ظاهر اللفظ والمرتكز الذهنيّ العرفي طالما يكون في خطابات العقلاء فيما بينهم، أو بينهم وبين مواليهم.

والحاصل: إنَّ هذا الشرط، أعني شرط بقاء الموضوع، يرجع إلى اشتراط أنه لابُدّ في الاستصحاب من أنْ يرى العرف أنَّ عَدَمَ إبقاء المستصحب وترتيب آثاره في حالةِ الشكّ نقضاً لليقين السابق للشيء، فهو الميزانُ لا غيره؛ لأنَّ أدلة الاستصحاب لا يستفاد منها إلا اعتبار ذلك، فلو فُرِضَ أنَّ الموضوع قد تغير، ولكنَّ العرف يرى ذلك جاءَ الاستصحابُ ولزم إبقاء الحالة السابقة.

ثمّ أنَّ الموضوع للمستصحب تارةً يكونُ نفس الماهية، كما في استصحاب الوجود المطلق، أو العدم المطلق للماهية، أو لجزئيّها، كما في استصحاب وجود زيدٍ أو عَدَمِهِ، وإحرازه واضحٌ بأنَّ يكون الموضوع واحداً.

وتارة يكون مركّباً، كما في مطهّرية الماء الرّاكد للشيء الملقى فيه، فإنَّ موضوعها مركَّبٌ من بُلوغ الماء كُرّاً، ومن إطلاق الماء، وفي هذه الصورة يكون الشكّ في الحكم كالمطهّرية في المثال المذكور، تارةً من جهَةِ الشكّ في بقاء أحد أجزاء الموضوع المركّب مع إحراز الآخر، كما لو شُكَّ في المثال المذكور في بقاء إطلاقِ الماء مع إحراز كُرّيّتِهِ، وتارَةً يُشَكُّ في بقاءِ كُلّيهما، كما لو شُكَّ في المثال المذكور في بقاءِ الإطلاق للماء، وفي بقاء كُرّيّتِهِ، وعلى كلا التقديرين لا تستصحب المطهّرية، للشّك في بقاء موضوعها.

نعم، يُستَصْحَبُ الجُزءُ المشكوك، أو يستصحب كلاهما معاً، ويرتَّب الحكم المذكور واستصحاب وجودِ المركَّب من أجزاء خارجيّة أكثرُ من أنْ يحصى، كما يُستصحب وجودُ السكنجبيل، أو البيت، أو المسجد، أو الحمام، فإنَّه يصحُّ استصحاب الوجود للمجموع.

وتارةً يكونُ الموضوع موقوفاً على موضوعٍ آخر، كالأعلميّة الّتي هي موضوعٌ لتعيين المقلّد، فإنّها موقوفةٌ على حياته واجتهاده، وفي هذه الصورة لا إشكالَ في عَدَمِ جريانِ الاستصحاب في نفس الحكم، كالتعيين في المثال المتقدِّم عندَ الشكّ في مَوضُوعِهِ وهو الأعلمية، وإنّما يجري الاستصحاب في الأعلمية إذا كانَ الشكُّ فيها مع إحراز بقاء الحياة والاجتهاد، لإحراز الموضوع للأعلمية، وأمّا لو شكَّ في بقائها من جهةِ الشكَّ في بقاءِ ما تتوقّف عليه، كالحياة، أو الاجتهاد، أو كلاهما، فلا يصحُّ استصحابها، لعدم إحراز موضوعها، أعني الحياة، أو الاجتهاد، أو كلاهما، ولا يصحُّ استصحاب ما تتوقّفُ عليه لإثباتها؛ لأنّها ليسَ بأثرٍ شرعيّ له فيكونُ من الأصل المثبت.

ومن هنا وقع جُمْلَةٌ من العلماء في الإشكال في صِحَّةِ استصحاب الأعلمية إذا شُكَّ فيها من جِهَةِ الشكَّ في بقاءِ الاجتهاد أو الحياة([308])، ويتعدى الإشكال إلى ما ذكره الفقهاء من صحة استصحاب بقاء المجتهد عند الشكّ في حياته إذ استصحابُ حياته لا يَثْبُتُ اجتهاده الذي هو موضوع جواز تقليده إلاّ على القول بالأصل المثبت.

والتّحقيقُ في الجواب كما ذكرناه عند المناقشة مع بعض الفضلاء: أنّه تستصحب وجود المجموع المركب من الموصوف والصّفة، أعني: وجود زيد المتّصف بالاجتهاد والأعلميّة، كما في استصحاب وجودِ المركَّب من الأجزاء الخارجية.

التنبيه الثالث: في استصحاب الكلي وأقسامه

لا ريب في جريان الاستصحاب في الكلّيات، كما يجري في الجزئيات، لشمول أدلّة الاستصحاب له، وعدم المانع عنه، ولمّا كان اليقين بالكلّي والشكُّ فيه يتسبب عن اليقين بفرده والشكّ في بقائه، انقسم استصحاب الكلي إلى أقسام ثلاثة:

[القسم] الأول: أنْ يكونَ الشكُّ في بقاء الكلّي مُسبَّباً عن الشكّ في بقاء فرد خاص منه، كما إذا شُكَّ في وجود الإنسان في الدّار من جهة الشكّ في بقاء زيد فيه، وكما إذا شُكَّ في مطلوبية كلّيّ الصلاة في يوم الجمعة غير الصلاة اليومية في زمن الغيبة، من جهة الشك في بقاء وجوب صلاة الجمعة إلى زمن الغيبة، فلا ريب في استصحاب الكلي في هذا القسم عند من يقول بحجية الاستصحاب، فيصح استصحاب وجود الإنسان، واستصحاب المطلوبية للصلاة، وترتيب آثارهما عليهما، كما يصحُّ استصحابُ الجزئيّ، وهو وجودُ زيدٍ، ووجود الوجوب للجمعة.

القسم الثاني من استصحاب الكلّي: أنْ يكون الشكُّ في بقاءِ الكُلّي من جهة الشكِّ في فرده، لتردُّد فرده الذي كان موجوداً سابقاً بين ما هو مقطوع الزوال، ولو كان هو الموجود أولاً، وبين ما هو ممكن البقاء لو كان هو الموجود أولاً، كما لو علم بوجود الحيوان في الدار، وشكَّ في وجودِهِ من جهة تردُّد الحيوان الذي كان معلوماً وجوده على سبيل الإجمال بين الفيل وبين البقة، فلو كان هو الفيل، لكان محتمل البقاء، ولو كان البقة لكان معدوماً قطعاً.

وكما لو عُلِمَ بوجوبِ الطَّهارة عليه، لتردُّده بين كونه محدث للحدث الأصغر أو الحدث الأكبر، ثم تطهَّر بالوضوء، فإنه بعد الوضوء يشك في وجوب الطهارة، لتردده بين وجوبين: وجوب يكون هو الفرد القصير الذي قطعاً قد زالَ لو كان هو الموجودُ أولاً، وهو وجوبُ الطهارة من الحدث الأصغر، وبين الفرد الطويل الذي هو باقي لو كانَ هو الموجودُ أولاً، وهو وجوبُ الطهارة من الحدث الأكبر.

وهذا يجري في كُلِّ شبهة محصورةٍ بعد الامتثال لأحدِ أطرافها، كما لو علم بوجوب صلاة الظهر عليه أو الجمعة، فإنّه لو أتى بالجمعة فبعدها يشكّ في بقاء الوجوب المشترك بين الوجوبين، لتردّده بين فردٍ مقطوع الزوال وهو وجوب الجمعة، وبين ما هو مشكوكُ البقاء، وهو وُجوبُ الظُّهر، وهكذا لو أتى أوّلاً بالظهر، فإنّه أيضاً يشكُّ كذلك، ومثله ما لو تردَّدَ بين حُرْمَةِ شربِ هذا المائع أو ذاك.

وكيف كان، فالشكُّ في بقاءِ الكُلّي واستمراره مستند إلى الشكّ في ما تحقق الكُلّي في ضمنه من الأفراد، والأشهر على حُجيّته([309]) لوجود المقتضي وهو عموم الأدلة، وعدم المانع، فإنَّ الكلّي موجود قطعاً في الخارج بوجود أفراده، فهو يكونُ معلوماً خارجياً لنا، غاية الأمر أنّه غيرُ معلوم الحدود والخصوصيات، ونشكُّ في ارتفاع نفس ذلك المعلوم فيستصحب، فكانت القضية المشكوكة والمتيقّنة واحدة، ولا يحتاجُ الاستصحابُ إلى أزيد من الشكّ واليقين، وكون المشكوك هو المتيقن، وفيما نحنُ فيه كذلك؛ لأنَّ المشكوك هو الكلّي، وقد كان متيقناً، كما أنَّ كلاً من الفردين يجري الاستصحابُ لعدمها، ويحكم بعدمها لولا المانع من جريان الأصول في أطراف الشبهة المحصورة.

إن قلتَ: أنْ نستصحب عدم الطويل ولازمه عدم الكلّي وهو حاكمٌ على استصحاب الكلّي، لتقدّم الأصل السببيّ على المسببي.

قلنا: إنّ سببيته عقلية؛ لأنّ ارتفاع الكلّي بارتفاع فرده العقلي.

إنْ قلتَ: إنَّ عَدَمَ الكُلّي يثبتُ باستصحاب عَدَم الفرد الطويل مع ضميمة العلم بانعدام القصير، فيثبتُ عَدَمَ الكلّي بعدم الفرد القصير بالوجدان، وبالتعبّد بعدم الطويل من جهةِ استصحابِ عَدَمِهِ، ويُرَتّب آثار عَدَمِ الكُلّي.

قلنا: إن ترتبَ عدم الكلي على عدم شيء من أفراده في الخارج عقليٌ، وعينيةُ الكلّي لأفرادِهِ بحسَبِ الوجودِ لا يرفعُ الاثنينية بينهما، نظير الماهية والوجود.

نعم، ذكر أستاذنا الشيخ كاظم الشيرازي أنّه قد يُستَشْكَلُ على خصوص استصحاب الجامع بين الأحكام، كالطَّلب الجامع بين الوجوب والاستحباب، وكالمبغوضية الجامعة بين الحرمة والكراهة، بأنَّ الجامع لا يمكن تحقيقه في الخارج إلا في ضمن أحدِ أنواعِهِ من غير فرق بين الموجودات الأعراض والجواهر، وبين الأحكام الشرعية، فكلّيّ الطلب بما هو من غير أنْ يتقوَّم بأحدِ حَدَّيه من الوجوب والاستحباب غير ممكن الوجود في الخارج، لا واقعاً، ولا ظاهراً، فلا يعقل أنْ يُنشئه الشّارع ويجعله، وإلاّ لَزَمَ قيام الجنس بدون نوعه.

نعم، في الموضوعات الخارجية يمكن أنْ يستصحب الجامع، إنّما يجعل الشارع آثاره وليس جعله بنفسه حتّى يلزم محذور وجود الجنس بدون نوعه.

وقد أجَابَ عن هذا الإشكال بوجهين:

الأول منهما: المنع من لزوم جعل الشارع للمستصحب حتَّى في استصحاب الأحكام، وإنّما جعل الشارع حرمة النقض، ووجوب البناء على المتيقّن السابق، فإنْ كانَ الوجوب هو المتيقّن يكونُ العَمَلُ على طبق حُرْمَةِ النَّقض، وعلى طبق وجوبِ البقاءُ مطابقاً لعمل بقاءِ الوجوب، وقِسْ على ذلك باقي الأحكام الشرعيّة تكليفيةً أو وضعية، فالمجعولُ حقيقةً هو وُجوبُ البقاء على طبق الحالة السابقة المتيقّنة، ويختلف مقتضى العمل بهذا التكليف، فقد ينطبق مع العمل على طبق الوجوب، أو على طبق الحرمة، أو على طبق الإباحة، فيقال: وجوب استصحابي، أو إباحة استصحابية، ونحو ذلك، وإلا فلا مجعول للشارع من الأحكام شيئاً غير المجعول بقوله  عليهم السلام : (وَلاَ تَنقُضُ)، كما في صدق العادل بالنسبة إلى مداليل الأخبار، فإنَّ المجعول من الشرع ليس إلا وجوب تصديق العادل، وهذا يفيد فائدة جعل الوجوب فيما إذا أخبر العادل بالوجوب، وفائدة الاستحباب فيما إذا أخبر العادل بالاستحباب.

وعليه: ففي استصحاب الكُلّي كالطَّلَب يقتضي وجوبَ العَمَل على طبقه، نظير من تيقَّنَ به مجرَّداً عن خصوصيّةِ الوجوب، وعن خصوصية الاستحباب، فإنّه إنْ كانَ للطَّلَب عَمَلٌ فعله.

نعم، هذا الجوابُ لا يتمُّ على من التَزَمَ في الاستصحاب بجعل الشارع للحُكْمِ الشرعيّ في تأنيّ الحال على طبق الحكم الشرعي المتيقن سابقاً.

الجواب الثاني: هو التزامُ جعل الشارع مع الكلّي المستصحب أحدُ فصوله، جَمْعًا بين ما ذكر من عدم إمكان جعل الجامع بلا فصلٍ له، وبينَ عموم أدلّةِ الاستصحاب للمورد، فإنَّ الجمع بينهما يقتضي الالتزامَ بجعل الفصل للجامع المستصحب في مثل المورد المذكور، وليس الفَصْلُ المجعول في المورد المذكور إلاّ ما به قِوامُ الاستحباب، لِعَدَمِ الدَّليل على زيادَةِ الطَّلَب على أكثر من الاستحباب، وعَدَمُ الدَّليل دليلُ العدم.

إن قلت: عدمُ الدليل لا يثبت خصوصية الاستحباب، لاستصحاب عدمها المقتضي لعدم جعل الجامع، فيتعارض استصحاب الجامع مع استصحاب عدم الخصوصية؛ لأنّ استصحاب الجامع يقتضي ثبوتَ الخصوصية، واستصحاب عدمها يقتضي عدم الجامع فيتساقطان.

قلنا: استصحابُ عدم الخصوصية لا يُثْبِتُ عدمَ الجامع إلاّ على القول بالأصل المثبت؛ لأنّ عدم الخصوصية يلزمها عدم الجامع، ويمكن أنْ يمنع من استصحاب هذا القسم من الكلّي، أعني القسم الثاني منه، فإنَّ المعتبر هو تعلُّقُ الشكّ ببقاء المتيقّن سابقاً، ومن المعلوم أنَّ المتيقن سابقاً هو الكلّي المتحقّق في ضِمْنِ فَرْدٍ خاصّ تيقّن ارتفاعه، والكلّي المشكوك لم يَكُنْ متيقّنا وجوده بنفسه سابقاً.

وبعبارةٍ أخرى: الكُلّيُّ بوَصْفِ أنَّه كُلّي، بمعنى تجريدِهِ عَنْ خُصوصياته المفردة له، لا وُجودَ له في الخارج حقيقةً، بَلْ لابُدَّ أنْ يوجَدَ بوجودِ أفراده الجزئية المشخّصة له؛ لأنّه لا وُجودَ للكلّي الطبيعي إلا بوجود أفراده، كما عليه المحققون، معللِّين ذلكَ بأنَّ الكُلّي لو كانَ موجود لزم اتّصاف الموجود الواحد بالمتضادّين والمتناقضين، فيما إذا كانت أفرادُهُ متّصفة بها، مضافاً إلى أنَّ الأحكام والآثار التي تتعلّق بالكلّيات إنما تتعلّق بها باعتبار مصاديق وجودها الخارجي، وعلى هذا فوجودُهُ المحتملُ في الحال لم يكُنْ متيقّن الحدوث سابقاً، وإنّما كانَ المتيقَّن وجود آخر له قد زالَ قطعاً، وأمّا وجوده في ضِمْنِ أحدِ الفردين لا بعينه ليس له وجودٌ وحداني بسيطٌ خارجيٌّ مستمرّ، وإنما هو اعتباري محض.

وإن شئت قلتَ: إنّا لو سَلَّمنا أنَّ وجودَ الكلّي واحد غير متعدد بتعدد أفراده، إلاّ أنَّ العرف يرى أنّ وجوده في الخارج متعدد، ولذا يحكم العرف بتعدُّد أفراده وتبيانها، فوجودُ الإنسان بوجود عَمْر ومباين لوجوده بوجود زيد ومغاير له عند العرف، فلا يصدقُ النقضُ عندهم، وعليه فلا تشمله الأخبار، ولا السيرة، ولا بناء العقلاء.

والحاصل: إنّ العرف لا يرى تحقيق النقض لوجود الحيوان في هذه الصور لو عمل على خلافه، فالمعلوم في السابق هو وجودُ الكلّي المقطوع الزوال، والمشكوك بقاؤه هو وجود الكلّي المشكوك حدوثه، والقدر الجامع بينهما أمر اعتباري محض يعتبره العقل، لا يرى العُرْفُ له وجودا استقلاليا امتداديا، علم بحدوثه وشُكَّ في بقائه، سلّمنا؛ لكنَّ المنصرف من الأخبار بل هو الظاهر منها الاختصاصُ بالوجود الخارجيّ الخاصّ الذي يحتمل الوجود والعدم، كالطهارة والثوب، وزيد الغائب ونحوها، وهكذا لم يثبت بناء العقلاء على الحكم بالبقاء في مثل المقام، ولا ريبَ أنَّ الذي يُؤخَذ به في بنائهم هو القَدْرُ المتيقن منه؛ لأنه دليل لُبّي.

ودعوى: أنَّ قاعدة الإمكان التي أشار إليها الشيخ الرئيس([310]): (كلما شككت في إمكانه وامتناعه فذره في بقعة الإمكان ما لم يذده قائم البرهان)([311])، تقتضي إمكان البقاء، فاسدة؛ لأن المراد بها الإمكان الاحتمالي، لا الإمكان الوقوعي، سلّمنا ذلك، لكنَّ الإمكان الوقوعي للبقاء غير استصحاب البقاء، فإنَّ مجرَّد البناء على إمكان البقاء لا يقتضي البناء على تحقُّق البقاء.

والحاصل: أنه بعد القطع بارتفاع أحد الفردين يصير الشكُّ في بقاء القدر المشترك في ضمن الفَرْدِ الآخر شكّاً في حُدوثِ القَدْرِ المشترك في ضِمْنِ ذلك الفرد الآخر، فيرجعُ الشكُّ الموجود إلى أنَّ الكلّي هل حَدَثَ في ضِمْنِ الفرد القابل للبقاء أم لا من أول الأمر، ومقتضى الأصل عدمه.

إنْ قلت: إنَّ اللازم من نفي حُدوثِ الفَرْدِ الطَّويل هو ارتفاعُ ما في ضَمِنَهُ من حِصّة الكلَّي، لا نفي الكلي المشترك بينه وبين الفرد القصير.

قلنا: إنّه غفلة عن حقيقة الحال، إذ ليس عندنا إلاّ كلّي مُردَّدٌ بين الفرد القصير والفَرْدِ الكَبير، والكُلّي في الفرد القصير قطعاً قد زال، وإنّما المشكوكُ فعلاً هو الكلّي في الفرد الطويل فقط، فالكلّي المحتمل وجوده فعلاً هو الكلّي المشكوكِ حُدوثَه لا غيره، والاستصحاب يقتضي عدمه.

إنْ قلتَ: ما يدلُّ على جريان الاستصحاب في هذا القسم، أعني القسم الثاني، ما بنى عليه الأصحاب من عدم الاكتفاء بطهارة واحدة للصلاة فيما لو علم إجمالاً بحدوث أحد الحدثين الذي يقتضي أحدهما الوضوء والآخر الغسل، وحكمهم بوجوب الجمع([312])، فإنه لا مدرك له إلا استصحاب كلّي الحَدَث بعد فِعْلِ أحد الطهارتين.

قلنا: إنّ المنشأ لحكمهم هو قاعدة الشغل اليقيني المقتضية للبراءة اليقينية التي لم تتحقق إلا بالجمع، وليس المنشأ لحكمهم هو استصحاب الكلي، ويدلك على أن المصدر لهم هو ذلك أنه لم يجب الجمع بين الطهارتين فيما لو علم بصدور الحدث الأصغر منه، ثم شكّ في صدور الحدث الأكبر منه، سواء كان ذلك قبل القطع بصدور الأصغر، أو بعده، أو مقارناً له، ثمّ أتى برافع الحدث الأصغر فقط، فإنَّ مقتضى جريانِ الاستصحاب في القسم الثاني من الكلي جواز الرجوع إلى استصحاب بقاء كلّي الحدث بعد الإتيان برافع أحد الحدثين، والحكم بوجوب الجمع بين الطهارتين، مع أنه لم يلتزم به أحد.

إنْ قلتَ: إنّه إذا أتى بالغسل كفى عن الوضوء.

قلنا: إنّه من المحتمل أنْ يكون الخارج منه هو الأصغر فقط، فالغسل غير رافع له، فلا بُدَّ له من الوضوء، لاحتمال كون الحادث هو الأصغر، والغسل لاحتمال كونه هو الأكبر، والاكتفاء بالغسل إنما هو فيما كان صدور الأكبر يقيناً، سواء شُكَّ في حدوثِ الأصغر أو عُلِمَ به، لا في مثل المقام الذي يكون الأمر بالعكس، وهكذا يَرِدُ عليهم النّقض فيما([313]) لو علم باشتغال ذمته بمقدار معين من الدين لزيد، ثم شك باشتغال ذمته بمقدار آخر، ثم أدى المقدار المعلوم اشتغال ذمته به، فمقتضى استصحاب كلي الدين، الحكم بوجوب أداء المقدار الآخر الذي شك في اشتغال ذمته به، وترتيب سائر أحكامه عليه، وكذا لو علم بفوات فائتة معينة منه، وشك في فوات فائتة، أو فوائت أخرى منه، ثم قضى الفائتة المعينة، فمقتضى ما ذكر، استصحاب كُلّي الفائتة، والحكم بوجوب قضاء الفوائت المحتملة وترتيب آثارها، وهكذا الحال في باب الزكاة والأخماس، وغير ذلك مما دارَ الأمرُ فيه بين الأقلّ والأكثر الاستقلاليين، مع أنّه لم يلتزم أحد بجريان الاستصحاب في تلك الموارد، وهذا موهّن آخر لعدم جريان استصحاب الكلّي في القسم الثاني.

وهكذا الحال فيما لو علم إجمالاً بنجاسة أحد الإناءين، أو أحد طرفي الثوب، ثمّ طهر أحدهما بعينه، فإنّه لو لاقت يده كلاهما بعد ذلك لم يحكم الفقهاء بنجاسة يده، مع أنَّ الاستصحاب لكلّيّ النجاسة جاري في هذين الإناءين، وهذا الثوب، فتكونُ اليدُ قد لاقت النجاسة، نظير ما إذا علم نجاسة الإناء ثم شك في طهارته، فإنه لو لاقته اليد يحكم بنجاستها.

وقد فصل بعضهم بأنّ الملاقاة لازمٌ عقليٌ في الأول دونَ الثاني، فإنّه أمر حِسّي، فإنّه في المثال الأوّل استصحاب الكلّي لا يثبت بأنَّ هذا الطرف نجس أو ذاك الطرف نجس، وإنّما يثبت كُلِّي النَّجاسة، و لا ريبَ أنَّ ملاقاة الأطراف لازمها العقلي الملاقاة للكلّي، ونظيرُ ذلك كثيرٌ في الشرع، كما لو عُلِمَ بأنَّ زيد استعار من عمر ثوباً ثم مات زيد، ولم يكن في تركته إلا ثوب واحد، فشك الورثة في أنه له، فإنّ استصحاب بقاء العارية عنده لا يثبت أنَّ هذا الثوب لعمر، ومثله في الوديعة، وفي موارد كثيرة.

إن قلت: إنَّ استصحاب عدم الفرد لا يثبت عدم الكلّي، فإنَّ عدم الكلي ليس من اللوازم الشرعية لعدم الفرد، بل من لوازمه العقلية.

قلنا: إنَّ وجودَ الكلّي عينُ وجودِ الفرد، فيكونُ عدم الفرد عين عدم الكلّي، فلا حاجة إلى الواسطة، بل لا واسطة في المقام حتّى يبتني ذلك على القول بالأصل المثبت، مضافاً إلى أنه يكفي في المقام عدم ثبوت بقاء الكلّي، ولا حاجة إلى إثبات عدمه ليلزم الالتجاء إلى القول بالأصل المثبت.

القسم الثالث من استصحاب الكلي: أنْ يكون الشكُّ في بقاء الكلّي من جهة قيام فرد آخر مقام الفرد الذي كان مقطوع الوجود سابقاً، ويجزم بارتفاعه فعلاً، كما إذا علمنا بوجود زيد في الدار ثمّ قطعنا بخروجه منها، لكن شككنا في أنّ عمر جاء للدار عند خروجه، فيكون عندنا اليقين بوجود الكلّي وهو الإنسان في الدار سابقاً، والشك في وجوده لاحقاً، لاحتمال أن عمر دخل عند خروجه.

ومثاله في الشرعيات: الماء المتغير أحد أوصافه بالنجاسة إذا ذهب أحد أوصافه كاللون، وشُكَّ في أنه هل قام مقامه الطعم أو الريح.

والظاهر عَدَمَ صحّة استصحاب الكلّي؛ لأنَّ بقاء الكُلّي في الخارج عبارة عن استمرار وجودِهِ الخارجيّ المعلوم سابقاً، وهو مقطوع فعلاً بعدم بقائه، وهذا هو الفارق بين هذا القسم والأقسام السابقة، فإنَّ في القسمين السابقين الوجود الخارجي المعلوم لم يقطع بارتفاعه.

وإن شئتَ قلتَ: إنَّ العرف يرى الوجود الأول للكلّي قد ارتفع، ويشك في أصل الوجود للكلّي في الآن الثاني.

نعم يُستثنى من هذا القسم الثالث، ما يُعَدُّ فيه الفرد الثاني عند العرف استمراراً لوجود الفرد الأول، كما لو علم بالسواد الشديد وقطع بارتفاعه، ولكنه احتمل أنه تبدل إلى مرتبة أخف منه، فيستصحب كُلّي السواد، وكما في كثرة الشكّ لو كانت بمرتبةٍ علم بزوالها، ولكنه احتمل أنها تبدّلت بمرتبة أدنى منها، أو زالت بالكلّية، فيصحُّ استصحاب كثرة الشكّ، وهكذا الماء المضاف لو علم بإضافته بمرتبة قطعاً زالت عنه، ولكنّه شَكَّ في تبدّلها بمرتبةٍ أدنى منها، أو زالت الإضافة بالكلية، فيصح استصحاب الإضافة.

والسرُّ في ذلك هو: أنّ العرف يرى أنّ تبدل المراتب لوجود العرض بمنزلة تبدل الحالات للجواهر، كما يكون الوجود للجوهر في الزمان الثاني بقاء لذاته، كذلك يرى العرف أنَّ الأعراض باقية بتبدل مراتبها، ومن هذا الباب، أعني: استصحاب الكلي من القسم الثالث في الأحكام الشرعية هو استصحاب كُلّي الطلب فيما لو شُكَّ في بقائه تبدله بمرتبةٍ أخرى، كما لو عُلِمَ بثبوتِ الطلب للشيء بالعلم بوجوبِ ذلك الشيء، ثُمَّ علم بارتفاع الوجوب واحتمال أنه تبدل بمرتبةٍ أخرى للكلي، أعني الاستحباب.

وقد يستشكل فيه: بأنَّ اختلاف الوجوب والاستحباب، والحرمة والكراهة، وإنْ كانَ بشدة الطلب وضعفه، وكان تبدل أحدهما بالآخر مع عدم تخلل العدم غير موجب لتعدد الكلي الموجود بينهما، إلاّ أن العرف يرى الإيجاب والاستحباب المتبدل به، وكذا الحرمة والكراهة المتبدلة بها فردين للكلّي متباينين، والعبرة في الاستصحاب هو نظر العرف دون الحقيقة.

وقد أجاب عنه بعضهم: إنّا لو سلّمنا ذلك فإنّما هو بالنسبة إلى نفس الحكمين دونَ مناطيهما، وأمّا هُما فلا إشكال في كونِ الاختلاف بينهما من قبيل اختلاف المراتب عرفاً([314]).

ولا يخفى ما فيه: فإنَّ استصحابَ كُلّيّ مناط الحكمين، وكُلِّيّ
المصلحة المقتضية له غيرُ مُعْدودٍ من استصحاب الأحكام الشرعية، بل يحتاج استصحابه إلى أثرٍ شرعيّ، فهو خارجٌ عن استصحاب الحكم الذي هو محلُّ الكلام، مضافاً إلى أنَّ ترتُّبَ الحكم الشرعيّ على مناطه ومصلحته ليس من الآثار الشرعية.

التنبيه الرابع في استصحاب عدم التذكية

لابدّ قبل البحث فيها من الرجوع إلى الأدلّة الشرعية في أنّ الذي ثبت له الحلّية والطهارة هو المذكّى، أو أنَّ عنوان الميتة هو الذي ثَبَتَ له الحرمة والنجاسة.

فنقول: إنّ الأدلّة الشرعية مختلفة جداً، ففي بعضها يكون العنوان هو المذكى، كقوله تعالى: [إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ]([315])، وقوله تعالى: [وَلاَ تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ]([316])، وقوله تعالى: [فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ]([317])، وقوله  عليهم السلام  في ذيل موثقة ابن بكير: (إذا علمت أنه ذكي قد ذكاه الذبح)([318])، وبعض الأخبار المعللة لحرمة الصيد الذي أرسل إليه كلاب الصيد ولم يعلم أنه مات بأخذ الكلب المعلَّم بالشكّ في استناد موته إلى المعلّم([319])، وما ورد من جواز ترتيب أحكام المذكّى على المأخوذ من يد المسلم، أو من سوق المسلمين، أو غير ذلك مما هو أمارة على التذكية([320])، فإنّه يعطي أنَّ الطهارة والحلّ في اللحوم والجلود على خلاف الأصل وإلاّ لما احتاج في حلّيتها وطهارتها إلى قيام الأمارة؛ لأنَّ الأمارة لا يصحُّ أنْ تنصب على ما هو موافِقٌ للأصل، وإنّما تنصب على مخالفته؛ ومن هنا ذَهَبَ بَعْضُهم إلى أنَّ حصر الشارع للمحرمات يدلُّ على حلية ما عداها([321]).

وفي بعضها الآخر يكون العنوان هو الميتة، كما في قوله تعالى: [قُلْ لاَ أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا]([322]) على ظاهر الآية، وقوله تعالى: [حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ]([323])، ما ورد من عدم جواز الصلاة في شيء من الميتة، أو في جلده، وإن دبغ سبعين مرة([324])، وقول الصادق  عليهم السلام  في صحيحة الحلبي: (وصل فيه حتى تعلم أنه ميت بعينه)([325])، وفي رواية أخرى: (ما علمت أنه ميتة لا تصل فيه)([326])، ما ورد في تعليل الحكم بحرمة الطعام الذي مات فيه فأرة بأنَّ الله حَرَّم الميتة من كُلِّ شيء([327])، إلى غير ذلك.

وعلى هذا؛ فمقتضى ذلك كون كُلٍّ منهما عنوان على حده مستتبعاً لحكم مغاير لما يستتبعه الآخر، بل ومقتضى ذلك كون كل منهما أمراً وجودياً، إذ لولا ذلك لعبَّر الشارع عن العدميّ منهما بعنوان عدمي، بل لا يكون حاجة لذكره، ولا فائدة لأن يستفاد حكمه حينئذٍ من حكم العنوان الوجودي.

وعليه: فلا يَثْبُتُ بجريان الأصل في عَدَمِ أحدهما الحكمُ المرتَّب على الآخر، إلاّ على القول بالأصل المثبت، بناءً على كونهما ضِدّين لا ثالثَ لهما، كالحركة والسكون، وإلاّ فلا يثبت به حتَّى على القول بالأصل المثبت.

ودعوى أنَّ المذكّى أمرٌ وجودي، والميتة عدم المذكّى ليست بأولى من العكس، وترجيحُ الأول بأنَّ للتذكية شروطاً وجودية، فلابدّ أنْ تكون الميتة عبارة عمّا عدمت فيه تلك الشروط كلاً أو بعضاً، فلا محالة تكونُ الميتة أمراً عدمياً؛ مدفوعٌ بأنه موقوفٌ على ثبوت الحقيقة الشرعية للتذكية، وهو ممنوعٌ، بل هي باقية على معناها اللغوي، أعني خصوص الذبح وفري الأوداج، واعتبار الشارع تلك الشروط في التذكية لا يقتضي ذلك، لإمكانِ أنْ يقال: إنَّ الميتة عبارةٌ عن خصوص ما ماتَ حتفَ أنفه، غايةُ الأمر أنَّ المذبوح الفاقد لتلك الشروط كلاً أو بعضاً مُلْحَقٌ بها حُكْماً لدليلٍ خارجيٍ، مُضافاً إلى أنَّ كُلاً من التسمية والاستقبال شرط ذكري، فأصالةُ عدمهما لا تثبت الحرمة إلا بعد إثبات كون تركهما عن العمد، والأصل لا يثبت ذلك إلا على القول بالأصل المثبت، وقد انتصر للمشهور القائلين بأصالة عدم التذكية([328])، بوجوه:

الأول: بأنَّ وقوع التعبير عنه موضوعُ الحرمة لغير المذكى في جملة من الأدلة يعطي بأنَّ المدار على التذكية.

وفيه: ما عرفت من التعبير عن موضوع الحرمة بالميتة في كثيرٍ من الأدلة، وعن موضوع الحلّية بالمذكى، هذا مع أنه لم يقع فيما اطلعنا عليه من الأدلة
لفظ عدم التذكية، ليدّعى كونه موضوعاً لحرمة، بل الواقع فيها التذكية و
الميتة.

وما ربما يتخيل منه ذلك، من النهي عمّا لم يذكر اسم الله عليه لا يخفى فساده، إذ هو مسوق لبيان أن التسمية شرط، وليس بمسوق لجعل عدم التذكية عنواناً ومعروضاً للحرمة، مضافاً لما عرفت من أن التسمية شرط ذكري.

الثاني: بأنّ الميتة عند الشارع عبارةٌ عمّا زهق روحه بغير التذكية، إذ لا واسطة بينهما، وإلاّ لزادت النجاساتُ على ما عدّوها.

وفيه: أنه مصادرة محضة لإمكان دعوى العكس، كإمكان دعوى كون كُلٍّ منهما أمراً وجودياً، فيكونان من الضدّين الذين لا ثالث لهما كل مختص بحكم مغاير لآخر؛ ولزوم زيادة النجاسات على ما عدّوها لا ضير فيه، مع أنه يمكن منعه؛ لأن الواسطة وهو المذبوح الفاقد لشروط التذكية لما ألحقوها بالميتة حكماً بدليل خارجي فهو ميتة حكماً، وإنْ لم تكن ميتة موضوعاً.

الثالث: إنّ الحكم لم يرتب في الشرع على الميتة، بل على غير المذكى.

وفيه: وضوحُ فساده، لما تقدم من الآياتِ والأخبار التي جَعَلَتْ الميتة موضوعاً للحرمة.

الرابع: إمكانُ دعوى أنَّ الميتة عبارةٌ عمَّا زهق روحه مطلقاً، فتشمل حتّى المذكى، إلاّ أنَّ المذكّى خَرَجَ بالدليل عن تحته وحكم بحلّيّته، فيكون خارج عن الميتة حكماً، وإنْ كان منها واقعاً، فإذا شُكَّ في تحقُّقِ عنوانِ المخصّص يرجع إلى العام ويحكم بترتّب أحكام الميتة.

وفيه: إنَّ الشُّبهة مصداقية، ولا يرجع فيها للعام، إلا أنْ يقال: إنَّ الشبهة المصداقية إنّما لا يرجع فيها للعام إذا لم يكن أصلٌ موضوعٌ يُحرز به عدم المخصص، كما لو شككنا في عروض الفسق لزيد العالم، فإنّه يُستصحب عدم فسقه، ويُتَمَسَّكُ بالعام وهو إكرامُ العلماء على وجوب إكرامه، وفيما نحن فيه نستصحب عدمَ التذكية الذي هو المخصّص، ونتمسّكُ بعموميات الميتة، ونرتب آثار الميتة.

لكنّ التحقيق: إنَّ الميتة ليس لها عموم؛ لأنّها هي الموت حتف الأنف، والأصلُ لا يقتضيها، فبَعْدَ الحياة يتعارَض الأصلان: استصحابُ عدم التذكية، واستصحاب عدم الميتة، ويتساقطان، فيرجع لأصالة الحِلِّ وأصالة الطهارة، ويرشد إلى ما ذكرناه جملةٌ من الأخبار، كالمرويّ عن سماعة قال: سألته عن أكل الجبن، وتقليد السيف، وفيه الكيمخت والفراء، فقال  عليهم السلام : (لا بأس ما لم يعلم أنه ميتة)([329])، وعن جعفر بن محمد بن يونس، أنَّ أباه كتب إلى أبي
الحسن  عليهم السلام  يسأله عن الفرو والخفّ، ألبسه وأصلّي فيه ولا أعلم أنه ذكي؟ فكتب: (لا بأس به)([330])، وعن أبي عبد الله  عليهم السلام ، عن أمير المؤمنين  عليهم السلام : (سئل عن سُفْرة وجدت في الطريق مطروحة كثير لحمها وخبزها وبيضها وفيها سكين، فقال أمير المؤمنين  عليهم السلام : يقوّم ما فيها ثم يؤكل؛ لأنه يفسد وليس له بقاء، فإن جاء طالبها غرموا له الثمن، قيل: يا أمير المؤمنين لا يدري سفرة مسلم أو مجوسي، قال: هم في سعة حتى يعلموا ذلك)([331]).

التنبيه الخامس في استصحاب الأمور غير القارة

الموجودات على قسمين:

قارة ودفعية، وهي التي يكون بقاؤها بوجودٍ واحدٍ مستمر، كالطهارة والنجاسة، وكزيد وعمرو.

وغير قارّة وتدريجية، وهي التي يكون بقاؤها بوجودٍ تدريجي منصرم يتجدَّدُ شيئاً فشيئاً، فلا يتحقّقُ جزءٌ منه إلا بعد انعدام ما قبله، وهو أمّا أنْ يكون تدرُّجُه بالذات، وهو الزّمان، كاللّيل، والنهار، واليوم، وغيرها من أقسام الزمان، وزمانيّ كالحركة، والقراءة، وجريان الماء، والدم، والمشي، والأكل، وغيرها من الأفعال الزمانية التي يكون وجودها منصرماً لا يتحقق جزء منه إلا بعد انعدام ما قبله.

وأما أن يكون تدرجه وعدم قراره بالعرض بواسطة تقيُّدِهِ بأمرٍ غير قار بالذات إلا أنه في نفسه يكون قارّاً، كما لو أمَرَهُ المولى بالإمساك طول النهار، أو بالسكوت عند تكلم أبيه.

والظاهر هو صحّة الاستصحاب في جميع ذلك، فيصحُّ استصحاب الليل، والنهار، والسنة، واستصحاب سيلان دم الحيض، وجريان الماء من المادة، واستصحاب كون الإمساك إمساكاً في النهار، وكونُ الصَّمْتُ صَمْتاً عند قراءة القرآن، بل واستصحاب سَعَةِ الزَّمَن والوَقْت للعَمَل بمستحبّاته، فإذا شَكَّ في كون الوقت بقي منه ما يسع الصلاة بوضوئها أو الغسل لها، أو أنه ضيق، فيكون حكمه التيمّم لها، استصحب السعة.

وإن أَبَيْتَ، فيصحُّ منه أنْ يستصحب بقاء الوقت إلى حين تمام العمل بشرائطه، فيستصحب بقاء الوقت لصلاة الفجر بمقدّماتها من وضوء أو غسل، ويكون من الاستصحاب للأمور المستقبَلَةِ الذي سيجيء إنْ شاءَ اللهُ مِنَّا الكلام في صِحّته.

وقد اشْتَهَرَ الإيرادُ على صِحّة الاستصحاب في الأمور غير القارّة بعدم تحقّق أركان الاستصحاب فيها؛ لأنّ المتيقّن من وجودها السابق مقطوعُ الزوال، والمشكوكُ من وجودها مقطوعٌ عدمه في السابق، فكلما يشك في وجود جزء منه يؤول الشك إلى الشك في حدوثه ووجوده ابتداء([332]).

وإن شئتَ قلتَ: إنه في هذه الأشياء لم يتحقَّق معنى البقاء.

أمّا في غير القارّ بالذات، فلوضوح أنَّ البقاءَ عبارةٌ عن وجود الشيء الموجود في الزمان الأول بعينه في الزمان الثاني، ولا ريب أنَّ هذا المعنى لا يُتصَوَّرُ بالنسبة لغير القارّ بالذات؛ لأنّ وجود كُلِّ جزءٍ منه مرتّبٌ على انعدام الجزء السابق منه، حيثُ إنّ أجزاءه تتحقَّقُ على سبيل التدريج، ولازمه عَدَمُ صدق البقاء؛ لأنّ المتيقَّن وجوده منه مقطوعٌ عدمه في زمان الشك.

وأمّا في غير القارّ بالعَرَض، كالإمساك في نهار الخميس، فلأنَّ التمييز بين أجزائه يكونُ بأجزاء ما قُيِّدَ به من الأمر التدريجيّ، فيكونُ كُلُّ جزءٍ منه مقروناً ومتقوّماً بجزءٍ من الأمر التدريجي.

وعليه: فيكونُ تحقُّق كُلِّ جزءٍ منه مرتّباً على انعدام جزئه المتحقق قبله؛ لأن المقيد لا بقاء له بعد انتفاء قيده.

وجوابه أن يقال: إن المعتبر في الاستصحاب هو إمكانُ بقاء المستصحب على نحو وجوده الثابت له، فلو كان وجوده الثابت له بنحو القرار فالمعتبر في الاستصحاب هو إمكانُ بقائه له بنحو القرار، وإنْ كانَ وجوده الثابت له بنحو التجدّد وعدم القرار، فالمعتبر في الاستصحاب هو إمكانُ بقائه له بنحو التجدد وعدم القرار، حتّى أنّه لو قُدِّرَ عَدَمُ إمكان بقائه بذلك النحو لم يكن ذلك البقاء بقاء له، فالوجود وبقاء الوجود لماهية المستصحب وشخصيته لابد في الاستصحاب من كونها من سنخ واحد، وإلاّ لم يَكُنْ البقاءُ بقاءً لوجود طبيعة المستصحب أو شخصيته، وليس يعتبر في الاستصحاب كون بقاء المستصحب بوجود آخر، فلا يتفاوت الحالُ في جريان الاستصحاب بين أنحاء الوجود، وبهذا التقريب لا تسامح في المستصحب غير القارّ، ولا في معنى بقائه، إلا أنه يمكن أنْ يقال عليه: إنَّ هذا يصحُّ لو استصحب بقاء نفس الليل، أو نفس النهار، لصدق أنَّ الشخص كانَ على يقينٍ من وجود الليل، والآن يُشَكُّ في بقائه فيستصحبه، إلاّ أنّ ذلك لا ينفعُ في إثبات كون الجزء المشكوك فيه من الليل حتّى يَصْدُقُ على فعلٍ أنّه وَقَعَ في الليل، إلاّ على القول بالأصل المثبت، فهو نظير من كان يعلم ورثته أنه عنده ثوبٌ أمانةً من زيد، وشكّوا في دفعه له، فإنَّ استصحاب بقاء الأمانة لا يُثْبِتُ أنَّ هذا الثوب الموجود عنده وحده هو ثوب الأمانة؛ لأنه لازمٌ عقلي، فكذا ما نحنُ فيه، فالأولى أنْ يستصحب وجوده في الليل، أو وجود الليل له، أو عنوان الليل للزمان الذي نحن فيه، فالزمان كنا نقطع بأنه كان متّصفاً بالليل، والآن نَشُكُّ في اتّصافه به فنستصحبه، وهكذا وَصْفُ السَّعَةِ للعمل وضيقِهِ، فمثلاً كان الليلُ يَسَعُ لهذا العمل، فإذا شَكَكْنا في سعته له أو ضيقه فنستصحب السعة، ومن هذا الباب استصحاب سعة الوقت للصلاة مع الوضوء.

وإذا أبيتَ عن ذلك، فلك أن تقول: إنّ المناط في الاستصحاب هو صدق النقض عرفاً على معاملة العدم مع المتيقن السابق، بأنْ يعامل المتيقّن السابق معاملة عدمه، وصدقُ عدم النقض عرفاً على معاملة البقاء والإبقاء مع المتيقن السابق، بأنْ يعامل المتيقّن السابق معاملة وجوده فعلاً، وهو في الأمور غير القارّة حاصلٌ، وذلك لأنَّ الأجزاء المتدرّجَةَ في الخارج تُعَدُّ عرفاً وجوداً واحداً، فترى العرف يَعُدُّ الليلَ أمراً واحداً، وتراه يَعُدّ النهار أمراً واحداً، وهكذا في التكلم، فإنه يعده أمراً واحداً، فيعدّون القصّة أو القضية أو مجموع الصّادر منه في خطبة أو قصيدة أو مجلس واحد أمراً واحداً، ويرشد إلى أنَّ وجود هذا الأمر الواحد التدريجي عندهم وجودٌ واحدٌ مستمرّ هو عدُّهم وجوده بوجودٍ أوّل جزء منه، فيقال: وجد الليل، أو الفرد الكذائي من الكلام، أو الإمساك، وعدّهم تدرّج أجزائه في الوجود بقاء له، وانعدامها ارتفاع له، وبهذا تعرف أنَّ الميزان في عَدِّ الأمر التدريجي واحدا موكّل إلى العرف، فكون هذا الكلام واحداً فيستصحب أو الكلام متعدّداً فلا يستصحب تابعٌ لنظر العرف.

والحاصل: أنه لما كان عند العرف تدرج الأجزاء للأمور غير القارة بقاء لها فيما كان منها يعد عندهم أمراً واحداً كالليل والخطبة كانت أدلة الاستصحاب شاملة لها.

وقد أجابَ عنه بعضهم - أي: عن الإيراد على استصحاب الأمور التدريجية- بأنّا نستصحب الأمور الملازمة للزمان والمعرّفات له، كأنْ يستصحب عدم الطلوع أو عدم الغروب، أو عدم وصول القمر إلى درجةٍ يرى فيها، أو عدم سكوت المتكلم([333]).

ولا يَخفى ما فيه: فإنّه يقتضي ترتيبَ آثار هذه الملازمات، وأما
الأحكام المرتّبة على نفس الليل والنهار فلا يثبت به إلاّ على القول بالأصل المثبت.

وأجابَ بَعْضُهم عنه؛ باستصحاب عَدَمِ ضدّ الزمان المشكوك، فإذا شُكَّ في بقاءِ الليل أو النهار يستصحب عدم النهار وعدم الليل، والعدم ليس أمراً تدريجيا([334]).

وفيه ما تقدّم؛ من أنّه يرتّب عليه أحكام الأعدام.

وإنْ أبيتَ عن استصحاب الزمان؛ فنستصحبُ نفس الحكم الشرعي المرتب على الأمر التدريجي، كأنْ يستصحب وجوب الصّوم، أو وجوب الإفطار بدليل قوله  عليهم السلام : (صُمْ للرؤية وأفطر للرؤية)([335])؛ ومثله ما لو شُكَّ في مفهوم الزمان، كما لو شُكَّ في أنَّ النهار اسمٌ للزمان حتَّى سقوط القرص، أو حتَّى ذهاب الحمرة، فإنّه لا يصِحُّ الاستصحاب للنهار؛ لأنه إنْ كان بالمعنى الأول فقد زالت حقيقته، وإنْ كان بالمعنى الثاني فحقيقته قطعاً باقية، فلابدّ من استصحاب نفس الحكم الشرعي.

والمناقشة في صِحّة هذا الاستصحاب بعَدَمِ إحراز الموضوع فاسِدَةٌ؛ لكون الزمان ليس بموضوعٍ، بل الموضوع هو نفسُ الصَّوم أو الإفطار في المثال، وهكذا ما كان من هذا القبيل.

نعم، الشكُّ في الحُكْمِ مُسبَّبٌ عن الشكّ في الزمان، إلا أنّه قد تقرَّرَ في محلّه: إنّ الأصلَ إذا لم يَجْرِ في السَّبب كما هو المفروض، جَرَىَ في المسبَّب بلا معارضة، مع أنَّ المنع من جريان الاستصحاب في نفس الحكم الشرعي لأمثال ما ذكرناه اجتهاد في مقابل النصّ، وهو الرّواية المتقدمة، هذا كلُّهُ واضحٌ في استصحاب الزمان والزمنيات.

وأمّا استصحابُ الأمور القارّة المتقيّدة بالزَّمان، محلّ الكلام فيها: ما إذا شُكَّ في بقاء الحكم مع القطع بارتفاع الزمان الذي أخذ قيداً له، كما لو ورد (صُمْ يوم الخميس)، وشُكَّ في بقاء وجوب الصوم ليوم الجمعة؛ لأنه لو كان الشّكُّ من جهة الشكّ في انقضاء الزمان أو الزماني، فيرجع إلى الشكّ السببي والمسببي؛ لأنّ الشكّ حينئذٍ في حكمٍ مسبّبٌ عن الشكّ في وجودِ الزمان أو الزماني.

والحاصل: إنَّ الشكَّ في الحكم تارةً يكونُ من جهة الشكِّ في انقضاءِ الزمان أو الزماني، فيكونُ الشكُّ في الحكم حينئذٍ مسبَّباً عن الشكّ في وجود المقيّد، فالمرجع استصحابُ المقيّد، فيقال: كانَ الإمساكُ إمساكاً في النّهار، فهو الآن إمساكٌ فيه إنْ كان الحُكْمُ الشرعيُّ ثابتاً للإمساك، وكالمؤتّم بإمام الجماعة إذا شُكَّ في أنَّ إمام الجماعة رَفَعَ يَدَهُ عن صَلاته لمعركَةٍ صَارَتْ أمامه، فإنَّه يستصحبُ بقاءَ الإمام على صلاته، ويبقى على الإتمام به، وهو من استصحاب الموضوعاتِ الثابت لها الحكم المتقدم.

ويمكن أنْ يستصحب القيد، أعني: الزمان، فيقال في المثال المتقدم: كان الزمان نهاراً فهو الآن نهار، فيجبُ الإمساكُ فيه، لكنَّ هذا لا يتُمّ إلاّ أنْ يكون النهارُ من قبيل الظرف، بأنْ يكون وجوبُ الإمساكِ ثابتاً في ظرفِ النهار، لا من قبيل القيد، بأنْ يكون الإمساكُ النهاريُّ قد ثَبَتَ له الوجوب؛ لأنّه يكون من الأصل المثبت.

وكيف كان؛ فهذا ليس محلُّ كلام القوم في هذا المقام، وإنما مَحَلُّ كلامهم هو: ما إذا شُكَّ في بقاءِ الحُكْم مَعَ القطع بارتفاع القيد، وهو الزمان أو الزماني، بأنْ احتمل ثبوت الحكم للمقيّد، وإنْ لم يَكُنْ القيدُ الذي هو الزمان أو الزماني موجوداً، كأنْ احتمل أنْ يكون ذكرُ القيدِ لبيانِ أفضلِ الفردين، كما لو قال لك المولى: (صُمْ يوم الخميس)، وشككتَ في بقاءَ وجوبِ الصَومِ إلى يوم الجمعة، فإنَّ الزمان جزءٌ الصّوم إلى صوم يوم الخميس، وصومُ يوم الجمعة، ومثله ما لو قال لك: (حُجَّ أول سنةِ استطاعتك)، وشككتَ في بقاء الوجوب إلى السنة الثانية، أو قال لك: (صَلِّ أوّلَ الوقتِ)، وشككتَ في بقاء الوجوب بعده، ومثله لو قال لك: (صُمْ من الفجر حتَّى سقوط القرص)، وشككت في وجوب بقاء الصّوم إلى ذهاب الحمرة، فإنَّ فرض كون القيد يراهُ العرف وبحسب متفاهمهم منوّعاً للموضوع ومقوّما له، فالمرجع هو استصحابُ عدم الحكم، كما في مثال صُمْ يوم الخميس لا غيره، فيقال: إنَّ الصَّومَ الواقع في يومِ الخميس واجب، والواقِعُ منه يومَ الجمعة مشكوكُ الوجوب، فيستصحب عَدَمُه، ولا مجال لاستصحابِ الوجوب لتعدُّد الموضوع.

وأمّا لو فرض أنَّ القيد يراهُ العرف وبحسب متفاهمهم من حالات التكليف وظروفه، أو من حالات موضوع التكليف وظروفه، لا من مقوماته ومنوعاته، وإنْ كان له دخلٌ في المصلحة بحسب الواقع، وقيدٌ بحسب الدّليل، كأنْ يرى العُرْفَ من أنَّ الواجب هو الإمساك نفسه، وكونُ الدّليل قيدُهُ بالنَّهار إلى سقوط القرص وغيبوبته من باب الظرفية له، لمصلحةٍ هناك، وأنَّ وجوبَ الإمساك بعد الغيبوبة إلى ذهاب الحمرة بقاءٌ لذلك الوجوب السابق، لا أنّه وجوبٌ جديد، فالمرجع هو استصحابُ الوجوب إلى ذهاب الحمرة المشرقية؛ لأنه يكون شكّاً في بقاءِ وجود الوجوب في هذا الزمان، على حَدِّ سائر الموجودات الخارجية، فكما أنَّ وجودَ زيدٍ لم يجزّئه الزمان فيستصحب له وجوب الإكرام، كذلك هذا الحكم، ولا ريبَ أنَّ العرف يعاملون الفعلَ المقيَّد بالزمان أو الزّماني في مثل (صُمْ إلى سقوط القرص)، معاملةَ الذاتِ الواقعةِ في الزمان في اعتبارهم الزمان ظرفاً.

والحاصل: إنَّ العبرة في تعيين الموضوع للحُكْم وكون الشكّ شكّاً في بقائه، هو نظر العرف للحكم، ولا ريبَ أنَّ نظرهم في سائر الموارد التي تعلَّق الحكم فيها بفعلٍ مقيّدٍ بالزمان أو الزماني من دونِ دليلٍ على نفيه عمَّا عَدَاهُ، وأنَّ نفس الفعل هو موضوعٌ للحُكْمِ، وأنَّ الزمان أو الزماني ظَرْفٌ له وحالَةٌ من حالات الموضوع، وعليه فيستصحب الحكم عند الشك.

نعم، لو قام النصُّ على قيديّة الموضوع بالزمان، أو كان العرف يرى
أنَّ الموضوع مُقيَّدٌ به، كما لو قال: (صُمْ يومَ الخميس فقط)، فإنّ العرف يرى
أنّ الموضوع هو الصوم المقيّد بيوم الخميس، لم يَصِحّ الاستصحاب للحكم، واستصحب عدم الحكم، فيستصحب في المثال عدم وجوب صوم يوم
الجمعة.

وبعبارة أخرى: إنَّ أخذ الزمان قيداً في الدليل لا يؤثّر في نظر العرف؛ لأن العرف يرى أنّ الموضوع هو نَفْسُ العمل المتعلّق للوجوب، وتلك الأمور من حالاته وظروفه، إلاّ مع الدّليل الصّريح على خلاف نظر العرف.

ومن هنا ظَهَرَ لك، عَدَمُ الوجه لدعوى المعارضة في المقام بين الاستصحاب الوجوديّ للحكم، واستصحاب عدمه، كما صَدَرَتْ من عِدَّةٍ من الفحول([336])، لما عرفت من كون الزمان والزمنيات ظرفاً أو حالةً لموضوع الحكم عند العرف، وأنّهم يَرَونَ نفس العمل هو الموضوع، وأنَّ بقاءه عبارة عن بقاء نفس ما يرونه موضوعاً له، ومع نظرهم ذلك لا يصحُّ استصحابُ عَدَمُ الحكم؛ لأنّه إنّما يَصِحُّ إذا كان العرف يراه حُكْما آخر، لا بقاءً لذلك الحكم الأول، وإنْ كان نفس الدليل يدلُّ على ثبوتِ الحكم مُقيَّداً بالزمان.

نعم، لو قُدِّرَ أنَّ الشكَّ في كون الزمان من أيّ النوعين عند العرف لم يصحّ الاستصحاب؛ لأنّه لم يحرز أنّ الشكّ كان شكاً في البقاء، فيكون التمسك بالاستصحاب من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية، ولكن قد عَرَفْتَ أنَّ العرف يرى أنَّ الموضوع هو نَفْسُ العَمَل الذي تعلَّق به الحكم، وأنَّ بقاء الحكم ببقائه، وأنَّ الزمانَ أو الزماني الذي أخذ في الدليل قيداً يكونُ ظرفاً وحالة للموضوع، وليس الحكمُ منوطاً ببقائه به، نظير بقاء الذوات، فإنّه ليس بقاؤها منوطاً ببقاء الزمان، بحيثُ يكون الزمان مُنوِّعاً لها، فإذا تيقَّنَ بوجودِ زيدٍ في الصّبح، وشُكَّ في وجوده في الظهر، يستصحب وجوده؛ لأنَّ الصبح لا يوجب أنْ يكون زيد في الصّبح غير زيد في الظهر.

فإنْ قلت: إنّ الزمان لا يؤخذ في الدليل إلا إذا كان لخصوصيته دَخْلٌ في حصول المصلحة الكامنة في العَمَل الذي قيّد به الشارع، سواء أخذه ظرفاً لثبوت الحكم أو مُنوِّعاً لموضوعه.

قلنا: نعم، إلاّ أنَّ المناط في صحة الاستصحاب هو صِدْقُ البقاء عند العرف، بحيثُ أنّه لو جَعَلَ الشارعُ الحُكْمَ المماثل للسّابق، كانَ العُرْفُ يَرَاهُ استمراراً وامتداداً للحكم السابق، وهذا يَحْصَلُ بمجرّدِ وَحْدَةِ الموضوع الذي تعلَّق به الحكم في نظر العرف، وإنْ كانَ بحسب المصلحة والدليل والعَقْل مختلفاً لصدق النّقض عُرْفاً عند المخالفة، وقد تقدَّم منّا تحقيقُ ذلك وتنقيحُهُ في اعتبارِ بقاء الموضوع في الاستصحاب؛ هذا كُلُّهُ فيما إذا كانت الشبهة موضوعية.

وأمّا إذا كانَتْ حُكْمِيّةً، كما لو كان الشّكُّ من جهة إجمال اللفظ، مثل ما إذا شككنا في أنَّ الغروب الذي جُعِلَ غايةً للصوم عبارةٌ عن استتار القرص، أو عن ذهاب الحمرة المشرقية، أو كانَ من جِهَةِ تعارُضِ الأدلّة، مثل ما إذا تردَّدَ آخر وقت صلاة العشاء بين منتصف الليل، كما هو المحكيّ عن المشهور([337])، وبين الفجر كما نُسِبَ إلى بَعْضِ الفقهاء مع التزامه بحُرْمَةِ التأخير عن منتصف الليل([338])، فلا ريب في عدم صِحّة استصحاب الموضوع، بأنْ يستصحب النهار إلى زوال الحمرة، والعشاء إلى طلوع الفجر، لكون النَّهار على تقدير استتار القرص يكونُ قد انعدم قطعاً، وعلى تقديرِ ذهاب الحمرة فهو باقٍ، فلا شَكَّ فيه.

نعم، يَصِحُّ استصحاب الحكم إذا كان العُرْفُ يرى وَحْدَةَ الموضوع، كما في المثال السابق، فإنَّ العُرْفَ يرى أنَّ الصوم من سقوط القرص حتى ذهاب الحمرة امتداد للصوم الواقع قبل سقوط القرص وبقاء له، لا أنه صومٌ جديد غير ذلك الصوم؛ لأنه يرى أنَّ الزمان في مثل ذلك غير منوّع للصوم حتى يكون الموضوع وهو الصوم قد تبدّلَ بتبدّل الزمان، أمّا إذا رأى العرفُ عَدَمَ وحدة الموضوع أو شَكَّ فيها، فلا يصحُّ استصحاب الحكم وهو الوجوب، لتعدُّدِ الموضوع وهو الصوم.

التنبيه السادس: في الاستصحاب الاستقبالي

وهو أنْ يكونَ المتيقَّنُ فعليّاً يشك في بقائه في الاستقبال، كما إذا علمنا بالاستطاعة في أوّل الحجّ، وشككنا في بقائها إلى آخره، فإنّه يستصحب بقاؤها إلى آخره، أو يستصحب عنوانُ المستطيع، وكما إذا علمنا بعدم الضرَّر في الصّوم أوّلَ النَّهار، وشككنا في ضَرَره في آخر النهار، فإنّه يُستصحب في أوّلِهِ عَدَمُ ضرره إلى آخر النهار، وهكذا المرأة المبتدئة إذا رَأتْ الدَّمَ أوَّلَ يومٍ، وشَكَّتْ في بقائه ثلاثَة أيّامٍ، تستصحب بقاءه إلى ثلاثة أيامٍ، بناءً على ترتُّبِ أَثَرِ الحيض على بقاءِ الدَّم ثلاثةَ أيام، وهكذا يجوزُ البدار لذوي الأعذار عند شكّهم في بقاء العذر إلى آخر الوقت استصحاباً لبقاء العذر.

وهذا الاستصحابُ يُسمَّى بالاستصحاب الاستقبالي لأنه يثبت الأمر في المستقبل لا في الحال، ولابُدَّ في إجرائه في الموضوعات من ترتُّبِ الأثر الشرعي فعلاً على البقاء في الاستقبال، فلو قُدِّرَ عدمُ الأثر فلا وجه لجريانه، فمثلاً نعتقد بعدالة زيد فعلاً، ونشكُّ في ثبوتها في المستقبل، فاستصحابها لا ثمرة له فعلاً، اللّهم إلاّ أنْ يقال: أثرُها جوازُ جَعْلِه قَيِّماً على الصَّغير، والمناقشة في المثال ليس من دأب المحصلين.

والدليلُ عليه: السِّيرَةُ، فإنَّ الأعمالَ الواجبةَ التدريجية لولا هذا الاستصحاب لم يحرز المكلف بقاءَها على صفة الوجوب إلى حين تمامها، وعنده فكيف يصحُّ منه قصد الوجوب، بل عمل العقلاء عليه في سائر أعمالهم التدريجية، مضافاً إلى دلالةِ الأخبار عليه، فإنَّ قوله  عليهم السلام : (ولا ينقضُ اليقين بالشك)([339])، يدلُّ على عدم جواز نقض اليقين بالشكّ، حتَّى لو كانَ الشكُّ قد تَعلَّقَ بالأمرالمستقبل.

التنبيه السابع في الاستصحاب التعليقي

انّ الاستصحابَ ينقسمُ باعتبار المستصحب إلى تنجيزي وتعليقي، وذلك لأنَّ المستصحب إنْ كان أمراً موجوداً فعلياً، كحرمة الخمر سُمّي الاستصحاب تنجيزياً؛ وإنْ كانَ أمراً وجودُه معلَّق على شيء، ومشروطٌ بهِ فيسمَّى الاستصحابُ له بالاستصحاب التعليقيّ، أو الاستصحاب التقديري.

فالدليلُ الشرعي إذا كانَ دالاً على حُكْمٍ مشروط، وفيه إهمال بالنسبة للحالة المشكوك فيها، كان استصحابه تعليقاً، واشتهر المثال له باستصحاب نجاسة العصير للعنب وحرمته المعلقين على الغليان، إذا صارَ العنب زبيباً، نظراً إلى أنَّ العرفَ يَرى أنَّ العنبية والزبيبية حالات طارئة على هذا الثمر.

وإنْ كانَ الدّليلُ دالاً على حُكْمٍ غير مشروطٍ، وكانَ مهملاً بالنسبة إلى الحالة المشكوك فيها، كان استصحابُه تنجيزياً.

وبهذا ظَهَرَ لكَ أنّه يُعْتَبَر في الاستصحاب التعليقي أمران:

الأول: أنْ يكون المستصحَبُ وجودُه مشروطاً بشيء لم يكن موجوداً ذلك الشيء وقتَ اليقين، إذ لو كانَ موجوداً كانَ تنجيزياً، وعليه؛ فليسَ منه استصحابُ نجاسة أو حرمة عصير العنب بعد أنْ اتّصفَ بالغليان، كأنْ شكَّ في ذهاب ثلثيه لأنه يكون استصحاباً لأمر منجّز، وبهذا ظَهَرَ لك أنّه لا وجه لما عن بعضهم([340]) من التمثيل بنجاسة الماء المعلّقة على تغيُّرِهِ باستصحابها بعد زوالِ تغيُّرهِ من نَفْسِهِ، فإنّه يكونُ استصحاباً للنجاسة المنجزة.

والثاني: أنْ يكون المستصحب نفس بقاء المعلّق بتعليقه ومشروطيته، لا استصحاب نفس الحكم بدون شرطه، بأنْ يستصحب في المثال المتقدم نفس حرمة العصير، بدون تعليقها على الغليان، فإنّه لا إشكالَ في عدم صحّته، لكونه مقطوع العدم، أو أنه لاحَظَّ له من الوجود، ولا استصحاب نفس الشرط، فإنَّ استصحابه استصحاب لأمرٍ موجودٍ فعليٍ، كما لو غلى العصيرُ العنبيُّ، وشُكَّ في بقاء غليانه، فإنَّ استصحاب غليانه استصحابٌ لأمرٍ موجودٍ فعليٍ، ولا استصحاب نفس شرطية وتعليق الحرمة على الغليان، فإنّها بعد تعليق الشارع للحكم عليه صارت متحققة بالفعل، وموجودة بنحو التنجيز، وإنّما المستصحب فيما نحنُ فيه هو الحكم حال كونه مُعلَّقاً على أمرٍ لموضوع تبدَّلَ حاله، ففيما نحن فيه يستصحب الحرمة أو النجاسة الثابتة للعصير العنبيّ المشروطة والمعلّقة على الغليان عندما تزولُ العنبية منه، وتطرأ عليه الزبيبية، ولا ينبغي الرّيبُ في صِحَّتِهِ لأنَّ الحكم بإنشاءِ الشارع له وجعله له صارَ له نحوُ وجودٍ لم يَكُنْ سابقاً، فإذا طرأ عليه بعضُ الحالات أو الظروف التي يُشَكُّ في بقائه مَعَهَا صَحَّ استصحابه لتماميّة ما يعتبر في الاستصحاب فيه من اليقين السابق بمجعوليّةِ الشارع له في هذا الموضوع، والشكُّ في بقائه لحدوثِ طارىءٍ لبعض الحالات على الموضوع.

وقد أوْرَدَ على صِحّة استصحاب الحكم المعلّق بإيراداتٍ ثلاثة:

[الايراد] الأول: هو عَدَمُ عمومِ أدلّةِ الاستصحاب للحُكم التعليقي المشكوك البقاء، لعدم وجودِهِ في السَّابق حتَّى يُستصحب، إذ الوجودُ التقديري المشروط في الحقيقة عدم؛ لأنَّ وجوده مرتبطٌ بوجود ما شُرِطَ فيه وما عُلِّق عليه، والفرض عَدَمُ ما عُلِّق عليه، فيكونُ متيقَّنُ العدم، وقد أصَرَّ الأستاذ كاظم الشيرازي على ذلك، ومَنَعَ من جريانِ الاستصحاب التعليقيّ.

وجوابه: إنّ الحكم المعلَّق بما هو معلَّق موجود بالفعل، ولذا يصح حمل الوجود عليه، ولا يصحّ سلبه عنه.

فنقول: الحكم المعلق بما هو معلق موجودٌ وثابتٌ فعلاً، ولا يصحُّ أنْ نقول إنّه ليس بموجودٍ بوصفِ أنّه معلّق فعلاً؛ لأنَّ القضيّة المعلَّقة تصدُقُ بمجرَّد وجودِ التّعليق، ولا يعتبر في صدقها تحقُّق طرفيها، فقولُنا: إنْ كانت الشَّمْسُ طالعة فالنّهارُ موجودٌ صادقة حتَّى في اللّيل، ولا يعتبر في الاستصحاب إلاّ اليقين السابق، والشكُّ اللاحق، وهُما موجودان فيما نحن فيه، ففي حال العنبية عندنا اليقين بنجاسة العصير إذا غلى، وفي حال الزبيبية نشكُّ في نجاسة العصير إذا غلى.

الإيرادُ الثاني: هو بَعْدَ تسليم جريان الاستصحاب في الحكم المعلّق، لكنه معارض باستصحاب ضِدّه، وهو الحُكْمُ المطلق الموجود في موضوعه، فاستصحاب حُرْمَةِ العصير المعلّقة بالغليان إلى ما بَعْدَ الغليان حال الزبيبية، يعارضه استصحابُ الحلية المنجّزة الفعلية الثابتة للعصير قبل الغليان إلى ما بعد الغليان حال الزبيبية.

والحاصل: إنّ الزبيب قَبْلَ الغليان ثابتٌ لعصيره الحلية قطعاً، فتستصحب إلى ما بعد الغليان، وهو يعارض استصحاب الحرمة المعلقة.

وأجيب عن إشكال المعارضة بعدة أجوبة:

أحدها: ما ذَكَرَهُ صاحبُ الكفاية، من أنَّ الحِلّية الفعلية مع الحرمة المعلقة لا تضادَّ بينهما، لكونهما كانا مجتمعين حالَ اليقين بهما سابقاً، والمستصحب هو نفسُ المتيقَّن السابق، أعني: نفسُ الحرمة المعلَّقة التي كانت مجتمعة مع الحلية المطلقة، فما كان يعامل معهما حال اليقين السابق بهما يعامل فعلاً معهما.

ففي المثال المذكور كانَ حال اليقين يعاملُ العصير للعنب عند عَدَمِ الغليان بالحِلّيّة وبالحرمة بَعْدَ الغليان كذلك بالاستصحاب يعامل عصير ما صار من العنب زبيباً بالحلّية قبل الغليان وبالحرمة بعده([341]).

وأورد على هذا الجواب أستاذنا كاظم الشيرازي، بتوضيح وتنقيح منا: أنّه إنْ أريدَ استصحابُ غائيّة الغليان للحلّية وسببيّته للحُرْمَة، بحيثُ يكون المستصحب حُكْمَاً وضعياً، فلا إشكال ويكونُ هذا من استصحاب الحكم الفعليّ المطلق؛ لأنَّ للسببية والغائية أحكام فعلية للغليان لا تقديرية.

وإنْ أريد استصحاب نفس الحكم التكليفي، فإنّا نستصحب الحلّية إلى ما بعد الغليان، ونقولُ: إنَّ من المحتمل أنْ يكونَ المحرم هو خصوص عصير العنب بالغليان دون العصير الزبيبي، وأنَّ الحلية تكون مستمرّة الثبوت لعصير ما صار زبيباً حتّى بعد الغليان، بأنْ يكون الغليانُ غاية لخصوص حلّية العصير في حال العنبية، دون حال الزبيبية، ومع هذا الاحتمال يكونُ الشكُّ في بقاءِ الحِلّيّةِ بعد الغليان لعصير الزبيب ثابتاً، فيصحّ استصحاب الحِلّيّةِ لما بعد الغليان، ويعارضه الاستصحاب التعليقي الذي يقتضي الحرمة بعد الغليان.

الجوابُ الثاني: إنَّ الحلية في الزبيب وإنْ كانت متيقّنة قبل الغليان، إلا أنها مردّدة بين أنّها هي الحلية التي كانت ثابتةً للعنب بعينها حتَّى تكون مغياة بالغليان، أو أنَّها حِلّية غيرها جديدة حادثة للزبيب بعنوانه، فتكونُ باقية بالاستصحاب، ولا ريبَ أنَّ الأصل عَدَمُ حُدوثِ حِلّيّةٍ جديدة، وبقاءِ الحلية السابقة المغياة بالغليان، وهي ترتفع به، فلا تكونُ قابلة للاستصحاب، فالمعارضة المتوهمة غير تامة.

قلنا: إنّا نستصحبُ نفس الحلية في المادة عندما كانَتْ عنباً إلى ما بعد الغليان، فإنّا نحتمل بقاءَها بعد اتّصافِ المادّةِ بالزبيبية بَعْدَ غليان عصيرها، لاحتمال أنَّ الحِلّيةَ مغيَّاة بخصوص الغليان حال العنبية دون حال الزبيبية، فإنّه هو مَحلُّ الشكّ والتردد.

وبعبارةٍ أخرى: نحنُ نستصحبُ حالَ الزبيبية بَعْدَ الغَليَان الإباحة المغيّاة بالغليان حالَ العنبيّة، فإنّها المتيقّنة عندنا، وهي تَعَارُضُ الحرمة حال الغليان عند الزبيبية.

الجواب الثالث: إنّا نتكلَّمُ في استصحاب الحُكْمِ التعليقيّ مع فرض بقاء الموضوع عرفاً، لما عَرَفْتَ من أنَّه مع عَدَمِ بقائهِ لا تكونُ مخالفته نقضاً له، ففي المثال المذكور المفروض أنَّ العنب باقٍ في نظر العرف، وأنَّ الزبيبية طارئة على العنب، لا أنها تقلّبه عند العرف إلى موضوعٍ غير العنب، وعليه فالاستصحاب يقتضي ثبوت الحِلّية له قبل الغليان، والحرمة ثابتة له بعد الغليان؛ لأنَّ حكم العنب قبل طروُّ الزبيبية له هو ذلك، فلو عُومِلَ بَعْدَ طروُّ الزبيبية عليه بغير ذلك كانَ نقضاً لحالة العنب السابقة.

وبعبارةٍ أخرى: الميزان هو صِدْقُ النقض عند العرف، فإذا فُرِضَ أنَّ ذاتَ العنبية عند العُرْف باقية حال طروّ الزبيبية عليها، وأنَّ الزبيبيةَ من عوارض ذات العنبية لا أنها مزيلة لها، كانت الحلية بعد الغليان نقضاً للحكم السابق لها؛ لأنَّ الحُكْمَ السابق لها بعد الغليان هو الحرمة، بخلافِ الحرمة فإنَّه بقاء لحكمها السابق، ولعلَّ ما سَبَقَ من الأجوبة ناظر لما ذكرناه.

الإيرادُ الثالث: بأنّه من الأصولِ المثبتة؛ لأنّه بالاستصحاب التعليقيّ يراد إثبات الحكم المعلّق فعلاً بعد حصولِ ما علّق عليه، وهذا أَمْرٌ لازمٌ عَقْلاً لتعليق الحُكْمُ، وليسَ بمجعولٍ شرعاً، بداهَةَ أنَّ المجعول الشرعيّ هو نفسُ الحكم المعلّق، وبعد حصولِ ما عُلِّق عليه يحكُمُ العَقْلُ بفعليّتِهِ وتنجُّزِهِ ولُزوم امتثاله لا الشرع.

وجوابه: إنَّ الأثَر إذا كان أثراً للشيء، سواء كان ثابتاً في الواقع أو الظاهر، لم يكن ثبوته بالاستصحاب من الأصل المثبت، وحكم العقل بفعلية التكليف عند حصول شرطه، ووجوب امتثاله من آثار التكليف، سواء كان ثابتاً في الواقع أو في الظاهر، فهو لازمٌ عقليٌ للظاهريّ والواقعي، كوجوب المقدمة، والنهي عن الضدّ، ونحو ذلك، على القول بها، ولذا التكليف الفعلي باستصحابه يثبت به وجوب امتثاله، مع أنَّ وجوبَ الامتثال حكمٌ عقليٌ، وأثَرٌ غيرُ شرعيٍ، لا أثر للظاهري منه والواقعي.

الاستصحاب التعليقي في الموضوعات

ما تقدم كان في استصحاب الحكم الشرعي من حيث وجوده في الخارج وعالم التشريع، والكلامُ هنا في استصحاب الموضوعات من جهة تحقُّقها ووجودها في الخارج، فيما إذا كان الموضوع الخارجيّ تحققه مشروطا بشيء، ثُمَّ شك في تحقق ذلك الموضوع مع تحقّق شرطه لطارئ طرأ ولحادثٍ تحقق، مثلاً: إنَّ هذا الثوب كان إذا ألقي في هذا الحوض يطهر فألقي فيه، وشكَّ في تغير ماء الحوض بنجاسة وقعت فيه، فيستصحب هذا التعليق في طهارة الثوب، فيقال: إنَّ طهارة هذا الثوب كانت معلّقة على إلقائه في مائه، والآن يشكّ في ذلك لاحتمال تغير ماء الحوض بالنجاسة، فيستصحب هذا التعليق في الموضوع، ويحكم بطهارة الثوب.

ولعلّ أغلب الموضوعات التي يُشَكُّ في تحقيقها ترجع إلى ذلك، فيقال: إن الوضوء يتحقَّقُ بغسل الأعضاء، والآن يُشَكُّ في ذلك لاحتمال حدوث حاجب، فيستصحب ذلك ويغسل، ولا يتفحّص عن وجود الحاجب، ويبني على حصول الطهارة، بل يمكن أن يدّعى قيام سيرة العقلاء على ذلك، فإنّه في أغلب أعمالهم يجرون على هذا الاستصحاب التعليقي، ففي ذهابهم لشرائهم من السوق يكون بهذا الاستصحاب، باعتبار أنَّهم إذا ذهبوا إلى السوق يجدون اللحم فيشترونه، ولا يعتنون باحتمال موت صاحب اللحم، وهكذا حتى في جزئياتهم، فهم يفتحون القفل بهذا المفتاح، ولا يحتملون حدوث المانع فيه، بل حتى في أدويتهم بالنسبة إلى أمراضهم التي اعتادوا شفاءهم بها، إلى غير ذلك.

ودعوى أنه معارض بالاستصحاب التنجيزي لعدم الموضوع المعلّق الأزلي، كعدم دُخولِ الوقت المعارض لاستصحاب دخول الوقت المعلَّق على بلوغ الساعة الثانية عشر، مدفوعة؛ بأنَّ عمل العقلاء واستقرار سيرتهم على العمل بالاستصحاب المعلّق، وتقديمه على الاستصحاب المنجز.

هذا إذا عملنا به من باب بناء العقلاء، وأمّا إذا عملنا به من باب الأخبار، فنقول: إنَّ العرف يرى أنَّ الباقي هو موضوعُ الاستصحاب التعليقي، لا الاستصحاب التنجيزي للعدم، فإنّ العرف يرى أنَّ الساعة إذا بلغت الثانية عشرة دخل الوقت، أمّا استصحاب عدم دخول الوقت الأزليّ فموضوعه حينئذ عند العرف هو العدم مع عدم بلوغ الساعة لهذا الحد.

ودعوى أنّه من الأصل المثبت؛ لأنَّ المستصحب لم يكن حكماً شرعياً؛ لأنه عبارةٌ عن تلازم بين موضوعين في الخارج، ففى المثال يكونُ عبارة عن تلازمٍ بين بلوغ الساعة الثانية عشرة، وبين دخول الوقت، وليس بذي أثرٍ شرعيٍ لأنَّ وجوبَ الصَّلاة ليس أثراً لهذا التلازم، وإنّما هو أثرٌ لنفس تحقق الدخول في الخارج.

والحاصل: إنّ الاستصحاب التعليقيُ مرتَّبٌ على الملازمة العادية بواسطة جريان العادة بثبوت المعلّق، وهو الدخول على تقدير ثبوت المعلّق عليه، وهو بلوغ السّاعة الحدّ المذكور، وهو نظيرُ استصحاب حياةِ زيدٍ لإثباتِ خروج لحيته ليفي بنذره لو خرجت.

فاسدةٌ؛ فإنَّ حُجيّة الاستصحاب هنا من جهة بناء العقلاء عليه في هذا المورد، حيثُ قد عَرَفْتَ أنَّ أعمالهم وقضاياهم كُلُّها مبنيّةٌ على العمل بهذا الاستصحاب في هذا المقام، لا من جهة حصول الاطمئنان، بل بمجرَّد اليقين السابق والشكّ اللاحق يجرون على الملازمة، والمولى له حقُّ العقاب على عبده لو خالف، بل للدولة العقاب لو لم يعمل بالملازمة.

سَلَّمنا أنَّ حجية الاستصحاب حتّى في هذا المورد من باب الأخبار، فنقول: إنَّ عَدَمَ العمل بالملازمة يكون نقضاً لليقين السابق، فإنَّ مَنْ كان متيقّناً بأنَّ الوقت يَدْخُلُ ببلوغ الساعة لهذا الحدّ ويخرج ببلوغها لهذا الحدّ، فإذا بلغت الساعة لهذا الحدّ وحَصَلَ له اليقينُ ببلوغها لهذا الحدّ ولم يترتب الأثر على دخول الوقت أو خروجه، فقد نقض يقينه السابق بملازمة دخول الوقت، أو خروجه لبلوغ الساعة هذا الوقت، وما ذكرناه لا يشبه التنظير، فإنَّ في التنظير لم يحرز وجودُ المعلّق عليه، وهو حياةُ زيد، وفيما نحن فيه قد أحرز وجداناً المعلق عليه، وهو بلوغ الساعة هذا الوقت، بل الأولى قياس ما نحن فيه بالملازمة الشرعية المستصحبة، كما لو كنّا نعلم بأنَّ هذا الماء إذا ألقي فيه الثوب يطهر والآن نشكّ في وجود هذه الملازمة، لاحتمال أنَّ الماء قد تغيّر فنستصحب هذه الملازمة، ولازمها عقلاً أنّ الثوب قد طَهُر بإلقائه بهذا الماء، فإنَّ هذه الواسطة وهي حكم العقل بتحقيق المعلّق عليه لا تمنع من جريان الاستصحاب بحيث يرد ويمنع منه، بدعوى أنه بواسطة عقلية، وإنّما هذا حكم عقلي لازم لوجود الملازمة واقعا أو ظاهراً، فهو ليس من الواسطة المانعة من الاستصحاب، إذ ليس فيه ثبوتُ شيءٍ بواسطة الاستصحاب، وإنّما الذي ثَبَتَ بالاستصحاب هو نفس الملازمة العادية، كما يثبت به نفس الملازمة الشرعية، بل كما يثبت به نفس الحكم الشرعي ويحرز وجوده بالوجدان، كما لو استصحبنا وجوب صلاة الجمعة أو العيد، فإنه لا يترتب أثر على هذا الاستصحاب إلا بواسطة الإحراز الوجداني للعيد أو ليوم الجمعة، بواسطة حكم العقل بتنجّز التكليف عند إحراز موضوعه.

ولكن لا يخفى ما في ذلك من الفساد، فإنَّ الأحكام الشرعية من لوازمها سواء كانت ثابتة في الواقع أو في الظاهر هو حكم العقل بامتثالها عند إحراز موضوعها، أمَّا الملازمة بين الشيئين سواء كانت بين شرعيين، كالملازمة بين التقصير والإفطار شرعاً، أو بين واقعيين كالملازمة بين وجود النهار وطلوع الشمس، وبين وصول الساعة إلى الحدّ الفلاني ودخول الوقت، فحكم العقل بتحقّق اللازم عند تحقق الملزوم، أو المعلّق عند تحقق المعلّق عليه إنما يثبت للملازمة بوجودها وثبوتها الواقعي، لا بثبوتها التعبدي فإنَّ العقل لا يحكم بوجود اللازم عند وجود الملزوم إذا كانت الملازمة ثابتة في مرحلة الظاهر، وإنما يحكم لو كانت ثابتة في الواقع، وفرض كلامنا في الملازمة الثابتة في الحال بالاستصحاب، وهي ليست بمقطوع بها في الواقع، والحكم بتحقّق أحد الشيئين إذا تحقّق الآخر فيما لو كانت الملازمة فعلاً موجودة في الواقع، كأن قطع بوجودها بالعلم أو العلمي، وليس العقل يثبتُ لها ذلك الحكم لو ثَبَتَ التعبُّد بها، فإنَّ التعبُّد بها إنّما يُوجبُ ثبوتَ آثارها الشرعية لا آثارها المختصة بواقعيتها، فعَدَمُ جريان الاستصحاب فيها من جهة عدم ترتّب أثر الامتثال عليها.

فالحقُّ: إنَّ الاستصحاب إنْ أوجب الاطمئنان بالملازمة أخذ به لأنَّ الاطمئنان حُجّة وإلاّ فلا، وهو القَدْرُ المتيقّن من سيرة العقلاء على الأخذ به في هذا المقام، نعم لو حَصَلَ القطع بثبوت السيرة على الأخذ به في المقام وإنْ لم يحصل الاطمئنان جاز العمل به.

التنبيه الثامن في الأصل المثبت

إنَّ الاستصحابَ إذا كان مجراهُ الأمرُ الخارجيُّ فبالنسبة إلى آثارِهِ ينقَسِمُ إلى قسمين:

أحدهما: يُسمَّى بالأصل المثبت، وهو الاستصحابُ الذي لا يثبت به الأثر الشرعيّ للمستصحب إلاّ بواسطة الأثر غير الشرعي للمستصحب، سواء كان هذا الأثر غير الشرعي أثراً عقلياً، كاستصحاب حياة ابنه إلى هذا الوقت لإثبات قابليته لتعلّم الكتابة لأجل نذره بالتصدّق لو كان بَلَغَ ابنه لهذا الحدّ، أو كان أثراً عادياً، كاستصحاب حياة ابنه لهذا الوقت لإثبات خروج لحيته للوفاء بنذره لو خرجت لحيته، وكاستصحاب تقاطر الماء إلى هذا الوقت الذي لازمه العقلي أن يكون الماء كُراً لو بقي يتقاطَرُ حتَّى الآن ليطهر ثوبه بغسله فيه، أو لإثبات لوازم المستصحب الشرعية التي يحكم العقل بلزومها، كاستصحاب طهارة ما وقع عليه بول طائر لم يعلم أنّه غير مأكول اللحم، حتّى يكون ما وقع عليه قد تنجّس، أو مأكول اللحم حتى يكون طاهراً، فإنَّ استصحاب طهارة ذلك لإثباتِ أنَّ البولَ طاهرٌ، وأنَّ الطائر مأكولُ اللحم يكونُ بحكم العقل؛ لأنَّ
العقل هو الذي يرى الملازمة بين هذه الأمور وهو طهارة ما وقع البول عليه، وبين طهارة البول، والملازمة بين طهارة البول، وبين حِلّيّةِ أكلِ لَحْمِ الطّائر،
وإلا فالشارع إنّما حَكَمَ بنجاسة بول ما لا يُؤكَلُ لحمه من الطير، وطهارة ما يؤكل لحمه، والعَقْلُ حَكَمَ بالملازمة بين هذه الأمور عند الشَّرع لحكم الشرع المذكور، ومثله ما إذا يتردَّدُ مائعٌ بين كونه بولاً أو ماءً وتوضّأ به غفلة، فإنّه
يحكم بطهارة أعضائه، ويلزمه عَقْلاً أنَّ المائع ماء، وهكذا استصحابُ طهارة الملاقي لأحد أطراف المعلوم بالإجمال نجاسته، فإنّه لازمه عقلاً طهارة ذلك الطرف.

وقد سَمّى هذا القسم من الاستصحاب جدّنا كاشف الغطاء([342]) بالأصل المثبت؛ لأنه يثبت به آثار المستصحب غير الشرعية أو غير الشرعي ثبوتها،
ثم توسع المتأخرون، فسمّوا كُلّ أصل يَثْبُتُ به أثرٌ غيرُ شرعيّ، أو غير الشرعي ثبوته بالأصل المثبت، كأصالة الصّحة، أو أصل الطَّهارة، أو البراءة، أو
غير ذلك مما يثبت به الأثرُ غيرُ الشرعيّ، وعَبَّروا بقولهم (هذا من الأصول المثبتة)([343]).

قال المرحوم الشيخ حسن المامقاني([344]) في تقريراته لمباحث السيد حسين الترك([345]): (وهذا الأصل المثبت للأمور العادية هو المعبر عنه في كلام الشيخ كاشف الغطاء بالأصل المثبت، وقد ذَهَبَ إلى عدم حُجيّته، وتبعه على ذلك جماعَةٌ من العلماء، إلاّ شريف العلماء والدربندي، فإنّهما ذهبا إلى حجيته، وأمّا الفقهاء فيذهبون إلى عدم حجيته)([346]).

وقال المرحوم الآشتياني في شرحه للرسائل في هذا المقام: (وهذا إن الأصل المثبت لا اعتبار به على القول باعتبار الاستصحاب من باب التعبد، إذ كان مجراه الموضوع الخارجي، وأول من عنون الأصل المذكور بهذا العنوان على ما حكاه شيخنا دام ظله في مجلس البحث عن فقيه عصره الشيخ جعفر، وشاع بين ولده المشايخ وتلامذته وتلامذتهم)([347]).

وقال المرحوم الآغا الدربندي في خزائنه في هذا المبحث: (والظاهر أنَّ هذا التفصيل إنّما نشأ من الشيخ الأجلّ، مقرم مضمار الفقاهة، الشيخ جعفر، ثم حذا حذوه أولاده الأجلاء، وصهره الفاضل الأفخم الشيخ محمد تقي، وأخوه العالم البارع صاحب الفصول).

وذكر صاحب وسيلة الوسائل المحقق السيد باقر في هذا المبحث: (أنّه اشتهر هذا العنوان بين علماء هذه الأعصار، مثل كاشف الغطاء وأولاده الأماجد، وصهره المحقق، وأخي صهره المدقّق، وتلميذه صاحب الجواهر وعلماء عصرنا).

والقسم الثاني: ويسمّى بالأصل غير المثبت؛ لأنّه لم يثبت به أثر غير
شرعي، ويسمّى أيضاً بالأصل الشرعي، وهو الاستصحاب الذي يثبت به
الأثر الشرعي من دون أنْ يتوقَّفَ إثباته به على توسُّط ثبوتُ أمرٍ غير شرعيٍّ
به، كاستصحابِ حياةِ ولده لترتيب حُرْمةِ نكاحِ زوجَتِهِ، وحُرْمَةِ قسمة أمواله على مواريثه.

والقسمُ الثاني هو الحجة؛ لأنَّ مفاد قوله  عليهم السلام : (لا تنقض اليقين بالشكّ) هو المضيُّ على اليقين السابق والعَمَل عليه، ومُقتضى ذلك هو جَعْلُ الشّارع في زمان الشكّ حكماً ظاهرياً مساوياً للمتيقَّن السابق في جميع مايترتَّب عليه، إذا كان المتيقّن السابق حُكْماً شرعياً، وأمّا إذا كانَ موضوعاً خارجياً هو جَعْلُ آثاره التي رتَّبها الشَّارع عليه وجعلها له دون جعل غيرها من عقليّةٍ أو عاديّةٍ ففي المقام دعويان:

إحداهما: إنَّ المجعول هو آثاره الشرعية.

وثانيهما: عَدَمُ ترتُّب الآثار العقليّة والعادية، ولا الآثار الشرعيّة الثابتة بواسطتها.

أمّا الدّعوى الأولى، فالدّليلُ عليها أمران:

أحدها: أنَّها القدر المتيقّن، والمطلق إنّما يحمل على إطلاقه إذا لم يكن قدر مُتيقَّن في مقام التخاطُّب يَصْلُحُ للاعتمادِ عليه، فإنَّ المتكلّم هو الشارعُ وهو في مقام الجعل والإنشاء والتشريع، فالقدر المتيقَّن هو جعله الآثار الشرعية الثابتة له بدون توسّط الآثار العقلية أو العادية.

ثانيها: إنَّ الدلالة على إرادة الآثار هي دلالة الاقتضاء التي هي عبارة عن صون الكلام الحكيم عن اللغوية؛ لأنَّ الموضوع الخارجي الذي هو مجرى الاستصحاب، كحياة زيدٍ غير قابل لجعل الشّارع له في حالِ الشَّكّ، إذ هو أمرٌ تكويني، فلا بُدَّ من أنْ يكونَ مراد الشارع ببقائه وجعله وتشريعه في حالِ الشَّكِّ هو جعل آثاره صوناً لأمر الحكيم عن اللغوية، ولا رَيْبَ أنَّه بحمله على إرادة الآثار الشرعية التي هي القدر المتيقَّن يُصان كلامه عن اللغوية.

وأمّا الدَّعوى الثانية وهي عَدَمُ ترتُّب الآثار العقلية والعادية على المستصحب، بل كُلّ مجرى للأصل، ولا الآثار الشرعية المرتبة على المستصحب بواسطتها فالدّليل عليها أمران:

أحدهما: إنَّ الآثار العقلية أو العادية للشيء بحكم العقل، وكذا الآثار العاديّة إنما تثبُتُ للشيء بحكم العادة والعقل، والعادة إنّما يحكمان بالثبوت للشيء بوجوده الواقعي لا بوجوده التعبُّدي التنزيلي الظاهري من قبل غيرهما وهو الشرع، فحياةُ زيدٍ مهما يعبدنا بثبوتها الشارع، فالعادة لا تحكم بثبوت نبات اللحية له؛ لأنَّ العادة إنما تحكم بلزوم النبات لحياته في هذا الوقت لو كانت الحياة في الواقع متحقّقة، وهكذا العقلُ لا يحكم بقابليته للتعلّم؛ لأنَّ العقل إنما يحكم بلزوم القابلية للتعلّم لحياته إلى هذا الوقت لو كانت الحياة إلى هذا الوقت متحقّقة في الواقع، فجَعَلَ الشَّارع للحياة إلى هذا الوقت إنّما يقتضي جعل ما جعله نفس الشارع لها، كحرمة زواج زوجته، وحرمة قسمة أمواله على مواريثه، ووجوب إبقاء حصته مما ورثه.

وأمّا آثارُ الحياة إلى هذا الوقت من العقلية والعادية، فهي آثار للحياة الواقعية لا المجعولة، فهي غيرُ ثابتةٍ بالاستصحاب لموضوعها، وإذا لم تكن ثابتة فآثارها الشرعيّة تكونُ غير ثابتة لعدم ثبوت موضوعها.

وبهذا ظَهَرَ لك أنَّ لسان أخبار (لا تنقض) لا يثبت به الآثار الشرعية الثابتة للآثار العقلية أو العادية الثابتة للمستصحب، فلا يثبت وجوب وفاء النذر الثابت لنبات لحيته بالنَّذر الثابت بحسب العادة لحياة الوالد لهذا الوقت باستصحاب حياة الولد إلى هذا الوقت؛ لأنَّ الاستصحاب إنّما يثبت الحياة بحسب الظاهر لا بحسب الواقع، ونبات اللحية إنما هو لازم للحياة بحسب الواقع لا للحياة بحسب الظاهر.

وهكذا يَظْهَرُ لكَ أنَّه لا يَثبُتُ باستصحاب الموضوع الخارجيّ ما يلازمه
من الآثار الشرعية إذا كانت الملازمة بحكم العقل؛ لأنَّ العقل إنّما يحكم بالتلازم بحسب الواقع لا بحسب الظاهر، ولذا استصحاب طهارة اليد التي وَقَعَ
عليها عذرة المشكوك حلية أكله لا يثبت به حليةُ الطائر، وإنْ كان أثراً شرعياً، لأجل أنَّ الحاكم بلزومه هو العقل، والعقل إنّما حكم بلزومه للطهارة الواقعية لا الظاهرية، بخلاف مثل وجوب الامتثال، فإنّه لازمٌ للحكم الشرعيّ
واقعاً وظاهراً، فإذا ثَبَتَ الوجوبُ أو الحرمة في الظاهر، ثَبَتَ وجوبُ
الامتثال.

استدلال جدّنا كاشف الغطاء على عَدَمِ حُجيّةِ الأصل المثبت

ويُنْسَبُ إلى جَدِّنا كاشف الغطاء  قدس سره في الرّد على التمسُّكِ بالأصلِ المثبت أمور:

منها: بأنه لو كان الأصلُ المثبتُ حُجَّة لكان معارضاً باستصحاب عدم تلك اللوازم والآثار لكونها مسبوقة بالعدم، فتكونُ الأصول المثبتة ساقطة عن الحجية لابتلائها بالمعارض([348]).

وأشكل عليه الشيخ الانصاري  رحمه الله ، بأنّه على تقدير حجية الأصل المثبت لا يجري استصحاب عدم اللازم، حتّى يعارض الأصل المثبت؛ لأنَّ الشكَّ فيه شكٌّ مسبَّبٌ من الشكّ السببي، والشكّ المسبَّب لا يجري فيه الأصل، مع جريانه في الشكّ الذي هو سَبَبٌ([349]).

ولا يخفى ما فيه؛ فإنَّ ما ذكر وقرّر في مَحَلِّهِ: إنَّ الشَّكَّ المسبَّب لا يجري فيه الأصل، فيما إذا كان متعلّق الشكّ أثراً شرعياً لمتعلّق الشكَّ السببي، كما لو شككنا في طهارة الثوب الذي هو نجس سابقا المغسول بالماء، من جهة الشكّ في طهارة الماء الذي هو طاهِرٌ في السَّابق، فإنَّ أصالة الطهارة حاكمة على استصحاب نجاسة الثوب؛ لأنَّ الشك في نجاسة الثوب مسبَّبة عن الشكّ في طهارة الماء.

أمّا فيما نحن فيه: فإنّا لو قُلنا بحُجَّة الأصل المثبت، فإنّما نقول بترتيب الآثار الشرعية مطلقاً على المستصحب، سواء كانت بالواسطة أو بغيرها، عادية أو عقلية، لا أنّا نقول إنَّ النفس الواسطة العاديّة أو العقلية أيضاً تكونُ ثابتةً به؛ لأنَّ الشارع ليس له أنْ يعبدنا بما هو غير شرعي؛ لأنه ليس بيده بما هو شارع، وإنما له أنْ يُعبّدنا بالآثار الشرعية، وإنْ كانت لغيره.

فإذا عَرَفْتَ ذلك؛ وَقَعَ التّعارض بينَ الأصل المثبت، وبين أصالة عدم الواسطة العادية أو العقلية، فإنَّ الأصل المثبت لا يثبتها لأنّها ليست أثراً شرعياً، وإنّما على تقدير حُجيّته يثبت أثرها الشرعي للمستصحب، فيجري أصلُ عدمها لأنّها مشكوكة الثبوت، وهو يقتضي عَدَمَ ترتُّبِ أثرها الشرعيّ الذي أثبته الأصل المثبت على تقدير حجيته.

مثبتات الأصول ومثبتات الإمارات

ومما تقدَّم تعلم أنَّ مثبتات الأصول مطلقاً ليست بحجة، سواء كانت استصحاباً أو غيرها، فمثلاً مَنْ رأى شَخْصَاً يتكلَّم وعلم إجمالاً أنّه إمّا يسبُّهُ أو يُسلِّم عليه، فإنَّ أصالة حمل فعل المسلم على الصّحة لا يثبت به وجوب رَدّ السّلام عليه؛ لأنّه لازمٌ عقليٌ لصحة الفعل، لا أنه لازمٌ شرعيٌ، مثلاً مَنْ أصاب يده مائع وعلم إجمالا أنه إما بول أو ماء، فأصالة طهارة يده، أو طهارة هذا المائع لا يثبت أنه ماء، حتّى يصحّ له الوضوء به، مع أنّه لازمٌ عقليٌ لطهارته، وهكذا لو أقرَّ أحد الزوجين بالزوجية، وأنكرها الآخر، يحكم بثبوت الزوجية للمقرّ دون المنكر.

ثانيها([350]): إنّ الشارع لمّا كانَ في مقام جَعْلِ الأصل، فلابُدَّ أنْ يكونَ مراده جعل الوظيفة والتشريع، وحيثُ أنَّ الموضوع المستصحب لا معنى لجعله وتشريعه إلاّ بجعلِ آثاره، وحيثُ أنَّ الشارع ليس بيده إلاّ جَعْلُ آثاره الشرعية دونَ غيرها، إذ غيرُها إنما يتّبع أمره لجاعلها من عقل أو عادة، فليس بيد الشارع إلاّ جعل ما بيده جعله، وتشريع ما بيده أمره، وإذا لم تثبت الآثار العقلية والعادية للمستصحب، فلا تثبت الآثار الشرعية المترتبة عليها؛ لأنها تابعة لموضوعها، وموضوعها لم يكن ثابتاً بالاستصحاب.

وبهذا يَظْهَرُ لك أنَّ الملزومات والملازمات للمستصحب عقلاً وإن كانت شرعية إلا أنَّ العقل إنّما يثبت ذلك للمستصحب بوجوده الواقعي، لا بوجوده الظاهري الحاصل بالأصل، ومن هنا تظهر لك أمور:

أحدها: إنّ اللوازم العقلية أو العادية لو كانت لازمة للشيء بوجوده الواقعي والظاهري فهي تثبت للشيء إذا استصحب؛ لأنه بالاستصحاب تحقق وجوده الظاهري التعبُّدي، فيثبت الأثر العادي المذكور، وهكذا الأثر العقلي المذكور، ولأجل ذلك نقول بثبوت وجوب الامتثال خوف الضرر، ووجوب المقدمة للواجب، وحُرْمَةُ الضدّ له، وفساد العبادة بالنهي عنها، وعدم اجتماع الأمر والنهي، ونحو ذلك من الآثار العقلية للوجوب والحرمة؛ لأنها آثار عقلية لها بوجودها الواقعي أو الظاهري المسمّى بالتعبدي والتنزيلي لتحقق موضوعها وجداناً بالأصل، فلو قدر أنَّ لها أثراً شرعياً، فحينئذٍ يثبت بها كما لو كان لوجوب الامتثال أثرٌ شرعيٌ، كأنْ كانَ بنحو التيمّم، أو بنحو الإتيان من جلوس، أو بنحو قصد القربة، وقلنا أنه من مجعولات الشارع للامتثال، فإنه يكون أثراً شرعياً للامتثال.

الثاني: إنَّ الأثر العقلي أو العادي المرتب عليه الأثر الشرعي، إذا كانت أركان الاستصحاب تامة فيه فإنه يستصحب ليرتب عليه أثره الشرعي، كالأمر الخارجي ذي الأثر الشرعي؛ لأنه إذا حصلت فيه أركان الاستصحاب كان من مصاديق أخبار (لاتنقض)، وقد عَرَفْتَ أنَّ معنى عدم النقض في الأمور غير المجعولة شرعاً هو ترتيب آثارها الشرعية عليها، وجعلها لها من الشارع.

وعليه؛ ففي المثالين لو عُلِمَ بنبات لحية وَلَدِهِ وشُكَّ في بقاء نباتها عند بلوغه لهذا الوقت الذي تَعلَّقَ النَّذْرُ به ولو كان شكُّهُ من جهةِ حياته، فإنّه يستصحب نباتها حياً، فيثْبُتُ أثره الشّرعيّ وهو وجوبُ الوفاءِ بنذره على نباتها حياً عند بلوغه.

وهكذا لو علم بقابلية التعلّم لولده وشَكَّ في وجودها عند بلوغه لهذا الوقت، فإنّه يستصحب القابلية حياً، فيثبت أثرها الشرعي وهو وجوب الوفاء بالنذر، وكما إذا كان زيدٌ حياً وعلم بأنه أعلم الموجودين وشكَّ في بقاء أعلميته ولو من جهة الشكّ في حياته، فيستصحب أعلميته حياً، ويرتب عليه آثارها الشرعية من وجوب تقليده.

نعم، مع عدم العلم المذكور لا يثبت ذلك؛ لأنه باستصحاب الحياة لم يثبت نبات اللحية، ولا القابلية لكونها أثراً غير شرعي، فلم يكن موضوع وجوب الوفاء ثابتاً، ولا يصحُّ استصحاب نباتُ اللحية والقابلية لعدم العلم بهما سابقاً، فلم يَثْبُتْ موضوعُ وجوب الوفاء.

إنْ قُلْتَ: إنّه إذا كان الشكُّ في البقاء من جهة الشَّكِّ في الحياة لا يجري استصحاب الإنبات والقابلية والأعلمية، لعدم إحراز موضوعها وهو الحياة، ولا ينفع استصحاب الحياة لكونه لا يثبتان به لأنهما أثران غير شرعيين.

قلنا: إنَّ المستصحبَ هو الأثرُ مع الحياة لا نفس الأثر، فنحنُ نستصحبُ نباتَ اللحية حينَ الحياةِ وحال الحياةِ لزيدٍ، ويكونُ الموضوع هو نفسُ زيدٍ، وهكَذَا الكلامُ في باقي الأمثلة، وقِسْ عليها ما كانَ من نوعها، وقد تقدَّمَ ذلك في بيانِ اشتراط بقاء الموضوع في الاستصحاب، في أنَّ استصحاب الآثار الطولية كالأعلمية المرتّبة على الاجتهاد، المرتّب على الحياة فيما إذا شُكَّ فيها من جهة الشك في الحياة، أو في كل منها، فإنَّ الفقهاء يقولون بالبناء على بقائها من جهة الاستصحاب، باعتبار استصحاب المجموع لذات زيد، بمعنى أنَّهم يستصحبون بقاءَ وجودِ الأعلميّة عن اجتهادٍ عن الحياة لنفس ذاتِ زيد، أعني: هذا الوجود الرابطي.

الثالث: إنَّ المنكرين لحُجيّة الأصل المثبت استثنوا من ذلك موارد:

أحدها: أنْ تكونَ الواسطة خفية، بحيث يُعَدُّ عرفاً أثرها أثراً لنفس المستصحب لاندكاكها فيه، كما عن بعضهم من استصحاب رطوبة النجس من المتلاقين مع جفاف الآخر لإثبات تنجس الجافّ منها؛ لأنَّ تنجسه ليس من أحكام ملاقاته رطباً، وإنّما هو من أحكام سراية الرطوبة إليه إلا أنها واسطة خفية([351]).

وذَهَبَ بَعْضُهُم إلى نجاسة الموضع الذي طَارَتْ الذُّبابة عن النجاسة الرطبة إليه لأنَّ استصحاب رطوبة الذبابة بالنجاسة لا يثبت التنجس بالملاقاة إلا بالسّراية اللازمة عادةً أو عقلاً وهي واسطة خفية([352]).

ثانيها: أنْ تكون الواسطة ملازمة للمستصحب في الذهن بواسطة الملازمة العرفية، بحيثُ لا يمكن التفكيكُ عرفاً بينها وبين المستصحب في التنزيل، بأنْ يكون بين الواسطة والمستصحب ملازمة عرفاً في التنزيل، بأنْ يكون تنزيل المستصحب منزلة المتيقَّن ملازمٌ عرفاً مع تنزيلِ الواسطة منزلة المتيقّن بها، بحيث يفهم العرف تنزيلين:

أحدهما: تنزيل بالدلالة المطابقة وهو تنزيل المستصحب منزلة المتيقن.

والثاني: تنزيل بالدلالة الالتزامية، وهو تنزيل الواسطة منزلة المتيقن بها، كما في استصحاب بقاء زوجية هند لعمر الملازمة عرفاً لبقاء زوجية عمر لهند، وهكذا كُلُّ متضايفين، واستصحاب العلّة الملازمة عرفاً لوجودِ المعلول، كما في استصحاب رمضان ليوم الشكّ لإثباتِ أنَّ ما بعده أوّل شوال يجب إفطاره، وكاستصحابِ شَعْبَان ليومِ الشكّ لإثباتِ أنَّ ما بَعْدَهُ أوّلّ رمضان ليرتّب عليه أحكام أوّل يوم، وثانيه، وهَلُمَّ جَرّا، من جهةِ أنَّ الواسطة وهو آخرية شعبان وأوّليّة رَمَضَان ملازمة عرفاً للمستصحب في التنزيل.

وثالثها([353]): أنْ تكونَ الواسطةُ ملازمِةٌ للمستصحب في الذّهن بواسطة الملازمة بينهما عَقْلاً، بحيث لا يمكن التفكيكُ بينهما عقلاً، كما في استصحاب بقاء الإمام لأجل إثبات وجوب الرجوع إليه لا إلى الإمام الذي بَعْدَه، مع أنَّ وجوب الرجوع من الآثار الشرعية لعصمته، لكن من الواضح ملازمة عصمته عقلاً لبقاء وجوده، وعد أثرها أثرُ لهما، ونظيرُهُ استصحاب حياة المجتهد لإثبات وجود أعلميّتِهِ حتَّى يُرتّبُ عليها وجوب تقليده، وكاستصحاب وجودِ الماء اللازم وجوده للكُرّية.

والفَرْقُ بينَ هذا القسم والقسم الثاني- مع أنَّ في كُلٍّ منهما يكونُ اللزوم الذّهنيّ بين المستصحب والواسطة في التنزيل- هو: إنَّ منشأ اللزوم الذهني في القسم الثاني هو التلازم العرفي؛ ومنشؤه في القسم الثالث هو التلازم العقلي.

والحقُّ: أنّه لا وجه لاستثناء هذه الموارد الثلاثة من عدم حجية الأصل المثبت، وذلك لأنَّ الدليل الذي أقمناه على عَدَمِ ثبوتِ الأثر الشرعي للمستصحب بالواسطة غير الشرعية يَشْمَلُ حتَّى هذه الوسائط الثلاث.

إن قلت: إنَّ فهم العرف لخطابات الشرع هو المُحكَّم في تشخيص مراد الشرع منها، نظيرُ الخطابات العرفية؛ لأنَّهم هُمُ المخاطبون بها والمقصودون بامتثالها بإتيانٍ أو ترك ما يفهمونه منها، وعليه؛ ففي هذه الوسائط لما كان العرف يرى الأثر الشرعيّ للمستصحب لا للوساطة، كما هو الفرض، فالعُرْف يرى أنّ عدم ترتيبهم لهذا الأثر على المستصحب موجب لمخالفة (لا تنقض) وأن بترتيبه امتثالاً للانتقاض، كما هو الحال في الآثار الشرعية المرتبة على نفس المستصحب بدون واسطة، ولهذا اعتبر بقاء الموضوع العرفيّ للمستصحب لإبقاء الموضوع الشرعيّ له؛ لأنَّ الخطابات موجَّهَة للعرف، فالميزانُ ما يراه العرف بقاء للمستصحب.

قلنا: نَعَمْ، إنَّ العُرْف متّبع في تشخيص مراد الشَّرع من خِطاباته، ولكنَّ العرف غيرُ متّبع في اشتباهاته، فلو تخيَّل العرف إنَّ القبلة من هنا، وقام الدليل على اشتباهه لم نعمل برأيه، وإنّما نأخذ بالدليل، اللهم إلا إذا كان العرف عنده توسعةٌ في الواقع أخذنا بها، بحيثُ لو انكَشَفَ الواقع للعُرْفِ يرى إنَّ الواقع أيضاً متحقّق حقيقةً وغير مشتبه به أخذنا به؛ لأنّه هو المتَّبع في تشخيص الواقع لمراد المتكلّم الحكيم.

والحاصل: إنَّ العرف متَّبع في توسُّعِهِ للواقع، وليس متَّبعٌ في اشتباهاته في الواقع، مثالُ ذلك في أنَّ الشارع لو قال: (أكرم العالم)، والعرف يرى إنَّ إكرام الابن الصالح للعالم من إكرام العالم توسعة من العرف في واقع الإكرام، بحيث عند انكشاف الواقع بأنَّ هذا ابن العالم، وهو ليس بعالم يرى العرف أنَّ إكرامه هو من إكرام نفس العالم حقيقة، وَجَبَ اتّباع العرف في ذلك.

أمَّا لو اشتبه العرف، وتخيَّل أنَّ خالداً عالم لوضعه العمامة، والتفاتُ قسم من الناس إليه، ولكنّه في الحقيقة جاهلٌ، أجنبي عن العلم والعلماء، بحيث لو اطَّلَعَ العرف على ذلك لم يجعلوا إكرامَهُ من إكرامِ العُلماء، فلا يَجِبُ اتباع العرف لمن اطّلَعَ على ذلك؛ لأنَّ إكرام العُلَمَاء ليس بشاملٍ له حقيقة.

ونظيرُ ذلك في الاستقبال للقبلة، فإنَّ العرف يرى ذلك من باب التوسعة في الواقع أنَّ الاتجاه للقبلة لو كان فيه انحراف قليل عن القبلة من الاستقبال لها في الواقع، بحيثُ حتَّى لو اطَّلَعَ على ذلك يراهُ استقبالاً لها، فالاتّجاه لها يُعَدُّ استقبالاً لها فالعُرْفُ متَّبع في ذلك، وأمّا لو تَخَيَّلَ أنَّ جهة الشَّرق أو الغرب أو عكس القبلة أنّها من القبلة، بحيثُ لو انكشَفَ له الواقع لم يرَ استقبالاً لها ولا اتّجاهاً لها، فلا يتبع في ذلك، وكثير في الشَّرع من هذا القبيل.

إذا عَرَفْتَ ذلك، فنقولُ فيما نَحْنُ فيه: إنَّ العرف مع تَرَتُّب الأثر بالواسطة الخفية يرى الأثر أثراً للشيء من باب الاشتباه، وإلاّ لو انكشف له الواقع لرأى أنّه أثر للواسطة الخفية، فلا يكونُ بحسب التّوسِعَة في الواقع عنده، بل إنَّه من باب الاشتباه، فلا يكونُ عدم ترتُّبِ أثر الواسطة على المتيقّن السابق نقضاً له حقيقةً، بل هو يتخيّله العرف أنه نقضٌ له، وقس باقي الموارد عليه.

وأمّا إذا كانَ الأثرُ بالنّحو الذي ذَكَرْناه في مثل إكرام العلماء، فهو أثرٌ للمستصحب حقيقةً بحسَبِ الظّهور العُرفي للدليل على الأثر، حيثُ أنَّ العُرْفَ يفهمُ من الدليل حينئذٍ إنَّ الحكم الشرعي ثابتٌ لنفس المستصحب، كما أنّه ثابتٌ لنفس الواسطة، والظّهور حُجَّةٌ شرعيّةٌ، على أنَّ استدلالَ جَدِّنا كاشف الغطاء بتعارض الاستصحابين المتقدم الكلام في صِحّته، يمنَعُ من الأصل المثبت حتّى لو كانت الواسطة خفية، إلا إذا كان الدليلُ يثبت أنَّ الأثر أثر لمستصحب، وحينئذٍ يخرج المقام عن الأصل المثبت.

وأمَّا ما ذكر من الدّلالة الالتزامية في بعضِ الموارد، فهو بالنسبة إلى عمومات (لا تنقض) لا ينفع؛ لأنّ العامّ إذا كان بَعْضُ أفراده يُلازِمُهُ شيءٌ، فالعامُّ لادلالة له التزاماً على ذلك الشيء؛ لأنه لا يوجب تصوّر العامّ تصوّر ذلك الشيء.

نَعَمْ، اللّفظ الدالُّ بخصوصِهِ على ذلك الفرد له دلالة التزامية على لازمه، فلو قام دليلٌ خاصٌّ على الاستصحاب في ذلك الفَرْد ثَبَتَ به لازمه، كما في استصحاب الشّهر إذا تمَّ الاستدلالُ بقوله  عليهم السلام : (صُمْ للرؤية وأفطر للرؤية)([354])، فإنّه يَثْبُتُ به أوّل الشهر وآخره، بناءً على الملازمة الذّهنية بين استصحاب الإفطار أو الصَّوم إلى زمن الرؤية، وبينَ كَونْ اليوم أوّل الشهر في استصحاب الإفطار، وآخِرِ الشَّهر في استصحاب الصوم.

وأمّا المتضايفان، والعِلّة والمعلول، فلوجود اليقين السّابق بهما معاً، كنفس المستصحب.

الرابع([355]): إنَّ الآثارَ الشرعيّة المرتّبة على المستصحب بواسطة أثر شرعي تثبت باستصحاب المستصحب؛ لأنه باستصحابه يثبت ذلك الأثر الشرعي، فيكونُ موضوعُ الأثر الشرعيّ المرتّب على المستصحب بواسطته قد تحقَّق، وإذا تحقَّق الموضوع تحقَّق أثره، فلو تعدَّدت الوسائط الشرعية إلى أيّ مقدا رٍ فُرِض، فإنّها تُثبت بذلك الاستصحاب، بخلاف ما لو كانت الواسطة أثراً غير شرعي، فإنَّ الآثار الشرعية لا يثبتها ذلك الاستصحاب، لعدم ثبوت موضوعها الذي هو الواسطة لا بنفس ذلك الاستصحاب، ولا باستصحاب آخر.

ورُبَّما يُورَدُ على ما ذكرناه من أنَّ (لا تنقض) ظاهرةٌ بإطلاقها في إثبات جميعِ الآثار الشرعية للمستصحب، سواء كانت ثابتة له بغير الواسطة أو بواسطة الأمر العقلي أو المادي، كما إنَّ (صدّق العادل) و(صدّق البينة) وغيرها من أدلَّة الأمارات، فإنّها بإطلاقها تَثْبُتُ ما قامت عليه، وتَثْبُتُ سائر آثاره حتى العادية والعقلية، وما يترتب عليها من آثار شرعية.

قال المرحومُ الشيخُ المدقّق الشيخ هادي الطهراني([356]) في تقريب الإشكال: إنّه لا فَرْقَ بَيْنَ أنْ يثبت بالاستصحاب حياةَ زيدٍ فيرتّب عليه الحكم الشرعي، وبين أنْ يثبت باستصحاب الحياة نبات لحيته ليرتب عليه آثاره الشرعية، فلو كان المانع من ثبوتِ نباتِ اللّحية بالأصل المذكور هو كونُه أمراً غيرَ شرعيٍ شاركه الحياة التي يجري فيها الاستصحاب.

وإنْ شئتَ قُلتَ: إنّه لا فرق من هذه الحيثية بينَ أنْ يكونَ نبات اللحية متعلّق الاستصحاب، وبينَ أنْ يترتَّب على الاستصحاب.

قلنا: فرقٌ بين الأصول وبين الأمارات، فإنَّ دليل الأصل سواء قلنا بأنَّ لسانه لسان التعبّد بمؤداه وتشريعه، أو لسانه لسان تطبيق العمل عليه، وسواء كان بعنوان أنه الواقع من دون نظر إلى إثبات للواقع به، كما في الأصول الإحرازية المسمّاة بالتنزيلية، كالاستصحاب، وأصالة الصحة، والفراغ، والتجاوز، ونحوها مما يكون لسان دليلها هو العمل بمؤداها على أنه الواقع، وسواء كان بعنوان الوظيفة والتعبّد المحض من دون نظر للواقع، كما في الأصول غير الإحرازية والمسمّاة بغير التنزيلية، كما في أصل البراءة، والاحتياط، والتخيير.

فعلى أيّ حالٍ، ليس جعل الشارع دليلاً للأصل من جهة كشفه عن الواقع، بل إنّما جعله لها باعتبار أنها وظائف عملية عند الشك.

وعليه: فإنْ كانَ مَجْرَى الأصل هو مما يقبل الجعل، كالأحكام الشرعية التكليفية والوضعية، بناءً على جَعْلِ الشّارع لها، كانَ مقتضى الأصل هو جعله في ظرف الشكِّ، وإنْ كان مجراه مما لا يقبل الجعل، كالموضوعات غير الشرعية، كان مقتضى الأصل هو جعل الأثر الذي هو قابلٌ للجعل، صَوْناً لكلام الحكيم على اللغوية.

ومن المعلوم أنَّ الشارع في مقام الجعل، فلا يجعل إلاّ الأثر القابل لجعله، وهو الأثر الشرعي دون الأثر العادي أو العقلي، إذ ليس أمرهما بيده، وضع عدم جعل الأثر العادي والعقليّ لا يثبُتُ أثرهما الشرعيّ لعدم ثبوت موضوعهما الذي هو الأثرُ العادي والعقلي.

نعم، لو فُرِضَ إنَّ الاستصحاب يجري في نفس الأثر العادي أو العقلي ثبت أثرهما الشرعي، لا من باب أنَّ الاستصحاب موجبٌ لجعله من قبل الشارع، فإنَّ ذلك ليس بيد الشارع، بل من باب صون جعل الحكيم عن اللغوية يحمل على جعل آثارهما الشرعيّة، وهذا بخلافِ الأمارة فإنَّ دليلها يُثبِتُ أنَّ الشارع اعتبر كشفها عن الواقع وصحّته عنده، فيكون مجراها ومؤدّاها الواقع المنكشف كشفاً صحيحاً عند الشارع، وليس لسانه لسان تنزيل المؤدى منزلة الواقع والجعل له، وعليه؛ فيثبت بها الواقع بنحو الانكشاف، لا بنحو الجعل والتشريع والتنزيل.

ومن المعلوم أنَّ اعتبار هذا الانكشاف للواقع، واعتبار ثبوت نفس الواقع به، يُوجِبُ اعتبارَ ثبوت سائر الآثار واللوازم للواقع الذي قامت عليه الأمارة حتَّى العادية والعقلية؛ لأنَّ الواقع يكونُ قد تحقَّق لدى القائمة عنده تحققاً شرعياً مولوياً.

وعليه: يكونُ الأَثَرُ الشرعيُّ الثابتُ لمجرى الأمارة ولمؤدّاها بواسطة لازمه العادي أو العقلي يَثْبُتُ لمجراها لثبوت موضوعه، وهو الواسطة غير الشرعية بقيام الأمارة، سَلَّمنا؛ لكنَّ الواسطة غير الشرعية تكون الأمارة قائمة عليها بقيامها على الواقع؛ لأنّها بكشفها عن الواقع تكشِفُ عن لوازمه العقلية والعادية حتَّى الخفية منها، فيكونُ موضوع الأثر الشرعيّ وهو الواسطة غير الشرعية ثابتة بها.

فروعٌ تُمُسِّكَ فيها بالأصل المثبت أو تُخُيِّل أنَّ الأصل فيها مثبت

أولاً: إذا لاقى نجساً أو متنجساً شيءٌ كان رطباً يقيناً في السابق كالثوب ونحوه، وشُكَّ في بقاء رطوبته حين الملاقاة، فقد تَمَسَّكَ بعضُهم باستصحاب الرطوبة لإثبات تنجُّسِهِ، وهو من الأصل المثبت؛ لأنَّ الموجب لنجاسة الملاقي هو سراية النجاسة إليه مما لاقاه، واستصحاب الرطوبة لازمها العادى السراية، إذ لعلها ضعيفة لا توجب السراية.

إن قلت: إنّا نستصحب نفس السراية، بأنْ نقول: إنَّ هذا الملاقي كان إذا لاقى النّجاسَةَ تسري إليه، فالآن نستصحب ذلك.

قلنا: هذا من الاستصحاب التعليقي في الموضوعات، وقد تقدَّم أنه في الموضوعات ليس بحجة؛ لأنه يكونُ أصلاً مثبتاً، إذ بهذا الاستصحاب التعليقي تَثْبُتُ السّراية وهو غير أثر شرعي.

إنْ قلتَ: إنَّا على يقينٍ من تنجُّسِ الملاقي كالثوب لو لاقى النجاسة فنستصحب ذلك.

قلنا: على يقينٍ من ذلك من جهة السراية، والآن نشُكُّ فيها، ولا أصل يثبتها.

إنْ قلت: إنَّ موضوع التنجس بالملاقاة مُرَكَّبٌ من الملاقاة، ومن الرطوبة في أحد الطرفين، وأحدُ جُزْئي الموضوع محرز بالوجدان، وهو الملاقاة، والجزء الآخر وهو الرطوبة نحرزه بالاستصحاب، والموضوع للأثر الشرعي إذا كان مركَّبا وأحرز أحد جزئيه بالوجدان والآخر بالأصل ثَبَتَ الموضوع، وترتَّبَ عليه الأثرُ الشرعيّ، كما في الماء المسبوق بالكُرّية، فإنَّه باستصحابِ الكُرّيّةِ يُحرز أنَّ الماء كُرٌّ بالوجدان مع ضميمةِ استصحاب الكُرِّيّة، فيرتّب عليه جواز التطهير به.

قلنا: ليس الموضوع للتنجُّس هو الملاقاةُ مع الرطوبة، فإنَّ التنجُّس هو نجاسة المتنجُّس بتأثير النجاسة فيه، وهو لا يعقل إلا بسراية النَّجاسة إليه وانتقالها له، فهو موضوعه السراية.

ثانياً: الشكّ في الحاجب عن الغسل، كما إذا احتمل وجود الحاجب عن وصول الماء إلى البَدَن عند غسله له من الجنابة، أو عند وضوئه، أو عند تطهيره، أو احتمل وجود المانع عن وصول الماء للثوب أو نحوه، أو احتمل خروج المذي بعد البول المانع من وصول الماء عند صَبِّهِ على مخرجه، فقد تمسَّك الكثيرُ من فقهائنا باستصحاب عدم الحاجب، وذَهَبَ إلى عدم وجوبِ الفحص عن الحاجب.

ورَدَّ عليهم الكثيرُ من المتأخرين بأنّه أصلٌ مثبتٌ،لأنَّ الأثرَ الشرعيّ وهو رَفْعُ الحَدَث أو الخَبَثْ مُتَرتَّبٌ على وصولِ الماء إلى البشرة، وهو لا يثبت بالأصل المذكور إلاّ على القول بالأصلِ المثبت، إذ عَدَمُ الحاجِبِ لازمه عقلاً وصول الماء للبشرة([357]).

والتحقيق: إنه ليس من الأصل المثبت، فإنَّ الموضوع للأثر الشرعي الذي هو رَفْعُ الحدث أو الخبث بالماء هو إجراء الماء على الشيء وصَبِّهِ عليه مَعَ عَدَمِ الحاجب، فيكونُ الموضوعُ مركَّباً من أمرين:

أحدهما: صَبُّ الماء على الشيء وهو مُحْرَزٌ بالوجدان.

والثاني: عَدَمُ الحاجب وهو مُحْرَزٌ بالاستصحاب، ولهذا جرت السيرة من زَمَن المعصومين  عليهم السلام  على عَدَم الفحص عن الحاجب، فإنَّ المسلمين عند الطهارة من البول أو تطهير البدن لا يتفحّصون عن الحاجب.

ثالثاً: ما إذا شُكَّ في اليوم أنّه أوّل الشهر أو ثانيه ليرتّب عليه آثار الأولية أو الثانوية، فَبعْضُهُم تمسَّكَ باستصحاب بقاءِ الشَّهر الذي قبله إلى هذا اليوم، ولازمُهُ أنْ يكونَ هذا اليوم أوّل الشّهر الذي بعد ذلك الشهر السابق وهو من الأصل المثبت.

وبعضُ أساتذة العصر ذَكَرَ في إثبات أولية اليومِ المشكوكِ أوليّته، بتقريب: أنه بعد مضيّ دقيقة أو أقلّ من اليوم المشكوك أوليته نقطع بدخول أول يوم من الشهر، لكنّا لا ندري أنّه هو هذا اليوم ليكون باقياً أو اليوم الذي قبله ليكون ماضياً فنحْكُمُ باستصحابه، ولا اختصاصَ لهذا الاستصحاب باليوم الأول، بل يجري في الليلة الأولى وفي سائر الأيام لو كان لها أثرٌ شرعي، فإذا شككنا في يوم أنه الثامن من شهر ذي الحجة أو التاسع منه حكمنا بكونه الثامن بالتقريب المزبور([358]).

ولا يخفى ما فيه، فإنَّ العلم المذكور كانَ مُردَّداً بين فردٍ مقطوعِ الزوال، وبين فردٍ معلومِ الوجود، فإنَّ دخولَ أوّليّةِ الشهر مردَّدة بين اليوم السابق فتكون الأولية قد زالت ودخلنا في اليوم الثاني، وبينَ اليوم الذي نحنُ فيه، وهذه الأولية المردّدة بين هذين الفردين صارتْ مقطوعةَ الوجودِ في هذا اليوم؛ لأنَّها إمّا وُجِدَتْ في اليوم السّابق أو في هذا اليوم، ولَيْسَتْ بمشكوكَةٍ حتَّى تستصحب.

هذا مضافاً إلى أنَّ الأوّليّة التي هي مُحْرَزَةُ الوجود بدخولِ دقيقةٍ هي محرزة الوجود في هذا اليوم وفي باقي الأيام، وإحرازها لا يثبت أولية ما نحن فيه، فكيف باستصحابها.

وهذا نظير ما لو علم إجمالاً بكون هذا اليوم أو ما قبله صدرت منه نجاسة؛ لأنه وجد في ثوبه منياً، لكنّه إنْ صَدَرَتْ فيما قبله فهو قد تطهَّر منها، وإنْ صدرت منه في هذا اليوم فهو لم يتطهَّر منها، فإنَّ استصحاب الكلّي للنجاسة المردَّد لا يُثْبِتُ أنَّها صَدَرَتْ منه هذا اليوم، فهكذا ما نحنُ فيه نَعْلَمُ أنَّ الأوّليّة قد تحقَّقّت، ولكنْ لا نعلم أنَّها هذا اليوم أو ما قبله، فاستصحابُ القدر الجامع لا يثبت أنها في هذا اليوم.

والتحقيق في الجواب: إنَّ عنوانَ الأوّلية في أيّامِ الشَّهر عندَ العُرْفِ حقيقة مُرَكَّبة من أمرين:

أحدهما: عَدَمُ وجودِ الشَّهر في اليوم السابق على هذا اليوم، وهو محرز بالأصل.

والثاني: وجوده في هذا اليوم، وهو محرز بالوجدان، ولذا ترى العقلاء عامة والسيرة من المسلمين من صدر الإسلام على أنّه إذا قامت البيّنة أو الشّياع على وجود الهلال حكموا بأنّه أول اليوم من الشهر في معاملاتهم، كالإجارة للبيوت ونحوها، وفي عبادتهم، مع أنَّ البيّنة، والشياع، والرؤية، وإكمال العدّة لم تقم على أنَّ الهلال لم يظهر قبل هذا اليوم، وإنّما قامت على وجوده في هذا اليوم فقط، وهكذا ثانوية اليوم من الشهر، فإنّها موضوعٌ عرفيٌ مُركَّبٌ حقيقته من أمرين: من عدم الثانوية فيما سبقه وهو محرز بالأصل، وإحراز الشهر فيما بعده بالوجدان، وهكذا ثالثية اليوم إلى آخر الشهر.

رابعاً: استصحاب بقاء الفرد الجزئي لإثبات آثار كلية، فإنه إنما يثبت آثار كُلّية بواسطة ثبوت الكُلّي له، وهو واسطة غير شرعية، فمثلاً استصحاب خمرية هذا الخمر الجزئي لإثبات حُرْمَةِ شربه ونجاسته، فإنَّهما إنما يثبتان لهذا الجزئي بواسطة انطباق عنوان كلّي الخمر عليه، وللآخوند  رحمه الله  في كتابه الكفاية تحقيق وتفصيل لا نرتضيه([359]).

والحقُّ في الجواب: إن استصحاب الجزئي إنْ كان يستلزم استصحاب الكلي بأنْ كان اليقين بالجزئيّ يقيناً بذلك الكلي، والشكّ في بقائه شكٌّ في بقاء ذلك الكلّي، بحيثُ يكون مندَكَّاً فيه فيرتّب أثر ذلك الكلي بواسطة أنَّ استصحابه الجزئي استصحابٌ للكلّي، والأثر في الحقيقة من جهَةِ استصحاب الكلي، كما في المثال المذكور.

ومثله ما لو نَذَرَ بأنْ يَتَصَدَّقَ كُلّ جُمْعَةٍ عن زيدٍ بدرهم ما دام حياً، فإنه إذا شَكَّ في حياته استصحبها، فيجبُ عليه التصدق بدرهم.

ولا يقال: إنَّ ذلك بواسطة صدق كلّي عنوان الوفاء بالنذر، إذا لم يكن وجوب التصدّق من آثار مطلق الحياة لزيد، بل من آثار عنوان الوفاء بالنذر اللازم للحياة، والوفاء ليس أثراً شرعياً.

لأنا نقول: إنَّ اليقين السابق بالحياة كان يقيناً بها، وبأنَّ التصدق وفاء للنذر المتعلّق بها، والشكُّ في الحياة شكٌّ في ذلك، فاستصحاب الحياة استصحاب للوفاء بالنذر.

ومثله وجوب الإنفاق على زوجته، ووجوب عزل سهمه من الوقف أو غير ذلك، فإنَّ وجوبَ الإنفاق من آثار كونه زوجاً، ووجوب العزل من آثار كونه موقوفاً عليه، إلا أنَّ اليقين بحياةِ زيد كان يقيناً بزوجيته، ويقيناً بأنّه موقوف عليه.

نعم، لو كانَ الوَقْفُ على البالغَ، وكان استصحاب حياتِهِ إلى هذا الزمن يوجبُ بلوغه، لا يصحّ الاستصحاب، وكان أصلاً مثبتاً.

والحاصل: إنّ اليقين السابق بالجزئي إذا كان يقيناً بالكلّي كان استصحابه استصحاباً لوجود الكلّي في هذا الفرد، لا فرق في ذلكَ بينَ الكُلّي الذاتي كالنوع والفصل والجنس، وبين الكُلّي العارض، سواء كان محمولاً بالضميمة كالأسود على الإنسان، أو خارج المحمول كالفوق للسطح.

نعم، ذكر أستاذنا الشيخ كاظم الشيرازي: إنّ استصحاب الجزئي إنما يصحُّ في ما إذا كان الأثرُ الشرعيُّ مرتباً عليه بخصوصه، وأمّا إذا كان مرتباً عليه بما هو كُلّي يستصحب نفس الكلي؛ لأنّ الاستصحاب إنما هو لترتيب الأثر، فالذي يستصحب ما يرتب عليه الأثر.

وأما إذا كان الكلّي ليس مَوجوداً في السَّابق، ولم يَكُنْ متيقَّناً به سابقاً، فالآثار المرتّبة عليه لا تترتب على استصحاب الجزئي حتَّى لو كان ذاتياً، فاستصحابُ وجود العلقة في الرَّحم لا يثبت آثار الإنسانية لها في مدة يقتضي أنها لو كانت باقية لصارت جنيناً انسانياً، حيثُ أنَّه لم يَكُنْ اليَقينُ بها يقيناً بالإنسانية، ولم تَكُنْ الإنسانيّةُ إذ ذاكَ موجودة بوجودها.

خامساً: استصحابُ حياةِ الابن إلى زَمَنِ مَوتِ أبيهِ لإخراج حِصّتِهِ، فإنّه لازمة ثبوت بنوّته، فإخراجُ حِصَّتِهِ أثرٌ لُبنوّته، وهي لازم عقلي.

وجوابه: إنّ استصحاب حياته استصحابٌ لبنوّته، إذ البُنَّوةُ متيقنة سابقاً كتيقُّنِ حياته، فاستصحابُها مُنْدَكٌّ في استصحاب الحياة وفانٍ فيه.

وإنْ أبيتَ: فإنّا نستصحبُ وُجودَ الابن، ومن آثاره الشرعية ثبوتُ الإرث له، فإنَّ ثبوتَ الإرث للابن أثرٌ شرعي.

سادساً: استصحابُ بقاء الولد إلى زمان صدور الوقف من أبيه، بأنْ كان الوقف قد صَدَرَ من أبيه على أولاده، وكان أحدُهُم غائباً يُشَكُّ في حياته، فإنَّ القومَ قد ذَهَبوا إلى استصحابِ حياتهِ إلى زَمَنِ صُدورِ الوَقْفِ، وتُعْزَلْ حِصَّته؛ فإنّه قد يُقال: إنّه أصلٌ مُثْبَتٌ؛ لأنه يثبت أنَّه موقِفٌ عليه.

وتوضيحُ الجواب: إنَّ الواسطة تارةً تكونُ متحقّقة بالوجدان، كما فيما نحنُ فيه، فإنَّ الوقف على الأولاد مَوضُوعُهُ مركَّبٌ من البنوّة والوقف عليه، والجُزْءُ الأوّلُ متحقّقٌ بالاستصحاب، والثاني بالوجدان.

ومِثْلُهُ ما لو ذُبِحَ الحَيَوانُ وشُكَّ في حياته حالَ الذَّبح، ومثله لو وُجِدَ السَّمَك خارجَ الماء مَيْتاً، ولم يَكُنْ مَعَهُ أمَارة؛ وتارةً تكونُ الواسطة ليست متحقّقة بالوجدان، بل هي لازمٌ عاديٌ أو عَقْليٌّ لوجودِ المستصحَب في حَدَِّ نَفْسِهِ وذاته، كالبلوغِ اللازم للحياة، والكون في الحيّز اللازم لها، فإنّه بالوجدانِ ليس البلوغ والكون في البيت بمتحقّق، وإنّما هُما لازمان للحياة.

ومثله ما لو كانَ عنده وَلَدٌ صَغيرٌ عاقلٌ وله أموالٌ يتصرَّفٌ فيها بحسب ولايته، ثُمَّ غابَ عنه مَدَّة يكونُ قد بَلَغَ فيه سِنّ الرُّشد، وشكَّ في حياته، فإنَّ استصحابَ حياتِهِ لإثباتِ بُلوغِهِ ليرتَّب عليه حُرْمَة التّصرّفِ في أمواله من الأصل المثبت.

سابعاً: استصحاب جزئية الشيء، أو شرطيّته للمأمور به، أو المانعية، فإنَّ الجزئية أو الشرطية للمأمور به أو المانعية، إنْ أريدَ استصحابُ نفس وجودها، كأنْ كانَ مستقبلاً للقبلة في طائرة أو سيارة، ثُمَّ شُكَّ في بقاءِ الاستقبال لإثباتِ أنَّ عَمَلَهُ جامعٌ لهذا الشرط، فهو أصلٌ مثبتٌ؛ لأنَّ أثر هذا الاستصحاب هو إثباتُ أنّ العَمَلَ جامعٌ للشرط، أو للجزء، أو لعدم المانع، وهو أمرٌ عقليٌ تكويني، إذ جمع العمل للشرط تابعٌ للواقع لالحُكْمِ الشَّرْع، ولازمه جوازُ الاكتفاءِ به، وإنْ أريد استصحابُ نَفْسِ الشَّرطية أو الجزئية أو المانعية أوعدمها للشيء، لعروض بعض الأحوال، كما لو شكَّ في بقاء شرطية الاستقبال فيما إذا صلى مستلقيا، أو حال الغرق، فهي ليس بمجعولة شرعاً، وإنّما المجعولُ منشأ انتزاعها، وهو الأمر بالشيء مع ذلك الشَّرط في هذه الحال، أو مع ذلك الجزء في هذه الحال، أو مع عدم ذلك المانع في هذه الحال، فهي ليست بمجعولةٍ للشارع حتى تستصحب، ولا يترتَّب عليها أثرٌ شرعيٌ؛ لأنَّ أثر شرطية الشيء لشيء، أو جزئيته، أو عدم مانعيته، هو عدمُ الإطاعة بدونه، وهو حكم عقلي.

والجوابُ عن استصحاب ذات الشرط، أو الجزء، أو عدم المانع: فإنّه يصحُّ لإثباتِ اكتفاء الشارع بالوجود الاستصحابي، فإنّه لا يلزم أنْ يكون الأثر من الأمور التشريعية، بل يكفي أنْ يكونَ أمره بيد الشارع بما هو شارع وجوداً وعدماً ونفياً وإثباتاً، فيكفي أنْ يكون أثر المستصحب هو الاكتفاء والإجزاء وعدم المؤاخذه، فإنّه بيد الشارع الاكتفاء وعدم المؤاخذة، بدليل جعل الشارع قاعدة الفراغ والتّجاوز، وأصالة الصّحة، بل صحيحةُ زرارة في الوضوء([360]) تدل على صحة استصحاب وجود الشرط، والقولُ بوجوبِ كونه من سنخ الأحكام الشرعية تَحكُّمٌ لا دليل عليه.

وذكر المرحوم الشيخ عبد الحسين آل أسد الله([361]) في شرحه على الكفاية([362]) أنه قد ذهب إلى ذلك الحاج آغا رضا الهمداني  رحمه الله ([363]) في حاشيته على الرسائل، بل هذا الإشكال كالاجتهاد في مقابل النص، فإنَّ أهمَّ روايات الاستصحاب واردةٌ في استصحاب بقاء الشَّرط كالطهارة، أو عدم المانع كالنجاسة، فراجعها([364]).

وأمّا استصحابُ الشرطية ونحوها للشيء عند الشكّ في بقائها له في حالٍ من الأحوال فهو أيضاً صحيحٌ، لما عَرَفْتَ من أنَّ الشرطيّة والجزئية والمانعية مجعولة للشارع، فيصحُّ استصحابها كما يصحُّ استصحاب نفس الحكم الشرعي أو عدمه.

نعم، أورد أُستاذُنا كاظم الشيرازي: أنَّ القابلية للجعل التي هي مصححة للاستصحاب هي القابليّةُ للجعل التشريعي الذي يكونُ فيه أعمال المولوية والعبودية، فليس كُلُّ ما كانَ متعلّقاً لجعل المولى أو قابلاً لتصرُّفِهِ فيه يصحُّ استصحابه، كما في الأحكام التكليفية المتعلّقة بغير المستصحِب (بالكسر) إذا كان موضوعاً لأثرٍ شرعي له، فإنّها وإنْ كانت قابلية للجعل، إلا أن المصحح لاستصحابها ترتب الأثر العلمي عليها دون نفسها، بل وكذا الأحكام التكليفية للمكلّف إذا لم يكن لها أثرٌ علميٌ تَعَبُّديٌ، وحينئذٍ فاستقلالُ الأحكام الوضعية بالجعل لا يُصَحِّحُ استصحابها ولا استصحاب ما كانت مترتبة عليه فضلاً عن نفسها.

ولا يخفى ما فيه: فإنّها إذا كانت مجعولةً لأي عُرْفٍ لابُدَّ لغرضٍ هناك، فللجاعل أنْ يرفعها أو يبقيها لذلك الغرض.

التنبيهُ التاسع: في المستَصحب المجعول شرعياً أو ذا أثر شرعي في ظرف الشكّ

أنّه لا يلزم أنْ يكون المستصحب في زمان اليقين به مجعولاً شرعياً أو ذا أثر شرعي، وإنّما يلزم أنْ يكون مجعولاً شرعياً أو ذا أثر شرعي في ظرف الشكّ، فمثلاً اليقين السابق بعدم التكليف بالشيء من الأزل لم يَكُنْ اليقين به يقيناً بمجعولٍ شرعي، ولا له أثرٌ شرعيٌ، ولكن زمان الشكّ به وهو حال البلوغ يكونُ مجعولاً شرعياً فيصحُّ استصحابُهُ، وهكذا مثلُ التراب مع وجودِ الماء المعلومِ طهارَتُهُ لا يثبت له جوازُ التيمُّم بهِ، لكنّه لو شَكَّ في طهارَتِهِ مع ذهاب الماء كان يترتَّبُ على استصحاب طهارتِهِ زمانُ الشكِّ جوازُ التيمُّم به، وذلك لأنَّ ظَرْفَ الشكّ في البقاء هو ظَرْفُ التعبّد من الشَّارع، والتعبّد لابُدَّ أنْ يكون بمجعولٍ شرعي، أمَّا نفسُ المستصحب أو أثره.

إنْ قلتَ: إنّه إذا كان المتيقّن ليس بمجعولٍ شرعيٍ ولا أَثَرَ مجعول شرعي كعدم التّكليف، فبقاؤه لم يَكُنْ بيَدِ الشَّارع.

قلنا: إنَّ الشيءَ إذا كان جَعْلُه أو جَعْل أَثَرِهِ في ذلك الظَّرف، وعَدَمُ التّكليف لمّا كانَ بيدِ الشّارع جعل التكليف، كانَ عَدَمُهُ بيَدِهِ في ظَرْفِ الشّكّ.

وقد أورد الاستاذ الشيخ كاظم الشيرازي على استصحاب العدم الأزلي للتكاليف: بأنه إنْ أريدَ منه استصحاب عَدَمِها في الواقع بمعنى التنزيل في العدم الواقعي فلا إشكال في كونِ ذلك باعتبار الآثار، وإلاّ فباستصحاب عدم التكليف لا يَنْعَدِمُ لو كانَ موجوداً في الواقع.

وعليه: فلا يَصِحُّ الاستصحابُ إذا لم يَكُنْ له أثرٌ شرعيٌ، وإنْ كانَ بمعنى العَدَم في الظاهر، فمِنَ المعلومِ أنَّ جَعْلَ العَدَمِ فيه لا محقَّق له سوى عَدَم الجعل، فيَنْعَدِمُ الجعلُ بتحقُّق عَدَمِ الحكم الظاهريّ من غير تأثيرٍ لعدم الجعل.

وجوابُهُ يَظْهَرُ مما قَدّمناه، من أنَّ تحقّق العدم فِعلاً بيد الشارع.

التنبيه العاشر: في استصحاب المركب

إنّ المركّب من أجزاء تارةً تكونُ له وَحْدَةٌ امتزاجيّة خليطَةٌ بحيث أنَّ أجزاءه لا يتميّزُ بَعْضُها عن بعضٍ في الخارج، وتكونُ هي المركَّب لدى الحقيقة، كالسكنجبيل المركَّب من امتزاج الخلّ بالعَسَل، وكالإنسانِ من النَّفْسِ والبَدَن، فهذا النَّحو من المركَّب لا إشكال من أنَّ جريان الاستصحاب في أجزائه لا يثبت وُجودُه إلاّ بالأصل المثبت.

وأخرى يكونُ المركَّب عبارةٌ عن أجزاءَ خارجيّة انضمامية، يَنْضَمُّ بَعْضُها لبعضٍ كأجزاء الصَّلاة، وأجزاءِ البيت المركّب من سُورِ ومَرافق بحيث تكون متميّزةً بعْضُها عن بَعْضٍ، فيصحُّ استصحابها ويَثْبُتُ بها المركّب، ولا يكون ذلك من الأصل المثبت؛ لأنّ المركّب عبارة عن وجودها منضمّة بعضها لبعض، فلو أحرز بعضُ أجزاءِ هذا المركّب بالوجدان، والبعض الآخر بالأصل، ثَبَتَ المركّب لأنه ليس له حقيقة وراء ذلك، كعنوان الحدوث فإنّه على القول بأنَّ المركّب من عدم سابق، ووجود متّصل به لاحق، فيمكن إحراز وجوده بإحراز بعض أجزائه بالأصل، وبعضها بالوجدان، كما لو شككنا في حدوث موت زيد يوم الخميس أو يوم الجمعة، فنستصحب عدمه إلى يوم الجمعة، فيثبت حدوثه يوم الجمعة؛ لأنه أحرز وجوده فيه بالوجدان، وأحرز عدم وجوده إلى يوم الجمعة بالاستصحاب، ومن هذا القبيل جعل أوّلِ يوم من الشهر هو يوم ثبوت الشهر.

إنْ قُلْتَ: إنَّ اتصالَ زَمَانِ الوجود بالعَدَم لابُدَّ منه في تحقُّق الحدوث.

قلنا: هو مُحْرَزٌ أيضاً بالوجدان؛ لأنَّ العَدَم يستصحب إلى زمان الوجود، فيكونُ العَدَمُ محرزاً اتصاله بالوجود وبالوجدان، وبهذا صحَّ استصحاب بعض أجزاء الموضوعات المركّبة للأحكام الشرعية لإحراز أجزائها الأخرى بالوجدان مثل أرث الولد لأبيه، فإنَّ موضوعه مركَّبٌ من موتِ الأب، ومن حياة ولده، فإذا أحرز أحدهما بالوجدان بأنْ مات الأب، وشُكَّ في حياة الولد يستصحب حياة الولد لزمان ما بعد موت الأب، ويثبتُ الإرث للولد لثبوت أحد أجزاء موضوعه بالوجدان وهو موتُ الأب، واستصحابُ الجزء الآخر وهو حياة الولد إلى موتِ الأب، ومثالُ جواز تقليد المجتهد العادل، فإنَّ موضوعه مركب من اجتهاد الشخص ومن عدالته، فإذا أحرز شخصٌ أحدهما بالوجدان والآخر بالأصل، جاز تقليده.

وفي الحقيقة: إنَّ التركيب والانضمام بين الاجتهاد والعدالة يكونُ محرزاً بالاستصحاب؛ لأنّكَ تستصحب أحدهما الذي كان منضمّاً للآخر بوصف انضمامه له، وبهذا يظهر لك صِحّة إثباتِ الموضوع بشرائطه وقيوده إذا أحرز بالوجدان، وشُكَّ في حصول شرائطه وقيوده، كما في الصّلاة إذا شُكَّ في الطهارة، فإنّه يُستصحَبُ طهارته، ويأتي بالصّلاة لأنه باستصحابه لطهارته فقد استصحب الطهارة بقيديتها لأجزاء الصلاة التي يحققها، وهكذا لو شُكَّ في إيمان الرقبة فإنّه يستصحبه بقيديته للرقبة.

وقد أورد على ذلك: بأنَّ استصحاب عَدَمِ تحقُّق الكُلِّ يعارِضُ استصحاب عَدَم الجُزء والشرط.

وقد نُسِبَ إلى المحقّق النائيني الجوابُ عنه: بأنَّ الشّكَّ في حصول الكُلِّ مُسبَّبٌ عن الشكّ في حصول الجزء والشرط، والأصل في السبب حاكم على الأصل في المسبَّب، فاستصحابُ وجودِ الجزء والشرط مُقدَّمٌ على استصحاب عَدَمِ الكُلِّ([365]).

وقد أورد عليه: بأنّ الحكومة إنما تُتَصوَّرُ بينَ الأسباب الشرعية ومسبباتها، كما في سبيبة طهارة الماء لطهارة الثوب المغسول به شرعاً، فإنّها كانت بجعلٍ من الشارع لا في مثل السببية العقلية، كسببيةِ حُصولِ الأجزاء لحصول المركَّب([366]).

ويُمكِنُ الردُّ عليه: بأنَّ الكُلَّ المجعول شرعاً بحصول أجزاء وشرائط اعتبرها الشارع فيه أيضاً تكونُ السببية مجعولة شرعاً بتبع جعل الأجزاء والشرائط، ففي المركّبات الشرعية تكونُ الأجزاء والشرائط شرعية.

ولو سلَّمنا؛ فالوَجْهُ فيه حكومةُ الأصل في السَّبَب على الأصل في المسبب جاز في المقام، كما سيجيء إن شاء الله مِنّا بيانه، ولو سلَّمنا؛ فالمركَّبات الشرعية وجودُها عينُ وجودِ الأجزاء والشرائط مُنضمّاً بَعْضُها إلى بعض، لا سيما الموضوعات الشرعية المركبة، كاجتهاد الشخص وعدالته الموضوع لجواز تقليده، فلا اثنينية في البين حتّى تكونُ بينهما سببية ومسبَّبية.

التنبيه الحادي عشر: في استصحاب العدم الأزلي

لا يخفى أنّه يَصِحُّ استصحاب نفس عدم الماهية الأزلي، فيقال: لم يكن عندي حنطة أزكّيها فهكذا الآن، وليس عليَّ دَينٌ فهكذا الآن، وكذا يصحُّ استصحابُ العَدَم الأزليّ للتكاليف المشكوكة، وأمّا أعراض الماهيات فالمفارقة منها يصحُّ استصحابُ أعدامها الأزلية إذا كانت الماهيةُ موجودة وشُكَّ في حُصولِ ذلك العَرَض لها، وأمَّا الأعراضُ التي تُوجَدُ بوجودها بحيثُ لو وُجِدَتْ للماهيّة لا تنفكُّ عنها أولاً وآخراً لا يصحُّ استصحابُ أعدامها الأزلية للماهية الموجودة، كالقرشية للمرأة؛ لأنها بوجود الماهية قد انتقض اتصافها بالعدم، فإنّها كانت أعدامها بنحو عدم موضوعها لا بنحو العدم عن موضوعها، وبعد وجودِ موضوعها تبدَّلَ بوجودها.

التنبيه الثاني عشر: في استصحاب الأمور الاعتقادية

إنَّ مورد الاستصحاب لابُدَّ أنْ يكونَ قابلاً للتعبُّد، إمّا بنفسه كما إذا كان من المجعولاتِ الشرعيّة، أو بآثارهِ الشَّرعية إذا لم يَكُنْ منها، مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بين كون المتيقَّن حُكماً تكليفياً أو وضعياً، أصلاً عملياً أو أصلاً اعتقادياً، أو موضوعاً خارجياً أو شرعياً، فيما إذا كانت أركانُ الاستصحاب محقَّقة من يقين سابقٍ، وشَكٍّ لاحِقٍ لعِمومِ الدّليل وصِحَّةِ التنزيل.

ودعوى جريانه في بعض الموضوعات اللغوية مع أنّها ليست كذلك، كاستصحاب عدم النقل، فإنّها ليست قابلة للتعبد لا بنفسها ولا بآثارها، وإنما يرتّب على آثارها الأثرُ الشرعي، فإنَّ أصالة عدم النقل يلزمها إرادةُ المعنى الحقيقي، ويَلْزَمُ إرادَةُ المعنى الحقيقيّ كون الحكم الشرعي هو المعنى الحقيقي.

فاسدةٌ؛ فإنَّ حُجيّة أصالة عدم النقل، وعدم التخصيص، وعدم الإضمار، وأصالة الحقيقية، وأصالة عدم الاشتراك، وأصالة عدم القرينة ونحو ذلك، إنّما كانَتْ لبناء العُقلاء على حُجِّيةِ هذه الأصول في الموضوعات اللغوية، لا من جهة أدلّة الاستصحاب، والموضوع المستنبط بها يُسمَّى بالموضوع المستنبط، وإنَّما عَبَّرَ بَعْضُهُم عنها بالاستصحاب لكونها تَشْبَهُ الاستصحاب.

نعم، قَدْ يُشْكَلُ الأمر في الأمور الاعتقادية نظراً إلى أنّها يُطْلَبُ فيها العلم، والاستصحابُ لا يفيد العلم، فلا يكونُ مسقِطاً لوجوبِ الفَحْصِ لتحصيلِ العلم والمعرفة.

ولكنْ لا يخفى أنَّ منها ما هو المطلوب فيه شرعاً الانقيادُ والتسليم والاعتقاد، بمعنى عَقْدُ القلب عليها، الذي هو عبارةٌ عن الموافقة الالتزامية، وهي من الأعمال القلبية الاختيارية، ككيفية علم الإمام، فإنّه لو عَقَدَ قلبه عليها ثُمَّ شُكَّ في بقاءِ علم الإمام على تلك الكيفية فيستصحِبُها ويعقد قَلْبَهُ عليها، فإنَّ الاستصحاب يُثْبِتُ الوظيفةَ للشاكّ، سواء كانت من عمل الجوارح كما في الفرعيات، أو من عَمَل الجوانح كما في الاعتقاديات، فإنَّ المطلوب فيها هو عقد القلب عليها وعَدَمُ إظهار التشكيك فيها.

وأمّا ما كان المطلوبُ فيها هو القَطْعُ واليقين، كمعرفة النبوّة والإمامة، بناءً على اعتبار العلم بهما، فلو شُكَّ في بقائهما لنفس النبيّ  (ص)  أو الإمام  عليهم السلام  من جهة البداء أو النسخ، فلا يجري الاستصحابُ لاثباتهما، بل يجب عليه الفحص لمعرفتهما والقطع بثبوتهما أو نفيهما، ومن ذلك الوجدانيات، كالخوف، والجوع، والعطش لو شُكَّ في بقائها عنده، وذلك لأنَّ المطلوب فيها هو اليقين والوجدان، وبالاستصحاب لا يحصل اليقين والوجدان، وهكذا الكلام في سائر المجعولات الشرعية المعتبر العلم بهما إذا شُكَّ في بقائها للشخص، وأمّا لو شُكَّ في بقاء وجودِ المتّصف بها، أو بقاءِ الآثار الأخرى العملية له كصلاة الجمعة خلفه فهو كسائر الموضوعاتِ الخارجيّة، فيُستَصْحَبُ وجودُهُ وبقاءُ الآثار الشرعية له.

وبهذا ظهر لك أنه لو شك في وجود الإمام  عليهم السلام  استصحب وجوده، أما لو شك في بقاء الإمامة أو النبوة له، فلا يستصحب إمامته ولا نبوته لاعتبار العلم بهما.

ودعوى استصحاب نفسها؛ لأنّها من المجعولات الشرعية بنفسها.

فيها: إن الاستصحاب إنّما هو مجعولٌ لبيان وظيفة الشاكّ وما يعمله في مقام شكه، فإذا كان المطلوبُ للشارع العِلْمُ بهِ واليقينُ بالواقع، وبالاستصحاب لا يحصل ذلك، فيكونُ الشَّارعُ قد ألغاهُ في هذا المورد لطلبه اليقين بالمورد، ولا يكونُ للشاكّ فيه وظيفةٌ لا جوارحيّة ولا جوانحيّة، فلا يكونُ مَجرىً للاستصحاب، ولذا ما كانَ خارجاً عن مَحلِّ الابتلاء لا يجري الاستصحابُ فيه؛ لأنَّ الاستصحاب بيانٌ لعمل الشكّ وما هو وظيفته شرعاً، كما هو ظاهر النهي عن عدم النقض.

التنبيه الثالث عشر: في استصحاب حُكْمِ الخاصّ

وَقَعَ الكلامُ في ما لو شكَّ في بقاءِ حُكْمِ الخاصّ هل يُستَصحَبُ حكم الخاص، أو يرجع إلى عموم العام أو إطلاقه، ومثله الكلام في المطلق والمقيد، فمثلا إذا قال: (أكرم العلماء ولا تكرم فسّاقهم)، فبَعْدَ ذهاب الفِسْقِ هل يُستصحَبُ حكمُ الخاص، فلا يكرم من صار عادلاً بعد فسقه، أو يتمسّك بعموم العام فيكرم العادل بعد فسقه.

لا ريبَ أنّه لا يصحُّ استصحابُ حكم العام، لارتفاع بقائه بالخاص، ولا ريب يقدّم ظهور الخاصّ لو كان له ظهورٌ في البقاء، ولا مجال للتمسُّكِ بالعام، كما لو قال في المثال المذكور: (ولا تكرم فسّاقهم حتى لو زال فسقهم)، وكما لو قال: (لا تكرم زيداً العالم)، فإنَّ الخاصّ الأوّل يَدُلُّ بوَضْعِهِ، والخاصُّ الثاني يَدُلُّ بإطلاقه على بقاءِ حُكْمِهِ حتَّى بَعْدَ ذِهاب الفِسق، كما لا رَيْبَ في التمسُّكِ بعموم العام لو كان الخاص لا دلالة له على بقاءِ حكمه في مورد الشكّ، وكان للعموم عمومٍ بالإطلاق أو بالوضع لموردِ الشكّ، كما لو قام([367]) الإجماع على حُكْمِ الخاصّ، وكان العموم له دلالة على العموم لأفراده ولسائر الأزمان، بأن يكون له عمومٌ عَرَضيٌ وطوليّ، فلو أخذنا بحُكْمِ الخاصّ في مورد الشكّ كان تخصيصاً زائداً، والأصلُ عَدَمُه، فمِثلُ [أَوْفُوا بِالْعُقُودِ]([368])، فإنه له عموم أفرادي عرضياً لكلّ عَقْدٍ بالوَضْع؛ لأنّه جَمْعٌ مُعرَّفٌ بالألف واللام، وعمومٌ لكُلِّ زمان طولياً بالإطلاق، وإلاّ لَزَمَ لغوية هذا الحكم، وقد خصّص بالعقد الربوي، وكان هذا المخصّص ظاهراً في بقاءِ حُكْمِهِ إلى سائر الأزمان فيُؤخَذُ بهِ، وخُصِّصَ بالعقودِ وَقْتَ النّداء يوم الجمعة، وكانَ هذا المخصَّص ظاهراً في اختصاصه بوقت النّداءِ يوم الجمعة، فيتمسَّكُ بعمومِ (أوفوا) على صِحّةِ العُقودِ في باقي الأزمان، وخُصِّصَ بالعقد للمعاملة الغبنية، ولكن لم نعلم أنَّه خارجٌ عنها في الآن الأوّل من حين الالتفاتِ إلى الغبن، أو في سائر الأزمان فيتمسَّك بعموم (أوفوا).

أما لو لم يَكُنْ من العامّ والخاصّ دلالةً على ثبوتِ العموم للأزمان المتعاقبة، أعني عموماً طولياً، وليس للخاصّ دلالة على بقائه لا وَضْعاً ولا إطلاقاً، لعدم تمامية مقدّمات الحكمة، ولا له دلالة على اختصاصه بذلك الزمان، لاحتمال أنَّ الزّمان ظَرْفٌ له، فمُقتضى القاعدة التمسُّك باستصحاب حُكْمِ الخاصّ؛ لأنَّ الشكَّ يكونُ شكّاً في بقائه متّصلاً باليقين به، وظرفيّة الزمان لفعل الخاصّ لا تُوجِبُ كونه مفرداً له وقِسْماً له، إلاّ قطعات متغايرة عرفاً، فيكونُ وجودُه في الآن الثاني بقاءً له، بخلافِ العام، فإنّه قد خَرَجَ عنه، فليس الشكُّ يكونُ شكّاً في بقاءِ ذلك العام، وإنمّا هو في حُدوثِهِ في هذا الفرد الذي خَرَجَ في الزَّمان الأول منه.

وما ذكره بعضهم من الفرق بين هذا الفرض والفرض الأول، إذ الفرض الأول لو أخذ بحُكْمِ الخاصّ لكانَ تخصيصاً زائداً على مقدار الخاصّ، وأمَّا هُنا فليس يلزَمُ تخصيصاً زائداً؛ لأنَّ العامّ مُهْمَل([369]).

فلا يخفى ما فيه: لأنّ أصالة عدم الزيادة تجري في الفرضين.

والحاصل: إنّ الصور المتصوّرة في المقام أربع:

أحدها: أنْ يكون للعامّ عمومٌ لسائر الأزمان، والخاصّ مقيّد بوقتٍ خاصّ، بحيثُ يكونُ الزّمان المأخوذ في الخاصّ موجباً لكونه موضوعاً مستقلاً، كما لو قال: (أكرم العلماء في كُلِّ وقتٍ إلاّ وقت الصلاة)، أو (لا تكرمهم في وقت الصّلاة)، ففي هذه الصورة يتمسّك بعمومِ العام فيما عدا وقت الصلاة لشموله له، ولا يصحُّ التمسُّكُ بالخاص لعدم دلالته عليه، ولا يستصحب حكمه لتبدل موضوعه؛ لأنّ الموضوع الإكرام المقيّد بوقتِ الصَّلاة، ولأنَّ عمومَ العام أمارة على حكمه، والاستصحاب لو تمّ فهو أصلٌ عملي، والأمارةُ مقدَّمَةٌ على الأصل.

الثانية: أنْ يكون للعامّ عموم لسائر الأزمان، والخاصّ مهمل أو أخذ الزمان فيه بنحو الظرفية لا القيدية، كما لو قام الإجماع في المثال المذكور على عدم إكرامهم يوم الجمعة، وفي هذه الصورة يتمسّك بعموم العام في مورد الشك في ثبوتِ حُكْم المخصّص لأنه حجة.

الثالثة: أنْ يكون العامّ مهملاً عمومُه الاستمراري، بأنْ لم يكن فيه لفظ يدل على العموم، ولم تتمّ مقدمات حكمه، وكان الخاصّ الزمان المأخوذ فيه قيداً لموضوعه، فالمرجع في مورد الشكّ هو الأصول العملية؛ لأنَّ العام لا دلالة له لإهماله، ولا يصحّ استصحاب حكمه لانقطاعه بحكم الخاص، ولا يصح استصحاب حكم الخاص لكون موضوعه مقيداً بالزمان، فكان مورده فرداً مغايراً لمورد الشكّ، وموضوعاً مغايراً له، فلا يكونُ وجوده بقاءً له.

الرابعة: أنْ يكون العام مهملاً، والخاصّ أيضاً مهملاً، والمرجع في هذه الصّورة هو استصحابُ حكم الخاصّ، لكون مورد الشكّ يكونُ مورداً للشك في بقاء حكمه، لعدم تقيده بالزمان، والذي قيل أو يمكن أن يقال عليه عدة ايرادات:

[الإيراد] الأول: إنَّ ما ذكرته يصحُّ لو كانَ الدليلُ يدلُّ على استمرار حكم العام على نحوٍ يكونُ كُلّّ قطعةٍ من الزّمان القابلة لوقوع متعلَّق التكليف بالعام فرداً لموضوع ذلك العام، كما لو قال: (أكرم العلماء) في كُلِّ آنٍ من آنات الزمان، بأنْ يكون إكرامُ العلماء في هذا الآن فرداً، وإكرامهم في الآن الثاني فرداً آخر، أي يكون عموم للعام بحسب الزمان المسمّى بالعموم الطولي، مثل عمومه العرضي المسمّى بالأفرادي.

وبعبارة أخرى: يكونُ كُلُّ مقدارٍ من الزمان القابل لوقوع متعلَّق التكليف موضوعاً مستقلاً لحكم العام بحيث يكون امتثال التكليف بالعام وعصيانه في هذا المقدار غيرُ مرتبطٍ بامتثاله وعصيانه في غيره من قَطَعَات الزّمن، فيكونُ للتكليف عدّة إطاعات وعدّة معاصٍ بحسب الزّمان، كما يكونُ له ذلك بحَسَب عمومه الأفرادي فإنَّ حكم العامّ متعدّدٌ بتعدّد الأفراد، وكُلُّ حُكْمٍ للفرد غيرُ مرتبط بحكم الفرد الآخر امتثالاً وعصياناً، ونظيره وجوبُ الصَّوم على المكلّفين في شهر رمضان، فإنّه له عمومٌ أفرادي لكُلِّ مكلَّف، وله عُمومٌ زمانيٌّ لكُلِّ يومٍ من شهر رمضان، بحيثُ أنّ كُلَّ يومٍ منه له امتثالٌ وعصيانٌ في حَدِّ نفسه.

والحاصل: إنَّ العامّ إذا دَلَّ على العموم الشّموليّ للزمان سواء كان بنحو العموم الاستغراقي كما في المثال المتقدم، أو بنحو العموم البدلي كما لو قال: (صَلِّ الصُّبْحَ من طُلوعِ الفَجْرِ إلى طُلُوع الشَّمس)، فإنّه يَدُلُّ على طَلَبِ الصلاة في كُلِّ قطعة من هذا الزمان على نحو البدل، فإنّه في هذه الصُّورة لو خَرَجَ مقدار من الزمان من تحت العموم الزمني لا يمنع من التمسّك بالعام في باقي قطعات الزمن الأخرى، كما أنَّ خروجَ فردٍ من العام لا يمنَعُ من التمسُّك به في باقي الأفراد، كما في وجوب صومِ كُلِّ نهارٍ من شهر رمضان، وتخصيصُه بالحائض أو بالمسافر، فإنّه بَعْدَ زمانِ الحيض والسفر والمرض يتمسّك بالعامّ في باقي الأيام من شهر رمضان.

وأما إذا لم يَكُنْ يَدُلُّ كذلك، بل كان يَدُلُّ على أنَّ مجموع الزمان فرد واحدٌ، بأنْ يكونَ كُلُّ فَرْدٍ من العامّ بحسَبِ زَمَانِهِ فَرْداً واحداً مستمرّاً طولياً بحسب استمرارِ زمانه، والزمان ظَرْفٌ لحكمه من وجوب أو غيره، وله امتثالٌ واحدٌ وعصيانٌ واحد، فلو خالف التكليف في قطعة من الزمان فقد خالف التكليف بذلك الفرد كُلّية، كما في وجوبِ الصَّوم بالنسبة إلى النَّهار، فإنّه يجب من الفجر إلى الغروب، فلو تناوَل الطَّعام في دقيقةِ واحدة في اليوم الذي يجب عليه صومه كان عاصياً، وإنْ أمسك في باقي الأزمان من ذلك اليوم.

والحاصل: إنّ الدليل إنْ دَلَّ على العُموم المجموعي للزَّمان فلا مجال للتمسُّك بعمومِ العامّ الزّماني فيما إذا خُصِّص بحسب الزمان في غير مورد الخاصّ من باقي قطع الزمان؛ لأنَّ حكم العام كان لهذا الفرد حكمٌ واحدٌ بحسب الزمان، وقد انْعَدَمَ عن هذا الفَرْد بواسِطَةِ التَّخصيص بقطعَةٍ من زمانه؛ لأنَّ الموجود الواحد يَنْعَدِمُ بانعدام بَعْض أجزائه، وبعد انعدامه يحتاج إلى إثباته بالدليل، ومقتضى الاستصحاب هو بقاءُ حُكْمِ الخاصّ لا استصحاب ما انقطع بانعدامه.

قلت: لا فرق في ذلك حتَّى لو كان عمومُ العامّ بالنحو الثاني، فإنه من الممكن أنَّ وحدة الحكم للفرد بحسب قطعات الزمان لا توجب زوال ذلك الحكم، وإنّما يُوجبُ خُروجَ بعض أفراده عنه في بعض أوقاته، فهو نظيرُ السَّتر الواحد لمجموع أشياءِ متعدّدة، فلو خَرَجَ منها واحدٌ لم يزل الستر، وإنّما نقص المستور، فإنّه من الممكن إذا أوجب عدّة أشياء مجتمعة ثمّ استثنى بعضها أنْ لا يزول الوجوب، وإنّما تزال نسبته إلى بعض متعلّقه، فإذا قال: (يجب الجلوس إلى الليل إلا وقت الصلاة)، فإنّه يبقى وجوب الجلوس فيما عدا المخصّص، بل حتّى في عموم الأفرادي إذا كان حُكْماً واحداً، كما إذا قال: (يجب ركوب هؤلاء العشرة السيارة)، ثُمَّ بعد ذلك استثنى زيداً، فإنّه يبقى الوجوب ثابتاً للأفراد الباقية، وإذا كان ذلك ممكناً وللّفظ ظهورٌ فيه، حُمِلَ اللفظ عليه، وفرض الكلام إنّ العام له ظهورٌ في العموم بهذا النحو، فيُتَمسَّكُ بظهوره في غير مورد الخاص.

والحاصل: إنَّ التخصيص إنّما يوجبُ انقطاع نسبة الحكم إلى متعلّقه في مورد الخاص، فلا يُوجب انثلاماً في الحكم، ولا في متعلّقه، وإنّما يوجب انثلاماً في خصوص النسبة، فلا فَرْقَ في حُجيّة العامّ في باقي أفراده بينَ أنْ يكونَ عمومه بنحو العُموم الأفرادي الاستغراقيّ، أو بنحو العموم المجموعي، فإذا قال: (يجب أنْ يحمل هذه الحمل هؤلاء العشرة)، واستثنى بعد ذلك زيدٌ في وقت الفجر، كان يَدُلُّ على وجوبِ حَمْلِهِ على زَيْدٍ فيما عدا الفجر.

فالحقُّ: إنَّ العموم الأفرادي والعُموم المجموعيّ إذا خُصِّصا، وكذا المركَّبُ إذا خَرَجَ أحدُ أجزائه، يُتَمَسَّكُ به في الباقي، فلو قال: (تَجِبُ الصَّلاة إلا السجود والركوع)، يأتي بباقي الأجزاء.

والسِرّ في ذلك: إنَّ مرتبة التخصّص متأخرة عن مرتبة العموم، فإذا صدر العموم ثَبَتَ لجميع الأفراد دَفْعَةً واحدة، فالتّخصيص يزيل نسبة الحكم عن بعض أفراد العام ويخرجه من الحكم، فيبقى الباقي على حاله والعامّ باق على حجيته فيه.

الإيراد الثاني: وهو الذي استفدناه من كلام أستاذنا الشيخ كاظم الشيرازي، أنّه كما يمكن أنْ يكون التخصيص راجعاً لعموم الأزمنة، يمكن أنْ يكونَ راجعاً للعامّ، فإنَّ دليل العموم له عمومٌ عرضيٌّ وهو عمومه لأفراد العام، وعمومٌ طُوليٌّ وهو عمومهُ لكلِّ قِطْعَةٍ قطعةٍ من الزمان تَسَعُ العمل، المتعاقبةِ، فقولنا: (أكرم العلماء) له عمومٌ لأفراد العلماء من زيد وبكر وعمر ونحوهم، وله عمومٌ لكُلِّ زمانٍ من الأزمنة التي تَسَعُ الإكرام.

فالمخصّص كما يمكن أنْ يرجع لعموم الأزمان، ويكون المخرَج (بالفتح) خارجاً عن عموم الأزمان، فيُتمسَّكُ بالعامّ فيما عَدَاهُ من قطع الزمان، كذلك يمكن أنْ يكونَ راجعاً لعموم الأفراد، ويكونُ المخرَج خارجاً عن عموم الأفراد.

وعليه: لا مجال للتمسُّك بالعامّ في ما عداه من قطع الزمان؛ لأنَّ العموم للأزمنة تابعٌ لمقدار ما يَدُلُّ العامُّ عليه من الأفراد، فإكرامُ العُلَمَاءِ إنَّما يَدُلُّ على لزوم الإكرام لسائر قطع الزمان لخصوص من يقصد من العلماء، فإذا قصد من العلماء خصوص الفقهاء، فالدّليلُ إنّما يدلُّ على عموم الزمان لخصوص الفقهاء دون غيرهم، فإذا قال: (أكرم العلماء)، وجاء مخصّص له متصلٌ أو منفصل يدلُّ على خروجِ زيدٍ يوم الجمعة، فإذا فُرِضَ أنَّ هذا المخصِّص يخرج زيداً من العلماء، ينهدم أساس العموم الثاني، أعني: العموم الزماني الطولي، فلا يصحُّ التمسُّكُ به فيما بعد يوم الجمعة على وجوب إكرام زيد؛ لأنّه يكون بالنسبة إلى عموم الثاني من قبيل التخصص.

وإذا كان الأمرُ يدور بين تخصيص أفراد العامّ، ولا يبقى مجالٌ للتمسُّك بالعام في باقي الأزمنة، وبين تخصيص الأزمنة ويصحُّ التمسُّكُ بالعام في باقيها ولا معين لذلك، فلا دِلالَةَ لدليلِ العامّ على حُكْمِ ما عدا مورِدِ التَّخصيص حتَّى يُتَمَسَّكُ بهِ، فيتَعَارَضُ الأصلان فيتساقطان، فيرجع لاستصحاب حكم المخصص.

توضيحُ ذلك: إنَّ قولنا: (أكرم العُلَمَاء) وتخصيصه بـ (لا تُكْرِمْ سيبويه يوم الجمعة) مثلاً، كما يُمكِنُ أنْ يكونَ تَصَرُّفاً في عُمومِ العلماء، فلا يمكن الرجوع إلى عمومه وإطلاقه الزَّماني بعد يوم الجمعة على إكرام سيبويه، كذلك يمكن أنْ يكونَ تصرُّفاً في عموم وإطلاق الحكم، أعني: وجوب الإكرام، فيكونُ تقييداً له ويكون عموم العام وهو العلماء هو المرجع عند الشكّ، فيتعارض الأصلان فيتساقطان، فيرجع لاستصحاب حكم المخصص.

وجوابه: مُضافاً إلى أنَّ هذا لا يتمُّ فيما إذا كان التخصيص في أثناء الاستمرار؛ لأنه يعلم منه أنَّ التخصيص كانَ من العموم الأزماني لا العموم الأفرادي- مضافاً إلى ذلك- إنَّ التخصيص إذا رجع إلى أفراد العام يلزم منه التصرُّف في ظهورين: التصرُّفُ في الظهور في العموم العرضيّ، أعني: عموم الأفراد، والتصرُّفُ في الظهور في العموم الطّوليّ الذي دَلَّ عليه الإطلاق أو الوضع، وهو العمومُ لسائر الأزمان، بخلافِ ما إذا أرجعناه إلى عمومِ الأزمنة فإنّه يَلْزَمُ منهُ تصرُّفٌ واحِدٌ في الظُّهور في العُمومِ الطّوليّ للأزمنة.

سَلَّمنا؛ لكن ظاهر التخصيص سواء كان مُتّصلاً أو مُنْفَصِلاً هو خُروجُ الفَرْد بهذا الوقت لا في سائر الأوقات، فلا ينثلم عمومُ العامّ فيما عدا ذلك الوقت، فإذا فُرِضَ أنّه وَرَدَ: (أهن الفسّاق في كُلِّ يومٍ)، وورد دليلٌ على عَدَمِ وُجوب إهانة زيدِ الفاسق يوم الأحد، كان المتيقَّن منه هو عدم إهانته يوم الأحد، وشُكَّ في وجوب إهانته في باقي الأيام فيتمسك بالعموم لا باستصحاب حكم الخاص.

الإيراد الثالث: إنَّ دليل الحكم للعام المستفاد منه دوام الحكم بحسب الأزمان من إطلاقه، أي: من مقدّمات الحكمة المقتضية لدوام الحكم ما لم يحصل الامتثال ولو مرَّةً واحدة، فلا محالَةَ يكونُ الزَّمانُ ظرفاً للحكم والموضوع، فإنَّ الشارع لو كانَ مُلاحظاً للزَّمان في الموضوع أو الحكم بأنْ يجعل الشارع الزمان مفرّداً للفعل ومقسماً له أو للحكم، بحيثُ يكونُ الحُكْمُ مُتعدِّداً بتعدُّدِ الزَّمان لأخذِ الزَّمان في الدّليل، فعدم أخذه للزمان فيه وإرساله للخطاب حُكْمَاً ومَوضُوعاً يعلم أنّه جعله ظرفاً مَحْضَاً للفعل، واستفادَةَ الدَّوام بواسطة مقدّمات الحكمة.

وعليه: فيكونُ الحُكْمُ للعامّ ينحلُّ إلى أحكامٍ متعدَّدة بتعدُّد أفرادِ العام، كُلّ حكم مستمرّ لجميع الأزمان بنحو العموم البدلي لا الاستيعابي، إذ المفروض أنَّ الوجوب لكلّ واحدٍ من أفراد العام وجوبٌ واحدٌ يحصل امتثالُهُ بإتيان المتعلق مرّة واحدة، فإكرام العلماء ينحلُّ إلى وجوب إكرام زيد العالم وجوباً مستمرّاً بنحو البدل، بمعنى أنّك لو أتيتَ به مرَّة واحدةً سَقَطَ هذا الوجوب الجزئي، وليس بوجوبات متعدّدة لزيد بتعدّد الأيام وقطعات الزمان، بخلاف قولك (أكرم العلماء دائماً أبداً)، فإنه ينحلّ إلى وجوبات للأفراد، وكُلُّ وجوب للفرد ينحل إلى وجوبات متعددة بحسب قطعات الزمان، فيكون وجوب إكرام زيد عبارة عن وجوبه يوم السبت، ووجوبه يوم الأحد، وهلمّ جرّا مستمراً متعدداً.

وعليه: فلو وَرَدَ تخصيص للعام المستمرّ بواسطة مقدّمات الحكمة لم يكن للعام دلالة على ثبوتِ الوجوب فيما بعده لعدم كونه فَرْداً آخر للعام بعده.

وحاصلُ هذا الإيراد: إنّ العام إنْ استفيد العموم منه بالوضع صَحَّ التمسُّك به؛ لأنَّ الزَّمان قد لُوحِظَ مفرّداً ومقسّماً له بحسب قطعاته ويتمسك به فيما بعد المخصّص، وأمّا لو استفيدَ العُموم من مقدّمات الحكمة، فيكونُ الزَّمان ظرفاً له وغيرُ مفرّد ولا مقسّم، فلا يصحُّ التمسُّك به فيما بعد المخصّص؛ لأنه لا دلالة له عليه، ويكون مهملاً بالنسبة إليه.

وجوابه: إنّ مقدَّمات الحكمة إنّما هي قرينة حالية على استمرار الحكم للعام بنحو البدل، أو بنحو الشَّمول، فهي كالقرينَةِ اللَّفظية في الدّلالة من دون تفاوت، فإنْ صَحَّ مع القرينة اللفظية التمسُّك بالدليل صَحَّ معها.

الإيراد الرابع: وهو يَظْهَرُ من المرحوم الآخند في حاشيته على الرسائل.

وحاصِلُهُ: إنَّ العامَّ الدالّ على ثبوت الحكم على الدّوام يُوجبُ تخصيصُه عَدَمَ الرّجوع إلى العامّ عند الشكّ في ثبوتهِ إذا كانَ التخصيص في أثناء الاستمرار دُونَ ما إذا كان التَّخصيصُ للعامّ من أوله أو آخره، إذ الدليل لا يعمّ ما بعد زمانِ حُكْم الخاصّ بحياله، بخلاف تخصيصه ابتداءً، فإنَّ دلالته على استمراره على حاله وإنْ تأخَّرَ زمانُ ابتدائه، وكذا إذا خُصِّصَ من آخره، فإنَّه لا نتمسّك به بعده؛ لأنه قد انتهى زمانُ العام، فمثلاً: [أَوْفُوا بِالْعُقُودِ]([370]) خُصِّصَ في بَيع الحيوان بالخيار إلى ثلاثةِ أيّام ابتداء، فيُتَمَسَّكَ بالعموم فيما بعدها، وخُصِّصَ ابتداءً بما قبل القبض في المجلس، أو بما قبل الافتراق، فيُتَمَسَّكُ بوجوبِ الوفاء بعد القبض وبعد الافتراق، وهذا بخلافِ تخصيصه بظهور الغبن في الأثناء، فإنّه لا يصحُّ التمسُّكُ به بعد زمان ظهور الغبن، وذلك لأنه تحصل أقسام ثلاثة للوفاء: الوفاءُ قبل ظهور الغبن، والوفاءُ بعد ظهور الغبن، والخطابُ لا يكون دليلاً على القسم الثالث بعد انقطاع حكمه، وهو الوجوبُ في الوسط، فَتَخلَّلَ عدم الحكم يُوجِبُ أنْ يكون ما بَعْدَهُ فَرْداً آخَر، فيَحْتَاجُ دُخوله في العموم كون العموم عُموماً زمانياً يدلُّ على كُلِّ قطعةٍ قطعةٍ، والفرض عدم ذلك([371]).

ولا يخفى ما فيه: فإنَّ الخروجَ عن الحكم لا يُوجُب الخروجَ عن العام، فهو باقٍ على فرديّته للعام، فإنّ انطباق الكُلّي على أفرادِهِ قهريٌّ، وتعدُّدُ الحكم لا يوجبُ تعدّد الفردية، فإنَّ زيداً العالم فردُ للإنسان العالم، وإنْ صار حكمه غير حكم العالم، فانطباقُ الوفاء على الوفاء بعد ظهور الغبن قهريٌ، فيلحقه حكمه قهراً.

سَلَّمنا أنّه فردٌ آخر، لكنّه يكونُ مثل الفرد الحادث الجديد في دخوله في حُكْم العامّ، ولا مجال لاستصحاب حُكْم الخاصّ، بل هو كما دَخَلَ ابتداءً يدخلُ مرَّة ثانية لانطباق العام عليه قهراً، فمع فرض دلالة الدليل على عمومية الزمان للعام بأية واسطة وضعاً أو بمقدّمات الحكمة، فهذا الفرد كان داخلاً هذا القسم منه، ولم يحدث إلاّ خروجُ قسمٍ منه وهو لا يوجب تبدّل الدلالة عليه.

وبعبارةٍ أخرى: العُمومُ الزّماني كالعموم الأفرادي، فكما أنَّ خروجَ بَعْضِ الأفراد عن العام لا يمنعُ من التمسُّكِ بالعامّ في باقي الأفراد، ولا يُوجبُ تعدُّد الحكم، كذلك خروجُ قِطْعَةٍ من العموم الزماني لا يَمْنَعُ من التمسّك بالعموم الزماني، ولا يوجب تعدّد الحكم.

فلا وجه لما قيل من: أنَّ العموم الزماني إذا خُصِّص لم يَبْقَ ذلك الحكم العام لزوال عمومه، فإثباتُ الحكم للباقي إثباتٌ لغير مدلوله، ووجهُ فساده نقض: بأنه لو تَمّ لكانَ جارياً في العُموم الأفرادي والعموم الزماني، وحلّ: بأن الحكم نفس الحكم، وإنما أخرج منه بعض مدلوله.

الإيراد الخامس: ونُسِبَ إلى الميرزا النائيني، وهو: أنَّ العموم الزماني تارة يكونُ موضوعه متعلّق الحكم، بمعنى أنه يلاحظ العموم في نفس المتعلّق للحكم، وتكون آناتُ الزمان قيداً له، بحيثُ يكونُ كُلُّ آنٍ معروضاً لحكمٍ، بحيث يرد الحكمُ الشرعيّ على العموم، بحيثُ يمكن أنْ يتكفَّل اعتباره نفسُ دليلِ الحكم، كقولك: (أكرم العلماء في كُلِّ زمانٍ)، وكقولك: (يجب الصَّوم في كل يوم من شهر رمضان)، فيكونُ وجوبُ واحد وارداً على صومِ كُلِّ يومٍ من الشهر.

وأخرى يكونُ العمومُ الزّمانيُّ موضوعه نفس الحكم الشرعي، يرد الحكم عليه، بحيث لا يمكن أنْ يتكفّل بيان العموم الزماني نفس دليل الحكم، بل لابُدَّ من بيانه بدليلٍ منفصلٍ؛ لأنَّ استمرارَ الحُكْمِ ودَوَامَ وجُودِهِ فَرْعُ ثبوتِ الحكم، كما لو قلنا: (الحكمُ الفلانيُّ مستمرٌ أو دائمٌ وجوده)، فإنّه يكونُ نفس الحكم موضوعاً للدوام والاستمرار الزماني، والمحمول إنّما يَثْبُتُ بعد تحقق الحكم.

إذا عَرَفْتَ ذلك، ففي الصُّورَةِ الأولى يُتَمَسَّكُ بالعموم عند الشكّ في التخصيص، ولا تَصِلُ النَّوبة إلى الاستصحاب لتكَفُّلِ الدّليلِ بيان الحكم لكلّ آنٍ من آناتِ مُتَعَلَّق الحكم؛ وأمَّا في الصّورَة الثانية فلا يصحُّ التمسُّكُ بالعموم عند الشكِّ في التخصيص أو في مقداره، بل لابُدَّ من الرّجوع إلى الاستصحاب؛ لأنَّه لم يحرز مَوضُوعُه وهو الحكم، فلو قال: (أكرم العلماء) وفهمنا من مقدمات الحكمة استمرار وجود هذا الحكم، ثُمَّ شكَّ في الوجوب لاحتمال تخصيصه، فلا يصحّ التمسُّك بالعموم، فإنَّ التمسُّكَ به يتوقّفُ على إحراز موضوعه، وهو وجود الحكم، والمفروض الشكّ فيه، فلابُدَّ من الرجوع إلى استصحاب حكم العامّ عند الشكّ في أصلِ التَّخصيص، والرّجوع إلى استصحابِ حُكْمِ الخاصّ عند الشكّ في مقداره؛ لأنَّ الدليل كانَ متكفّلاً لعموم أزمنة وجود الحكم، والشكّ في التخصيص الزّماني يُوجِبُ الشكّ في وجود الحكم، فيكونُ التمسُّك بالعموم الزماني تمسّكاً بالعامّ في الشّبهة المصداقية، نظير من يتمَسَّك بـ (أكرم العلماء) في وجوبِ من شكّ في كونه منهم([372]).

وجوابه: إنّ الحكم وتوابعه من ضرورة استمرار([373])، أو توقيت له، يتمسك بدليله عند إحراز ما جُعِلَ موضوعاً له، فالعموم الزماني للحكم من توابع الحكم، فيتمسك به عندما يحرز موضوع نفس الحكم، فما دلَّ على دوام وجوب إكرام العلماء إذا شك في تخصيصه أو مقداره، إذا أحرز أن الشخص عالم يتمسك به؛ لأن قيود الحكم تابعة للحكم.

سلمنا؛ لكن الحكم قد أحرز في أول الأزمنة قبل زمان الشك في استمراره، فيكون الاستمرار قد أحرز موضوعه وهو الحكم، فيصح التمسك بدليل استمرار الحكم عند الشك في استمراره، كما هو الشأن في كل محمول مشكوك أحرز موضوعه.

الإيراد السادس: إنه لابد من ملاحظة الخاص، فإن أخذ الزمان فيه بنحو الظرفية كما هو طبع الزمان والمكان، فيتمسك باستصحاب حكم الخاص إذا لم يكن للعام عموم استغراقي، وإن أخذ الزمان في الخاص بنحو القيدية والعام لم يكن له عموم استغراقي فلا يصحُّ التمسُّكُ بالعام لعدم دلالته، ولا يصح التمسك باستصحاب حكم الخاص؛ لأنه مع قيدية الزمان لموضوعه يكون موضوع حكم الخاص هو خصوصُ ذلك الزمان، فلا يصحُّ استصحاب حكمه للزمان الآخر؛ لأنّه يكونُ من قبيلِ استصحابِ حُكْمِ مَوضُوعٍ لموضوع آخر، فلابُدَّ من الرُّجوعِ إلى دليلٍ آخر.

وفيه ما عَرَفْتَ: أنّه مع عمومِ العامّ استغراق شمولي أو بدليّ أو مجموعي يرجع إليه إذا لم يكن عموماً للمخصّص، وإلا فيرجع للمخصّص، ومع عدم العموم لهما يرجع لاستصحاب حُكْمِ المخصِّص إذا أخذ الزمان بنحو الظرفية في المخصِّص، أو كانَ المخصِّص مُهملا، وأمّا إذا أخذ الزمان في المخصِّص بنحو القيد فيُرْجَعُ لأصلٍ آخر، لِعَدَمِ صِحَّةِ استصحابِ حُكْمِ المخصِّص لاختلاف الموضوع، وعَدَمُ صِحّةِ التمسُّكِ بالعامّ لعدم دلالته، ولا استصحاب حكمه لانقطاعه بحكم المخصص.

التنبيهُ الرّابعُ عشر: في استصحاب باقي المركب

إنَّ المركَّب إذا تعسَّرَتْ بعضَ أجزائه أو شروطه أو فُقِدَتْ فَهَلْ يَصِحُّ استصحابُ حُكْمِهِ للباقي، وهذا الموضوعُ قد أَشْبَعْنا فيه الكلام في كتابنا (الأحكام)([374]).

والتحقيقُ أنْ يقالَ: إنَّ الباقي من الأجزاء إنْ كانَ عند العُرْف بقاءٌ لموضوع الحكم صَحَّ الاستصحاب، ألا ترى إنّا نستصحبُ بقاءَ كُرّية الماء إذا نَقَصَ منه شيءٌ يُوجِبُ الشكَّ في كريّته، فيما إذا كانَ العرف يرى أنَّ نقصان الماء لم يغيّر موضوع الكرية، وقد يستأنسُ لذلك بأنْ فَقَدَ بعض أجزاءِ الصَّلاة غير الأركان منها سهواً أو عجزاً غيرَ رافعٍ للوُجوب النفسيّ، وقد مَرَّ منّا بيانُ الميزان في بقاءِ موضوع الحُكْمِ في مَبْحَثِ اشتراط بقاء الموضوع في الاستصحاب، وفي استصحاب الأمور التدريجية فراجع.

التنبيهُ الخامس عشر: في أصالَة الصِّحة واستصحابها

وَقَعَ الكلامُ من القول في أَصَالَة الصِّحّة في فِعْلِ الإنسان نفسه فيما إذا شُكَّ في صِحّةِ ما صَدَرَ منه وفساده، وفي أصالةِ الصّحة في فعل الغير وأقواله واعتقاداته، والمهمّ بيان ما يَثْبُتُ الصّحة في ذلك ولو من القواعد الشرعية، وتوضيحُ الحال يستدعي الكلام في مقامين:

المقام الأول: في أصالة الصِّحة في الفعل بالنسبة إلى الإنسان نفسه، وفيه موضوعان:

الموضوع الأول: فيما إذا شكّ في أثناء عَمَلِهِ في صِحَّةِ ما صَدَرَ منه، بأنَّ فقد ما احتمل اعتبار وجوده في العمل، أو تحقق ما يحتمل اعتبار عدمه في العمل، كما لو أطارت الرّيح ثوبه في أثناءِ صَلاتِهِ، فاحتمل انكشاف عَوْرَتِهِ في الصلاة، أو تحرَّكَ في الصَّلاة حركة احتمل أنّها فِعْلٌ كثير، أو احتمل صدور ما يبطل عقد البيع أو النكاح، فهل يبني على صِحّته ويتمّ عمله أم لا؟

ولابُدّ أنْ تكونَ الشُّبهة موضوعية، وإلاّ لو كانت الشُّبهة حُكْميّة فلابُدَّ من الرجوع إلى الدليل أو الأصل العملي.

والحاصل: إنّه مع الشُّبهةِ الموضوعية قد يُتَمَسَّكُ بالاستصحاب في البناء
على الصحة، كما هو المحكيّ عن المشهور من التمسّك باستصحاب
الصحة([375])، فقد نقل التمسّك به عن الشيخ([376])، والحلي([377])، والمحقق([378])، والعلامة([379])، وغيرهم([380]).

وأنكره غيرُ واحدٍ من جهة أنَّ المستصحب إنْ كانَ صِحَّةَ مجموعِ العَمَل فهو غيرُ صحيح؛ لأنَّ المفروض الشكّ في أثناء العمل، فالعَمَلُ غيرُ متحقّق حتى يستصحب، وإنْ كان المستصحب صِحّة الأجزاء اللاحقة فهي كذلك لم تكن متحقّقة، وإنْ كان المستصحب صِحّة الأجزاء السابقة فالمراد بالصحة إنْ كان موافقة الأمر فهو مقطوعٌ به؛ لأنَّ الفرض أنَّ كُلَّ جزءٍ قد أتى به على طبق ما هو مأمور به، وأنّ طروءَ الفساد لا يُوجب خَلَلاً فيه، وإنّما يُوجِبُ خللاً في المركب، وإن كان المراد بالصحة ترتب الأثر فلابُدَّ أنْ يكونَ المرادُ بصحّةِ الجُزْءِ هو مجرد الأهلية والقابلية، بمعنى أنه لو انضمّ إليه باقي الأجزاء والشّرائط بما يعتبر فيها، لترتّب الأثر على المركّب، وإلاّ فبنَفْسِهِ وَحْدَهُ لا يترتَّب الأثر عليه، وهذا أيضاً متيقَّن بالنسبة إلى الأجزاء السابقة، فهو غير مشكوك، وإنّما المشكوك هو حدوث شيء يُوجبُ فساد الكلّ، ويمنع من ترتّب الأثر عليه، ويمنع من موافقته للمطلوب، وإلاّ فنفس الأجزاء صحيحة لأنّها يترتَّب أثر جزئيّتها عليها، وإنما المشكوك ترتُّبُ أثر الكُلِّ عليه([381]).

وأجيب عنه بوجوه:

أحدها: إنّ المستصحب هو صِحّةُ الأجزاء السابقة، بمعنى إنّه لو انضمّ إلى الأجزاء السابقة باقي الأجزاء لَحَصَلَ المركَّبُ المطلوب، ويترَتَّبُ عليه الأثر المسمّاةُ بالصِّحّة التأهيلية والشأنية.

ولا يخفى ما فيه: فإنّه استصحابُ تعليقيٌ في الموضوع، وقد عَرَفْتَ بطلانه في مَبْحَث الاستصحاب التعليقيّ، مُضافاً إلى أنَّها متيقَّنة الثبوتِ للأجزاء السابقة ولو قطع بعَدَمِ لحوقِ الأجزاء الباقية.

وقد رَدَّ على ذلك أُستاذُنا المرحوم الشيخ آغا ضياء: إنّ المستصحب هو الصّحة الفعلية للأجزاء السابقة؛ لأنَّ الصحّة سواء كانت موافقة الأمر أو ترتُّب الأثر تكونُ تدريجيةَ الحُصولِ، بحيثُ يكونُ كُلُّ جزءٍ مؤثّراً في مرتبةٍ منها، إلى أنْ يتمّ أجزاء المركّب، فيتحقّق من مجموعها صحّة الكلّ، فإذن لا قصور في استصحاب الصحّة للأجزاء السابقة، فإنّه بتحقُّق أوّل جزءٍ من العبادة تتحقَّقُ الصّحّةُ والمؤثّرية الفعلية، فيتّصِفُ الجزءُ المأتيّ به بالمؤثّرية وبالموافقة للأمور التدريجية، فإنّه يتبع تدريجية التكليف المتعلّق بالمركّب تتدرّجُ الموافقة الفعلية، وحينئذٍ لو وَقَعَ مَشكوكَ المانعيّة في الأثناء يشكُّ في بقاء هذه الصّحة أو انقطاعها، فيجري فيها الاستصحاب كسائر الأمور التدريجية، فإذا علم بتحقّق جزء أو جزئين يقطع بتحقّق الصّحة لهما، وبعد تحقُّق المشكوك المانعيّة يشكّ في بقاء الصحة بتلاحق بقية الأجزاء والشرائط، فتستصحب.

وتوهّم عدم شرعية المستصحب لكونه أمراً عقلياً، يدفَعُهُ بأنَّه أمرٌ وَضْعُهُ ورَفْعُه بيدِ الشَّارع، من جهة أنَّ منشأه وهو التّكليف بيد الشارع، وهذا المقدار من شرعية المستصحب كافٍ في صِحّة الاستصحاب، مُضافاً إلى صِحّةِ استصحاب الصِّحة بمعنى قابلية الأجزاء السابقة المأتيّ بها وصلاحيّتها فعلاً للحوق بقية الأجزاء بها لتمامية أركان الاستصحاب في هذه الصِّحة، فإنَّ الأجزاء السّابقة قبل احتمال وجود المانع كانت متيقَّنة صِحّتها الفعلية، بمعنى القابلية والصّلاحية الفعلية للحوق الأجزاء الباقية بها، وبعدَ حُدوثِ ما احتمل مانعيّته يشكّ في بقائها على القابلية المذكورة فتستصحب.

وتوهم كون هذا الاستصحاب من الأصول المثبتة باعتبار أنّ صحّة الكلّ مرتّبة على إبقاء هذه الصّحة للأجزاء عقلاً لا شرعاً، يَدْفَعُهُ بأنَّه من باب تطبيق الكبرى الشرعية على الصّغريات، فلا يكونُ من الأصول المثبتة الممنوعة.

هذا مُلَخَّصُ ما نقله المرحوم الشيخ محمّد تقي في تقريراته للمرحوم آغا ضياء العراقي([382])، وقد سبقه إلى ذلك المرحوم الشيخ عبد الحسين آل أسد الله الكاظمي في شرحه للكفاية([383]).

ولا يخفى ما فيه: فإنَّ مع احتمال وجود المانع، أو القاطع، أو ما يحتمل مانعيّته وقاطعيته، لم يكن الشكّ في صحّة الأجزاء السّابقة بالمعنى الذي ذكره الخصم شكّاً في بقائها للأجزاء السَّابقة، بل هو شَكٌّ في أصلِ وُجودِها لها؛ لأنه مع احتمالِ حُدوثِ ما له دَخْلٌ وجوداً أو عَدَمَاً في المأمور به يُشَكُّ في أصلِ الصحّة الفعلية للأجزاء؛ لأنه يحتمل إنّ صِحّتها الفعلية الموجبة لصحّة المركّب الفعلية يكون للأمر الحادث دخلٌ فيها، فلم يحرز وجودها لها، كيف؛ والقابلية والفعلية والموافقة للتكليف التدريجي وترتّب الأثر التّدريجيّ الموجب لحصول الأثر للكلّ، كُلُّ ذلك إنّما يُتَيقَّنُ في الأجزاء السَّابقة إذا أحرز المأمور به
المركّب، وأمّا إذا شُكَّ في حصول شيءٍ أو عَدَمِهِ له دَخَلَ في المأمور به،
كان شكُّهُ شكّاً في أصل الصحة للأجزاء المأتي بها لا في بقائها، ألا ترى أنّه
إذا لم يأتِ بالجزء الأول أو الوسط أو الأخير يقطع بزوالِ أصلِ الصِّحّة
الفعلية المذكورة عن الأجزاء، لا زوال بقائها، فإنَّ ذلكَ من قبيل الإجازة
للعقد بنحو المؤثرية المتأخرة، أو الشرط المتأخر، نعم هذا يتمّ لو قلنا بقاعدة اليقين.

ثانيها: استصحابُ الهيئة الاتّصالية التي كانت للعَمَل المركَّب قبل وجود هذه الزيادة أو النقيصة، أعني: استصحاب الجزء الصوري للمركب.

ولا يخفى ما فيه: فإنّه استصحابٌ لغيرِ الصّحّة، وإنّما هو استصحابٌ لجُزْءٍ تدريجيٍ من أجزاءِ المركَّب، على أنَّه لا يتمُّ إلاّ فيما احتمل فساد المركَّب من جهة وُجودِ القاطِعِ، وإلاّ لو احتَمَلَ فساده من جهةِ فِقدانِ جُزء أو وجود مانع لا يضرّ بالهيئة الاتصالية لم يَجْرِ الاستصحاب المذكور؛ لأنَّ الهيئة الاتّصالية كان وجودها متيقناً.

ثالثُها: استصحابُ عَدَمِ حُصولِ المانع من صِحّةِ العَمَل، أو عَدَمِ قَطْعِهِ للهيئة الاتصالية شرعاً، فإنَّ الاستصحاب يجري فيه، وفي بقاءِ الهيئة الاتصالية، ويثبت صحّة المركّب بواسطة إحراز بَعْضِهِ بالوجدان، وبعضه بالاستصحاب.

وفيه: إنَّ ذلك لم يَكُنْ من استصحابِ نَفْس الصّحّة، وإنّما هو استصحاب لبعض الأجزاء، على أنّه لا يتمُّ فيما احتمل قاطعيّة القاطع من جهة
مُضَادَّتِهِ عَقْلاً للمركّب، فإنَّ استصحاب عَدَمِهِ لا يَثْبُتُ صِحّة المركّب؛ لأنّه أصلٌ مثبت.

التمسك بقاعدة الفراغ في إثبات الصحة

ما تقدَّمَ كانَ في التمسّك بالاستصحاب في إثبات أصالة الصّحة عند الشكّ في صحة العمل في أثناء العمل، وقد يُتَمَسَّكُ في إثباتها بقاعدة الفراغ والتجاوز عندما يُشَكُّ في صِحّة الكُلِّ من جهة الشكّ في صِحّةِ جزئه في أثناءِ إتيانِ العمل، وعليه فتقدم على استصحاب عدم إتيانه؛ لأنّ تشريع قاعدة الفراغ والتجاوز سواء قلنا إنهما قاعدتان أو قاعدة واحدة([384]) في موارد الاستصحاب المعارض لها، ولكنّ هذا مَبنيٌ على أمرين:

أحدُهُما: إلحاق الشكّ في الصّحّة من جهةِ الشكّ فيما اعتبر فيه، كما لو شُكَّ في الموالاة المعتبرة في حروف الكلمة، أو بين آياتِ السورة، أو في أجزاء تكبيرة الإحرام، بالشكّ في نفس وجود الشيء، فإنَّ أدلّة قاعدة الفراغ والتجاوز قد يقال، بل قيل: إنّها مختصة بالشكّ في نفس وجود الشيء، ولا تشمل الشك في وصفه من الصحة أو الكمال، أو في شروطه([385]).

والثاني: على أنّها عامّة لسائر الموارد من عبادات ومعاملات، وإلاّ فقد يقال: إنَّ قاعدة الفراغ والتّجاوز مختصة بالعبادات دُونَ غيرها، بل بالصلاة والوضوء.

والذي يمكن أنْ يقال في بيان ذلك: إنَّ عمدة أخبار القاعدة ما يدلُّ على شمولها للشكّ في الشيء، ولو من جهة صِحّتِهِ، وحتّى في المعاملات كصحيحة زرارة عن أبي عبد الله  عليهم السلام ، قال: (إذا خَرَجَتْ من شيء ثمّ دخلت في غيره فشكُّكَ ليس بشيء)([386])، وموثّقة محمّد بن مسلم: (كُلُّ ما شَكَكْتَ فيه مما قد مضى فأَمضِهِ كما هو)([387])، وما في موثَّقَة ابن أبي يعفور: (إنما الشكُّ إذا
كنتَ في شيء لم تجزه)([388])، ووجهُ ظُهورها أنّها في بيانِ ضَرْبِ قاعدةٍ كُلّية،
فلا وجه لاختصاصها بالعبادات، وخُصوصية المورد لا تُوجبُ خصوصيّة الوارد، كما إنَّ لفظ الشيء ظاهرٌ في نفس الماهية، والشكُّ في نفس الماهية
لا يتصوّر إلا باعتبار صفتها التي يتحقَّقُ بها ترتّب أثرها عليها كالوجود والصّحة، فلا بُدَّ من تقدير عنوان ما يتَرتّب عليه الأثر؛ لأنَّ حذف متعلَّق الشكّ يَدُلُّ على إرادة العموم، بل إنَّ موثّقة ابن أبي يعفور صريحةٌ في الشكّ
في الصّحّةِ، فإنَّ الشكَّ في الشيء الذي قد مَضَى يقتضي بأنَّ وجودَهُ قد تحقَّق في الماضي ويشكُّ في صِحّتِهِ، على أنّ الدالَّ على الشيء يَدُلُّ بالدِّلالةِ الالتزامية على صِحّتِهِ، من جهة التلازم العرفي بينهما، فإنَّ الشكَّ في صِحّةِ الشيء شَكٌّ في وجوده في نظر العرف، سَلَّمنا؛ ولكنَّ مفهوم الأولوية يقتضي ذلك، فإنّه إذا كانَ الشكُّ في أصلِ الوجود مَلغياً، فبالطريقُ الأولى أنْ يلغى الشكُّ في صِحَّةِ الوجود.

هذا، وقد نُقِلَ الإجماعُ على خروج الطّهارات الثلاث عن هذه الكلية، فالشاكّ في أثناء الوضوء في فعلٍ من أفعاله قبل تمام الوضوء يأتي به وإنْ دخل في فعلٍ آخر([389]).

وكيف كان؛ فإذا أخذنا أصالةَ الصّحّةِ من قاعدة الفراغ والتجاوز كانت حُجيّتُها بمقدار دلالتها عُموماً أو خُصوصاً، إلاّ أنْ يتخصّص بمورد، وقد يتمسّكُ بأصالة الصحة بظهورِ حالِ المسلم، كما يظهر من جَدِّنا كاشِفِ الغِطاء في المبحث السّادس والثلاثين في كتابه كَشْفُ الغطاء، من أنَّ الأصل في فعلِ كُلِّ عاقل مكلّف صَادِر عَنهُ عن اختيارِ أنْ يكونَ صحيحاً([390]).

قال الفاضل الآراكي في تعليقه على الكفاية عند تفسيره لكلام جدّنا كاشف الغطاء: بمعنى إنّ بناء العقلاء على ترتيب آثار التمام والصّحّة إنّما يكونُ لأجل ارتكازها في أذهانهم، بحيثُ لو انقدح احتمال الخلاف لا يعتنون به لأجل انتظام معاشهم ومعاشرتهم، ولأنَّ ذلك هو مقتضى الفطرة التي فَطَرَ عليها الناس، فهي كالمعلومات الأوّلية الموهوبة من الله تعالى، نعم رَدَعَ الشّارعُ عنها في بعض الصّور التي ذكرها كاشف الغطاء  قدس سره في كتابه.

الصّحة بعد الفراغ من العمل

الموضوع الثاني: فيما يشكّ في صِحّة العمل بعد الفراغ منه وبعد تجاوز مَحَلِّهِ، كما لو شُكّ في صِحّةِ صلاته بعد فراغِهِ منها، أو صِحّةِ بيعه ونكاحه بعد فراغه منها، فإنّه يبني على صِحّته.

والدليل على ذلك إنْ كان الاستصحاب فهو غيرُ صحيح؛ لأنّه قد تبدّل يقينه بصحّة العمل بالشكّ في صحته بمجموعه، فلا يقين له سابق بالصّحة، وإنْ كان أخبار قاعدة التجاوز والفراغ فهو صحيح، حيثُ إنّها تدلُّ بعمومها على صحّة العمل المركّب بعد الفراغ منه، وإنْ كانَ السيرة والبناء من العقلاء الذي ادّعاه جدّنا كاشف الغطاء  قدس سره، فهو أيضاً صحيح يدلّ على صحة العمل إذا شك فيه بعد الفراغ منه.

الصّحة في فعل الغير

المقام الثاني: في ثبوتِ الصحّة في فعل الغير سواء كان قد صَدَرَ منه سابقاً أو متلبّساً به فعلاً، أو سيصدُر منه في المستقبل، كأنْ يوكله في النكاح، أو البيع، أو ينيبه عنه في العبادة، أو يستأجره عليها، بمعنى إنه بحسب الظاهر يرتّب عليه آثار الواقع، فلو رأى إنساناً يصلّي على الميّت أو يغسّله بنى على صحّة ذلك واقعاً، ولا يجب عليه أنْ يتفحَّصَ عن صِحّةِ صلاته ولا تكفينه، ومَنْ باعَه شيئاً بنى على صِحّةِ بيعه له ولا يجب عليه أنْ يتفحَصَّ بأنّه اشتراه قبل بلوغه أو سرقه أو غير ذلك، فهو أصلٌ من الأصول العملية، يثبت به الحكم في الشبهات الموضوعية، واستدلّ عليه بآياتِ ورواياتٍ قابلة للمناقشة، والعُمدة في الاستدلال عليه:

أولاً: الإجماعُ العَمَليُّ المستفاد من سيرة علماء المسلمين في جميع الأعصار والأمصار، حتّى في عصر النبي  (ص)  والائمّة الأطهار، فإنَّ العلماء التابعين لهم لا إشكال في إجرائهم هذا الأصل في ترتيب الآثار الواقعية في سائر أعمال المسلمين، بل في سائر أعمال الناس التي لا يعلمون بمخالفتهم لهم ومباينتهم لهم فيها، فيشترون منهم دونَ التفحُّص عَمَّا يشترونه، ويبيعون عليهم دونَ التفحّص عن بدله، ويستكرون دوابهم وأمتعتهم؛ نعم فيما يعلمون بمباينتهم لهم في الرأي بالصحة لا يجرون الأصل المذكور، ولا رَيْبَ أنَّ هذا الإجماع من العلماء في عصر المعصومين يفيد القطع برأيهم.

وثانياً: بالسيرة من المسلمين، بل من سائر الملل والنحل في سائر أمور معاشهم وضروريات حياتهم.

وثالثاً: يحكم العقل بلزوم اختلال النظام، فإنه لولا الحمل على الصحة لاحتاج كُلُّ عَمَلٍ وكُلّ أمرٍ صادِرٍ من الغيرِ إلى الفَحْصِ الكثير الموجب للحَرَج الشديد، والعسر العظيم، واختلال النظام الموجب للارتباك حتَّى في شؤون الحياة.

وينبغي التعرّض لأمور:

المراد بالصحة: الصحة الفاعلية أو الواقعية أو العذرية

أحدها: المراد بالصحّة في كلمات القوم هو الصحة الواقعية، التي تترتب عليها آثار العمل الاختياري الصحيح في الواقع بعنوانه الأولي، وهي التي تدل عليها الأدلة في نفس الأمر والواقع، ويقابلها الفساد في الواقع.

وليس مرادهم بالصحة الفاعلية وهي الصحة بنظر العامل للعمل، أعني الصحة المدلول عليها بما هو معتبر عند العامل للعمل، أو بما يراه من العنوان الثانوي فيه، أو للتقية، ويقابلها الفساد في نظر العامل.

وليس مرادهم الصحّة العذرية التي هي حسن الظنّ بالعامل، ويعذر
بها الفاعل في فعله، والتي هي عبارةٌ عن حسن العمل، ويقابلها قبح الفعل. وذلك لأنّ كلامَ القوم في الصِّحّة الواقعية، ولأنَّ البحث عنها هو المثمر ثمرة جيدة.

والأدلّة المتقدّمة تثبتها، فإنَّ السيرة المذكورة قامت عليها، والنظام يختل لولا الحمل عليها.

ما يشترط في الفاعل في حمل فعله على الصحة

ثانيها: يُشتَرَطُ في من يحمل عمله على الصحة شروط:

أولها وثانيها: أنْ يكونَ بالغاً عاقلاً، كما هو المحكيّ عن جدي كاشف الغطاء([391])، حيثُ إنَّ الأدلَّة التي قَدَّمْنا ذكرها لا يحرز دلالتها على أكثر من ذلك، مع أنّ العقلاء لا يحملون على الصحّة الواقعية عمل المجنون أو الصبي، بل يتفحصّون عنها، فلابدَّ من إحراز أنّ العامل الذي يحمل عمله على الصحة من إحراز أنّه حين العمل بالغ عاقل، والإحراز إمّا بالوجدان أو بأمارة مجعولة أو بأصلٍ عقلائي معتبر.

وثالثاً: أنْ لا يكونَ رأيُ العامل في الصحة مُبايناً للحامل، فإنَّ العُقلاء لا يحملونهم إذ ذاك على الصحّة؛ لأنّ عمله بمقتضى القاعدة يكونُ صادراً على طبق رأيه.

ولا يُشترَطُ في الحمل على الصحّة العِلمُ بالمطابقة في الرأي، فمجرّدُ احتمال الموافقة كافٍ في الحمل، ولذا ترى العقلاء لا يتفحّصون عن العَمَل، ولو كانَ علمُ الفاعل بالصحّة شَرْطاً لَلَزَمَ التفتيشُ عن حال الفاعل، مع أنَّ سيرتهم مستمرّة على ترتيب آثارِ الصّحّة بلا التفاتٍ إلى حالِ الفاعل، ولَلَزَمَ اختلالُ النّظام، إذْ الاطّلاع على حال النّاس في المعاملات وغيرها يُوجِبُ استيعاب الوقت في الفَحْص واستفراغُ الوَسَعِ في التفتيش.

وأمّا لو تصرَّفَ في أحد المشتبهين، فلا يجوزُ حمله على الصحّة إذا كان عالماً بعلم المتصرّف الإجمالي، بناءً على تنجُّز العلم الإجمالي، وأمّا لو علم أو احتمل أنَّ المتصرّف يعلم المحرم منهما بعينه فلا مانع من حمله على الصحة.

ورابعاً: أنْ يكونَ مختاراً لا مضطّراً ولا مُكْرَهاً على العمل، فإنّه وإنْ كان معذوراً، لكن لا يحمل على الصحة الواقعية عند العقلاء؛ لأنه لا يملك نفسه في إتيانه بالعمل بما هو الصحيح، بل بما هو مضطّر ومكره عليه.

وخامساً: أنْ لا يقر ويعترف الفاعل إقراراً معتبراً عند العقلاء بعدم صحة فعله، فإن العقلاء لا يجرون أصالة الصحة لإثبات صحة عمله، فإذا اعترف العامل بأنه يَلْعَبُ ولم يصلّ على الميت لا تجري أصالة الصحة في عمله.

كما إنّ الصحّة لا تثبت الصحّة الفعلية إذا أقرَّ بتحديد سلطنته على العمل، وإنّما تثبت مقدار سلطنته على العَمَل، كما لو أقرَّ بأنه وكيل عن زيد أو نائب عنه، أو أنه عقد فضولي عن المالك وقد أجازه المالك، أو اشتراه من الغير كذلك، وشكَّ في وكالته أو نيابته أو إجازة المالك له، فأصالَةُ الصحّة لا تثبت ذلك، وإنّما ثبتت صِحّته بنحو الوكالة أو الفضولية.

سادساً: أنْ لا يكونَ في مقابلته خَصْمٌ، قال جدُّنا كاشف الغطاء فيما حكى عنه شارحُ الرَّسائل الحاجّ مُحمَّد باقر: (إنَّ الأصل فيما خلقه الله تعالى من الأعيان من الأعراض والجواهر هو الصحّة، وكذا ما أوجده الإنسان البالغ العاقل من أقوال وأفعالٍ من مسلمٍ أو كافرٍ هو الصحّة، فيبنى على الصحّة حتى يقوم شاهد على الخلاف، إلاّ أنْ يكونَ في مقابلته خصم)([392]).

وعليه: فلو قام في مقابلته خَصْمٌ تسقط أصالَة الصحة، ويعمل بما يقتضي غيرها من الطّرق أو الأصول المعتبرة، وذلك لأنَّ حُجيّة أصل الصّحة من باب بناء العقلاء واختلال النظام، وهُما لا يقتضيانِ الأخذ بهذا الأصل عند المخاصمة، ولا أقلَّ من أنَّ ذلك هو القدر المتيقن، بل لعلَّ السيرةَ عليه، فإنَّ المخاصمة عند العقلاء تُوجِبُ التوقُّفَ وعدم إجراءِ أصالَةِ الصحّة، ولعلَّ ما وَقَعَ من النزاع في أصالة الصحّة عَدَمِ مُلاحَظَةِ الشّروط المذكورة.

ما يشترط في العمل الذي يحمل على الصحة

ثالثها: يشترط في حمل العمل على الصّحّة:

أولاً: أنْ يَصِحّ أنْ يتَّصف بها وبالفساد، فالتّطهيرُ إذا قلنا بأنَّه نورٌ نفسانيٌ لا يتّصف بالصحّة والفساد؛ لأنّ الشكّ إنّما يكونُ في وجودِه وعَدَمِهِ لا في صِحّتِهِ وفساده.

نعم، لو قلنا بأنّه مُركَّبٌ من الغسلات للأعضاء مع الترتيب اتّصف بهما، كما هو الحق عندنا، وذلك أن الشك إنما يكون في الصحة والفساد.

وثانياً: أنْ يحرز صدورُ العَمَل بعنوانه، بالعلم أو ما يقومُ مقامه من الأمارات الصَّحيحة، أو الأصول المعتبرة، ويكونُ الشكُّ في أجزائه أو شرائطه، فلو كان الشكُّ في الإخلال بالعَمَل بنحوٍ يُوجِبُ الشكَّ في أصلِ وجوده، كمَنْ شُكَّ في إخلال الغير بالصَّلاة ونحوها من جهة أنه يحتمل أنه يلعب لا أنه يُصلّي، فلا وَجْهَ لجريانِ أصالة الصّحة لإثباتِ أنّهُ يصلّي صلاةً صحيحة؛ لأنَّ الشكَّ يكون في وجود العمل لا في صحته، والأدلّة إنّما قامت على أصالةِ الصّحّةِ في الشكّ في الصّحة لا في الوجود.

وبهذا تعرف إنّه لا تجري أصالة الصَّحة في الأفعال ذات العناوين القصدية، كالصّلاة والزّكاة إذا شكّ في الإخلال بها من جهة الشكّ في نيّة الفاعل لها، ولو رأينا الكافر يُصلّي لا نجري أصالَة الصّحّة في صلاته؛ لأنّا نحتملُ أنَّه غير ناوٍ لفعل الصَّلاة، وكذا لو شكَّ في العقود والإيقاعات التي يَحتاج تحقُّقها إلى قَصدِ إنشائها من جهة الشكّ في قَصْدِ إنشائها؛ لأنّه في الحقيقة يكونُ الشكُّ شكّاً في الوجود لا في صحّتها، ولذا لو شكَّ في أنَّ الكلام الصّادر من مسلم كان تحية أو شتماً لا يجبُ عليهِ رَدُّ السّلام لعدم إحراز أنه تحية بأصالة الصّحة، نعم لو قطع بأنه تحية لكن احتمل أنّها بداعي السُّخرية، فأصالةُ الصحّة تقتضي صحتها.

والحاصل: إنّه لابُدَّ في إجراء أصالة الصّحّةِ في عَمَل الغير من إحرازِ العمل بعنوانِهِ المطلوب صحّته، أما بالعلم أو بما يقوم مقامه من الأمارات الصحيحة، أو بالأصولِ المعتبرة، كما لو كان هناك ظهورُ حال في كونِ العامل بصدَدِ النيّة للعبادة، أو في مقام إنشاءِ المعاملة التي هو بصددها.

وأمّا الأمور التي لا يحتاجُ تحقُّقها إلى قَصْدِ عنوانها، فمجرَّدُ فعلها من الغير يكفي في إجراء أصالة الصّحة فيها، كمَنْ تراه يغسل ثوبه النجس وشككت
في صحّة غسله من عصره أو تعدّده، صحَّ لك إجراءُ أصالةِ الصحّة لإثبات صِحّةِ غسله، وكما لو أعطيته لآخر فغسله وشككت في صِحّةِ غسله بني على صحته.

قال بعض أساتذتنا([393]): لو أخبرك الأجيرُ بغسل ثوبك، أو بالصَّلاة على الميت، أو عن الميّت، فيمكن بقاعدة (مَنْ مَلَكَ شيئاً مَلَكَ الإقرار به)، أو بقاعدة الائتمان أنْ يثبت وجودُ العمل، وبالشكَّ في صِحَّةِ ذلك العَمَل تجري أصالة الصحّة.

مقدار ما تثبُتُه أصالة الصحّة

رابعها: أصالة الصحّة إنّما تَثْبُتُ صحّة العمل من الشّخص بالنسبة إليه وتثبتُ الصحّة بمقدار ما يكونُ العَمَلُ به صحيحاً، وأمّا إثباتها صحّة العمل من الشخص بالنسبة إليه فلأنّه هو كانَ مجراها، ولا تَثْبُتُ صِحّته إذا كانت مترتّبة على عَمَلٍ آخرٍ من شخص آخر، فمَثلاً البيعُ الفضولي بين شخصين إذا شُكَّ
في صِحّته، فتارة يشكُّ فيها من جهة أنَّ العقد وَقَعَ بالفَارسيّة، أو أنَّ القبول
سبق الإيجاب، أو لم يَقَعَ بَعْدَهُ فورياً، فأصلُ الصّحّة يجري فيه ويلغي الشكّ المذكور.

وتارةً يكونُ الشكُّ في صِحّته منهما، من جهة أنَّ المالك أجازه أمْ لا، فأصالةُ الصِحّة لا تجري فيه لإثباتِ صحّته من هذه الجهة، وهكذا لو صَدَرَ إيجابٌ لعقد البيع أو النكاح أو نحوهما من شخص، فتارةً يشكُّ في صحّة العقد من هذا الشخص من جهةِ أنَّ الإيجابَ فيه لم يَكُنْ بالعربية، فأصلُ الصّحّة يجري فيه من هذه الجهة، وأخرى يشكُّ في صحّة هذا العقد من هذا الشخص من جهة أنَّ القبول تحقّق من المشتري أم لا، فأصالةُ الصحّة لا تجري لإثباتِ تحقّق القبول، وذلك لأنَّ أصلَ الصحّة إنما يُثْبِتُ صحّةَ العمل بعد إحراز صُدورِهِ من الغير ولو في المستقبل.

وفي المقام كان العَمَلُ من الغير كالإجازة من المالك، والقبولُ من المشتري مشكوكاً صدوره، لا أنه مشكوكٌ صحّته، ومنه يظهر أنَّ صِحَّةَ عقد الوقف([394]) من الواقف وعَقْدِ الهبَة من الواهب([395]) إذا شُكَّ فيهما من جهةِ قبض الموقوف عليه أو الموهوب له برضاه، فلا تجري أصالة الصّحّة في العقد المذكور لإثباتِ الصّحّة من جهةِ قبض الغير.

نعم، لو شُكَّ في صحّة تحقّق العمل القائم باثنين صَحَّ إجراءُ أصالة الصحة فيه، كما لو رأيت إثنين وَقَعَ التعامل بينهما بنحو البيع بالإيجاب والقبول، وشككتَ في صحّته من جهة إنّك شككتَ في أنّه بالعربية، أو القبول تعقب الإيجاب، أو الثمن لم يكن بالباطل، صحَّ إجراءُ أصالة الصّحة لرفع ذلك الشكّ، كما لو رأيتَ شخصاً يبيعُ سلعة على شخص، وإنْ لم تكن تلك السلعة بيده، وشككتَ أنّه اشتراها من الغير ببيعٍ غير صحيح، أو ببيع فضولي لم تتحقَّق إجازة المالك بالنسبة، إليه أو أخذها بغصب أو بهبة بدونِ إقباض الموهب له برضاه، أو أخذها كرهاً، أو اشتراها من غير البالغ، فإنَّه تجري أصالة صحة بيعه عليك، ولا تعتني بهذه الاحتمالات.

نعم، لو ادّعى عليه شخصٌ ذلك سَقَطَ أصلُ الصّحّة، ويرجع لأمارات معتَبَرة أو أصولٍ مقرّرة، ولو اعترف البائع بأنّها مبيعة عليه بالبيع الفضولي أو بالوكالة، فإنَّ عليه أنْ يثبت إجازة المالك له أو وكالته عنه؛ لأنَّ أصالة الصحة لا تثبت في الظاهر إلاّ مقدار ما للعامل من الحقّ، وهو باعترافه بالفضولية أو الوكالة أثبتت أنَّ للغير الحقُّ فيها، وأنَّ سلطنته على السلعة سلطنة فضولية أو بالوكالة، فإذا ادّعى الموكّل عدم الوكالة، والفضولي عدم الإجازة، وادّعى البائع صدورهما من المالك فإنَّ أصالة الصحّة- حتّى لو قلنا بجريانها- لا تثبت إلاّ السلطنة للبائع بذلك المقدار الذي يكونُ به مدّعياً والمالك منكراً، فيكون الأصل مع المالك.

ومنه يظهر صورة ما إذا شكَّ في الصّحة من جهة حُدوث المبطل لها بعد العمل، كما لو شُكّ في صحّة العقد من جهةِ احتمالِ فسخه، أو الوصيّةِ من جهة العدول عنها، أو النّكاح من جهةِ صدور الطلاق، فإنَّ أصالة الصحة تجري لرفع ذلك الاحتمال.

نعم لو شكَّ إبطال العمل من الغير فأصالة الصحّة لا تثبت الصحة للعمل، كما في بيع الرّهن إذا شكَّ في صحّته من جهةِ رُجوع الرّاهن قبل البيع، فإنَّ أصالة الصّحّة لا تُثبت صِحّة بيعِ الرَّهنِ من هذه الجهة، ولا تُوجِبُ عَدَمَ تحقُّق المبطل له، وهو رُجوعُ الرّاهن قبل البيع.

والحاصل: إنّ أصلَ الصّحّة لمّا كانَ من بابِ بناءِ العقلاء فيُؤخَذُ بالقدر المتيقّن منه، وهو ثُبوتُ صِحَّة العَمَل الفعلية ما لم يعترف العامل بخلافها من أنَّ عَمَلَهُ فاسدٌ، أو عَبَثٌ، وأمّا إذا اعتَرفَ بالوكَالَة أو الفُضُوليّة فأصلُ الصِّحّة لا يثبت الصحّة إلاّ بنحو الوكالة والفضولية، فلو ادّعى المالكُ عَدَمَ الوكالة وعدم الإجازة أخذ بقول المالك.

مقدار الصحة الذي يثبت بأصل الصحة

هذا كله في إثبات أصالة الصحة للصّحة من الشخص بالنسبة إليه، وأمّا مقدار إثباتها للصّحة فهو إنّما يكونُ بمقدار ما يكونُ به العمل صحيحاً؛ لأنَّ أصالة الصّحة عُمدة أدلتها لبيّة، من الإجماع وبناء العقلاء ولزوم الاختلال،
فلا إطلاق لها، ولا عموم، فلابُدّ من الأخذ بالقدر المتيقن سواء كانت أمارة أو أصلاً، والقَدْرُ المتيقّن لم يكن إلاّ خصوص مدلول الأدلّة المذكورة، فمثلاً
لو شكَّ في صحّة العقد من البائع العاقل من جهة احتمال أنّ بيعه كان لسلعة
لم يشترها من مالكها وهو بالغ، كانت أصالة الصحة تثبت أن شراءه لها من مالكها وهو بالغ، بمعنى أنّها تُثبت صِحّة بيعه من هذه الجهة، وهي جهة البلوغ، ولا تثبت كون مالكها بالغاً، بحيث يعطي ماله ويجوز نكاحه، وكذا أصالة
صحة صلاة الغير إذا شكّ فيها من جهة الشكّ في طهارة ثوبه إنما تثبت صحتها من ناحية طهارة ثوبه، ولا تثبت كون ثوبه طاهراً، وهكذا لو صلَّى صلاة العصر وشكّ في الوقت أنها صحيحة لاحتمال أنّه لم يصلّ الظهر، فأصالة الصحة تثبت إنّ صلاته للعصر صحيحة من هذه الجهة، ولكن لا تثبت إنّه صلّى الظهر،
بل عليه أنْ يصلي الظهر، والتفكيك بين اللوازم والملزومات الشرعية أكثر
من أن يحصى.

نعم، الظاهر حُجّيةُ الأصل المثبت في أصالة الصحة؛ لأنَّ حُجّيتها من باب بناء العقلاء، وهم يرتّبون الآثار عليها حتى بالوسائط العقلية، فأصالة الصحة في غسل إمام الجماعة مع الشكّ في وجود الحاجب تثبت صِحّة غسله، فإنّه لازم عَدَم الحاجب، ولازم عدم الحاجب مباشرة الماء.

تقديم أصالة الصّحة على سائر الأصول

خامسها: تقدّم هذه القاعدة على الاستصحاب وغيره من الأصول، وذلك لأنَّ ما من مورد يشكّ في صحّة عمله أو فساده إلاّ وكانَ الشكُّ في بعضِ ما يعتبر فيه وُجوداً أو عدماً يكونُ مجرى للأصل، فلو لم تقدّم على الأصول لم يبق موردٌ لها، ولو فُرِضَ بقاءُ مَورِدٍ لها فهو في غاية النّدرة والشذوذ، فيكونُ نصيبها بنحو العُموم لِغواً للزوم استعمال العام وإرادة الفرد النّادر منه، مضافاً للإجماعِ على عَدَمِ التفصيل بين مواردها.

أصالة الصحة في الأقوال

سادسها: ذكر القومُ أنَّ أصالةَ الصّحّة تجري في الأقوال([396])، ولا رَيْبَ إنَّ القول تارةً يُشَكّ في صِحّته وفساده من جهة لغويّته وغلطه أو عدمها، أو يشكُّ في قصده لمعناه، أو لتعليم الغير، ولا رَيْب في حَمْلِهِ على الصّحّة، وأنّه ليس بلَغْوٍ، بحيثُ لو ادَّعى التكلّم لغواً أو غَلَطاً أو لتعليمِ الغير لم يسمع منه.

وتارةً يشكُّ في صِحّته من جهةِ إباحته وحرمته، ولا رَيْبَ في حَمْلِهِ على الصّحّة، وأنّه ليس بحرامٍ وليس بعاصٍ المتكلّم به، ولعلّهُ يدلُّ على ذلك قوله تعالى: [اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنْ الظَّنِّ]([397])، وقوله  عليهم السلام : (ولا تظننَّ بكلمةٍ خَرَجَتْ من أخيكَ سوءاً، وأنت تجدُ لها في الخير مَحْمَلاً)([398]).

وتارةً يشكُّ في صِحّته من حيثُ إعرابه، ولكنّه فيما يترتّبُ على صحّته من هذه الناحية الأثر الشرعي، كأنْ ترى إماماً يصلّي جماعة، وتحتملُ فساد قراءته، فتحملُهُ على الصحّة وتصلّي خلفه، وكذا لو شكّ في صِحّة العقد المعتبر فيه العربية بقواعدها، فيُبنى على صحّته ويكونُ العقد مؤثراً.

وتارةً من جهةِ مطابقته للواقع وعدمها، ولم يَثْبُتُ دليل على حمله على الصحّة والمطابقة للواقع إلاّ في مواردَ خاصّة، كالخَبَرِ الصَّادر من الثّقة، وقولُ ذي اليد، وقولُ المقرّ، وقولُ الأمين في رَدّ ما أؤتمن عليه أو تلفه من غير تفريطٍ، وقولُ أهلِ الخبرة في التقويم، وأرش الجنايات، وقولُ مباشرِ الغسل في الطهارة، وقولُ النّساء فيما لا يعلم إلاّ من قبلهن، وقولُ المالك في إخراج الزكاة والخمس، وقولُ أهلِ السّوقِ في التذكية، وقولُ الوكيل والنائب في العقود والإيقاعات والأعمال التي ائتمنوا فيها.

أصالة الصّحة في الاعتقادات

سابعها: أصالةُ الصّحة في الاعتقادات:

إذا شُكّ في صِحّة اعتقاد الشخص، فإنْ عرف تفصيلاً ينظر في مدركه ولا يحمل على الصّحة، وأمّا إذا لم يعلم ما هو، وأنّه هل هو اعتقادٌ صحيحٌ أو لا، فالظاهرُ هو الحَمْلُ على الصّحّة، فلو شُكَّ في اعتقادِ الرّجل أنه مشرك فهو نجس، أم مسلم، حُمِلَ على الصّحّة وساوره.

التنبيه السادس عشر: في مخالفة الاستصحاب للأدلة

وفيه مقامان:

أحدهما: في مخالفة الاستصحاب للدليل المفيد للقطع:

ولا ريبَ في تقديم الدليل القطعيّ عليه؛ لأنه يزيل الشكَّ الذي هو مقوم للاستصحاب تكويناً لا تنزيلاً، فيكون تقديمه عليه بنحو التخصّص، سواء وافق الاستصحاب أو خالفه.

ثانيهما: في مخالفة الاستصحاب للدليل الظنّي المعتبر كالخبر الواحد:

وقد قامَ الإجماعُ منهم على تقديمه على الاستصحاب، وعلى سائر الأصول والعَمَل بهِ، سواءٌ وافَقَ الاستصحاب أو خالفه، فلا يخصَّصُ عامُّه بالاستصحاب ولا بسائر الأصول، ولا يُقيَّد مطلقه به ولا بسائر الأصول، ولا مساويه يعارضه ولا سائر الأصول تعارضه.

نعم، قد يكونُ الاستصحاب متمّماً لعموم الدليل المعتبر أو لإطلاقه، كما لو تيقَّن بوجود العالم المحكوم بوجوب إكرامه، ثم شكَّ في بقائه فيستصحب بقاءَه، وإنّما وقع النزاع فيما بينهم في أنَّ تقديم الدليل الظنّي المعتبر على الاستصحاب كان بنحو التخصّص، أو التخصيص، أو الورود، أو الحكومة، أو التوفيق العرفي.

ولابدّ قبل الخوض في ذلك من بيانِ هذه المفاهيم الخمسة والفرق بينها، وإنْ كانَ محلُّ ذلك باب التعارض، إلاّ أنّه لتوضيح المقام وتحقيقه لابدَّ من التعرّض لها ولو بنحو الإجمال الذي يتّضحُ به الحال.

فنقول: إنَّ خروج بعض أفرادِ موضوع الدّليل عن حُكْمِ الدّليل تارةً يكون بنحو التخصّص والتقيّد، بأنْ يَدُلَّ الدليلُ على أنّ هذا البعض غير محكوم بالحكم الذي تضمّنه الدليل الآخر بلسان خروجه عن موضوعه تكويناً وحقيقة، سواء كان صُدوره قبل ذلك الدّليل الآخر أو بعده، كما لو قامَ الدليل على وجوبِ إكرام العالم أو العلماء، ثمّ قام الدّليلُ على أنَّ من هرم أو جُنَّ لم يكن بعالم واقعاً وتكويناً، فإنَّ هذا النّحو من الخروج يُسمَّى بالتخصص والتقيَد، والدليل الذي عليه يسمّى بالمتخصّص به والمتقيّد به (بالفتح)، والدليل الأول يسمّى بالمتخصِّص والمتقيِد (بالكسر)، ومنه ما إذا قام الدليلُ القطعيُّ على الحكم الشرعيّ في الحالة اللاحقة، فإنَّ هذا الدَّليل يكونُ متخَصِّصاً به دليل الاستصحاب؛ لأنّه يخرج فرد الاستصحاب عنه تكويناً وواقعاً، حيثُ إنَّ موضوع الاستصحاب متقوّم بالشكّ في الحكم في الحالة اللاحقة، وقَدْ زال بدليل الدالّ على القطع بالحكم فيها، وهكذا الحال في باقي الأصول العملية.

ومثله ما إذا قلنا بأنَّ المأخوذ في موضوع الأصول العَمَلية هو الشكّ بمعنى عَدَمِ الدّليل والحُجّة والبيان من الشارع، لا الشكّ بمعنى التردّد النفسي في الحكم الواقعي، فإنَّ دليلَ الأصول العَمَليّة حتّى الاستصحاب يكونُ مُتَخصِّصاً بدليل الأمارة؛ لأنَّ دليلَ الأمارة يثبتُ بأنَّ الأمارة دليلٌ وبيانٌ جَعَله الشارع، فبقيامها يزولُ موضوعُ الأصولُ العَمَليّة تكويناً وحقيقة وواقعاً، فيحصل بقيامها التخصّص لأدلّة الأصول العملية سواء كانت استصحاباً أو غيره، فيكون تقديم الدليل الظنّي المعتّبر على الأصول بنحو التخصّص.

وتارةً يكونُ الخروج بنحو الورود، بأنْ يدلّ الدليل على أنَّ هذا البعض غيرُ محكومٍ بحكم الدليل الآخر بلسانِ خروجه عن موضوع الدليل الآخر، تنزيلاً له منزلَة عَدَمِهِ لا تكويناً ولا حقيقة، فيكونُ مُضيِّقاً لموضوعه، أو محكوماً بحكمه تنزيلاً له منزلة وجوده، فيكونُ مُوسِّعاً لموضوعه، مثالُ الأول كقول الشارع: (لا شكّ لكثير الشك)([399])، حيث إنه دَلَّ على خروج شكّ كثير الشكّ عن عمومات وإطلاقات أحكام الشكّ، تنزيلاً لشكّه منزلة عدمه، ومثال الثاني كقول الشارع: (الطواف بالبيت صلاة)([400])، حيث دلَّ على أنَّ الطواف محكومٌ بحكم الصلاة، تنزيلاً له منزلةَ الصَّلاة وجوداً، وكما لو قال المولى: (النّبيذُ خَمْرٌ)، فإنه يدلُّ على ثبوتِ حُكْمِ الخمر للنبيذ بلسان تنزيله منزلة الخمر وجوداً؛ والدليل الموسّع أو المضيّق يسمّى بالوارد، والدليل المشتمل على الحكم يسمى بالمورد.

ومنه ما لو قلنا: بأنَّ الشكَّ المأخوذ في موضوع الأصول العملية هو الشكُّ بالحكم الواقعي والتردّد النفسي فيه، فإنَّ الأدلّةَ الدالة على حُجيّة الأمارة ودليليّتها إذا قلنا بأنّها تدلُّ على أنَّ مؤدّى الأمارة يُعامَلُ مُعامَلَةَ الحكم الواقعي، أو هو الحكم الواقعي، وأنَّ الشكَّ مع الأمارة بمنزلةِ العَدَمِ، فإنَّ دليل الأمارة يكونُ وارداً على الأصول، فتكونُ دالة على تنزيل الشكّ منزلة العدم، فيرتفع بها موضوع الأصل تنزيلا.

وتارةً يكونُ الخروج بنحو التّخصيص والتقيّيد، بأنْ يدلّ الدليلُ على أنَّ هذا البعض غيرُ محكومٍ بحكمِ الدّليل الآخر، بلسانِ أنّه فَرْدٌ خَرَجَ عن حُكْمِ الدليل الآخر، لا أنه فَرْدٌ خَرَجَ عن موضوعه واقعاً أو تنزيلاً، ويُسمَّى الدّليلُ الدالُّ على الخروج بالخاصّ أو المقيّد، والدّليل الدالّ على الحكم بالعامّ أو المطلق، كقول المولى: (أكرم العلماء أو العالم)، فإنّه لو قَالَ: (لا تُكْرِمْ الفلاسفة)، كانَ فيه خروجٌ لبعض أفرادِ العُلماءِ أو العالم بلسان فرديّته عن حكمهم، بخلافِ ما إذا قال: (يُشْتَرَطُ في إكرامِ العُلماء أو العالم عَدَمُ فلسفته)، فإنّه وإنْ كان إخراجاً للفلاسفة، لكن لا بلسان الفرد، حيثُ لم يُعبّر بالفلاسفة، فإنّه لا يسمّى هذا تخصيصاً للعلماء، بل ولا تقييداً للعالم اصطلاحاً، ولو سُمّي فهو خلاف الاصطلاح ارتكب؛ لأنه في النتيجة واحدة، ومثله قوله تعالى: [وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ]([401])، فإنّه لو صَدَرَ من الشارع استثناءٌ بلسان الفردية، كما لو قال: (وحرم البيع وقت النداء) كان تقييداً، وأمّا لو قال: (البيعُ حلال بشرط عدم النداء)، فإنّه وإنْ كان أخرج البيع وقت النداء، لكنه ليس بتقييد، ولو سُمّي فهو خلاف الاصطلاح ارتكب؛ لأنه في النتيجة واحدة.

وتارةً يكون الخروج بنحو الحكومة، وهو أنْ يكون أحدُ الدليلين لسانُه لسانُ بيانٍ وتفسيرٍ لجهةٍ من جهات حُكْمِ الدّليل الآخر من الإرادة لحكمه في بعض موارده، أو في غيرها، أو من حيثُ الجعل له، أو من حيثُ أنه تقية، أو امتحان، أو بنحو التفسير لموضوعه، أو لمحموله، كقول المولى: (لم أرد)، أو (لم أقل)، أو (لم أحكم)، أو (لا مصلحة)، أو نحو ذلك، وبها قد يتسع المراد من الدليل الآخر، وقد يتضيق.

ويسمّى الدليلُ الذي لسانُهُ لسانُ بيان وتفسير بالحاكم، والدليل الآخر بالمحكوم، مثل أدلة نفي الحرج، فإنّها تكونُ مبيّنة لمقدار ما يُريده المولى من أدلة الأحكام الشرعية، وأنّه ما كان من الأحكام التي ليس فيها حَرَجٌ وعُسْرٌ على العبد، ومثله أدلّة (لا ضرر) بالنسبة إلى أدلّة الأحكام الشرعية، ومثله أدلة نفي السبيل على المحسنين بالنسبة إلى أدلّة الضَّمَان، فإنَّ هذه الأدلة وإنْ كانت بحسب النتيجة مخصِّصة للأدلة المذكورة، لكن لا بلسان إخراج الفرد تكويناً؛ لأنها لم تكن بلسان أنَّ التكليف الحرجي ليس بتكليفٍ واقعاً حتَّى تكون موجبة للتخصّص، ولا تنزيلاً لأنها لم تكن بلسان أنَّ التكليف الحرجي مُنزّل منزلة العدم حتَّى تكون موجبة لورودها عليها، ولا بفرديّته لأنها لم تَكُنْ بلسانِ أنَّ التكاليف الحرجة غيرُ مجعولة حتَّى تكون مُوجبة لتخصيصها، بل إنّما أوجبت الخروج؛ لأنها كانت شارحة ومبيّنة أنَّ الحرجية في العمل مانعة من جعل الحكم عليه، وهكذا لو قال المولى: (لا تأكل الرمان)، ثمّ قال: (الحموضة هي المانعة من أكله)، فإنَّ الدليل الثاني هو الحاكم على الأول؛ لأنّه مبيّن أنَّ موضوعه مطلق الحامض، وبهذا ظهر أنَّ الحاكم قد يكونُ مضيِّقاً لدائرة المحكوم، وتارةً يكون مُوسِّعاً لها.

وتارةً يكون من باب التوفيق العرفي، وهو أنْ يكونَ مقتضى الجمع بين الدليلين عند العرف، كحملهم للظاهر على الأظهر، والمجمل على المبيّن، والأظهر على النصّ، مثل أن يقول: (عندي أسدٌ)، ثمّ يقول: (إنه يحسن الرماية)، فإنَّ (أسداً) ظاهرٌ في الحيوان المفترس وإنْ كان يحتمل فيه إرادة الشجاع، (ويحسن الرماية) ظاهر بالرمي بالآلة الجارحة، ويحتمل أنه يرمي الحجارة في مشيه، لكن يحمل الأسد على الرجل الشجاع، لأظهريّة الرّمي في الرمي بالجارحة، ومثل ما إذا قال: (إذا أفطرت فأعتق رقبةً متورّعة)، وقال: (إذا أفطرت لا عليك إلا أنْ تعتق رقبة عادلة)، فإنّها تحمل (متورعة) على العادلة، ومنه الأدلة المشتملة على الشروط والقيود بالنسبة إلى الأدلة المطلقة، ومنه إذا كانت قرينة خارجية عقلية أو نقلية على تقديم أحدهما على الآخر عرفاً كالإجماع أو نحوه؛ هذا ما يقتضيه التعمُّقُ في كلماتِ القومِ، والجمعُ بينها في تفسير هذه الألفاظ.

إذا عَرَفْتَ ذلكَ، فَبعْضُهُم ادّعى بأنَّ تقديم الدّليل الظنّيّ المعتبر على الاستصحاب، بل سائر الأصول العملية من باب التخصيص؛ لأنّ كُلَّ ما دَلَّ عليه الدليل الظنيّ على خلافِ الاستصحاب فهو مسبوقٌ بالعَدَم الأصليّ، فيكونُ دليلُ الاستصحاب أعمّ مما دلَّ على حُجيّة الدليل الظنّي([402]).

وبعضهم ادّعى أنّه من باب التوفيق العرفي، باعتبار أنَّ لسانه لسان بيان الواقع، بخلاف الأصول فإنَّ لسانها لسان وظيفة الشاكَّ بالواقع، إمّا براءة، أو احتياط، أو تخييرٌ، أو امتداد للواقع باستصحابه، والعرف يرى ما كان كذلك مقدّماً في مقام الإطاعة على الثاني([403]).

وبعضهم ادّعى إنّه بنحو التخصّص؛ لأنَّ عند وجود الدليل الظنّي لا يوجد موضوع الأصول العملية، كما لا يكون موجوداً عند وجود القطع بالواقع، بدعوى أنَّ الشكَّ المأخوذ في موضوعها المراد به عدم الحجة المجعولة، وعَدَمُ البيانِ من الشّارع، وبالدّليل الظنّي تُوجَدُ الحُجَّةُ والبيان من الشارع([404]).

وبعضُهُم ادّعى أنه بنحو الورود؛ لأنّ الدليل الذي يدلُّ على اعتبار الدليل الظنّي يدلُّ بالالتزام على تنزيل الشكّ مع الدليل الظنّي منزلة العدم؛ لأنه يدلّ على أنَّ مؤداه هو الواقع([405]).

وبعضُهُم ادّعى أنه بنحو الحكومة؛ لأنَّ الدليل الظنّي بواسطة ما دَلَّ على اعتباره مفسرٌ لأدلة الأصول العملية ومبينٌ لها، بأنَّ المراد منها غير ما كان الدليل الظنّي موجوداً، من جهة أنّه يدلُّ على وجوبِ العمل بمؤدّى الدليل الظنّي، وأنَّ الشكَّ لا أثَرَ لهُ مَعَهُ([406]).

إذا عَرَفْتَ ذلكَ فالحقُّ أنَّ تقديم الدّليل الظنّي المعتبر على الاستصحاب وعلى باقي الأصول العملية من باب التخصّص والتقيّد، لارتفاع موضوع الأصول به تكويناً وواقعاً لا تنزيلاً، حيثُ أخذ في موضوع الأصول الشكّ بمعنى عدم الحُجّة على الواقع، وعَدَم البيان من الشّارع الموجب للتحيّر والتردّد من استعمال المسبَّب في السبَّب، فإنّه أكثرُ مِنْ أنْ يُحْصَى باعتبار أنَّ المسبَّبات غير مقدورة إلا بواسطة أسبابها، ولعلَّهُ هو المتبادر من الشكّ، فإنَّ العُقلاء والعُلَمَاء وأرباب الفنون لا يستعملون لفظ الشكّ إلاّ ويريدون به هذا المعنى.

سَلَّمنا؛ لكن مناسبة الحكم للموضوع تقتضي ذلك؛ لأنَّ المناسب لجعل الحكم للشكّ في صورة عدم قيام الحجة على الواقع أمّا مع قيامها، فهو غير مناسب لمعرفة الواقع بالحجة؛ لأنّ الحجة إنمّا جُعِلَتْ حُجّةً وطريقاً لمعرفة الواقع عند الشكّ فيه والتردّد والتحيّر فيه، لا عند اليقين به، ولأنَّ الشكَّ بمعناه الحقيقي هو تساوي الطرفين هو نادر الوجود في مقام ضرب القاعدة في أخبار الاستصحاب وباقي الأصول، فلابدّ أنْ يكونَ قد استعمل في المعنى المتعارف، وهو عَدَمُ الحجّة، فإنّه أقرَبُ المجازات، ولأنَّ مقابلته باليقين والتّعبير عنه بعدم العلم تقتضي ذلك؛ لأنَّ أغلب موارد الاستصحاب إلاّ ما شَذَّ (لا علم)، بمعنى اليقين بالحكم، وإنّما يقومُ الدَّليلُ كالخبر، أو الأمارة كالبيّنة واليدِ على الحالة السَّابقة، وهكذا في باقي الأصول، فإنّه مع قيام الحُجَّة لا يُقالُ إنّه لا يعلم.

هذا، مُضافاً إلى أنَّ المعرفة تُسْتَعَمَل في ألسنةِ الأئمّة  عليهم السلام  بالاطلاع
على الدليل، ومعرفة الحُجَّة عليه، كما في المقبولة: (وعَرَفَ أحكامَنا)([407])،
فإنَّ مَعْرِفَةَ أحكامهم  عليهم السلام  من أحاديثهم، مع أنَّ غالبها ظنيّة دلالةً أو سنداً،
وكذا قوله تعالى: [فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ]([408])، فإنَّ المرادَ بعدم العلم
هو عدم قيامُ الدّليل على الحكم الشرعيّ عندهم، فإنَّ الذي يقومُ عنده
الأمارة المعتبرة لا يجب عليه السؤال، وإذا كان المرادُ من الشكّ هو عَدَمُ
الحجّة يكونُ قيام الأمارة المعتبرة رافعاً لما هو مُعْتَبَرٌ في موضوعه، وهو
 الشكُّ حقيقةً وتكويناً، نظير ما لو انقلب فَرْدُ العامّ، بأنْ اتّصَفَ بضدّ العام، كأنْ يكون العالم الذي هو من أفراد العُلماء في قول المولى: (أكرم العلماء) جاهلاً.

نعم، لو قلنا بأنَّ المرادَ بالشكّ هو التردُّد الواقعيّ بالحكم، كانَ دليل الأمارة وارداً على دليل الاستصحاب وباقي الأصول؛ لأنَّ دليلَ الأمارة ينزلها منزلة العلم، ولازمُهُ عَدَمُ الشكّ في الواقع تنزيلاً، وعليه فالأمَارَةُ بواسطة دليلها يرتفع الشكُّ بها بحكم الشّارع تنزيلاً، أنّه ارتفاعٌ تكويني وواقعي.

وقد يَقْرُبُ ورود الأمارة على الاستصحاب، كما هو المنسوب إلى الآخوند: بأنّ أفراد العام في (لا تنقض) ليس اليقين والشكّ، بل أفرادُهُ هي أفرادُ النقض، فإنّه هو المحرّم بقوله  عليهم السلام  (لا تنقض) ومع قيام الحجة لا نقض لليقين بالشكّ بل إنّما هو نقضٌ بالحجة الذي يحكم العقل بوجوب متابعتها ولو في حال الشكّ([409]).

إلا أنّ هذا لو تمّ يكونُ تخصُّصاً لا وروداً؛ لأنّه يكونُ ارتفاعٌ لموضوع الاستصحاب تكويناً لا تنزيلاً.

إنْ قلتَ: إنّ ما ذكرت يتُمّ إذا كان دليل الأمارة يشتمل الأمارة في مورد الاستصحاب، وهو مبني على عدم تخصيص دليل الاستصحاب لدليل الأمارة بغير هذا المورد، إذ لو خَصَّصه في غير هذا المورد لما كان النَّقض بالدّليل المعتبر، إذ لم يَكُنْ الدليل معتبراً في هذا المورد حينئذ.

قلنا: دَليلُ الأمارة يشمل الأمارة في هذا المورد قطعاً، لوجود موضوعه وهو الأمارة بشرائطه، ودليلُ الاستصحاب غيرُ شاملٍ للنّقض في هذا المورد؛ لأنه لم يكن فيه النّقضُ نَقْضَاً بالشكّ، بل بالأمارة المعتبرة، فدليلُ الأمارة يمنع من شمول دليل الاستصحاب، أمّا دليل الاستصحاب فلا يمنع من شمول دليل الأمارة؛ لأنها لا ينفقد موضوعها، ولا شرط من شرائطها، حتَّى لو فُرِضَ أنَّ دليلَ الاستصحاب يكونُ شاملاً لموردها، فإنّه يكون بينهما التنافي والتعارض في المؤدى.

والحاصل: إنَّ التعارض والتّدَافُعُ بينَ الأمارة والاستصحاب إنّما يكون لو شَمِلَ دليلُ كُلٍّ منهما لموردِ اجتماعهما في مرتبة واحدة، أمّا إذا كانَ أحدهما يشمل المورد دُونَ الآخر فهو المقدم.

وفيما نحنُ فيه: دليلُ الأمارة يَشْمَلُ موردَ الاجتماع لوجود
الأمارة بموضوعها وشرائطها، وأمّا دليل الاستصحاب فلا يشمل مورد الاجتماع، لارتفاع موضوعه؛ لأنّه يكونُ النّقضُ نقضاً بالدليل، وهو
الأمارة الموجود لا بالشك اللاحق.

التنبيه السابع عشر: في تعارض الاستصحاب مع الأصول

وفيه مقامان:

تعارض الاستصحاب مع الأصول العملية الأخرى

المقام الأول: في تعارُض الاستصحاب مع الأصول العملية التي هي غيره، كأصل البراءة، أو الاحتياط، أو التخيير، أو الطهارة، أو نحو ذلك.

والمراد بالتعارض ليس معناه الاصطلاحي، وإنّما المرادُ به مُجرَّدُ التقابل الصّوري البَدْوي، ولو كانَ أحدُهما ساقطاً بالورود، أو التَخَصُّص، أو الحكومة، أو إنه أطلق التعارُضَ باعتبار أنه أظهر الأفراد وأكثرها.

وكيف كان؛ فالظَّاهرُ الإجماع على تقديم الاستصحاب عليها، ولكن الخلاف وقع بينهم في وجه التقديم، والظاهر أنَّ وجه تقديمه على الأصول العقلية منها كالبراءة، والاحتياط، والتخيير، هو أنَّ الاستصحاب بدليله رافع لموضوعها تكويناً لا تنزيلاً؛ لأنَّ موضوع البراءة العقلية هو عدم الحجة والبيان من الشارع للوظيفة، والاستصحاب نِعْمَ البيان من الشارع، وموضوع الاحتياط العقلي الواجب هو عدم المؤمّن من العقوبة من الشارع، والاستصحاب نِعْمَ المؤمّن من الشارع منها، وموضوع التخيير العقلي عدم المرجِّح لأحد أطراف التخيير، والاستصحاب الجاري في أحدها يكونُ مرَجِّحاً لأحدها، فالاستصحابُ يكونُ به التخصّص لها لا التخصيص ولا الورود، لما عرفت من زوال موضوعها بالاستصحاب، لا أنَّه يرفع الحكم عن موضوعها حتَّى يكون مُخصِّصاً، ولأنه يرفع موضوعها تنزيلاً حتى يكون وارداً عليها.

وأمّا النقلية من الأصول العملية، كالبراءة الشرعية، والاحتياط على قول الأخباريين، فالظاهر أنَّ تقديم الاستصحاب عليها من جهة التوفيق العرفي، كما نُسِبَ إلى جَمَاعَةٍ من الأصوليين([410])، من جهة أنَّ لسان دليل الاستصحاب وإن لم يكن لسان حكاية عن الواقع كالأمارات، لكنّ لسانه لسان امتداد للواقع المتيقّن سابقاً، بخلاف الأصول النقلية الشرعية، فإنّها ليس لها ذلك اللسان، وإنّما لسانُها لسان إثبات البراءة والاحتياط عند الجهل بالواقع، فكانَ العُرْفُ يرى تقديم الاستصحاب عليها.

وبهذا تَعْرِفْ أنَّ الأصول المحرزة للواقع، أعني ما يكونُ دليله دالاً على ثبوتِ الواقع تعبّداً في ظرف الشكّ كقاعدة التجاوز، والصحّة، والحرّية، مقدمة على الأصول التي لا تكون كذلك.

وربما يقال: إنَّ تقديمه عليها من جهة التّخصيص؛ لأنَّ الاستصحاب موضوعه خُصوص الشكّ المسبوق باليقين بخلاف البراءة، فإنَّ موضوعها مطلق ما لا يعلمون، سواء كانَ مسبوقاً بالعلم بالحالة السابقة أم لا.

ولكنْ لا يخفى ما فيه: فإنّه إنْ تَمَّ، فإنّما يتمُّ بالنسبة إلى البراءة فقط، وأمَّا في الاحتياط والتخيير مما كان موضوعه الشكُّ المسبوق بالعلم باشتغال الذمّة أو بالتكليف فلا، إذ يكونُ بينهما عمومٌ من وجه.

وربّما يقال، بل قد قيل([411]) منسوباً إلى المحقّق الآخوند  رحمه الله  من تقديمه عليها بنحو الورود([412])، كتقديم الأمارة عليها، أو بنحو الحكومة، فلا وَجْهَ لهُ، فإنَّ موضوع الاستصحاب عينُ موضوع الأصول النقلية، وليس لسانُ دليله رافعاً لموضوعها تنزيلاً، ولا أنّ لسان دليله مُفسِّرٌ لدليلها سعة ً أو ضيقاً.

إنْ قلتَ: إنّ قوله  عليهم السلام : (لا تنقضُ اليقين بالشك)، يدلُّ على أنَّ الشكَّ مُلغى عند اليقين السابق، فيدلُّ على تنزيله منزلة مثل: (لا شكَّ مع كثرة الشكّ) و(لا سهو في كثرة السهو)، فيكونُ الاستصحاب وارداً عليها؛ لأنه يرفع ما أخذ في موضوعها تنزيلاً.

قلنا: هذا لو تَمَّ لكانَ اليقينُ في الاستصحاب أمارة مجعولة يثبُت به حتى لوازمها كالأمارات، ولكن قد عَرَفْتَ أنّ أدلّة الاستصحاب لا تدلّ على ذلك، وإنّما تدلّ على جعل الشارع المتيقّن في ظرف الشكّ، وليس الشكّ ملغى فيها كالأمارات.

وكيف كانَ، فقد أوردَ على تقديم الاستصحاب على الأصول العملية:

أولاً: إنّ البراءة مقدّمة على الاستصحاب فيما لو دار الأمر بين الأقل والأكثر، فإنَّ البراءَةَ من وجوب الأكثر على استصحاب بقاءِ التكليف عند الإتيان بالأقل.

ولا يخفى ما فيه: فإنَّ الذي يَصْلُحُ للاستصحاب هو وجوبُ الأقلّ؛ لأنّه هو المتيقّن، والزائد عليه مشكوكٌ وجوبه من الأوّل فالأصل البراءة منه، فاختلف موردهما.

وأورد عليه ثانياً: بالموثّقة: (كُلُّ شيء لك حلالٌ حتَّى تعلم أنَّه حرامٌ بعينه فتدعه من قبل نفسك، وذلك مثل الثوب عليك ولعله سرقه)([413])، حيثُ إنّ ظاهرها كونُ الحِلّية في الأمثلة المذكورة مستندة إلى أصالة البراءة مع أنَّ فيها الاستصحابات التي تقتضي الحرمة، وذلك يَكْشِفُ عن أصالة البراءة على الاستصحاب.

وجوابه: إنّا لو سَلَّمنا ذلك، فللشارع أنْ يقدّم أيّ أصلٍ على أيّ أصلٍ في موارِدَ خاصَّة، ومحلّ تنقيح هذه الرّواية في مبحث أصل البراءة.

ويَردُ عليه ثالثاً: بمثل ما إذا غسل ثوبه النَّجس بماءٍ مشكوك النَّجاسة، فإنَّهم حَكَموا بطهارة الثّوب استناداً إلى أصل طَّهارة الماء، فقدَّموا أصل الطهارة في الماء على استصحاب نجاسة الثوب، وبمثل ما إذا توضَّأ بماءٍ يُحتمل حرمته، فإنَّهم قدَّموا أصالةَ إباحة الماء على استصحاب عدم الطهارة من الحدث إلى غير ذلك.

وجوابه: إنَّ أصلَ البراءة إنّما جرى في الشكّ السببي وهو مُقدَّم على الأصل في الشكّ المسبَّبي حتّى لو كان استصحاباً، كما سيجيءُ إنْ شاءَ اللهُ في تقديم الأصل في السَّببي على الأصل في المسبَّبي مطلقاً.

مَبْحَثْ تعارُض الاستصحابين

المقام الثاني: في مُخالَفَة الاستصحاب لاستصحاب آخر ومنافاتِهِ له، ويُسمَّى بمبحث (تعارض الاستصحابين) تسمية له بأشهر أفراده، إذ من أفراده المخالفة بين الشكّ السببي والمسبَّبي، ولم يَكُن بينهما تعارُضٌ حقيقيّ، أو أنَّ المراد به مجرّد التقابُل الصّوري البدوي ولو كانَ أحدهما ساقطاً بالورود أو بحكومة الآخر عليه.

ولا يخفى إنّ الاستصحابَين اللَّذين يتخالفان في مقتضاهما إمّا أنْ
يكون الشكُّ في أحدهما مُسبَّباً عن الشكَّ الآخر، كما لو غسل ثوبه النجس
بالماء المتيقَّن طهارته سابقاً، وشكَّ في حدوثِ نجاسته قبل غسل الثوب به،
فإنَّ الشكَّ في طهارة الثوب مُسبَّب عن الشكّ في طهارة الماء، أو يكونُ الشكّ فيهما معاً مُسبَّباً عن أمرٍ ثالث، سواء كان موردها موضوعين كما لو كان
أخوان في دار واقتتلا، وعلمنا إجمالاً أنَّ أحَدَهُما قتل الآخر، فاستصحاب
بقاء كُلّ منهما معارض باستصحاب بقاء الآخر، وكما لو علم بنجاسة
أحد الإناءين المعلوم طهارتهما سابقاً، فاستصحابُ طهارة كُلّ منهما معارض باستصحاب طهارة الآخر، أو في موضوع واحد كالجلد المطروح المشكّوك طهارته، فإنَّ استصحاب عدم تذكيته يقتضي نجاسَتَه، واستصحاب طهارَتِهِ
حَالَ حياتِهِ يَقتضي طهارته، أو حُكمين كما لو عُلِمَ بحلّية أكلِ هذا اللَّحم وحُرمة أكلِ ذلك اللَّحم، ثُمَّ اشتبه عليه اللَّحم الحلال بالحرام، فاستصحاب حلّية كُلِّ منهما معارض باستصحاب حِلّية الآخر، أو مختلفين موضوعاً وحكماً، أو وجوديين، أو عدميين، أو مختلفين في الوجود والعدم، إلى غير ذلك من الاحتمالات.

وبعضهم([414]) احتمل صورة ثالثة، وهي كونُ الشكّ في كُلٍّ منهما مُسبَّباً عن الآخر، ومثّل لذلك بعضهم([415]) بما إذا وَرَدَ الكرّ تدريجياً على الماء القليل النجس بدعوى أنَّ الشكَّ في نجاسة كُلٍّ منهما مُسبَّبٌ عن ناقِضيّةِ كُلٍّ من الطَّهارة والنَّجَاسة للأخرى، والتّمثيل لها بالعامّين من وَجْهٍ([416])، بدَعوى أنَّ الشكَّ في أصالةِ عمومِ كُلٍّ منهما مُسبَّب عن الشكّ في أصالة عموم الآخر.

ولا يخفى أنها مستحيلة الوقوع، إذ من المستحيل أنْ يكون الشيء مُسبَّباً عَمَّا هو مُسبَّب عنه، ضرورةَ أنَّه دَوْرٌ واضح.

وتخيُّلُ أنّه دَوْرٌ مَعِيّ، مثل طرفي الطاق المتوقّف كُلٌّ منهما على الآخر، فاسدٌ؛ ضرورةَ أنَّ الموقوف والموقوف عليه نفسُ وجود الشكَّين، لا كونهما على صِفَةٍ خاصَّةٍ، ففي مثال الطاق تكونُ صفة طرفه بهذا الوضع موقوفة كُلّ منهما على الآخر، نظير الأبّوة والبنوّة، والقرب للآخر والبعد عن الآخر، ونحو ذلك من الصّفات، لا أنَّ نفس الوجود يكونُ موقوفاً، بل في الحقيقة يكون ذلك مستنداً لعلّة ثالثة، ففي الطاق مستندٌ للبناء، فإنّه هو الصَّانع لذلك، وفي الأبوّة والبنوّة هي الولادة، وفي الثالث هو المقترب من الآخر، وفيما نَحْنُ فيه يكون الفَرْضُ نفس الوجود ويكون موقوفاً.

وأمّا المثالان المذكوران: فالأوّل منهما يكونُ الشكَّان مسبَّبين عن ثالثٍ اعتبار الدَّفعة في الإلقاء، وأمَّا المثال الثّاني فالشكّان فيه مُسبَّبان عن ثالثٍ وهو العلم الإجمالي بكونِ أَحَدِ العامّين مخصّصاً بالآخر، فيندَرجُ المثالان في الصّورة الثانية.

هذا، ويُستثنى في هذا المقام عن محلّ البحث صورتان:

إحداهما: ما إذا كانَ التنافي بين الاستصحابين من جهة عجز المكلف عن العمل بمؤدّاهُما، كما إذا شكَّ في بقاءِ وُجوبِ الإنفاقِ على وَلَدِهِ من جهة احتمال أنّه صارَ غنياً، وشُكَّ في بقاء وجوب الإنفاق على زوجته من جهة احتمال نشوزها، ولم يَكُنْ عُذْرُهُ إلاّ نفقة أحدهما، فإنَّ التنافي بين الاستصحابين لوجوبي النفقتين من جهة عجزه عن العمل بمؤدّاها، ومثله ما إذا شُكَّ في بقاء نجاسة المسجد وارتفاعها بالمطر، مع الشكّ في إتيانه بالصّلاة وهو في الوقت، فإنَّ التنافي بين الاستصحابين لوجوبي الإزالة والصَّلاة من جهة عجزه عن امتثال مؤدى الاستصحابين.

وفي هذه الصّورة يكونُ المرجع هو بابُ التزاحم من الأخذ بالمؤدَّى الذي هو أهمّ، أو بما لا بدل له، أو ما أخذت فيه القُدْرَة الشرعيّة على ما هو المقرَّر في باب التّزاحُم، فإنَّ أدلَّة الاستصحاب لا تُثْبِتُ إلا آثار اليقين السَّابق، واليقينين السّابقين في هذين الاستصحابين لو فُرضَ أنَّهما لم يحصل معهما شكٌّ لاحق، لا يقتضيان إلاّ إعمال باب التزاحم في متعلَّقهما، وإنّما مَحَلّ كلامنا هنا فيما كان التنافي بين الاستصحابين من جهة العلم الإجمالي بانتفاض الحالة السابقة وارتفاعها، بحيثُ نعلم بكذب أحد الاستصحابين، كما لو علم إجمالاً بنجاسة أحد الإناءين اللذين علم سابقاً طهارتهما، فإنَّ استصحاب طهارتهما تنافي نجاسة أحدهما، وكالماء النجس المتمّم كراً بماء قليل طاهر، فإنَّ استصحاب نجاسة ذلك الماء النّجس واستصحاب طهارة الماء القليل الذي تمَّمه كرّاً
 نعلم بكذب أحدهما، للعلم بانتقاض الحالة السابقة لأحدهما من جهة الإجماع القائم على أنَّ الماء الواحد لا تختلف أجزاؤه في الطهارة والنجاسة.

والحاصل: إنَّ صورة التنافي بين الاستصحابين من طرف عجز المكلف وقصوره لا يمنع من جريان الاستصحابين، وليست هي مَحَلُّ كلامنا لعدم العلم بانتقاض الحالة في أحدهما، فلا يعلم بكذب أحد الاستصحابين، وإنّما مَحَلُّ كلامنا هُو صُورَةُ التنافي بين الاستصحابين من جهة العلم بانتقاض وارتفاع الحالة السابقة في أَحَدِهِما من دون تعيين.

الصّورَةُ الثانية: هو ما إذا كان أحدهما قد خرج مورده عن محلّ الابتلاء، أو لا أثر شرعيّ يترتّب عليه، أو غير ذلك مما يوجب عَدَم جريانه، فإنّه يجري الآخر حيثُ زالَ ما يعارضه وينافيه.

إذا عَرَفْتَ ذلك من أنَّ محلَّ البحث هو الاستصحابان المتنافيان من جهة العلم بانتقاض الحالة السابقة في أحدها لا بعينه، وكانَ الأثرُ الشرعيّ يترتب عليهما، والكلامُ في ذلك يَنْحَصِرُ في مسألتين:

أحدهما: أنْ يكونَ الشكُّ في أحدِ الاستصحابين مُسبَّباً عن الشكّ في الآخر، ويسمّى بالاستصحاب السبَّبي، والمزيل، والوارد؛ ويُسمَّى الاستصحاب في الشكَّ المسبَّب بالمزال، وبالمورد وبالمسببي.

ويحكى([417]) عن الفاضل النراقي في المناهج أنه المبتدع لهذه المسألة ولا سابق له في ذلك، إلا أنَّ الفاضل التنكابني([418]) في شرحه على الرسائل([419]) رَدَّ عليه، وقال: قد ذكر فقيه عصره في كشف الغطاء ما هذا لفظه: ولا يعارض بقاء المستصحب أصالة ما يتبعه من الحوادث اللاحقة له([420]).

المسألة الثانية: ما كانَ الشكّان مُسبَّبين عن العلم بانتقاض الحالة السابقة في أحدهما بدون تعيين، سواء كان هذا العلم من جهةِ قيامِ إجماع، كالماء النجس المتمّم كُرّاً بماءٍ طاهر، فإنَّ العلم الإجمالي بانتقاضِ الحالة في أحد الاستصحابين من جهَةِ ذلك الإجماع، أو من جهة قيام دليل على ذلك، أو من جهة الأمور الخارجية.

أمّـا الـكـلامُ في المـسـألة الأولى: أعـنـي: ما إذا كانَ أحـدُ
الشكَّـين مُسبَّـبـاً عن الآخر، فالحقُّ كما هو المشهورُ بين القائـلين
بحجية الاستصحاب، بـل كـاد أنْ يكونَ الإجماعُ عليه، هو تَقدُّم الأصل
السبَّـبي على المسبّـبي، كمـا حكاه عنهـم الشيخ علي([421]) في تعليـقاته على الروضة([422])،ويحكى([423]) عن الرياض([424]) والقوانين([425]) الجمع بين الأصلين والعمل بهما في موردهما، وعن الفاضل الكلباسي([426]) في آخر مسألة التعادل والتراجيح: إعمال مرجحات التعارض، ثمَّ التخيير مع عدمها، وعن المحقّق  رحمه الله  الحكم بالتعارض والتساقُط والرجوع إلى الأصول الأُخر([427]).

ولكنَّ الحقَّ ما عليه المشهور من تقديم الأصل السببي على المسبَّبي، وهو يتصوّر على وجوه ثلاثة:

الأول: أنْ يكون الشكّ السبَّبي في موضوع، والشكُّ المسبَّبي في آثاره الشرعية التوليدية، إذ غير التوليدية تكون معلومة الوجود سابقاً بالعلم بوجود السبَّب فاستصحابها لا يعارض استصحاب السبَّب، كما لو تَطَهَّر قَبْلَ الوقت يقينا، وشكَّ في بقائه على الطَّهارة بعد الوقت، فيتعارَض استصحاب بقاء الطهارة إلى ما بعد الوقت باستصحاب العَدَم الأزليّ للأحكام التي تتولَّد له بعد دخول الوقت، من جواز الصَّلاة التي يَحْدُث وجوبها، وجوازُ الإتيان بها بعد دخول ذلك الوقت، أو بعد حدوثِ الآياتِ السّماوية.

الثاني: أنْ يكونَ الشكُّ السببي والمسبَّبي في موضوعٍ آخر، وقد تأخّر زمان الشكّ المسبَّبي عن الشكّ السببي، كما لو كانَ عندَه ماء وشكَّ في طهارته فاستصحبها ثُمَّ غسل ثوبه النّجس فيه، فشكّ في طهارته لشكّهِ السابق في طهارة الماء.

الثالث: أنْ يكونَ الشكّان في موضعين كالوجه الثاني، ولكن حَصَلا في زمانٍ واحد، وإنّما التأخّر لأحدهما عن الآخر كان ذاتياً بواسطة السببية والمسبّبية, كما لو رمى صيداً فوقَعَ في الماءِ القليل دونَ أنْ يصيب الماء دمه، واحتمل أنَّه مات بواسطةِ الماء لا بصيده، فإنّه يحدث شكّان في آنٍ واحد، أحدهما شكّ في طهارة الماء لاستصحاب عدم تذكية ما وقع فيه، فيكونُ الماء القليل قد لاقى ميتةً نجسة، ويعارضه استصحاب طهارة الماء القليل، فالشكُّ السبَّبي وهو الشكُّ في تذكية الصيد، والشكُّ المسبّبي وهو طهارة الماء، قد حدثا وتولّدا في آنٍ واحد لموضوعين، أحدهما تذكية الصّيد، والآخر طهارة الماء متأخر رتبة عن الأول وهو الشكُّ في تذكية الصيد، من جهة تأخّر المسبَّب عن السبب رتبة، وكما لو حصل الشكُّ في طهارةِ ثوبٍ متنجّس غسل بماء قد شكَّ في طهارة ذلك الماء بَعْدَ الغسل، لاحتمال أنّه قد أصابته نجاسة قبل غسل الثوب به، فإنّ الشكَّ السّببي والمسبَّبي قد حصلا معاً.

ويدلُّ على التقديم مطلقاً في الأوجه الثلاثة أدلة:

الأول: أخبار الباب، فإنَّ حكم الإمام  عليهم السلام  بأخذ الحالة السابقة والعمل بالمتيقّن في الوضوء أو غيره مع كون آثارهما الشرعية مسبوقة بالعدم الأزلي، يكشف عن إلغاء الاستصحاب المسبَّبي، وإلاّ يلزم من جعل الحجية عدم الحُجيّة، إذ لا معنى للحُجية فيه إلاّ الأخذ بآثاره الشرعية.

ويمكن أنْ يقال فيه: بأنَّ هذا إنما يقتضي تقديم الاستصحاب السببي على المسبَّبي في الوجه الأول؛ لأنَّ المذكور في أخبار الاستصحاب من الموارد كلّها من قبيل الوجه الأول؛ اللهُمّ إلاّ أنْ يقال: إنَّ تَرْكَ الاستفصال من الإمام  عليهم السلام  وعدم القول بالفصل بين المتقدّمين يثبت به المطلوب.

الدليلُ الثاني الإجماع على تقديم الاستصحاب السببي على الاستصحاب المسبَّبي في موارد لا تحصى، كالطهارة من الحدث والخبث، وكُرّية الماء وإطلاقه، وحياة المفقود وغير ذلك، فإنَّ استصحاب هذه الموارد مُقدَّم على استصحاب عدم آثارها الشرعية الأزلية.

ويجيء فيه ما ذكرناه في الرّد على الدليل الأول، مضافاً إلى أنَّ نفس الاستصحاب غير مجمع على حُجيّته.

الدليل الثالث إنَّ الاستصحاب السببي واردٌ على الاستصحاب المسبَّبي لزوال الشكّ عن المسبّب من جهة تبين الحكم في المسبَّب بالدليل الشرعي، وذلك الدليل الشرعي هو الاستصحاب في السبب؛ لأنَّ الاستصحاب في السبب يقتضي ثبوت آثاره، ومن آثاره الحكم في المسبَّب، فلا يبقى مجرى للاستصحاب في المسبَّب.

والحاصل: إنّه في الحقيقة لا تعارض ولا تنافي بينهما إلاّ بدواً، فهو يشبه تعارض الأصل والدليل المعتبر.

ويمكن أنْ يقال عليه:

أولاً: بأنَّ التأمّل في أخبار الاستصحاب يقتضي العمل بالاستصحاب في الشكّ المسبَّبي، والعَمَلُ بالاستصحاب في الشكَّ السبّبي، وترتيب آثار السبب الشرعية على استصحاب السبب، ما عدا الأثر الشرعي الذي يقتضي إلغاء الاستصحاب المسبَّبي، فيعمل بهما في الغير مَحلّ التنافي والتدافُع بينهما، وأما في محلّ التنافي فيعمل بالاستصحاب المسبَّب دونَ السبب؛ لأنّه لو عمل بالاستصحاب السبّبي يلزم منه إلغاء الاستصحاب المسبَّبي كلية.

ولا ريبَ إنّ إلغاء الاستصحاب بالنسبة إلى بعض آثاره الشرعية المرتبة عليه أولى من إلغاء استصحاب آخر بالكلية.

وبعبارة أخرى: أنَّ ترتيب جميع الآثار للمستصحب في كُلٍّ من الاستصحابين السبَّبي والمسبَّبي إلاّ الأثر الذي هو مورد التدافع والتنافي بينهما، أولى من طرح أحدهما بكُلّيته وجميع آثاره، ففي المثال المتقدّم بواسطة استصحاب المسبَّبي لنجاسة الثوب يحكم ببقاءِ نجاسة الثوب، ويرتّب عليها الآثار الشرعية لنجاسته من عدم جواز الصّلاة به، وعدم جواز الطواف به، ونحو ذلك، ويَحكُمُ بواسطة الاستصحاب السبّبي ببقاءِ طهارة الماء، ويرتّب على طهارته سائر آثارها الشرعية من جواز شربه، والتوضّؤ به، والاستنجاء به، وغيرها، إلاّ الأثر الشرعيّ لها، وهو تطهيرُ الثوب المغسول به؛ لأنه هو مورد التنافي بين استصحاب طهارة الماء الذي هو الاستصحابُ السببي، وبين استصحاب نجاسة الثوب الذي هو الاستصحابُ المسبَّبي؛ لأنَّ الأوّل يقتضي طهارة الثوب المغسول به، والثاني يقتضي عَدَم طهارة ذلك الثوب المغسول به وبقائه على نجاسته.

والحاصل: إنّه يعمل بكلا الاستصحابين، ويرتّبُ جميعَ آثارهما الشرعية في غير مورد التنافي، فإنَّ آثار الاستصحاب السببي تترتب على بقاء السبب إلاّ في هذا المورد، أعني نجاسة الثوب المغسول بذلك الماء، وهو مورد التنافي، فهذا الماء المستصحب طهارته يرتب عليه جميع آثاره الشرعية من جواز الوضوء به، وشربه، والغسل به، ونحوها، إلاّ تطهيره لهذا الثوب المغسول به المستصحب نجاسته، كما أنّ استصحاب نجاسة هذا الثوب يرتّب عليها الآثار الشرعية لنجاسته بأجمعها من دون استثناء لبعضها.

ودعوى أنّه من آثار الاستصحاب المسبَّبي ثبوت السبب به، لاستحالة وجود المسبَّب بدون السبب، ففي المثال المذكور يلزم من استصحاب نجاسة الثوب الذي هو الاستصحاب المسبَّبي أنْ يكون الماء قد تَنَجَّسَ به، فلا يصحُّ الوضوء منه ولا شربه.

فاسدة؛ لأنَّ ذلكَ من آثاره الواقعية ولوازمه العقلية، لا من آثاره الشرعية، فإنَّ ثبوتَ المسبَّب يلزمه عقلاً ثبوت السّبب حتَّى لو كانت السببية شرعية، فإنَّ السببية الشرعية إنّما تقتضي الثبوت الشرعي للمسبَّب إذا ثَبَتَ السّبب، ولازمه عقلاً إنّ المسبَّب إذا ثبت ثبت السبب، فيكونُ استصحاب المسبَّب لنجاسة الثوب لإثباتِ نجاسة الماء الذي غسل به من الأصل المثبت.

وبهذا تعرف فساد ما ذهب إليه المشهور من كون الاستصحاب في الشكّ السببي هو المقدّم على الاستصحاب المسبَّبي، بحيث يلغى الاستصحاب المسببي بالكلّية، ففي المثال يجرون الاستصحاب لطهارة الماء الذي هو الاستصحاب السببي، ويلغون الاستصحاب لنجاسة الثوب الذي هو الاستصحاب المسببي بالكلية، بحيث يرتبون آثار طهارة الثوب الشرعية من جواز الصلاة والطواف به ونحو ذلك.

وتقريبُ هذا الإشكال بعبارة أخرى أوضح أنْ يقال: ثانياً: على المشهور بأنَّ عموم (لا تنقض) يشمل الاستصحابين السببي والمسبَّبي معاً، لاسيّما في الوجه الثالث على حَدٍّ سواء، فإنَّ الشمول وعدمه تابع لدلالة اللفظ، فيلزم العمل بهما قدر الإمكان، فيقتصر في عدم العمل على المقدار الذي لا يمكن العمل بهما، وهو خصوص مورد التنافي بينها، ولا حاجة إلى طرح الاستصحابين بالكلّية، أو طرح أحدهما بالكلّية كما صنع المشهور، حيثُ طرحوا الاستصحاب المسبَّبي بالكلّية، وذلك لإمكان دفع المنافاة بينهما بالتزام التفكيك بين اللوازم الشرعية في جانب الاستصحاب السبّبي، فلا نجريه بالنسبة إلى الأثر الشرعيّ الذي هو مورد التنافي، ونجريه بالنسبة إلى باقي آثاره الشرعية، ففي المثال المذكور يكون الاستصحاب السببي يثبت به جميع آثار طهارة الماء، إلاّ تطهيره لهذا الثوب المغسول به، ويكون الاستصحاب يجري في المسبب، فيستصحب نجاسة الثوب المغسول بذلك الماء ويرتّب جميع آثاره من نجاسة الثوب.

ويمكن أنْ يقال: ثانياً: على المشهور، بأنَّ ثبوتَ جميع الآثار للمستصحب السببي إنّما هو بدلالَةِ الاقتضاء من جهة الصَّونِ لكلامِ الحكيم عن اللَّغوية، فلابُدَّ أنّ تكونَ بمقدارٍ لا تُوجِبُ لغويّته سعةً أو ضيقاً، فلو أثبتَ له آثاراً
كثيرة توجب لغويّته لم يصحّ ذلك، كما لو أثبتَ له آثاراً قليلةً توجب لغويته
لم يصحّ ذلك، ولا ريبَ أنّ إثبات الآثار للمستصحب السّببي ما عدا أثره الذي هو مورد التنافي، أعني: المستصحب المسبّبي يُصان به الكلام عن اللغوية، بخلاف ما إذا ثَبَتَتْ آثاره حتَّى هذا الأثر الذي هو مورد التنافي، لزم
لغويّة الاستصحاب المسببي.

وبعبارة أخرى: إنَّ إثبات الآثار للمستصحب من جهة الحكمة، والحكمة تقتضي هذا المقدار من الآثار، أعني: ما عدا المستصحب المسبّبي لئلا يلزم لغويته.

ودعوى إنّه يلزم من هذا التفكيك بين الآثار الشرعية المتلازمة، ففي المثال يلزم التفكيك بين طهارة الماء الذي غسل به الثوب، وبين طهارة الثوب المغسول به، حيثُ بالاستصحابين يكونُ الماءُ طاهراً دون المغسول به وهو الثوب.

فاسدة؛ فإنَّ التفكيك في الآثار كثير وقوعه في الشرعيات، وموارده أكثر من أن تحصى، كإقرار أحد الزوجين بالزوجية مع إنكار الآخر، حيثُ يحكم بترتيب آثار الزوجية على المقِرِّ دون المُنْكِر، وكمَن تطهَّر بمائع مُردَّدٍ بين البولِ والماء غَفْلَةً، فإنَّه يَحْكُمُ بطهارة بدنه بالاستصحاب لطهارته، وبعدم صحة وضوئه بالاستصحاب لعدم طهارة المتطهر.

ودعوى إنَّ هذا يتمُّ في الوجه الثالث فقط دونَ الوجهين السَّابقين، فإنَّهُ في الوجهين السابقين كان الشكُّ السببي مشمولاً للأدلّة قبل شمولها للشكّ المسبَّبي زماناً، فلا يبقى مجالٌ لشمولها للشكّ المسببي لزوال حُكْمِهِ بالمزيل الشرعي، بخلافِ الوجه الثالث، فإنَّ شمول الأدلّة للشكّ كان في دفعة واحدة وزمان واحد على نَهْجٍ واحدٍ ونمطٍ واحد، فيكونُ شمولها لهما في عَرَضٍ واحد لا طولياً، بخلافِ الوجهين السابقين، فإنَّ شمولها كانَ لهما طولياً، والاختلاف في المرتبة في الوجه الثالث لا ينفع في الأسبقية في الشمول، فإنَّ الشمول وعدم الشمول تابع لدلالة اللفظ.

فاسدة؛ لأنّ أخبار (لا تنقض) تشمل كلا الشكّين السببي والمسبَّبي دفعة واحدة، وعلى نهجٍ واحد، فلا وجه لملاحظته الترتيب في الشمول، نظير شمول أدلّة حُجية الخبر للمتعارضين، إذ أنَّ الشمول إنّما يكونُ بدلالة اللفظ على مفهوم واحد يعمُّ الجميع من دون ملاحظة للأفراد عند التكلّم به حتّى يلاحظ الترتيب في شمولها.

ودعوى إنَّ قوله  عليهم السلام : (لا تنقض اليقين) يشمل الشكّ السببي قطعاً، وشموله للشكّ السببي مانع عن شمولِهِ للشكّ المسبّبي؛ لأنّه بشمولِهِ للشكّ السبّبي لا يبقى شكٌّ في المسببي، وتكونُ الحالَةُ السَّابقة فيه معلومة بالدليل الذي هو الاستصحاب السببي، فلو عمل بالاستصحابِ في المسبَّبي لَزَمَ منه نَقْضُ اليقين في السبّبي بلا دليل.

وبعبارةٍ أخرى: إنَّ الأمرَ يَدورُ بين إهمال الاستصحاب في السبّبي، ويلزم منه تخصيص (لا تنقض) بلا مُخصِّص، وبينَ إهمال الاستصحاب في المسببي بواسطةِ قيام الدليل عليه وهو الاستصحاب السببي، ويلزم منه تخصيص (لا تنقض) بالمخصِّص، ومن الواضح أنَّ الثاني هو المتعيّن؛ لأنَّ التخصيص بلا مخصص غير جائز، والتّخصيص بالمخصّص أكثر من أنْ يحصى، ولا ريب في جوازه.

وعليه: فلا يصحُّ العمل بالاستصحاب في المسبّبي كلّية لخروجه عن أخبار (لا تنقض) بواسطة الاستصحاب السببي.

فاسدة؛ لما عرفت من أنَّ (لا تنقض) لها مفهومٌ واحدٌ يشملها معاً، وليس الأمرُ دائراً بينَ التَّخصيص بلا مُخصِّص والتَّخصيص بالمخصِّص، بل الأمرُ يدور بين ذلك، وبين تقييد الاستصحاب السبّبي بعض آثاره الشرعية مع المحافظة على شمول (لا تنقض) للاستصحابين السببي والمسببي، بأنْ يلتزم بالتفكيك في آثار الاستصحاب السببي، كأنْ يلزم في المثال المذكور بالحكم بطهارة الماء استصحاباً لها، وترتيبُ جميع آثارها من جواز شربه والتوضُّؤ به ونحو ذلك، إلاّ تطهيره للثوب المغسول به، ويُؤخَذُ بالاستصحاب المسبَبي ويلتزم بترتيبِ جميع آثار نجاسة الثوب، وأمّا في مورد التنافي فيُؤخَذُ بالاستصحاب المسبَبي، وهو استصحاب نجاسة الثوب، ويُهْمَلُ إطلاق الآثار للاستصحاب السبَّبي بتقييده بهذا المورد، فإنَّ الدالَّ على إطلاق آثاره هو دلالة الاقتضاء التي تقتضيها الحكمة، أعني: صونُ كلامِ الحكيم عن اللغوية، وبذلك يُصانُ كلامُ الحكيم عن اللّغوية الحاصلة بالتنافي دونَ أنْ يخرج أيّ من الاستصحابين عن المفهوم.

والحاصل: إنَّ مفهوم (لا تنقض) أوّل الأمر يَشْمَل الشكَّ السبَّبي والمسببي في آنٍ واحدٍ لانطباقهِ عليهما دفعة واحدة، ثُمَّ بعد ذلك يَجيءُ حُكْمُ العقل بترتيبِ الآثارِ الشرعية عليهما صَوْناً لكلامِ الحكيم عن اللغوية، ولكنَّ حُكْمَ العقل بترتيبِ الآثار في السبّبي يكونُ مُقيَّداً بغير ما هو منافٍ للمسبَّبي بقرينة سبق شمول (لا تنقض) للمسببي.

نعم، لو فُرِضَ حُدوثُ الشكّ في السّبب قبل الشكّ في المسبَّب صحَّ التقديم لأنه بأسبقية شمول (لا تنقض) للسبَّبي تترتّبُ جميعُ آثاره بحكم العقل وبدون أيّ قرينة على استثناء بعضها فيكون المسبَّب منفياً.

ودعوى إنَّ ذلك إنّما يتّجه لو كان ما فرض من الفردين في مرتبة واحدة من الفردية، أمّا إذا توقفتْ فرديّةُ أحدهما على رَفْعِ اليد عن العُمومِ بالنّسبة إلى الفرد الآخر، ولم يَكُنْ هناك ما يُوجِبُ الرّفع، وَجَبَ الحكم بعدم فرديته، والأخذ بالعامّ في الفرد الآخر، كما فيما نحن فيه، فإنَّ فرديّةَ الشكّ المسبَّبي للعامّ موقوفة على رَفْعِ اليد عن فرديّةِ الشكّ السّبَبي له، وليس هناك ما يوجب الرفع، بخلاف السببي، فإنّ فرديّته غير موقوفة على رفع اليد عن الشكّ المسببي؛ لأنه ليس من آثاره الشرعية رفع الشكّ السببي، بخلاف السببي فإنّه من آثاره الشرعية رفع المسببي.

فاسدةٌ؛ بأنَّ فرديّةَ الشكّ المسببي ليست موقوفة على رفع اليد عن فردية الشكّ السببي، بل على تقييد إطلاقه بغير هذا المورد، وتقييد إطلاقه إنما كان بواسطة قرينة الحكمة، فإنه لولا تقييده للزم إخراج الشكّ المسببي عن العموم، وإذا دارَ الأمرُ بين تخصيص العام وتقييد المطلق قدّم التقييد على التخصيص، ففرديّة الشكّ المسبَّبي هي الثابتة.

ودعوى أنَّ فرديّةَ الشكّ المسبَّبي توجب الدور المحال لأنَّ فرديّةَ الشكّ المسبّبي لعموم (لا تنقض) تتوقّفُ على رفعِ اليدِ عن عُموم (لا تنقض) للشكّ السببي، إذ مع عدم الرفع لا يكون الشكّ المسبَّبي فرداً للعموم؛ لأنه ينفيه الاستصحاب للشكّ السببي؛ لأنّ الشكّ المسبّبي من آثاره الشرعية، ورفع اليد عن العموم للشكِّ السببي تتوقّفُ على فرديّةِ الشكّ المسبّبي له للمنافاة، فتوقفت فرديّةُ الشكّ المسبّبي للعموم على نفسها، فكانَ إدخالُ الشكّ المسبَّبي في العموم محالاً، كما أنَّ إخراجَ الشكَّ السبَّبي عن العامّ محالٌ أيضاً؛ لأنَّ نسبة العموم إلى الشكّ السببي والمسبَّبي ليست على حَدٍّ سواء؛ لأنَّ شمولَه للسببيّ لا مانع منه، وشموله للمسبَّبي يَلْزَمُ منه الدَّور، فالشكُّ السببيُ داخلٌ في العموم قطعاً، ولا وَجْهَ لإخراجه عن العموم إلاّ من جهة دخول الشكّ المسبّبي.

وقد عَرَفْتَ أنَّ دخول الشكّ المسبّبي محالٌ للزوم الدور، فتعيّنَ إخراجُ الشكّ المسبَّب وإدخالُ الشكّ السببي.

فاسدةٌ؛ لما عرفته من أنّ فرديّة الشكّ المسبّبي لعموم (لا تنقض) لا تتوقف على رفعِ اليد عن عموم (لا تنقض) للشكّ السببي، بل تَحْصَلُ بتقييد الآثار الشرعيّة الثابتة به بغير مورد التنافي، مُضافاً إلى أنَّ فرديّة الشَّكَّين السبّبي والمسبَّبي للعام وجدانية كما هو مقتضى اللفظ، إذ لا ريبَ في شمولِ العام لجميع أفراده الموجودة والمقدرة حتّى لو كان بينها ترتيباً ذاتياً أو وجودياً، كلفظ الضوء ولفظ الوجود، فإنّهما يشملان العلّة والمعلول.

والحاصل: إنّ العموم المستفاد من (لا تنقض) له جهتان:

الأولى: شموله لليقين والشكّ بالبقاء في السببي والمسببي وجداناً، وبذلك تتحقَّقُ فرديّتهما له.

والثانيةُ: عمومُ الآثار الشرعيّة المدلول عليها بدلالة الاقتضاء.

وهاتان الجهتان هُما اللّتان صارتا سبباً للتدافُع والتّعارُض بين الاستصحابين في موردِ التنافي، فلابُدّ إما من رفع اليد عن الجهة الأولى، كما عليه المشهور من عدم شمول (لا تنقض) للاستصحاب المسبَّبي، أو من رفع اليد عن الجهة الثانية من عدم عموم الآثار في الاستصحاب السَّببي لجميع آثاره.

والحاصل: إنّ الأمر يدورُ بين تخصيص (لا تنقض) باليقين المسببي برفع اليد عن الاستصحاب المسببي، وبين تقييد آثار الاستصحاب السببي بمورد التنافي برفع اليد عن إطلاق الآثار في الاستصحاب السببي، وجعل (لا تنقض) تشمل الاستصحاب المسببي، وهذا الدوران في مرحلة الإرادة كالتنافي بين البينتين والخبرين المتعارضين ونحو ذلك، وإلاّ في مرحلة الدلالة والاستفادة يكون كُلٌّ منهما في مرتبة واحدة وعلى نهجٍ واحدٍ يشملها (لا تنقض)، كالبينتين في شمول دليلِ حُجيّتهما لكلٍّ منهما بالوجدان، والترتيب العلّي لا يوجب تقديماً في الشمول، وإنما كلّ منهما في عرضٍ واحد بالنسبة إلى الدليل، بل الأولى رفع اليد عن الجهة الثانية خلافاً للمشهور؛ لأنَّ الجهة الثانية إنَّما كانت بدلالة الاقتضاء التي تكون من جهةِ صونِ كلامِ الحكيم عن اللغوية، وبرفع اليد عن الجهة الثانية من جهة شمول اللفظ للاستصحاب السببي، وإثبات باقي آثار الاستصحاب السببي يحصل صون الكلام عن اللغوية.

وبه يندفع ما يمكن أن يقال: إن لازم هذا التقرير هو طريان الإجمال في دليل الاستصحاب لدوران الأمر بين الاحتمالين ولا معين لأحدهما.

وما ذكرناهُ من الأمثلة التي يثبت بها التفكيك بين اللوازم الشرعية كالإقرار بالزوجية ونحوها، فإنّما يصلح شاهداً للصحّة لا للتعيين فيتوجّهُ الحكم بالتوقف والرجوع لأصلٍ آخر، كما نسب ذلك إلى الرياض وهو الظاهر من كلامه في مسألة ماء الحمام([428]).

والتحقيقُ أنْ يقال: إنَّ الشكَّ في مورد المسبَّبي لما كانَ مُسبَّباً عن الشكِّ السّببي فلا مَحال من تأخّر وجوده عنه، لامتناع تحقّق السبب والمسبّب في آنٍ واحدٍ، فإنَّ وجود الثاني متولِّد، من وجود الأوّل ومتوقّف عليه حتَّى لو فرض تحقّق الشكَّين في زمانٍ واحدٍ على حَدٍّ سواء كما سبق، وحينئذٍ ينطبق عموم (لا تنقض) على الشكّ السببي قبل تحقُّق الشكّ المسبَّبي بلا معارض ويُؤثِّر فيه جميع الآثار الشرعية التي من جُملتها إزالة النَّجاسة عن الثوب في المثال المتقدم، فلا يبقى للشكّ المسبَّبي مجالٌ لانطباق العموم عليه؛ لأنّه يكونُ النّقض فيه نقضاً باليقين وهو الدّليلُ الذي هو الاستصحاب في مورد الشكّ السببي.

إنْ قلتَ: إنّه يُمْكِنُ أنْ يتأخّر الشكّ السببي عن الشكّ المسبَّبي في بعض الموارد، كما لو غسل الثوب النجس بماء مُردَّد بين المطلق والمضاف فمقتضى الاستصحاب الحكم ببقاءِ نجاسَةِ الثوب، ثُمَّ بعد هذا حصل اليقين بكونه ماءاً مسبوقاً بالإطلاق، ولكن شكَّ في بقاء إطلاقه إلى حين الغسل، فيكونُ الشكُّ السَّببيّ وهو الشكُّ في إطلاق الماء قد تحقُّق بعد الشكّ المسبَّبي وهو الشكّ في نجاسة الثوب.

قلنا: ذلك لا يُمكن لاستحالة تحقّق المسبّب قبل وجودِ السَّبب، والمثال المذكور لم يتحقَّق فيه ذلك إذْ الشكُّ في بقاء النجاسة للثوب الذي كان مُسبَّبا عن الشكّ في إطلاق الماء لا يبقى بعد ارتفاع التردّد وانكشاف أنّه ماء مطلق، والشكُّ الموجود ثانياً هو شَكٌّ حادِثٌ عن جِهَةِ حُدوثِ الشكّ في بقاء الإطلاق للماء، فهذا المثال في الحقيقة راجعٌ إلى تقدّم الشكّ السببي.

إنْ قلتَ: إنَّ ما ذكر من تقديم الأصل السببي على المسبَّبي إنّما يتمُّ فيما إذا كان لكلّ واحدٍ منهما دليلٌ مستقلّ حتَّى يكونُ أحدُ الدليلين رافعاً لموضوع الدليل الآخر، أمَّا إذا كان دليلٌ واحد يشمل بعمومه أو إطلاقه الاثنين كما في المقام فليزم تقدم الدليل الواحد على نفسه.

قلنا: إنَّ الدليل الواحد إنما يدلُّ بانطباقه على المورد، وانطباقه على أحدهما غير انطباقه على الآخر، ويكونُ أحدُ الانطباقين مُقَدَّماً على الآخر، فدليل (لا تنقض) باعتبار انطباقه على الأصل السببي رافعٌ لما هو موضوع الأصل المسببي.

إنْ قلتَ: إنَّ الموضوع للاستصحابين هو اليقينُ السَّابق لا الشكّ، فإنَّ الإبقاء هو حكم لليقين السابق لا للشكَّ اللاحق، ولا ريبَ أنَّ اليقينين في الاستصحاب السبَّبي والمسبَّبي لا سببية بينهما وإنّما السببية والمسبّبية بين الشكين.

قلنا: نعم لو لوحظا بنفسهما، أمّا لو أخذ الشكّ اللاحق قيداً لهما صار وجود أحدهما بقيده متأخراً عن الآخر، على أنَّ التحقيق إنَّ الشكَّ هو موضوع الحكم المراد إثباته بالاستصحاب، كيف؛ وهو حُكْمٌ ظاهريٌ لا يثبت إلاّ في مورد الشكَّ.

الثالث من الأدلّة التي أقيمت على تقديم الأصل السببي: ما أقامه بعض المحققين: إنَّ الأصل السببي يتنقّح به موضوع كبرى شرعية توسُّعاً أو ضيقاً يكون دليلٌ اجتهاديٌ دالاًّ عليها، وهذا الدليلُ الاجتهاديّ هو الذي يُقدّم على الأصل المسبَّبي، فاستصحابُ طهارة الماء يكونُ منقحاً لموضوع الدليل الدال على كبرى شرعية، وهي أنَّ المغسول بالماء الطاهر يطهر، وهذا الدليلُ يكونُ وارداً على الاستصحاب المسبَّبي وهو استصحاب نجاسة الثوب المغسول به، فيرجع الأمر إلى تقديم الأمارة على الاستصحاب، فتقديمُ الأصل السبّبي على المسبَّبي ليس من جهة وروده أو حكومته على الأصل المسبَّبي، بل لحكومة الدَّليل الاجتهادي على الأصل؛ لأنَّه بالأصل السببي قد نَقَّحَ موضوع الدليل الاجتهادي فصار موضوعه متحققاً وجوده، كالمثال المتقدم، أو عدماً كما لو كانَ الماء المغسول به الثوب مسبوقاً بالقلّة، فباستصحاب القلّة يندرجُ الماء في موضوع أدلّةِ انفعال الماء القليل فيقدّم ذلك الدليلُ على الاستصحاب المسبَّبي([429]).

ويمكن أنْ يقال عليه: بأنَّ هذا الوجه إنّما يتمُّ لو كانت أدلَّة الاستصحاب تشمل الأصلّ السببي دون المسببي، أمّا لو كانت آثار الأصل السبّبي مقيّدة
بما عدا الأثر الشرعي الذي هو موردُ التنافي فلا يثبت به موضوع كبرى
شرعيته.

والحاصل: إنَّ ما ذكره مبنيٌ على الشمول وعَدَمِهِ ومتفرّعٌ عليه، فكانَ اللازم هو إثباتُ أنَّ الآثار الشرعية بأجمعها تَثْبُتُ بالأصل السببي، فإذا ثبتت تَمَّ المطلوب، وإلاّ فبمجرّد ثبوت السَّبب بدونِ الأثر الشرعيّ الذي هو مورد التنافي لا تثبت الكبرى، ومع ثبوتِ الأثر المذكور لا نحتاجُ إلى ثبوتِ الكبرى.

ويلحق بهذا الموضوع أمور:

الأول: في جريان الاستصحاب في الشكّ المسبَّب

الأمرُ الأول: إنّه يجري الاستصحاب في المسبَّب إذا لم يجر الاستصحاب في السبب، أمّا لمعارضته باستصحاب آخر، كما لو غسل ثوبه في أحد الإناءين اللذين عُلِمَ بوقوع النَّجاسة في أحدهما إجمالاً، فإنَّ استصحاب الطهارة للإناء المغسول به لا يجري لمعارضته بالاستصحاب في الإناء الآخر فيتساقطان ويرجع للأصل الجاري في المسبَّب وهو عدم طهارة الثوب، وأمَّا لعدم تمامية أركان الاستصحاب فيه، وعدم وجودِ أصلٍ آخر فيه يعيّن الحكم، كما لو سَجَدَ على شيء لم يَعْلم أنّه يصحُّ السّجود عليه أم لا، ولا أصلَ يعيّن أنّه مما يصحُّ السجود عليه، فإنَّ استصحاب عَدَمِ امتثال الصّلاة جارٍ، بخلافِ ما لو كان هناك أصل يُعيّن إنه مما يصحّ السجود عليه.

الثاني: السببيُ يقدَّم على المسبَّبي في باقي الأصول

الأمر الثاني: إنَّ ما ذكرناه من تقديم الاستصحاب في الشكَّ السببي
على الشكّ المسبّبي جارٍ حتى في غير ذلك من الأصول، فأصلُ البراءة إذا
كان جارياً في الأصل السببي يقدّم حتّى على الاستصحاب الجاري في
الأصل المسببي، ولذا لو شكّ في صحة وضوئه من جهة شكّهِ في حُرْمَةِ
الماء، فأصالةُ البراءة من حرمة الماء حاكمة على استصحاب عَدَمِ صِحّة الوضوء به، فيجوز له أن يتوضأ به، وهكذا لو شك في طهارة ثوبه الذي تنجس
وغسله بماء مشكوكٍ طهارَتُه، فأصالَةُ الطهارة في الماء حاكمة على
استصحاب نجاسة الثوب لعين ما ذكرناه في وجه تقدّم الاستصحاب السببي على المسببي.

الثالث: السببية والمسببية لا بد أن تكون شرعية

الأمر الثالث: أنْ تكون السببيةُ والمسبّبية شرعية لا عقلية ولا عادية، بمعنى أنْ يكون متعلّق الشكّ المسبَّبي أثراً شرعياً لمتعلّق الشكّ السببي لا أثراً عقلياً، كما لو شكَّ في علمية شخصٍ من جهة الشكّ في وجودِهِ، فاستصحاب نفس وجوده لا يثبت علميته.

نعم، له أنْ يستصحبهما معاً، الوجود مع العلمية، وذلك لما عرفتَ من أنَّ الوجه في تقديم الاستصحاب السببي على المسبَّبي من جهة أنّه يتحقَّق به الموضوع للمسبَّبي، ويرتفع به الشكّ عن المسبّب، وهذا إنّما يتمُّ لو كانَ المسبَّبُ من آثارِهِ الشّرعيّة دونَ آثارِهِ العقليّة والعُرفية، لما تقدَّمَ في مَبْحَثِ الأصلِ المثبت أنَّ المستصحب إنّما تثبت به آثاره الشرعية دون غيرها.

المسألة الثانية من مسائل تعارض الاستصحابين

قد تقدَّمَ الكلامُ في المسألة الأولى من تعارُض الاستصحابين في الشكّ السببي والمسبّبي، والكلام فعلاً في تعارُضِ الاستصحابين في الشكَّين المسببين عن أمر ثالث كالعلم الإجمالي بتناقض الحالة السابقة في أحدهما لا بعينه، وهذه المسألة من مسائل الشبهة المحصورة، وهي من فروع القول بمانعية العلم الإجمالي من جريان الأصل في الأطراف إذا استلزم المخالفة القطعية العملية دونَ المخالفة الالتزامية، فتحقيقُ المقام منوطٌ بالتكلُّمِ بتلك المسألة، إلاّ إنّا نتكلم فيها تبعاً للقوم، فنقول:

إنه لا يمكن الرّجوع فيها إلى المرجحات، بخلافِ الأمارات؛ لأنَّ المرجحات المذكورة في باب التعارض تدلُّ على الحكم الواقعي، فلا يقوى بها الأصلُ؛ لأنَّ الأصل يدلُّ على الحكم الظاهري، أعني: على الحكم في مرتبة الجهل والشك، والمرجّحات تدلُّ على الحكم الواقعيّ، فهما مختلفان في المدلول والمرتبة، فلا يقوى أحدهما بالآخر، ولهذا كانَ الأصلُ لا يرجح الأمارة، هذا مُضافاً إلى أنَّ أخبار الترجيح بالمميزات المذكورة مختصّة بالأخبار المتعارضة، ولا تشمل الأصول، ومنه يعْلَمُ عدم جواز الترجيح بالظنّ غير المعتبر لاختلاف المؤدّى، ولأنّه لا دليلَ على الترجيح به، وأمّا الترجيح بالظنّ المعتبر فهو وإنْ وَجَبَ العَمَلُ على طبقه، لكنّ الاستصحاب وسائر الأصول تسقط عن الحجية مع وجوده، وأمّا الترجيحُ بالأصول فلأنَّ ما كان الاستصحاب مُقدَّماً عليها فهي ليست بمعتبرة معه، وإنّما تكونُ معتبرة عند سقوطِهِ عن الحجيّة، وأمّا ما كانت مقدّمة على الاستصحاب فالاستصحاب يسقط عن الحجية معها، فلا تكون مرجّحة له، إذا عرفت ذلك فالمقام يتصور على وجوه ثلاثة:

أحدها: ما يلزم من العمل بالاستصحابين المخالفة العملية القطعية للعلم الإجمالي، كما في إناءين طاهرين سابقاً، ثمّ علم بتنجس أحدهما، فإنّ استصحاب طهارة كلٍّ منهما تستلزم المخالفة القطعية في العمل للعلم الإجمالي بنجاسة أحدهما، فالاستصحابان لا يجريان للزوم محذور المخالفة القطعية العملية للتكليف المعلوم بالإجمال، لكن المخالفة إنما تكون محذوراً إذا كانت معصية، فإنّه على هذا الفرض يكون العمل بالاستصحابين معصية قطعية، والعمل بأحدهما ارتكاب لمحتمل المعصية، فهو محتمل الضّرر الأخروي، والعقل حاكمٌ بوجوب ترك محتمل الضرر الأخروي، والمخالفة إنما تكون معصية بأمرين:

أحدهما: عدمُ شمول أدلّة الأصول لأطراف العلم الإجمالي، فإنّها لو كانت تشملها وهي تدلُّ على الترخيص في ارتكابها فلا معصية في مخالفة العلم الإجمالي؛ لأنَّ الشارع يكونُ هو الذي رخَّصَ ارتكابها، وقد تقدم، وسيجيء إنْ شاءَ الله في الصّورة الثالثة الكلامُ في ذلك.

ثانيهما: أنْ يكون المعلوم حكماً إلزامياً لا ترخيصياً كالكراهية والاستحباب فإنّ الحكم الترخيصي لا عصيانَ في مخالفته.

والحاصل: إنَّ المهم في هذه الصورة إثباتُ أنّ مخالفة الحكم المعلوم بالإجمال تكون من المعصية للمولى.

ثاني الصور: ما لا يلزم من العمل بالاستصحابين المخالفة العملية القطعية، لكن قام الدليلُ المعتبر على عدم الجمع بين المستصحبين كالماء النجس المتمّم كراً بالطاهر القليل، فإنَّ استصحابَ نجاسة الماء النّجس، واستصحاب طهارة الماء الطاهر مع وحدتهما واختلاطهما لا يلزم منه مخالفة قطعية بارتكابه، لاحتمال أنَّ النَّجس قد طهر، فالاستصحابُ لم ينافِه العلمُ الإجمالي بالنّجاسة لاحتمال أنَّ النجاسة قد زالت، بخلافِ الصّورة الأولى فإنّه يُوجَدُ علمٌ إجماليٌ بالنجاسة سواء استصحب الطرفان أم لا، وإذا عمل بهما يعلم بالمخالفة لحكمٍ إلزاميٍ وهو وجوبُ الاجتناب عن النَّجاسة بخلافه هنا، فإنّه لو عمل بهما لا يحصل له العلم القطعيُّ بالمخالفة للحكم الواقعي لاحتماله أنَّ الماء قد طهر واقعاً، ولكنه قام الإجماع على أنَّ حكم الماءين إذا صارَ ماءاً واحداً أمَّا النَّجاسة فقط أو الطهارة فقط واقعاً وظاهراً.

وعليه: فلا يجري الاستصحابان للزوم محذور المخالفة القطعية للدليل الذي قام على خِلافهما وهو الإجماعُ، والدّليل مُقدَّمٌ على الاستصحاب.

ثالثةٌ الصُّور: ما لا يَكونُ كذلك، أي: ليس يَلْزَمُ من جريان الاستصحابين محذور المخالفة القطعية العملية، ولا محذور المخالفة القطعية للدليل، وإنما كان في جريانهما مخالفة التزامية للواقع، فيجوزُ العَمَل بالأصلين، ولا يوجب العلم الإجماليّ بارتفاع أحدهما عَدَمُ جريان الاستصحابين، كما لو كان الاستصحابان يثبتان التكليف مع العلم الإجماليّ بارتفاع أحدهما، كما لو علم إجمالاً بحدوثِ الطّهارة لأحدِ الإناءين المعلومِ نجاستهما سابقاً، فإنَّ استصحاب نجاستهما لا يلزم منه مخالفة عملية قطعية للعلم الإجمالي بطهارة أحدهما، إذ يجوز له ترك الطاهر وفعله ولا مخالفة للدليل، وهكذا كُلُّ مَورِدٍ يكونُ العلم الإجماليّ متعلّقاً بتكليفٍ غير الإلزاميّ كالاستصحاب والكراهة والإباحة، فإنَّ المخالفة له لا تكونُ مخالفةً عملية؛ لأنه يجوزُ معه الفعلُ والتّرك، كما لو علم به تفصيلاً، ومن هذا الباب ما لو توضّأ غفلة بماء مردَّدٍ بين البول والماء، فإنه يجري استصحاب طهارة بدنه واستصحاب بقاء الحدث، مع أنه يعلم إجمالاً إما بارتفاع طهارة بدنه أو بارتفاع حدثه؛ لأنه إنْ كان ماءاً فقد ارتفع حدثه، وإنْ كان بولاً فقد ارتفعت طهارَةُ بدنه، ولكنَّ العمل بهذين الاستصحابين لم يلزم منه مخالفة قطعية عملية للتكليف؛ لأنَّ العمل بهما هو أنْ يعيد وضوءه بدون تطهير بدنه، وليس في ذلك مخالفة قطعية عملية لتكليف؛ لأنه يحتمل أنَّ ما توضأ به سابقاً كان ماءاً، ولا مخالفة لدليلٍ عقليٍ أو نقليٍ، إذ لم يَقُمْ دليلٌ على امتناع أنْ يكون الشخص محدثاً وطاهر بدنه.

والحاصل: إنّ المكلّف المتردّد بين طهارة بدنه وبين حدثه لا حكم له معين حتّى يكونَ استصحابهما مخالفاً لذلك الحكم لدليل العقل، ولا النقل يمنع من الجمع بين الاستصحابين.

وبعبارةٍ أخرى: إنَّ الحكم بوجوب الوضوء وعدم غسل الأعضاء الذي هو مقتضى الاستصحابين ليس فيه مخالفة قطعيةً لحكمٍ شرعيٍ معلوم بالتفصيل، ولا مخالفة للدليل المعتبر.

نعم، إنّما تلزم المخالَفَةَ الإلتزامية للواقع؛ لأنّ الواقع المعلوم بالإجمال في المثال الأول هو طهارَةُ أحدهما، فالالتزامُ بنجاستهما من جهة الاستصحاب مخالف له، وكذا في المثال الثاني كانَ الواقع المقطوع به بنحو الإجمال هو إمّا طهارة بدنه مع ارتفاع حدثه، أو نجاسة بدنه مع بقاء حَدَثِهِ، فالالتزامُ بواسطة الاستصحاب ببقاء طهارة بدنه وبقاء حدثه مخالفٌ للواقع، وحيثُ كانت المخالفة الإلتزامية بهذا النحو فلا دليلَ على حُرْمتها؛ لأنّها ترجع إلى المخالفة بحسب الالتزام لا بحسب العمل، والمطلوب هو العَمَلُ لا الالتزام، فإنَّ الموافقة الإلزامية لا دليلَ على وجوبها.

أمّا العقل إذ لا يحكم إلا بوجوب الإطاعة وحرمة المعصية عملاً.

وأمّا الالتزام بحكم المولى وإنْ كان يراهُ العَقْلُ من مراتب الانقياد والعبودية للمولى، إلاّ أنّه ليس كُلّ ما كانَ من مراتبها يحكُمُ بوجوبه العقل.

وأمّا نفسُ أدلّة التكاليف فلا تشتمل إلاّ على طلب الفعل أو تركه دون الالتزام به، ولو دَلَّت عليه فهي لا تدلُّ على الالتزام مع الشكّ والتردّد؛ لأنَّ مدلولها طلب معيّن فهي لو دَلَّت كانت دالة على الالتزام بما هو مدلولها المعين، مع أنّ الالتزام بالتكليف المحتمل لا يراه العقل من العبودية، لاحتمال أنه التزام بضدّ ما شرعه المولى، وهو مما يقبحه العقل.

وأمّا أدلّة وجوب الانقياد للنبيّ  (ص)  وتصديقه بما جاءَ به إجمالاً فهو لا يعارض ما يدلُّ على أنَّ الحكم الظاهري كذا، وأنَّ الحكم الواقعيّ غير المنجَّز كذا، فإنَّ ذلك تصديق للنبيّ  (ص)  لأنه الالتزام بما جاءَ به النبيّ  (ص)  في مرحلة الظاهر.

هذا مضافاً إلى أنَّ في المخالفة الإلتزامية لا يكون الحكمُ واقعياً مُنجَّزاً؛ لأنه لا أَثَرَ له في الظاهر حتّى يصحُّ باعتباره التعبُّد به.

وأمّا مُجرَّد العلم الإجماليّ به فغيرُ مانعٍ؛ لأنَّ العلم الإجمالي بحكم الواقعة إنّما يمنع من جَعْلِ حكمٍ يُضادّه في الظاهر إذا كان له أثرٌ باعتباره يتنجَّزُ ويبلغ مرتبة الفعلية فيضادّ المجعول في الظاهر.

وأمّا مع عدم أثرٍ له في العمل فهو باقٍ على واقعيّته وشأنيّتِهِ غيرُ مُتَعَدٍّ منها إلى مقام العمل، فلا يُضادّ المجعول في الظاهر في مقام العمل.

وعليه: فلا مانع من جريان الأصلين اللذين يلزم منهما المخالفة الإلتزامية للواقع غير المنجّز وعدم الموافقة القطعية الإلتزامية له.

إن قلت: إنَّ العلم الإجمالي يمنع بنفسه من جريان الاستصحابين، وعليه فلا فرق بين الصور الثلاث؛ لأنّ قوله  عليهم السلام  في ذيل الرواية: (لكن ينقضه بيقين آخر)([430])، يقتضي نقض اليقين السابق باليقين اللاحق بالخلاف، ولو كان إجمالياً لإطلاقه وعدم تقييده بخصوص اليقين التفصيلي، فكلٌّ من الاستصحابين أو الاستصحابات الجارية في أطراف العلم الإجمالي لا تجري لحصول الغاية في أدلّتها، وهو العلم بالخلاف في كُلِّ واحدٍ منها إجمالاً.

وعليه: فلا فَرْقَ في عَدَمِ جريانِ الاستصحاب في أطراف العلم الإجمالي في الصور الثلاث؛ لأنَّ العلم الإجمالي بالخلاف يكونُ بنفسه هو المانع من شمول دليل الاستصحاب لأطراف العلم الإجمالي، لحصول غاية الاستصحاب به، فلا يصحّ إعمال الاستصحاب، ولا في مجموعها لحصول غايته وهي تعلّق العلم الإجمالي بالخلاف فيه، ولا في واحدٍ من الأطراف باعتبار أنّه أحد الأفراد المردَّد انطباق المعلوم الإجمالي بينها.

وهكذا الكلام في أصلِ البَراءَة ونحوِهِ، وخلوّ هذه القضيّة عن هذا الذيل وهو قوله  عليهم السلام : (لكن ينقضه بيقين آخر) في بعض الأخبار لا ينافي سريان تقييده لها، لوحدة السياق الموجب لظهور وحدتها مع القضية المقيدة بهذا الذيل، وليس هذا الذيل مؤكداً للقضية المقرونة به حتّى يكون دلالته تابعة لدلالتها، بل هو محدّد لها ومقيّد لها، بأنَّ مضمونها وهو حُرْمَةُ النّقض مقيّد بصورةِ عَدَمِ انقلاب الشكّ باليقين بالخلاف تفصيلاً أو إجمالاً، وتظهرُ ثَمَرَةُ النّزاع في مثل الإناءين المعلوم نجاستهما سابقاً، ثُمَّ علم بطهارة أحدهما إجمالاً.

فإنْ قلنا: إنَّ المانع من جريان الأصول في أطراف العلم الإجماليّ هو لزوم المخالفة القطعية العملية فيجري استصحاب النجاسة لكلٍّ منهما، لعدم لزوم المخالفة العملية، ويتنجَّسُ الملاقي لأحدهما.

وإنْ قلنا: إنَّ المانع من جريان الاستصحاب هو نفسُ العلم الإجمالي بالخلاف، فالاستصحاب غير جارٍ فيهما، ولا ينجس الملاقي لأحدهما.

قلنا: إنَّ ظاهر هذا الذيل وهو قوله  عليهم السلام : (ولكن ينقضه بيقين آخر) أنَّ اليقين الناقض متعلّق بنفس ما تعلَّق به اليقين السابق، وليس كذلك في المقام لتعلق اليقين السابق بكلِّ واحدٍ من المستصحبين، وتعلَّق اليقين الإجمالي بأحدهما لا بعينه، فلابُدَّ أنْ يكونَ المراد به اليقين التفصيلي، ولا أقلّ من احتمال ذلك، والدليل مَتَى تطرقه الاحتمال بَطُلَ به الاستدلال، وبعضهم ذَكَرَ إنّ ذيل الرواية (بل تنقضه بيقين مثله)([431])، فيكون أدلّ على المطلوب وأظهر بقرينةِ مثله، فإنَّه يدلُّ على أنَّ اليقين اللاحق كاليقين السّابق في كونِهِ تفصيلياً ومُتعلَّقاً بعينِ ما تعلَّقَ به السابق.

بل يمكن أنْ يقال: إنَّ الظاهر من أخذ مثلِهِ قيداً لليقين حصر النّاقض باليقين التفصيلي، وعدم الاعتناء باليقين الإجمالي في مقام النقض.

ولكن لم أجد هذا الذيل في رواياتِ الاستصحاب فيما يَحْضُرني منها، ولَعلَّه قد وَجَدَهُ في غيرها.

ومما ذكرناه يظهر الحال في باقي الأصول العملية المغياة بالعلم بالخلاف، فإنّا لا نسلّم أنّ العلم الذي أخذ فيها يشمل العلم الإجمالي، ولا أقلّ من الاحتمال، وهو كافٍ في رَدِّ الاستدلال، ويؤكّدُ ظهورَ الذيل في خصوص اليقين التفصيلي، الإطلاق للشكّ المأخوذ في أصل قضية (لا تنقض اليقين بالشك)، حيث إنه يشمل صورةَ الشكَّ مع العلم الإجمالي أو بدونه كالشكّ البدوي، فأصل القضية يدلُّ على حُرْمَةِ نَقْضِ اليقين السّابق بالشكّ اللاحق حتَّى لو كان الشكّ اللاحق مقترناً بالعلم الإجمالي.

والحاصل: إنّ أصل الرواية ظاهرٌ في شمولها لأطراف العلم الإجمالي صدراً وذيلاً، فتكونُ دَالَّةً على جَرَيانِ الاستصحاب في الأطراف، مُضافاً إلى ذلك أنّه لا يُعقل ناقضيّة اليقين الإجمالي بالخلاف لليقين التفصيلي السابق المتعلّق بجميع الأطراف، كما ذَكَرَهُ المرحوم المحقَّق الأصفهاني([432])([433])، فلا يعقل أنْ يكونَ اليقين الإجماليّ بالطهارة ناقضاً لليقين التفصيليّ بالنّجاسة السابق المتعلق بجميع الأطراف في المثال المتقدم؛ لأنه إنْ كان ناقضاً له من جهة اليقين الموجود فيه فهو باطل؛ لأنّ اليقين الموجود فيه لم يتعلّق بالخلاف في سائر الأطراف، وإنّما هو تعلّق بواحدٍ مُردَّد بينها، وإنْ كانَ ناقضاً له من جهة الشكّ الموجود فيه رجع نقضه إلى نقض اليقين التفصيلي بالشكّ؛ لأنّ كُلَّ واحدٍ من الأطراف كان مشكوكاً، وبقاء المتيقّن فيه وإنْ كان ناقضاً له في طرفٍ واحد مُعيَّن فهو أيضاً باطلٌ؛ لأنّه ترجيحٌ بلا مُرَجّح وبلا مُعيَّن، بل أيضاً يرجع إلى ناقِضيّة الشّكّ لليقين التفصيليّ السابق، حيثُ إنَّ المعيّن له مَشكوكٌ وجوده فيه لتردُّدِهِ بين الأطرافِ وإنْ كانَ ناقضاً له في واحدٍ من الأطراف لا بعينه، نظراً إلى تعلّق العلم الإجمالي بالمردَّد، فهو باطلٌ لأنَّ الّلا معيّن يوصف أنه لا متعيّن، وأنه مُردَّد ليس له فردية ولا تشخيص في الخارج ولا واقعية، فإنَّ الشيء ما لم يتعيّن وما لم يتشخّص لا يوجد في الخارج ولا حظّ له من الواقع، فإنَّ الشيء المردَّد عبارة عن مفهوم عقليّ يحتملُ انطباقه على واحدٍ من أشياء متعدِّدة، فإذا تعيّن في فردٍ ذَهَبَ وَصْفُ تردّدِه وانقلب إلى ضِدِّهِ وهو التعيُّن، فلا تُتَصوّر الناقضية فيه في عالم الخارج؛ لأنَّ الناقضية فيه إنّما تكونُ بزوالِ العلم التفصيليّ فيه بعينِهِ، فلا معنى لحُرْمَتها، وإنْ كانَ ناقضاً له في خصوص الطَّرف الذي تبدَّلَ واقِعُهُ وصار في متن الواقع طاهراً في المثال المتقدّم فهو باطل؛ لأنه يَرْجِعُ إلى نَقْضِ اليَقينِ في الشكّ لِعَدِمِ معرفته وتردُّدِهِ بين سائر الأطراف، فالعلم الإجماليّ لم يتعلَّق به بخصوصه.

ثم إنَّ بملاحَظَةِ الواقع لا عِلْمَ إجمالي؛ لأنَّ الواقع المتبدّل في نفسه لا تَرَدُّدَ فيه.

وبعبارَةٍ أخرى: أنّه لا استصحابَ في الواقع؛ لأنَّ الاستصحابَ في مرتبة الشكّ والظاهر، وليس هو في مرتبة الواقع، فإنَّ الواقع إمّا أنْ تبدّل أو لا، فلا استصحاب بالنسبة إليه.

وإنْ كانَ العلمُ الإجماليُّ ناقضاً لليقين التفصيليّ باعتبار تعلُّقه بمجموع الأطراف على وجهِ الانضمام، وذلك اليقينُ بمجموع قد انتقض بارتفاع أحدهما فإنّ الكُلّ يرتفع بارتفاع الجزء، فهو أيضاً باطلٌ لأنَّ اليقين التفصيليّ بمجموع الأطرافِ ليس بموضوع الحكم (لا تنقض)، فلا يشمله وإنّما الموضوع له كُلُّ يقين تفصيليّ طرف من أطرافِ العلم الإجمالي، فإنَّ (لا تنقض) تشمل كُلَّ يقين تفصيليّ بكلِّ طرفٍ على حِدَة، وهو فردٌ بنفسه لا ربط له بفرديّة الآخر، من قبيل شمول العام لأفراده، ولا رَيبَ أنَّ مجموعها منضمٌّ بعضُها إلى بعض ليس بفردٍ له كما هو شأن كُلِّ عامّ وكلّ مطلق، فإنَّ مثل مفهوم (العالم) يشمل زيداً، وعمراً، وخالداً، كُلاً في حَدِّ ذاته ونفسه من دون انضمام زيدٍ إلى عمر وخالد، بل إذا اعتبر الانضمام لم يكن فرداً للعالم، فإنّه لازمه جزئيته للمفهوم ويكون شمول المفهومِ له من قبيلِ شمول المركّب لأجزائه، لا من قبيل شمول العام لأفراده، ولذا كانَ الحُكْم الثابت للعام يفهم منه ثبوته للأفراد لا للمركب منها([434]).

فتلخَّصَ: إنَّ العلم الإجماليّ لا يَصْلُحُ لناقِضيّة العلم التفصيلي بجميع الوجوه والأنحاء، وإنّما كانَ الناقض للعلم التفصيلي هو الشكُّ الموجود معه المختلط به فتشمله أدلّة (لا تنقض).

إنْ قلت: لا ريبَ أنَّ العقل يحكُمُ بوجوبِ الاجتناب للإناءين اللَّذين وقع في أحدهما السمّ القاتل، والعُلَمَاءُ سيرتهم على ذلك، ولذا يمتنعون من شراء المأكولات التي يعلمون إجمالاً بتسمُّمِ بعضها، وفيما نَحْنُ فيه نعلم بوجود القبح والضَّرر بالمخالف في واحدٍ من أطرافِ العلم، ففي ارتكاب الجميع نقطع بارتكابِ القُبْحِ والضَّرر، وبارتكابِ أحدهما يكونُ ارتكاباً لمحتَمَلِ الضَّرر، وعليه ففي الصُّورَةِ الأولى نَحْكُمُ بعَدَمِ جَرَيانِ الاستصحابين.

قلنا: هذا حُكْمٌ للعقل، ولذا يتبعه المتشرّع والملحد، ولم يصدر من العقل حكمٌ بضدّه عندَ الشكّ فيه، وهو تابعٌ سِعَةً وضيقاً لحكْمِ العقل، فإنْ كانَ الضَّرَرُ مما لا يتحمّله الإنسان مَنَعَهُ من ارتكابه حتّى لو كانت الشبهة بدوية غير مسبوقة بالعلم الإجمالي، بخلاف ما نحن فيه، فإنَّ الحُكْمَ المعلوم بالإجمال حُكْمٌ شَرْعيٌ ونَفْسُ مُشرِّعِهِ وهو الشَّارع قد أجازَ مخالفته، وأسقط مراعاته وامتثاله بواسطة أدلّة الأصول الشاملة لأطراف العلم الإجمالي، فالمشرِّع في الأول هو العقل والمشرِّع في الثاني هو الشرع، ولعلَّ خلط أحدهما بالآخر هو الذي أوهم جمعاً من العلماء فذَهَبوا إلى التنجيز بالعلم الإجمالي.

إنْ قلت: كُلَّ ما حَكَمَ به العقل حَكَمَ به الشرع، وقد فُرِضَ إنَّ العقل فيما ذُكِر يَحْكُمُ بالاجتناب، فلا بُدَّ أنْ يكونَ الشّرعُ يَحْكُمُ أيضاً.

قلنا: يمكِنُ الجوابُ عن ذلك:

أولاً: بالنّقض، بأنه لو تَمَّ ذلك لكانَ إلزام الحكم بالاجتناب حتَّى في الشُّبهة البدوية، فإنَّ العقل يحكم بالاجتناب مع احتمال الضَّرر في شيءٍ، فإنَّه مع احتمال أنَّ في شيء سُمّاً قاتلاً يَحْكُمُ العَقْلُ بالاجتناب.

وثانياً: بالحلّ، بأنَّ الضَّرَر في المورد إنّما استفاده العقل من حُكْمِ الشرع، فإذا الشرع أباحَ الارتكاب فالعَقْلُ لم يدرك ضرراً منَجَّزاً عليه تركه؛ لأنَّ إباحة الشرع دليلٌ على تداركه وإلاّ لم يبحه، وإذا الضَّرَر أَدْرَكَهُ العَقْلُ بنَفْسِهِ كانَ الحُكْمُ ما يَحْكُمُ به العقل كالسمّ، فإذا حَكَمَ بوجوبِ اجتنابهِ كانَ حُكمه حتّى في الشبهة البدوية، ويكونُ الشّرعُ تابعاً له، ولا يجري الاستصحاب لقيام الدليل العقلي على وجوب الاجتناب، وهذا إنّما يكونُ فيما يوجب الوقوع في التهلكة، فيكون المقام من قبيل الصّورة الثانية التي يقومُ الدّليل فيها على خلاف مؤدى الاستصحاب.

والحاصل: إنَّ الضَّرر الذي يُدْرِكُهُ العَقْلُ من المولى وبواسطة حكم المولى بالوجوب أو الحرمة يكونُ حكم العقل بوجوب الاجتناب عنه تعليقاً، بمعنى أنه معلّق على عدم الترخيص من المولى، وأمّا الذي يدركه العقل بنفسه فالعقل إذا حكم بوجوب الاجتناب عنه كان حكم العقل تنجيزياً غير معلَّق على ترخيص المولى، ولذا يجتنبه حتّى في الشبهة البدوية بخلاف الأول، وأما الضرر الأخروي فهو لا يحتمل؛ لأنَّ الشارع قد جوَّز الارتكاب بواسطة شمول أدلّة الأصول لأطراف العلم الإجمالي، وذلك يقتضي عدم العقاب على ارتكابها.

والحاصل: إنَّ الضَّرر المحتمل من جهة حُكْمِ الشّارع هو تابعٌ لحكم الشارع وحيثُ الشارع قد جوَّز الارتكاب بواسطة شمول أدلة الأصول لها فالعقل يجوّزه، وهذا هو مَحلُّ كلامنا، وأمَّا الضَّرَرُ المحتمل من جهة حُكْمِ العقل كالتسمُّم بالسمّ والوقوع في المرض أو من شاهق، فالاجتناب عنه تابع لحكم العقل بوجوبِ الاجتناب سعة وضيقاً، فالتسمُّم البسيط العقل لا يمنع الارتكاب كما في التدخين بالتتن ونحوه، كما أنه في المحتمل المهلك يحكم العقل بالاجتناب حتى لو كانت الشبهة بدوية، وأمّا الضَّرر الأخروي فهو لا يحتَمِلُ بعد تجوز الشارع للارتكاب بواسطة شمول بياناته لجواز ارتكاب الأطراف.

إنْ قلت: إنّ العالم بالعلم الإجمالي بثبوت التكليف، وإنْ كان شاكّاً في مورد تكليفه لكنّه عالمٌ بأنَّ في البين تكليفاً، فيتنجَّز عليه بالقدر المعلوم منه تفصيلاً وهو عدم جواز ترك الأطراف، فإنَّ هذا التكليف معلومٌ تفصيلاً؛ لأنّ بترك الأطراف في الشبهة الوجوبية يعلم بترك الواجب تفصيلاً، وبفعل الأطراف في الشبهة التحريمية يعلم بارتكاب الحرام تفصيلاً، وهذا المقدار من التكليف ليس فيه ستر ولا حجب، وذلك يقتضي ألاّ يجعل المولى عُذراً لمخالفته؛ لأنه ليس للمولى الترخيص في مخالفة المعلوم بالتفصيل، وهذا معنى ما تسمعه من أنَّ تأثير العلم الإجماليّ بالنسبة إلى المخالفة القطعية تنجيزي وليس بمعلّق على عدم الأذن من المولى، وأنّه يمتنع ذلك منه لأنّه أذن في المعصية، فإنَّ بعد العلم الإجمالي بتعلّق الإرادة الجديّة من المولى بأمرٍ لا يبقى مجالٌ للشكّ في حكم العقل بتنجيزه، بمعنى عدم جوازِ مخالفته القطعية واستحقاق العقاب عليه.

قال أستاذنا الشيخ الأجلّ الشيخ كاظم الشيرازي: (إنه إلى ذلك يرجع كلام شيخنا الأكبر من أنّ الجهل غيرُ قابلٍ لأنْ يكون عذراً)، معلّلاً أستاذنا الشيرازي ذلك بأنَّ الجهل الموجود في العلم الإجمالي من كون المعلوم مُردَّداً مورده لا ربط له بتأثير العلم الإجمالي بهذه المرتبة، نعم الجَهْلُ المذكور إنّما يؤثر في وجوب الموافقة القطعية، فيمكن أنْ يقال: إنَّ الجهل المذكور لمّا كانَ المورد غير معلوم معه ومحجوباً عنّا به أمكن للمولى جَعَلَ حكم ظاهري بالنسبة إليه.

والحاصل: إنَّ حكم العقل بالنسبة إلى حرمة المخالفة القطعية تنجيزي غير معلّق على عدم صُدورِ التّرخيص من المولى، وبالنسبة إلى وجوب الموافقة القطعية تعليقي، بمعنى أنَّ العقل يحكم بوجوب الموافقة القطعية إذا لم يرخّص المولى بتركها بأنْ يأذن فيما عدا مقدار المعلوم الإجمالي، ومن هذه الجهة جعل أستاذنا المذكور إنَّ التعرّض لحكم العلم الإجمالي بحرمة المخالفة في مباحث القطع؛ لأنّها ترجع لمخالفة العلم التفصيلي، والتعرّض لحكم العلم الإجمالي بوجوب الموافقة في مباحث الاشتغال.

قلنا: إنَّ كونَ العلم الإجمالي علّة تامة لحكم العقل بحرمة المخالفة القطعية بحيث يمتنع على المولى الترخيص بها والإذن فيها نمنع منه، فإنّ ذلك إنما يكون إذا تنجّز الخطاب المولويّ بالعلم الإجمالي وهو لم يتنجّز به، إذ لو تنجز به لوجبت وجوباً تنجيزياً موافقته القطعية، ولذا التكليفُ لمّا كانَ منجّزاً قبل الفحص وَجَبَ إتيان مشكوكه حتّى لو كان مشكوكاً بالشكّ البدوي، فمع تجويز أنْ يرخّص المولى في عدمها يقتضي عدم تنجيزهِ جاز مخالفته القطعية، ولا يخفى أنّ العقل إنّما يحكم بحرمة المخالفة ووجوب الموافقة إذ لم يصدر من المولى الترخيص، ومع صدور الترخيص ليس له حكمٌ بذلك، فحكم العقل في كلا المرحلتين تعليقيٌّ قد عُلِّقَ على عدم صدور ترخيصٍ من الشارع في مخالفته.

وقياسُ العلم الإجماليّ على التفصيلي لا وجه له، لإمكان جعل الترخيص من المولى في الأول لكون المكلف به مجهولاً ببعض الاعتبارات، بل العلم التفصيلي بالتكليف إذا وجد في المكلف به ما يصلح للعذر، صَحَّ من المولى رفع تنجُّزه كالتقية والحرج، ولا ريبَ أنَّ الجهل بالمكلّف به في العلم الإجمالي بالتكليف يكونُ نِعم العذر الذي يصحُّ للمولى أنْ يرفع تنجزه.

وإنْ شئت قلت: إنَّ العلم التفصيلي بالتكليف علّة تامة لحكم العقل بحرمة مخالفة التكليف ووجوب موافقته، فينافيه إذن الشارع وترخيصه بلا عذر، وأما العلم الإجمالي فليس بعلّة تامة، بل هو علّة لحكم العقل بوجوب الموافقة، وحرمة المخالفة معلّق على عدم صدور الإذن والترخيص من الشارع.

والحاصل: إنه في العلم الإجمالي لا يكون بين حكم العقل بالموافقة وعدم جواز المخالفة، وبين إذن الشارع في المخالفة تعارضٌ، بل الإذن واردٌ على حكم العقل كورود دليل الحرمة على أصالة البراءة.

إذا عرفتَ هذا: فلا مانع من شمولِ أدلّةِ الأصول لأطراف الحكم الإجمالي.

إنْ قلتَ: سَلَّمنا ذلك، لكن العقل يمنعُ منه لأنه لا إشكالَ في مُضَادَّة الأحكام بعضها مع بعض، فلا بُدّ أنْ يكونَ العلمُ بحكمٍ يمنعُ من الدليل على مخالفته، فالعلمُ الإجماليُّ بخلاف مؤدّى الأصول الجارية في الأطراف يمنعُ منها، فالعلم الإجماليُّ بطهارة أحد الإناءين يعاند ويضادّ الحكم بنجاستهما المستصحبة لهما؛ لأنّ الفرض إنَّ العلم الإجمالي قد تعلَّقَ بالحكم الذي لو تعلَّقَ به العلم التفصيلي لكان حُكْماً حقيقياً تامّ الحكمية، مع أنّ مؤدّى الاستصحابين أو الاستصحابات الجارية في أطراف العلم الإجمالي مضادّة له ومغايرةٌ له، فيلزم اجتماع الحكمين المضادّين في موردٍ واحدٍ، وهو المورد المتّصف واقعاً بالحكم المعلوم بالإجمال ومع وجودِ المضادّ الواقعيّ من الشارع لا يعقل جعله لضده، فلا يعقل شمول أدلّة الأصول لأطراف العلم الإجمالي.

قلنا: اختلاف المرتبة يصحح الجمع، فإنَّ الأصول حكمها في مرتبة الشكّ والمعلوم بالإجمال في مرتبة الواقع، وهذا هو المحذور الذي ذكره القوم في اجتماع الحكم الظاهري مع الواقعي، فما أجبنا به هُناكَ حرفياً نُجيبُ به هنا، وقد تَقَدَّمَ منّا في أصلِ البراءة ما ينفعك هنا ويصحّح الاجتماع من أنّ للشارع وللمولى أن يجعل في مرتبة الظاهر وهي مرتبة الجهل بالواقع ما هو خلاف الواقع، ألا ترى أنّ للمولى أنْ يقول لعبده: (أكرم زيداً)، ثُمَّ يقولُ له: (إذا لم تعرفه بعينه فلا يجب عليك إكرامه)، فلو تردَّد عندَه بين اثنين أو ثلاثة ولم يكرمهم، أجرى أصلُ البراءة من وجوبِ إكرامهم، فهل ترى في نفسك أنَّ للمولى أنْ يعاقب عَبْدَهُ على عدم إكرامهم.

 

 

المصدر الرابع والعشرون
أصالة تأخر الحادث
والاستصحاب في مجهولي التاريخ

إنَّ الحادث المعلوم وجوده إذا شُكَّ في تقدّمِهِ وتأخّرِهِ، فأصالةُ تأخّر الحادث تقتضي تأخّر حدوثه، وهي تارةً تجري في الشكّ في تقدّم حدوثه أو تأخّر حدوثه بالنسبة إلى الزمان الذي عُلِمَ وجودُهُ فيه، وتارةً تجري في الشكّ في تقدُّم حدوثِهِ وتأخّره بالنسبة إلى حادث آخر.

أما الكلام في المقام الأول: وهو ما إذا حَصَلَ القَطْعُ بحدوث حَادِثٍ وشُكَّ في زمان حدوثه، وأنَّ مبدأ حدوثه متقدّم على الزمان الذي عُلِمَ وجودُهُ فيه أو متأخّر حدوثه إلى الزمان الذي حدث فيه، أي: شكَّ في وقت حدوثه أنه سابق أو آني، كما إذا علمنا بعدالة زيد يوم الجمعة، وشككنا في أنّها حدثت يوم الخميس أو حدثت يوم الجمعة، فأصالةُ تأخّر الحادث إلى زمان العلم به تقتضي مبدأ عدالته يوم الجمعة، ومثله ما إذا قطعنا بالهلال في هذه الليلة، وشككنا في مبدأ حدوثه في أنه هذه الليلة أو قبلها، فأصالةُ تأخُّرِ الحادث تقتضي أنه في هذه الليلة، وهي بعكس أصالة تشابُه الأزمان المسمَّاة بالاستصحاب القهقرى، وهي كما تجري في الوجوديات كذلك تجري في العدميات كالعَمَى والجهل والكفر.

ولا دليلَ لَهُمْ على حُجيّة هذا المصدر الذي هو أصالة تأخر الحادث إلا أمران: الاستصحاب وبناء العقلاء.

ويورد عليه: إنَّ بناء العقلاء غيرُ ثابت، وإنَّ الاستصحاب إنْ كان لنفس طبيعة التأخر الزماني للحادث فهو لا يجرى؛ لأنَّ نفس التأخّر أمرٌ وجودي حادثٌ بحدوث الشيء في زمانه، ولا يقينَ سابق به، وإنْ كان الاستصحاب لنفس عدم الحادث إلى زمان العلم بوجوده، فهو إنّما يثبت عدمه إلى وقت العلم بوجوده، ولا يُثبِتُ أنّ الوقت المذكور هو مبدأ حدوثه، فإنّه لازم عقلي للاستصحاب، فإذا قطعنا بوجود عدالة زيدٍ يوم الجمعة وشككنا في أنَّ حدوثها يوم الخميس أو يوم الجمعة، فاستصحابُ عدم حدوثها إلى حدّ يوم الجمعة يُوجبُ ترتيبَ الآثار الشرعيّة لعدمها، أو نفي آثارها الشرعية لوجودها الى حَدِّ يوم الجمعة، ولا يثبت بذلك أنّها حَدَثَتْ يوم الجمعة حتَّى يرتب الآثار الشرعية لحدوثها في يوم الجمعة؛ لأنّ ذلك لازمٌ عقلي لعدم الحدوث، وقد عرفت أنّ اللوازم العقلية لا تثبت بالاستصحاب.

وجوابه: إنّ التحقيق: إنّ الحدوث إذا أُخِذَ موضوعاً للحكم، فالعرف لا يفهم منه إلا أمراً مركّباً من الوجود في الزمان اللاحق وهو محرز بالوجدان، ومن عدم الوجود في الزمان السابق على هذا الوجود وهو المحرز بالأصل، ولهذا ترى الفقهاء يبنون على أوّلية اليوم للشهر مع سبقه بيوم الشكّ؛ لأنَّ أولية الزمان للشهر هو زمانُ حدوث الشهر، فاستصحابُ عدم الشهر إلى هذا اليوم الذي تيقَّن به وجود الشهر يثبت إنّ الشهر حَدَثَ هذا اليوم.

 والحاصل: إنَّ الحدوث الذي هو أوّليةُ الوجود إنّما يرتب عليه الأثر الشرعي لو أخذ في لسان الدليل، وإذا أخذ في لسانِ الدليل فالمرادُ به المعنى العرفي، وهو معنىً مركَّبٌ من الوجود للشيء والعدم السابق عليه إلى زمان وجودِهِ، والأوّلُ محرز بالوجدانِ، والثّاني مُحْرَزٌ بالأصل.

نعم، لو قلنا بأنّه معنىً بسيط منتزع من الوجود المسبوق بالعدم، أو أنَّهُ عبارة عن الوجود ذي سابقية العدم عليه، بأنْ يكون الوجود المتّصف والمقيّد بسبق العدم عليه لم يثبت ذلك أنه لازم عقلي.

إن قلت: إنّ ذلك معارَضٌ باستصحاب عَدَمِ مُقارَنَةِ عَدَمِ الحادِثِ للوقت الذي عُلِمَ وُجودُه فيه.

قلنا: ليست المقارنة والاتّصالُ إلاّ عبارة عن عدم الحادث إلى زمان العلم بوجوده، وهذا نظيرُ استصحاب أجزاءِ المركَّب وشرائطه مع أجزائه المحرزة بالوجدان، ومن هُنا يتّضحُ الحال فيما لو عُلِمَ إجمالاً بحدوثِ الحادث في أحد الزمانين، وانعدامِهِ بَعْدَ حدوثه في أيّ واحدٍ منهما، كما لو عُلِمَ إجمالاً بحدوث الكُرّيّةِ في يوم الخميس أو يوم الجمعة، ولكن لو كانت يوم الخميس فقد انعدمت يوم الجمعة، ولو كانت يوم الجمعة انعدمت يوم الخميس، فإنّه يستصحب عدمها إلى حَدِّ يومِ الجمعة باعتبار إِنّه الفرد الطويل لعدمها الذي تيقّن بوجوده قبل يوم الخميس وشكَّ في بقائه إلى يوم الجمعة، ولكنّه لا يرتّب آثار وجوده وحُدُوثه يومَ الجمعة لِعَدَمِ إحراز وجودِهِ فيه بالوجدان، ولا آثار عمله يوم الجمعة للعلم الإجمالي بحدوثه إمّا فيه أو في يوم الخميس.

أمّا الكلام في المقام الثاني: أعني فيما إذا شُكَّ في تأخّر حدوث الحادث زماناً أو تقدّمه بالنسبة إلى الحادث الآخر مع العلم بعدم مقارنتها في مبدأ الحدوث، كما لو أقيمت الجمعة في مكانين وكانت المسافة بينهما دون ثلاثة أميال فلم يدرِ بأيٍّ منهما يلتحق لشكّهِ في تقدّم إحداهما على الأخرى، فإنَّ المتقدمة منهما تكون هي الصّحيحة، والأخرى فاسدةٌ، والاستصحابُ المتصوَّرُ في هذا المقام على وجهين:

[الوجه] الأول: أنْ يكونَ مجراهُ نَفْسُ عنوان التقدّم والتأخر، بأنْ يجري إما في العدم لكلٍّ منهما إذا كان له أثرٌ شرعيٌ، أو ينفي به أثراً شرعياً، وهو لا يصلح لتعارض استصحابي العدم الأزلي فيهما، للعلم الإجمالي بتقدّم أحدهما على الآخر، بناءً على مسلك القوم من التعارض بين الاستصحابين عند العلم الإجمالي بانتقاض الحالة السابقة، ففي المثال يجري استصحاب عدم تقدم أو تأخر إحدى الجمعتين على الأخرى، فيقع التعارض بينهما، فلا تثبت صحة واحدة منهما، وتجب عليه صلاة الظهر، هذا إذا لم يتحمّل تقارنهما، وإلا إذا احتمل التقارن جَرَىَ الاستصحاب لعدم العلم بمخالفة أحدهما للواقع لاحتمال التقارن، هذا بالنسبة إلى استصحاب العدم للتقدم والتأخر.

وأما استصحاب الوجود لهما، أعني: وجود عنوان التقدم والتأخر الزماني كما في الأمور التدريجية، مثل ما لو كان المأموم يَعْلَمُ سابقاً بتقدُّم أفعال الإمام زماناً على أفعالِهِ الذي هو شَرْطُ صِحّةِ الجماعة، فإذا شكَّ في بقاء هذا التقدم في أثناء صلاته خلف الإمام استصحبه.

وكيف كان؛ فإنَّ هذه العناوين وجوداً وعدماً يجري فيها الاستصحاب إذا جمعت شروطه، هذا بالنسبة إلى عنوان التقدم والتأخر إذا كان الأثر الشرعي لكلّ منهما وجوداً أو عدماً، وإنّما اشترطنا العلم بعدم تقارنهما في مبدأ الحدوث لانه إذا احتمل تقارنهما في مبدأ الحدوث، فاستصحاب عدم تقدم أحدهما على الآخر يجري ولا معارضة بينهما لاحتمال التقارن، فيثبت التقارن في مبدأ الحدوث إذا كان الأثر مرتباً على مجرّد التقارن والاجتماع في الوجود، كما في استصحاب أجزاء المركّب وشرائطه، بضمّ استصحاب عدم كُلِّ واحدٍ منهما إلى زمان العلم بوجودهما، وإنْ كانَ استصحابُ نفس عنوان التّقارن في الحدوث لا يصحّ؛ لأنه لا علم لنا به سابقاً بل عَلِمَ بعَدَمِهِ الأزليّ، كما لو شكَّ في تقدّم موتِ الأبِ على الابن حتَّى يرثُ الابن، أو تقدّم موت الابن على الأب حتى يرث الأب، ويحتمل تقارنهما فلا يتعارض الاستصحابان.

نعم، إذا علم إجمالاً بالتقدّم أو التأخّر دونَ احتمال التقارن تعارض الاستصحابان للعلم بكذب أحدهما، فيجري استصحاب عدم تقدّم أحدهما على الآخر إذا كان للتقدّم والتأخّر أثرٌ شرعيٌّ وجوداً وعدماً كما في المثال، والأحرى الاستصحاب فيما له الأثر، وإذا تعارضا فلا إرثَ لأحدهما من الآخر.

الوجه الثاني: أنْ يكونَ مجرى الاستصحاب في نَفْسِ الحادثين، وهو إمّا أنْ يكونَ مجراه الوجودُ وهو غيرُ صحيحٍ للقطع بوجودِهِما فعلاً وعَدَمُ وجودهما سابقاً، وأمّا أنْ يكونَ مجراه العدم، فإنْ كانَ الاستصحابُ لعدمهما فعلاً فهو غيرُ صَحيحٍ للعلم بوجودهما فعلاً، وإنْ كانَ لعَدَمِ كُلٍّ منهما إلى زمان وجودِ الآخر كما لو علم فعلاً بحدوث الكُرّيّةِ للماء ومُلاقاتِهِ للنَّجَاسَة، ولم يعلم أيُّهما أسبق، وقلنا بأنَّ الماء القليل المتنجّس لا يطهر بمتمّميته كُرّاً، فيجري استصحاب عدم كلّ منهما إلى ظرف وجود الآخر، ومثله ما إذا علم بموت الأب والابن ولم يعلم أيّهما المتأخّر، فإنْ كانَ المتأخّرُ موتُ الأب فهو يَرِثُ الابن، وإنْ كانَ المتأخر موت الابن فهو يرث الأب، إلاّ أنَّ الاستصحاب لعدم كُلٍّ منهما حَتَّى وجود الآخر يتعارض مع العلم الإجماليّ بأسبقيّة أحدهما حدوثاً.

نعم، ترتفع المعارضة في ثلاثة موارد:

أحدها: إذا لم يَعْلَم بالأسبقيّة في الحدوث واحتمل التقارن والاجتماع في الحدوث، وقد عَرَفْتَ أنَّه يجري استصحاب عَدَمِ كُلِّ منهما إلى زمان العلم بوجودهما، ويثبُتُ تقارنهما في الوجود واجتماعهما في الوجود بواسطة استصحاب العدم الأزليّ لكُلّ منهما إلى زمان العلم بوجودهما، والعلم الوجداني بوجودهما وهو التقارن، ففي المثالين إذا لم يعلم بأسبقيّة موتِ الأب أو موتِ الابن واحتمل تقارنهما، فاستصحابُ عَدَمِ الموتِ لكلٍّ منهما مع العلم الوجداني بموتهما يُثْبِتُ تقارنهما في الحدوثِ وعدم الأسبقية لأحدهما على الآخر إذا قلنا إنَّ عَدَمَ الأسبقية هو عبارة عن التقارن في الوجود.

ثانيها: إذا لم يَكُنْ أثرٌ شرعيّ للحادث في زمان الحادث الآخر حتَّى ينفى باستصحابِ عَدَم ذلك الحادث، ولا أثَرَ شرعيّ لعدمه حتّى يثبت باستصحاب ذلك العدم، كما في صورة ما إذا طلّق زوجته وعقد عليها شخصٌ آخر، وعلم أنَّ أحدهما مُقدَّمٌ على الآخر ولكنْ غيرُ معيّن هل الطلاق أو العقد، فإنَّ استصحاب عَدَمِ طلاقِ زوجَتِهِ حتَّى حين عقد الغير عليها له أثرٌ شرعيٌ وهو فسادٌ عقدِ الغير عليها وصحّة عدم وطئه لها، وأمّا استصحابُ عدم عقد الغير عليها إلى حين زمان طلاقها فلا أثر شرعيّ له فلا يجري حتى يعارض استصحاب عدم الطلاق، إذ لا ريب إنَّ الاستصحاب إذا لم يثبت به أثر شرعي ولم ينفه لا يجري؛ لأنَّ الاستصحاب يقتضي حُرْمَةَ النقض، والنَّقْض إِنّما
يكون مع وجود الأثر الشرعيّ أو نفيه، إذْ مَعَ عدم الأثرِ الشرعيّ لا يُتَصَوَّرُ النقض ولا يتحقَّق، مع أنَّ الاستصحاب هو إلزام الشارع بالبقاء عملاً، ولا معنى لإلزامه ببقاء الشيء في الواقع من دون عمل؛ لأنَّ الشيء في الواقع لو كانَ غير باق في الواقع لا يمكن الإلزام به كذلك، وإنْ كانَ باقياً فهو باقٍ بنفسه
فلا حاجة للإلزام به، فلا بُدَّ أنْ يكونَ مُرادُ الشّارع من إلزامٍ بالبقاء هو ترتيبُ آثار البقاء في مقام العمل، وهو إنّما إذا كان للشيء أثرٌ شرعي أو كان بنفسه
أثراً شرعياً، إذ ليس للشّارع بما هو شارعٌ أنْ يلزم بالبقاء في غير حُدودِ دائرته وأفقه.

ثالثها: إذا لم يَكُنْ أحدهما معلوماً تاريخ حدوثه، فإنّه لا يكونُ تعارضاً في الاستصحاب؛ لأنَّ معلومَ التاريخ لما علم تاريخ حدوثه لم يَكُنْ شكّ في تاريخ وجودِهِ ولا عدمه، إذْ قبل زمان حدوثه معلومٌ زمانُ عدمه، وبَعْدَ حدوثه معلوم زمان حدوثه ووجوده، فلا شكَّ في وجوده ولا عدمه حتّى يستصحب، وحينئذٍ يجري استصحابُ عدم مجهول التاريخ إلى زمان معلوم التاريخ، فيثبت الموضوع المركّب من عدم مجهول التاريخ، ومن وجود معلوم التاريخ، والجزء الأول بالاستصحاب، والجزء الثاني بالوجدان، فمثلاً لو شُكَّ في تقدُّمِ موتِ الابن على موتِ الأب أو تأخُّره عنه، ولكنْ عُلِمَ تاريخُ موتِ الابن يوم الجمعة وجُهِلَ تاريخُ موتِ الأب، فإنّه يُستصحَبُ عَدَمُ موتِ الأب حتّى حين موت الابن وهو يوم الجمعة، فيَثْبُتُ عَدَمُ موتِ الأب بالاستصحاب إلى يومِ الجمعة، وموت الابن بالوجدان يوم الجمعة فيرث الأب، ولا يستصحب عدم موت الابن لأن عدم موته قبل الجمعة معلومٌ، وفي الجمعة معلوم الموت، فلا شكَّ في موته حتى يستصحب عدمه أو بقاءه.

وما يُتَوَهَّمُ من أنَّ معلوميّة معلومِ التّاريخ إنّما كانت بالنّسبة إلى أجزاء الزمان، وأمّا بالنسبة إلى زمان حدوث مجهولِ التاريخ فحدوثُهُ مشكوكٌ فيه أنه قبله أو بعده فيستصحب عدمه بهذا الاعتبار، فيعارض استصحاب عدم مجهول التاريخ ويتساقطان.

وبعبارة أخرى: عَدَمُ الحادث المعلوم يستصحب بالإضافة إلى حدوث الآخر المجهول للشكّ في أنّه قبله أو بعده، ففي المثال موت الابن معلوم بالنسبة
إلى أجزاء الزمان وأنّه يومُ الجمعة، وأمّا بالنسبة إلى موتِ أبيه فهو مشكوكٌ فيه بأنه قبل موت أبيه أو بعده أو مقارنٌ له، فيَجري استصحابُ عَدَمِ موتِ الابن إلى ما بَعْدَ موتِ أبيه، فيَتَعَارَضُ مع استصحاب عَدَم موتِ الأب إلى ما
بعد موت الابن.

وقد أجيب عنه، بتوضيح منّا: بأنّه إنْ أريد باستصحاب عدم المعلوم التاريخ حتّى زمان مجهول التاريخ، هو لحاظ عدم وجود المعلوم بالإضافة إلى المجهول على وجهٍ يكون زمان المجهول ظرفاً وزماناً مَحْضَاً لعدم المعلوم، فهو عبارة عن لحاظ المعلوم بالإضافة إلى أجزاء الزمان، وقد عَرَفْتَ أنَّه معلوم الحال بالنسبة إليها، ولا يُشَكُّ فيه حتَّى يستصحب بأنْ يكون في المثال المذكور المراد استصحاب عدم موت الابن المعلوم أنه يوم الجمعة حتى زمان موت الأب المجهول وقته على وجهٍ يلحظ فيه زمان موت الأب المجهول ظرفاً وزماناً محضاً لعدم موت الابن المستصحب، فهو لا وجه له؛ لأنَّ عدم موت الابن معلوم حاله في سائر أجزاء الزمان.

وإنْ أريدَ به لحاظُ عدم المعلوم بالإضافة إلى المجهول على نحو يكونُ هذا العَدَمُ مقيّداً بكونهِ حِينَ وُجودِ المجهول، فهو ليس له حالةٌ سابقةٌ متيقّنة حتى يستصحب، بأنْ يكون في المثال المذكور المراد استصحابُ عَدَم موتِ الابن الذي عُلِمَ أنّه يومُ الجمعة، مقيّداً هذا العدم بكونه في ظرف موت الأب المجهول وقته بأنْ يستصحب عَدَمُ موتِ الابن بقيدِ كونِهِ في ظرف موتِ الأب فهو باطل؛ لأنّه ليس له حالة سابقة متيقّنة عندنا حتَّى يستصحب، واستصحاب العَدَم الأزلي إنّما يتصور بلحاظ نفس الزمان، وقد عَرَفْتَ أنَّ عَدَمَ المعلوم بالنسبة إلى نفس الزمان غيرُ مشكوكٍ فيه.

والحاصل: أنّا نستصحب عَدَمَ مجهول التاريخ إلى نفس الزمان والظرف الذي حدث فيه معلومُ التاريخ، فيُحْرَزُ مقارَنَةُ عَدَمِ مجهول التاريخ مع حدوث معلومِهِ بالأصل والوجدان، ولا يصّحُّ استصحابُ عدم معلوم التاريخ إلى زمان ظَرْفِ حُدوثِ مجهولِ التاريخ لأنّه معلومُ الحالِ في سائر أجزاءِ الزَّمان([435]).

وقد أورد على هذا الجواب جُمْلةٌ من المعاصرين، بأنَّ معلوم التاريخ إذا لوحظ إلى نفس أجزاء الزَّمان كان الأمر كذلك من كونه معلوماً حاله، ولكن مَحَلُّ كلامِنا هو لحاظه بالنّسبة إلى ظَرْفِ الحادِثِ الآخر المجهول تاريخُهُ، ولا رَيْبَ أنَّ معلوم التاريخ بالنسبة إلى ظرف مجهول التاريخ مشكوكِ حالِهِ لعدم العلم بتقدّمه عليه أو تأخره، فإنَّ موتَ الابن المعلوم يوم الجمعة إذا لُوحِظَ بالنّسبة إلى نفس الزمان لم يَكُنْ مَجهولاً حاله، ولكنّه إذا لُوحِظَ بالنّسبة إلى موتِ الأب الذي هو مَجْهُولُ وقِتِهِ يكونُ أيضاً مجهولاً حاله لعدم العلم بتقدّمه على موتِ الأب أو تأخّره عنه، فيُستَصحَبُ عَدَم موت الابن إلى زمان موت الأب، كما يُستصحب عدم موتِ الأب إلى زمانِ موتِ الابن فيَقَعُ التعارُّضُ، وهَكَذَا الكَلامُ في أمثاله، إلاّ إذا كانَ أحدُ الاستصحابين لا أثرَ شرعيّ له([436]).

والإنصاف: إنَّ معلومَ التاريخ لا يجري في عَدَمِهِ بالإضافة إلى الحادثِ الآخر للاستصحاب؛ لأنَّ معلومَ التاريخ كانَ معلوماً أنّه منطبقٌ على قطعة خاصّة من الزمان، فكما أنَّ كُلَّ قطعة من الزمان لا يجري استصحابُ عَدَمِها بالنّسبة إلى الحادث الذي يجهل تقدّمه عليها أو تأخّره عنها مع أنّها تكونُ مشكوكةَ التقدّم والتأخّر بالنسبة إليه، وإنّما يجري عدم الحادث بالنسبة إليها، فكذلك ما كان منطبقاً عليها، ففي المثال المتقدّم يوم الجمعة لا يستصحب عدَمَه إلى زمانِ موت الأب، مع أنّه مشكوكُ تقدّم موتِ الأبِ عليه أو تأخّره عنه، كذلك موتُ الابن المعلوم وقوعُهُ في يومِ الجمعة لأنّه يكونُ كنفس الزَّمان، فإنَّه لو تَمَّ ذلك لمَّا جرى استصحاب أيّ حادثٍ شكَّ في تقدّمه على قطعةٍ من الزّمان أو تأخّره عنها؛ لأنه على ما ذَكَرَهُ الخَصْمُ يكونُ معارضاً باستصحاب عَدَمِ تلك القطعة من الزمان بالنسبة إليه؛ لأنَّ الشكَّ المذكور يُولِّدُ الشكَّ في تقدّم تلك القطعة من الزمان على ذلك الحادث أو تأخّرها عنه، فمثلاً نستصحب عَدَم موت زيد إلى يوم الجمعة عندما نشكُّ في أنَّ موته وَقَعَ يوم الجمعة أو يوم السبت، فيثبت عَدَم موته يوم الجمعة، وعلى ما ذَكَرَهُ الخَصْمُ يكونُ معارضاً باستصحابِ عدم يوم الجمعة عند عدم موته؛ لأنَّ موته كانَ مردَّداً في أنَّه يوم الجمعة أو يوم السبت فلا يعلم أنه بعد يوم الجمعة أو في يومها، ولازم ذلك هو الشكّ في تقدم يوم الجمعة على موته أو أنّه فيها، ومثله لو شكَّ في أنّه أجنب يوم الجمعة أو السبت فإنّه يستصحب عدم جنابته حتّى يوم الجمعة، ولكنْ على ما ذكره الخصم يكون معارضاً باستصحاب عدم يوم الجمعة في زمانِ عدم جنابته لشكّهِ في تقدمه على عدم الجنابة أو تأخره عنه.

والسرُّ في ذلك: إنَّ الاستصحاب إنّما يكونُ فيما إذا كان هناك شَكٌّ في البقاء زماناً للشيء كما هو المتيقّن من أدلّته، وفي معلومِ التّاريخ ليس الشكُّ في استمرارِ زمانه وجوداً أو عدماً لمعلومية ذلك، وإنّما الشكُّ كانَ في تقدّمِهِ على الحادث المجهول التاريخ أو تأخره عنه، ولا ريبَ أنَّ استصحابَ عَدَمِ معلومِ التاريخ لا يُوجِبُ استمرارية ذلك العدم إلى زمانِ وجود مجهولِ التَّاريخ، كما أنَّ عَدَمَ استصحابه لا يوجب نقصان زمانه.

وإنْ شئتَ قُلتَ: إنَّ الأثر الشرعيّ مُرتَّبٌ على المقارنة الزمانية بين عدم أحدهما وبين وجود الآخر، وحيثُ أنَّ معلومَ التّاريخ معلومُ زمانِهِ وحالِهِ فلا مجالَ لاستصحابه زماناً لإثباتِ المقارنة، بخلافِ استصحابِ المجهولِ للشكّ في استمرارِ وجودِهِ زماناً فيُستَصْحَبُ عَدَمُه ويَثْبُتُ مقارنته زماناً لوجود المعلوم.

ودعوى استصحاب العدم لمعلوم التاريخ حتَّى زمانِ مجهول التاريخ الواقعي فيثبت مقارنته.

فاسدةٌ؛ لما عَرَفْتَ من أنَّ استصحاب العدم للمعلوم التاريخ إنْ كان بقيدِ أنَّه مقارِنٌ للوجود الواقعيّ للمجهول التاريخ فليس له حالةٌ سابقة، وإنْ كان لا بهذا القيد، بل يكونُ استصحاباً للعدم الأزليّ إلى زمانِ وظرفِ الوجود الواقعيّ لمجهولِ التاريخ ليثبت مقارنته له في زمانه وظرفه، فهو لا يصحّ لعدم الشكّ في معلومِ التاريخ طول الزمان الذي وُلِدَ فيهِ مجهولِ التَّاريخ من أوّلِهِ إلى آخره، فإنَّ معلومَ التاريخ في هذه القطعة من الزمان والظرف إمّا معلومُ العَدَمِ أو معلوم الوجود، وأمّا جَهْلُ التقدُّم والتأخُّر على مجهولِ التاريخ فليسَ من وظيفة الاستصحاب إزالته، فلا يثبت التقدّم على شيءٍ والتأخُّر عنه أو المقارنة له، وإنّما يثبت الاستمرارُ زماناً للمستصحب، وإذا ثبتت بالاستصحاب المقارنة فمن جهة العلم الوجداني بالشيء، واستصحاب العدم للشيء الآخر، وإلاّ فالاستصحاب لا يثبت المقارنة.

والحاصل: إنَّ معلومَ التاريخ كُلّ قطعة من الزمان معلوم حاله وجوداً وعدماً، فلا زمانَ يتحقّقُ فيه استمراره يكون مشكوكاً حاله حتّى يطلب استمراره فيه بالاستصحاب، واستصحابُ عدمه إلى زمانِ وجود مجهول التاريخ لا ينفع في زمانِ الشكّ وهو يوم الجمعة؛ لأنَّ زَمَنَ مجهولِ التاريخ مشكوكٌ أنه يوم الجمعة أو غيره، فلا يثبت به في هذا اليوم عدم معلوم التاريخ عند وجود الجمعة، حتّى يعارض استصحاب عدم مجهولِ التّاريخ في يومِ الجمعة الذي يثبت به عَدَمُ المجهول للشكّ فيه مع وجودِ المعلوم التاريخ للعلم بوجوده يوم الجمعة، على أنَّ من يشترط في الاستصحاب اتصال زمان الشكّ بزمان اليقين يرى أنَّ زمان اليقين السابق غيرُ متّصلٍ بزمانِ الشكّ في وجوده في ظرف مجهول التاريخ.

استصحاب مجهول التاريخ وجوداً أو عدما

إنَّ الحادث المجهول التاريخ يلحظ حدوثه تارةً بالنسبة إلى نفس الزمان، كأن لا يعلم حدوثه هذا اليوم أو بعده، فالذي يجري فيه هو استصحاب عدمه الأزلي إلى ما بعد ذلك اليوم، ويثبت بالاستصحاب الآثار الشرعية لعدمه إلى ما بعد ذلك اليوم، ويثبت بذلك الاستصحاب نفي آثار وجوده إلى ما بعد ذلك اليوم، ولا يثبت بالاستصحاب المذكور حدوثه بعد ذلك اليوم، إذا قلنا بأنَّ الحدوث أمر بسيط، فإنّه إذ ذاك يكونُ لازماً عقلياً لاستصحاب عدمه، والاستصحاب لا يثبت اللوازم العقلية للمستصحب.

وأمّا لو قلنا بأنَّ حدوثَ الشيء أمرٌ مركَّبٌ من جزءين: أحدهما العدم المستمر إلى زمان وجوده، والثاني: وجوده، فيكون الحدوث محرزاً؛ لأنَّ جزءه الأول قد أحرز بالاستصحاب، وجزءه الثاني بالوجدان.

ولتوضيح الحال نضرب لك المثال بمن علم في يوم الأربعاء بوجود شهر رمضان في يوم الخميس بإكمال العدة، وشكَّ في وجودِهِ يوم الأربعاء، فإنّه يستصحب عدم وجوده إلى زمان العلم بوجوده وهو يوم الخميس، ويرتّب الآثار الشرعية لعدم وجوده فيما قبل يوم الخميس، من جوازِ الأكلِ والوطء ونحو ذلك، وينفي بهذا الاستصحاب آثار وجود شهر رمضان كالقضاء والكفّارة لإفطاره يوم الأربعاء؛ لأنَّ استصحاب عَدَمِ الوجود ينفي به آثار الوجود، ويثبت به حدوث شهر رمضان يوم الخميس؛ لأنَّ الحدوث كما عرفت عبارة عن استمرار العدم إلى زمان الوجود، وبالاستصحاب للعدم الأزلي لشهر رمضان إلى زمن وجوده يوم الخميس فيثبت حدوثه في يوم الخميس؛ لأنَّ زمان الحدوث للشيء هو زمان الوجود بعد العدم، ويكون يوم الخميس هو اليوم الأول من حدوث شهر رمضان، فيرتب عليه آثاره من الأعمال والأدعية لذلك اليوم والصوم فيه.

وأخرى يلحظ بالنسبة إلى حادثٍ آخر مجهول أيضاً تاريخه، بحيث علم بحدوثهما، وأنَّ أحدهما أسبق من الآخر حدوثاً، كما في المثال المذكور فيما إذا كان حدوث الكُرّية للماء القليل وملاقاته للنجاسة مجهولاً تاريخُ حدوثهما، لا يعلم أيُّهما أسبق حدوثاً، فتارةً يُحْتَمَلُ تقارُنُهما في الحدوث، فإنْ كان الأثر الشرعي لأسبقيّة عدمِ أحدهما على الآخر، فذَهَبَ بعضُ أساتذة العصر حفظهم الله إلى أنّه يُستصحب عدم الأسبقية لكلٍّ منهما، وينفي أثرها الشرعي، ولا تكاذُبَ بين الاستصحابين لاحتمالِ التقارُنِ في الحدوث، كما لو باع المرتهن الرّهن، وأجاز الراهن البيع، وشكَّ في أسبقيّةِ أحدهما على الآخر أو تقارنا، فإنْ كانت الإجازة قبل البيع صحَّ البيع، وإنْ كانت بعد البيع بطل البيع، فاستصحابُ عدم سبق أحدهما للآخر جارٍ من كلٍّ منهما لاحتمال تقارنهما، ومع العلم الإجمالي بسبق أحدهما ولم يحتمل تقارنهما، يتعارض الاستصحابين لتكاذبهما، أو للقطع بالمخالفة القطعية([437]).

ولا يخفى ما فيه: فإنَّ الأسبقية معنىً إضافي وصفي قائم بين الشيئين السابق والمسبوق، ومثلها التأخر فعدَمُها الأزليّ هو إنّما كانَ بعدم طرفيها، فإذا وجد أحدُ طرفيها زال ذلك العدم وتبدَّل بعَدَمِ طرفٍ واحد.

وعليه: فيكونُ العَدَمُ الأزليّ للأسبقية الذي هو المتيقّن سابقاً قد زال قطعاً بعد حدوث الحادث، والمراد إثباته هو عدمُ الأسبقية الوصفيّ لحدوث الحادث وهو غير متيقّن سابقاً.

وبتوجيه آخر: إنّ الأعدام للأوصاف اللازمة للأشياء لا يصحُّ استصحابها لأنَّ المراد إثباته لها هو العدم الوصفي، وهو في الأزل كان عدماً بعدم الموضوع، والعدم الوصفي هو العدم بعدم الوصف ففي الأزل عدم الربط، والمراد إثباته هو ربط العدم؛ وفي ما نحن فيه إنّ المستصحب إنْ كان عدم الأسبقية الأزلي فهو إنّما كان بانتفاء موضوعه، وهو عَدَمُ الرّبط بين الأسبقية وبين حدوث الحادث، وليس المراد إثباته، وإنْ كان المستصحب هو عدم الأسبقية الوصفي الإضافي للحدوث فهو لم يحرز، إذ ليس لدينا يقينٌ سابق بعدم أسبقيّةِ الحدوث عند حدوث الآخر.

وإن شئت قلتَ: إنَّ العدم الأزليّ هو عدم الرّبط بعدم الموضوع، والعدم المراد إثباته هو العدم الوصفي لهذا الحدوث على حدوث الآخر وهو ربط العدم، ومن المعلوم أنَّ عَدَمَ الرّبط غيرُ ربط العدم، نظير ما يقال في المرأة التي يشكّ في كونها قرشية، فإنّه لا يَصِحُّ استصحاب عَدم قرشيّتها؛ لأنَّ عَدَمَ قَرَشيّتِها السابق الأزليّ هو العدم بعدم الموضوع، والمرادُ إثباته هو العدم الوصفي المحمولي لهذه المرأة الموجودة المشكوك حيضيتها؛ لأنّه الذي رتّب عليه الأثر الشرعي، وهو غير متيقّن ثبوته لهذه المرأة حتّى يستصحب لوجودها، وهكذا الكلامُ في الأوصاف الملازمة لموضوعاتها من حين وجودها، فإنَّه لا يَصِحُّ استصحاب عَدَمِها لأفرادِ طبيعتها، وهكذا لا يصحُّ استصحاب عدم الزوجية للعدد الموجود إذا شكّ في زوجيته وفرديته.

وإنْ كان الأثر لنفس عدم أحدهما في زمان حدوث الآخر لا لأسبقيته عليه، فتارة يحتمل تقارن حدوث أحدهما وحدوث الآخر، فيصحّ استصحاب عدم كلٍّ منهما إلى زمان حدوث الآخر لعدم تكاذبهما لاحتمال تقارنهما في الوجود.

وتارةً لا يحتمل تقارنهما، فيتعارض استصحابي عدم كلٍّ منهما إلى زمان وجود الآخر على رأي الشيخ الأنصاري([438]) وجمهور العلماء([439])، لتكاذبهما ففي المثال المذكور استصحاب عدم الكرية إلى زمن حدوث الملاقاة معارض بزمان عدم حدوث الملاقاة إلى زمن الكُرّيّة لتكاذبهما، وذَهَبَ صاحب الكفاية إلى عدم جريان الاستصحاب في نفسه مع قطع النظر عن المعارضة([440]).

فيكونُ مَحَلُّ البحث في هذا الموضوع هو صُورَةُ ما إذا كان الحادثان مجهولي التاريخ لا يُعْلَمُ أيُّهما أسبق من الآخر حُدوثاً، مع العلم بعدم تقارُنهما في الحدوث، وكان لكُلِّ واحدٍ منهما أثرٌ شرعيٌّ وجوداً أو عدماً في زمان الآخر، كما في المثل المتقدم من العلم الإجمالي بحدوث الملاقاة للنّجاسة والكُرّيّة في الماء القليل، المجهول تقدّم أحدهما على زمان الآخر حتى يثبت طهارته باستصحاب عدم الملاقاة إلى زمان الكرّيّة، ونجاسته باستصحاب عدم الكرّيّة إلى زمان الملاقاة وكما لو علم بموت الأب والابن، ولكن لم يعلم أيّ منهما متقدم عدمه على زمان الآخر حتّى يثبت عدم إرثه له، ففي هذه الصورة يسقط كلا الاستصحابين، استصحاب عدم أحدهما إلى زمان الآخر، و استصحاب عدم الآخر إلى زمان الأول على كلا الرأيين، أمّا على رأي الشيخ الأنصاري فلأجل التعارض وهو واضح، لتكاذبهما، وللمخالفة القطعية، كما هو رأيُ الأكثر، وأمّا على رأي صاحب الكفاية فلأجل عَدَمِ جريان الاستصحاب فيها بعدم إحراز شرطٍ من شروطه، وهو اتّصالُ زمانِ الشكِّ بزمان اليقين.

ويحتاجُ بيان ذلك وتوضيحه إلى بيان أمرين:

أحدهما: إنّ من شرط الاستصحاب هو ذلك.

والثاني: إنَّ هذا الشرط ليس بمحرز في المقام.

أمّا الأول: وهو أنَّ من شرط جريان الاستصحاب اتّصال زمان الشكّ بزمان اليقين، فلأنه لو كان منفصلاً عنه لكان الشكُّ غير متعلّق ببقاء المتيقّن، بل بوجودِ آخر له منقطع عنه، ولذا من تيقَّن الطهارة وعلم بالنّجاسة بعدها ثمّ شكّ في طهارته بعد النجاسة، فإنّ الطهارة المشكوكة لم تَكُنْ استمراراً وبقاءً للطهارة المتيقنة، بل هي طهارة غيرها، وكان الشكُّ غير متعلّق بما تعلّق به اليقين فلم يكن عدم ترتّب الأثر عليها نقضاً لليقين بالطهارة السابقة، مضافاً إلى أنَّ أدلّة حُجيّة الاستصحاب تقتضي اعتبار هذا الشرط؛ لأنَّ القدر المتيقّن من بناء العقلاء والذي يوجب الظنّ بالبقاء، والذي يكونُ عدم الأخذ بالحالة السابقة فيه نقضاً لليقين السابق، هو ما كانَ زَمَانُ المشكوك متّصلاً بزمان المتيقن.

وعليه: فتكونُ أدلّة الاستصحاب قاصرة عن الشّمول لموارد عدم الاتصال، ولا ريبَ أنّه مع فقدِ الشّرط للاستصحاب أو عدم إحرازه لا يصحُّ التمسك به والأخذ به.

وأمّا الأمر الثاني: وهو أنَّ الشرط المذكور، أعني: اتصال زمان المشكوك بزمان المتيقن غير محرز في المقام، فلأنَّ ظرف العدم هو وجودُ الحدث الآخر، ووجود الآخر كانَ مجهولاً لا ندري أنّه هو الأسبق والمتّصل بزمانِ اليقين أو هو المتأخر فيكونُ المنفصل عن زمانِ اليقين، فنحنُ نحتاج إلى أزمنة ثلاث:

الأول: زمان العدم الأزليّ لكلا حادثي الزمان.

الثاني: هو حُدوثُ أحدهما بلا تعيين الزمان.

الثالث: هو حُدوثُ الآخر بلا تعيين.

ففي المثال المذكور نفرض أنَّ زمان العدم الأزليّ لكلا الحادثين، أعني: زمان قلّة الماء هو يوم الأربعاء، فعَدَمُ الملاقاة وعَدَمُ الكرّيّة متيقّن يوم الأربعاء، والزّمان الثاني الذي فرضنا العلم بحدوث أحدهما لا بعينه هو يوم الخميس، والزمان الثالث هو العلم بحدوث الآخر بعينه يوم الجمعة، فاستصحابُ عدم أحدهما، أي: عدم الكرّيّة في المثال إلى زمانِ حدوث الملاقاة لم يحرز أنه متّصل بزمان اليقين السابق؛ لأنَّ زمان حدوث الملاقاة مُردَّدٌ بين الخميس والجمعة، فإنْ كانَ يوم الجمعة فهو لم يتَّصل زمانُ الشكِّ بزمانِ اليقين؛ لأنَّ زمانَ اليقين بالعدم هو يومُ الأربعاء، وزمانُ الشكّ يحتمل أنَّه يوم الجمعة، فيكونُ الفاصل هو يومُ الخميس، وهكذا الكلام في استصحاب عدم الملاقاة إلى زمان الكرّيّة، فلا مجالَ للتمَسُّكِ بالاستصحاب لعدمِ إحرازِ شمولِ الأدلة.

قال الأستاذ الشيخ كاظم الشيرازي: (ويظهر هذا الإشكال، بل أوضح ما قد يقال في الفرع المعروف من أنه لو رأى في ثوبه مَنيّا يعلمُ أنه خَرَجَ منه ولا يعلم أنه من جنابةٍ اغتسل منها صبحاً أو من جنابة جديدة حدثت عصراً، فاستصحاب الجنابة الواقعة حين خروج هذا المنيّ على الثوبِ تامّة أركانه من اليقين السابق حين خروج هذا المنيّ على هذا الثوب، والشكّ فعلاً بها لاحتمال أنّ التطهير قبلها، لكن لم يحرز اتصال زمان الشكّ بزمان اليقين لاحتمال أنَّ اليقين بالطهارة وقع بينهما).

ثمّ لا يخفى أنَّ الكلام كما يجري في عدم مجهولي التاريخ باستصحاب عدم أحدهما إلى زمن حدوث الآخر كما تقدم من مثال الملاقاة والكرّيّة، يمكن إجراؤه في وجودهما باستصحاب وجود أحدهما إلى زمن عدم الآخر فيما سبق العلم بوجودهما معاً، ثمّ علم إجمالاً بعدم أحدهما لا على التعيين، ثمَّ علم بعد ذلك بعدمهما معاً، كما لو علم بحياة الأب والابن، ثمَّ علم بعدم حياة أحدهما، ثمَّ علم بعد ذلك بعدم حياتهما، فإنَّ استصحاب حياة الأب إلى حين موتِ الابن معارض باستصحاب حياة الابن إلى حين عدم حياة الأب.

ويمكن الجواب عن إيراد صاحب الكفاية: بأنّ تردُّدَ طرف الشكّ بين المتّصل باليقين السابق وبين المنفصل عنه يوجبُ اتّصال زَمَانِ الشكّ بزمان اليقين؛ لأنَّ الشكَّ في حصول الشكَّ بالشيء شكٌّ في الشيء، فمَنْ شَكَّ بأنه حَصَلَ له الشكَّ بين الركعتين والثلاث كان شاكّاً بين الاثنتين والثلاث، وليس اتّصال زمان الشكّ باليقين شرطيّته للاستصحاب أزيد من شرطية نفس الشكّ بالبقاء في الاستصحاب.

وفي المقام؛ كانَ اليقينُ بالعَدَمِ في الزّمانِ الأوّل ونَشُكُّ في بقاء هذا العدم
إلى زمانِ وجودِ الآخر شكّاً متّصلاً به، غايةُ الأمر كانَ منشأُ الشكّ هو
تردُّد وجود الآخر بين الزّمان الثاني وبين الزمان الثالث، فإنّه على أحدِ
تقديرين يكون العدم باقياً في زمان وجود الآخر، وعلى التقدير الثاني غيرُ
باقٍ، فحَصَلَ الشكُّ في بقائه، وسائر الاستصحابات يكونُ الأمر فيها كذلك، فإنَّ الشكَّ في بقاء المتيقّن فيها إنّما إذا كان يحتمل المتيقن فيها ويحتمل عدم بقائها.

ألا ترى أنه من كان على يقين بالطهارة أو نحوها ثم شكّ في حصول
الشكّ له في بقائها استصحب البقاء؛ لأنه الحقيقة يكون شكّهُ في حصول
الشكّ في بقائها يرجع إلى الشكّ الحالي في نفس بقائها، إذ لو لم يحصل
له الشكُّ لحَصَلَ له عَدَمُ الشكّ وهو اليقين، أمّا بالوجود أو بالعدم لاستحالة ارتفاع النقيضين، ولا رَيْبَ في عدم حصول اليقين له، بل لو تمَّ ما ذكره
صاحب الكفاية للزم عدم جريان الاستصحاب في أغلب الموارد؛ لأنه
طالما يكونُ الشكُّ في البقاء غيرُ محرز ظرفه، فمَنْ تيقَّنَ بالطهارة أول الفجر
ثمَّ عند الظهر شَكَّ فيها، ولكنّه لم يحرز أنَّ شكه فيها قد حَدَثَ في الفَجْرِ أو
في الضُّحَى أو في الظهر، فإنّه لا إشكال في صحة استصحابه للطهارة، وما
ذاك إلاّ من جهة أنّ تردُّد ظرفِ الشكّ يُوجبُ حصول الشكَّ في الشيء في
سائر تلك الظروف، وفي المقام حتَّى في الزَّمَن الثالث الذي هو زَمَنُ اليقين
بهما هو شاكٌّ في أنّ أيّ واحدٍ منهما عدَمه باقٍ مع حدوث الآخر في الزمان الثاني.

والحاصل: أنّه قد عَرَفْتَ أنَّ في المقام أزمنة ثلاث:

الأول: زمان اليقين بعدم الحادثين كعدمي الكرّيّة والملاقاة في المثال المتقدم.

الزمان الثاني: هو العلم بحدوث أحدهما لا على التعيين.

الزمان الثالث: هو العلم بحدوث الآخر كذلك، أيّ لا على التعيين.

وقد حصل فيه الشكُّ في بقاءِ العدم السابق لأحدهما في ظرف حدوث الآخر منهما، فالزّمانُ الثّاني والزَّمانُ الثالث هذا الشكُّ موجودٌ فيه فعلاً، فيستصحب العدم لأحدهما إلى ظرف حدوث الآخر، وعليهِ يثبت الأثر الشرعيّ المرتب على العدم لأحدهما.

ما يشكُلُ على استصحاب مجهول التاريخ

لا يخفى أنه قد أشكل على استصحاب مجهول التاريخ غير ما أورده صاحب الكفاية بإشكالات([441]):

الإشكالُ الأول: إنَّ الاستصحاب لعدم مجهولي التاريخ من استصحاب الفرد الطويل الذي لا تقول به؛ لأنّ الشكّ هنا في أنَّ الفرد لعدم الحادث هو الفرد الطويل أو القصير والاستصحاب لا يجري فيه.

ولا يخفى ما فيه: فإنّ هذا شكّ في استمرار وبقاء شخص العدم الواحد كما يشكّ في استمرار وجود زيد.

وقد يُقَرَّرُ الإشكال بوجهٍ ثالثٍ على الاستصحاب لعدم مجهولي التاريخ: بأنّ الزمان الأول هو ظرف اليقين بعدمها، والزمان الثاني بعده هو ظرف لليقين بوجود أحدهما، والزمان الثالث هو ظرف اليقين بوجود الآخر، وهو زمان حدوث الشكّ في تقدم أحدهما على الآخر أو تأخره عنه، فلم يَتَّصِل زمانُ الشكّ بزمان اليقين للفصل بالزمان الثاني.

وفيه: إنَّ الميزان في الاستصحاب هو اتّصال زمان المشكوك بالمتيقن، وإنْ كان الشكّ قد حَدَثَ بعد سنين في استمراره وبقائه لتمامية أركان الاستصحاب حينئذٍ من اليقين السابق والشكَّ اللاحق في استمرار المتيقن سابقاً.

وفيما نحن فيه: إنّ الشكّ وإنْ حَدَثَ في الزّمان الثالث لكنّه متعلّق بالزمان الثاني في أنّ أيّاً من مجهولي التاريخ باقٍ على عدمه، والآخر منهما قد وجد، وإلاّ فالزمان الثالث زمانُ اليقين بوجودهما، وإنّما حَدَثَ فيه الشكّ في أنّ أيّهما كان باقياً على عدمه في الزمان الثاني، فالمتيقَّن هو عَدَمُ واحد منهما مشكوك بقاؤه إلى الزمن الثاني فهو متصل به، ولا يضرُّ في الاستصحاب حصول نفس اليقين والشكُّ في زمان واحد بعد اتصال زمان المتيقّن بالمشكوك، بل حتى لو حَصَلَ الشكُّ بالبقاء قبل اليقين بالحدوث ـ كما تقدَّمَ ـ صَحَّ الاستصحاب، وإلاّ لو كان ذلك موجباً للمنع من الاستصحاب لكان من تيقّن الطهارة صباحاً ثم إنه في العصر كان متيقناً بانتقاض تلك الطهارة، إلاّ أنه يشك في بقاء طهارته الصحيحة للظهر ألاّ يصحّ استصحابها إلى الظهر؛ لأنّه قد حَدَثَ شكُّهُ في المغرب.

وقد يقرّر الإشكال بوجهٍ رابع على صِحّةِ جريانِ استصحاب عدم مجهولي التاريخ، حاصله: إنَّ النقض فيها لم يحرز أنه من نقض اليقين بالشكّ، بل يحتمل أنّه من نقض اليقين باليقين، فلم يُحرز شرطُ صِحَّةِ جريان الاستصحاب فيهما.

وبيانُ ذلك: أنّه لمّا كانَ الزَّمَانُ الأول الذي هو زمانُ العلم بعدهما، والزمان الثاني هو زمان العلم بحدوث أحدهما، والزمان الثالث هو زمان العلم بحدوث الآخر منهما، مع استمرار وجود ما وجد منهما في الزمان الثاني، فلو نقض العلم السابق بعدم أحدهما بالبناء على وجوده في الثاني والثالث، احتمل أنه نَقْضٌ لليقين باليقين لاحتمالِ أنَّه هو المعلوم بالإجمال المستمرّ إلى الزمان الثالث، كما يُقَرَّرُ ذلك في كُلِّ مَورِدٍ عُلِمَ إجمالاً بانتقاض الحالة السابقة، ففي المثال المشهور لو علم بعدم الكرّيّة وبعدم الملاقاة، ثمّ علم بحدوث أحدهما لا على التعيين، ثمّ علم بحدوث الآخر منهما كذلك، مع استمرار وجود ما وجد منهما في الزمان الثاني، كان نَقْضُ عَدَمِ أيٍّ منهما يحتمل أنَّه من نقض اليقين السابق باليقين الإجماليّ بحدوثه في الزمان الثاني المستمر للزمن الثالث المعلوم فيه وجودهما.

وفيه: إنَّ ذلك إنّما يكونُ من النقض باليقين الإجمالي، وأخبار الاستصحاب وأدلّته إنّما تقتضي المنعَ من النقض التفصيلي، ولذا في أطراف العلم الإجمالي تتعارَضُ الاستصحابات فيها، وسيجيء توضيحُ ذلك إنْ شاءَ اللهُ في المقام الثاني من تعارض الاستصحابين.

وقد يُقَرَّرُ الإشكالُ في استصحاب عَدَمِ مجهولي التاريخ بوجهٍ خامس، وحاصله: إنَّ المطلوبَ في الاستصحاب في المقام هو إثباتُ عدم أحدهما مقارناً لحدوث الآخر؛ لأنَّ الأثَرَ وجوداً أو عدماً مرتَّبٌ عليه، والاستصحابُ لعدم أحدهما في ظرفِ حدوث الآخر لا يثبت ذلك؛ لأنَّ حدوث الآخر الذي هو ظرف للاستصحاب مردَّدٌ بين الزمان الثاني والزمان الثالث، وعلى تقدير كون حدوث الآخر في الزمان الثالث فالعدم المستصحب قد زال في الزمان الثاني، ولم يكن مقارناً لحدوث الآخر.

وهذا نظيرُ مَنْ شَكَّ في أنه أتى بصلاة الصُّبح أم لا، وشكَّ في أنَّ هذا الوقت الذي هو فيه هو الفجر أو النهار، فإنَّ استصحاب وجوبِ الصَّلاةِ عليه في الفجر لا يثبت أنَّ ما بيده هو الفجر؛ لأنَّ الفجر الذي هو ظرف المستصحب وهو وجوب الصلاة مُردَّدٌ عنده بين ما بيده من الوقت أو قبله، وإنْ كان استصحاب نفس الفجر ينفعه.

ونظيره ما إذا شكّ في كرّيّة الماء عند ولوغ الكلب فيه مع علمه بأنه كُرٌّ سابقاً، ولكنه تردَّدَ وقت الولوغ بين يوم الخميس المشكوك كرّيّة الماء فيه وبين يوم الجمعة الذي يعلم بعدم الكرّيّة فيه، فإنَّ استصحابه للكرّيّة إلى حين الولوغ لا يثبت طهارة هذا الماء فعلاً الذي هو مطلوبٌ لنا، لاحتمالِ أنْ يكونَ زمانَ الولوغِ زمان اليقين بعدم الكرية.

وفيما نحن فيه كذلك؛ فإنَّ الحادث الذي استصحبنا عدم الحادث الآخر إلى زمانه يحتمل وقوعه في الزمان الثاني، ويحتمل وقوعه في الزمان الثالث الذي نعلم بانتقاض العدم المستصحب فيه.

والحاصل: أنّه لابُدَّ من إثبات العدم، وإثبات وجود الآخر معه، والاستصحاب إنّما يثبت العدم على تقدير وجود الحادث الآخر، وحيث أنَّ وجود الحادث الآخر لم يُعْلَمْ وقته فلم يَثْبُتْ لدينا العَدَمُ للحادث مع وجود الحادث الآخر، فالمستصحب يكونُ ظرفه مُردَّداً بين زمانٍ مشكوكٍ فيه المستصحب، وزمانٍ بَعْدَهُ معلوم انتقاضه.

وفيه: إنَّ الاستصحاب ناظرٌ للواقع، فهو إبقاء للواقع في مرحلة الظاهر، فنحن نستصحبُ عَدَمَ أحدِهِما الواقعيّ إلى زمانِ حدوثِ الآخر في الواقع، والزَّمان بين العَدَمِ الأزليّ للأول وحدوثِ الآخر مشكوكٌ نَقْضُ العَدَمِ فيه، فيُسْتَصْحَبُ بهذا اللحاظ.

ودعوى احتمال النّقض للعَدَمِ باحتمالِ انطباق حدوث الآخر على الزمان الثالث لا تفسد الاستصحاب، إذ من شأن الاستصحاب إنّما يكونُ في الزمان المحتمل فيه النقض.

والحاصل: إنَّ هذه القطعة من الزمان مشكوكٌ حدوثٌ الحادثِ الأوّل فيها إلى زمانِ وجودِ الآخر فيستصحب عَدَمُهُ فيها، فالاستصحابُ إنّما هو بهذه الجهة، وبهذا النظر لا رَيْبَ في أنَّ أركان الاستصحاب إذا تَمَّتْ في أيّةِ جِهَةٍ من الجهات جرى، وهنا قد تمَّتْ أركانُهُ من هذه الجهة مِنْ يَقينٍ سابق بالعَدَمِ، وشكَّ لاحق متّصلٌ به إلى زمن حدوث الآخر، والأثر الشرعي يترتَّب عليه فيجري، مضافاً أنّه لو كانَ هذا موجباً لمنع جَرَيانِ الاستصحاب لكانَ ينبغي أنْ يمنع من هذه الجهة استصحاب الكلّي المردَّد بين الفردِ القصير والطويل للعلم بعدمه لو كان في الفرد القصير، فكذا ما نحنُ فيه؛ فإنّه فَرْدٌ واحدٌ وهو العَدَمُ المشكوك استمراره إلى حين وجود الآخر، بل المنع من هذه الجهة يوجب المنع من الاستصحابات التي يكون الشكُّ في الاستمرار من جهة الشكّ في حدوث المانع، فإنّا في ما نحن فيه لا نقطع بانقطاع العدم وإنّما نشكُّ في انقطاعه قبل حدوث الآخر.

وقد يُقَرَّرُ الإشكالُ بوجهٍ سادس، وهو: إنَّ الغرض من هذا الاستصحاب هو إثباتُ العَدَم مع وجود الآخر، أو الوجود مع عدم الآخر؛ لأنَّ الأثر الشرعيّ مرتَّب عليهما، ففي المثال المذكور الإرث مُرتَّب على وجودِ الابن مع عدم وجود الأب، وفي المثال المتقدّم الأثر مُرتَّب على عَدَمِ الكرّيّة مع الملاقاة للنّجاسة أو عدم الملاقاة مع الكرّيّة لا على العدم فقط أو الوجود فقط، والاستصحاب إنّما يثبت العدم أو الوجود في ظرف الحادث الآخر، ولا يثبت حدوث الآخر فعلاً أو قبل ذلك، فلا يحرز به الموضوع، ففي المثال المذكور استصحابُ عدم الكرّيّة إلى زمان الملاقاة إنّما يثبت فقط عدم الكرّيّة على تقدير الملاقاة، وأمّا حدوث الملاقاة فلا يثبته وإنّما هو لازم عقلي له.

والحاصل: إنَّ الموضوع فيما نحنُ فيه مركَّبٌ من جزءين:

أحدهما: العدم أو الوجود المستصحب.

والثاني: الظرف المطلوب ثبوت المستصحب فيه.

والأول إنّما يحرز بالاستصحاب في الزمن الثاني؛ لأنّه في الزمن الثالث مقطوعٌ بوجوده فلا وجه لاستصحابه فيه، ولا ريب أنَّ الاستصحاب في الزمن الثاني لا يُثْبِتُ أنَّ الموجود هو الحادث الآخر فيه؛ نعم، لازمُ ذلك عقلاً من
جهة العلم الإجمالي.

وبعبارة أخرى: استصحابُ عدم أحدهما إلى الزّمن الثالث لا يصحّ؛ لأنّ الفرض القطع بحدوثهما معاً، والاستصحاب إلى الزمن الثاني وإنْ أثبت العدم إلاّ أنّه وجودُ الحادِثِ الآخر غيرُ مقطوعٍ به لاحتمالِ أنّه وجِدَ في الزَّمان الثالث، فليسَ الجزء الثاني للموضوع مُحْرَزاً بالوجدانِ، والاستصحاب لا يثبته.

وجوابُهُ يُعْلَمُ مما سَبَقَ؛ فإنّا نستصحِبُ عدم أحد الحادثين إلى زمان الوجود الواقعيّ للحادِث الآخر فيثبت مقارنته له ويرتّب عليه الأثر الشرعيّ في الموضوع الذي نحنُ فيه، ففي المثال المذكور نستصحبُ وجودَ الابن إلى زَمَنِ موت الأب الواقعي، فيحرز أحد جزئي الموضوع بالاستصحاب وهو وجود الابن، والجزء الآخر بالوجدان والقطع وهو موت الأب؛ واحتمال أنْ يكون موت الأب بعد موت الابن لا يرفع الشكّ في استمرار وجودِ الابن في ظَرْفِ وجودِ الأب.

والحاصل: إنّ العدم لأحدهما أو الوجود المقطوع به سابقاً لا ريبَ في أنه يحتمل بقاؤه حتَّى زمن الحادث الآخر من جهةِ احتمال تقدّم حدوث الآخر أو تأخره، فإنَّ مجرَّد الشكّ في التقدّم والتأخر لا يرفع الشكّ في استمرار عدم أحدهما حتّى زمان حدوث الآخر المقطوع بحدوثه، فتكونُ أركانُ الاستصحاب بالنسبة إلى نفس كُلِّ واحدٍ من الحادثين تامّة لليقين السابق بالعدم والشكّ في بقائه في ظرف حدوث الآخر، فيستصحب وينضمّ إلى القطع بحدوثِ الآخر في حدّ ذاته؛ لأنّ الاستصحاب يلحظ بالنسبة إليه، فيثبت الموضوع للأثر، وهذا نظيرُ الاستصحاب الجاري في أطراف العلم الإجماليّ في لحاظ الاستصحاب في كُلِّ واحدٍ من الأطراف بنفسه، ولذا تَتَعَارَضُ الاستصحاباتُ فيها، مع أنَّه لو لوحظ مجموعها لا يصحُّ الاستصحاب للعلم بالانتقاض فيه، ففي المقام يلحظ نفس الحادث الآخر لزمانه.

نعم، لو لوحظ نفس الزمان يرد الإشكال؛ لأنّ استصحاب عدم أحدهما أو وجوده في الزمان الثاني لازمه العقلي ذلك، ونحنُ كلامنا في الاستصحاب بالنسبة إلى الحادث الآخر لا للزمان، فإنَّ الاستصحاب للشيء إلى زمن الحادث الآخر تارةً يُلْحَظُ بالنّسبةِ لنفس وجود الحادث الآخر من حيث التقدم عليه أو التأخر عنه، وتارةً يلحظ بالنسبة إلى نفس زمانه من حيث وجوده فيه وعدم وجوده فيه، ونحن كلامنا كما عَرَفْتَ إنّما هو في الأول لا في الثاني.

ثَمَرَةُ النّزاع في استصحاب مجهولي التاريخ

إنَّ النزاعَ بين مشهورِ القائلين بعدم جريان الاستصحاب في مجهولي التاريخ من جهة التعارُض بين الاستصحابين، وبينَ صاحب الكفاية القائل بعدم جريان الاستصحاب فيهما من جهة عدم إحراز اتصال زمان الشكّ بزمان اليقين، تظهر ثمرته فيما إذا كان الأثرُ الشرعيُّ يترتَّبُ على أحدهما دون الآخر، فإنَّ من يمنع من جريانهما من جهة التعارض يجري هنا الاستصحاب فيما يترتب عليه الأثر الشرعيّ، حيثُ لم يُعْارِضْهُ الاستصحاب في الآخر لِعَدَمِ جَرَيَانِهِ فيه من جهة عَدَمِ ترتُّبِ الأثر، وأمّا إذا قلنا أنَّ المنع من جريان الاستصحاب هو عدم إحراز اتّصال زمانِ الشكّ بزمان اليقين فلا يجري الاستصحاب فيما له الأثر الشرعي أيضاً، لعدم إحراز اتّصال زمانِ الشكّ بزمان اليقين حتّى فيما يترتّبُ عليه الأثر الشرعي.

وقد مَثَّل لهذه الصّورة الأفاضل من شرّاح رسائل الأنصاري بمسألة إذا علمنا بموت الأب وإسلام الابن، لكن لا نعلم أيّهما المتقدّم، فاستصحابُ عدم إسلام الابن إلى زمن موت الأب يترتَّبُ عليه الأثر وهو عدمُ إرث الابن، وأمّا استصحابُ عدم موت الأب إلى زمان إسلام الابن فلا يترتَّبُ عليه الأثر، إذ قد يكونُ الأبُ حَيّاً فلا يَرِثُهُ الوَارِثُ المسلم، وبمسألة ما لو علم بموت أخوين لأحدهما ابنٌ ولكن لا يعلم أيّهما أسبق، فإنَّ استصحاب عَدَمِ موتِ مَنْ له ابن إلى زمانِ موتِ أخيه يترتَّبُ عليه الأثرُ وهو إرثه لأخيه، وأمّا استصحاب عدم موتِ أخيه إلى زمان موتِ صاحب الولد لا يترتب عليه الأثر؛ لأنَّ الوارث له ابنه([442]).

وتظهرُ ثمرته فيما إذا كان للاستصحابين بعضُ الآثار التي لا تنافي بينها، فإنّه على رأي الأنصاري لا يجري الاستصحابان بالنسبة إلى الآثار المتنافية بينها، وأما بالنسبة إلى الآثار غير المتنافية فيجري الاستصحابان فيها وتثبت بهما، لعدم لزوم المخالفة القطعية، كما ذكره بعضهم، بخلافه على قولِ صاحِب الكِفاية، فإنّه لا يجري الاستصحابان حَتَّى بالنسبة إلى الآثارِ غير المتنافية؛ لِعَدَمِ إحراز شرط الجريان، وهو اتّصالُ زَمَانِ الشّكّ بزمانِ اليقين([443]).

وتَظْهَرُ الثَّمَرَةُ أيضاً فيما احتمل تقارن الحدثين فيه، فإنّه على مسلك الأنصاري يستصحب عَدَمُ كلٍّ منهما في زمان الآخر، ولا معارضة بين الاستصحابين لعدم العلم الإجمالي بتكاذبهما، ولا بالمخالفة القطعية لاحتمال تقارُنهما في الحدوث، وعلى مسلك صاحب الكفاية عَدَم صحة الاستصحابين لعدم إحراز شرط الجريان، وهو اتّصالُ زَمَانِ الشكّ بزمان اليقين.

 

 

 

المصدر الخامس والعشرون
أصالةُ تقدّم الحادث والاستصحاب القهقري

ويسمّى هذا الأصلُ بأصالة تقدّم الحادث، وبالاستصحاب القهقري، وبالاستصحاب المعكوس، وبأصالة تشابه الأزمان.

ومجرى هذا الأصل فيما كان متعلّق الشكّ متقدّماً على زمن المتيقّن،
بأنْ يكون الشيءُ مشكوكاً سابقاً، ومتيقّناً في الزمان اللاحق، كأنْ نَشُكّ في اتّصاف زيدٍ بالعدالة يوم الجمعة، ثم نتيقّن في يومِ السّبتِ باتّصافِهِ بالعدالة، فنستصحبُ عدالَتَهُ من يومِ السّبت حتَّى يومِ الجمعة الذي قبله؛ ويستدل
عليه بتشابه الأزمنة.

ولا يخفى أنّ تشابه الأزمنة لو أفادَ الظنّ فلا دليل على حُجيّة الظن، كما أنه لا رَيْبَ في عدمِ شُمولِ أدلّةِ الاستصحاب لهذا الاستصحاب المعكوس؛ لأنّها إنّما تدلُّ على حُجيّةِ الاستصحاب في المتيقّن السّابق والمشكوكِ اللاحق دونَ العكس، فإنَّ قوله  عليهم السلام : (لأنّكَ كنتَ على يقينٍ من طهارتِكَ ثم شكَكَت) صريح في تقدّم مُتَعَلّق اليقين على الشكّ.

نعم، ذَكَرَ القومُ إنَّ هذا الاستصحاب حُجّة في مَوْرِدٍ واحدٍ وهو تشخيص المعنى اللغوي([444])، فإذا ثَبَتَ بأنَّ اللفظ معناه الحقيقيّ عند عُرْفِنا هو هذا الشيء وشككنا في أنه في اللغة أو عرف الأئمة كذلك، نستصحبُ استصحاباً قهقريا أنه كذلك لُغَةً وعند الأئمة وقدماء أهل اللغة، ويسمّى هذا الأصل بأصالة عدم النقل، والإجماع من سائر اللغات على حُجيّته، ولولاه لانسدَّ علينا معرفة الأحكام ومعاني ما كان قديماً من الخطب والمواعظ والآداب والأشعار.

وأمّا في صورة ما لو عُلِمَ بأنَّ المعنى الحقيقيّ قد تعدَّدَ بينَ الحال والزمان الماضي، وشكَّ في مبدأ حدوث الوضع للمعنى الثاني المعلوم في زماننا، فالأصلُ عَدَمُ وَضْعِهِ لهذا المعنى الثاني في الزّمان الماضي، ولذا اتَّفقوا على أنَّ مقتضى الأصلِ في بابِ الحقيقةِ الشرعية هو عَدَمُ نقلِ الشارع اللفظَ لهذا المعنى الثاني.

 

المصدر السادس والعشرون
قاعدة اليقيـن

وتسمىّ بقاعدة الشكّ السّاري، وهو: أنْ يتعلَّق الشكُّ بنفس الحدوث الذي كان متيقّناً سابقاً، بمعنى أنّه يَنْقلِبُ اليقينُ به شكّاً به، بخلاف الاستصحاب فإنَّ الشكَّ فيه يتعلَّقُ ببقاء المتيقَّن، ولذا سُمّيَ الاستصحابُ بقاعِدَةِ الشكّ الطارئ؛ لأنَّ الشكَّ فيه يطرأ على اليقين ولا يسري له، بخلافِ قاعدة اليقين فإنَّ الشكَّ يسري فيها لليقين فيزول اليقين.

ومن أمثلة القاعدة ما لو رأى على ثوبِهِ حُمْرةً فقطع بأنّها دَمٌ، ثُمَّ شَكَّ بعد ذلك في كونها دَماً أو ماء رمّان، ومن أمثلتها ما لو تيقَّنَ بعدالَةِ شَخْصٍ فاقتدى به وعمل بفتواه وشهادته، ثم شكَّ في صِحّةِ اعتقاده المذكور، ومن أمثلتها ما لو خاطَبَهُ المولى بصيغة (افعل) فاعتقد الوجوب، ثمّ لما رأى أنّها مجازٌ مشهور في النّدب شكّ في الوجوب، ومنها ما لو أدّى رأيُ المجتهد إلى حُكْمٍ في مسألةٍ وعَمِلَ به، ثُمَّ بَعْدَ زَمَانِ تردّد فيه للتردُّد في صِحّةِ دليله لاطّلاعه على المعارض لدليلها، أو لنسيانه دليلها، أو لرجوعه عن حُجيّة دليلها، كما لو كان خبراً صحيحاً ثُمَّ ظَهَرَ له أنّه ضعيف.

والقولُ بعدم حُجيّة قاعدة اليقين هو المشهور والمعروف([445])، وعن المفاتيح أنه استشكل في حُجيّتها من جهةِ أنَّ إطلاق أخبار الاستصحاب تقتضي حجيتها، وأنَّ الأصل والعمومات المانعة من العمل بغير العلم يقتضي عدم حجيتها، وأنَّ الاحتمال الأوّل في غاية القوة([446]).

وعن المرحوم جدّنا كاشف الغطاء أنّه سمّاها بأصالة الصحّة في الاعتقادات، وقال: إنَّ العَمَلَ بها بطريق الإطلاق مخالف للإجماع.

وحُكِيَ عن غيرِ واحدٍ من المتأخرين استفادَةَ حُجّيتها من أخبار الاستصحاب بدعوى عدم اختصاصها بالشكِّ في البقاء([447]).

وعن الذخيرة في مَنْ شَكَّ في بعض أفعال الوضوء: عدم وجوب الإعادة لصحيحة زرارة: (ولا تنقض اليقين أبداً بالشك)([448]).

ويظهر مثل ذلك من كلام الحلّي في المسألة المذكورة([449])، إلاّ أنّه يظهر من كلام الشيخ الأنصاري وغيره دعوى الإجماع على عدم اعتبار القاعدة، والعمدة فيما يستدل به عليها أخبار الاستصحاب([450])، بل لم نجد من استدل عليها بغيرها، فإنَّ معنى عدم نقض اليقين بالقاعدة هو الحُكْمُ بصحّة الاعتقاد واليقين الحاصل سابقاً والالتزام بآثاره في زمان وجوده، وعدم رفع اليد عن تلك الآثار بالشك الساري إليه.

وقد يناقش في دلالتها عليها بوجوه:

أحدها: من جهةِ أخذِ اليقين في الأخبار، وذلك فإنَّ اليقين في الاستصحاب موجودٌ، وفي القاعدة يكونُ مفقوداً لأنّه في القاعِدَةِ يَزولُ بالشكّ في نفس مُتَعَلّقه، ولا يمكن إنشاء حُكْمٍ واحدٍ على وُجودِ الشيء وعدمه.

ودعوى إنَّ هذا يُوجِبُ إجمال الرّوايات فلا تَدُلُّ على الاستصحاب ولا على قاعدة اليقين.

فاسدةٌ؛ لأنَّ بعضها كصحيحة زرارة الأولى والثانية([451]) قطعاً يراد منه الاستصحاب، لكون موردهما ذلك، فتحمل بعض الروايات عليهما؛ لأنَّ لسانهما لسان تلك، والمتكلّم بهما بمنزلة المتكلم الواحد، حيثُ أنّهم  عليهم السلام  في حُكْمِ متكلّم واحد، ومن هنا اشتهر أنّ أخبارهم  عليهم السلام  بعضها يُفَسِّرُ بَعْضَاً، وببالي أنَّه قد وَرَدَ ذلك المضمون عنهم  عليهم السلام ([452])، هذا مع أنَّ الظهور للفظ يكونُ حُجَّةً سواء كان مستنداً لحاقّ اللفظ أو بمعونةِ الخارج كالقرائن الخارجيّةِ الموجبة لانعقاد ظهور له كوَحْدَةِ السّياق والتعبير.

ولا يخفى ما فيه: فإنَّ الإنشاء كان لليقين الموجود، غاية الأمر يكون له سواء استمّر وجوده أم لا، ففي المقام ينشأ عدم نقض اليقين سواء استمر وجوده كما في الاستصحاب أو لم يستمر كما في قاعدة اليقين، كما في (صلِّ للزلزلة سواء كانت موجودة أو معدومة)، وكما قال: (أبرئ ذمتي لزيد) فإنّه يدلُّ على طلب براءَةِ ذمّتِهِ من زيدٍ موجوداً أو معدوماً، وإنْ اختلفت كيفيّةُ براءة الذمة من زيد حال حياته وحال عدمه، فإنَّ قصد الجامع بين الأفراد لا يوجب قصد خصوصيتها، وفيما نحن فيه كذلك، فإنَّ قصد عدم الاعتناء بالشكّ مع اليقين قصد جامع بين القاعدتين.

ثانيها: من جهة أخذ الشكّ في الأخبار، والشكُّ في الاستصحاب يتعلَّقُ ببقاء المتيقّن بعد إحراز حدوثه، وفي القاعدة يَتَعلَّقُ بحدوثِ المتيقَّن بعد زوال إحراز حدوثه، ولحاظ الإحراز ولحاظ عدمه لا يمكن جمعهما في دليل واحد.

وفيه ما لا يخفى: فإنَّ الأخبار إنّما تدلُّ على النّهي عن إبطال أثر اليقين بالشكّ مطلقاً، سواء كانَ شكّاً في متعلّقه أو شكاً في حُدوثِهِ، فالشكُّ ملحوظ بالنسبة إلى وجوده، غايةُ الأمر أعمُّ من الوجود الابتدائي كما في القاعدة، أو الوجود الاستمراري كما في الاستصحاب، والتعميمُ في الوجود كذلك يمكن أنْ يكون ملحوظاً في دليلٍ واحد، كما عرفت في المثال المتقدم من أنه إذا قال المولى: (الزلزلة موجبة للصلاة) فإنه يشمل صورةَ حدوثها وصورة استمرارها.

ثالثها: من جهة لفظ اليقين والشكّ، فإنَّه قد جَمَعَ بين الأخبار بين اليقين والشك، ومقتضى إطلاقهما أنْ يكونَ متعلّقهما واحداً وزمانُهما واحداً، وهو محال، فلابُدّ أنْ يحملا إمّا على اختلافِ المتعلَّق كما في الاستصحاب، حيثُ إنَّ مُتَعَلَّق اليقين هو الحدوث، ومُتَعَلَّقُ الشكّ هو البقاء، وإنْ حَدَثَا دَفْعَةً واحدة في زمانٍ واحدٍ، أو على اختلافِ الزّمانِ مَعَ وَحْدَةِ المتعلَّق، بأنْ يكونَ زَمَانُ حصول اليقين بالشيء غيرُ زمانِ الشكِّ بنفس ذلك الشيء كما في القاعدة.

وعليه: فيكونُ اختلافُ الزّمان في مَوْرِدِ القاعدة قيداً لليقين والشكّ، بخلافه على الاستصحاب فإنّه لا يُعْتَبَرُ اختلافهما فيه، ولا يمكن أنْ يتكَفَّل الدّليلُ اعتبار الزمان قيداً كما في القاعدة وغيرُ قيدٍ كما في الاستصحاب فلا تعمهما.

وفيه: إنَّ الإطلاقَ الأحوالي طالما يتكفّلُ ذلك، فإنّه لو قال: (أكرم العلماء) شَمَلَ بإطلاقه الأحواليّ حتّى حالتهم المتناقضة، فإنّه يشملهم سواء كانوا قعوداً أم لا ونحوها من الحالات، وهُنا في المقام كذلك فإنّه يشملها سواء كان متعلّقهما واحداً وزمانهما مختلف، أو كان متعلّقهما مختلفاً وزمانهما متّحد أو مختلف.

سّلَّمنا؛ لكنَّ الأخبار ما عدا صحيحة زرارة الأولى والثانية تكونُ مجملة، اللّهم إلا أنْ يقال: إنَّ وَحْدَةَ السّياقِ وتشابُه التّعبير مع كونِ بَعْضِها ظاهراً في الاستصحاب يُوجِبُ حَمْلَها وانعقاد ظهورها في الاستصحاب.

والحاصل: أنّه يُراد من جميع الأخبار معنىً واحد، وهو عدمُ الاعتناء بالشكّ بعد اليقين بالشيء، ووجوب الالتزام بآثار الشيء الذي تعلّق به اليقين إلى أنْ يقطع بخلافه، وهذا المعنى الواحد يختلفُ بحسب الموارد كالضّوءِ يختلف بحسب المرايا من أبيضٍ وأحمرٍ وأخضر.

قال المرحوم الاشتياني([453]): إن لفظ الصلح له معنى واحد وهو التسالم يختلف بحسب المتعلقات والإضافات، فهو في مورد نقل المعرفة، وفي وقت يكون إبراء الذمة([454]).

رابعها: من جهة إنَّ لفظ اليقين ظاهرٌ في اليقين الموجود بالفعل، فإنَّ قولنا: (الخمر حرام) هو ما كانَ خَمْراً بالفعل لا ما كانَ خَمْراً في وقتٍ، وإنْ لم يكن خمراً بالفعل، وكذا قوله  (ص) : (رُفِعَ عن أمّتي ما لا يعلمون)([455])، وهو الرّفع عَمَّا هو مجهولٌ بالفعل، لا ما كان مجهولاً في وقتٍ وإنْ لم يَكُنْ مجهولاً بالفعل، وفي القاعدة يكونُ اليقين غيرُ موجودٍ بالفعل، بخلافِ الاستصحاب فإنّه موجود بالفعل.

ولا يخفى ما فيه: فإنَّ موضوع القضية يعتبر وجوده في موطنه وظرف ثبوت الحكم عليه، فإذا قيل: (زيدٌ عالم) إنّما يلزم أنْ يكون زيدُ موجوداً في ظرف ثبوتِ العلم له، ولا يلزم أنْ يكون موجوداً بالفعل، وهكذا (الخمر حرام) إنما يلزم فيه وجودُ الخمر في ظرف الحكم عليه، فهو يثبت له الحرمة في ذلك الموطن ولا يلزم وجودُهُ بالفعل، وهكذا (رَفْعُ ما لا يعلمون) إنّما يلزم فيه ثبوت الرفع في ظرفِ وجود الجهل، ولا يَلْزَم ثبوتُ الجهل فعلاً وإلاّ لانتفت القضية الحقيقية ولا تُصَدَّق إلاّ القضية الخارجية.

ففيما نحن فيه: يكونُ اليقين في مورد القاعدة موجوداً في ظرف الحكم عليه، فإنَّ القاعدة إنّما تقتضي وجوبَ ترتُّب آثارِ اليقين عليه في ظرفه، فلا يُعيدُ صلاته، ولا يبطل شهادته في ذلك الوقت.

خامسها: من جهة المانع، فإنَّ أخبار الاستصحاب لو كانت تشمَلُهُما معاً وَقَعَ التّعارُضُ بين القاعدة والاستصحاب دائماً إلاّ ما شَذَّ؛ لأنَّ الشكَّ في موارد القاعدة مسبوقٌ بيقينيين يكونُ باعتبار أحَدِهِما مورداً للاستصحاب، وباعتبار الآخر مورداً للقاعدة، فيَقَعُ التّعارض بينهما، فإذا تيقَّنّا بعدالة زيدٍ يوم الجمعة ثُمَّ شككنا يوم السّبت بعدالته يوم الجمعة، فباعتبار هذا اليقين تجري القاعدة وتقتضي العدالة، وباعتبارِ اليقين بعدم عدالته الأزليّ يجري استصحاب عدم عدالته.

ولا يخفى ما فيه: أولاً: إنَّ هذه المعارضة لا تجري في اليقين بالاعدام، كما لو تيقَّنَ عدم عدالته يومَ الجُمُعَةِ وشكَّ فيها يوم السبت، فإنَّ القاعِدَةَ تقتضي عدم العدالة، والاستصحاب للعدم الأزليّ للعدالة يقتضي عَدَمَها، أو كانَ الحالُ مجهولاً قبل اليقين الثاني.

وثانياً: إنّ الاستصحاب للعدم الأزليّ بواسطة اعتبار القاعدة اليقين قد انتقضَ باليقين الحادِثِ الذي ألغى الشكّ فيه الشّارع، نظير الشكّ السببي والمسبَّبي.

والحاصل: إنَّ الاستصحاب الأزليّ قطعاً قد زال باليقين الحادث بالعدالة حال وجوده وفي ظرف تحقُّقِهِ، ثُمَّ إنَّ الشارع قد ألغى الشكَّ فيه بوجوده المتأخر فيكون حاكماً عليه.

سادسُها: ما يمكن أنْ يقال: إنَّ في قاعدة اليقين لا يُوجَدُ نقضٌ لليقين أصلاً فإنَّ النقض إنّما يكونُ لما هو مبرم، واليقينُ لما زال من أصله فلا يكون هناك شيء مبرم حتى ينقضه.

وبعبارة أوضح: إنّه مَعَ عَدَمِ ترتيبِ الآثار من جهةِ أنَّ اليقين قد زال من أصله، فلا يُقال: إنّه قد نَقَضَ اليقين إذا عَمِل بالشكّ، حتّى إنّ بعضهم([456]) مَنَعَ شمولَ الأخبار للاستصحابِ في صُوَرةِ الشكّ في المقتضي لتوهمه عدم تحقق النقض فيها، فكيفَ مع ارتفاع اليقين، فهو كمَنْ ينهى عن ضَرْبِ زيدٍ بالعصا في حين أنَّ الضَّرب لا يتحقَّق بالنسبة إلى زيدٍ أصلاً، فنحنُ لا نشترطُ الوجود الفعليّ للموضوع، بل نقول: إنَّ المنشأ لا يصحُّ نسبة إنشائه إلى متعلقه.

وفيه ما يمكن أنْ يقال: من أنَّ المراد بالنَّقض هو عَدَمُ العمل بالوظيفة، فلو لم يعمل بما يقتضيه اليقين للشكّ في متعلّقِهِ فقد نقض اليقين.

والأولى أنْ يقال: إنَّ نقض اليقين بالشكّ في القاعدة يكونُ بنحو الحقيقة لاتّحاد المتعلَّق، وفي الاستصحاب بنحو المجاز، ولا يَجْتمع إرادة الحقيقة والمجاز في تعبير واحد، والاستصحاب قطعاً قد أريد من هذا التعبير كما في صحيحة زرارة، فلابُدَّ من حَمْلِ أخبار الباب عليه دون القاعدة، وإلاّ لزم إرادة الحقيقة والمجاز من لفظ واحد، على أنَّ قوله  عليهم السلام  فيها: (فليمضِ على يقينه) ظاهرٌ في كون اليقين موجوداً بالفعل، إذ مع انعدام اليقين كما في القاعدة لا يقين له يمضي عليه، مع أنَّ قوله  عليهم السلام : (لأنه على يقين) ظاهرٌ في وجودِ اليقين بالفعل.

هذا، مع أنَّ مقتضى الأخبار هو ترتُّب الآثار على المتيقّن حتَّى زمان الشكّ فيه، فمَنْ تيقَّنَ الوضوء ثمَّ شكَّ فيه فهو يرتّب الآثار عليه ما دام الشكَّ موجوداً، وقاعدة اليقين إنّما يترتّب فيها آثار المتيقّن حال اليقين دون حال الشكّ، فلو كانت الأخبارُ تَدَلُّ عليها كما تَدَلُّ على الاستصحاب لرتّبَ فيها آثار المتيقن عند الشكّ كالاستصحاب، مع أنَّ الإجماع قائمٌ على عَدَمِ ذلك، فإنَّ مَنْ يقول بالقاعدة إنّما يقولُ بترتيبِ الآثار في خُصوصِ زمان اليقين، لا فيما بعده، فإنَّ من تيقَّن عدالته يوم الجمعة ثُمَّ شكَّ في أصلِ حدوثها فالقاعدة لو قيل بها فإنّما يقولون بها في ثبوتِ صِحّةِ الاقتداء والشَّهَادَة يوم الجمعة دون باقي الأيّام بخلاف الاستصحاب.

اللهم إلاّ أنْ يقال: إنَّ الأخبار إنّما تقتضي إلغاء الشكّ في خُصوصِ ظرف اليقين، ففي الاستصحاب لمّا كانَ اليقينُ مستمّراً مع الشكّ صَحَّ ترتيب آثار اليقين مستمّراً، وفي القاعدة اليقين إنّما كان موجوداً في خصوص يوم الجمعة، فإنّما يرتّب آثاره يوم الجمعة لا غير، إلاّ أَنَّ ذلك خلاف الظاهر، فإنَّ الظاهر من الأخبار هو ترتيبُ آثار المتيقن ما دام الشك فيه.

هذا، مع ما قد عَرَفْتَ من دعوى الإجماع على عدم اعتبار القاعدة من حيث هي حتّى في مورد اليقين، وإنّما اعتبر بعض مصاديقها لا من جهتها فيكون الظاهر من الروايات هو الاستصحاب فقط.

وقد يَمْنَعُ من دعوى الإجماع؛ لأنَّ غايَةَ ما هو موجودٌ هو عَدَم مُصَرِّحٍ بالعمل بالقاعدة إلى زمانِ السبزواري([457])، ودعوى استفادة الإجماع من ذلك في غاية الإشكال.

نعم، لو تَمَّ ذلك فهو يَدُلُّ على عَدَمِ عملهم بها وعَدَمِ استفادتها من الأخبار، وهو يكشف عن خللٍ في الأخبار في الدلالة عليها.

هذا، ونقل المحقّق أحمد بن الحسين عن بعض مشايخه الإشكال على دعوى الإجماع، بأنه لو سلّم أنَّ هذه القاعدة بإطلاقها مخالفة للإجماع أمكن تقييدها بصورةِ عَدَمِ النّقض لليقين السّابق بالنسبة إلى خصوص الأعمال التي رتّبها العَبْد حال اليقين كالاقتداء، وقبول الشهادة، والعمل بالفتوى حال اليقين بالعدالة، وبصورة عدم التذكّر للمستند للحكم أو الفتوى.

قال المحقق المذكور: ويتّجه عليه إنّه بعد تسليم الإجماع على خلاف القاعدة لا معنى لشيء من التقييدين المذكورين.

أما الأول: فلأنّ الظاهر اختصاص مورد القاعدة بالآثار المرتّبة عليه سابقاً، وإلاّ فالآثار التي يُرَادُ ترتيبها بعد الشكّ فليست من آثار اليقين السابق، بل ينبغي القطع بعدم اندراجها تحت القاعدة، فإذنْ لا إطلاق في القاعدة حتّى يقيّد بالإجماع، فإنَّ الإجماع حينئذٍ نافٍ لعَينِ ما أثبتته القاعدة.

وأمّا الثاني: فلأنَّ المدار إذا كانَ على وصف اليقين السّابق فلا يتفاوَتُ الحالُ بين نسيان المدرك وتَذَكُّرهِ، ولا بين القطع بفساده والشكّ فيه حتّى يُقَيَّدُ الإطلاق ببعض دون بعض.

نعم، لو علم بفساد الحكم والمدرك جميعاً يتّجه الفَرْقُ بينه وبين سائر الأقسام المتقدّمة، لكنّه خارجٌ عن تحت القاعدة على أيّ تقدير.

وقد يُسْتَدَلُّ على قاعدة اليقين برواية الفقيه عن محمد بن مسلم، عن أبي عبد الله  عليهم السلام  أنّه قال: (إنْ شَكَّ الرجل بعدما صلّى فلم يدر أثلاثاً صلّى أم أربعاً، وكان يقينُه حين انصرف أنّه كان قد أتمّ لم يُعِدْ الصّلاة، وكان حين انصرف أقرب إلى الحقّ منه بعد ذلك)([458]).

ووجه الاستلال: إنَّ التعليل بالأقربية يقتضي العمل باليقين، وعموم العلّة لا يضرّ به خصوصية المورد.

وفيه: أنه لو سُلّم فإنّها دَلَّتْ على اعتبار الانصراف في إلغاءِ الشكّ، وفي قاعدة اليقين لا يعتبر الانصرافُ، فالأولى بالرواية أنْ تُجْعَلَ من أدلّة قاعدة الفراغ.

 

 

 

المصدر السابع والعشرون
قاعدة المقتضي والمانع

إنَّ قاعدة المقتضي والمانع عبارة عن: أنْ يحرز المقتضي والسّبب لوجود الشيء، ويُحرز عدمُ المانع منه فيُحْكَمُ بثبوته.

وقد استعملها الفقهاء وغيرهم في مقام إثبات الحكم الشرعيّ بإقامة الدليل عليه، فيقولون: إنَّ المقتضي للحكم موجودٌ وهو دليلُ كذا، والمانع لهذا الدليل مفقودٌ؛ لأنَّ المانع له حُجَّةُ الخَصم وهي باطلة.

ولا رَيْبَ أنَّ ذلك لا يوجبُ القطع لاحتمال أنْ يكون هناك حُجَّة أخرى معارضة لهذا الدليل ولم يُلْتَفَتْ إليها، إلاّ أنّ العقلاء بنوا على اعتبار ذلك وإنْ لم يُفِدِ القَطْع بالحكم، وسيرة الفقهاء مستمرّة عليه، بل سائر علماء الفنون والعلوم على ذلك.

وقد تستعمل هذه القاعدة في موردِ اليقين بالمقتضي والشكّ في المانع، كما إذا صَبَبْنا الماء على اليدِ لرفع النّجاسة عنها، وشَكَكْنا في وجودِ المانع من وصول الماء إليها، فيقال: إنَّ قاعدة المقتضى والمانع تقتضي تحقُّقَ طهارة اليد، ويكونُ موردها صورة إحراز المقتضي والشكّ في المانع.

والتحقيق أنْ يقال: إنَّ الأثرَ الشرعيّ إنْ كان مرتّباً على نفس وجود المقتضى مع عدم المانع صَحَّ جريانُها؛ لأنَّ الموضوع للأثر الشرعيّ أحرز بعضه بالوجدان والبَعْضُ الآخر بالأصل، كما لو قلنا: إنَّ الطهارة الشرعيّة رتَّبها الشارع على نفس صَبّ الماء على الشيء مع عدم الحاجب، لا على الغسل جرت القاعدة، فلو جَعَل الشارع الأثر الشرعي لشيء، وجعل مانعاً عن تأثيره، فاستصحاب عدم المانع بعد إحراز ذلك المقتضي يثبت الأثر.

ومن ذلك إثبات الطهارة بإحراز الوضوء والشكّ في الحدث أو النوم، فإنّ باستصحاب عدمهما تثبت الطهارة، كما دَلَّتْ عليه صحيحةُ زرارة المذكورة في الاستصحاب، فانَّ الإمام تمسكُ باستصحاب عدم النّوم على بقاء الطهارة، وأمّا لو كان مرتّباً على أثرهما كالقصاص المرتَّب على القتل، فلو ألقى الحجر على رأس زيدٍ وشكٍّ في وجودٍ المانع من قتلهِ له، فاستصحابُ عدم المانع لا يثبت القصاص؛ لأنَّ القصاص أثَرٌ للقتل، وباستصحاب عَدَمِ المانع يكونُ اللازم العقلي هو القتل.

وقد يتمَسّك لحُجيّتها بسيرة العقلاء على العمل بالمقتضي عند الشك في وجود المانع.

وفيه: إنّ السيرة غير ثابتة، بل لعلَّ عملهم على العكس.

وقد يتمسَّك بأدلة الاستصحاب؛ لأنّ عدم العمل بالقاعدة موجب لأن يكون اليقين بالمقتضي منقوضاً بالشكّ في وجود الرافع والمانع فيلزم نقض اليقين بالشك.

وجوابه: إنَّ أدلة الاستصحاب إنّما تشمل اليقين والشكَّ إذا كان متعلّقهما واحداً، وفيما نحن فيه اليقين تعلق بالمقتضى والشكّ في المانع.

 

 

المصدر الثامن والعشرون
شَمُّ الفَقَاهَة

 ذكره المرحوم صاحب أنوار الفقاهة الشيخ حسن كاشف الغطاء([459]) في
 كتابه شرح القواعد لأبيه جدّنا كاشف الغطاء في البحث التاسع والعشرين فقال:

(قد علم بالبديهة أنّ المراد في طاعة العبيد لمواليهم وسائر المأمورين لأمرائهم على العلم بمرادهم، من أين جاء ذلك العلم بعقل، أو نقل، أو من تتبع أقوالهم أو أفعالهم، إذا كان في أفعالهم دلالة على مرادهم، أو ما يقوم مقامه، أي: مقام العلم من فطنةٍ عهدوا إليهم في اتّباعها والعمل بها، كالظنون الناشئة من الألفاظ ونحوها، فلو تعلّق حُكْمُ شيء وعلمت أولوية آخر من داخل أو خارج بذلك الحكم وإلغاء الفارق بينهما كان مثبتاً للحكم في الآخر، أو ظُنَت أولويته من داخل كذلك، فيكون من المفاهيم اللفظية لانفهامه من داخل الخطاب كان أيضاً مثبتاً للحكم كمفهوم الأولوية، أو عُلِمَتْ مساواته أو ظُنّتْ من داخل الخطاب كذلك كمفهوم العلّة كان مُثبتاً للحكم كمفهومِ العِلّة كان مُثبتاً لحكمه، فالأولوية بقسميها، وتنقيحُ المناط القطعيّ، ومنصوصُ العلّة لا ينبغي التأمُّلُ في اعتبارها، وكذا ما يَنْقَدِحُ في ذِهْنِ المجتَهِدِ من تتبّعِ الأدلّة بالانبعاث عن الذّوق السليم والإدراك المستقيم بحيث يكون مفهوماً له من مجموع الأدلة، فإنَّ ذلك من جملة المنصوص، فإنَّ للعقل على نحو الحسّ ذوقاً ولمساً وسمعاً وشمّاً ونطقاً من حيث لا يصلُ إلى الحواسّ، فاعتبار المناطيق والمفاهيم والتعريضات والتلويحات والرموز والإرشادات والتنبيهات ونحوها مع عدم ضعف الظن من مقولة واحدة، إذ ليس مدار الحجية إلاّ على التفاهم عرفاً)([460]). انتهى متن كلام الشيخ الكبير.

قال ابنه الشارح: وتحقيقُ المسألة: إنَّ المطلوب من المكلّفين هو العلمُ بما كُلِّفوا به ابتداءً لاتّباع الأحكام الشرعيّة للمصالح الواقعية، فلو لم يكن الطريقُ الأوّلي في الإيصال للمصلحة هو العلم لَفَاتَ الغَرَضُ المطلوب من التكليف؛ لأنَّ الطريق الظنّي مظنّة الخلل والخطأ والزَّلل والعوج والميل، فيلزم منه خلاف المقصود، ولكنْ لمّا كانَ للشارع أيضاً قصد آخر في التكليف وهو إظهار العبودية والطاعة والانقياد، وكان العِلْمُ بالتكاليف أجمعها مما لا يمكن من الطبع البشري المغمّس ببحر الظلمة والغباوة والنسيان والخطأ أَذِنَ لنا بالأخذ ببعض ظنون خاصة في الموضوعات والأحكام حالة زمن التمكن في الجملة من العلم، وحالة عدمه من حيث علمه؛ لأنَّ العَمَل بالظنّ الخاصّ من حيثُ الجهل رافِعٌ لسميّة الفعل المجهول، وإن الانقياد له والطاعة بهذا النحو الخاصّ المظنون دواءٌ لداءِ الفعل من جهة المفسدة الكامنة فيه، وبقيَتْ هذه الظنون المخصوصة مساوقة للعلم في وجوب الأخذ بها في زمن النبي  (ص)  والأئمة  عليهم السلام  وفي زمن الغيبة الكبرى، إلاّ أنَّها من زَمَنِ الغيبة إلى اليوم توسَّعَتْ فيها الدائرة جدّاً وتكثرت فيها إلى حيثُ لا تبلغ حدّاً، فقد كان سابقاً حُصُولُ الظنِّ من راوٍ واحدٍ، والآن من رُواةٍ متعدّدين، وكانَ سابقاً من لفظٍ واحدٍ مثلاً، والآن من ألفاظٍ كثيرة، وكان سابقاً من تحريفٍ أو زيادة أو نقصان أو سَهْوٍ أو غَفْلَةٍ أو كذب أو اشتباهٍ، والآن من تحريفات أو نقصانات أو زيادات أو اسهاءات أو غفلات أو كذبات، وكما كان الظنُّ الأوّل حُجّة مع ذلك في الزّمن الأول، كانَ الظنُّ الثاني أيضاً حُجّة في الزّمن الثاني، ولا تأثير لزيادته لبقاء التكاليف قطعاً، وليس لنا طريقٌ إلاّ الأخذ به وإنْ زاد، ولا يجوزُ لنا تركُهُ ضرورةً، لعدم انسداد التكليف وانفتاح بابه سابقاً ولاحقاً، وزيادته مما يقطع بعدم تأثيرها في رفع التعبّد به، ولا يجوز لنا أنْ نأخذ بكُلِّ ظَنٍّ وإنْ لم يكن مشروعاً أصلُه للزومِ القُبْحِ والهَرَج والمرج وعدمِ الدّليل عليه، بَلْ الدَّليلُ على عَدَمِهِ، وضرورةَ بقاءِ التّكليف لا يتيّقّنُ منها إلاّ العَمَل بالمعلوم والمظنون الذي شُرِعَ لنا العَمَلُ به في الجملة سابقاً ولاحقاً مع العمل بهذين، فلا ضرورةَ تقتضي ببقاءِ التكليف مطلقاً قطعاً، بل المتيقّنُ من وجوب العمل بتكاليف الشارع إنّما هو فيما عُلِم، أو ما كان بمنزلة العلم، وأمّا ما لم يكن كذلك فلا تكليفَ به، ولا وجوبَ عمل به، بل يَحْرُمُ العَمَلُ من غير دليل.

والحاصل: أنّه يكفي في رفع القطع ببقاء التكليف والضرورة الدالة على ذلك العمل بما هو معلوم، أو ما ثَبَتَ أنّه كالمعلومِ في الزَّمَنِ السَّابق وإنْ زَادَ وتَكَثَّرَ في الزَّمن اللاحق، فَعَلى ما ذَكَرْنا يكونُ كُلُّ ظَنٍّ نَشَأ من الأدلّة الشرعية في سَنَدٍ أو دلالة، من مَنْطُوقٍ أو مفهوم، قريب أو بعيد، أو حكم متصيّد من مجموع خطابات الشارع، أو من مجموع أفعاله حجة، أو مجموع سيرته وطريقته وتقريره، أو متصيّد من كيفية خطاباته وألحانه ورموزه وظواهره وبطونه فهو حُجّة على من فهم، لمشروعية العمل بالظّن الناشئ من الأدلة الشرعية في الزمن السابق على جميع هذه الأنحاء وإنْ زادَتْ وكَثُرَتْ، ومثلُ هذه الظنون الاعتمادُ على الظنون الرّجالية في علم الرجال، والظنون الموضوعيّة في علم التفسير والحساب والهيئة، ومثلها الظنونُ النّاشئة عن التراجيح في الأخبار أو التراجيح في الألفاظ في مسائل الدوران، أو الظنون في فردية الموضوع للموضوعات العرفية، فإنّها حُجّة أيضاً، ولكنْ يختلف الفاهمون في مراتب الوصول، والعالمون في درجات الحصول، فمنهم من يكون ذا فكر صائب ورأي ثاقب، سريع الانتقال من الدّليل إلى مدلوله، ومن الملزوم إلى لازمه، ومن الأصل إلى فرعه، ومن الظّاهر إلى باطنه، ومن مجموع الأدلّة إلى أحكامٍ غير منصوصة، وفُروعٍ غير مذكورة، قد وَرَدَ ما مَضْمونَهُ أنَّ الفقيهَ لا يكونُ فقيهاً حتىّ يَعْرِف لحن الخطاب ورمزه، وهذا معنى جعل شمّ الفقيه للحكم من الأدلة، وصيرورة الشمّ دليلاً للمجتهد، وإنّها لكلمة حَقّ، ومنطق صدق، يعرفها أهلها، وينكرها من لم يكن كفواً لها، ومنهم من فقد حاسَّةَ الشمّ فجمد على ما رآه أو سمعه، لا ينتقل من شيءٍ إلى آخر، ولا من مفهوم إلى مفهوم، ولا من مرادٍ إلى مراد لعدم تبين أنفه له؛ لأنّ من لم يَشمّ الشيء لا يهتدي إليه إذا كان لا يبصره ولا يسمعه، فجمد على المناطيق والنصوص، وزاد على المعاصرين في الاقتصار على الخصوص، وعلى المشافهين في الجمود، وهو يرى أنّ عمل القدماء على الشمّ، وتمييز الصحيح والفاسد مبني عليه، وإنْ قلّت إليه الحاجة هناك وكثرت ههنا.

وبالجملة: فالشمُّ من الأدلّة الشرعية، والظنّ الحاصل به دليل، وأيُّ دليلٍ يهدي إلى السبيل، وغيرُ الحاصل من الأدلّة بل حاصل من شهرة أو رأي أو استحسان أو غير ذلك من قرعة أو تفاؤل أو استخارة فهو ضلال، ولا يجوز الأخذ به بحال، ومَنْ نَظَرَ وتَتَبَّعَ أحوال الفقهاء من قديم الزمان إلى هذا الآن يجد أنه لولا أنَّ الشمَّ من مجموع الأدلّة، أو من مفرداتها، ومن أدلّةِ كُلِّ بابٍ منها لما كتبوا كُتُبَ الفروع، وأكثروا من تشقيق المسألة الواحدة إلى ما يقرب المئات، وأفتوا بها وليس عندهم نصٌّ في ذلك من عموم أو خصوص، كالعلاّمة في ثلثي القواعد والتحرير، وكذا الدروس، بل والمبسوط، وحاشاهم من الأخذ بغير دليلٍ، أو عَمَلٍ بالقياس والاستحسان، بل عَمَلُهُم على الظنون الناشئة عن الأدلّة الخاصّة، وهو معنى الشمّ.

فَظَهَرَ أنّه لا يجوز الأخذُ بكُلِّ ظَنٍّ، ولا الجمود على الظنون المخصوصة، بل هو أمر بين أمرين([461]).

انتهى مصححاً على النسخة التي كتبها المرحوم عَمُّنا عبدُ المجيد بن الهادي بن العبّاس بن عليّ بن جعفر كاشف الغطاء في سنة (1321هـ).

خاتمة في الفحص عن المعارض

لا ريب أنَّ كُلَّ دليلٍ معلّق صحّة العمل به على عدم ورودِ دليلٍ أقوى منه، بل الخلوّ عن المعارض سواء كان مساوياً، أو أقوى منه ظهوراً، أو حاكماً، أو وارداً، شرط في لزوم العمل به بعينه، وإنّما الإشكالُ والنّزاع وَقَعَ في مقامات ثلاثة:

الأول: في وجوب الفحص وعَدَمِهِ في أدلّةِ الأحكام الشرعية سواء كانت أمارات أو أصولاً عملية.

الثاني: في الموضوعات المستنبطة، كألفاظِ الكتاب والسنة التي يستنبط الفقيه الأحكام الشرعية منها.

الثالث: في الموضوعات الصِّرفة.

وُجوبُ الفحص في الأدلّة

أمّا المقام الأول فلوجوه:

أحدها: الإجماع المحقَّقُ والمنقول([462]) على عَدَمِ جَوَازِ العَمَلِ بالدّليل أو الأصل قبل الفحص، وهو لا إشكال في كَشْفِهِ عن رأيِ المعصوم؛ لأنَّ هذا الأمر قد كان في زمان المعصومين  عليهم السلام  من قبل سائر علماء الفريقين، والإنكار على من يعمل خلاف ذلك، فلم يردع عن لزومه الأئمة المعصومون  عليهم السلام .

وثانيها: لُزُومُ الخروج عن الدّين فيما إذا جَوَّزنا العَمَل بالدّليل أو الأصل قبل الفحص، فإنّه لو جاز ذاك لاستراح العبد عن فعل الواجبات وترك المحرمات، إذ كُلّما يشكّ في وجوبه أو حرمته لا يتفحّص عنه معتمداً على ذلك بما في نفسه من أصالة الحلّ والبراءة والاستصحاب الفطري.

ثالثها: من جهة العلم بأنَّ لكُلِّ واقعةٍ حُكْماً من الشارع، وأنَّ الشارع لم يُهْمِلْ بيانه ولم يَرْضَ بالجري على خلافه بدونِ عُذْرٍ، فلو عَمِلَ بالواقعة بحسب نَظَرِهِ من دُونِ فَحْصٍ احتمل مخالفته للشارع بدونِ عُذْرٍ يستحق بها العقاب، فتارِكُ التّفَحُّص في كُلِّ واقِعَةٍ يَحْتَمِلُ المخالفة للشارع مخالفةً يستَحِقُّ عليها العقاب لاحتماله الوجوب أو الحرمة، ويكونُ قد خالَفَهُما بدونِ عذر.

إنْ قُلْتَ: إنَّ أدلَّة البراءة العقلية والنّقلية هي نِعْمَ العُذْرُ له.

قلنا: قد أخذ في موضوعها عَدَمُ البيان، فلابُدَّ من إحراز ذلك، وهو إنّما يحرز بعد الفحص وعدم الظفر بالدليل.

رابعها: العلم الإجمالي بوجود أدلّة أو أصولٍ معارضَةٍ ومخالفة لما أدَّى إليه نظره بادئ الرأي في كُلِّ واقِعَةٍ يبتلي بها، وذلك يقتضي الفَحْص عن الدَّليل أو الأصل الذي يَدُلُّ على حُكْمِها بدونِ مُعَارِضٍ له، فإذا فَحَصَ ولم يَظْفَرْ بالدّليل المخالف كانَ معذوراً في المخالفة للواقع.

خامِسُها: الآياتُ والأَخْبَارُ الدالَّةُ على وُجوبِ تَحصيلِ العِلْمِ والتفقُّهِ، وأنَّ للهِ الحُجَّةُ البالغة، وأنَّ طَلَبَ العِلْمِ فريضة.

وربّما قيل، بل قد قيل: إنّه يُعارِضُها قوله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ]([463])، فإنّه يَدلُّ على النّهي عن الفحص عن الحكم الشرعي للواقعة.

وفيه: إنّا لا نسلّم أنَّ المراد بها هو السؤالُ عن الحكم الشرعيّ، بل ظاهرها السؤالُ عن بَعْضِ الوقائع وحوادثِ التاريخ والنسب.

ومن المستظرف في هذا الباب أنّه قد سأل بعضهم عن بعض وقائع التاريخ فظهر أن آباءه كانوا مثالاً للخزي والعار فيها، وبعضهم سألَ عن نَسَبِهِ وإذا به ينحدر من شرِّ خلق الله، وبعضُهُم سأل عن وقتِ موته وإذا به قريب.

سادسُها: حُكْمُ العقل المستقلّ بوجوب التفحّص عمّا فرضه المولى عليه، بدليلِ صحّةِ عقاب المخالف من جهةِ عَدَمِ المعرفة لتركِهِ للتّفَحُصّ، فتارك التَفَحّص في الواقعة يحتمل العقاب الأخروي، ودَفْعُ الضَّررِ الأخرويّ المتحمّل واجبٌ عقلاً.

وجوبُ الفحص في الموضوعاتِ المستنبطة

المقام الثاني: في الموضوعات المستنبطة، أعني: ألفاظ الكتاب والسنة التي يستنبط الفقيه منها الأحكام الشرعية، للإجماع، ولأنّه عليه أنْ يعرف معناها، ولا يعرف ذلك إلاّ بالفحص عن المعنى؛ لأنَّ الشَكَّ في معناها يرجع إلى الشكّ في نفس الحكم الشرعي.

وعليه: فلا يُعْمَل بمثل أصالَةِ عَدَمِ النَّقل، وأصالةِ عَدَمِ تعدُّدِ الوضع ونحو ذلك قبل الفحص، وللزومِ المخالفة القطعيّة للعلم الإجماليّ؛ لأنّا نَعْلَمُ إجمالاً بتعدُّدِ الوضع في بَعْضِها، ووُجودِ النّقل في بعضها، فلو أجرينا الأصولَ اللفظية لَزَمَ المخالَفَة القطعية للعلم الإجمالي.

الفحص في الموضوعات الصرفة

المقام الثالث: في إجراء الأصول أو الأمارات كالبيّنة واليد في الموضوعات الصّرفة، أعني: في الشبهة الموضوعية، كما لو شكَّ في مائع أنّه خَمْرٌ أو ماء رمان، فإنّه يجري أصالة الطهارة والحلّ بلا حاجة إلى الفحص، أو قامت البيّنة أو اليد على الملكية، فإنّه يبني على الملكية من دونِ حاجةٍ إلى فحص.

والدليل على ذلك:

أولاً: سيرة المسلمين عليه، بل يرمون من تَفَحَّصَ عن المعارض بالوسواس.

وثانياً: لزوم العسر والحرج، لكثرة الابتلاء بالموضوعات الصِّرْفَةِ في اليوم والليلة في المأكل والمشرب والمعاملات والعبادات.

وثالثاً: بعموماتِ وإطلاقاتِ الأدلَّةِ الشاملة لها، كقوله  عليهم السلام : (كُلُّ شيءٍ لك طاهر حَتَّى تَعْلَمْ بنجاسته)([464])، وقوله  عليهم السلام : (ولا تنقض اليقين بالشك)([465])، ونحو ذلك فإنّها بإطلاقها تدلُّ على حُكْمِ الموضوع الصّرف المشكوكِ من دونِ تخصيصٍ أو تقييدٍ بصورةِ الفحص.

إنْ قُلْتَ: على هذا يَلْزَمُ القولُ بعَدَمِ وجوبِ الفَحْصِ في الأحكام الشرعيّة والموضوعاتِ المستنبطة؛ لأنّ أدلّتها أيضاً مطلقة أو عامة.

قلنا: قَدْ عَرَفْتَ إنّها مخصَّصَةٌ بما تقدَّمَ من السّيرة والإجماع، بخلافِ ما نحن فيه، فإطلاقُ الأدلّة والعموم فيه خالٍ من التّخصيص أو التقييد.

ودعوى أنّ إطلاق أخبار الاستصحاب ونحوه واردةٌ في مقام البيان لحكم آخر، وهو حُجيّة سنخِ الاستصحاب لبيانِ شرائط العمل به، كما عن شريف العلماء([466]).

مدفوعةٌ؛ بأنَّ أغلب الروايات مسبوقة بالسؤال في زمانِ حاجة السائل، ولا يجوزُ تأخَّر البيانِ عن وقت الحاجة، وإنْ جَوَّزنا تأخيره عن وقت الخطاب.

ورابعاً: دلالة بعض النصوص على عدم وجوب الفحص في الموضوعات الصّرفة، كما في مثل ذيل رواية زرارة: (قال: قلت: فهل عليّ إنْ شككتُ في
أنه أصابه شيء أنْ أنظر فيه)؟ قال  عليهم السلام : (لا، ولكنّك إنّما تُريدُ أن تذهب الشكَّ الذي وقع في نفسك)([467])، وهذا صريحٌ في عدم وجوب الفحص، وبضميمة
عدم القول بالفصل بين موارد الاستصحاب وغيره يتمُّ المطلوب، مع أنّ العموم لسائر النجاسات موجودٌ في كلام السائل، حيثُ قال: (قلت: فهل علي
إن شككت في أنه أصابه شيء أن أنظر فيه)، فإنَّ لفظ شيء عام لسائر النجاسات، وقوله  عليهم السلام : (حتى يستبين لك غير ذلك)([468])، فإنَّ ظاهره العمل بالأصل والأمارة بدون الفحص إلى زمانِ حصول الاستبانة من الخارج، بل
 في بعض الروايات التصريحُ بنفي وُجوبِ السؤال، وأنّه ليسَ عَليكُمْ المسألة، وأنَّ الخوارج ضَيَّقوا على أنفسهم بالسؤال([469])، وفي بعضها ذم السؤال والفحص، حيث قال: (لِمَ سألت)([470]).

فتلخّص: إن العمل بالأصول أو الأمارات كالبيّنة واليد في الموضوعات الصّرفة يصحُّ قبل الفحص، وقد خَالَفَ في ذلك شريفُ العلماء، فخصَّص عموم الأخبار بما مرَّ في المقام الأول والثاني من الأدلة الاجتهادية.

وقد عَرَفْتَ أنَّ تخصيصها بما مَرّ في الأحكام والموضوعات المستنبطة مُسَلَّمٌ، وأمّا فيما نَحْنُ فيه فممنوعٌ، لقيام السِّيرَة، وأدلّةِ الحَرَج، والأدلّة الخاصّة كرواية زرارة على عدم التقييد.

والحاصل: إنَّ الظاهر منهم الإطباق على عَدَمِ وُجوبِ الفَحْصِ في الشبهة الموضوعية ووضوح الأمر فيها، فيَجوزُ ذلك للعاميّ بعد أخذ الفتوى من مرجع تقليده بجواز العمل بالأصل، إلاّ أنّ سلامة موارده من الأصول المعارضة أو الحاكمة عليه ليس كُلّ عامّي يعرف ذلك، فإن كانَ عارفاً كان له الرجوع إليها، وإلاّ وَجَبَ رُجوعُهُ إلى مجتهدِهِ لئلا يأخُذَ بالأصلِ من دون التفاتٍ إلى معارضه أو الحاكم عليه.

إن قلت: إنَّ بناءَ العقلاء على الفحص في الشبهة الموضوعية، كما إذا أمر المولى عبده بإعطاء كُلِّ عالِمٍ من عُلماء البلد ديناراً، فإنَّ العبد لو لم يفحص استحقَّ عند العقلاء العقاب.

قلنا: ذلك لمكان العلم الإجمالي، فإنْ حَصَلَ مِقْداراً بحيثُ يَنْحَلُّ به
العلم الإجماليّ لم يجب إعطاءُ الباقي، ونحن كلامنا في الشبهة الموضوعية البدوية.

إن قلت: إن الله أمر بالفحص في الشبهة الموضوعية، فإنه أمر بوجوب التثبّتِ في خبر الفاسق، ومقتضى ذلك إرادةُ الفَحْصِ والبَحْث في صِحّةِ الخبر.

قلنا: وجوبُ التثبّت من جهة اشتراط حُجيّة الخبر بالوثوق به، فهو من جهة إحراز شرط العمل بالخبر لا من جهة وجوب الفحص عن الشبهة الموضوعية، بدليلِ أنّه لو فَحَصَ فحصاً كافياً ولم يطّلع لم يجز الأخذ بالخبر.

إن قلت: إنّ المحقق القمّي ينسب اليه([471]) إنّ الواجبات المشروطة كالحجّ يجب الفحص عن حصول شرطها، فمع الشك في حصوله لا يصح إجراء أصل البراءة عن وجوب الواجب أو استصحاب عدم حصول الشرط له، بل لابد من الفحص، وبعد الفحص وعدم المعرفة له إجراء ذلك([472]).

قلنا: لا نسلم ذلك، فإن الواجبات وإن كانت مشروطة بوجوب الشرط لا بالعلم به، إلاّ أنَّ الشكَّ في وجوده موجبٌ للشكَّ في التّكليف، والأصل يقتضي عدمه.

نعم، إذا اشترط بالعلم بالشرط، مع الشكّ بالشرط يعلم بانتفاء التكليف من دون حاجة للأصل.

مقدار الفحص فيما يعتبر فيه الفحص

إن مقتضى القاعدة أنْ يكونَ حَدُّ الفحص هو العلمُ بعدم وجدانِ الدّليل المخالف فيما بأيدينا من الأدلّة، ولكنَّ السيرة وأدلَّة الحَرَج تقتضي الفحص إلى حَدٍّ لا يُوجِبُ الحَرَجَ والعسر.

 

المصدر التاسع والعشرون
قاعدة لا ضَرَرَ ولا ضرار

لقد ألحق المتأخرونَ من الأصوليين([473]) هذا المقام بالبحث عن عِدّة قواعد، منها: قاعدة (لا ضَرَرَ ولا ضِرار)، ونَحْنُ تَبَعَاً لهم نَبْحَثُ فيها، فنقولُ وعلى الله التوكل:

أنّه يشترط في التكليف عَدَمُ الضَّرر والإضرار، فكُلُّ ما كان فيه ضَرَرٌ وإضرارٌ من التكاليف فهو ليس من التكاليف الإسلامية، بل كُلُّ حُكْمٍ تكليفي أو وضعي يَلْزَمُ من جَعْلِهِ أو إمضائه شرعاً ضَرَرٌ على أحدٍ من قِبَلِ الله تعالى أو من قبل العباد فهو غيرُ مجعول من اللهِ ولا مُمضىً من عنده.

والعُمْدَةُ في الدّليل على هذا الشَّرط هو قاعِدَةُ نفي الضَّرَرِ والإضرار التي هي من الأصولِ المهمّة الاجتهادية المعمولِ بها بين الفقهاء من الطَّهارة إلى آخر الدّيات، ولا بُدَّ لتوضيح الحال وتحقيقه من الكلام فيها في عِدّةِ مقامات:

المقام الأول: في مدرك قاعدة لا ضرر

أدلّة مدرك القاعدة هي:

أولاً: إجماع الأمة عليها في الجملة من الخاصّة والعامّة([474]).

وثانياً: حكم العقل بها؛ لأنَّ الضَّرَرَ ظلمٌ والظُّلْمُ يحكم العقل بقبحه وحرمته.

ولا إشكال إنَّ دليلي الإجماع([475]) والعقل دليلانُ لبيّان يؤخذ بالقدر المتيقن منهما.

وثالثاً: الاستقراء، فإنّا نرى الشارع لا يَرْضَى لنا بأدنى ضَرَرِ، فرَخَّصَ في التقيّة بأدنى ضَرَر، وهكذا رَخَّصَ بالتيمُّمِ، وتَرْكِ الحجّ، وتركِ الصّومِ، وتَرْكِ القيام والقعود في الصَّلاة.

ولا يخفى ما فيه: فإنَّ الاستقراء ليس بحُجّةٍ إلاّ إذا أفاد القطع.

رابعاً: الأخبار المستفيضة الدالّة عليها، بل إنَّ الشيخ الأنصاري في رسائله حَكَى عن فَخْر الإسلام في كتابه الإيضاح([476]) دعوى تواتر الأخبار على
نفي الضرر والضرار([477])، إلاّ أنّ الشيخ الأنصاري في رسالته المعمولة في هذه القاعدة ذكر أنه لم يعثر على هذه الدعوى من صاحب الإيضاح([478])، ولكن وجدت من ينقل ذلك عن الإيضاح في باب الرهن([479])، إلاّ أنّ الإيضاح لا يوجد عندنا لنراجعه.

ثمّ بعد ذلك رأيتُ في حاشية الشيخ موسى([480]) على الرسائل أنه ذكر في مقام الردّ على الشيخ الأنصاري بأنه قد وجد الدَّعوى المذكورة في الإيضاح في أواخر باب الرهن في مسألة إقرار الراهن بعتق العبد المرهون قبل الرهن([481])، وفي كتاب وسائل الشيعة في إحياء الموات([482])، وفي الشفعة([483])، وغيرها([484]) قد نقل الكثير من الأخبار الدالة عليها، وفي أواخر المعيشة من الكافي عقد باباً لهذه القاعدة([485])، ويعضدها أدلة نفي العسر والحرج.

والأول منها: ما اشتهر عن النبي  (ص)  في قصّة سَمُرَة بن جندب([486])، وقد روي بوجوهٍ عديدة، وألفاظٍ مختلفة، منها المرسلة ما رواه في (الكافي ج1 ص414 طبع إيران)، عن علي بن محمد بن بندار، عن أحمد بن أبي عبد الله، عن أبيه، عن بعض أصحابنا، عن عبد الله بن مسكان، عن زرارة، عن أبي جعفر  عليهم السلام ، قال: (إنّ سمرة بن جندب كان له عَذق([487])، وكان طريقه إليه في جوف منزل رجل من الأنصار، فكان يجيء ويدخل إلى عذقه بغير إذنٍ من الأنصاريّ، فقال الأنصاري: يا سَمُرَة لا تزال تفاجئنا على حالٍ لا نُحب أن تفاجئنا عليها، فإذا دخلت فأستأذن، فقال: لا أستأذن في طريقي وهو طريقي إلى عَذقي، قال: فشكا الأنصاري إلى رسول الله  (ص) ، فأرسل إليه رسول الله فأتاه، فقال: إن فلاناً قد شكاك، وزَعَمَ أنَّكَ تَمُرَّ عليه وعلى أهله بغير إذنه، فأستأذِنْ عليه إذا أردت أن تدخل، فقال: يا رسول الله أستأذن في طريقي إلى عذقي، فقال له رسول الله: خَلِّ عنه ولك مكانه عَذْقٌ في مكان كذا وكذا، فقال: لا، قال: فلك إثنان، قال: لا أريد، فلم يزل يزيده حتَّى بلغ عشرة أعْذُق، فقال: لا، قال: فلك عشرة في مكان كذا وكذا فأبى، وقال: خلِّ عنه ولك مكانه عذق في الجنّة، قال: لا أريد، فقال رسول الله: إنّكَ رَجُلٌ مُضَارّ، ولا ضَرَرَ ولا ضِرارَ على مؤمن، قال: ثُمَّ أمَرَ رسولُ الله فقلِعَتْ ثُمّ رمى بها إليه، قال له رسول الله انطلق فاغرسها حيث شئت).

ومنها: ما في الفقيه، عن الحسن الصيقل، عن أبي عبيدة الحذّاء، قال: قال أبو جعفر  عليهم السلام : (كان لسمرة بن جندب نخلة في حائط([488]) بني فلان، فكان إذا جاء إلى نخلته نظر إلى شيء من أهل الرجل يكرهه الرجل)، قال  عليهم السلام : (فذهب الرجل إلى رسول الله  (ص)  فشكاه، فقال: يا رسول الله، إنَّ سمرة يدخل عليَّ بغير إذني، فلو أرسلت إليه، فأمَرَهُ أنْ يستأذن حتّى تأخذ حذرها منه، فأرسل إليه رسول الله فدعاه، فقال: يا سمرة ما شأن فلان يشكوك ويقول تدخل بغير إذني فترى من أهله ما يكره ذلك؟ يا سمرة استأذن إذا أنت دَخَلْتَ، ثُمَّ قال رسول الله: يَسرُّكَ أن تكون لك عذق في الجنة بنخلتك؟ قال: لا، قال: لك ثلاثة، قال: لا، قال: ما أراك يا سمرة إلاّ مُضَارّاً، اذهب يا فلان فاقطعها واضرب بها وجهه)([489]).

ومنها: الموثق المروي في التهذيب طبع إيران ص158 ج2، ورواه في الكافي في باب الضّرار من كتاب المعيشة طبع إيران ص413 ج1، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أبيه، عن عبد الله بن بكير، عن زرارة، عن أبي جعفر  عليهم السلام ، قال: (إنَّ سمرة بن جندب كان له عذق في حائط لرجل من الأنصار، وكان منزل الأنصاري بباب البستان، وكان يمرّ به إلى نخلته ولا يستأذن، فَكلَّمَهُ الأنصاريُّ أن يستأذن إذا جاء فأبى سَمُرة، فلمّا تأبى جاء الأنصاريُّ إلى رسول الله  (ص)  فشكا إليه خبّره الخبر فأرسل إليه رسول الله  (ص)  وخبّره بقولِ الأنصاريّ وما شكا إليه، وقال  (ص) : إذا أردت الدخول فأستأذن، فأبى، فلمّا أبى ساومه حتَّى بَلَغَ له من الثمن ما شاءَ اللهُ، فأبى أنْ يبيع، فقال لك بها عِذق مذلّلٌ في الجنّة، فأبى أنْ يقبل، فقال رسول الله للأنصاري اذهب فاقلعها وارم بها إليه، فإنّه لا ضرر ولا ضرار).

وقد وَرَدَتْ قِصَّةُ سَمُرَة مع الأنصاري المذكورة في هذه الأخبار من طرق أهل السنة على ما حكاه السيد الجليل السيد عبد الرزاق المقرم([490])، عن (مصابيح السنة للبغوي([491]) ج2 ص18 في باب إحياء الموات)، وعن الفائق للزمخشري([492]) في مادة عضد.

ثم لا يخفى ما وقع من الاشتباه للحر العاملي في وسائله، ففي المحكي عنه([493]) أنه قال بعد ذكر الخبر عن الكافي: وروى الصدوق بإسناده عن ابن بكير نحوه، ورواه الشيخ بإسناده عن أحمد بن محمد بن خالد مثله([494]).

والظاهر إنّ صاحب الوسائل تسامح في نقل الخبر كما هو دأبه في أمثاله؛ لأنّ الصدوق رواه عن الحسن الصيقل، عن أبي عبيدة الحذاء كما تقدم، وسند الصدوق إلى الصيقل على ما في مشيخة الفقيه: محمد بن موسى بن المتوكل، عن علي بن الحسين السعدآبادي، عن أحمد بن أبي عبد الله البرقي، عن أبيه، عن يونس بن عبد الرحمن، عن الحسن بن زياد الصيقل الكوفي([495])، فليس في سند الصدوق ابن بكير، ولا زرارة عن أبي جعفر  عليهم السلام ، كما أنه ليس في سند الكافي أبو عبيدة ولا الصيقل، وفي متن ما في الفقيه أيضاً مغايرة شديدة مع متنه المذكور في الكافي كما تقدم نقله.

وبهذا يظهر لك ما في كلام المحقّق الأنصاري في رسائله، حيثُ قال فيها: فلا نتعرّض من الأخبار الواردة في ذلك إلاّ لما هو أصحّ ما في الباب سنداً وأوضح دلالة، وهي الرواية المتضمنة لقصة سمرة بن جندب مع الأنصاري، وهي ما رواه غير واحد، عن زرارة، عن أبي جعفر  عليهم السلام : (إنّ سمرة بن جندب كان له عذق، وكان طريقه إليه في جوف منزل لرجل من الأنصار، وكان يجيء ويدخل إلى عذقه بغير إذن من الأنصاري، فقال له الأنصاري: يا سمرة لا تزال تفاجئنا على حال لا نحبّ أنْ تفاجئنا عليها فإذا دَخَلْتَ فاستأذن، فقال: لا أستأذن في طريق وهو طريقي إلى عذقي، قال: فشكا الأنصاريُّ إلى رسول الله  (ص) ، فأتاه فقال له: إنَّ فلاناً قد شَكَاكَ وزَعَمَ أنَّكَ تمرُّ عليه وعلى أهله بغير إذنه، فاستأذن عليه إذا أردت أنْ تدخل، فقال: يا رسول الله، أستأذن في طريقي إلى عذقي، فقال له رسول الله: خلِّ عنه ولك مكانه عذق في مكان كذا وكذا، قال: لا، قال: فلك إتنان، فقال: لا أريد، فلم يزل يزيده حتى بلغ عشرة أعذاق، فقال: لا، قال: فلك عشرة في مكان كذا وكذا فأبى، فقال: خلِّ عنه ولك مكانه عذق في الجنة، قال: لا أريد، فقال له رسول الله: إنّك رَجُلٌ مُضَارّ، ولا ضرر ولا ضرار على مؤمن، قال: ثمّ أمَرَ بها رسول الله  (ص)  فقلعت، ثمَّ رمى بها إليه، وقال له رسول الله  (ص) : انطلق فاغرسها حيث شئت)([496]).

وفي رواية أخرى موثقة: (إنّ سمرة بن جندب كان له عذق في حائط لرجل من الأنصار، وكان منزل الأنصاري باب البستان)، وفي آخرها: (قال رسول الله للأنصاري: اذهب فاقلعها وارم بها إليه فإنّه لا ضرر ولا ضرار)([497]). انتهى كلام الشيخ الأنصاري([498]).

وللمرحوم السيد هاشم الخونساري وغيره النظر في كلام الشيخ الأنصاري من عدة وجوه:

أحدها: إنَّ عدَّه خبر سمرة برواية زرارة عن أبي جعفر  عليهم السلام  أصحُّ ما في الباب سنداً ليس على ما ينبغي بمقتضى ما هو المصطلح في الخبر الصحيح عند المتأخرين من الأصوليين والفقهاء([499])؛ لأنه مرويٌ في كتب المشايخ الثلاثة الكافي والفقيه والتهذيب، عن زرارة بطرق مختلفة، وليس شيءٌ من تلك الطرق على ما عثرنا عليه من الصّحيح الاصطلاحي، والظاهر أنَّ من نقل الخبر عن متأخري المحدثين والفقهاء إنّما أخذوه من تلك الكتب، كما أنَّ الظاهر منه أيضاً ذلك، ونحن كلّما تتبعنا لم نقف عليه مسنداً في غير تلك الكتب، والظاهر مِنْ أكثرِ مَنْ تَعَرَّضَ لذكره من المتأخرين أيضاً ذلك، حيث لم يشيروا إليه في شيء من كلماتهم، حتَّى المحقق النراقي الذي قد تَصَدَّى لجمع جميع أخبار القاعدة في عوائده ليس من أسانيده إلى زرارة في شيء من تلك الكتب من الصحيح الاصطلاحي([500]).

فإنَّ سَنَدَ الكافي على الوجه الذي ذكره أولاً في باب الضّرار مشتمل على ابن بكير، وهو وإنْ كان من أصحاب الإجماع([501]) لكنَّهُ فطحيُّ المذهب([502])، بل من رؤسائهم، وكذا سند التهذيب، وأيضاً سند الكافي على الوجه الآخر الذي ذكره مكرّراً في ذاك الباب فيه إرسالٌ، لكونه مروياً عن البرقي، عن أبيه، عن بعض أصحابه، عن عبد الله بن مسكان، وسند الفقيه على ما في مشيخته بالنسبة إلى متن الخبر على وجه ذكره في كتاب البيوع منه، حيث تَعَرَّضَ فيه لذكر ذاك الخبر عن زُرَارَةَ مُشْتَمِلٌ على ابن بكير، وفي مَحَلٍّ آخر في أبواب القضاء والأحكام حيثُ ذَكَرَهُ مرَّةً أخرى مشتملاً على الحسن بن صقيل([503]).

والحسن المذكور مجهول الحال كما نص عليه المجلسي في الوجيزة([504])،
وليس متّحداً مع الحسن بن زياد العطّار الثقة([505])، ولا مع الحسن بن
زياد الضبي([506])، كما أنّ هذين أيضاً ليسا متّحدين كما توهّمه محمّد([507]) بن علي الأردبيلي([508])، فلا وجه لتوهم كونه العطار الثقة.

فظهر إن شيئاً من هذه الأسانيد إلى زرارة ليس من الصحيح المصطلح، فعده الخبر صحيحاً اصطلاحياً غفلة واضحة.

وأما الاعتذار بأن المراد هو الصحيح القدمائي الذي يراد منه الوثوق بالصدور بجملة من القرائن، فنسبة مثله إلى مثل هذا المحقّق أضعف من سابقه.

نعم، يمكن عدّه باعتبار ابن بكير الواقع في بعض أسانيده من الموثق كالصحيح، باعتبار ابن بكير من أصحاب الإجماع، وظهور كون السند في الكتب الثلاثة إلى زرارة من باب السند المذكور في الروايات، من باب كونهم من مشايخ الإجازة إلى أصحاب الأصول، كما يستفاد من سياق سند الجميع، فإنَّ مشايخ الإجازة لا يحتاجون إلى التنصيص بوثاقتهم، وإنْ كانوا في أعلى درجات الوثاقة، لكن يصير الخبر بسببهم من أقسام كالصحيح.

لكن يمكن أنْ يجاب عن ذلك: بأنَّ تعبير الشيخ بقوله: (أصحّ ما في الباب) يقتضي كون الخبر صحيحاً، وأفعل التفضيل يقتضي المشاركة والزيادة.

وثانيها: قوله  رحمه الله : (في رواية أخرى موثقة: أنَّ سمرة بن جندب كان له
عذق في حائط لرجل من الأنصار وكان منزل الأنصاري بباب البستان وفي آخرها: قال رسول الله للأنصاري اذهب فاقلعها وارم بها إليه فإنَّه لا ضرر ولا ضرار).

فإنَّ ظاهره أَنَّ هذه الموثّقة هي خَبَرٌ آخر غير ما ذكره أولاً من خبر زرارة الذي عَدَّه من أصحّ ما في الباب، مع أنَّ الراوي عن زرارة على ما في كتب المشايخ الثلاثة على الوجه الذي بيّناه وذكرناه مُنْحَصِرٌ في رجلين أحدهما عبد الله إبن بكير الذي من جهته عُدَّتْ هذه الرواية موثقة، والآخر عبد الله بن مسكان، وليس في المقام خبر موثّق آخر غيرُ خبر ابن بكير، فجَعْلُ الموثقة في مقابل رواية زرارة المتقدمة عليها سهوٌ بيّن وغفلة واضحة.

ومما يتّضِحُ منه أنَّ مرادَه من الموثقة في كتابه هذا ليس خبراً موثقاً آخر غير موثقة ابن بكير عن زرارة، أنّه قال في رسالته في المسألة: ففي موثقة زرارة عن أبي جعفر  عليهم السلام ، ثم تَعرَّض لذكر رواية الحذّاء وابن مسكان ولم يشر إلى خبر موثقٍ آخر في هذه الواقعة أصلا([509]).

بل التتبع التام يشهد بعدم موثق آخر في هذه الواقعة، كما هو الظاهر من صاحب العوائد([510]) وغيره([511]) ممن تعرض لجمع أخبار الباب وخصوص أسانيد هذا الخبر، وسكت عن ذكر موثق آخر في هذه الواقعة.

وثالثها: إنَّ مَتْنَ خَبَرِ زُرَارَةَ الذي ذَكَرَهُ ليس في تمام الكُتُب الثلاثة التي كان هَذَا الخَبَرُ فيها، بل مَتْنُ خبر زرارة فيه اختلافٌ شديدٌ باختلاف الطُّرق المذكورة له في الكتب الثلاثة([512])، والمتن المذكور في كلامه متن خبر عبد الله بن مسكان، عن زرارة، على ما في الكافي، وأمّا متن موثقة ابن بكير عن زرارة على ما في كتاب البيوع من الفقيه فليس يطابقه، فلا يستقيم نسبة ذاك المتن إلى مطلق رواية زرارة التي قال في حقّها: (أنّها مروية في كلام غير واحد)، فإنَّ الظاهر من هذه العبارة أنّ المتن المذكور مذكور في رواية كلٍّ من هؤلاء الراوين عن زرارة، وفيه من الخلاف ما لا يخفى، مع أنَّ في هذا المتن المذكور في كلامه زيادة مخلّة بالاستدلال بالخبر، وليست تلك الزيادة في غير ذاك المتن من سائر متون الرواية، ولو كان الأمرُ بعكس ذلك لكان أسلم من ذاك الإيراد، ولعلَّ الذي أوقعه في هذا الاختلاف اقتصاره على مراجعة العوائد في نقل ذاك الخبر، وعدم مراجعة الأصول المتقدّمة المأخوذة عنها رواية هذه الواقعة، كما هو الظاهر من ذكره للرواية في الكتاب المذكور.

رابعها: أنّه ذكر في الرّسالة التي وضعها في هذه القاعدة بعد ذكر موثّقة ابن بكير، عن زرارة، وفي رواية ابن مسكان، عن زُرَارةَ، عن أبي جعفر  عليهم السلام  نحو ذلك بزيادة لا تغيّر المطلب([513])، مع أنَّ الزيادة التي فيها تغيّر المطلب تغييراً فاحشاً يخالف استدلاله بالخبر لحكومة القاعدة على سائر القواعد، كما سيأتي إنْ شاء الله تعالى.

هذا، وقد وَقَعَ للصّدوق في الفقيه في هذا المقام كلامٌ غريبٌ، وهو أنَّه بعد ذكر الخبر في أبوابِ القضاء، قال بعد ذكر ذاك الخبر: (قال مُصنِّف هذا الكتاب: ليس هذا الحديث بخلاف الحديث الذي ذكرته في أوّل هذا الباب من قضاء رسول الله في رَجُلٍ باعَ نخلاً واستثنى نخلة، فقضى له بالمدخل إليها والمخرج منها؛ لأنَّ ذلك فيمن اشترى النخلة مع الطريق إليها، وسمرة كانت له نخلة ولم يكن الممرّ إليها)([514]).

ووجهُ غرابة ذاك الكلام: إنّ خبر سمرة الذي هو رواه خالٍ عن ثبوت الطريق إلى النَّخلة وعدمه، فمِنْ أين استفادَةِ عَدَمِ مَلَكيّة سَمُرَة للطَّريق إليها، مع أنه لو كانَ غاصباً في الاستطراق لكانَ يمنعه النبيّ من أوّل الأمر ولا يُجاريه على النَّحو المذكور، مع أنَّ كونه مالكاً للنخلة كانَ كافياً في ثبوتِ المدخل له، مع عدم شَرْطِ عَدَمِهِ عند تملّكه، كما هو فقهُ المسألة في أحكام التوابع.

لا يقال: إنَّ عدم قول النبيّ للأنصاريّ (أنّه له حَقّ المدخل) بنحو الاستفهام كاشف عَنْ عَدَمِ حَقِّهِ.

فإنّه يقال: إنَّ الظاهر من مَتْنِ بعض الروايات المتقدمة أنّه كان ذا حَقّ في المدخل، فإنَّ قوله للأنصاري: (لا أستأذنُ في طريقي إلى عذقي)، وكذا قوله لرسول الله: (يا رسول الله أستأذن في طريقي إلى عذقي) يدلان على أنّه كان مُدّعياً لحقّه في الاستطراق، وعدم رَدّ رسولِ اللهِ كلامه هذا تقرير لحقية ادعائه.

هذا، وقد ذَكَرَ صاحِبُ المباني([515])، عن المولى الجليل القزويني([516]) في شرحه الفارسيّ للكافي، ما حاصله: إنَّ سمرة صاحب هذه الواقعة مع الأنصاري بفتح السين المهملة وضم الميم والراء المهملة، وجُندب بضم الجيم وسكون النون وفتح الدال المهملة، وحكي عن رجال مرزا محمد([517]) إنَّ جَدّ سَمُرَة ([518]) المذكور من أبيه هو هلال الأنصاري.

وقيل: إنّ البخاري أسند إليه في صحيحه، وحكى عنه رؤياه التي تَدُلُّ على حسن حاله.

وفيه ما لا يخفى: فإنّا تتبعنا الصحيح المذكور فلم نجد ما يدلُّ على حسن حال هذا الرجل، فقد ذكر في باب تعبير الرؤيا بعد صلاة الصبح: حَدَّثنا مؤمن بن هشام، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، حدثنا عوف، حدَّثنا أبو رجاء، حدثنا سمرة بن جندب L، قال: (كان رسول الله  (ص)  مما يكثر أنْ يقول لأصحابه هل رأى أحدكم من رؤيا، قال: فيقصُّ عليه من شاء أنْ يَقُصّ، وأنّه قال لنا ذاتَ غدٍ أتاني الليلة آتيان)([519])، ثمّ ذكر رؤيا طويلة وليس في شيء منها ما يدلُّ على حسن حال هذا الرجل، وغايةُ ما فيها مما يُشيرُ إلى حُسْنِ حاله ما وَقَعَ بَعْدَ اسمِهِ منْ جُمْلَةِ L، الظاهر أنَّ مراد ذاك القائل خصوص هذه الجملة المفيدة للترضية له من صاحب الكتاب، وهذا على فرض دلالته على ذلك ليس شيئاً من أجزاء الرؤيا، مع أنَّ دلالة مثله على المدح مبنيةٌ على كونه إخباراً عن رضا الله تعالى عنه لادعاء له، والظاهر هو الثاني كما هو المتعارف في استعماله.

وكيفَ كان؛ فيستفادُ سوء حاله من أمور عديدة:

منها: خصوص هذه الواقعة الواردة في خبر الضَّرر والضَّرار وبتلك الروايات المعتبرة، فإنَّ تخلّفه عَمَّا قال له رسول الله  (ص) ، وعدم قبوله قوله  (ص)  مع ما فيه من ضمانةِ أمر الدّين والدُّنيا وثواب الله الذي وَعَدَهُ بالجنَّة كاشفان عن عدم ميله إلى الجنة وأجر الآخرة، ولا يبعد أنْ يكون بعض كلماته في جواب النبيّ كاشفاً عن عدم اعتقادِهِ لثوابِ الجنّة، بل على إنكارِهِ أو عدم اعتقاده للمعاد.

ومنها: ما في المحكيّ عن صحيحِ مُسْلمٍ شَرْحُ النَّووي، وفي سُنَنِ البَيهقي([520]): إنَّ سمرة بن جندب باع خمر أهل الذمة، وأخذه في العشور التي عليهم، وبلغ هذا عمر بن الخطاب، فقال: (قاتل اللهُ سمرة، أما عَلِمَ أنَّ رسولَ اللهِ قال: لعن الله اليهود حُرِّمَتْ عليهم الشّحوم فجمّلوها وباعوها وأكلوا أثمانها)([521])، والمراد (بجملوها) أذابوها واستخرجوا دهنها.

ومنها: أنَّه شَجَّ رأس ناقةِ النبيّ التي كان يُحِبُّها، وكانت محترمة عند الأصحاب على ما رواه الكلينيّ في روضة الكافي، عن أبان، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله  عليهم السلام ، قال: (كانت ناقة رسول الله القصواء إذا نَزَلَ عنها عَلَّقَ عليها زمامها، قال: فتَخْرُجُ فتأتي المسلمين فيناولها الرّجل بشيء وتناولها هذا الشيء، فلا تلبث أنْ تشبع، قال: فأدخلت رأسها في خباء سَمُرَة بن جندب فتناول عنزة فضرب بها على رأسها فشجها، فخرجت إلى النبي فشكته)([522]).

ومنها: أنَّ ابن أبي الحديد المعتزلي([523]) شارح نهج البلاغة ذكر في شرحه أنَّ معاويةَ بَذَلَ لسمرة بن جندب مائة ألف درهم حتّى يروي أنَّ هذه الآية نزلت في علي  عليهم السلام  [وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ 6 وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ]([524])، وأنّ الآية الثانية نزلت في ابن ملجم، وهو قوله تعالى: [وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ]([525])، فلم يقبل فبذل مائتي ألف درهم فلم يقبل، فبذل ثلثمائة ألف درهم فلم يقبل، فبذل أربعمائة ألف درهم فقبل([526]).

ونقل عن السيد مصطفى التفريشي([527]) في حاشية كتاب نقد الرجال أنه قال بعد الرواية: وليتني أعلم أنَّ محمد بن إسماعيل البخاري ومسلم بن الحجاج القشيري والترمذي والنسائي وغيرهم من أهل السنة كيف حكموا بصحة الأحاديث المستندة إلى هذا الرجل([528]).

ومنها: ما في الشرح المذكور أيضاً أنَّ هذا الرجل عاشَ حتى حَضَرَ مقتل الحسين  عليهم السلام ، وكان من شرطة ابن زياد، وكان أيّام مسير الحسين  عليهم السلام  إلى العراق يُحرِّضُ الناس على الخروج إلى قتاله([529]).

وما يستفاد من خبر شَجِّهِ النّاقَةَ من سوء اعتقادِهِ وضَعْفِ إيمانه ليس أشدّ من قتاله لحجّة الله وابن رسوله، فإنَّ قطع رأس الحُجَّة أشدَّ من شجِّهِ رأس الناقة.

نعم، حكي عن ابن عقدة([530]) في كتاب الولاية أنَّ الرَّجُلَ ممّن روى حديث الغدير([531]).

هذا، ويمكنُ توجيهُ دلالة ذاك الخبر الوارد عن هذا الرّجل على قاعدة نفي الضَّرر بوجوده:

أحدها: ما يُستفاد من صدر الخبر من منع النبيّ  (ص)  صاحب العذق من ذهابه إلى عذقه من غير استئذان من الأنصاري لورود الضّرر على الأنصاري من ذلك، بل الظاهر من اشتراط الاستئذان في هذا المقام مع عدم ثبوت نظر سمرة إلى أهل الأنصاري أو عدم تحققه، كما هو الظاهر من سياق الخبر هو المنع عن الوقوع في معرض الضَّرر وإنْ لم يتَحَقَّقُ الضَّرر، فالرواية مع قطع النظر عن قوله  (ص)  فيها: (لا ضرر ولا ضرار) يُستفادُ منها نفيُ حكم جواز التصرّف بالأملاك والأموال إذا تَضَرَّرَ الغير بهذا التصرف، ولم يَكُنْ للمالك نفعٌ بهذا التصرّف، فإنَّ دخول سمرة إلى عذقه بدون الاستئذان لا نفع له به مع تَضَّرَر الغير به.

إنْ قلت: إنَّ الظاهرَ من طلبِ النبيّ الاستئذانَ من سمرة عند دخوله لعذقه على وجه الاستعطاف والترجّي، وعدمِ مَنْعِ النبيّ  (ص)  لسمرة من الدخول صريحٌ من أوّل الأمر، أنَّ سمرة كان ذا حقّ في الاستطراق إلى عذقه، ولم يكن هذا الضَّرر المحقق أو المحتمل مانعاً عن ذهابه وإيابه بالنسبة إلى ماله، كما أنَّ الظاهر من قوله في بعض روايات متون الخبر على الوجهِ الذي مَرَّ من قول سَمُرَة (يا رسولَ الله، أستأذن في طريقي إلى عذقي) على وجه الاستفهام الإنكاري، بل على وجهٍ يُستفادُ منه أنَّ الاستئذانَ ليس بأمرٍ لازمٍ شرعاً، لا من حيثُ السَّمع ولا من حيث العقل، وأنَّ سيرة الخلق جاريةٌ على خلافه، كما أنَّ المستفاد من قوله لهذا الأنصاري أيضاً ذلك، فدلالةُ صَدْرِ الخبر مع قطع النظر عن (لا ضرر) على خلاف المدَّعى أولى.

قلنا: لا يَخفى إنَّها ظاهِرَةٌ في منع سمرة من التصرّف في ملكه تصرُّفاً يَضُرُّ بالغير بلا نَفْعٍ يعودُ إليه، إذْ الدّخول بلا إذنٍ لا نفع له به لإمكانِهِ الدّخول مع الإذن، لاسيّما بملاحَظَةِ غَضَبِ النبيّ وتغيّره حتّى بلغ تغيّره إلى حَدّ الأمر بقطع العذق ورميه إليه، ولا رَيْبَ أنَّ تغيّره وغيظه لم يكن لأمرٍ دُنيوي، بل يكونُ لأمر شَرْعيّ وهو مخالفة حكم الله تعالى.

ثانيها: ما يُستَفَادُ من ذَيْلِ الخبر من قولِهِ (لا ضَرَرَ ولا ضِرار)، حيثُ يَدُلُّ على نفيِ عُمومِ أفرادِ الضَّرر والضّرار لكونِهِ نَكِرَة واقعة في سياق النفي، وخصوصيّة المورد لا تخصّص الوارد.

وهُنا إشكالٌ معروف على هذه الروايات الواردة في قصّة سمرة، وذلك لِعَدَم دلالة قاعدة الضَّرر إلاّ على عَدَمِ دُخولِ سَمُرَةْ بدونِ استئذان؛ لأنَّ الضَّرَرَ إنّما كان فيه فقط لا في قلع عذقه، فالقاعدة لا تقتضي قَلْعَ عذقه، فكيفَ استدلّ بها النبيّ  (ص)  على قَلْعِ عِذْقِهِ، كَيْفَ وعَدَمُ تشريعِ الحُكْمِ الضَّرَريّ لا يقتضي الإضرار بالغير بقَلْعِ شَجَرَتِهِ، بَلْ لو كانَتْ القاعِدَةُ تقتضي قَلْعَ عذقه لكان الأمرُ يَقْتَضي تَعَارُضَ الضَّررين: ضَرَرَ سَمُرَة بقَلْعِ عِذْقِهِ، وضَرَرَ الأنصاري ببقاء عذق سمرة، فما هو وجه الترجيح لأحدهما؟ كيف ولم يذهب أحدٌ إلى صِحَّةِ منع الجار لِصُعودِ صاحب الدّار لسَطْحِهِ لكونَ ذلك ضَرَرٌ عليه بالرّؤية لأهله.

ويمكن الجوابُ عنه: بأنَّ عدم فهم وجه حكمه  (ص)  بقطع النخلة مع أنَّ نفيَ الضَّرَر لا يقتضي سُقوطَ الاستدلالِ بالحديث، إذ غايةُ الأمر أنْ يقال: إنّه قضية في واقعة.

وبعبارة أخرى: جَهْلُنا بوجهِ الاستدلال لا يُوجِبُ عَدَمَ صِحّةِ الحديث والرّواية، إذْ لَعَلَّه قد خَفِيَ علينا ذلك، هذا مُضافاً إلى أنَّ دخول سمرة بدون الأذن تَصَرُّفٌ مُضِرٌّ بالغير، ولم يَكُنْ في تركه ضَرَرٌ عليه، إذْ الإعلام بالدّخول لتوقّي أهلِ الدار عنه لا ضَرَرَ فيه على سَمُرة، وهو يُضِرُّ بأهل الدّار، وقاعدة الضَّرَر إنّما استدلّ بها النبيّ على ذلك، لا على قَلْعِ العذق كما هو ظاهرُ رواية ابن مَسْكان، عن زرارة، وظاهرُ روايةِ الحُذَّاء، وأمّا أمرُ النبيّ بالقَطْعِ للعذق فهو من جهة ولايته على المسلمين، وخوفُ الفتنة من بقائه، لا من جهة الضَّرر على الأنصاري، ولو فرض من جهة تعارض الضَّررين فيقدَّم ضرر الأنصاري لأنه مأمونٌ على سمرة لا بأنّهُ غيرُ مأمون عليه، كما تقدم.

وكيف كان؛ فالإشكالُ لا يضرّ بالاستدلال بالرّواية على ثبوتِ أصلِ القاعدة كما هو المحكيّ عن الشيخ الأنصاري([532]).

وقد ذَكَرَ في وجهِ تقديم ضَرَرٍ الأنصاري على ضرر سمرة مع اشتراكهما في أصلِ الضَّررِ المنفي وجوه:

منها: أنّ سمرة كانَ قاصد الإضرار ومتغرضاً في ذلك كما يومئ إليه
 قوله  (ص) : (إنّك رَجُلٌ مُضَارّ).

ومنها: أنَّه كانَ غَرَضُهُ من ذلك الاطّلاعُ على أهل الأنصاري وحالاته وهو لا يرضى بذلك، فحَكَمَ بنفي الإضرار على المؤمن.

ومنها: إنَّ ضَرَرَ سمرة كان ممّا يمكن تدارُكه وجبره ولو بالمعارضة حسبما ذكر في الروايات، بخلافِ ضَرَرِ الأنصاريّ اللازم من هَتْكِ عِرْضِهِ باطّلاع الأجنبيّ عليه فإنّه لا يُمْكِنْ جبره.

ومنها: أنَّ ضَرَرَ الأنصاري قد أقدم عليه سَمُرَة بنفسه من جهة عدم استئذانه وعدمِ قبولِهِ بالمعارَضة، بخلافِ ضرر سَمُرَة فإنّه لم يُقَدّم عليه الأنصاري
ولم يردّه.

ومنها: إنَّ التعارض في المقام حقيقة بين الملك والحقّ، فإنّه كانَ لسمرة حقّ المرور في ملك الأنصاري، وكانت الأرض ملكاً للأنصاري، فراعى  (ص)  جانب الملك ورجّحه على الحقّ.

ومنها: إنّ ضَرَرَ الأنصاريّ كما يرتفع بمنع دُخولِ سمرة للدّار كذلك يرتفع بقطع العذق فَصَحّ الحكم بقطع العذق لأجل الضرر.

وتحقيقُ الحقّ في صِحّةِ هذه الوجوه يظهرُ بالتأمّل فيها فلا حاجة
للإطالة فيها.

الثاني من الأخبار: المحكيّ عن فروع الكافي من رواية عقبة بن خالد، عن الصادق  عليهم السلام : (قضى رسولُ الله بالشُّفْعَةِ بين الشّركاء في الأرضين والمساكن، وقال: لا ضَرَرَ ولا ضرار)([533])، والمحكيّ عن بعض نسخ من لا يحضره الفقيه المصحَّحة في باب الشُّفْعَة: (لا ضَرَرَ ولا إضرار)([534])، وفي نسخة الوسائل: (فقال: لا ضَرَرَ فلا ضرار)([535])، بالفاء لا بالواو، إلاّ أنَّ المحكيّ عن شيخِ الشَّريعة([536]) أنَّ النُّسَخَ الصَّحيحة من الكافي متّفقة على الواو([537]).

الثالث: رواية أخرى عنه  عليهم السلام ، فيها: (قضى رسول الله  (ص) )، قال في آخرها: (لا ضرر ولا ضرار)([538]).

الرابع من الأخبار: ما في المستدرك، عن أبي عبد الله  عليهم السلام  أنّه قال في الأرض تكونُ حبيساً على القوم فيبني بعضهم ثمّ يموتُ فيبيعُ بعض ورثته حصّته، هل لصاحبه شفعة؟ قال: (نَعَمْ له الشّفعة لأنه يَدْخُلُ على ما بقي مضرّة إذا كان بهدم نصف كُلّ بيتٍ فَيدْخُلُ في ذلك فساد)([539]).

الخامس من الأخبار: الرّوايات الصَّادرة في خصوص الاحتكار، وكفاك ما في نهج البلاغة في عهده  عليهم السلام  للأشتر حين ولاّهُ مِصْرَ، ثُمَّ استوصى بالتّجار وأهل الصناعات- إلى أنْ قال-: (واعلمْ مع ذلك أنَّ في كثيرٍ منهم ضيّقاً فاحشاً، وشُحّاً قبيحاً، واحتكاراً للمنافع، وتحكُّماً في البياعات، وذلك باب مُضِرَّةٌ للعامّة وعيب على الولاة، فامنع الاحتكار، فإنَّ رسولَ الله  (ص)  منع منه) ـ إلى أنْ قال ـ: (فمَنْ قارَفَ حكرة بعد نَهْيِكَ إيّاهُ فنكَّل به وعاقَبَ من غير إسرافٍ)([540]).

السادس: من الأخبار ما في كتاب المستدرك عن أبي عبد الله  عليهم السلام ، أنّه قال: (ليس لمن اكترى داراً أنْ يدخل فيه ما يَضُرّ بالدار والجيران، فإنْ اكتراها ولم يسمّ ما يعمل فيها، فليس لصاحِبِ الدّار أنْ يمنعه مِنْ عَمَلٍ يعمل به ما لم يكن يضرّ، وكذلك الحوانيت)([541]).

السّابع: ما في المستدرك، عن دعائم الإسلام: رُوينا عن أبي عبد الله  عليهم السلام  أنّه سُئل عن جدارِ الرَّجل وهو سترة فيما بينه وبين جاره سقط، فامتنع من بنيانه، قال: (ليس يجبر على ذلك إلاّ أنْ يكون وَجَبَ ذلك لصّاحب الدّار الأخرى بحقّ أو شرط في أصل الملك، ولكنْ يقال لصاحب المنزل استر على نفسك في حقك إنْ شئت)، قيل له: فإنْ كانَ الجدار لم يسقط ولكنّه هدمه إضراراً بجاره لغير حاجةٍ منه إلى هدمه، قال: (لا يترك، وذلك إنَّ رسول الله  (ص)  قال: لا ضَرَرَ ولا ضرار، وإنْ هَدَمَهُ كَلَّفَ أنْ يَبنيه)([542]).

الثامن: ما في الفقيه ص243 ج4 طبع النجف الأشرف، قوله  عليهم السلام : (لا ضَرَرَ ولا ضرار في الإسلام)([543]).

وبهذا تَعْرِفُ ما في كلام شارح الرّسائل الشيخ غلام رضا([544]) من أَنَّه لم يعثر في الكتب المعتبرة على مثل قوله  عليهم السلام : (لا ضَرَرَ ولا ضِرار في الإسلام).

نعم عن التذكرة([545]) ونهاية اللغة([546]) ذَكَرَهُما هذا الخبر مُرْسَلاً عن النبي.

لكنّ المحقّق في محلّه: إنَّ مراسلات العلماء ليست بحجّة ولو قُلنا بحجيّة الخبر المرسل، وسيجيءُ إنْ شاءَ اللهُ في الطائفة (العشرون) من أخبار هذا الباب ما يرتبط بهذا المقام([547]).

التاسع: ما رَوَاهُ في المستدرك عن أبي عبد الله  عليهم السلام : أنّه سئل عن الجدار بين الرجلين ينهدم فيدعو أحدهما صاحبه إلى بنيانه ويأبى الآخر، قال: (إنْ كان مما ينقسم قسم بينهما وبنى كُلُّ واحدٍ منهما حَقَّه إنْ شاءَ أو ترك إنْ لم يكن ذلك يضرّ بصاحبه، وإنْ كان مما لا ينقسم، قيل له: إبنِ أو بِع أو سلّم لصاحبك إنْ رَضيَ أنْ يبينه ويكونُ له دُونَكَ، وإنْ اتّفقا على أنْ يبنيه الطّالب أو ينتفع فإنْ أرادَ الآخر الانتفاعُ به معه دفع إليه نصف النفقة)([548]).

العاشر: الصَّحيح الذي رواه محمّد بن يعقوب، عن محمّد بن يحيى، عن محمّد بن الحسين، قال: كتبت إلى أبي محمّد: رَجلٌ كانت له رَحَىً على نَهْرِ قرية، والقرية لرجلٍ، فأرادَ صاحبُ القريةِ أنْ يسوقَ إلى قَرْيَتِهِ الماء في غيرِ هذا النهر ويُعَطِّلُ هذه الرَّحَى، أله ذلك أم لا؟ فوَقَّع  عليهم السلام : (يتّقي اللهَ ويعمل في ذلك بالمعروف ولا يضرّ أخاه المؤمن)([549]).

الحادي عشر: الصَّحيحُ المرويُّ عن التَّهذيب والكافي، وهو خَبَرُ هارون بن حمزة الغنوي، عن أبي عبد الله  عليهم السلام : رَجُلٌ شَهِدَ بعيراً مريضاً يباعُ فاشتراه رجل بعشرة دراهم، فجاءَ واشتَركَ فيه رَجُلٌ بدرهمين بالرّأس والجلد، فقُضِيَ أنَّ البعير برأ فَبَلَغَ ثمنه دنانير، قال: فقال: (لِصَاحِبِ الدّرهمين خُمْسُ ما بَلَغَ، فإنْ قال: أريد الرأس والجلد فليس له ذلك هذا الضّرار، قد أعطي حقّه إذا أعطي الخمس)([550]).

الثاني عشر: ما رواهُ في الكافي في باب الضّرار من كتاب المعيشة، عن محمّد ابن يحيى، عن محمّد بن الحسين، قال كتبت إلى أبي محمد  عليهم السلام : رَجُلٌ كانت له قناة في قرية، فأرادَ رَجُلٌ أنْ يحفر قناة أخرى إلى قريةٍ له، كم يكونُ بينهما في البُعْدِ حتَّى لا تضرّ إحداهما بالأخرى في الأرض إذا كانت صلبة أو رخوة، فوقَّع  عليهم السلام : (على حسب أن لا تضرّ إحداهما بالأخرى إنْ شاء الله)([551]).

الثالث عشر: ما رواهُ محَمَّدُ بن يعقوب، عن عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن محمّد بن حفص، عن رَجُلٍ، عن أبي عبد الله  عليهم السلام ، قال: سألتُهُ عن قومٍ كانت لَهُمْ عيونٌ في الأرض قريبة بعضها من بعض، فأرادَ رَجُلٌ أنْ يجعل عينه أسفل من موضعها الذي كانت عليه، وبعض العيون إذا فعل بها ذلك أضرَّ بالبقية من العيون، وبعضها لا يضرّ من شدة الأرض، قال: فقال: (ما كان في مكان شديد فلا يَضُرّ، وما كانَ في أرضٍ رَخْوَةٍ بطحاء فإنّه يضرُّ)، وإنْ عَرَضَ رَجُلٌ على جاره أنْ يَضَعَ عَيْنَه كما وضعها وهو على مقدارٍ واحد، قال: (إنْ تراضيا فلا يضرّ)، وقال: (يكونُ بين العَينين ألف ذراع)([552]).

الرابع عشر: ما رواهُ مُحمَّدُ بن يعقوب، عن مُحمَّدُ بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن مُحمَّد بن عبد الله بن هلال، عن عُقْبَةَ بن خالد، عن أبي
عبد الله  عليهم السلام  في رَجُلٍ أتى جَبَلاً فشَقَّ فيه قناةً فذَهَبَتْ قناة الأخرى بماء قناة الأولى، قال: فقال: (يتقاسمان بحقائب البئر ليلة ليلة، فينظر أيّتهما أضَرَّتْ بصاحبتها، فإنْ رُئِيت الأخيرة أضرّت بالأولى فلتعور)([553])، ورواهُ الصّدوق بإسنادِهِ عن عقبة بن خالد نحوه، وزاد: (وقَضَىَ رسول الله  (ص)   بذلك، وقال: إنْ كانَتْ الأولى أخذت ماء الأخيرة لم يَكُنْ لصاحِبِ الأخيرة على الأوّلِ سَبيلٌ)([554])، وعن محمد بن الحسن بإسناده عن أبي عبد الله  عليهم السلام  قريب منه([555]).

الخامس عشر: صحيحة البزنطي عن حماد، عن معلّى بن خنيس، عنه  عليهم السلام ، قال: (من أضرَّ بطريق المسلمين شيئاً فهو ضامن)([556]).

السادس عشر: صحيحة الكناني عن أبي عبد الله  عليهم السلام ، قال: (من أضرَّ بشيء من طريق المسلمين فهو له ضامن)([557]).

السابع عشر: ما رواه المشايخُ الثلاثة بإسنادهم عن الحلبيّ، وفيه: (كُلّ شيء يُضِرُّ بطريق المسلمين فصاحِبُهُ ضامِنٌ لما يصيبه)([558]).

وهَذِهِ الأخبارُ ظاهِرَةٌ في أنَّ مَنْ أضَرَّ بشيءٍ من الطّريق للمسلمين، بأنْ يَنْصِبْ مرزاباً، أو يَحْفِرْ بئراً، أو يَرُشَّ ماءاً، أو وَضَعَ حجراً، ونحو ذلك فهو ضامن لما يتلف بسبب ذلك الضَّرر.

ويستفاد من ذلك: أنّ ذا الحقّ أو المالك يمنع من التصرّف في ما هو ملكه
أو حقُّه إذا تَضَرَّر سائر ذوي الحقوق أو الملاكين؛ لأنَّ الطرق والشوارع إمّا مملوكة للناس أو محبوسة على الحقوق العامّة لهم، وعلى التقديرين المضرّ واحد منهم.

ودعوى أنَّ هذه الأخبار ظاهرةٌ في ثبوت القاعدة بالنسبة إلى الحكم الوضعيّ الذي هو الضَّمَانُ خاصَّة لا تنفع مُدّعيها؛ لأنَّ الظّاهرَ عَدَمُ القَوْلِ بالفصل بين الحكم الوضعي والتكليفيّ في هذه القاعدة، مُضَافاً إلى ما عَرَفْتَهُ من دلالتها على المنع من التّصَرّف إذا حَصَلَ بهِ الضَّرَرُ على الغير.

الثامن عَشَرْ من الأخبار: ما في الكافي في بابِ الضّرار من كتاب المعيشة من رواية عُقْبَةَ بن خالد، عن أبي عبد الله  عليهم السلام ، قال: (قَضَى رَسولُ الله  (ص)  بين أهل المدينة في مَشَارِبِ النَّخْل أنّه لا يمنعُ نفع الشيء، وقضى  (ص)  بين أهل البادية أنه لا يمنع فضل الماء ليمنع به فضل كلأ، فقال: لا ضرر ولا ضرار)([559])، وفي بعض النسخ بدل (نفع الشيء) (نفع البئر)([560])، وفي رواية عبادة بن الصَّامت: (نقع بئر)([561])، والمراد ما يفصل من ماء البئر، والمراد (لا يمنع فضل الماء)، هو أنْ يمنع الماء الزائد لئلا يصير الكلأ فترعى به الماشية.

نعم، قد يُستشكلُ في هذه الرواية بأنَّ قاعدة الضَّرَّر إنّما تنفي الحكم الضَّرَريّ للغير، لا الأحكام التي لا نَفْعَ فيها للغير، ومنع نفع البئر للنخل، أو منع فضل الماء للكلأ لرعي الماشية هي أحكامٌ لمنع نَفْعِ الغير لا أحكامٌ لإضرار الغير.

ولا يخفى ما فيه: فإنّه فيها ضَرَرٌ على مالِ الغير، حيثُ إنّه يَتَضَرَّرُ بذلك النّخل والماشية.

والحاصل: إنَّ ظاهر الرواية: أنَّ البئر والماء لا يملكها المانعُ لهما، بَلْ هُما للنّفع العامّ للجميع، فمَنْعُ الشَّخص للانتفاع بهما في نَخْلِهِ وماشيته فيه إضرارٌ على الغير من دونِ تَصَرُّفٍ بما ينفع المانع، فقاعِدَةُ لا ضَرَرَ تَقْتَضي عَدَمَ جواز المنع.

التاسِعْ عشر: روايةُ طَلْحَةَ بن زيد، عن الصَّادق  عليهم السلام : (إنَّ الجارَ كالنَّفْسِ غير مُضَارٍّ ولا آثم)([562])، ولَعَلَّ المراد: أنَّ الرَّجُلَ كما لا يُضَارّ نفسه ولا يعد ما يصدر منها إثماً عليه، أو لا يوقعها في الإثم، كذلك ينبغي أنْ لا يُضَارّ جاره ولا يعد ما يصدر منه إثماً عليه، أو لا يوقعه في الإثم.

العشرون من الأخبار: ما عن العلامة في الذّكرى([563])، والتذكرة([564])، والطريحي([565]) في مجمع البحرين([566])، والهيثمي([567]) في مجمع الزوائد([568])، وعلاء الدين الحنفي([569]) في بدائع الصنائع([570])، والسرخسي([571]) في المبسوط([572])، وابن الأثير في النهاية([573])، والصّدوق في باب أنَّ المسلم يَرِثُ الكافر([574]) مرسلاً عن النبي  (ص) : (لا ضرر ولا ضرار في الإسلام)، وعن كنز العمال، عن رسول الله  (ص) : (لا ضرر في الإسلام)([575])، وقد حكى بعضهم([576]) عن النسخة المصححة للفقيه: أنه  عليهم السلام  قال: (لا ضرر ولا ضرار في الإسلام)، وعن كتاب الخلاف([577]) للشيخ، وعن ابن زهرة في باب خيار العيب([578])، وعن مسند ابن حنبل([579])، والبيهقي في السنن([580])، والحاكم([581]) في المستدرك([582])، والنووي في الأربعين، وعن ابن ماجة([583])، والدارقطني([584])، ومالك([585]) في الموطأ([586])، والسيوطي([587]) في الجامع الصغير([588])، أنه قال النبي  (ص) : (لا ضرر ولا ضرار) بدون التقييد بـ (في الإسلام).

الواحد والعشرون: ما في المستدرك([589])، عن دعائم الإسلام([590])، عن أبي عبد الله  عليهم السلام  أنه قال: (مَنْ أرادَ أنْ يُحوِّلَ باب دارِهِ عن موضعه، أو يفتح معه باباً غيره في شارعٍ مسلوكٍ نافذٍ فذلك له، إلاّ أنْ يتبيّن أنّ في ذلك ضرراً بيّناً، وإنْ كان في رائقة سكّة غير نافذة لم يفتح فيها باباً ولم ينقله عن مكانِهِ إلاّ برضا أهل الرائقة).

الثاني والعشرون: المرويُّ في نوادر وكالة المستدرك عن أبي جعفر  عليهم السلام ، قال: (وإنْ علم أنّه تعمَّد شيئاً من الضَّرَر، رَدّ بيعه وشراؤه)([591]).

الثالث والعشرون: ما في نكاح المستدرك عن أمير المؤمنين  عليهم السلام  في التوصية في حقّ النساء أنّه قال: (وإنّهُنّ أمانةُ اللهِ عندكم فلا تُضَارُّوهُنَّ ولا تعضلوهن)([592]).

الرابع والعشرون: ما في تجارة الكتب المذكورة في مداخلة أموال اليتيم عن أبي عبد الله  عليهم السلام  قال: (إنْ يَكُنْ دخولكم عليهم فيه مَنْفَعَةٌ فلا بأسَ، وإنْ كان فيه ضَرَرٌ فلا)([593]).

الخامس والعشرون: ما ورد من الأخبار الكثيرة في مُدَّةِ رِضاعِ الأولادِ وعَدَمِ الإضرارِ بهم وبأمّهاتهم([594]).

السادس والعشرون: ما رواه الشيخ الأنصاري في مكاسبه([595]) في مبحث حرمة الغشّ، قال: وفي روايةِ العيون قال رسولُ اللهِ  (ص)  بأسانيدَ: (ليس من المسلمين مَنْ غَشَّ مسلماً أو ضَرّه أو مَاكَرَه)([596]).

فقاعدة (لا ضرر) متواترةٌ مَعنىً وإنْ اختَلَفَتْ الألفاظُ والموارد، بل مُتواتِرَةٌ إجمالاً، بمعنى: القَطْعِ بصُدورِ بَعْضِ هذه الأخبار الدالّة عليها.

ولو سَلَّمنا عَدَمَ التواتر، فاستِنادُ المشهور إليها مُوجِبٌ للوثوق بها وانجبار ضَعْفِها، فلا إشكالَ فيها من جِهَةِ سَنَدِها، بل لَعَلَّ هذه القاعدة بلسان (لا ضَرَرَ ولا ضِرار) يَحْصَلُ الوثوق بصُدورِها إنْ لم يَحْصَلُ القطع، لاشتمالِ كثير من الأخبار عليها بهذا اللسان، كما تقدَّمَ التصريحُ بذلك في محكيّ الإيضاح في باب الرهن([597])، بل هو الظّاهِرُ من العلامة في التذكرة([598])، ومن الشيخ في الخلاف([599])، وفي تفسيره التبيان([600])، حيثُ نسبا جملة (لا ضرر ولا ضرار) للنبيّ على وجه الجزم واليقين، بل الظاهر تواتره عند أهل السنة أيضاً، كما يظهر من ابن الأثير([601]) ومسند ابن حنبل ([602])، فإنّ المحكيّ عن مسند أحمد بن حنبل أنه قد روى: (لا ضرر ولا ضرار في الإسلام) عن النبي  (ص)  بتوسط ابن عباس، وعن سنن ابن ماجة عن النبي  (ص)  بتوسط عبادة، وعن النووي إنه حَسَّنَهُ في الأذكار([603]).

المقام الثاني: في شَرْحِ الألفاظِِ الواردة في هذه القاعدة

المقام الثاني: في التعرّض لدلالتها وشرح الألفاظ الواردة فيها من (الضرر، والضرار، والإضرار) وبيان معانيها، فنقول:

الكلامُ تارةً يقع في بيان مفهوم مواد تلك الألفاظ، وأخرى في هيئاتها.

أمّا الكلامُ في مادة تلك الألفاظ وبيان مفادها، فهو أن يقال: إنَّ الضَّرَرَ قد يُسْتَعَمَلُ مصدراً (لضرَّ) المجرَّدة، وقد يُستعْمَلُ اسمُ مصدر، فإنْ استعمل في نفس صدور الضَّرَر من فاعلِهِ كانَ مصدراً، وإنْ استعمل في نفس الضَّرَر صارَ اسمُ مصدرٍ، والفَرْقُ بين المصدر واسمه: إنَّ الأوّل يستعمل في نفس الحدث بلحاظ صدوره من فاعله، واسمُ المصدر يستعمل في نفس الحدث وماهيته.

وكيف كان؛ فمعناه النقصان، سواء كان في الأموال، أو الأعيان، أو الأعراض، أو الجاه ونحو ذلك، ولعلَّه يقصد هذا المعنى مَنْ فَسَّرَهُ بالضِّيق من باب تفسير اللفظ بأحد مصاديقه.

حكى المرحوم والدي الرّضا عن بعض مشايخه، بأنَّ الضَّرَرَ عبارةٌ عن فوات ما يجده الإنسانُ من نفسه وعِرْضِهِ ومالِهِ وجوارحه، فإذا نَقَصَ ماله أو طرفٌ من أطرافه بالإتلاف أو التلف بالاختيار أو بدونه فقد تضرَّر، بل إذا كان النفع قد تَمَّ اقتضاؤه ثُمَّ فاتَ فقد تَضَرَّر.

ومن هنا يَظْهَرُ لكَ فَسَادُ مَنْ جَعَلَه مقابلاً للنّفع تَقَابُلَ العَدَمِ والملكة، بمعنى: إنّ الضَّرَرَ هو عَدَمُ النَّفْع عَمَّا من شأنه أنْ يقبل النفع، ووجهُ الفساد: أنّ عدم النفع المذكور قد يجتمع مع عدم الضرر، كما لو كانت تجارته لم تربح ولم تخسر فإنَّ النفع قد عدم عمّا من شأنه أنْ يقبل النّفع مع عدم تحقق الضرر.

نعم، الضَّرَر عبارَةٌ عن العدم المذكور بشَرْطِ أنْ يكون مع عدم كون الشيء تامّاً وهو المسمَّى بالنَّقْص.

وعليه: فيكونُ الضَّرَرُ عبارَةٌ عن نَقْصِ ما يقبل الاتّصافَ بالنفع، فهو نَظيرُ تَقَابُل الزيادة والنقصان، ونظيرُ تقابُل الأسفل والأعلى؛ بمعنى أنَّه يُوجَدُ بينهما أمرٌ وَسَطيّ، فبَيْنَ الضَّرر والنَّفْعِ هو التمام، وبينَ الأسفلِ والأعلى هو الوَسَط، وبين الزيادة والنقصان هو الكمال، وبين الرّبح والخسارة هو المساواة، فمرادهم بتقابَلُ الضَّرَر للنفع هو كونُ كُلٍّ منهما في طَرَفِ أَحَدِهِما في طَرَفِ المبدأ وهو الضرر، والآخر في طرف المنتهى وهو النَّفْعُ كما في التّقابُل بين المذكورات.

ومرادُهُم بقولهم: إنَّ الضَّرَرَ عَدَمُ ملكةِ النَّفْعِ هو عبارةٌ عن النقص فيما يكونُ من شأنه النفع.

وأَقْرَبُ التّعابير لمعناه وأتمّها وأشملها هو تفسيرهُ بالنقص المخِلِّ بالشيء، وإلاّ فالنقصُ غيرُ المخلّ ليس بضَرَرٍ كالكَرَم وقصّ الأظافر والختان.

نَعَمْ، الضَّرَرُ إنّما يكونُ بالنقص الذي يُحَسّ، وأمّا النقص غير المحسوس أعني: بالنقص في المعنويات والاعتبارات فلا يسمّى ضَرَراً لأنّها لا يتصف الشيء فيها بالنفع، فزيادَةُ الجاهِ للشَّخْصِ لا يَصْدُقُ فيها النَّفْعُ للشَّخْصِ، كما في زيادة المال والصّحّة.

نعم، لو كانَ نَقْصُ الجاهِ والمنزلة قد أَوْجَبَ الأذى للشَّخْصِ صارَ ضَرَرَاً له؛ لأنَّ الأذى أمرٌ مَحْسوسٌ، كما أنَّ زيادَةَ الجاهِ تكونُ نَفْعَاً للشَّخْصِ لو أوجبت ابتهاج النفس له، وهكذا الحالُ في هَتْكِ العرض فإنَّه إذا أوجبت الأذى للشخص صَحَّ نسبَةُ الضَّرر إلى ذلك الشخص عندما يَقَعُ في الأذى المذكور، وإلاّ فلا تَصِحُّ تلك النسبة؛ ولعلّهُ كانَ نَظَرُ من فَسَّرَ الضَّرَرَ بإدخال الملالة والكراهة على المضرور إلى ذلك، كما يظهر من المصباح، حيثُ قال: (إنَّ الضَّرر بفتح الضّاد مصدر ضَرّ يضرّه مما من باب ملّه إذا فعل به مكروهاً)([604]).

وهو تفسيرٌ بالأخصّ، وذلك لأنَّ الضَّرَرَ قد يَحْدُثُ في المضرور من دون التفاتٍ منه إليه كما لو سَرَقَ ماله من دونِ التفاتٍ منه إلى سَرِقَتِهِ فإنّه إذ ذاك لا يحدث في نفسه الكراهة.

فتلخّصَ: إنّ الضرر ضدّ النفع، ولهما ضدٌّ ثالث وهو لا ضرر فيه ولا نفع.

ودعوى أنّ تعريف الضَّرر بإدخال النقص على المضرور في حقه كما
يظهر من النهاية، حيثُ قال ما هذا لفظه: (فمعنى قوله: (لا ضرار)، أي: لا يضرّ الرجل أخاه فينقصه شيئاً من حقه)([605])، تنافيه الروايات الواردة المتقدّم ذكرها
في قصة سَمُرة بن جندب، فإنَّ الضَّرَرَ في تلك القضيّة ليس إلاّ التّعريضُ
بعرض الأنصاري، وليس الضَّرَرَ فيها نقص حقّ من حقوقه، مع استشهاد الرسول  (ص)  بقوله: (لا ضرر ولا ضرار).

فاسدةٌ؛ لأنَّ سمرة قد آذى الأنصاري بدخوله على عائلته بدون إستئذان، حيثُ إنّه قد أنقص من ناموسه وجاهه برؤيته لعائلته وهَتْكِ حُرْمَتِها، فهو قَدْ أضَرَّ.

ثمّ إنه لا فَرْقَ في الضَّرَرِ بين المالي والعرضي والنفسي؛ ثمّ المالي أعمّ من العين والمنفعة والحقوق المالية كحقّ الأولوية في المدارس والمساجد؛ والنّفسي أعمّ من النفس والعضو والجرح والألم بالضّرب؛ والعِرضيّ أعمّ من الزّنا وغيره مما يُخِلُّ بالعرض.

كما أنّ هذه الأمور تختلفُ باختلافِ الأشخاص والحالات، فإنَّ الدّرهم قد يكونُ ضَرَراً لشخصٍ دُونَ آخر، وفي حالٍ دُونَ آخر، كما أنّ الظاهر أنَّ المراد هو نفيُ الضَّرر الدُّنيويّ الحاصل من النّقص في ماله أو بَدَنِهِ أو عِرْضِهِ، فإنَّه هو المتبادر.

وأمّا الكلام في هيئاتِ تلك الألفاظ المستعملة في بيانِ هذه القاعدة ومعناها فنقول:

أمّا (الضَّرَرُ) بفتح أوّلِهِ مع عَدَم الإدغام فهو مَصْدَرٌ من (ضَرّ)، وليس كما توهَّمَهُ بعضُ المعاصرين من أنّه اسمُ مصدر([606])، ونظيره الملل والمدد؛ نَعَمْ، لا ينكر إنّ المصدر طالما يُستعمل بمعنى اسم المصدر كما تقدم.

ثمّ إنّه لا يجوز مع عَدَم الإدغام إلاّ فتح أوله، وأمّا إذا أْدغم فإنه يقرأ بالفتح، ويكونُ مَصْدَراً، وبالضمّ فيكونُ اسمَ مصدرٍ، لنُدْرَةِ مجيءِ المَصْدَرِ من الثلاثي المضعَّف بهذا الوزن، فلذا جَعَلَهُ القومُ اسمُ مَصْدَرٍ.

وقد ادّعى بَعْضُهُم الفَرْقَ بين الضمّ والفتح في المشدَّد بأنّه إذا ضَمَّ فيراد به سوءُ الحال أو الفقر أو شدّة في البدن وإذا فتح فهو ضدَّ النفع([607]).

ثمّ إنّ بعضهم ادّعى بأنه إذا جمعت بين الضُرّ والنفع فتحت الضادّ، وإذا أفردت الضُرّ ضَمَمْتُها إذا لم تستعمله مصدراً، كقولك: (ضررت ضرّاً) يراد به مُجرَّدُ فِعْلُ الضَّرَر، كما هو شأنُ المصادر المجردة([608]).

ولم أتأكد من صحّة هذه الدعوى، بل لعلّ الاستعمال على خلافها ولا تقتضيها القواعد اللغوية.

وأما (الضِرار) بكسر أوله مصدر لضارّ، كما أنّ مصدره يأتي أيضاً على مضارّة؛ لأنَّ فاعل مصدره القياسي (فِعال ومفاعلة)، (قاتل قتالاً ومقاتلة)، فلا وجه لجعله مَصْدَراً للثلاثي وهو (ضَرَّ)؛ لأنه لم يكن مصدره القياسي ذلك، فلا يجوز حَمْلُهُ على غير القياس مع وجود الحمل له على القياس، كما احتمل ذلك أستاذنا المشكيني([609]).

وإذا ثبت أنّه مصدر (ضارّ)، وضارّ تأتي لمعانٍ كثيرة إلاّ أنَّ أظهرها
هو المشاركة، فيكونُ معناها مشارَكَةُ كُلٍّ منهما الآخر في الضَّرَر، نظيرُ (ضاربته، وعانقته)، فيكون معنى (لا ضرار): ولا مضارّة، أي: لا يضرّ كُلٌّ منهما
الآخر، نظير لا ضراب ولا عناق، فلو استعمل في نفي نفسِ الحَدَث كانَ
من المجاز وهو خلاف الأصل.

وقد يأتي بمعنى التّصدّي للحَدَث وإنْ لَمْ يَقَعْ الحَدَث، كما في (يُخادعون الله تعالى، ويماكرون الله، ويراؤون)، وحمل على هذا المعنى قوله تعالى: [وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا]([610])، وقوله تعالى: [مَسْجِدًا ضِرَارًا]([611])، وعُدَّ منه: (عاجله بالعقوبة، وبارزه بالحرب، وساعده التوفيق).

فالمراد بالضرار هو التصدي للضَّرر، ولذا قال النبي  (ص)  لسمرة: (إنك رَجَلٌ مُضَارّ)، أي مُتَصدٍّ للضَّرَر، كذا قَرَّره بَعْضُ المحققين([612]).

ولكنّ المنقول عن أهل اللغة أنّ المعنى المشهور لهذا الوزن هو ما ذكرناه، إلا أنه بهذا المعنى وهو التصدّي يوافق معناه معنى الإضرار كما سيجيء إن شاء الله.

ولكن لابُدَّ من حمله على معنى المشاركة؛ لأنّه هو المعنى الظاهر، وإذا ورد استعمال هذه الهيئة في غير هذا المعنى فهو بواسطة القرينة التي تمنع من إرادته، وليس في المقام ما يمنع من إرادة هذا المعنى.

وبهذا يظهر لك الجواب عَمَّن زَعَمَ بأنَّ الضَّرَرَ والضُّرَّ لا يُسْتَعْمَلُ إلاّ في الضَّرَر النَّفْسيّ أو المالي، والضِّرار لا يستعمل إلاَ في الأذى والكراهة والإيلام كما في قوله تعالى: [لاَ تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ]([613])، فإنَّ المرادَ أنه لا تؤذى الأمُّ من قبل الأب ولا تُكْرَهُ بنزع ولد عنها، ولا يؤذى الأبُ من قبل الأم بولده بعدم إرضاعه، وفي قضية سمرة استعمل بهذا المعنى في قوله  (ص) : (ما أراك يا سمرة إلاّ مضاراً)، فإنَّ المرادَ به ما أراك إلا مؤذياً ومؤلماً ومدخلاً للكراهة على الأنصاري.

وقد عَرَفْتَ أنَّ هذا هو معنى الضَّرَر، فإنَّ النقص في الأمور المعنوية لا يكون ضَرَراً إلاّ إذا أوْجَبَ إدخال الأذى على المضرور، فيكونُ بهذا المعنى من
قبيل عطف الخاص على العام فيكون تأكيداً، مُضافاً إلى أنه خلاف ما هو ظاهر الهيئة، وفي قِصّة سمرة القرينة قامت على استعمالها على خلاف معناها،
بل يمكن أنْ يقال باستعمالها في معناها، بأنْ يراد منه أنَّكَ في المستقبل تكون مضاراً للأنصاري، أي: أنت تضرُّهُ وهو يَضرُّكَ، فإنَّ اسم الفاعل يستعمل
في المستقبل، كما يقال: أنت مقاتل أم مسالم، وسيجيء إن شاء الله عمّا قريب في مبحث الفرق بين الضَّرَر والضرار والإضرار ما يُوضِّحُ لك المقال بأكثر
من هذا.

وأمّا الإضرار فهو مصدر لأضرَّ (بالهمزة)؛ لأنَّ المصدر الأساسي لأفعل كأكرم الإفعال، فلا وجه لجعله مصدراً للثلاثي؛ لأنّه لم يَكُنْ هذا الوزن قياساً له.

وإذا ثَبَتَ أنه مَصْدَرٌ (لأضرّ)، فنقول: إنَّ (أضرَّ) مزيد فيه الهمزة يأتي لمعانٍ كثيرة، ولكن المعاني الغالبة منها:

أحدها: التعدية، بأنْ تدلَّ الهمزة فيه على الجعل (كأَذْهَبْتُ زيداً)، فإنَّ معناه: (جعلتُ زيداً ذاهباً)، فيكون الفاعل مفعولاً للجعل الذي دَلَّتْ عليه الهمزة، ولذا كان المتعدّي لواحدٍ متعدّياً لاثنين بواسطة أنَّ فاعله يكونُ مفعولاً للجعل، ومفعوله مفعولٌ لأصل الفعل، كقولك: (أحفرتُ زيداً النَّهْرَ)، فإنَّ معناه: جعلت زيداً يحفر النهر، والمتعدّي لاثنين يكون متعدياً لثلاثة، بواسطة أنَّ فاعله يصير مفعولاً للجعل، والثاني والثالث مفعولان لأصل الجعل، نحو: (أعلمت عمراً خالداً ذاهباً)، أي: جَعَلْتُ عَمْراً يُعْلِمُ خالداً ذاهباً، وكانَ أصله: (علم عمرو خالداً ذاهباً)، ولا يوجد من ذلك في لغة العرب إلا أعلم وأرى.

ورد على الأخفش([614]) حيث قاس (أظن أحسب وأخال) على (أعلم وأرى)([615])؛ لأن الزيادات في الأفعال ليس قياساً مطرداً بل هو أمرٌ سماعي.

ولا ريب أنَّ (أضر) لم يُرد منه هذا المعنى لأنه متعدٍ لواحد بنفسه، وإذا استعمل مع الهمزة لم يعدّ لمفعول ثانٍ، بل قد يعدّى للمفعول الأول بالباء، فيقال: (أضرّ به)، فهذا الوزن لم يقصد به هذا المعنى.

وثانيها: التعريض، بأنْ تدلّ على أنَّ المفعول معرض لأصل الحدث سواء صار مفعولاً له حقيقة أو لا، نحو: (أبعتُ الفرس)، فإنَّ معناه عرضته للبيع سواء بعته أم لا، بخلاف (بعته) فإنّه يدلُّ على وقوع البيع عليه، وهكذا (أقتلته)، فإن معناه عرضته للقتل سواء قتل أم لا، بخلاف (قتلته)، وهكذا (أسقيته) فإنّ معناه عرضته للسقي سواء شرب أم لا، بخلاف (سقيته)، وهكذا (أقبرته)، فإنَّ معناه عرضته على القبر سواء قبرته أم لا، بخلاف (قبرته).

وعليه: فيمكن أنْ يكونَ المرادُ بـ (أضرّ) هو ذلك، بمعنى أنْ يراد به التعريضُ للضَّرَر، ويكونُ معنى: (لا ضَرَرَ ولا ضِرار) هو نَفْيُ الضَّرر، ونفي تعريضه للضرر.

وثالثها: الصَّيرورة، وهو صيرورة ما هو فاعل الفعل صاحب ما اشتق منه، نحو (أغدِّ البعير) أي: صار ذا غدة، و(ألحم زيداً) أي: صار ذا لحم، و(أطفلت المرأة) أي: صارت ذات طفل، و(أعسر، وأيسر، وأقل)، أي: صار ذا عسر، وذا يسر، وذا قلة، و(أعشر، وأتسع) أي: صار صاحب عشر سنين وتسع سنين، وأما نحو: (أجرب الرجل)، بمعنى: صار ذا إبل جُربٍ فهو ليس من الغالب.

ولا وجه لإرادة هذا المعنى من (أضرَّ)؛ لأنَّ هذا الوزن بهذا المعنى إنما يكون في اللازم، و(أضَّر) مُتَعَدٍّ.

وتُوجَدُ مَعَانٍ أخرى لهذا الوزن، إلاّ أنَّ التَّحقيق أنَّها ليست بغالبة كالتأكيد، نحو (أقَلتهُ البيع)، وللسلب، نحو (أشكيته) أي: أزلت شكواه.

وعليه: فيكون معنى (لا إضرار) كما في رواية ابن مسكان لقصّة سمرة هو نفيُ التعريض للضَّرر، لعدم صلاحيّة المعاني الغالبة لهذا الوزن إلاّ ذلك، ويؤكِّدُ إرادة هذا المعنى أنَّه في قِصَّةِ سمرة إنَّما كان في دُخولِ سَمُرَةْ للدار بدون الاستئذان تعريضٌ للضَّرر على الأنصاري، لا أنه يحدث به الضرر الفعلي، إذ لعل سمرة يدخل ولا يطّلع على أهل الأنصاري.

ومن هنا ظهر لك فساد ما ذكره بعضهم من أنَّ الضَّرَرَ والإضرار والضرار بمعنى واحد، وأنَّ قوله  (ص) : (لا ضرار ولا إضرار) بعد قوله  (ص) : (لا ضرر) للتأكيد([616])، فإنَّ الزيادة على مادة اللفظ لابدَّ أنْ تكون لغرض إمّا لفظي كما في الإلحاق، أو معنوي بأنْ تدلَّ على معنى زائد على أصل اللفظ، وإلاّ كانت لغواً وعبثاً، ولذلك قيل في أنَّ الباء من (كفى بالله) و(من) في مثل (ما من إله إلاّ الله) إنّها للتأكيد والتقرير للمعنى([617])، ولذا ذهب المحققون إلى أنّ الهمزة في (أقالني) التي بمعنى قالني للتأكيد والمبالغة([618])، وقد اشتهر عندهم أنَّ زيادة المباني تدل على زيادة المعاني.

الفرق بين الضرر والضرار والإضرار

مما تقدم ظَهَرَ لك الفرقُ بين الضَّرر والضرار والإضرار، وإنَّ الأول فعل الضرر الصادر من الواحد، والثاني فعلُ الضَّرر الصادر من الاثنين كُلٌّ منهما على الآخر، والثالث التعريض لوقوع فعل الضَّرر وَقَعَ أم لا.

وقد أورد على ذلك: بأنَّ الضِّرار ليس معناه المشاركة في الضَّرر بين الاثنين فصاعداً، بدليل أنه في الخبر العاشر استعمل الضرار في فعل الضرر من واحد، حيث قال  عليهم السلام  فيه: (هذا الضِّرار) مشيراً الإمام  عليهم السلام  إلى أخذ رأس البعير وجلده بدل الدرهمين، مع أنه بهذا الفعل لم يصدر من الآخر - وهو مشتري البعير-ضَرَرٌ على صاحب الدرهمين([619]).

ودعوى إنَّ ذلك إطلاقٌ مجازي؛ مدفوعةٌ بالأصل، مُضافاً إلى أنَّ الإطلاق في المقام من قبيل الحمل، وهو من أمارات الحقيقة كما حقق في محله، ويشهد أيضاً بصدق المقال قول الله المتعال: [وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا]([620]) في سورة البقرة، وقوله تعالى: [وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا]([621]) في سورة التوبة.

تقريب الاستشهاد: أما بالآية الأولى: فإنّها وَرَدَتْ بخصوصِ من يُطَلِّق المرأة حتّى كاد أنْ يحلّ أَجَلُها راجعها، ثمّ يفعل ذلك ثلاثَ مرّاتٍ؛ وأنت خبير بأنَّ المقام ليس مما أخذ فيه المجازاة والأثنينية.

وأما بالآية الثانية: فبتقريب: إنَّ المورد نزولها على ما عليه المفسّرون هو: أنّ بني عمرو بن عوف اتّخذوا مسجد قبا، وبعثوا إلى رسول الله أنْ يأتيهم فأتاهم وصلّى فيه، فحَسَدَهُم جماعةٌ من المنافقين من بني عَمِّ ابن عوف، فقالوا نبني مسجداً نصلّي فيه ولا نحضر جماعة محمّد، فبنوا مسجداً إلى جنب مسجد قبا، فلّما فَرِغوا منه أتوا رسول الله  (ص)  وهو يَتَجَهَّزُ إلى تبوك، فقالوا: يا رَسولَ الله، إنّا بنينا مسجداً لذي العلّة والحاجة والليلة المطيرة والليلة الشاتية، وإنّا نُحِبُّ أن تأتينا فتصلّي فيه لنا وتدعو بالبركة، فقال: (إنّي على جناح سفر، ولو قدمنا أتيناكم إنْ شاءَ اللهُ فصلّينا لكم فيه)، فَلمَّا انصَرَفَ رَسولُ اللهِ من تبوك نَزَلَتْ عليه تلك الآيةُ الشريفة في شأن المسجد، فنفذَ رَسُولُ اللهِ إلى هذا المسجد فهدمه وأحرقه([622]).

إذا عرفت ذلك يظهر لك إنَّ ما أطلق عليه الضّرار ليس مما قد أخذ فيه المجازاة والاثنينية، وحمل الضرار في الآيتين الشريفتين على المجاز خلافُ الأصل يحتاج إلى دليلٍ صارف، هذا مضافاً إلى قول النبي  (ص) : (ما أراك يا سمرة إلاً مُضارّاً)، فاستعملها  (ص)  بمعنى اسم الفاعل من مجرّد الحدث؛ لأنه ليس في مقابله من يضرّه، مع أنّها اسمُ فاعلٍ من ضِرار، كما يظهر الذهاب إلى ذلك من أستاذنا المشكيني، ويظهر منه الاستشهاد بقوله تعالى: [لاَ تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا]([623]) حَيْثُ ذَهَبَ بَعْضُ اللُّغويين إلى أنّه استعمل في مُجَرَّد الحدث ولا يراد به المشاركة، وقوله تعالى: [مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ]([624])، [وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ]([625])، [وَلاَ تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ]([626])، وفي مكاتبة محمد بن الحسين: (ولا يضر أخاه المؤمن)([627])، وقوله  عليهم السلام : (الجار كالنفس غير مضار)([628])، مع أنّه لو أريد منه نفي المشاركة لكان ذلك منافياً لمثل قوله تعالى: [فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ]([629])، وقوله تعالى: [وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا]([630])، وما دَلَّ عليه قاعدة الإتلاف وغيره، فإنَّ ذلك كلّه يقتضي أنْ يكون (الضّرار) مستعملاً في معنى الضرر لا في المشاركة.

وفيه ما لا يخفى؛ فإنَّ ما ذكرناه لمّا كان هو الغالب في المعنى فيكون اللفظ ظاهراً فيه عند التجرّد من القرائن، وأمّا ما استشهد به الخصم فالقرائن إنْ كانت موجودة على إرادة غير المشاركة حملنا اللفظ عليها، وإنْ لم تكن قرائن على ذلك وَجَبَ حَمْلُ اللفظ على ما هو المتعارف منه، ولسانُ قاعدة نفي الضرر المذكورة في الأخبار، وهو قوله: (لا ضرر ولا ضرار) كانَ وارداً بلا قرينة، فلابدَّ من حمله على إرادة المعنى المتعارف.

هذا، مع إمكان المناقشة في الأمثلة المذكورة، لكن لا يهمّنا ذلك ولا يصحّ أنْ تجعل القرينة على ذلك هو إطلاق (مضارّ) على سمرة؛ لأنه يمكن أنْ يكون من قبيل إطلاق اسم الفاعل على من يتلبس بالحدث في المستقبل، فإنَّ اسم الفاعل يستعمل في الماضي والحاضر والمستقبل، وفي المقام استعمل في المستقبل، كما يقال لمن يستعد للحرب: إنّك مقاتل أو مضارب، فإنّه يراد به إنّكَ ستتلبس بالقتال مع الغير، وفيما نحنُ فيه أيضاً كذلك، فإنَّ المراد به إنَّكَ يا سمرة ستتلبس بالمضارّة مع الغير أنت تَضُرُّهُ وهو يَضُرُّكَ باعتبار التعدّي عليه، وهو أبْلَغُ في منع سمرة مما لو قال له إنك (ضَارٌّ)، فإنّه لا يحدث الامتناع، بخلاف ما لو قال له إنك كما تضرُّهُ يضرُّك.

والغريبْ من بعض المعاصرين جعل مضارّ من المبالغة، مع أنَّ (مُضَارّ) بضم الميم، ولا ريب أنَّ المبالغة تكون على وزن (مفعال) بكسر الميم، وأما آية: [لاَ تُضَارَّ] فلا مانع من حملها على المشاركة، وأنَّ الوالدة لا تضرُّ الولد، ولا الولد يَضُرُّها، ولا ينافي ذلك لو أطلق في مورد نفي الحكم الضَّرَري عن أحدهما.

وأمّا ما ذكره المشكلُ من منافاة ذلك لجعل القصاص وقاعدة الإتلاف، وقوله تعالى: [وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا]، ففيه ما لا يخفى من الفساد؛ لأنّه في هذا كُلِّهِ لم يجعل الشارع المشاركة في الضَّرَر، وإنَّما جَعَلَ ضرراً آخر بعد وقوعِ ضَرَرٍ من الأول، فهو ينافي (لا ضرر) نفسها، ولا يُنافي (لا ضرار) بمعنى المشاركة في الضرر، فإنّ الذي ينافيها هو أنْ يشرع الشارع الضَّرر من كلِّ واحدٍ لآخر، كأن يقول: تقاتلا، أو تضاربا، أو ليأخذ كلٌّ منكما حَقُّ الآخر، وأمّا الأمر بأخذ العوض ممن ضرَّه فليس من الأمر بالمشاركة في الضَّرر الذي هو معنى (الضرار)، وإنّما هو أمرٌ بالضَّرر لمن أقدم على ضرره، هذا على تقدير أنْ يكون القصاص ضرراً أيضاً، وأمّا على تقدير إنه ليس بضررٍ كما هو رأيُ بعضهم، فلا وجه لتوهّم المشاركة في الضرر.

وقد يجعل الفرق بين الضَّرر والضِّرار بأنَّ الأولَ هو ابتداء الفعل، والثاني هو الجزاء عليه، بأنْ تفعلَ الضَّرَرَ في من ضرّك كما هو ظاهرُ نهاية ابن الأثير([631]).

ولكنْ لا يخفى ما فيه؛ فإنَّ القصاص لا يطلق عليه الضرار، على أنَّك قد عَرَفْتَ أنَّ هذا الوزن لم يوضع لمعنى الجزاء، كما إنّ (ضرر) لم توضع لابتداء الضرر، بل هي موضوعة لمطلق الضَّرر كما هو شأنُ المصادر المجرّدة، وقد يجعل الفَرْقُ بين الضَّرَر والضِّرار بأنَّ الأول ما تَضرَّرَ به صاحبُكَ وتنتفعُ أنت به، والثاني أنْ تضرَّهُ من غير أنْ تنتفع به، وقد حكي([632]) عن ابن الأثير نسبته إلى القيل([633]).

 وكيف كان؛ ففيه: إنَّ الضَّرَرَ كثيراً ما يطلق في غير صورة الانتفاع، مثل ما تقدَّم من المرويِّ في نوادِرِ كتاب المستدرك من قوله  عليهم السلام : (وإنْ علم أنّه تَعمَّدَ شيئاً من الضَّرر ردَّ بيعه وشراؤه)([634])، ومن المرويّ في تجارة الكتاب المتقدّم في مداخلة أموالِ اليتيم من قوله  عليهم السلام : (إنْ يَكُنْ دُخولُكُم عليهم فيه منفعةٌ فلا بأس، وإنْ كانَ فيه ضَرَرٌ فلا)([635])، بتقريب: أنّ الخبر الأولُّ يدل على بطلان وكالة الوكيل في صورة التعمُّد بالضَّرر، وَصَلَ إليه نفعٌ في هذا التعمّد أم لا؛ وكذلك الخبر الثاني يدلُّ على حرمة المداخلة في مال اليتيم في صورة وصول الضّررِ من المباشر سواء وَصَلَ إليه نفعٌ أم لا.

وكذلك الكلام في الضِّرار، فإنَّ كثيراً ما يُطْلَقُ في صورة الانتفاع كما يشهد بذلك الخبر الحادي عشر المتقدم([636])، فإنَّ الإمام  عليهم السلام  منع عن مطالبة الرأس والجلد، وأطلق الضِّرارَ على أخذِ الجلد والرأس وهو فيه نفعٌ للمضرّ.

هذا، مع أنَّ هذا التقييد في معنى الضَّرر والضِّرار لا تقتضيه مادّةُ لفظها، ولا هيئتها؛ نعم، كَثُرَ إطلاقُ الضَّرَر في صُورَةِ الانتفاع به، والضِّرار في صورة عدم الانتفاع به كما يَظْهَرُ للمتتبّع في موارد الاستعمالات، لكنَّ هذا المقدار لا يكفي في إثبات هذا الفرق.

وقد جَعَلَ بَعْضُهم الفرقَ بين الضَّرر والضِّرار أنَّ الضَّرَرَ مصدر أول من: (ضرَّ يضرُّ)، والضِّرار مصدرٌ ثانٍ منه، قال: وتوضيحُ الفرق إنّ المبدأ وهو ذات الحدث قد يلاحظ بمجرد النسبة التقيدية الناقصة من دون اعتبارٍ زائد في انتسابه ويعبَّر عنه بالمصدر الأول، وقد يلاحظ انتسابه على وجه الاتّصاف به، وهذه خصوصية زائدة على الأول، ويعبّر عنه بهذا الاعتبار بالمصدر الثاني، وأمثال ذلك كثيرة كالكَتْب والكِتاب، والوَصْلِ والوِصال، والفَرّ والفِرار، والبُعْدِ والبِعاد وغيرها، فمدلولُ الضِّرار هو الاتّصاف بالضرر، كما أنّ مدلول الوصال هو الاتصاف بالوصل، والفِرار هو الاتّصاف بالفرّ، والكِتاب هو الاتصاف بالكَتْب، والبعاد هو الاتصاف بالبعد، وهذا هو الفرق بين الضرر والضرار، فكأنّ إلى المقامين أشار  عليهم السلام  بقوله: (لا ضرر ولا ضرار).

ولا يخفى ما فيه؛ فإنّه على هذا لا فرق بينهما بحسب اللُّب، على أنّا لا نسلّم ما ذكره من كون المصدر الثاني بهذا المعنى، بل كثيراً ما تستعمل العرب للمصدر الثلاثي المجرد أوزاناً، فقد يكون مصدرُ الفعل الثلاثي له أوزان كثيرة ولكنّها كلّها سماعية لا قياسية، على أنَّ مثل (كتاب) لا نسلّم أنه مصدر، بل هو اسم عين جنس ما كان مكتوباً بين الدفتين، وأمّا باقي ما ذكره فقد يكون فيه المشاركة، فمادة (فرار) يمكن أنْ يراد به كلٌّ منهما فَرَّ من الآخر، وكذا لفظ (وصال) يمكن أنْ يراد به كلٌّ منهما وَصَلَ الآخر، وكذا لَفْظُ (بِعاد) كُلٌّ منهما بَعُدَ عن الآخر، فألفاظٌ فيها مع التجرُّدِ عن القرينة تحمل عليها.

وكيف كان؛ فالأمرُ سَهْلٌ في ألفاظ هذه القاعدة، فإنَّها بقرائن الأحوال يتّضِحُ المراد منها.

المقام الثالث: في زيادة بعض الألفاظ على هذه القاعدة

المقام الثالث: في الزيادة على متنها بلفظ (على مؤمنٍ) أو بلفظ (في الإسلام).

فنقول: إنَّ أكثر أخبار الباب قد جاء بلفظ (لا ضرر ولا ضرار) بدون زيادة، كما في موثّقة عبد الله بن بكير في قصّة سمرة بن جندب، بل هو ظاهر رواية الحذّاء، حيثُ قال فيها النّبيُّ  (ص) : (ما أراكَ يا سَمُرَة إلا مُضَارّاً)([637])، حيث لم يقيدها، كأنْ يقول مُضارّ المؤمن، أو في الإسلام؛ وهكذا المرويّ في تفسير الشيخ الطوسي التبيان([638])، فإنّه قال في الحديث: (لا ضرر ولا ضرار) من دون زيادة أصلاً، وبعضها بلفظ: (لا ضرر ولا ضرار على مؤمن)، بزيادة (على مؤمن)، كما في مرسلة ابن مسكان في قصة سمرة بن جندب، وظاهر الخبر الصحيح التاسع حيث فيه: (ولا يضرّ أخاه المؤمن)، وبعضها بلفظ: (لا ضرر ولا ضرار في الإسلام) وهو الخبر الثامن المروي عن الفقيه، والخبر العشرون المرسل عن العلامة والطريحي والنهاية لابن الأثير، وظاهر ما في الخبر السادس عشر حيث فيه: (ليس من المسلمين مَنْ غَشَّ مسلماً أو ضَرَّهُ أو مَاكَرَهُ).

ولكنّ التحقيق: إنّ الذي ينبغي أنْ يؤخذ به هي الطائفةُ الأولى التي هي بدون الزيادة؛ لأنّها القدر المتيقَّن، ولأنَّ الكثير من أخبار الباب عندما تشتمل على نقل القاعدة عن رسول الله  (ص)  تذكرها بدون قيد (على المؤمن) أو (في الإسلام)، ما عدا مرسلة ابن مسكان، وهي مرسلة لا حجة فيها.

والخبر الصحيح العاشر لم يكن ظاهراً في التقييد، إلاّ إذا قلنا بحُجية مفهوم الوصف؛ وخبر الفقيه الثامن مُرْسَلٌ ليس بحجة، وهكذا خبر العلامة وابن الأثير فإنّه أيضاً مرسل، وهكذا الخبر السادس عشر فإنّ مفهوم الوصف ليس بحجة، على أنه مرسل، ومرسلات الفقهاء ليست بحجة وإنْ قلنا بحُجية مراسيل الرواة الموثقين؛ لأنّهم طالما يرسلون الخبر لاجتهادهم في المعنى، أو لأنَّ العمومات، أو المطلقات، أو المفاهيم تشملها من دون رواية خاصّة تخصُّها، فقوَّةُ هذا الاحتمال في مراسيلهم أوْجَبَ عَدَمَ الاعتمادِ على مَتْنِ مراسيلهم.

ويُقوِّي عَدَمَ وجود هذين القيدين في القاعدة هو أنَّ الروايات التي وردت عن الأئمة  عليهم السلام  فيها الاستشهاد بقول النبيّ في هذه القاعدة لم يكن فيها هذان القيدان، بل كانت كُلّها من قبيل الطائفة الأولى.

ودعوى- كما في تقريراتِ بَعْضِ أساتذة العصر- أنّ رواية الفقيه لا يضرّ إرسالها لأنَّ التعبير فيها لم يكن بلفظ (روي) ونحوه، وإنمّا كانَ بلفظ (قال) وهو ظاهرٌ في كون الرّواية ثابتةً عند الصَّدوق، وإلاّ لم يجز له الإخبار بها بتاتاً لولا ثبوت القول عنده([639]).

مدفوعةٌ؛ بأنّ الإرسال إنما يضرُّ بالرواية لعدم معرفة الواسطة، ومع التعبير المذكور لم تُعْرَفْ الواسطة، أمّا الثبوت عند الراوي وعَدَمِهِ فلا يرفع الإرسال ولا يدفع المحذور المذكور.

نعم، يمكن أنْ يقال؛ بل قد قيل: إنَّ القرائن الحالية دالّة على التقييد بـ (في الإسلام)، باعتبار أنَّ النّاطق بهذه القاعدة والضَّارب لها هو المشرّع للإسلام بصفة كونه مشرعاً، وهو يُريدُ بيان صفات الإسلام وكيفية الدّين، فلابدّ أنْ يكونَ نَظَره لضربِ القاعدة التي يَقتضيها الإسلام([640]).

لكنّ هذا لا يوجب التقييد به، فإنّه على بعض التفاسير لـ (الإضرار) يكون التقييد غير مستحسن، كما لو جَعَلْناها بمعنى النّهي، فإنَّ المعنى يكون: (لا تضرُّ في الإسلام)، كما يقال: (لا تشرب الخمر في الإسلام)، ولا يخفى ما في هذه الظرفية من البشاعة، إلاّ أن تجعل (في) سببية، ومع ذلك فيها شي من البشاعة والزيادة غير المحتاج إليها.

المقام الرابع: في بيان المراد من لا ضرر

المقام الرابع: في بيان المراد من (لا ضرر):

لا رَيْبَ في عَدَمِ إرادَةِ المعنى الحقيقيّ منه لوقوع الضَّرَر في الإسلام كثيراً، فإنّه طالما أضَرَّ مُسلمٌ مسلماً بسرقة، أو نَهْبٍ، أو نقص في عِرْض، على أنَّه
لو كان المراد بها المعنى الحقيقيّ فلا وجه لحُكْمِ النبيّ بها في قضية سمرة، إذ
مع عَدَمِ وقوعِ الضَّرر في الإسلام فلماذا يَستبدل المال بعذقه، ومع إبائه يقلع عذقه، فلابد من إرادة معنى مجازيّ فيها، وقد ذهب القوم في تشخيصه إلى عدة وجوه:

أحدها: ما هو المحكي([641]) عن البدخشي([642])، وعن صاحب الجواهر([643])، وشيخ الشريعة الأصفهاني([644])، وهو الذي يظهر من ابن الأثير في نهايته([645])، بل من أغلب اللغويين([646])، حيث حكي([647]) عنهم في تفسير الحديث أنهم قالوا: معنى لا ضرر أي: لا يَضُرُّ الرَّجلُ أخاه فينقصه شيئاً من حقه، ففسروا (لا) بالناهية، بأن يراد به تحريم الضَّرر، وأنّه لا يجوز أنْ يضرّ أحد آخر، ولا يجوز أنْ يتضارّا فيضرّ كُلٌّ منهما الآخر، نظيرُ قوله تعالى في سورة البقرة: [فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ]([648]) ونظيرُ قوله  عليهم السلام : (لا غُشّ بين المسلمين)([649]) ونظير قوله  عليهم السلام : (لا رهبانية في الإسلام)([650])، وقوله: (لا قياس في الدين)([651])، وقوله: (لا عول ولا تعصيب)([652])، وقوله: (لا بيع وقت النداء)([653])، وهذا المعنى يتصوّر إرادته على أنحاء:

النحو الأول: أنْ تكون (لا) نافية للجنس، وتكون الجملة خبرية سلبية استعملت بداعي إنشاء طلب ترك الشيء، لا بداعي الإعلام والإخبار
عن عدمه، كما أنّ الجملة الخبرية الإيجابية تستعمل بداعي إنشاء طلبِ الشيء،
 لا بداعي الإعلام بوجوده، كقوله تعالى: [وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ]([654])
وكقوله  عليهم السلام : (يعيد الصلاة)([655]).

النحو الثاني: أنْ تكون (لا) للنهي، ولا مانع فيه من ناحية المعنى لأنه تكون داخلة على العمل وهو المصدر، كما أنَّه لا يلزم التجوّز لكثرة استعمال (لا) في النهي وإنشاء التحريم بها، إلاّ أنه خلاف ما قَرَّرَهُ علماءُ النَّحو من أنَّ (لا) الناهية لا تَدْخُلُ إلاّ على الفعل المضارع دون المصادر وأسماء الأعيان.

النحو الثالث: أنْ تكونَ (لا) نافية، والجملة باقية على حقيقتها الخبرية، والكلام فيه حذف للخبر، ويقدر بـ (جائز ونحوه) وإنَّ أصل الكلام (لا ضرر مشروعٌ أو جائزٌ أو سائغٌ أو مباحٌ أو مأذونٌ به من الشارع في الإسلام)، فكلُّ فعلٍ يكون فيه ضَرَرٌ على الغير يكونُ غير مأذون فيه شرعاً فيكون حراماً.

وعلى هذا الوجه بأنحائه الثلاثة يكون مفاد القاعدة وهو الحرمة المولوية في الفعل الضرري، فتكون القاعدة عبارة عمّا ثبت بالعقل والإجماع والكتاب والسنة من حرمة الضرر والضرار والإضرار بالغير، ولا تدلُّ على نفي الحكم الوضعيّ أو ثبوته للعمل الضَّرري، فإنَّ النهيَ المولوي لا يستفاد منه إلاّ الحرمة التكليفية، وبالملازمة يدلُّ على الفساد في العبادة.

نعم، النّهيُ الإرشاديُّ حيث أنه يرشد إلى ما في العمل من الفساد يقتضي فساد المعاملة، ولذا قالوا: إن النهي التحريميّ المولويّ لا يدلّ إلاّ على مبغوضية المعاملة دون فسادها، والنهي الإرشادي يدلُّ على فساد المعاملة، ولا يقتضي مبغوضّيتها والعقاب عليها([656]).

ودعوى استفادة الفساد من الحرمة المولوية كما يستفاد الصحّة من الأمر المولويّ بالوفاء بالشروط والعقود، كما يحكى عن الشيخ الأنصاري([657]).

فاسدة؛ لأنه قياسٌ في اللغة، مع أنَّ الأمر بالوفاء بالعقد إنما هو التزام بترتب أثره عليه، وهو عبارة عن الصحة.

والحاصل: إنّ قضيَّةَ (لا ضرر) على هذا الوجه تقتضي اجتماع الأمر والنهي في الواجبات التي طرأ عليها الضَّرَر، وأمَّا في المعاملات فهي إنّما تقتضي مبغوضيتها واستحقاق العقاب عليها دون عدم لزومها، كما أنه على هذا الوجه لا تقتضي هذه القاعدة الضّمان؛ لأنَّ الحرمة التكليفية لا تقتضي الضمان.

ويَرِدُ على هذا الوجه الأول:

أولاً: أنّه بالنّحو الأوّل منه يلزم استعمال الخبر في الإنشاء، وبالنحو الثاني منه أنه لم يعهد استعمال (لا) الدّاخلة على الاسم في النّهي، وبالنّحو الثالث أنَّ الخبر إذا كانَ حَدَثاً مخصوصاً فلا يجوز حذفه.

وفيه: إنَّ استعمال الخبر في الإنشاء إذا كانَ بقرينة صَحَّ حَمْلُ الكلام عليه، والقرينة في المقام حالية وهو كون المتكلّم في مقام إعمال مولويّته وبيان تشريعه وتنفيذه، وهو يُناسبُ الإنشاء لا الإخبار؛ وأمّا كونُ (لا) لا تصلُح للنَّهي عند دخولها على الاسم لا مستند له إلاّ قول اللغويين، وهو يستند إلى استقرائهم وهو ناقصٌ ليس بحُجَّة؛ وأمَّا حذف الخبر مع كونه صفة خاصة فهو إنّما لا يصحّ حيث لا قرينة على ذلك المتعلّق، أمّا مع وجود القرينة المقالية والحالية فلا مانع منه، ولا رَيْبَ أنَّ في قِصَّة سمرة وأغلب الأخبار المتقدّمة كانت القرينة موجودة على إرادة نفي جواز الضَّرر.

ويَرِدُ عليه ثانياً: أنّه منافِ لما استقرَّ عليه سيرة العلماء من الاستدلال بهذه القاعدة على خيار العيب والغبن والتدليس، وحلول الدّيون بموت المديون، وإخراج المؤن قبل الزكاة، وبيع ما يتسارع إليه الفساد من الرّهن، والضَّمان، وجواز تزويج الأمة مع العَنَتْ، وخيار الزّوجة مع فَقْرِ الزّوج، مع أنَّ الحرمة التكليفية لا تستدعي ثبوتَ هذه الأحكام الوضعية والتكليفية كما هو واضح، فلو كان مفاد القاعدة المذكورة هو الحرمة التكليفية لما صَحَّ الاستدلال المذكور من العلماء الأعلام ولا التمسّك المزبور منهم على إثبات الحكم الوضعيّ والتكليفي وفهم العلماء للرواية كتمسّكهم بها يوجب لوثوق بمدلولها.

ويرد عليه ثالثاً: أنه لا يناسبُ استدلال العلماء بها على ثبوتِ الشّفعة، ولا استدلال المعصومين  عليهم السلام  بهذه القاعدة على ثبوتِ حَقِّ الشّفعة، إذ ليس في موردها فعلٌ يتعلَّق به التحريم؛ لأنّه إذا باعَ أحَدُ الشّريكين حِصّة من المال المشترك فالفعل الذي يمكن أنْ يتعلَّق النهيّ التكليفي به أمّا إيقاعُ العقد أو إبقاؤه، ولا رَيْبَ أنَّ الإمام  عليهم السلام  لا يريد حرمة إيقاع العقد لأنه حلال بالإجماع، بل بالضّرورة، ولا يريد؛ الثاني لأنَّ الإبقاء من فِعْلِ اللهِ تعالى دونَ العبد؛ لأنَّ صِحَّةَ المعاملة أو فسادها يرجع أمره للشارع، مع أنَّ حرمة الإبقاء لا تستلزم ثبوتَ حقّ الشّفعة لعدم المنافاة بين حُرْمَةِ الإبقاء وعَدَمِ ثبوتِ حَقّ الشّفعة للشّفيع، نظير عدم استلزامِ حُرْمَةِ بيع المستطيع الزاد والرّاحلة، فإنَّه حَرَامٌ مع أنَّ العقد ممضّ وباقٍ مفعوله.

وقد أجيبَ عن ذلك بوجهين:

أحدهما: بأنّه في الشّفعة يَحْمِلُ النّهي في القاعدة على الحرمة، ويكونُ المراد هو استقلالُ كُلٍّ من البائع والمشتري في التصرّف في الثمن والمبيع مع عدم إذن الشريك الآخر.

وفيه ما لا يخفى؛ فإنَّ ظاهرَ كلماتِ العُلماء، وظاهرُ رواياتِ الشّفعةِ أنَّ قاعدة (لا ضرر) علّة لثبوت نفس الشّفعة لا لحرمة التصرف.

ثانيهما: إنَّ النهيَ في قاعدةِ (لا ضَرَرَ) يُحْمَلُ على الحرمة التشريعية دون التكليفية، بأنْ يراد بتحريم الضَّرر تحريم الالتزام بالحكم الذي يترتب عليه الضرر، بداهةَ حُرْمَةِ الالتزام بالحكم المنفيّ شرعا.

ولا يخفى ما فيه؛ فإنَّ القائلين بهذا الوجه يُريدونَ الحرمة التكليفية الذاتية، مع أنَّ المعصومين  عليهم السلام  والعلماء الذين تمسّكوا بهذه القاعدة لم يَكُنْ نظرهم إلى الحرمة التشريعية، مع أنَّ الجملة الخبرية السلبية ليست لها مناسبة ولا استحسان في إنشاء الحرمة التشريعية حتَّى تستعمل فيها.

إنْ قُلْتَ: إنَّ روايةَ الشّفعة وهي الخبر الثاني المتقدّم نَقْله عن الكافي، عن عقبة بن خالد، عن الصَّادق  عليهم السلام ، وهو: (قضى رسولُ الله بالشّفعة بين الشركاء في الأرضين والمساكن، وقال: لا ضَرَر ولا ضِرار)([658])، الظاهر أنّه من الجمع في الرواية، بأنْ كان قضاء رسول الله  (ص)  بالشفعة في الأرضين والمساكن في مقام، وقوله  (ص) : (لا ضَرَرَ ولا ضرار) في مقام آخر، وجَمَعَها الرّاوي عند النّقل كما هو المحكيّ عن المرحوم شيخ الشّريعَةِ الأصفهاني([659])، واستدلَّ عليه جماعة من المعاصرين بأنَّ الشريك قد لا يتضرَّر بالبيع ومَعَ هذا يَثْبُتُ له حَقُّ الشُّفعة فلا يصحّ الاستدلال لثبوتِ حَقّ الشّفعة بـ (لا ضرر)، بل قد يتضرَّرُ الشَّريكُ بالبيع ولا يثبتُ له حَقُّ الشفعة، كما لو كانَ الشُّركاء متعدّدين، فكيفَ يصحّ الاستدلال بـ (لا ضرر) على ثبوتِ حَقّ الشّفعة مع أنَّ حَقّ الشّفعة لا يدورُ مداره([660]).

هذا، مُضافاً إلى أنَّ (لا ضرر) إنّما تقتضي عَدَمَ لزوم بيع الشريك، فإن الضرر إنّما كانَ في بيعهِ ولا تقتضي ثبوتَ حقّ الشّفعة لشريكه.

ويؤيّدُ ذلك، أعني: كونُ (لا ضَرَرَ ولا ضرار) قضيّةٌ مستقلّة لا رَبْطَ لها بالمتقدّم، هو تخلّل (الواو) مع مَنْ قال بينها وبين ما قبلها، فإنّ ذلك يشعر بأنّه من الجمع في الرواية بين حديثين.

فالحقّ: إنَّ هذه الرواية عبارة عن روايتين جُمِعَتا في روايةٍ واحدة، فليس فيها استدلالُ بـ (لا ضرر)على ثبوت حقّ الشفعة.

نعم، لو كانَتْ هذه الرّواية من باب الجمع في المرويّ، بأنْ كانَ قضاء رسول الله المذكور مقترناً بـ (لا ضَرَرَ) في مقامٍ واحدٍ وكلامٍ واحدٍ، كانت الرّواية دليلاً على تمسُّكِ المعصوم  عليهم السلام  بـ (لا ضرر) على ثبوتِ حَقّ الشّفعة.

هذا مع ما ذكره بَعْضُهُم من ضَعْفها بمحمّد بن عبد الله بن هلال المجهول، وعقبة بن خالد الذي لم يوثّق([661]).

قلنا: الظهور السياقي يقضي كونهما من كلامٍ واحد فلا يرفع اليد عن هذا الظهور إلا بقرينة قطعية، وما ذكر لا يصلحُ للقرينة، فإنَّ ما ذكره الخصم من أنَّ الشريك قد لا يتضرّر لا وجه له؛ لما سيجيء إنْ شاءَ الله في المقام السابع في موارد التمسّك بهذه القاعدة، أنّها قد يتمَسّك بها في رفع الأمور الكلّية لثبوت الضرر النوعي فيها، ولا يمنع ذلك وجودُ بعض الأفراد من ذلك المورد الكلّي ليس فيه ضَرَر، ولكنْ بشرط أنْ يكون في غاية النّدرة بحيثُ يُعَدُّ في العرف بمنزلة العدم، وسيجيء إنْ شاء الله أنَّ ذلك لا يُدْرِكُهُ إلاّ المعصوم، ففيما نحنُ فيه المعصوم قد أدرك وجود الضَّرر النوعيّ على الشريك فحَكَمَ بثبوتِ حَقّ الشفعة بواسطة قاعدة (لا ضرر)، بخلاف ما إذا تعدَّدَ الشّركاء فإنّه لمّا لم يَكُنْ في البيع لحصّة واحدةٍ منها ضَرَرٌ نوعيٌ على الشّريك فلم يدرك المعصوم الضَّرَرَ في لزومِ البيع في هذا النوع لم يحكم فيه بثبوت حقّ الشفعة فيه، نعم لو وَقَعَ في بيع بعض حصص الشركاء فَرْدٌ فيه ضَرَرٌ على الشركاء أو أحدِهم لا يكونُ البيع لازماً، لحكومة قاعدة لا ضرر على لزوم البيع والسلطنة.

والحاصل: أنّه يكفينا احتمالُ أنْ يكون حكم المعصوم  عليهم السلام  بثبوت
حق الشفعة في عموم صورة عدم تعدّد الشركاء هو وجودُ الضَّرر على
الشريك، أي: وُجودُ الضَّررِ النّوعيّ في هذا النوع، ويكفينا احتمالُ أنْ
يكون حكم المعصوم بعدمِ ثبوتِ حقّ الشفعة في صورة عموم تعدّد الشّركاء هو عدمُ وجودِ الضَّرر على الشريك، أعني: عدم وجود الضَّرر النّوعيّ في
هذا النوع، وإلاّ لو فرض وجودُ ضَرَرٍ شخصيٍّ على أحدِ الشركاء كانت
قاعدة الضَّرر تقتضي ثبوتَ حقِّ الشّفعة؛ لحكومتها على الأدلّة العامة، فيتقدم عليها.

وأمّا دعوى أنّ (لا ضرر) لا تقتضي ثبوت حقّ الشفعة، وإنّما تقتضي نفي لزوم البيع فقط، فهي واضحةُ الفساد؛ فإنّه لو اقتضت ذلك فقط لكان الضَّرَرُ على البائع؛ لأنَّ عَدَمَ بيعهِ لمالهِ ضَرَرٌ عليه؛ لأنّ البائع لا يبيع إلاّ لاحتياجه إلى المال، فلابُدّ أنْ يكونَ (لا ضرر) يَرْفَعُ لزوم البيع ويثبت لزوم الشراء على الشريك الشافع بعين الثمن لو أراد المالك البيع، حتَّى لا يكون ضَرَرٌ على البائع في مَنْعِهِ من بيعِ حِصَّتِهِ على غير الشريك.

وأمّا دعوى ضَعْف الرواية فهي فاسدة؛ لجبر سندها بعمل الأصحاب بها.

ويردُ عليه رابعاً: بما هو المشهور، وأكَّدَهُ بَعْضُ المعاصرين([662]) أنَّ حمل النفي على النّهي لا يناسبه تقييده القاعدة بقوله  (ص)  (في الإسلام) إذ النهي إنّما يقصد به الإنشاء للحرمة فيكونُ المقام مقام إنشاء، وتقييده بـ (في الإسلام) يقتضي الإخبار عن عدم وجود هذا الشيء في الإسلام فيكون المقام مقام إخبار، ولا ريب في منافاة مقام الإنشاء لمقام الأخبار.

وهذا التقريب منّا أحسن مما ذكره بعضهم([663]) من أنَّ الإسلام عبارة عن أحكامه تعالى، فيصير المعنى: يحرم الضَّرَرُ في أحكامه تعالى وهو غير مقصود قطعاً.

وفيه ما لا يخفى؛ فإنَّ الوجدان يُكذِّبُه، فإنَّ الفقهاء يقولون: (لا تفعل هذا الأمر في فتواي)، والعامّة تقول: (لا تصنع هذا العمل في رأينا أو في عرفنا)، وسِرُّهُ أنه يمكن أنْ تكون (في) ليست بظرفية وإنّما هي سببية، والمعنى لا يضرّ أحد الآخر بسبب أنّ الإسلام يُحرِّمُ ذلك، أو يكونُ من قبيل إلقاء الموضوع بين يدي المخاطب وإحضاره بنفسه عند المخاطب، ففي المقام يحضر المتكلم الحكم الإنشائي للمخاطب ويخبره عن وجوده في الإسلام أو في فتواه أو في رأيه، وهذا كما يقول الواضع عند وضعه لفظ زيد لمعنى زيد: (وضعته لهذا المعنى)، هذا كله مع ما قد عرفت في ما سبق من عدم ثبوت هذا القيد.

ويرد عليه خامساً: ما ذكره بعض المعاصرين([664])، أنّه لا يصحُّ إرادَةُ النّهي؛ لأنَّ هذا التركيب إنّما يصحُّ إرادَةُ النّهي فيه من النفي فيما لو كانَ للمنفيِّ حُكْمٌ ثابت في الشرائع السابقة أو عند العقلاء، كما في قوله  عليهم السلام : (لا رَهبانية في الإسلام)([665])، فإنّ الرهبانية كانت مشرعة في الأمم السابقة وغير مشرعة في الإسلام، ومثله قوله  عليهم السلام : (لا قياس في الدين)([666])، فإنَّ حُجيّة القياس كانت مرتكزة عند أهل السنة، والضَّرر لم يكن جائزاً عند الشرائع السابقة ولا عند العقلاء فلا يصحّ إرادة النهي من نفيه.

ولا يخفى ما فيه؛ فإنَّ إرادة النَّهي من النفي لا تستدعي ذلك؛ سَلَّمنا أنها تستدعيه، لكنَّ العُقلاء ما زالوا يضرّون الغير في سبيل مصالحهم، والنهي يكفي لصحّته رَدْعُ الغير عنه، كما في النهي عن الخبائث، وإذا صَحَّ النّهيُ صَحَّ التعبير عنه بالنفي للطبيعة وبغيره.

ثاني الوجـوه المـحتملة في (لا ضرر)، والمنسوب([667]) إلى الفاضل التوني([668]) وهو كون (لا) نافية والجملة حملية خبرية على حقيقتها إلاّ أن في الكلام حذفاً، وأصل الكلام: لا ضرر غير متدارك في الإسلام، ولا ضرر من غير جبران في الشرع، فيكون المراد: إنَّ الضَّرَرَ غيرُ المتدارك لا يوجد في الإسلام، نظير ما قيل في قوله تعالى: [ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ]([669]) إنَّ المراد لا ريب معتدّ به فيه،
وقوله  (ص) : (لا عسر ولا حرج في الدين)([670]) أنه لا عسر معتدٌّ به، ولا حَرَجَ معتدٌّ به في الدين.

ولازمه أنَّ الشارع لم يطلبه ولم يرده، ومقتضى ذلك نفيُ الحكم الطلبي عن الضَّرَرَ غير المتدارك، وفساد المعاملة التي تقتضي الضَّرر غير المتدارك، فالوضوء المضرّ حيثُ أنه ضَرَرٌ غيرُ متدارك منفيّ وغير موجود في الشرع فيكون فاسداً، والحجُّ المضرّ حيثُ أنه ضَرَرٌ غيرُ متداركٍ منفيّ في الشرع فيكون فاسداً، وإتلافُ مال الغير بلا تَدَارُكٍ ضَرَرٌ عليه عرفاً، فهو منفيٌ في الشرع فلابد من تداركه، والجاهل بالغبن والعيب تمليك ماله بما دون قيمته ضَرَرٌ عليه غير متدارك فهو غير موجود في الشرع، فلابدّ أنْ يكون التمليك كذلك فاسداً.

ولعلّ الذي دعاه إلى هذا الإضمار والتقدير المذكور هو ما رآه من أنّ معظم الأحكام الإلهية كالحجّ والجهاد والصّوم والزكاة والخمس والكفارات وأخذ الدّية من العاقلة وتكليف الأولياء بحفظ الموَلّى عليه والقصاص وغير ذلك من الأحكام التي فيها الضَّرَر الكثير والعناء العظيم، قد يكونُ كُلّ ذلك لمصلحة أو منفعة عامة أو خاصة قد تدارك فيها الضرر أو صار حاجزاً أو مانعاً عن وقوعه، فإنّ الحقوق المالية فيها سَدٌّ حاجات الدولة التي تحفظ النفوس، وحفظ الفقراء من التلف، وتشريع القصاص والضّمان للمنع من وقوع الضَّرر من الغير وردعه عنه، إلى غير ذلك مما لا يسع المقام شرحه؛ فهذا هو الذي دعا ذلك القائل إلى تقييد القاعدة بالضرر غير المتدارك بحسب الظاهر.

ثم لا يخفى أنَّ إرادة هذا المعنى من هذا اللفظ يتصوَّر على أنحاء:

النحو الأول: أنْ يكون في اللفظ حَذْفٌ لصفة الضَّرَر، وتقديرها (لا ضرر غير متدارك ولا ضِرار غيرُ متدارك)، ويكونُ المقام من باب تعدُّد الدال والمدلول، لا من باب استعمال الكلّي في أحدِ مصاديقه، ويُقَدَّرُ الخبر إما (في الإسلام) أو (في الدّين) أو (موجود) أو نحو ذلك، وأمّا أنْ يكونَ من باب حذف الخبر على أنْ يقدّر الخبر (غير متدارك).

النحو الثاني: أنْ يكون من قبيل استعمالِ الكلّي في أحدِ مصاديقه، بأنْ استعمل الضَّرَرُ في الضَّرر غيرِ المتدارك مَجَازاً في الكَلِمَة من باب وَحْدَةِ الدال وتعدُّدِ المدلول.

النحو الثالث: أنْ يكونَ المراد الضَّرَرُ غيرُ المتدارك بنحو المجاز العقلي على مذهب السكاكي([671])، بدعوى كون الضَّرر المتدارك ليس بضرَر، فلفظ (الضرر) في (لا ضرر) لا تشمل الضرر المتدارك؛ تنزيلاً للضرر المتدارك منزلة عدم الضرر، وهذا نظيرُ قول السكاكي في (جاء أسدٌ يرمي) من أنَّ (أسداً) استعمل في معناه الحقيقي وهو الحيوان المفترس، وإنّما نزلنا الرجل الشجاع منزلة الأسد فأردناه منه، بل لعلّه يذهب القائل المذكور إلى أنّا لا نحتاج إلى التنزيل المذكور، بدعوى أنّ الضَّرر المتدارك ليس بضَررٍ حقيقةً، فإنَّ من أخذ ما يستحقّه من الأجرة على نزح البالوعة ليس نزحه يكون ضرراً حقيقة، ولذا لا يقال: إنه قد تَضَرَّرَ بالنزح، فالضَّرَرُ المتدارك ليس بضرر.

هذا كلُّه إذا أريد بالتّدارك التدارك الدنيوي كما هو الظاهر، وأمّا إذا أريد به التدارك الأخروي، أو الأعمّ من الدنيوي والأخروي فلا تدلُّ القاعدة على الضّمان ولا على غيره من الأحكام، بل إنّما تدلُّ على عَطْفِ الرحمن على العباد عند تضرّرهم وتقوية قلوبهم على تحمّل الضّرر لاحتمال أنْ يكون التدارك في الآخرة، فيكون من قبيل قولنا: (إنّ الله ينصر المظلوم)، (وإنّ لكُلّ كبدٍ حَرَّى أجراً عند الله تعالى).

ويرد عليه: مضافاً إلى كونه مجازاً لا يُصار إليه إلاّ بالدليل والقرينة أولاً، إنَّ هذا الوجه يُثْبِتُ الضّمان فقط لو كان المقدّر هو المتدارك الدنيوي؛ لأنّ نفي الضرر غير المتدارك في الدنيا معناه أنَّ الضَّرَرَ لو وَقَعَ فلابُدَّ من تداركه في الدنيا، فيكونُ الضَّرَرُ كالإتلاف سَبَبَاً للضَّمان.

وعليه: فتكونُ هذه القاعدة كسائر أدلّة الضَّمان لا علاقة لها بأدلّة التكاليف، مع أنّك قد عَرَفْتَ أنَّ رواياتها تدلُّ على رفعها للأحكام الضررية كسلطَنة النّاس على أموالهم في قضيّةِ سمرة، وكثبوتِ حقّ الشّفعة في روايات الشّفعة، كما تقدم ذلك.

وفيه: إنَّ المقدَّر، وهو غيرُ المتدارك إنْ كانَ هو الخبر كانَ مفادها هو نفي سلب التدارُكِ عن جنس الضَّرَر، ولازمُهُ هو ثُبوتُ التَّدارك لجنس الضَّرر، فيكونُ معنى القاعدة: (إنّ كُلَّ ضَرَرٍ فهو مُتَدَاركٌ في الإسلام)، ولازمُ ذلك ثُبوتُ التّدارُكِ لكُلِّ ضَرَرٍ في التشريع الإسلاميّ، وتدارك الضَّرَر إمّا برفع الحكم الذي يَقْتَضيه كرَفْعِ الوُجوبِ عن الوضوء الضَّرري، ورَفْعِ سلطنة سَمُرَةَ على ماله، أو بالتقاصّ من الضّار، أو إقامة الحدّ عليه، أو بجعل بَدَلِ المثل لعمل الإنسان.

نعم، لو أُريدَ بالتّدارُك هو البَدَلُ لَزَمَ اختصاصُ القاعدة بالضمان.

وأمّا إذا كانَ المقدَّرُ هو الوَصْفُ للضَّرَر، أو كان الضَّرَرُ مُستَعَمَلاً في الضرر غير المتدارك، أو يكونُ الخبر هو (موجود) أو (كائن)، فيكونُ لسانها لسان نفي الموضوع المقيّد، وهو يكونُ بنفي آثاره وأحكامه فتشمل المذكورات كما عرفته في تقرير هذا الوجه.

نعم، يلزم عليه التجوّز في الكلمة، أو في العقد، أو الحذف للصّفة، وكُلٌّ منها خلافُ الظاهر.

ويَرِِدُ عليه ثانياً: إنَّ تنزيل الضَّرر المتدارك منزلةَ عَدَمِ الضَّرَر إنّما يَصِحُّ في الضَّرَرِ المتحقّق تداركه في الخارج، كمَنْ تَضَرَّرَ بخَسَارَةِ زراعَتِهِ ثُمَّ عَوَّضَ عنها بالمال، فإنّه إذ ذاك ينزل عرفاً ضرره بمنزلة عَدَمِ الضَّرر، فيقال: إنّه لم يَتَضَرَّر بزراعته.

وأمَّا الضَّرر الذي لم يتدارك في الخارج وإنّما كان محكوماً عند الشارع بالتدارك، فبمجرّد حُكْمِ الشّارع بتداركه لا ينزّل وجوده منزلة عدمه، فلا يصحّ نفي طبيعة الضّرر في عالم التشريع باعتبار أنَّ الشارع قد جعل ما يتدارك به الضرر وما يكون حائلاً دون تحققه كالوعد بالعقاب، وجعل القصاص، وجعل البدل، فلا يصحّ أنْ يقال: (لا سرقة في الدولة) باعتبارِ تشريعها العقاب والعوض عنها. نعم إنّما يصحّ ذلك بالتكلّف والتجوّز.

ويَرِدُ عليه ثالثاً: إنَّ الضَّرَرَ إذا كانَ بإزائه عِوَضٌ فهو غيرُ منفيٍ بالقاعدة المذكورة، فيلزمه أنْ لا تكون القاعِدَةُ المذكورة تقتضي ارتفاعَ الأحكام الشرعية عن أفرادها الضَّرَريّة؛ لأنَّ مقتضى عموم تلك الأحكام لتلك الأفراد الضَّرَرية أنْ تكونَ في تلك الأفراد مَصْلَحَةٌ ومنفعة تستدعي ثبوتَ الأحكام لها لتبعية الأحكام للمصالح والمفاسد، فيكونُ الضَّرَرُ فيها مُتَدَاركاً فلا تنفيه القاعِدَةُ ولا تشمله، فمَثلاً عُموماتُ أدلّة الوضوء والحجّ تَشْمَلُ الوضوء الضَّرري والحَجّ الضَّرري، ومُقتضى شمولها أنْ يكون في الوضوء الضَّرري والحجّ الضَّرري مصلحةٌ ملزمة، فيكون الضَّررُ فيها متداركاً، فلا تدلُّ القاعدة على نفي الوجوب عنهما، وهكذا المعاملات مقتضى عموم أدلّتها لأفرادها الضَّررية أنْ تكون مصلحة في أفرادها الضررية، وهي تدارُكُ الضّرر الموجود فيها فلا تشملها القاعدة.

والجواب عنه؛ كما هو المحكي عن العوائد([672]) بزيادة منّا وتوضيح: هو أنَّ الأمر المتعلّق بالحج والوضوء إنّما يقتضي المصلحة والمنفعة في ماهيّتها، ولا يقتضي وجودَ العِوَض والتّدارُكِ في مقابل الضَّرَرِ لو طرأ على أحدِ أفرادها، فيكونُ الضَّرَرُ فيهما غير متدارك.

ودعوى احتمال أنه متدارك، إذ لعلَّهُ في الواقع أنَّه قد حَصَلَ نَفْعٌ خاصٌّ في مقابله في تلك الأفراد التي طرأ عليها فيكون متداركاً، فيكونُ التمسُّكُ بالقاعدة من قبيل التمسّك بالعام في الشبهة المصداقية وهو باطل.

لا تنفع فإنَّ القاعدة إنما قيّد الضَّرَر فيها بما أحرز تداركه كالخمس ونحوه، أو أحرز جعل الشارع له ما يتداركه كالأجرة على الواجبات الشرعية التي تتعلّق بالمصالح العامة، وكإعطاء البدل عن مال المحتكر، وكإعطاء تسعة أعشار الديّة إلى كُلِّ واحدٍ من العشرة المشتركين في قتل واحدٍ إذا قتلوا بدله، وذلك لأنّ العقل والعرف إنما ينزل الضرر منزلة العدم عند إحراز التدارك، لا عند احتماله.

ويرد عليه رابعاً: إنَّ كُلَّ ضَرَرٍ في الخارج ليس مما حكم الشارع بتداركه تكليفاً أو وضعاً، ألا ترى أنّ التاجر لو تضرَّر بواسطة بيع تاجر آخر البضاعة التي عنده بقيمة أقلّ وأدنى من التي عنده لم يكن مجعولاً من الشارع شيئاً لتدارك ضرره، كذا ذكره بعض المعاصرين([673]).

ولا يخفى أنَّ هذا الإشكال لا يردُ على مَنْ جَعَلَ عَدَمَ التدارك صفةً للضرر، فإنّه يكونُ المنفيُّ فيه أحكامَ الضَّررِ غيرِ المتدارك، ويكونُ الحال فيه مثل ما إذا لم يقيّد الضرر.

نعم، لو جعل (عدم التدارك) خبراً أمكن ذلك إذا لم يقيّد الضّرر بكونه من جهة التشريع، باعتبار أنَّ المتكلّم به هو الشارع بما هو شارع لبيان حُسْنِ تشريعه ومطابقته للصَّالح العام.

ويَرِدُ عليه خامساً: أنَّه لو كانَ المرادُ بـ (لا ضرر) وُجوبَ تدارُكِ الضَّررِ لَزَمَ جوازُ الإضرار من باب المجازاة والتدارك، مع أنه منفيٌ بالفقرة الثانية بناءً على أنَّ معناها المجازاة فيقع التعارض بين الفقرتين.

وفيه: إنَّ المجازاة ليست بإضرار، وإنّما هي استيفاءٌ للحق، سَلَّمنا؛ لكنَّ الفقرة الثانية قد تَقَدَّمَ أنَّ المرادَ بها هو المشاركة في الضَّرر، بأنْ يَضرّ كُلٌّ منهما الآخر ابتداءً، مثل المقاتلة والمعانقة.

ثالثُ الوجوه المحتمَلَة في (لا ضرر): وهو الذي عليه المشهور من الأصحاب([674])، هو أنْ يكونَ النفيُ باقياً على حقيقته، ويكونُ المراد نفي الأحكام الشرعية التي فيها ضرر على العباد سواء كانت تكليفية أو وضعية، أي: ليس حكما مجعولا للشارع يلزم من العمل به الضَّرَر على المكلّفين، وله نظائر كثيرة كقضية (لا عسر ولا حرج في الدين)، وهذا يتصوّر على أنحاء:

النحو الأول: أنْ يكون من قبيل الكناية، بأنْ يكنى عن نفي الأحكام بنفي موضوعها؛ لأنّه لازمُ نفي الموضوع انتفاء أحكامه، نظير ما يكنّى بكثرة الرّماد عن لازمه وهو الكرم، والقرينة على ذلك هو وجود الضَّرر في الخارج، فلابُدَّ أنْ يكون المراد غيرُ المعنى الحقيقيّ لهذه الجملة، وأقرب المجازات لها هو ذلك، ويكون المقام من باب الكناية بالسبب عن المسبب؛ لأنَّ انتفاء الموضوع سبب لانتفاء حكمه، نظير أنْ يكنّى عن خبث الإنسان بكونه ليس بأصيل، ويكنّى بنفي الرجولية في الرجل عن عدم شجاعته، كقوله: (يا أشباه الرجال ولا رجال)([675])، فإنّ الرجولية سبب للشجاعة، وهذا يشترط فيه أنْ يكون الموضوع الداخل عليه النفي مندرجاً تحت طبيعة عامّة ثابتٌ لها الحكم ولو عند مِلّة أخرى، نظير (لا شَكَّ لكثير الشكّ)([676])، فإنَّ الموضوع الداخل عليه النفي هو شَكُّ كثير الشكّ، وهو مندرجٌ تحت طبيعَةٍ عامّة وهي طبيعة مطلق الشكّ، وهذه الطبيعة قد ثبت لها أحكام من بطلان العمل أو البناء على الأكثر ونحو ذلك، ومنه (لا رهبانية في الإسلام)([677])، بناءً على كون المراد منه نفي أحكام الرهبانية الثابتة لها عند النصرانية، وأمّا بناءً على أنَّ المراد منها النّهي عن الترهّب فتكون (لا) ناهية.

والحاصل: إنَّ نفيَ أحد أفراد الطبيعة أو نوع منها يكون كناية عن نفي أحكامها عن ذلك الفرد أو ذلك النوع؛ لأنَّ عَدَمَ الموضوع يستَلْزِمُ عَدَمَ أحكامه، فيصحُّ أنْ يكنَّى به عن عدم أحكامه، ولو كُنِّيَ به عن عدم كماله احتاجَ إلى القرينة، مثل: (لا صلاةَ لجار المسجد إلاّ في مسجده)([678])، وإنّما اشترطنا في هذا النحو أنْ يكون الموضوعُ الدّاخل عليه النفي من أفراد الطبيعة لا عينها ولا نفسها؛ لأنه لو كان نَفْسها لَزَمَ التناقض بينه وبين ما دَلَّ على ثبوت الحكم لها، كما أنه لو لم يَكُنْ لها حُكْمٌ مجعولٌ أصلاً لا يصحُّ الكناية بنفيه عن نفي الأحكام له؛ لأنَّ معناه أنّه لا حُكْمَ له أصلاً وهو باطل؛ لأنَّ كُلَّ شيء له حكمٌ شرعيٌ، ولا أقلَّ من الإباحة.

وعليه: فيكونُ معنى (لا ضَرَرَ ولا ضرار) هو نَفْيُ الأحكام الثابتة للموضوعات حَالَ كونها ضَرَرَيّة، كالوجوب الثابت للغَسْل الضَّرري، والجزئية الثابتة للقيام الضَّرري في الصلاة.

والحاصل: إنَّ القاعدة تنفي كُلَّ حُكْمٍ ثابتٍ لموضوعٍ ضَرَريّ، وهذا هو الذي نسب إلى صاحب الكفاية([679]) اختياره في (لا ضرر).

النحو الثاني: أنْ يكون في الكلام حذفٌ، والتقدير: لا حكم ضرري، أي: لا حكم ينشأ منه الضَّرر، فيكونُ الكلام فيه حذفٌ للموصوف وهو الحكم، وحَذْفٌ لياء النسبة، أو أنّه تجوّز عن الحكم الشرعيّ الضّرري (بالضّرر)، فاستعمَلَهُ فيه، ويكونُ المقام من قبيل المجاز في الكلمة، والعلاقة هي حُسْنُ الاستعمال، أو عَلاقَةُ المسبَّبية والسبّبية، باعتبار أنَّ الضَّرَرَ مُسبَّبٌ عن الحكم الشرعيّ فاستعمل فيه، فإنّه طالما يقعُ مثل هذه التعابير في ألسن أهل الفنّ والصَّناعة، فيقولُ الصَّيدليّ: (لا تَسَمُّمَ عندنا)، فإنَّ مراده لا دواءَ تسمّمي عندنا، أي: لا دواء ينشأ منه التسمُّم عندنا، ويقول الجراح: (لا أذيّة عندنا)، فإنَّ مرادَهُ لا عملية مؤذية وموجبة للأذى عندنا، وهذا النحو هو المنسوب اختياره إلى الشيخ الأنصاري([680]).

وقد ذكر بعضهم([681]) إنَّ الفرق بين النّحوين المذكورين إنّه على النحو الأول لا يكونُ تقدير في الكلام، وإنّما يكون كناية عن ارتفاع الأحكام الثابتة لمتعلّقاتها إذا اتّصفت تلك المتعلّقات بالضَّرَر، كما في وجوبِ الوضوء إذا كانَ في الوضوء ضَرَر؛ لأنَّ نفيَ الموضوع إنَّما يقتضي نفيَ الأحكامِ الثابتة له فهو إنّما يكون كناية عن ذلك.

وأمّا على النحو الثاني فالقاعدة تدلُّ على الأعمَّ من ذلك؛ لأنّها تدلُّ على نفي الحُكم الضَّرري سَواء كانَ في متعلّقه الضَّرَر كما في الصَّوم إذا صَارَ فيه الضَّرر ونحو ذلك، أو كان في نفسه الضَّرر كما في لزوم بيع المغبون، فإنَّ بيعَ المغبون لا ضَرَرَ فيه عليه إلاّ إذا لزم، أمّا إذا لم يلزم وكانَ له الخيار فلا ضَرَرَ فيه عليه، بخلاف الصّوم المضرّ فإنّه إذا ارتكبها الإنسان أضرَّه، وهكذا في الشفعة فإنّ البيعَ على غيرِ الشَّريك لا ضَرَرَ فيه على الشَّريك إذا كان حَقُّ الشّفعة ثابتاً له إذ له الخيار، وإنّما يكونُ عليه الضَّرَر لو لَزَمَ البيع على غيره ولم يكن له الخيار.

ولا يخفى ما فيه؛ فإنَّ المتعلّق في نفسه ضَرَرٌ في كلا الموردين، وليس الضَّرَر من نفسِ الحكم فإنَّ نفس الحكم إنشاء تابع لمتعلّقه، فإذا كانَ لا ضَرَرَ في متعلّقِهِ كيفَ يكونُ فيهِ الضَّرَرُ.

فالحقُّ: أنّه بكلا النّحوين لو تمّا يكونُ الحكم الضَّرريّ مرتفعاً بنفي الضَّرَر.

النّحو الثالث: أنْ يكونَ المرادُ نفيُ الموضوع بنَفْسِهِ حقيقة باعتبار عَدَمِ ما يُوجبُه ويستلْزِمُه ويقتضيه، كما يقال: (لا غشّ في الإسلام)، باعتبار عَدَمِ ما يُوجبُ الغشّ من قوانينه، و(لا شقاء في الإسلام) باعتبار عَدَمِ وجودِ حُكْمٍ فيه وَجَبَ الشَّقَاءُ، ومثله: (لا حَرَجَ ولا عسر في الإسلام) باعتبار عَدَمِ حُكْمٍ يُوجِبُ العُسْرَ والحرج فيه.

والفَرْقُ بَينَ هذا النَّحو والنَّحو الأول: أنّه في الأول يكونُ من قبيل الكناية بانتفاء الموضوع عن انتفاء أحكامه وآثاره الشرعية، وفي هذا النحو يكون بنحو الادّعاء وتنزيل عدم الشيء منزلة عدم ما يوجبه ويقتضيه، فإنّه بهذا المعنى الثالث يكون نفي الموضوع على سبيل الحقيقة باعتبار عَدَمِ ما يُوجِبُ تحقّقه في ضمن نطاق الإسلام وإطاره، فإنّه إذا عدم في نطاق الإسلام والديّن ما يوجب تحقُّقَ الشيء صَحَّ نفيُ الشيء عن الإسلام، كما لو عدم سببُ الشيء في بلد صَحَّ نفيُ ذلك الشيء عن ذلك البلد، كما يُقال: (لا غشّ في هذا البلد) و(لا جريمة في هذه المملكة).

وتوضيحُ الحال: إنَّ الضَّرر له أسبابٌ تكوينية كالحرق والغرق والتعدّي على العرض ونحو ذلك، وله أسبابٌ تشريعيّة وهو أنْ يَسُنَّ قانوناً يقتضيه ويوجبه كسَنِّ الضرائب الجائرة، فكما يصحُّ نفيه في الخارج لانتفاء أسبابه التكوينية، كذلك يصحُّ نفيُهُ في عالم التشريع لانتفاء أسبابه التشريعية، فيقال: لا ضَرَرَ في قوانين هذه الدَّولَة لانتفاء ما يُوجِبُ من القوانين فيها، وعليه فيكونُ قيد (على الإسلام) في محله.

والحاصل: إنّه على هذا يكون المنفيّ هو الطبيعة المسبَّبة عن أحكام الإسلام وقوانينه، ولازمه عدمُ وجود حُكْمٍ وقانون في الإسلام يقتضي هذه الطبيعة وهي الضَّرر، ولا يُنافي ذلك وجود بعض الأحكام الضَّررية كالجهاد والخمس ونحوها، فإنّها لو سُلِّمت ضَرَريّتها فتكون من قبيل المخصص.

إذا عرفتَ ذلك؛ فالحقُّ إنَّ إرادَةَ نفي الأحكام بالنّحو الأول من القاعدة لا يصحّ؛ لأنّ نفيَ الحكم إنّما يكونُ بنفي الموضوع فيما لو كان لطبيعة الموضوع حُكماً، فانتفاؤه يكونُ انتفاءً لحكم طبيعته عنه كما في الرّبا والغيبة والشكّ، فإنّ لها أحكاماً عند الشارع، فإذا نفاها الشارع في مورد خاصّ كما في قضية (لا ربا بين الزوج والزوجة)، حيثُ نفى فيها الرّبا بين الزّوج والزوجة كان هذا النفي كناية عن نفي تلك الآثار الثابتة للربا من الحرمة وبطلان المعاملة.

وفيما نحن فيه: لم يَكُنْ لطبيعة الضَّرر أحكام خاصّة عند الشّارع حتَّى تكونُ القاعدة تنفيها بنفي موضوعها وهو الضَّرَرُ، مُضافاً إلى أنَّ مقتضى الاستشهاد في تلك الموارد بالقاعدة من المعصومين  عليهم السلام  لم يَكُنْ مَنفياً بها أحكامُ الضَّرَر، وإنّما المنفيّ بها أحكام لموضوعات خاصّة، غايةُ الأمر أنّه قد طَرَأ عليها الضَّرَر، وبواسطة الضَّرر ارتفعت عن معروض الضَّرر، سَلَّمنا أنّها لطبيعته، ولكنَّ الكناية المذكورة إنّما تكون فيما إذا نفي الموضوع في مورد خاصّ فيكون كناية عن رفع حُكْمِ طبيعته العامة عن ذلك المورد الخاصّ، ويكونُ حُكْمَاً على الأدلّة المثبتة للحكم لطبيعته العامة ومخصّصة لها، وأمّا إذا كان الموضوعُ ذو الحكم قد نفي على وَجْهِ العُموم فيكونُ معارضاً لتلك الأدلّة، إذ لم يَبْقَ مورد لها.

وفيما نحن فيه: لو فرض أنَّ للضَّرَر حُكْمَاً وأثراً قد ثَبَتَ له بالدليل، فالقاعدة تعارض ذلك الدليل لكون النفي فيها مُسلّطاً على مطلق الضَّرر، فتكونُ منافية للأدلّة التي ثَبَتَ الحُكْمُ لمطلق الضَّرَر فلا يصحّ الاستشهاد بها في نفيه.

إنْ قلتَ: أنه قد ثَبَتَ في التّراكيب العربية والشَّرعية رَفْعُ الطبيعة كناية عن رفع آثار معروضها، كما في حديث الرفع حيث كان (رفع الخطأ والنسيان) فيه كناية عن رفع آثار ما يعرض عليه الخطأ والنسيان، لا رفع نفس آثار الخطأ والنسيان، وعليه (فلا ضَرَرَ) يصحُّ جَعَلَها كناية عن رَفْعِ آثارِ معروض الضَّرَر لا آثار نفس الضَّرر.

قلنا: بناءً على الوجه الثالث لا نُنْكِرُ أنَّ في نفي الضَّرر الذي اشتملت عليه القاعدة هو يقتضي نفي آثار معروضات الضَّرر من أفراد موضوعات الأحكام الشرعية، كما هو الحال في رفع الخطأ والنسيان، وإنّما ننكر أنْ يكون وَجْهُ دلالة نفي الطبيعة عليه بنحو الكناية، باعتبار أنَّ المعنى المكنَّى عنه لابدَّ وأنْ يكون لازماً للمعنى الحقيقي، ونفيُ الطبيعة الذي هو المعنى الحقيقي لا يلزمه نفي آثار معروضاتها، وإنّما يلزمه رَفْعُ آثار نفس الطبيعة باعتبار أنَّ ارتفاع الموضوع إنما يستلزمُ رَفْعَ آثاره وأحكامه، لا رفع آثار ما يعرض عليه، فرفع الضَّرر إنّما يستلزم رفع آثار نفس الضَّرر وأحكامه، ولا يستلزم رفع آثارِ وأحكام الوضوء الذي عُرِضَ عليها الضَّرر، فلا يصحُّ أنْ يُجْعَل رَفْعُ الضَّرَر كناية عن الثّاني، وإنّما يصحُّ أنْ يجعل كنايةً عن الأوّل، فلا وَجْهَ لما صنعه بعض المعاصرين([682]) في هذا المقام من الإشكال والردّ، فظَهَرَ أنَّ النحو الأول لا يصحُّ في المقام، كما أنَّ النحو الثاني يلزم منه التجوّز أمّا بالحذف أو في الكلمة.

إنْ قلت: إنَّ الضَّرَرَ ينفى باعتبار أنّه عنوانُ للفعل فانٍ فيه، فيكون نفيُهُ عبارة عن نفي الفعل المعنون بذلك العنوان، فيكون معنى (لا ضرر) هو نفي الفعل الضرري، فتكونُ دالّة على أنَّ الوضوء الضَّرَري منفيّ، والصّلاة الضّررية منفية، والحجّ الضرري منفي، ومعنى نفيه عبارة عن نفي آثاره وأحكامه فتكون القاعدة مخصّصة لأدلّة الأحكام بغير الضّرر، كما هو الحالُ في رَفْعِ الخطأ والنسيانُ، فإنَّ المراد منهما رفع فعل الخطأ، ورفع فعل فيه النسيان، فيتمّ النحو الأول وهو رفع الحكم برفع موضوعه.

ودعوى أنَّ الضَّرَرَ ليس عنواناً للضَّرَر الخارجي، حيثُ لا يحمل عليه بالحمل الشائع الصناعي، وإنّما الضَّرر قد يكونُ مُسبَّباً عنه، وقد يكونُ قائماً فيه، فالفعل الخارجيّ لا يكونُ بنفسه منفياً، وإنّما المنفيّ هو نفس الضرر.

مدفوعة؛ بأنَّ رفع الخطأ والنسيان أيضاً ليسا بعنوانين للفعل الخارجي، وإنّما هما قائمان فيه، مع أنَّ الموضوع هو الفعل الخارجيّ، فليَكُنْ ما نحن فيه كذلك.

قلنا: مقتضى ظهور اللفظ في المعنى الحقيقي هو حَمْلُ النفي والرفع على نفس الطبيعة من ضَرَر وخطأ ونسيان ونحو ذلك من مدخولات (لا) النافية، لا نفي الفعل المتّصف بها والقائم بها، وهذا المعنى الحقيقي يصحُّ إرادته في قاعدة نفي الضرر، حيث إنه يصحّ أنْ ينفي الضَّرر حقيقةً في قواعد الإسلام، باعتبار عَدَمِ ما يقتضي الضَّرر فيها؛ لما عَرَفْتَ من صحّة نفي الضَّرر على سبيل الحقيقة في عالم التشريع وفي إطار الشَّريعة، باعتبارِ عَدَمِ ما يُوجِبُهُ من الأحكام في عالم التشريع، وهذا بخلاف الخطأ والنسيان فإنَّ رفعهما لا يكونُ على سبيل الحقيقة، إذ لم يكن المقصود من نفيهما ورفعهما قطعاً هو عَدَمُ وجودِ أحكام تقتضيها، كما يظهر ذلك من سياق حديث الرفع واحتملنا إرادة المعنى الحقيقي فلابدَّ من الحمل عليه، وهذا هو الفارق بين النفي في قاعدة الضَّرر وبين حديث رفع الخطأ والنسيان.

فتلخَّصَ: إنّ لسان قاعدة الضَّرر هو نفي ما يوجب الضرر في عالم التشريع كالبيع للمعيب فلا يشرع لزومه، وكالوضوء الضَّرريّ فلا يشرع وجوبه، ونحو ذلك.

ويرد عليه: أنّه على هذا الوجه إنما تدلُّ على نفي جَعْلِ الأحكام التي يلزم منها الضَّرر على المكلَّف، ولا تدلُّ على ثبوتِ حُكْمٍ في موردها، مع أنَّ القوم استدلوا بها على الضَّمان والشفعة والخيار.

والجواب عنه بوجوه:

أحدها: بأنَّ نفيَ الحكمِ الضَّرري قد يستلزم ثبوتَ حكمٍ آخر، والقوم إنما يستدلون بها على ثبوت بعض الأحكام إذا كان نفيُ الحكم في موردها يستلزم ثبوتَ تلك الأحكام الأخر، فمَثَلاً قاعِدَةُ الضَّرَرَ تدلُّ على نفي لزوم البيع مع الغبن أو العيب، ونفي اللزوم إنّما يستدعي ثبوت الخيار؛ لأنّه أقرب مرتبة لِلِّزوم من مرتبة فساد البيع، وهكذا قاعِدَةُ الضَّرر تدلُّ على نفي براءة الضّارّ من العقاب، وأقرب مرتبةً لها أنْ تكونَ ذمّة الضّارّ مشتغلة بالبدل، وهو عبارَةُ عن الضّمان، وهكذا الكلام في الشفعة.

ولا يخفى ما فيه؛ لأنَّ نفيَ الشيء لا يستدعي ثبوتَ أقرب مرتبة له بعد انتفائه، لا عقلاً ولا عرفاً ولا شَرْعَاً، على أنّا لا نُسَلِّمُ أنَّ ذلك أقْرَبُ مرتبة، إذ من الممكن أنْ يكون جبران المضرور من بيت المال.

ثانيها: أنه إنّما صَحَّ الاستدلال بها على الضّمان باعتبار أنَّ ثبوتَ براءة ذمة التالف للمال ضَرَرٌ على المالك، فهيَ مرفوعَةٌ بقاعِدَةِ الضَّرَر، وعدم ثبوت حقّ الشّفعة للشريك ضَرَرٌ عليه فهو مرفوعُ ذلك العدم، وثبوت الخيار في الشّرع مع الغبن والعيب ضَرَرٌ على المالك أو صاحب المال فهو مرفوعٌ بقاعدة الضَّرر، فالقومُ إنّما استدلّوا بها على تلك الأمور بهذا الاعتبار.

إنْ قلتَ: إنَّ هذا ينافي الفقرة الثانية من الخبر، وهي قوله  عليهم السلام : (ولا ضرار) فإنّه يقتضي أنْ لا تثبت الغرامة والضَّمان على التالف؛ لأنّه يكونُ إذ ذاك ضراراً، حيثُ يكونُ كُلٌّ منهما قد ضَرَّ صاحبه، فالأوّل ضَرَّهُ صاحبه بإتلاف ماله، والثاني ضَرّه صاحِبُهُ بتغريمهِ التّالف، اللّهم إلاّ أنْ يقال: بأنَّ معنى الضِّرار هو الضَّرر، كما ذكره جملة من اللغويين([683])، فتكونُ الجُمْلَةُ (لا ضرار) مؤكّدة للإضرار، كما في قولنا: (لا يأكل زيدٌ ولا يدخل في فَمِهِ الطعام).

قلنا: لا يقتضي ذلك، فإنَّ معنى (لا ضرار) على هذا الوجه بمقتضى السّياق هو نَفْيُ الأحكام التكليفية والشَّرعية الموجبة للضّرار، أي: للمشاركة في الضَّرر بأنْ يضرّ كُلّ منهما صاحبه، كأنْ يأمرهما الشّارع بأنْ يتضاربا أو يتقاتلا.

وعليه: فالحُكْمُ بضمان المتلف ليس فيه أمرٌ بالمشاركة بالضَّرر، بل هو حكم استيفائي لما أتلفه المتلف، نظيرُ الأمر بالقِصاص أو الحدّ أو التعزيز فإنّها ليست أوامر ضرارية.

ثالثها: إنّ القوم لم يستدلّوا بها على تلك الأمور، وإنّما تمسَّكوا بها هناك من باب التأييد والتأكيد.

ولا يخفى ما فيه؛ فإنَّه صريحُ كلامهم التمسُّكَ بها على سبيل الاستدلال، وسيجيءُ إنْ شاءَ الله في مبحث الإيرادات على القاعدة في الإيراد الرابع ما ينفعك هنا فراجعه.

رابع الوجوه المحتملة: إنَّ معنى (لا ضرر) هو: أنَّ مَنْ طَبَّقَ القواعد الإسلامية لا يُصيبُهُ الضَّرَر، نظيرُ تفسير المرحوم والدنا وأستاذنا الرضا  قدس سره، وإنْ كان لم يفسر القاعدة لقوله  (ص) : (لا عَدْوَى في الإسلام)([684]) أنَّ معناه هو:
إنَّ مَنْ طَبَّقَ القواعد الإسلامية ومَشَى على النّظم الإسلامية لا تُصيبه
العدوى من أحد. وعليه: فتكون القاعدة لبيان حكمة التشريع فلا يصحّ التمسُّك بها.

ولكن هذا المعنى خلاف الظّاهر فلا يحمل عليه اللّفظ، مُضَافاً إلى أنَّه لا يُنَاسِبُ استشهاد النبيّ  (ص)  والأئمّة  عليهم السلام  بها في مقام بيان الحكم الشرعي.

خامسُ الوجوه المحتملة: إنّ المراد بها النهي، ولكن ليس نهي السلطة الإلهية، وإنّما هو نهيُ السلطة الزمنية، فيكونُ المراد النهيُ المولويّ السلطاني، فإنَّ الرسول الأعظم تارةً ينهى ويأمر بالأوامر والنواهي الإلهية، كأمره بالصلاة، ونهيه عن شرب الخمر، وأخرى يأمر وينهى بما هو له السلطة الزمنية والولاية على الرعية، مثل أوامر ونواهي صاحب البيت على أهل البيت، فإنَّ أوامره  (ص)  ونواهيه قد لا تكون بعنوان التشريع كما في طلباته العادية وشؤونه الخاصة كأمره بالحرب ونهيه، و(لا ضرر) من قبيل الثاني، فإنَّ مراده  (ص)  لا يضرّ أحداً غيره، ولا يضرّ كلّ الآخر، فهو نهيٌ صادر منه بما هو حاكمٌ وسلطان، لا بما هو نهي إلهي. وعليه: فلا يصحّ التمسُّكُ بهذه القاعدة في إثباتِ الحكم الشرعي.

ولكنْ لا يخفى ما فيه؛ فإنّه في قصّة سمرة قد عَلَّلَ بها الرسول حكمه في الواقعة، فلو كانت هي من أحكامِ الرّسول لا من أحكامِ الله لم يَكُنْ من الحسن بمكان.

ودعوى أنّ المقام لما كان مقام عرض شكوى الرعية للسلطان، فالحكم سلطاني لا إلهي.

فاسدة؛ فإنَّ السلطانية للرسول  (ص)  لما كانت إلهية لا شعبية فالأحكام الصادرة منها تكونُ تابعة لها، على أنَّ الاعتماد على القاعدة ممن هو سائر أطواره وشؤونه ترجع للإله تكون قرينة في المقام تقتضي كونها إلهية مضافاً إلى استشهاد الإمام  عليهم السلام  بقضاء رسول الله  (ص)  بها، فإنّها لو كانت من أحكام الرسول لا من أحكام الله تعالى لما صَحَّ استشهاد الإمام  عليهم السلام  بها؛ هذا مضافاً لفهم العلماء وأهل اللغة من أدلّتها أنّها حكم الله تعالى، وفهمهم كعملهم موجب للوثوق بجهة الصدور، وأنها صادرة من المعصومين باعتبار أنها حكم الله تعالى، مضافاً إلى أنَّ ضرب القاعدة بنحو الحكم العام الشامل لجميع الأفراد والأزمان لا يصدر من الرسول  (ص)  ولا من غيره من المعصومين  عليهم السلام  إلاّ باعتبار أنّه حكم الله تعالى، مُضافاً إلى ما تَقَدَّمَ من أنَّ الرسول  (ص)  لا ينطق عن الهوى، إن هو إلاّ وحي يوحى، بل أعماله كذلك أيضاً، ولذا قال الله تعالى: [وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى]([685])، فهي بوحي من الله تعالى فتكون من أحكام الله تعالى، وقد تقدَّم لك في بحث اجتهاد النبي  (ص)  ما ينفَعُكَ هنا.

ثم إنّه كيف يُعْقَلُ أنْ يحكم الرسول بين الرعية في أموالهم بغير حكم الله تعالى، فإنّه فيه إعراضٌ عن حكم الله تعالى والعمل بحكم نفسه، وفي القضاء لا يجوز الحكم بغير حكم الله تعالى.

المقام الخامس: فيما يورد على هذه القاعدة

وقد أورد عليها بأمور:

أحدها: إنَّ نفي الضَّرر كيفَ يصِحُّ مع ما نُشاهِدُه من التكليف بالجهاد والحجّ والصّيام في شِدّة الحرّ وأمثالها.

وقد أجيب عنه بوجوه:

أحدها: ما يُحكى عن صاحب العوائد([686]) والعناوين([687]) من أنَّ الضَّرَرَ في تلك الموارد متدارك بالنفع الدنيوي من دفع بلية، أو حفظ نعمة، أو زيادة مال، كما دَلَّتْ عليه الأخبار في الخمس والزكاة، أو متداركٌ بنفعٍ أخرويٍ من ثوابٍ عظيم وأجرٍ كريم، بحيث لا يكونُ ما أصابه من الضَّرر ضرراً حقيقة، فإنَّ مع التدارك لا يكون الضَّرر ضرراً حقيقةً، ألا ترى أنَّ من يبذل ماله لنفع دنيوي كما في البيع والشراء لا يقال أنه تضرَّر بأخذ ماله منه؛ لأنه قد تدارك نقصان ماله بما أخذه من العوض، وفي الموارد المذكورةُ يستكشف من أمرِ الشّارع بها الضّرر المأمور به كالزكاة والجهاد والخمس كانَ متداركاً بنفعٍ دنيوي أو أخروي، بحيث لا يكون ذلك ضَرَراً عليه.

وعليه: فإذا دَلَّ الدّليلُ على ثبوتِ الحكم للأمرِ الضَّرَري على نحو الخصوص كالأدلّة الدالّة على وجوبِ الجهاد، أو بنحو العموم كالأدلّةِ الدالّة على وجوبِ الوضوء على نحو العموم للوضوء الضَّرَري وغيره، فإنّه يستكشف منها أنَّ ذلك الموضوع الضَّرري وأنَّ ذلك الفرد الضَّرري ليس بضَرَرٍ، وأنَّهُ مُتدارك بنفعٍ أكثر منه يُوجُب كونه ليس بضَررٍ، ضرورةَ تبعيّةِ الأحكام للمصالح والمفاسد.

وعلى هذا، فتكونُ قاعدة نفي الضَّرر من قبيل الأصول العملية لا يتمسّك بها إلاّ في مقام عدم الدليل على الحكم، إذ مع وجود الدليل على الحكم ولو بنحو العموم يكونُ الضَّررُ ليس بضَرَر فلا تشمله قاعدة لا ضرر، كما هو الشأن في الأصول العملية، فتكونُ من قبيل الأصول العملية لا من قبيل الأدلة اللفظية ولا العقلية.

ولا يخفى ما في ذلك؛ فإنَّ الأخبار المتقدّمة المتضمّنة للمتمسّك بقاعدة (لا ضَرَرْ) تدلُّ على التمسُّك بالقاعدة في مقابل الأدلّة الدالّة على خلافها، كما في قِصّة سَمُرَة فإنه  (ص)  تمسَّك بالقاعدة في مقابل ما دَلَّ على عموم سلطنة المالك في تصرّفه في ماله من الطريق والعذق، وكذا أثبتَ بها الشفعة في مقابل عموم لزوم الوفاء بالعقد، إلى غير ذلك مما يجده المتتبع.

مضافاً إلى أنَّ تمسُّكَ الفقهاء بها في مقابل العمومات كرفع الوجوب عن الوضوء الضرري ونحوه مما يدلُّ على أنها ليست كما ذكره الخصم.

مضافاً إلى أنَّ الضَّرَر المأخوذ في القاعدة هو الضَّرر العرفي؛ لأنَّ الروايات في بيان عظمة الإسلام ومراعاة قوانينه للمنفعة البشرية، فهي لابدّ وأنْ تكون ناظرة لما يراه العرف ضَرَراً، والعُرْفُ لا يرى أنَّ مثل تلك المنافع ترفع الضررية عن الضّرر حقيقة، كيف لا والمتبادر من الضَّرر المنفي هو الضَّرر الدنيوي الحاصل بنقصٍ في المال، أو العرض، أو البدن، فإنَّ التدارك الأخروي لا يزيل صدق الضَّرر بالمعنى المذكورِ على أفراده.

مضافاً إلى أنَّ لسان أدلّة لا ضرر هو لسان الحكومة وبيان للأحكام الصادرة من الشارع، فهي ناظرة إلى الأحكام الشرعية ومفسّرة ومبيّنة إلى أنَّ متعلقها ليس فيه ضرر، فتكونُ حاكمة على عموم أدلّة الأحكام، ولازمُ ذلك أنَّها تكونُ شارحة إلى أنَّ متعلّقاتها الضَّررية ليست فيها مصلحة تقتضي ثبوت الحكم لها، وإلا لم يكن لحكومتها وجه، فإن الشارع إذا أوجب الوضوء على نحو العموم لصورة التضرّر به كانَ ذلكَ كاشفاً عن وجود مَصْلَحَةٍ فيه حتّى في مورد الضَّرر لتبعيّة الأحكام عندنا للمصالح والمفاسد، لكن حكومة هذه القاعدة على إطلاق الأمر بالوضوء يكشف عن عدم وجود المصلحة في مورد الضَّرر يتدارك بها الضَّرر الموجود، وإلاّ لو فُرِضَ وجودُ المصلَحَةِ في مورد الضَّرر يتدارك بها الضَّرر لم يبق مورد لهذه القاعدة، ولم تَكُنْ لها حكومةٌ على أدلّةِ عمومات الأحكام، وهو خلاف ظاهر أدلتها، بل صريحها.

ثانيها: تسليم أنَّ تلك الأمور إضرارٌ حقيقةً لكنّ الضَّرَرَ المأخوذ في القاعدة هو الضَّرَرُ غير المتدارك، وهذه الأمور المأمور بها كالجهاد ونحوه أضرار متداركة بنفعٍ دُنيويٍ أو أخروي.

وفيه ما في قبله.

ثالثها: إنَّ أدلّة قاعدة الضَّرر وإنْ كان لسانُها لسان حكومة، ومقتضى القاعدة هو تقديمها على سائر الأدلّة، لكنّ الدّليل الحاكم لا يعقل تقديمه على ما هو أخصّ منه وإلاّ لزم لغوية الأخصّ، ففي المقام لابدّ من تخصيص أدلّة قاعدة الضَّرَر بأدلّة تلك الأحكام التي كان موضوعها ضررياً، إذ لو لم نُخصِّصُها بها لَزَمَ لغويّة أدلَّة تلك الأحكام حيثُ أنّه لم يَبْقَ لها مَوْرِدٌ، فصَوناً لكلام الحكيم عن اللغوية خَصصناها بها.

ودعوى أنّه يَلْزَمُ تخصيصُ قاعدة (لا ضَرَر) بالأكثر لِكَثْرَةِ التّكاليف التي كانت موضوعاتها ضررية، وعليه فلا يصحّ التمسُّك بـ (لا ضرر) لوهن عمومها بذلك.

فاسدةٌ؛ لأنه لم يبلغ التخصيص حَدَّ الاستهجان، ولذا تَمسَّكَ بها النبي  (ص)  والأئمة  عليهم السلام  كما في الأخبار المتقدّمة، وإلاّ لَزَمَ سُقوطها وعَدَمُ صِحّةِ التمسُّك بها.

إنْ قلتَ: إنَّ على هذا يسقُطُ الاستدلال بها على نفي الأحكام الضَّررية؛ لأنّه إنْ كانَ فيها نصٌّ فهو مخصَّص للقاعدة، وإنْ لم يَكُنْ فيها نَصٌّ من الشَّارع فهو غيرُ مجعولٍ فلا يحتاج في نفيه لقاعدة (لا ضرر).

قلنا: تخصّص بها الأعمّ منها الذي لا يلزم من تخصيصه بها استهجانه كتخصيص وجوب الوضوء ونحوه بها، كما أنّه نرفع بها الأحكام الضررية المحتمل ثبوتها كجوازِ إضرار الغير وسيجيء إنْ شاءَ اللهُ موارد التمسّك بها في المقام.

إنْ قلت: إنَّ نفي الضَّرَرَ كان حُكْماً امتنانياً فهو آبٍ عن التخصيص.

قلنا: كونه امتنانياً لا يأبى عن التخصيص إذا كانت المصلَحة في المخصِّص كما في الأحكام الحرجية.

رابعها: إنَّ هذه الأحكام الشَّرعية لا ضَرَرَ فيها، فإنَّ فيها المصلحة والنفع التام إمّا للفرد كما في الصَّوم، أو للمجتمع وهو الجهاد، فإنَّ فيه رَفْعُ شؤونِ المسلمين وتوسِعة دائرتهم، وهكذا الخمس والزكاة فإنَّ فيها سَدُّ فاقَةِ الفقير عن التعدّي عن الغير وحصول التحابّب بين الغنيّ والفقير، كما أنّ كُلَّ مَشَقّة وكُلّ تَعَبٍ في مقابل الأجرة لا يسمّى ضَرَراً، وتشريعُ القِصاص وأخذِ الديّات من المباشر أو العاقلة، والحكم بجوازِ قتلِ مَجموعِ العَشَرَةِ المشتركين في قَتْلِ واحدٍ مع دفع تسعة أعشار الديّة إلى وارثهم، وبيع طعام المحتكر، وضمان التالف، والغاصب وأمثالها من الأحكام، فإنّها ليست بأحكامِ ضَررية لما فيها صَلاح المجموع، وسدّ باب الضَّرر، وصون النفوس عن الوقوع في المهالك، وصيانة الأموال عن التلف، فعدَّ تلك الأحكام من الأحكام الضَّرورية ناشيء عن الغَفْلَةِ والجهالة، كمَنْ يَشتري الملابس لئلاّ يقع في البرد، وهذا النَّحو من الأحكام شَرَّعَهُ العقلاء لدولهم، والملوك لأتباعهم في سبيل سعادتهم ورقي مجتمعهم.

ثاني الايرادات عليها: إنَّ قاعدة الضَّرر إنْ كانت حاكمةً فهي لا يمكن أنْ يعتمد عليها في استفادة الأحكام الشرعية الكليّة أو الجزئية، وإنْ كانت علّة لزم أنْ يدور الحكم الشرعيّ مدارها وجوداً وعدماً، فيخصّص بموارد وجودها ويعمّ بمورد عدمها.

وعليه: فيلزم أنْ يخصَّص حَقّ الشّفعة بموارد لزوم الضَّرر من الشِّركة الثانية، ويلزم ثبوتُ حَقّ الشفعة في غير البيع من المعاملات.

 وجوابه: إنَّ (لا ضَرَر) كـ (لا حَرَج) يقتضي رَفْعَ الضَّرر الشخصي، فكُلُّ مَوْرِدٍ فيه الضَّرر ترفع حكمه قاعدة الضَّرر كالصَّوم والوضوء والحج إذا وجد فيها الضرر، وهكذا تقتضي رفع الضَّرر النّوعي فكُلُّ حُكْمٍ وُجِدَ في نَوعِ أفراده الضّرر ترفع تشريعه القاعدة، فلزوم البيع على غير الشريك في نوع أفراده الضّرر، فترفع تشريعه القاعدة المذكورة كما قَرَّرناه في قاعِدَةِ الحَرَج([688])، وهكذا في باقي المعاملات.

لكنْ لمّا كانت القاعدة إنّما هي ترفع الحكم ولا تثبت حكماً إلاّ إذا كان لازماً لرفع ذلك الحكم، والملازمة تارَةً تكونُ واضِحَةً، وتارةً يكشِفُها المعصوم  عليهم السلام ، ففي باقي المعاملات إنْ كانت واضحة اقتضت ثبوتَ ذلك الحكم الآخر وإلاّ فلا، وسيجيء إنْ شاء الله توضيح ذلك في الموارد التي يتمسَّك بالقاعدة فيها وفي الإيراد الثالث.

ثالث الإيرادات: إنَّ (لا ضرر) إنّما هي تنفي الأحكام الشرعيّة الضَّررية، فكيفَ استدلَّ بها القومُ على إثبات بعض الأحكام الشرعية كحَقّ الفسخ وحَقّ الشفعة ونحوها.

وجوابُه: إنَّ الظاهر أنَّهم إنما استدلّوا بها على نفي لزومِ البيع لغير الشريك، وعلى نَفي لزومِ البيع للمعيب أو مع الغبن، ولكن لمّا كانَ نفيُ ذلك يستلزم ثبوتُ حُكْم آخر استدلوا بها عليه، فإنّ نفي لزوم البيع للمعيب لازمه الخيار، وهذا الاستلزام تارةً يكونُ بيّناً واضحاً عند المستدلّ فيستدلّ بها على ذلك الحكم، وأخرى يكونُ خفيّاً، ولكنّ المعصوم  عليهم السلام  استدلَّ بها على الحكم ومقتضى استدلاله  عليهم السلام  أنْ يكونَ قد اطّلع الاستلزام فاستدلَّ بها عليه.

رابع الإيرادات: إنَّ قاعدة لا ضَرَرَ كما تدلُّ على نفي لزوم البيع مع الغبن للزوم الضَّرر على المغبونِ من الطَّرفين المتبايعين، كذلك تقتضي نفي الخيار عند البيع مع الغبن للزوم الضَّرر على غير المغبون من الطرفين باسترجاع ملكه الذي استفاده بواسطةِ ثبوتِ حَقِّ الخيار للمغبون وقِسْ على هذا باقي الموارد.

ودعوى إنَّ استرداد المبيع ليس فيه ضَرَرٌ على المشتري، وإنّما هو عدم نفع له، لا تنفع؛ لأنّا نفرض الكلام في ما كان في ذلك ضَرَرٌ عليه على أنّه يكون من قبيل الخسارة المالية وهي ضَرَرٌ عليه.

وجوابُهُ: إنَّ مرتبة الخيار متأخّرة عن مرتبةِ البيع، فإذا كانَ البيع فيه ضَرَرٌ فتشمله قاعدة لا ضَرَر قبلَ ضَرَرِ الخيار فلا يَبْقى مجال لِشُمولها لِضَرَر الخيار؛ لأنّه ينافيه نظير الاستصحاب في الشكّ السبّبي والمسبّبي.

وتنقيحُ الحال وتحقيقه أنْ يقال: إنَّ الأحكام إذا لزم من صدقها التسلسل تثبت في مصداقها الأول دون البقية، فمثلاً وجوبُ رَدِّ التحيّة يقتضي التسلسل؛ لأنّ الرّد أيضاً تحيّة وهَلُمَّ جرّا، وهكذا الحُكْمُ بأنَّ مَنْ قَتَلَ نفساً متعمّداً يقتل بها يقتضي التسلسل؛ لأن المقتص بالقتل يصدق عليه الموضوع، ففراراً من التسلسل الذي يقطع بعدم إرادته يحمل الكلام على إرادة الفرد الأول منه، وفيما نحنُ فيه نفي لزوم البيع الضَّرَري الذي دَلَّتْ عليه قاعدَةُ لا ضَرَرَ يتولّد من نفس هذا النفي ضررٌ على البائع للمعيب بإرجاع بضاعته له، وهو حكم شرعي أيضاً، فمُقْتَضَى القاعدة نفيُ هذا النفي المذكور، ونفيُ هذا النفي المذكور فيه ضَرَرٌ على المشتري وهو حكم شرعي، فمقتضى قاعدة (لا ضرر) نفيه، وهَلُمّ جرّا، فيلزم التسلسل، فيدورُ الأمر بين إلغاء القاعدة في المعاملات، أو جعلها مختصة بضَررها الأول، ولا رَيْبَ في عَدَمِ صِحّة إلغاء القاعدة في المعاملات؛ لتمسُّك الفقهاء بها فيها، ولتمسُّكِ المعصومين  عليهم السلام  بها فيها، وأظهرها ما وَرَدَ من قِصَّةِ سَمُرَةَ بن جندب.

خامس الإيرادات: ما ذَكَرَهُ المرحومُ الأنصاري([689])، وتَبِعَهُ بَعْضُهُم([690])، وحاصله: إنَّ قاعدة (لا ضرر) يوهنها كثرةُ التّخصيصات، بحيثُ يكونُ الخارج منها أضعاف الباقي كما لا يخفى على المتتّبع، خُصَوصَاً على تفسير الضرر بإدخالِ المكروه فإنّه يلزم تخصيصُها بأحكام القصاص والديّات والضَّمَان، وإلزام المحتكر ببيع الطعام، وأخذ الديّة من العاقلة، والحكم بجواز قتل العشرة من المشتركين في قتل واحد مع دَفْعِ تِسْعَةِ أعشار الديّة إلى وارثهم، وأشباه ذلك من الحجّ والجهاد والصّوم والصّلاة والخمس والزكاة، ووجوبُ الإنفاق على واجبي النفقة، والكفّارات ونحو ذلك، فإنَّ كثرة التّخصيص يدلُّ على أنَّ المراد بالعام معنى غير هذا المعنى بحيثُ لا يوجب كَثْرَةُ التَّخصيص به، فتكونُ قاعدة (لا ضرر) مُجْمَلَة، أو يكونُ عُمومها ليس بمرادٍ فلا يصحُّ التمسُّكُ بها إلاّ في الموارد المنصوص عليها، أو الموارد التي عمل الأصحاب بها كقاعدة (القرعة).

وأجاب عنه([691]): بأنه يمكن أنْ يكون التّخصيص بهذه الموارد بعنوانٍ واحد جامع، ولا استهجان في التّخصيص بالأكثر إذا كان عنواناً واحداً، وعليه فلا مانع من التمسُّك بقاعدة (لا ضرر).

وأشكَلَ عليه في الكفاية([692]) تبعاً لغيره من أنَّ التخصيص بالأكثر مستَهْجَنٌ سواء كان بعنوانٍ واحدٍ أو بعناوين مُتعدِّدة.

والحقُّ في الجواب: إنَّ أغلب هذه الأحكام هي للتخلُّص من الضَّرَر، وسَدّ أبوابه على العباد، وصَوْنِ نفوسهم من معرض التّهلكات، وصيانة أموالهم وأعراضهم عن التعديات.

وأمّا مثل الحجّ والجهاد ونحوهما فهي ليس من الضَّرَر، بل يحصَلُ الضَّرر بتركها لأنّ فيها من المصّالح العامّة والخاصّة ودفع المفاسد ما يوجب عَدَمَ كونها ضرراً، ألا ترى أنَّ العرف والعقل لا يرى إصلاحَ ذاتِ البين ضَرَراً وإنْ كلّف القائم به العناء الكثير، وهكذا شرب الدّواء والفصد والحجامة لإذهاب الداء ليس من الضَّرر وإنْ تألم الإنسان منه، أو بذل فيه المال لما يترتب على ذلك المصالح ودفع المفاسد، فالمذكورات أغلبها من هذا القبيل، فإنَّ الجهاد فيه رفع مستوى البشرية وإنقاذها من أيدي العتاة المردة، والحجّ فيه الجمع بين أهل الجدة من المسلمين للتعارف فيما بينهم وللتفاهم فيما يرفع مستواهم في إخلاص نية وتوجُّهٍ نحو اللهِ عَزَّوجل، والضَّمَاناتِ والدِّيات والقِصاص ونحوها، إنّما شرعت لدفع الفساد وإزالة الظُّلْمِ والعُدْوانِ، فلا يَلْزَمُ التَّخْصيصُ للقاعدة بالأكثر؛ لأنَّ أغلب المذكورات لم يكن فيها ضَرَرٌ، والباقي منها على تقدير وجوده فهو قليل جدّاً لا يضرّ تخصيصُ القاعدة به.

على إنّا لو سَلَّمنا أنّ المذكورات بأجمعها فيها ضَرَرٌ وأضعافها مثلها، فالتَّخصيص بها ليس بتخصيص بالأكثر، فإنَّ نسبتها إلى الأحكام الشرعية نسبة القطرات إلى البحر، والذرّات إلى التُّراب، فقاعِدَةُ (لا ضَرَر) تشمل سائر الأضرار في مُتَعَلَّقات الأحكام الشرعية من دونِ مُخَصِّصٍ لها سوى المذكورات ونحوها وهي أقلُّ القليل من الباقي تحتها.

المقام السادس: في تعارض قاعدة لا ضرر

إنّ التعارض في قاعدة (لا ضرر) على أقسام:

أحدها: أنْ يقع التعارض بين أدلّتها وبين أدلّة القواعد التي في مرتبتها ولا حكومةَ لها عليها كقاعدة الحرج، كما لو كانَ تصرُّف المالك في ملكه مُضِرّاً بجاره مع أنَّ منعه من التصرّف في ملكه حَرَجٌ عليه، وكقاعدة عدم الإكراه كما في صورة ما إذا أكره على ضَرَرِ الغير، فإنَّ قاعدة الإكراه تقتضي جواز إضراره للغير، وقاعدة لا ضرر تنفي الجواز.

ثانيها: أنْ يقع التّعارض بين أدلّة لا ضرر والأدلة الاجتهادية للأحكام الشرعية، كما في صورة ما إذا كان الوُضُوءُ فيه ضَرَرٌ عليه فإنَّ أدلّة الوضوء تقتضي وجوبَهُ حتَّى لو كانَ ضَرَريّاً، وأدلّة الضَّرَر تقتضي عَدَمَ وجوبه.

ثالثها: أنْ يَقَعَ التّعارُضَ بين أدلّة لا ضَرَرْ وبين الأدلّة الفقاهية للأحكام الشرعية، أعني: بينها وبين أدلّة الأصول العملية، كما في الشبهة المحصورة إذا كان ارتكاب بعض أطرافها مضرّاً، فإنَّ أدلة الاحتياط تقتضي الإتيان بجميع أطرافها وأدلّة الضّرر تقتضي عدمه.

رابعها: في تعارُضِ الضَّرَرين، كما إذا أدخلتْ الدّابةُ رأسَها في قدرِ الغير بحيث لا يخرج رأسها إلاّ بكسر القدر أو بكسر رأسها.

أمّا في الأول: وهو التّعارض بينها وبين ما كان في مرتبتها، فإنه لما كانت ليست لها حكومة عليه ولا أخصيّة منه، فالقاعدة هو الرجوع لقواعد التعادل والتراجيح على نحو سائر التعارض بين القواعد العامة.

والذي قيل بتعارض قاعدة لا ضرر معه من القواعد ووقع البحث فيه هو قواعد ثلاث: قاعدة الحرج، وقاعدة الإكراه، وقاعدة السلطنة.

أما قاعدة الحرج: إذا وَقَعَ التعارض بينها وبين قاعدة لا ضرر فمقتضى القاعدة هو التساقط لعدم حكومة إحداهما على الأخرى لكونِ كُلٍّ منهما ناظراً لنفي الحكم، ولا أخَصّيّة لأحدهما على الأخرى، وتساويهما في المرجّحات الدلالية والسندية، فمثلاً لو كان ضَرَرٌ في تصرّفه في مِلْكِهِ على الجار، وترك تصرُّفِهِ فيه حَرَجٌ عليه، كما لو أرادَ حفر بالوعة في داره وكان فيها ضَرَرٌ على جاره وترك حفرها حَرَجٌ عليه، فهنا تعارَضَتْ قاعدة لا حرج مع قاعدة لا ضرر؛ لأنَّ لا حرج تقتضي نفي حرمة إضرار الجار، وقاعدة لا ضرر تقتضي حُرْمَةَ التصرّف في الدار؛ لأنّ فيها ضرراً على الجار فيتساقطان ويرجع إلى قاعدة السلطنة، حيثُ لا قاعدة مقدّمة عليها فيتصرّف في داره، وإذا لَحِقَ الضَّرَرُ على جاره ضمنه لقاعدة الضّمان.

وأمّا تَعَارُضُ قاعِدَةِ لا ضَرَر مع قاعدة الإكراه فالقاعِدَةُ هو ما ذَكَرْنَاهُ من تساقطهما لعدم حكومة إحداهما على الأخرى؛ لأنّ كُلاً منهما لسانُها لسان نفي التكليف، وقد مَثَّلَ لذلك بما لو أكرهه الجائرُ على إضرار الغير، فإنَّ قاعدة الإكراه تقتضي جوازَ إكراهه، وقاعدة لا ضرر تقتضي عدم جواز إكراهه؛ لأنّ جواز إضرار الغير فيه ضَرَرٌ على الغير.

ولكن التحقيق: إنَّ قاعدة الإكراه لا تُعَارِضُها في المقام قاعدةُ لا ضَرَرَ؛ لأنَّ قاعدة لا ضرر تتعارض أفرادُها فيه بنحو التكاذب، وذلك لأنَّ (لا ضرر) تنفي حُرْمَةَ إضرار الغير عن المكره؛ لأنها فيها ضَرَرٌ عليه بواسطة إكراه الظالم له على إضرار الغير، وإباحَةِ ضَرَرِ الغير التي هي بالمعنى الأعم والتّي ترجع لعدم حرمة ضَرَرِ الغير أيضاً تنفيها (لا ضرر) لأنه فيها ضرر الغير.

وإنْ شئتَ قلتَ: إنَّ الإباحَةَ والاستحباب والكراهة والوجوب لإضرار الغير تنفيها (لا ضرر)، فلابدّ أنْ تكون (لا ضرر) كاذبة، أمّا في حرمة إضرار المكره للغير أو في إباحة ضرر المكره للغير؛ لأنّ الموجود في الواقع أمّا الحرمة المذكورة أو عدمها الذي هو الإباحة بالمعنى الأعم؛ لاستحالة ارتفاع النقيضين، فهو نظير تكاذب قول المولى: (كلُّ خبرٍ يخبر به العادل عنّي فهو صحيحٌ مطابق للواقع) في الخبرين المتعارضين المتنافيين، كالخبر بأنَّ ثمن العذرة سحتٌ، والخبر بأنَّ ثمن العذرة ليس بسحتٍ؛ لأنَّ قاعدة لا ضرر كما تقدّم إنّما هي إخبار عن عدم جعل الحكم الضرري، وفيما نحن فيه لمّا كانَ لابدَّ من أحدِ الحكمين أمّا حرمة إضرار الغير أو عدمها في صُورَةِ الإكراه على إضرار الغير، فيكونُ الإخبار بعدم أحدهما يُكذِّبُهُ الإخبار بعدم الآخر، وإذا لم تجيء قاعدة لا ضرر فيه فيبقى عندنا في المقام قاعِدَةُ الإكراه مع التكليف بحرمة إضرار الغير، ويَقَعُ التنافي بينهما، فقاعدة الإكراه تقتضي عدم حرمة إضرار الغير، والتكليف بحرمة إضرار الغير يقتضي ثبوت الحرمة بإضرار الغير.

ويمكن أنْ يقال بل ربما قيل: بتقديم قاعدة الإكراه على حرمة إضرار الغير؛ لأنَّ أدلّة قاعدة الإكراه حاكِمَةٌ على أدلّة التكليف الشرعية، لكون لسانها لسان نفيٍ لكلِّ تكليفٍ أوّلي يكرَه الإنسان على مخالفته، ولا ريبَ أنَّ حرمة إضرار الغير نظير حرمة شرب الخمر من التكاليف الأوّلية فترتفع عند الإكراه على مخالفتها كما ترتفع حرمة شرب الخمر.

ولكنْ يمكن أنْ يقال: إنَّ أدلّة نفي الإكراه لا تشمل صُورَةَ الإكراه على إضرار الغير لوجهين:

الأول: إنّ المستفاد من أدلّة الإكراه ولو بقرينةِ الحال ومناسبة الحكم للموضوع أنَّ نفي الحكم عمّا أكره عليه ليس إلاّ من جِهَةِ دَفْعِ الضَّرَر وعدم تحقُّقه على المكلف.

وعليه: فلا يعقل أنْ تكون أدلّة الإكراه تشمل المورد الذي يكونُ نفيُ الحكم عنه يُوِجبُ الضَّرَرَ على المكلَّف، فإنَّ ما شَرَعَ لعدم تحقّق شيء لا يُعْقَلْ أنْ يوجد هذا التشريعُ في موردٍ يوجب ذلك الشيء.

وعليه: فلا تشمل أدلّة الإكراه ما نَحْنُ فيه؛ لأنَّ حُرْمَةَ رَفْعِ إضرار الغير عند الإكراه على إضراره يستلزمُ تحقّق الضَّرر على الغير وهو خلافُ ما شرعت له، فلابُدّ أنْ نلتزم بعدم تشريعها في المقام، وهذا نظيرُ قولهم  عليهم السلام : (إنّما جعلت التقية ليحقن بها الدَّم فإذا بَلَغَ الدَّمُ فلا تقيّة)([693]).

الثاني: إنَّ أدلَّةَ نفي الإكراه إنّما كانت واردة في مقام الامتنان على الأمّة بإباحة ما أكرهوا عليه، ولا مِنَّةَ على الأمّةِ في إباحَةِ الإضرارِ بالغير مطلقاً.

وعليه: فيكونُ الثّابتُ في مقام الإكراه على إضرار الغير هو حرمة الإضرار للغير بلا معارض.

ولكنْ يمكنُ أنْ يُجابَ عن الوجهين المذكورين:

أمّا عن الأول: فإنَّ أدلّة الإكراه هي ترفعُ كُلَّ حكمٍ كانَ يحدث بسببه الضَّرر، وفيما نحنُ فيه الحُكْمُ بحرمَةِ إضرار الغير يحدث بسببه الضّرر على المكرَه من الجائر، بخلاف عدم هذه الحرمة فإنّه لا يحدث بسببها الضَّرر على الغير؛ لأنَّ الضَّرر على الغير كان متوجّهاً من الجائر إليه، سواء امتنع المكرَهُ عن إضراره أم لم يمتنع.

وبهذا تَعْرِفُ الجوابَ عن الوجه الثاني؛ لأنَّ المنّة هي عدم حدوثِ الضَّرر بالتكليف، وأمَّا رفع التكليف الذي يكونُ الضَّرَرُ موجوداً سواء رفع أم لم يرفع فلا مِنّة في رفعه، وفي المقام رفع حرمة إضرار الغير فيها منة على المكره؛ لأنَّ بالحرمة يتوجب عليه الضرر من المكره وليس برفعها يتوجّه ضَرَرٌ على الغير؛ لأنَّ الضَّرَرَ هو متوجّه على الغير من الجائر سواء رفع الشارع الحرمة أم أبقاها.

وبهذا يظهر لك إنَّ قاعدة لا ضَرَرَ أيضاً لا تتعارَض في المقام لأنّها إنّما ترفع التكليف الذي يتوجّه به الضَّرر، وعدم حرمة إضرار الغير قد عرفت أنه لا يتوجّه به ضَرَر على الغير؛ لأنّ الضَّرَر متوجّه له من الجائر سواء رُفِعَت حرمة إضرار الغير من المكره أم لم ترفع، بل إنَّ من مقام المنّة أنْ يرفع حُرْمَةُ إضرار الغير عن المكرَه، إذ لو لم يرفعها لكانَ الجائر يوقع الضَّرر على المكرَه وعلى الغير فيكونان تضرّرين بدل الواحد.

وعليه: فقاعِدَةُ (لا ضَرَر) وقاعِدَةُ الإكراه متّفقتان على رفع حرمة إضرار الغير عن المكرَه لتوافقهما بحسب المؤدّى، بل وقاعدة لا حرج فيما إذا كان بمخالفة الجائر حرج عليه وعندئذ يرفع اليد عن حرمة إضرار الغير؛ لأنّ هذه القواعد الثلاث حاكمة على أدلّة التكاليف الأوّلية كحُرْمَةِ شرب الخمر ونحوها، وعندئذٍ يجوز له إضرارُ الغير إذا أكره عليه.

نعم الضَّمَان يكونُ ثابتاً للغير فيما إذا أتلف من ماله شيئاً لقاعدة الضمان، ولكنَّ الضَّامن هو الجائر لا المكره؛ لأنّ المسبَّب هو الجائر وهو أقوى من المباشر، نعم لو علم من الخارج أنَّ المكرَه عليه لا يرضى الشارع بارتكابه ولو أكره عليه كهدم الكعبة ونحوه، فأدلّة الإكراه لا تشمله، وهكذا الدّماء لو أكره عليها     لقوله  (ص) : (جعلت التقية ليُحْقَنَ بها الدّم فإذا بَلَغَ الدّم فلا تقيّة)، فإنّ أدلّةَ الإكراه تكون مُخَصَّصة بذلك، والأخصُّ من العام لا يكونُ العام حاكماً عليه، وإلاّ لم يبق للخاصّ مورد.

هذا، والمعروفُ عن صاحب الجواهر([694]) والشّيخ الأنصاري([695]) أنّهما اختارا كونَ الإكراه مُسّوغاً للإضرار بالغير مُطْلقاً حتَّى لو كانَ الضَّرَرُ المتوعَّدُ عليه أقلَّ من الضَّرَرِ المكرَه عليه المتوجّه للغير من المكرِه، واستدلوا على ذلك:

أولاً: بإطلاق أدلّة رفع الإكراه، فإنّها واردةٌ في مقام الامتنان، وهي تقتضي دفع الضَّرر عن المكرَه؛ لأنه لم يتوجّه إليه الضَّرر إلاّ على تقدير المخالفة، ولا تقتضي رفع الضرر المتوجه للغير بنحو الحتمية من جانب المكره.

وثانياً: بالمصحّح أو الموثّق عن أبي جعفر  عليهم السلام : (إنّما جُعِلَ التقيّة ليحقن بها الدم فإذا بلغ الدّم فليس تقية)([696])، حيثُ دَلَّ على أنَّ حَدَّ التقيّة بلوغُ الدَّمِ فتشرع لما عداه.

وُحكِيَ عَنْ بَعْضِهِم([697]) ما ظاهره أنَّ المسألة من بابِ التعادُلِ والتَراجيح بين ما يظلم به الغير، وبين ما يخشاه من الظُّلْمِ عليه، فيرتكب ما هو الأقلّ ومع التعادل يتخير.

وحُكيَ عن بَعْضِ المعاصرين([698]) لزومَ تحمّل المكرَهِ الضَّرَرَ لو كانَ مُباحاً، والرّجوع إلى باب التزاحم إذا كانَ الضَّرَران مُباحين، كما لو أكره على سرقة مال الغير أو الزنا بزوجته.

وأمّا تعارض لا ضَرَرَ مع قاعدة السلّطنة الثابتة بالحديث النبوي المشهور المرويّ في كتب الأصحاب، المعمول به عندهم وهو قوله  (ص) : (الناس مسلطون على أموالهم)([699])، فالظاهر تقديم قاعدة (لا ضرر) عليها كما يُنسب ذلك إلى المحقِّق القمّي([700]) ولغيره([701]) لحكومتها عليها؛ لأنّ (لا ضرر) لسانها لسان نفي التّكاليف الضَّررية، وقاعِدَةُ السلطنة لسانُها لسانُ إثباتِ حكمٍ وضعيّ؛ لأنها تثبت السّلطنة للمالك على ماله، وقد مَثَّلَوا لذلك بمثل ما إذا كان التصرّف في دارِهِ أو ماله مُوجِباً لتضرُّرِ الغير دُونَ أنْ يكونَ في تَرْكِ تصرُّفِهِ في مِلْكِهِ ضَرَرٌ عليه أو حَرَجٌ عليه، فإنّه في هذِهِ الصُّورة لا يعارض قاعدة (لا ضرر) إلاّ قاعدة السلطنة، وقد عَرَفْتَ أنَّ قاعدة (لا ضرر) مقدّمة عليها؛ لأنها ناظرة إليها وشارحة لمقدار دلالتها.

ويؤيّدُ ذلك استقرارُ سيرة العُقلاءِ على الرُّجوع حتَّى لمحاكم الجور فيما لو تضرّر الجار من جاره، بل وسيرة الأصحاب لأنّهم استندوا في إثبات الشفعة إلى قاعدة الضرر مع مخالفتها لقاعدة السلطنة؛ لأنَّ تسلط الشفيع على فسخ العقد ونزع المال من يدِ صاحِبه مُنافٍ لعموم السلطنة الثابتة بوقوع العقد صحيحاً، وما في الأخبار المتقدّمة من استناد الصّادق  عليهم السلام  إلى قاعدة نفي الضَّرر في إثبات الشفعة، والأخبار التي اشتملت على قِصّة سمرة.

إنْ قلت: إنَّ قوله  (ص) : (الناس مسلطون على أموالهم)([702]) واردٌ في مقام إمضاء طريقة العقلاء، وعمومُ قاعدة (لا ضرر) وإنْ صلح لتخصيص عموم السلطنة إلاّ أنَّ عمومَ السَّلطنة من حيثُ نظره إلى إمضاء عموم تصرّفات ذوي الأموال التي من جملة أفرادها المتداولة تضرّر الجارُ بتصرُّفهم يكونُ مبيّناً لقاعدة (لا ضرر) وحاكماً عليها، ومما يوضّحُ ذلك أنَّ قوله  (ص) : (الناس مسلطون على أموالهم) واردٌ في مقام رفع الضرر عن المالك بحجره عن التصرف في ملكه لكون حجره عنه ضرراً عليه، فهو من حيث وروده في مقام رفع الضرر عن المالك آبٍٍ عن التخصيص.

قلنا: إنَّ كونه إمضاءً لبناء العقلاء لا يقتضي كونه حاكماً، فإنَّ قوله تعالى: [وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ]([703]) واردٌ أيضاً لإمضاء بناءِ العقلاء، مع أنَّ قاعدة (لاضرر) تكون حاكمة عليه فيما لو كان فيه ضَرَرٌ كبيع المغبونِ ونحوه، مُضافاً إلى أنَّ الميزان في الحكومة هو كونُ الحاكم شارحاً للمحكوم وبياناً له، ولا رَيْبَ أنَّ (لا ضرر) لها جهة شرح وبيانٍ، لعدم جعل الأحكام من الشارع ما كان فيها ضرر، وأدلّة السّلطنة ليست دالّة إلاّ على ثبوت السلطنة للمالك من دون بيانٍ لشيء آخر، ولا شرح لأمر سوى ذلك، بخلاف أدلّة (لا ضرر) فإنّها ليست لها جهة إيجابية، وإنّما هي ممحّضة لنفي الأحكام الضررية في التشريع الإسلامي، فهي ممحّضة في النظر للتشريع الإسلامي ومبيّنة لمقدار الموجود منه من دون نظر لإثبات شيء، فلابّد أنْ تكون هي الحاكمة على ما عداها، لا أدلّة السّلطنة التي هي ليست ناظرة إلاّ للجهة الإيجابية وهي ثبوتُ السلطنة، كيف؛ وأدلّة السلطنة كانت مقدمة عليها سائر أدلّة المنع من التصرّف، فإنّ الإنسان قد قَيّدَ الشارعُ سلطنته على المال في أغلب تصرّفاته فيه من الإسراف، وشراء الأمور المحرّمة، وإعانة الظالمين ونحو ذلك، ولا بأس بذكر فروع لهذه المسألة.

أحدها: أنْ يكونَ تصرُّفُ المالك في مالِهِ ضَرَرٌ على الغير من دونِ أنْ يكون في تركِهِ للتصرُّفِ ضرر عليه، ولا فقدان نفع له، ولا حَرَجَ عليه، وهذا على قسمين:

أحدهما: يكونُ بقصد إضرار الغير، وأخرى لا بهذا القصد، بل تَشَهّياً للعمل، كأن يبني سطحاً عالياً مشرفاً على الجار وهو في غنى عنه بقصد إضرار الجار، أو تشهياً منه لذلك، فالظّاهر كما هو المحكيّ([704]) عن المشهور هو الحرمة والضَّمَان للغير لو أوجب تلفاً في ماله.

أمّا الحرمة فلقاعدة (لا ضرر)، فإنّها ترفع الحُكْمَ بسلطنة المالك على ملكه بهذا النّحو لأنّه حكم فيه ضرر على الغير، ولحرمة إضرارِ الغير، وأمّا الضّمان فلقاعدة من أتلف.

ومنه تعرف حرمة كسر تاجر لآخر ببيع سَلْعَتِهِ بقيمةٍ قليلة ليكسر الآخر، وأمّا بيعها بقيمة قليلة لشدّة احتياجه، وكانَ ذلك موجباً لضرر واجدي تلك السّلعة فالقاعدة هي الجواز لأنَّ (لا ضرر) تتعارض في بيعه وعدمه فتتساقط، ويرجع لقاعدة السلطنة.

وكيف كان؛ فيدلُّ على أصل المطلب ما تقدَّم من أخبار لا ضرر فراجعها، وكفى منها خبر قصّة سمرة بن جندب، فإنَّ تصرّفه في ملكه بالدخول فيه لعذقه بدون استئذان كان فيه ضَرَرٌ على الأنصاري، وفي تَرْكِ الدّخول بلا استئذان ليس فيه ضَرَرٌ على سمرة المذكور، إذ يمكنه أنْ يَدْخل مع الاستئذان، وقد استدلّ ابنُ قدامة([705]) من الحنابلة في المغني([706]) في إحياء الموات على عدم جواز ما يحدثه الجار مما يضرّ بجاره بـ (لا ضرر).

ثانيها: أنْ يكونَ في تصرّفه في مُلْكِهِ ضرر على الغير، وفي تركه للتصرّف ضرر عليه كبناء بالوعة لداره يحتاج إليها فيها ضرر على جاره، وفي ترك البناء ضرر على داره، فإنّ قاعدة (الضَّرر) تتعارض ههنا؛ لأنَّ في جواز البناء للمالك ضرراً على الغير تقتضي قاعدة (لا ضرر) نفيه، وفي حرمة بناء المالك في ملكه ضرر عليه تقتضي قاعدة (لا ضرر) نفيها، فتتعارض قاعدة (لا ضرر) فيهما، إذ لابدّ من أحدهما: إمّا جوازُ البناء أو حرمته، فتتساقط قاعدَةُ (لا ضرر) فيهما، فتبقى قاعدة السّلطنة للمالك وحُرْمَة إضرار الغير ويَقَعُ بينهما التزاحُم، وحيث إنَّ قاعدة السلطنة تقتضي حكماً لا اقتضائياً وهو الإباحة للتصرّف بخلاف حرمة التصرّف فإنّها تقتضي حكماً اقتضائياً وهو الحرمة، فتقدَّم حرمة التصرف على قاعدة السلطنة؛ لأنَّ الحكم اللاقتضائي لا يزاحم الاقتضائي، وعليه الضَّمان لو أضرَّ الجار كما هو المحكيّ عن الشهيد في بابِ الغَصَب وذلك لقاعدة من أتلف([707]).

إنْ قلت: إنَّ المرجع هو قاعدة (لا حرج) بعد تساقط (لا ضرر)، فإنَّ (لا حرج) حاكمةٌ على قاعدة السلطنة وحرمة الإضرار بالغير، وذلك فإنَّ مَنْعَ المالك من التصرّف في ملكِهِ فيه ضيقٌ عليه فتكونُ قاعدة الحرج تقتضي جواز تصرّف المالك في ملكه.

قلنا: مُجرَّدُ المنع عن بعض أنحاء التصرّف لا يوجب الحرج، فإنَّ الحرجَ هو الضيق والمشقَّةُ التي لا يُطيقها الإنسان، وإلاّ لكانت أغلب التكاليف حرجية، هذا مضافاً إلى أنَّ أدلَّة الحرج في مرتبة أدلّة (لا ضرر) لأنَّ كلاً منها ينفي التكليف، وإذا كان في مرتبته كان نفي الضَّرر الذي يقتضي عدم تصرف المالك في ملكه يعارض كلاً من نفي الحرج ونفي الضرر الذي يقتضي جواز تصرُّفِهِ في ملكه، نظير الاستصحاب الواحد الذي يعارض استصحابين في مرتبة واحدة، كما لو علمنا بنجاسة أحد الإنائين وفي أحدهما يوجد استصحابان للطهارة؛ لأنه في السّابق سَقَطَ عليه المطر وسقط في الكرّ، والآخر فيه استصحاب واحد وهو سقوط المطر عليه.

إنْ قلتَ: إنّ تعارُضَ الضَّرَرين هنا لا وَجْهَ له لأنَّ التعارُضُ إنّما يتصوَّر هنا بأنْ تكونَ قاعدة لا ضرر دلَّتْ على نفي جوازِ تصرُّف المالك فتكون دالة على ثبوت الحكم بنفي جواز تصرّف المالك الضَّرَريّ على الغير، وهذا الحكم المستفاد من (لا ضرر) حُكْمٌ شرعيٌّ يتعارض مع نفس (لا ضرر) أيضاً؛ لأنَّ هذا الحكم فيه ضَرَرٌ على المالك لمنعه من التصرّف في ملكه فيكونُ منفياً عن المالك هذا النفيّ بـ (لا ضرر)، وهذا نظيرُ ما يقال: (كُلُّ كلامي كَاذِبٌ) في شموله لنفس هذا الكلام.

وبعبارةٍ أخرى: يكونُ حْكُمُ لا ضَرَرَ على المالك هو فيه ضَرَرٌ فتنفيه نفس القاعدة، فهذا غاية ما يمكن من تصوير التّعارض في المقام، وهو باطلٌ إذ لا يُعْقَل أنَّ الدليل يتكفّل إبطال نفسه أو أحد أفراده، وإلاّ لزم من وجوده عدمه، أو من وجودِهِ عدمُ فردِهِ وهو محالٌ، فـ (لا ضَرَر) لا يعقل أنْ ينفي نفس (لا ضرر).

ودعوى أنَّ الاستصحابَ في الشكّ السبَّبي في المسبَّبي كذلك، حيثُ
الحُكْمُ الاستصحابيُّ في الأول يَنفي الثاني فلا يَضُرُّ أنْ ينفي أحدُ المصاديق المصداق الآخر.

فاسدة؛ لأنَّ الاستصحابَ في السَّبب إنّما يرفع الشكَّ في المسبَّب فلا يجري الاستصحاب فيه لعدم موضوعِهِ، لا من جهَةِ أنَّ الاستصحاب في السَّبب رفع الاستصحاب في المسَّبب.

قلنا: التّعارض الذي ذكرناهُ غير هذا الذي توهَّمَهُ الخَصْمُ فإنَّ عدم
الجواز لحفر البئر المضرّة بالغير والجواز لحفر البئر كُلٌّ منهما حكم ضَرَريّ
منفي بقاعدة الضَّرر جعله بالجعل الاستقلالي أو التبعيّ، وليست قاعدة (لا ضرر) ينشأ بها حُكْمٌ شرعيّ حتَّى يقال إنّها لا يصحّ أنْ تنفي الحكم الشرعي الذي هو مفادها، وإنّما هي إخبارٌ عن عَدَم وُجودِ الحكم الضَّرري لا استقلالاً ولا تبعاً.

ولو سلَّمنا أنه ينشأ بها حُكْمٌ شرعيّ فالضَّرَر المتولّد من صدقها في المورد المذكور لا تشمله؛ لأنّها لو شملته لَزَم التّسلسل؛ لأنَّ نفيَ ذلك النفيّ فيه ضرر على الجار وهلّم جرّاً، وهو يلزم منه التسلسل، فلابد أنْ تقول: بأنَّ (لا ضرر) إمّا غير صادقة في المقام أو إنها مختصّةٌ بنفي الحكم الأول دونَ ما يتولّد منه، فإنْ كانت غير صادقة في المقام فهو المطلوب، وإنْ كانت صادقة وَقَعَ التعارض بين أفرادها في الحكمين المذكورين، وقد تقدَّم في مقام الإيرادات على هذه القاعدة في جواب الإيراد الرابع توضيح ذلك.

إن قلت: إنَّ عَدَمَ الجواز ليس بحكمٍ شرعيّ فلا تنفيه قاعدة لا ضرر.

قلنا: سيجيءُ إنْ شاء اللهُ في المقام السّابع في بيانِ الموارد التي تجري فيها القاعدة من أنَّ عَدَمَ الجواز مجعولٌ للشّارع وحكم له، باعتبارِ أنَّ الجواز بيده جعله ورفعه.

وإنْ أبيتَ فقل: حُرْمَةُ حفر البئر وهي حُكْمٌ شرعيٌ تنفيه قاعدة (لا ضرر)؛ لأنَّ الحرمة لحفر البئر فيها ضرر على المالك كما أنَّ الجواز لحفر البئر فيها ضرر على الجار.

إنْ قلتَ: قد ذَكَرَ بعضُ المعاصرين([708]): إنَّ الجواز للحفر حكمٌ إباحي غير إلزامي فلا تجري فيه قاعدة (لا ضرر) كقاعدة (لا حرج).

قلنا: سيجيء إنْ شاءَ اللهُ في الموارد التي يصحُّ التمسُّكُ بقاعدة (لا ضرر) من أنَّ الأحكام غير الإلزامية إنْ كان ضَرَرُها بالنّسبة إلى المرتكب لا تجري فيها القاعدة المذكورة، أمّا الأحكام غير الإلزامية إذا كان ضَرَرُها بالنسبة إلى غيره فتجري فيها القاعدة المذكورة، وفيما نحنُ فيه كانت الإباحة للبناء ضررها بالنسبة للغير، فهي أيضاً لا([709]) تجري فيها القاعدة.

إنْ قلت: إنَّ المحكي([710]) عن الشيخ في المبسوط في باب إحياء الموات([711])، وعن العلامة في التذكرة([712])، وعن ابن إدريس في السرائر([713]): أنهم نفوا الخلاف في جواز حفر الكنيف والبالوعة لمالك الدار، وإن كان جاره يتضرر بذلك، كما لو كان قد حفرهما بقرب بئر جاره وأدّى ذلك إلى تغيّر ماء بئره، بل عن جماعة من القدماء ودعوى الإجماع على ذلك([714])، وعن العلامة في التحرير([715]) والقواعد([716]) جوازُ تَصَرُّف المالك في ملكه وإنْ تَضَرَّرَ الغير، وعن جامع المقاصد([717]) جواز تصرّف المالك في ملكه وإنْ تَضَرَّرَ الغير مستنداً إلى قاعدة السلطنة.

قلنا: لم نظفر بدعوى الإجماع من أحدٍ، وإنّما هو منقول عن جماعة لم تذكر أسماؤهم، ولعلّ مستند دعوى الإجماع وعدم الخلاف هو قاعدة السلطنة، كما هو ظاهرُ المحكيّ عن جامع المقاصد([718])، وقد عَرَفْتَ حكومة (لا ضرر) عليها، فالحقُّ هو ما ذكرناه.

إنْ قلتَ: إنَّ أدلة نفي الإكراه تقتضي الجواز؛ لأنَّ الفَرْضَ أنَّ المالك يتضرر بترك التصرف.

قلنا: إنَّ أدلّة الإكراه تختصُّ بما إذا كان هناك جائرٌ يكره الإنسان على العمل، وفيما نحن فيه لا إكراه، إذ لم يكن شخص يكرهه على التصرف.

ثالثها: أنْ يكون في تصرّفه ضَرَرٌ على الغير، وفي تَرْكِ تصرُّفِهِ حَرَجٌ عليه كبناء حديقةٍ في داره يصرّ عليها عائلته فيها ضَرَرٌ على جاره، وفي هذه الصورة يتساقط (لا ضرر) و (لا حرج) لتعارضهما، ويرجع لقاعدة السلطنة، أعني: قاعدة (الناس مسلطون على أموالهم) وقاعدة (حرمة إضرار الغير)، وقد عرفت في الفرع السابق تقديم الثاني على الأول.

رابعها: عكس الثالث، أنْ يكون في تصرّفه في ملكِهِ حَرَجٌ وضيق على الغير، وفي ترك تصرّفه ضَرَرٌ عليه كأنْ يضع آلة في دارِهِ لها صوتٌ مزعج لجاره، وفي هذه الصّورة أيضاً يتساقط (لا ضرر) مع (لا حرج)، ويرجع إلى قاعدة السلطنة فيكونُ المالك له السَّلْطَنَةُ على وضعِ مثل هذه الآلة.

خامسها: أنْ يكونَ في تصرُّفِهِ حَرَجٌ على الغير، وفي تَرْكِ تصرُّفِهِ حَرَجٌ عليه كما في فتح روشن لضياءِ غرفته كان في فتحِهِ حَرَجٌ على الجار، وفي تركِهِ حرج عليه، وفي هذه الصّورة يتساقط (لا حرج) في فرديه، ويرجع إلى قاعدة سلطنة المالك على ملكه.

سادسها: أنْ يكونَ في تصرُّفه ضَرَرٌ أو حرج على الغير، وفي ترك التصرف فقدانُ منفعةٍ له، كأنْ يصنع بالوعة أخرى للدار فيها منفعة للدار وفيها ضرر على الجار، وفي هذه الصورة يرجع إلى قاعدة (لا ضرر) أو (لا حرج)، حيث لا معارض لهما، ولا يرجع لقاعدة السلطنة لما عرفت من أنّهما مقدَّمان على قاعدة السّلطنة، لكونِ قاعِدَةِ السّلطنة تثبت التكليف، وقاعدة (لا ضرر) أو (لا حرج) لسانُها لسان نفي التكليف وتحديد وجوده فهما حاكمان على قاعدة السلطنة.

وأمّا الثاني: وهو التعارض بين القاعدة والأدلّة الاجتهادية، فإنْ كانت الأدلة الاجتهادية أخصّ وغيرُ قابلة للتأويل والطّرح فأدلّة الجهاد قدمت على قاعدة الضرر، إذ لو قدّمت عليها لزم طرحها، بل حتَّى لو كانت أعمّ من وجه ولكن بتخصيصها بـ (لا ضرر) يوجبُ بقاء الفرد النّادر الشاذ بحيث لا يصحّ استعمال العام فيه أيضاً، فلا تُخصَّصُ (لا ضرر) بها، ولا تُقَدَّمُ (لا ضرر) عليها، إذ لو قُدِّمتْ عليها لزم أما طرحها أو تأويلها، والفرض أنها غير قابلة لذلك كما في أدلة الحج.

وأما مثل أدلة نجاسة الملاقي للنجس فإنّه في أغلب أفراده فيه ضرر على المالك كإراقة مرقة المتنجس وعجينه ودهنه، ومثل أدلة وجوب شراء ماء الوضوء ولو بأضعاف قيمته وكان ضرراً عليه، وكأدلة وجوب الغسل على المريض الذي تعمَّد الجنابة وإنْ كان الغسل ضرراً عليه، فإنّها لو تمّتْ أدلّتها بالنسبة إلى قواعِدِ الضَّرَر بحيثُ كانت نصَّاً عليها وغير قابلة للتخصيص بغير موارد الضَّرر نظيرُ قولنا: (أكرم العلماء)، ثمَّ قال: (لا تكرم الفسّاق حتَّى العلماء منهم)، فإنَّه لا يمكن تخصيصُ (لا تكرم الفسّاق) المذكور بأكرم العلماء، ففي هذه الصّورة أيضاً تقدّم الأدلّة على أدلّة (لا ضرر) لأنها فيها نصَّ على التّخصيص، فلو قدّمت (لا ضرر) عليها لزم إلغاء نصّ تلك الأدلة، فإنّه وإنْ كان بَعْضُ أفراده لا ضَرَرَ فيه، لكنْ لو خَصَصْناها بأدلّة (لا ضرر) لم يَبْقَ تَحْتَ أدلّة الحَجّ إلاّ الفرد الذي ليس فيه ضَرَرٌ، وهو شاذٌ نادر لا يصحّ استعمال تلك الأدلّة فيه، فلذا قَدَّمنا أدلّة الضَّمَان وخَصّصنا أدلّة (لا ضرر) بها.

وأمّا إنْ كانت أدلة (لا ضرر) أخصُّ منها قُدِّمتُ أدلةُ (لا ضرر) عليها؛ لتقديم الخاص على العام، كما لو قلنا إنّ أوامر الإطاعة تكليفية، فإنّ أدلّة (لا ضرر) تكونُ أخصُّ منها.

وأما إنْ كانت بينها وبين أدلّة (لا ضرر) عمومٌ من وجه كما هو الحال في أدلّة (لا ضرر) مع أدلّة الصّوم والوضوء والحجّ ونحوها، فإنّها تجتمعُ في الصوم المضرّ، وكما في البيع للمعيب، فإن ّأدلّة البيع تقتضي لزوم البيع، وأدلّة (لا ضرر) تقتضي عدم لزومه.

فالظاهر هو تقدُّمُ أدلّة (لا ضرر) على الأدلة الاجتهادية، سواء كانت تكليفية أو وضعية؛ لكون أدلّة (لا ضرر) حاكمةً على أدلّة التكاليف؛ لأنّها تَشْرَحُ وتبيّن مقدار مدلولها وتُفَسِّرُ المراد منها، وأنَّ المجعولاتِ الشرعية ليست تُوجِبُ الضَّرَرَ نظير حكومة أدلّة نفي الشكّ لمن كَثُرَ شكُّهُ على أدلّة أحكام الشكوك، ويرشدك إلى كونها حاكمة أنّها واردة في مقام المنّة في رفع التكاليف الضَّرَرية، وهذا إنّما يكونُ فيه مِنَّة لو كانَتْ أدلّةُ التكاليف تثبت الأحكام في موارد الضَّرَر حتَّى يكون رَفْعُها عنها بقاعِدَةِ (لا ضرر) فيه مِنّة، وإنّما يتحقَّق رفعُها بها لو كانَتْ حاكمة عليها، وإلاّ فهي لا تصحّ لتخصيصها؛ لأنّها أعمّ منها من وجه.

مضافاً إلى أنَّ لسانها مبيّن أنَّ التكاليف ليست بثابتةٍ في مورد الضَّرَر، وهو معنى الحكومة؛ لأنَّ الحكومةَ تكونُ بشرحِ مقدار دلالةِ الدّليل عُموماً أو خُصوصاً، وهذه أدلّةُ القاعِدَةِ تشرح وتبيّن بمداليلها اللفظية أنَّ التكاليف غير ثابتة في مواردها الضَّررية، على أنّا لو قَدَّمناها على أدلّة (لا ضرر) لم يَبْقَ لـ(لا ضرر) موردٌ، وإنْ بقيَ فهو شاذّ نادر، فليس بين القاعدة وبين أدلّة           الأحكام الشرعية تَعَارُضٌ حتَّى يحتاج إلى إعمال الترجيح بينها وبين أدلّة التكاليف في موارد اجتماعها كالصَّوم المضرّ، والحجّ المضرّ بالشهرة، أو موافَقَةِ الكتاب، أو مخالَفَةِ العامّة، أو موافَقَةِ الأصلِ، أو نحو ذلك، فلا يَصِحُّ تقديمُ شيء من عمومات الأحكام الشّرعية على قاعِدَةِ نفي الضَّرر وإنْ بلغت من القوة ما بلغت، خلافاً للمحكي([719]) عن المحقّق السبزواري([720])، وصاحب الرياض([721])، والفاضل النراقي([722])، والمحقق القمي([723])، حيثُ حكيَ عنهم القولُ بالتعارض والرجوع إلى المرجحات.

وأمّا الثالث: وهو التعارض بين أدلّة (لا ضرر) وبين الأدلة الفقاهتية، أعني: أدلّة الأصول العملية كأدلة الاحتياط مثلاً، فالظاهر أنَّ أدلّة (لا ضرر) واردةٌ عليها في موارد التعارض كالاحتياط إذا لزم ضرر عليه، وذلك لأنه
قد أخذ في موضوع أدلّة الأصول عدم الدليل، وأدلّة (لا ضرر) نِعْمَ الدليل فتكون رافعة لموضوعها.

وأمّا الرابع: وهو تعارضُ الضَّررين، فنقول: بأنّه لا رَيْبَ في عدم جواز إضرار الغير، لكن فيما إذا كان الضَّرَرُ متوجّهاً للإنسان فهل له أنْ يدفعه عن نفسه للغير، كأنْ سَقَطَ عليه شيءٌ فدَفَعَهُ عنه إلى الغير أو أريد قتله فأنكر أنَّه هو وقال إنّه هو ذلك الشَّخص الآخر، أو كانَ السَّيلُ متوجّهاً لدارِهِ فجَعَلَهُ يتوجَّهُ لدارِ بَكْرٍ حِفْظاً لداره، فإنّه لا ريب أنَّ قاعدة (لا ضرر) تنفي جَوَاز ذلك لكون جواز ذلك عبارة عن جواز إضرار الغير، وقاعدة (لا ضرر) تنفي كُلَّ حُكْمٍ يستلزمُ الضَّرر، كما أنها تنفي وجوبَ تحمُّل الضَّرَرِ لرفعه عن الغير؛ لأنّه حكم يستلزم الضَّرر، ففي المقام لا يجوز توجيهُ الضَّرر للغير، ولا يجب أنْ يتحمّل الضرر، فله دفعُ الضَّرر عن نفسه بنحوٍ لا يضر بالغير.

وأما إذا كان الضَّرَرُ غيرُ متوجّهٍ نحوه، بل هو كان في معرضه ولكنه إذا جنّب نفسه عنه يقعُ على الغير، كأنْ سقط من السطح شيءٌ لكنّه إذا جَنَّبَ نفسه عنه يقع على مَنْ تحته، أو كانَ شخصٌ يشهر السيف ليضرب من أمامه وزيد يفرُّ من بين يديه فيضرب صاحب السيف من خلف زيد، أو كانَ السيلُ متوجّهاً نحو داره فجعل لداره سداً لدفعه عنها فتوجّهَ لدار بكرٍ من دون أنْ يسلّطه عليها، وفي هذه الصّورة لا رَيْبَ في عَدَمِ وجوبِ تحمُّلِ الضَّرَرِ عن الغير؛ لأنَّ الوجوب المذكور حُكْمٌ ضرري فله أنْ يتحرّز عن هذا الضرر.

والحاصل: أنه لا ريب في عدم وجوب دَفْع الضَّرر عن الغير وعدم وجوب تحمّل الضرر عن الغير، فلو توجَّهَ السيل إلى داره فله دَفْعُهُ عن داره، ولا يجوز له أنْ يدفعه لدار الغير لكونِ ذلك ضرراً عليه.

نعم، لو كان دفعه عن داره يستلزم ذهاب السيل لدار الغير جاز له ذلك؛ لأنه لم يدفعه لداره، وإنّما السيل قد توجَّهَ للغير.

إذا عرفتَ ذلك، فنقول: إنَّ الضررين إذا تعارضا، فإنْ كانا عائدين لشخص واحد فقد ذكروا له صوراً ثلاثة:

إحداها: أن يكونا مباحين له، كما لو أدخلت دابته رأسها في قدره ولم يمكن إخراجها منها إلاّ بكسر القدر أو ذبحها، جاز له ارتكاب كلّ منهما وإن كان أحدهما أكثر ضرراً من الآخر، بل يجوز له ارتكابهما معاً.

والثانية: أنْ يكون أحد الضررين حراماً عليه ارتكابه دون الآخر، كما إذا دار الأمر بين أنْ يشرب الخمر أو يعطي شيئاً من المال، ومثله ما إذا دخل رأس عبده في قدره فلا ريب في تقديم ارتكاب المباح على الحرام.

الثالثة: أنْ يكونَ كلا الضَّررين مُحرَّمين عليه، مثل ما لو دَارَ أمرهُ بين أنْ يشرب الخمر أو يزني، ونظيرُهُ ما لو دار أمره بين أنْ يضرب زيداً أو يقتله، ونظيره أيضاً ما لو دارَ أمرُهُ بين أنْ يضرب خالداً أو خويلداً، فيكون المقام من باب التزاحم بين المحرّمين، والمرجِّحُ فيه هو حكمُ العقل؛ لأنَّ التزاحم بينهما إنّما كان في مرتبة الامتثال، والمحكَّمُ فيها هو العقل، ولا ريب أنَّ العقل يحكم بارتكاب أقلَّ المحذورين، وأزيل الضرر الأعلى بالضّرر الأدنى اتّباعاً لحكم العقل بارتكاب أخفّ الضّررين وأقلّ المحذورين، وإذا لم يدرك الأقلّ منهما فما احتمل أنّه أقلّ محذوراً من الآخر، ومع التّساوي حتّى في الاحتمال المذكور، بأنْ احتمل الأقلّية في المحذور في كُلٍّ منهما أو جَزَمَ بتساويهما يتخيّر بينهما.

هذا كُلُّهُ فيما إذا دَارَ الأمرُ بين الضَّرَرين لشخصٍ واحد، وأمّا إذا دار الأمر بين الضَّررين لشخصين، فقد ذَكَرَوا له أيضاً صُوراً ثلاثة:

إحداها: أنْ يكونَ ذلك بفعل أحدِ الشَّخصين منهما، بأنْ يكونَ أحدهما هو الذي أوْجَبَ أنْ يتضرَّرَ هو أو يتضرَّر الآخر، وفي هذه الصّورة يجب على الفاعل أنْ يتحمَّل الضَّرر على نفسه ويخلصُ الغير من الضَّرر؛ لأنّه هو الذي أوقعه في هذا الضَّرر، مثل أنْ يأخُذَ زيد رأسَ دابّة بكرٍ فيدخله في قدره، ولا ريبَ في هذه الصُّورة أنّه يجبُ على الفاعل منهما وهو زيد في المثال المذكور أنْ يكسر قدره ويُسلّمُ عينَ المال وهو الدّابة في المثال المذكور للآخر وهو بكر لقاعدة (على اليد ما أخذت حتَّى تؤدي)، ولا سيّما إذا كانَ غاصباً فإنّه يُؤخَذُ بأشقّ الأحوال.

نعم، إذا تَعَذَّرَ عليه رَدُّ العين كانَ المثل أو القيمة، كما إذا كانَ أحدُ الضَّررين محرَّماً عند الشارع نقطَعُ بعَدَمِ رضاه بارتكابه، مثل ما إذا كانَ الفاعل قد وضع رأس غلامه المحقونِ الدّم في قِدْرِ الآخر، فإنّه على الفاعل كَسْرُ قدر الغير لتخليص غلامِهِ، وعليه ضمانُ المثل أو القيمة، أو رضي الشخص الآخر بالقيمة أو المثل لماله، لكنَّ هذا لا يتمُّ في جميع الموارد لهذه الصورة، أعني: صورة الدّوران بين الضَّررين بفعل أحدهما، وإنّما يتمُّ في خصوص ما إذا كان فعلُ أحدهما بالتصرّف في مال الغير، كأنْ يأخذ ماله ويجعله في حالٍ يدور الأمر بين إتلافه أو إتلاف ماله.

وأمّا لو دار الأمرُ بين ضَرَرَين عِرضيين بفعل أحدهما فإنّه ليس عليه أن يسلّم عِرْضَهُ لتخليص عرض الآخر، وهكذا لو دار الأمر بين الضَّررين النفسيين لشخصين بفعل أحدهما ليس عليه أنْ يسلّم نفسه لتخليص نفس الآخر، بل وهكذا لو دار الأمرُ بين الضَّررين الماليين لشخصين بفعل أحدهما لكنه ليس بنحو التصرّف في مال الآخر، كما لو أَدْخَلَهُ في مكانٍ أوجب أنْ يتضرَّرَ هو أو صاحبه بتسليم أحدهما ما عليه من الثياب، فإنّه ليس عليه أنْ يدفع ثيابه لتخليص الغير، ومن الغريب ما بَلَغَنا عن بعضهم من القول في هذه الصورة بوجوب تحمّل المرتكب للضَّرر عن الآخر.

ثانيها: أنْ يدور الأمر بين الضَّررين العائدين لشخصين بفعل شخصٍ ثالث أجنبيٍّ عنهما، كأنْ يدخل زيد رأس دابة بكر في قدر خالد، ولا يمكن تخليص أحدهما عن الآخر إلا بكسرٍ أحدهما، وفي هذه الصّورة على الشخص الثالث أن يرضي أحدهما على إتلاف ماله وإعطائه العوض عنه مِثْلا أو قيمة،
وأنْ يُسلِّم للآخر عين ماله؛ لأنْ ذلك كان بتصرّفه في مال الغير، فعليه إمّا إرجاعه بنفسه أو ببدله، وليس له التخيير في ذلك كما نسب إلى بعضِ أساتذة العصر([724])؛ لأنّه غير مالك للعين، وإنّما الاختيارُ لمالكي العينين؛ لأنّهما لهما السلطنة عليهما فيكونان هما المرجعين فيهما، ومع النزاع بين المالكين يرجع إلى الحاكم الشرعي، فأمّا أنْ يرجع الأمر للقرعة فما وَقَعَتْ عليه القرعة يُسلِّم الشخص الفاعل بَدَلَهُ، ومع الامتناع عن قبول القُرْعَةِ يجبر أحدهما الذي هو الأقلُّ ضرراً على قبول البدل لئلاّ يخسر الفاعل ضرراً أكثر كما هو مقتضى قاعدة العدل والإنصاف إلاّ إذا كان هذا الفاعل غاصباً، وقلنا إنه يجوز أنْ يؤخذَ بأشقّ الأحوال.

ثمّ لا يخفى أنَّ هذا لا يتمُّ في جميع الموارد لهذه الصّورة كما ينسب إلى بعض المعاصرين حفظهم الله تعالى، فإنّه يجيءُ فيها الكلامُ المتقدّم في الصورة الأولى.

ثالثها: أنْ يكونَ ذلك غيرُ مستندٍ إلى فعل شخص، وإنّما كانَ بقضاءٍ وقدر، مثل أنْ تكونَ الدّابّة قد أدْخَلَتْ رأسَها في قِدْرِ الغير بحسب الصُّدفة والاتفاق، والحكمُ في هذه الصّورة كالحكم في الثانية، ولا وَجْهَ لما نُسِبَ إلى المشهور([725]) في هذه الصّورة بلزوم اختيار أقلّ الضّررين حيثُ لا دَليلَ على ذلك، مع أنَّه كُلٌّ من المتضرّرين على مستوى واحد في سلطنته على مالِهِ، وكُلٌّ منهما منفيٌ عنه وجوبُ تحمُّلِ ضَرَرِ الآخَرِ بقاعِدَةِ (لا ضَرَرْ).

نعم، إذا رجعا إلى الحاكم الشرعي فله أنْ يلزم صاحب المال الذي حكم عليه ببقاء ماله أنْ يُسلِّمَ نصف البدل لمن حُكِمَ عليه بتلف ماله لكون الضَّرر كان متوجّهاً عليهما معاً، فليس من العدل والإنصاف أنْ يتحَمَّله أحدهما فقط، كما أنَّ على الحاكم الشرعيّ إتلاف ما هو الأقلّ قيمةً منهما ليكونَ الضَّرَرُ على المالكين أقلّ كما هو مقتضى العَدْلِ والإنصاف.

المقام السابع: في الموارد التي تَمَسَّكَ فيها الفُقَهَاءُ بقاعدة لا ضرر

المقام السابع: إنَّ الفُقَهَاءَ قد تمسّكوا بأدلة (لا ضرر) في موارد:

أحدها: نفي الأحكام الشرعية أو الوضعية في موارد الضّرر الشخصي، كما في الوضوء أو الصّوم أو الحجّ التي فيها الضَّرر، أو السّجود الذي فيه ضَرَرٌ، كمن أجرى عملية يُضرُّ به السّجود، فإنَّ (لا ضرر) ترفع جزئيته للصلاة، والظاهر أنَّ هذا هو القدر المتيقّن من أدلّة (لا ضرر).

ثانيها: نفيُ الأحكام الشرعية التكليفية أو الوضعية عن الموضوعات التي فيها الضرر النوعي، فإنَّ ظاهر جملةٍ من الفقهاء هو ذلك حيثُ تَمسَّكوا برفع لزوم البيع مع الغبن أو مع العيب بقاعدة (لا ضرر)، بدعوى أنَّ لزوم البيع المذكور فيه ضَرَرٌ على المغبون والمنتقل إليه المعيب نوعاً، فيكونُ اللزوم للبيع المذكور في تلك المواضع منفياً بقاعدة الضَّرر، وهكذا في حَقّ الشُّفعة، فقد قالوا: إنَّ لزوم البيع على الغير فيه ضَرَرٌ على الشَّريك نوعاً، وفي أَغْلَبِ الموارد فهو منفي بـ (لا ضرر).

ولا ريبَ أنّ الضّررَ فيما ذكر إنما هو في الأغلب، إذْ قد لا يكون في تملُّكِ المعيب ضَرَرٌ على الإنسان، وهكذا عَدَمُ تملُّكِ الشَّريك قد لا يكونُ فيه ضَرَرٌ على الإنسان، بل قد لا يكون في الغبن ضَرَرٌ على الإنسان.

وعليه: فلو كان الموضوع كلياً له أفراد، وفي نوع أفراده ضررٌ كبيع المعيب فإنَّ في نوع أفراده ضَرَرَاً، وكان هذا الكُلّي مُنْدَرِجاً تحتَ كُلّيٍ آخر كعنوان البيع في المثال، وذلك الكُلّي الآخر لَهُ حُكْمٌ وهو اللزوم كما في المثال، فهل يُتَمَسَّكُ بعُمومِ أدلّةِ حُكْمِ ذلك العنوان في أفراده غير الضَّررية، أو يتمسَّك بأدلة (لا ضرر) باعتبار أنها أفرادٌ نادرة لكلّي في نوع أفراده الضَّرر، ففي المثال المذكور أعني: بيع المعيب باعتبار أنَّ في نوع أفراده ضرراً يحكم على أفراده غير الضررية النادرة باللزوم، باعتبار أنَّها أحَدُ أفراد مطلق البيع الذي قامت الأدلّة على لزومه مطلقاً، أو يحكُم عليه بعَدَمِ اللّزوم باعتبار أنَّ أدلة (لا ضرر) كما تدلُّ على نفي التّكليف الذي يلزم في شخص متعلّقه الضَّرر، كذلك تدلُّ على نفي التكليف عن موضوعٍ يكونُ في نوعِ أفراده الضّرر، فيكونُ بيع المعيب غير لازم حتَّى في أفراده النّادرة غير الضَّررية، باعتبار أنَّ نوعه فيه ضرر.

وبعبارةٍ أخرى: إنَّ أدلّة (لا ضرر) كما تنفي التكليف الضَّرريّ عن الفرد الخارجي الشخصي كالوضوء في هذا الوقت، كذلك تنفي التكليف عن الكلّي إذا كان في نوعه الضَّرر إلاّ ما شَذَّ من أفراده وندر.

والحاصل: إنّا إنْ قلنا إنّ أدلّة (لا ضرر) تشملُ الضَّرَرَ الشخصي والضرر النوعي، بمعنى: أنها كما تدلُّ على نفي التكليف عن الموضوع الخارجيّ الشخصيّ، مثل شخص الوضوء الذي فيه ضررٌ على هذا الشخص في هذه الحال، كذلك تدلُّ على نفي التكليف عن الموضوع الكلّي الذي يكونُ في نوعِهِ الضَّرَرُ، فلابُدَّ أنْ نُقَدِّمَ القاعِدَةَ على ما دَلَّ على ثبوتِ التّكليفِ فيه بعُمومه، كما في المثال المتقدم، فإنَّ الدليل الدالّ على لزوم البيع كـ [أَوْفُوا بِالْعُقُودِ]([726]) يدلُّ بعمومه على لزوم بيع المعيب، فإذا قلنا: إنّ أدلّة (لا ضرر) تدلّ على نفي التكليف عن الموضوع الخارجي الضّرري والموضوع الكلّي الضرري، كانت أدلّة (لا ضرر) حاكمة على أدلة لزوم البيع في كلّيّ بيع المعيب، وتكونُ الأفرادُ النادرةُ من بيع المعيب التي لا ضرر فيها أيضاً قاعدة الضرر تقتضي نفي التكليف باللزوم عنها.

وأما لو كان الدليل الدالّ على ثبوت التكليف قد دَلَّ عليه بخصوصه كأن يفرض في المثال أنّه قد دَلَّ الدليلُ على لزوم بيع المعيب بهذا العنوان بخصوصه، فلابدّ أنْ يقدّم الدليل على أدلّة (لا ضرر)؛ لأنّا لو قَدَّمنا أدلّة (لا ضرر) لزم إلغاء الدليل المعتبر، وقد عَرَفْتَ أنَّ الدليل الحاكم إنّما يقدّم على الدليل المحكوم كما لو كان المحكوم أعمّ منه.

هذا كلّه إذا قلنا إنّ أدلّة (لا ضرر) تدلُّ على نفي الحكم عن الموضوع الضَّرري سواء كان الموضوع شخصياً فيه الضَّرر أو كلياً في نوعه الضرر.

وأمّا إذا قلنا أنّها إنما تدلُّ على نفي الحكم عن خصوص الموضوع الخارجي الذي فيه الضَّرر فقط، وأنّها لا تشمل الموضوع الكلّي الذي في نوعه الضَّرر ففي المثال المذكور لا تكونُ دالّةً على نفي الحكم عن عنوانِ بيع المعيب، وإنّما تدلُّ على نفي الحكم عن كُلِّ بيعٍ كان في شخصهِ الخاصّ ضرر، فما كان من بيع المعيب في شخصِهِ ضَرَرٌ فهو منفيٌ عنه الحكم بلزومِ البيع، وما لم يكن في شخصِهِ ضَرَرٌ فهو غيرُ منفيٍ عنه الحكم بلزوم البيع.

هذا غايةُ ما يُمكِنُ من تحرير محلُّ الكلام في هذا المقام.

والحقّ فيه: ما هو ظاهرُ الفقهاء من أنَّ أدلّة (لا ضرر) تنفي الحكم عن الموضوع الذي فيه الضّرر مطلقاً، سواء كان شخصياً أو كلياً، حيث تمسّكوا في نفي الأحكام عن بعض الموضوعات الكلية التي في نوع أفرادها الضّرر، كما في مبحث الشفعة للشريك، وبيع المعيب والمغبون، فإنّهم تمسّكوا لعدمِ لُزومِ البيع فيها بـ (لا ضرر)، مع أنّه يُوجَدُ في بعضِ أفرادها الشّاذّة عَدَمُ الضَّرر، كما أنَّ مَنْ رَاجَعَ أخبارَ قاعِدَةِ الضَّرر يَجِدُ الأئمّة  عليهم السلام  كذلك تمسَّكوا بها في نفي الحكم عن الموضوع الكلّي الذي فيه الضَّرَرُ النّوعيّ، وهذا يُوجِبُ الوثوق بأدلة (لا ضرر) في الشّمول للموضوع الكُلّي الذي في نوعِهِ الضَّرر، والاعتبار يساعد على ذلك، فإن أدلة (لا ضرر) ظاهرة في نفي الحكم عن الموضوع الذي فيه الضَّرر أعمّ من أنْ يكونَ ذلك الموضوع شخصياً أو كليا.

نعم، لابدّ في شمولها للموضوع الكلّي أنْ يكونَ في نوعِهِ الضَّرر، بحيث يصدُقُ عند العرف بأنّه في عنوانه الضّرر، بحيثُ يكون العرف يرى أنّ تلك الأفراد منه التي لا ضرر فيها في حُكْمِ العدم لنُدْرَتِها وشذوذها، وهذا ليس من قبيل الاشتباه في المصداق؛ لأنّ المأخوذ فيها ما في ذاته ونفسه الضّرر عند العرف سواء كان فرداً أو كلّياً، والكلّي المذكور يكونُ في ذاتِهِ الضَّرر عند العُرْف، وهذا نظيرُ ما ذكروه في (لا تَنْقُضُ اليقينَ بالشكّ).

وعليه: فأدلّة (لا ضرر) إنّما تَشْمَلُ الموضوع الكلّي الذي فيه الضَّررُ بحيث العرف يرى أنَّ الأفراد منه التي لا ضرر فيها لندرتها وشذوذها بحكم العدم، ولا تشمل الكلّيات التي فيها الضَّرَر، ولكنْ لا يَصْدُقُ عند العُرْفِ أنَّ في نفسها الضَّرَر لكونِ الكثير من أفرادِها لا ضَرَرَ فيه.

وقد أوضحنا هذا المطلب في كتاب الأحكام عند التكلّم في قاعدة (لا حرج) في المقام الثالث في المرفوع بها([727]).

وأمّا دعوى أنه لو كانت قاعدة (لا ضرر) تشمل الضَّرر النوعيّ لكانت تنفي وجوبَ الجهاد والقصاص ونحو ذلك، مع أنّها لا تنفيها، ولم يتمسَّكْ بها الفقهاء في نفيها.

فهي مدفوعةٌ بما عرفته منّا من أنَّ أدلّة (لا ضرر) إنّما هي تنفي الحكم عن الموضوع إذا كان ثبوته له بنحو العموم، لا ما إذا كان ثابتاً له بنحو الخصوص، فإنَّ دليله حينئذٍ يكون أخصّ من أدلّة (لا ضرر)، فلو قدَّمنا (لا ضرر) عليه يلزم إلغاءه بالمرّة، ولذا الدليلُ الحاكُم لا يقدّم على الدليل المحكوم إذا كان دليل المحكوم أخصّ منه.

هذا، مع قطع النظر عمّا قيل([728]) من أنَّ المذكورات من الجهاد ونحوه ليست فيها ضَرَرٌ نوعيٌ؛ لأنّها بها حفظ النظام كما هو مقتضى كون الإسلام جاء لسعادة البشر في الدارين لا لشقائهم فيكونُ خروجُها عن قاعدة (لا ضرر) من قبيل التخصص لعدم كون متعلّقات تلك الأحكام على هذا ضررية.

وعليه: يتمسّك بقاعدة (لا ضرر) في رفع تلك الأحكام عن أفراد متعلّقاتها إذا كان فيها ضَرَرٌ زائد عن المتعارف، كما لو كان في القصاص بقطع اليدِ ضَرَرٌ زائدٌ على المتعارف لكون أدلّة قاعدة الضَّرر إذ ذاك تكونُ حاكمة على أدلّتها، نظيرُ حكومتها على سائر أدلة الأحكام الشرعية.

وأمّا إذا قلنا: إنّها مخصّصة لأدلّة قاعدة (لا ضرر) كما هو الحقّ؛ لأنّ الظاهر من الضَّرر هو الضَّرر المتعارف، فحينئذٍ لا يتمسَّك بقاعدة (لا ضرر) في نفي تلك الأحكام، لا عن موضوعاتها؛ لأنّها أخصُّ من أدلّة (لا ضرر)، وصريحة الثبوت بها، ولا عن أفراد موضوعاتها التي يكونُ فيها ضَرَرٌ زائدٌ على المتعارف لكونها قد خرجت تلك الموضوعات عن قاعدة (لا ضرر) بتخصيصها لها.

والحاصل: إنَّ أدلَّة (لا ضرر) كما تنفي الحكم عن الموضوع الضَّرَري الشخصي، كذلك تنفي الحُكْمُ عن الموضوع الضَّرري النوعيّ، ولكنْ لابدَّ في نفيها للحُكْمِ الضَّرري النّوعيّ من كون الضَّرر ثابتاً في أغلبِ الأفراد بحيث يكونُ ما لا ضَرَرَ فيه من الأفراد شاذّاً نادراً جدّاً بحُكْمِ العدم، بحيث يرى العرف أنه ضرر في نفسه وعنوانه، لا أنَّ الضَرَر في بعضِ أفرادِهِ، فإنَّ المتبادَرَ من (لا ضَرَرَ) هو نفيُ مثل ذلك، ولذا كانَ تشخيصُ مثل هذه الأحكام الضَّررية في غاية الصعوبة، فإنَّ من الصَّعب إحرازُ الكُلّي على مَمَرّ الدّهور يكونُ في نوعه الضَّرَرُ عند العرف.

نعم، أهلُ بيت العصمة  عليهم السلام  لا يَعْسُرُ عليهم ذلك، ولذا بَعْضُ الأخبار اشتملت على نفيِ الحُكْمِ الشَّرْعيّ الضَّرري النّوعيّ، لكونِ الإمام  عليهم السلام  اطلّع على ذلك.

والذي يُهوِّنُ الأمر في هذا المقام أنّكَ لا تجدُ مورداً كلّياً يَنْحَصِرُ الدّليلُ عليه بقاعِدَةِ (لا ضَرَرَ) إلاّ ما شَذَّ كخيار الغبن، وقد تَمَسَّكَ بعضهم عليه ببناء العقلاء فمسألة شمولِ قاعدة (لا ضرر) للضّرر النوعيّ ليست بذاتِ أهمّيةٍ كُبْرَى يبتني عليها فروعٌ جُلّى ومسائل عظمى، وسيجيءُ إنْ شاءَ الله التأمّل في هذا الموضوع في ثالث الموارد التي لا يصحُّ التمسُّك بـ (لا ضرر).

ثالث الموارد التي تمسَّك بها الفقهاء بأدلّة نفي الضَّرر: هو إثباتُ بَعْضِ الأحكام الشرعية كإثباتِ الخيار في البيع المغبون والمعيب، وإثباتُ حَقّ الشفعة، وإثبات الضمان ونحو ذلك.

والوجه في ذلك مع أن (لا ضرر) لِسانُها نفيُ الحكم الضَّرري لا إثبات حكم بها، هو أنّ المتمسّكين بها يَرَوْنَ الملازمة في موارد التمسُّك بها بين نفي الحكم الضَّرري وبين ثبوتِ ذلك الحكم، فمثلاً المتمسّك بها لإثباتِ الخيار في بيع المعيب يَرَى أنَّ (لا ضَرَر) ينفي لزومَ البيع للمعيب، ولازمُ نفي لزوم البيع هو ثبوت الخيار للمشتري، وكما تمسَّكوا بها على ثبوتِ الضَّمَان؛ لأنَّ (لا ضَرَرَ) إنّما تدلُّ على أنَّ كُلَّ حُكْمٍ يلزم منه الضَّرر سواء كان تكليفياً أو وضعياً منفي في الإسلام.

وعليه: فعَدَمُ تدارُكِ ما أدخل على المضّرور من ضَررٍ منفيٍ بـ (لا ضرر)، ولازمٌ ذلكَ هو ثبوتُ الضمان على الضار بدعوى منهم أن التدارك أما أن يكون من جانب الله، أو من بيت المال المعدّ لمصالح المسلمين، أو من مال الضارّ، ولا سبيلَ إلى الأوّل؛ لأنه ليس في الدُّنيا بحسب الوجدان تدارك من الله تعالى، ولا في الآخرة؛ لأنّ التدارك الأخروي خلاف ظاهر الأخبار ولم يكن وعد به، بل هو ليس بتدارك، ولا سبيل إلى الثاني؛ لأنَّ بيتَ المال مُعَدٌّ للمصالح العامّة، فتعيَّن الثالث، فهُمْ تَمَسَّكوا بها لإثباتِ الضَّمَان؛ لأنّهم رأوا ملازمة نفي عَدَمِ التّدارُك للضّمان.

وعلى هذا يحمل تمسّك أهلِ َبيتِ العِصْمَةِ  عليهم السلام  في بعضِ الأخبار بـ (لا ضرر) على ثبوتِ بَعْضِ الأحكامِ الشَّرعية، فإنَّهم اطّلعوا بأنوارِهِم القُدْسيّة على الملازمة فتمسَّكوا بـ (لا ضرر) على ثبوتِ ذلكَ الحكم الشرعي.

رابعها: أنه قد عَرَفْتَ في أنَّ (لا ضرر) يتمسك بها لنفي الأحكام الوجودية إذا كان فيها ضَرَرٌ، مثل ما يتمسّك بها لنفي وجوب الوضوء إذا كان فيه ضَرَرٌ، ولنفي لزوم البيع إذا كان فيه ضَرَرٌ، فهل يصحّ أنْ يتمسَّك بها لنفي انعدام الأحكام إذا كان في عدمها ضَرَرٌ فيثبت إذ ذاك بها حُكْمٌ وجودي؛ لأنَّ نفيَ النفي إثباتٌ، نظير أنْ يتمسَّك بها لنفي عدم جواز تصرّف المالك في ملكِهِ إذا كان فيه ضررٌ عليه، ويثبت به جواز تصرّفه في مِلْكِهِ، ولنفي عَدَمِ الضَّمان فيما إذا كان عدمُ الضمان فيه ضَرَرٌ عليه، كمَنْ حبس الانسان فماتت دابته، فإنَّ عَدَمَ ضمانها على الحابس فيه ضَرَرٌ على المحبوس، ونحو ذلك المحكيّ([729]) عن الفاضل التوني([730])، وصاحب الرياض([731])، والسيد في ملحقات العروة([732])، هو التمسّك بها.

وقد يورد عليه: بأنَّ عدم الحكم الشرعيّ ليس من الأحكام المجعولة حتى يكونُ مورداً للقاعدة، لوضوحِ كفاية بقاءِ العدم في العدمية من دون حاجة إلى إنشاء الشارع للعدمية.

ولا يخفى ما فيه؛ فإنَّ الوجود للحُكم لمّا كان بيد الشارع كان عدمه
مستنداً إليه في هذا الظرف، غايةُ الأمر لا يحتاج إلى مؤنة الإنشاء، بل عدم
جعل الوجود للحكم الشرعي هو موجبٌ لجعل العدم من الشارع، وأدلّة
(لا ضرر) تنفي كلّ مجعولٍ للشارع فيه ضَرَرٌ سواء كان مجعولاً بالذّات أو
بالتبع، لا أنها تنفي خصوص المجعولات بالذات، وربما يؤيّد شمول
(لا ضرر) للعدميات هو تمسّك النبيّ  (ص)  في قصّة سَمُرَة بقاعدة (لا ضرر)
لنفي عدم تسلّط الأنصاري على قلع العذق الذي كان هذا العدم فيه ضرر
على الأنصاري، وتمسّك الصّادق  عليهم السلام  على إثباتِ الشفعة بقاعدة (لا ضرر)
لنفي عدم ثبوت الشفعة للشفيع، فإنَّ عَدَمَ ثبوتِ الشّفعة له ضَرَرٌ فيه
عليه.

هذا، وقد ناقَشَ بعضهم في الأمثلة لهذا الموضوع، ولا يهمّنا التعرُّضُ لذلك بعدما اتّضَحَ صحّة التمسُّك بها.

المقام الثامن: في الموارد التي لا تجري فيها قاعِدَةُ لا ضرر

قد عَرَفْتَ أنَّ قاعدة (لا ضَرَرْ) تجري في سائر الموارد من الأحكام الشرعية سواء كانت تكليفية أو وضعية نفسية أو غيرية تعبّدية أو توصُّليّة عينية أو كفائية تبعية أو أصلية، نعم رُبَّما وَقَعَ الكلام أو يقع في أمور:

أحدها: في الوجوب التخييري إذا كانَ في أحدِ أفرادِهِ ضَرَرٌ، مثلاً إذا فرض أنَّ الصَّوم مُضِرٌّ لمن كان عليه الكفّارة مخيّراً بين الإطعام والصّوم والعتق، فهل تنفى قاعدة (لا ضرر) الوجوب التخييري عن هذا الفرد الذي فيه الضَّرر أم لا؟

الظاهر أنَّ الأدلّة لا تنفي هذا الوجوب التخييري عن هذا الفرد، إذ ليس في رفعه منّة على العبد، إذ للعبد اختيارُ باقي الأفراد التي ليس فيها الضَّرر.

نعم، أدلّة إيقاع العبد نفسه في التهلكَة تقتضي النَّهيَ عن هذا الفرد الذي فيه الضَّرَر، فيكونُ المقام من بابِ اجتماع الأمر والنهي.

ثانيها: المحرّمات التي كان بعضُ أفرادِها مُضِرّاً تركُه كما لو فرض أنَّه توقّف علاجه على أكل شيءٍ من الميتة ونحوها من المحرَّمات، فقد يقال بعدم حكومة أدلّة (الضَّرَر) على أدلّتها قياساً على أدلّة الحرج.

ولكنَّ التّحقيق هو حكومة أدلّة الضَّرر على أدلّتها، والقياس بأدلّة الحرج لا وجه له لقيامِ الإجماع على ثُبوتِ الحُرْمَةِ للمُحرَّمات حتّى للأفراد الحرجية.

ثالثها: الأحكام المتعلّقة بالقوانين المضرّة نوعاً كالقصاص، فإنّه لا يتمسّك بـ (لا ضرر) فيها، وإلاّ لم يَبْقَ لها مَورِدُ، وإنْ بقي فهو شاذٌّ نادِرٌ يَقْبُحُ إرادته من عموماتِ آلة القصاص.

نعم، يصحّ التمسّك في نفي التكليف بالأفراد من القصاص التي يكون فيها ضَرَرٌ أكثرُ من المتعارف، كأنْ يقتصّ منه بقطع يده بأشدّ أنواعِ القطع؛ لأنَّ أدلّة (لا ضرر) لها حكومة عليها في هذا المقدار الزائد من الضرر.

رابعها: الأحكام المضرّة بالمرتكب غير الإلزامية كالاستحباب والإباحة والكراهة ونحوه فإنه ليس من المنّة رفعها إذ للعبد أنْ لا يفعلها.

نعم، أدلّة إيقاع النفس في التهلكة تقتضي الحرمة، وهكذا الكلام في الإباحة للأمر المضرّ بالمرتكب، ولهذا أفتى بعضهم([733]) بصحّة الوضوء والغسل الضررين، مع الفتوى منه بعدم صحّة العبادة الضررية باعتبار أنّهما مستحبّان، وقاعدة (لا ضرر) لا تقتضي رفع الاستحباب، بخلافِ باقي العبادات المضرّة الواجبة غير مستحبة بالذات.

وقد عَرَفْتَ منّا أنَّ العبادات الضَّررية يصحُّ إتيانُها مع العلم بالضَّرر ومع الجهل به.

هذا كلُّهُ بالنّسبة إلى الأحكام غير الإلزامية المضرّة بالمرتكب للعمل، وأمَّا المضرّة بغير المرتكب كإباحة التصرّف للمالك بملكه إذا أوجب تضرُّرَ الجارَ دون أنْ يتضرَّر بترك التصرّف، فالمنّة على العباد تقتضي رفعَ تلكَ الإباحة فقاعدة (لا ضرر) تقتضي رفعها.

خامسها: الأحكام التي التزمَ بها المكلّف ابتداء باختياره لا بإلزام الشارع بها، كأنْ أجبر نفسه على أمرٍ مُضِرّ كالحراسة ليلاً، أو باعَ ما يضرُّ كأن يبيع قارورة الدَّمِ، فإنَّ (لا ضرر) لا يرفع ذلك، لما ذكرناه غير مرَّةٍ من أنَّ القاعدة وارِدَةٌ في مقام الامتنان على العبد، وليس من المنّة رَفْعُ الإلزام عن شيءٍ هو راغبٌ وطالِبٌ للالتزام به، هذا مُضَافاً إلى أنَّ أدلّةَ (لا ضرر) كأدلّةِ (لا حرج) ظاهرَةٌ في عَدَمِ ايقاعِ الشَّارعِ العَبْدَ في الضَّرر والحرج بواسطة التكليف المجعول من نفس الشارع، وهنا الشارع لم يُوقِعُ العَبْدَ في الضَّرر وإنّما هو أوقع نفسه.

نعم الالتزام بما هو ضَرَرٌ بالنّذر واليمين أو العهد لا يصحُّ من جهة اعتبار عدم الضَّرر ورُجحان العمل في متعلّقها فراجع أدلّتها، هذا من ناحية أدلة (لا ضرر).

وأمّا من ناحية أدلّة النهيّ عن إيقاع النّفسِ في التهلُكَة: فما كانَ من العمل مُضِرّاً بحيثُ يَصْدُقُ عليه أنّه إيقاعٌ للنّفْسِ في التّهلُكَةِ يكونُ العَمَلُ مْحَرَّماً فلا يصحّ الالتزام به.

سادسها: الأحكام المضرّة التي أوقع المكلّف نفسه بها بسوءِ اختياره، كما لو فعل ما يوجب الكفّارة المضرّة بحاله، وكما لو جَامَعَ في البرد الشَّديد مع دخول الوقت، فإنَّ أدلّة (لا ضَرَرَ) لا ترفع وجوب الغسل عليه لكونه أوقع نفسه في هذا الضرر.

وقد عَرَفْتَ أنَّ أدلَّةَ (لا ضَرَر) إنّما تَدُلُّ على أنَّ الشَّارع لم يُوقِعْ العبدَ في الضَّرر، أمّا أنَّ العبد إذا أوقع نفسه في الضَّرر فالأدلّة غير ظاهرة في رفع التكليف بذلك الضرر.

ويؤيّدُ ذلك ما وَرَدَ في بعضِ الأخبار من وجوبِ الغسل على المريض الذي أجنَبَ متعمّداً وإنْ أصابه ما أصابه([734])، ويؤيّده أيضاً ما وَرَدَ في الغاصِب من أنه يؤخَذْ بأشدّ الأحوال([735]).

ومن هنا يظهر لكَ وَجْهُ عدم شمول أدلّة نفي الضَّرر لوجوب الحدّ أو القصاص أو التعزير، وإنْ كانت بمنتهى الضَّرر عليه لإيقاعِ العبد نفسه بسوء اختياره فيها، ولذا لا يَعدّ العقلاء السلطان الذي يعدل في رعيّته ويصرّح بعدم الضَّرر في قوانينه لو عاقَبَ على الجريمة التي توعَّد عليها بالعقابِ أنَّه ليس بعادل، وأنّه مُضِرٌّ لرعيّته.

سابعها: الأحكام المتعلّقة بالأمور الضَّررية المتولّدة من أمرِ الشَّارع بالإطاعة لشخص، فتكليفُ الشّارع الولد بإطاعة والديه، والعبد بإطاعة مولاه، فإنّه ربما يقال: بأنّ أدلّة نفي الضَّرر لا تشملها، فإذا كَلَّف الوالد ابنه بأمرٍ مُضِرّ فأدلّة نفي الضَّرر لا تدلُّ على نفي هذا التكليف.

وفيه: إنَّ الأدلّة تشمل ذلك؛ لأنّه يرجع إلى تكليف الشارع به وجعله على حدّ سائر التكاليف الحادثة بأسبابٍ شرعيّة كوجوبِ الوضوء عند الحدث، وفيما نحنُ فيه يكونُ وجوبُ العَمَل قد حَدَثَ بسبب أمرِ المولى.

نعم، لو كان العبد كافراً جاز إلزامه بما فيه الضّرر لأنه ليس أهلاً للمنّة.

المقام التاسع: في صحّة العبادة الضَّررية للعالم والجاهل وصحّة المعاملة الضررية مع العلم والإقدام

المقام التاسع: أنّه إذا علم الضَّرَر في العبادة وأقدم عليها صَحَّتْ العبادة، وهكذا إذا جهل الضَّرر في العبادة وأتَى بها ولو انكشف له ضَرَرُها.

وأمّا المعاملة التي فيها الضَّرَر إذا علم أنها فيها الضرر وأقدَمَ عليها وأتَى بها صَحَّت المعاملة وكانت لازمة، وأما إذا جهل ضررها ثم انكشف له ضررها فله إمضاؤها وله فسخها، فلو صام مَنْ يتضرّر بالصَّوم عالماً بضَرره يصحُّ صومه ولا إعادة عليه، وهكذا من جهل ضرره فصامَ صَحَّ صومه.

وقد حُكيَ الإجماع([736]) على صحّة العبادة الضَّررية مع الجهل بضَرَرها، ومن أقدم على المعاملة الغبنية مع علمِهِ بالغبن كانَ العَقْدُ لازماً في حقِّهِ، ومن أقدم على شراء المعيب مع عِلْمِهِ بأنّه معيبٌ كانَ العقد لازماً في حقِّه، ولذا ترى الفقهاء قيّدوا خيار الغبن والعيب بما إذا جهل المغبون، ولا خيار له مع العلم بذلك، وإذا أذن صاحب المال بإتلاف ماله جاز الإتلاف ولا ضمان.

وتحقيق ذلك وتنقيحه: إنَّ المقدّم على الضَّرَر باعتبارِ الأدلّة الدالّة على عدم جواز إيقاع النفس في الهلكة يكونُ ارتكابه لكلّ ضررٍ من هذا القبيل مُحرَّماً ومنهياً عنه شرعاً، ولذا كانَ عند الجميع الوُضوءُ هو المتعيّن مع كونِ الضَّرَرِ الحاصل به سهلاً، وكذا لو كانت المشقّة الحاصلة به يسيرة.

وعليه: فإنْ كانَ ذلك المضرّ الذي يوقعُ ضرره النفس في التهلُكَة من قبيل العبادات كانت العبادة فاسدة إذا كان المكلّف مُلتفتاً إلى الوقوع في الهلكة ومنجّزاً في حقِّهِ هذا التكليف؛ لأنَّ المقام يكونُ من قبيل اجتماع الأمر والنهي؛ لأنّ العبادة قد طرأ عليها عنوان الوقوع في الهلكة، فهي نظير العبادة التي
طرأ عليها عنوانُ الغصب، فإنَّ النهيُ إنَّما يوجب فسادها من جهة عدم التمكّن من التقرّب بها، وهو إنّما يكون مع تنجّز النَّهي في حَقِّهِ لا مع عدمه، بخلاف النهي عن العبادة فإنّه موجِبٌ لفسادها حتَّى مع عَدَمِ تنجُّزِهِ كما قُرِّرَ في
محلِّه.

وأمّا إذا كان لوقوعِهِ في المضرّ من قبيل المعاملة بأنْ كانت المعاملة موجبة لوقوعه في التهلُكَة، فإنَّها إذ ذاك تكونُ المعامَلَةُ محرَّمة ومنهياً عنها شَرْعاً، ولا يُوجِبُ فَسَادَها فيما كان الإقدام على الضَّرر يَصْدُقُ عليه أنَّه إقدامٌ على الوقوع في التهلُكة، أو كان من الموارد التي قام الدَّليل على حُرْمَتها بخصوصها، كما يقالُ في قَطْعِ بعض الأعضاء على تقدير عدم الضَّرر ببقائها، وأمَّا إذا لم يَكُنْ المضرِّ ضرره كذلك، بمعنى أنَّ الضَّرَرَ الموجود فيه لا يُوجِبُ إيقاعَ النَّفس في التهلُكَة، فليسَ دليلٌ على حرْمَتِهِ، بل قام الدّليلُ على جوازِهِ فإنَّ الأدلّة قد دَلَّتْ على حُصولِ الضَّرَرِ بأكلِ كثيرٍ من المباحات المضرّة كأكلِ التّفاح الحامض، وأكلِ الجبن في النَّهار، وكثرةِ أكلِ السَّمك ونحوها مما يجدُهُ المتتبّعُ في كتاب الأطعمة والأشربة.

إنْ قلتَ: قاعِدَةُ (لا ضرر) تدلُّ على حُرْمَةِ إضرارِ الإنسان نفسه أو غيره كما يَظْهَرُ ذَلِكَ من بعض حواشي العُروة، فإنَّه قال: أدلّة نفي الحَرَجْ لا تقتضي تحريمَ الفعلِ الحرجيّ بخلاف أدلّة نفي الضَّرر فإنَّ الضَّرَرَ فيها مُحرَّم([737]).

قلنا: لو كانَتْ (لا ضَرَر) معناها النهيُ عن الضَّرَر كانَ لما ذَكَرَهُ وَجْهٌ، لكنَّكَ قد عَرَفْتَ أنَّ معناها هو الإخبارُ بعَدَمِ جَعْلِ الأحكامِ الضَّررية. هذا كُلُّهُ باعتبارِ ما دَلَّ على حُرْمَةِ إضرارِ النفس.

إنْ قلتَ: قد دَلَّتْ الأخبارُ على حُرْمَةِ ارتكاب ما فيه الضَّرر، ففي صحيحة الحلبيّ عن الصّادق  عليهم السلام ، الجنب يكونُ مَعَهُ الماءُ القليلُ فإنْ هو اغتسلَ بهِ خافَ العَطَشَ، أيغتسلُ به أو يتيَمّم؟ قال  عليهم السلام : (بل يتيمّم)([738])، وفي صحيحةِ ابن سرحان عن الصّادق  عليهم السلام ، في الرجل تصيبه الجنابة وبه جُروحٌ أو قروح أو يخاف على نفسِهِ من البرد، فقال  عليهم السلام : (لا يغتسل ويتيمَّم)([739])، ومثلها صحيحة البزنطي([740]) عن الرضا  عليهم السلام .

قلنا: الظاهر إنَّ ذلك من الخوف في الوقوع في التهلُكَةِ فإنَّ العطش به تزهق النفس، وهكذا من كان به جرح أو قرح، فإنَّ المراد بهما من يخاف على نفسِهِ الموت بإصابة الماءِ لهما، ولذا أفتى الفقهاءُ بَعَدَمِ جَوَازِ التيمُّمِ لما كان به جرح أو قرح يسير، وهكذا المراد الخوف من البرد الموجب للتهلُكَةِ، ويدلُّكَ على ذلك ما وَرَدَ عن المعصومين  عليهم السلام  من عَدَمِ الإلزام بالتيمّم مع الجرح والقرح، ففي صحيحة محمّد بن مسلم عن الباقر  عليهم السلام ، عن الرّجل يكونُ به القرح والجراحة يجنب، قال  عليهم السلام : (لا بأس بأنْ لا يغتسل ويتيمَّم)([741])، فإنَّ ظاهره إباحة التيمّم لا الإلزام به، ومقتضى الجمع بينها وبين ما سَبَقَ هو حَمْلُ الجرح والقرح على ما هو الشديد الذي يلزم باستعمالِ الماء الوُقوعِ في التهلُكَةِ، وصحيحَةُ ابن سنان عن أبي عبد الله  عليهم السلام ، أنّه قال في رجل أصابته في السّفر وليسَ معه إلاّ ماء قليل ويخاف إنْ هو اغتسلَ أنْ يعطش، قال  عليهم السلام : (إنْ خافَ عَطَشَاً فلا يهرق منه قطرة، وليتيمّم فإنَّ الصَّعيدَ أحبُّ إليّ)([742])، فإنَّ تعليله  عليهم السلام  يكونُ الصَّعيدُ أحبّ إليه يدلّ على عَدَمِ لُزومِ التيمّم، فلابُدَّ من حَمْلِ العَطَش الذي لا يخاف منه الوقوع في التهلُكَة جَمْعَاً بينها وبين الأخبار المتقدّمة، وخبر ابن أبي يعفور، قال: سألتُ أبا عبد الله  عليهم السلام  عن الرَّجُلِ يُجنب ومَعَهُ ماءٌ قدر ما يكفيهِ لِشرْبهِ، أيتيمَّمُ أو يتوضَّأ به؟ قال  عليهم السلام : (التيمُّمُ أفْضَلُ)([743])، وصحيحُ سليمان بن خالد وغيره، عن الصّادق  عليهم السلام  أنَّه كان وَجَعَاً شديدَ الوَجَعِ فأصابته جَنَابَةُ وهو في مكانٍ باردٍ، قال  عليهم السلام : (فَدَعَوتُ الغلمة، فقلتُ لهم: احملوني فاغسلوني، فحملوني ووضعوني على خشباتٍ ثمَّ صبّوا عليَّ الماء فغَسَّلوني)([744])، وصحيحُ محمَّد بن مسلم، فقد وَرَدَ فيه: أنّه  عليهم السلام  اضطرّ إلى الغسل وهو مريضٌ فأتوا به مسخّناً فاغتسل، وقال  عليهم السلام : (لابُدَّ من الغسل)([745]).

وهذه الروايات تدلُّ أيضاً على أصل المطلب من أنَّ الضَّرَرَ غيرُ الموقع
في التهلكة لا يوجب حُرْمَةَ الغُسل أو الوضوء، وإنّما يُوجِبُ الرُّخْصَةَ في
التيمّم بدلاً عنهما، فلا وَجْهَ لما يظهر من السيّد في عروته من بطلانِ
الوضوءِ والغَسْلِ([746]).

ثمّ لا يخفى أنَّه يُستَفَادُ من هذه الأدلّة أنه لا فَرْقَ في الضَّرَر المحرَّمِ بين العلم به وبين الخوفِ منه؛ لأنَّ الشَّارعَ قد جَعَلَ الخوف منه في الأخبار المذكورة طريقاً إليه، مُضافاً إلى أنَّه لو لم يَكُنْ الخوفُ منه طريقاً إليه لَلَزَمَ الوقوعُ في الضَّرَرِ المحرّم بكثرةٍ وهو خلافُ الحكمة.

وأمّا باعتبار قاعِدَةِ (لا ضَرَر) فقد يقال، بل قد قيل بفسادِ عبادته المضرّة؛ لأنّ قاعدة (لا ضرر) تدلُّ على ارتفاع الحكم الشرعيّ لتلك العبادة، فهي تدلُّ على ارتفاعِ وُجوبِ الوُضوء المضرّ، والحجّ المضرّ، والصّومِ المضرّ، فإذا ارتفع حُكْمُ العبادة لم يَكُنْ إتيانُها مُسْقِطاً للواجب منها؛ لأنّها حينئذٍ ليستْ من أفراده، وهكذا معاملاته تدلُّ قاعدة (لا ضرر) على ارتفاع الحكم الضَّرَري عنها كاللزوم للبيع الغبني، أو للمَعيب وإنْ أقدَمَ عليه المشتري عالماً بالغبن أو العيب؛ لأنَّ اللزوم حُكْمٌ ضرري فهو مرفوع بقاعدة (لا ضرر).

ولكن يمكن أنْ يقال: إنَّ قاعدة (لا ضرر) لا تقتضي فسادَ العبادة، ولا عَدَمَ لزوم المعاملة الضَّررية إذا أقدم المكلَّف عليها عالماً بالضَّرَر، حيثُ أنَّها لا تقتضي رَفْعَ الحُكْمِ الضَّرَريّ إذا أقدم المكلَّف على العمل عالماً بالضَّرَر، وذلك لوجهين:

أحدها: هو ظهورُ قاعدة (لا ضرر) في الضَّرر الذي لا يرضى به المكلف، فإنَّ المتبادر العرفي من مثل قولنا: (لا حرج) و(لا خسارة) و(لا ضرر) هو عدم الحكم الحرجي الذي لا يرضى به العبد، وعَدَمُ الحكم الذي فيه الخسارة التي لا يَرْضَى بها العبد، وعَدَمُ الحكم الضَّرري الذي لا يرضى به العبد؛ كيفَ لا يكون كذلك وهي واردة في مقام الامتنان، فإنّه ليس من المنّة رفع الحكم الضرري الذي يرتضيه العبد ولا يوقعه في التهلكة.

وثانيهما: إنَّ قاعدة (لا ضرر) كقاعدة الحرج إنّما تنفي اللزوم لا غير، ويبقى الملاك على حالِهِِ؛ لأنّها إنَّما تتعارض مع أدلّة التكاليف في اللزوم والنفوذ، ولا تعارضها في الدلالة الالتزامية على وجود الملاك الذي يقتضي المطلوبية للمولى في العبادات لا بنحو الوجوب ويقتضي الصّحّة في المعاملات لا بنحو اللزوم في نفوذها، ولذا ذَهَبَ القومُ إلى أنَّ المتعارضين تسقط حُجّيتهما في مدلولهما المطابَقي ولا تَسْقُطُ في مَدْلولهما الالتزاميّ وهو نفيُ الحكم الثالث.

نعم، على الوجهِ الأوّل من يقدم على الوضوء الضَّرَري عالماً به فقاعدة الضَّرَر لا ترفع وجوبه لعدم شمولها له، ومَنْ أقْدَمَ على بيع الغبن عالماً به فقاعدة الضرر لا ترفع لزومه لعدم شمولها له؛ لكون الضرر كان مرضياً للعبد، وعلى الوَجْهِ الثاني يرفع الوجوب عن الوضوء في المثال المذكور، ويرتفع لزوم المعاملة المذكورة بـ (لا ضرر) لشمولها لهما، ولكن يبقى الملاك في الوضوء الموجب لمشروعيّته ومطلوبيّتِهِ للمولى لا بنحوِ الوُجوبِ، والملاك للمعاملة الموجب لِصِحّتها لا بنحو اللزوم.

وقد جَعَل بعضُهم الوجه في صِحّة العبادة والمعاملة الضَّرَريّتين عند الإقدام عليهما ممَنْ يُعْلَمْ بضررهما، وأنَّ أدلّة (لا ضرر) ظاهرة في نفي الحكم الشرعي الذي ينشأ منه الضَّرر، ولا ريبَ أنَّ العالم بالضَّرَر إذا أقدم على العبادة الضَّررية لم يكن الضَّرر الذي أصابه قد نشأ من الحكم الشرعيّ، وإنّما ينشأ
من تعمّده لارتكابها، وهكذا عند الجهل بالضَّرَر يكونُ الذي نشأ منه الضَّرر
هو جهلُهُ بالضَّرَر لا الحُكْمِ الشرعيّ، فلا تدلُّ قاعِدَةُ نفي الضَّرر على ارتفاع الحكم الشرعيّ عند الإقدام على الضَّرر مع العلم به، ولا على ارتفاعه عند الجهل بالضَّرر.

نعم، في خصوص المعاملة الضَّررية عند الجهل بها ينفع حكمها الاستمراري باللّزوم عند انكشاف الضَّرر؛ لأنه حينئذٍ يستندُ الضَّرر لحكمها الاستمراري باللزوم.

وبَعْضُهم([747]) مَنْ جَعَلَ الوجه في لزوم المعاملة الضَّررية عند الإقدام عليها ممن يعلم بالضّرر هو أنّ بناءَ العقلاء على التحفّظ بالمالية عند المعاملة، وبناء العقلاء على ذلك يوجب أنْ يكونَ التحفُّظ المذكور شرطاً ضمنياً ارتكازياً عند المعاملة، وذلك يقتضي ثبوت خيار الغبن والعيب؛ لأنّه يقتضي تخلُّفَ الشرط الضمني الارتكازي المذكور، فيكونُ خيار الغبن والعيب من باب خيار تخلّف الشرط، لا من باب قاعدة (لا ضرر).

وعليه: يكون الإقدام على الغبن والعيب من العالم بهما إسقاطاً لهذا الشرط الارتكازي الضّمني، ولا يهمّنا تحقيقُ هذين الوجهين لموافقتهما لنا في المدّعى.

ومن هنا يظهر لك أنّه مع الجهل بضَرَرِ العبادة كالوُضوء ثُمَّ انكشَفَ له بعد إتيانهِ بِأنَّها مُضِرَّةٌ كانت صحيحة؛ لأنَّ فسادها إمّا أنْ يكونَ من جِهَةِ الأدلّة الدالّة على حُرْمَةِ الضَّرَر، ولا رَيْبَ أنَّه مع الجَهْلِ بالضَّرَر فحُرْمَةُ العبادة الضَّرَريّة لم تَكُنْ مُنَجّزة في حقّه نظير من جهل غصبِ الدّار فصلَّى فيها فإنَّ الصّلاة تكون صحيحة حيثُ لم تكن الحرمة منجّزة فيها حتى تمنع من تنجز الوجوب.

وأمّا أنْ يكونَ فسادُها من جهة قاعدة (لا ضرر) فإنَّ العَبْدَ الآتي بالعبادة المضرّة بعد إتيانه بها والتفاته إليها يرضى بها، حيثُ لا يرضى بإعادتها، أو قضائها، وقد عَرَفْتَ أنَّ الضَّرَرَ الذي يرضى به العبد لا تشمله قاعدة (لا ضرر)؛ ولأنّها وارِدَةٌ في مقام الامتنان، وليس من المنّةِ إعادة العبادة أو قضائها.

وبهذا تعرف وجهُ ما حكى من الإجماع على صحّةِ العبادة الضَّرَرية إذا أتى بها مع الجهل بضَرَرها، وهذه بخلاف المعاملة إذا أوقعها العبد ولم يعلم بضَرَرها، فإنّه إذا انكشَفَ له ضَرَرُها ولم يَكُنْ راضياً بها فتشمَلُها أدلّة (لا ضرر)، وأمّا لو انكشف لهُ ضَرَرُها ورَضيَ بها تكونُ ماضيةً نافذةً؛ لعَدَمِ شمول أدلّة (لا ضرر) لضررها.

وعليه: فالبيعُ الضَّرريّ إذا علم به المضرور وأقدم عليه فقاعدة (لا ضرر) لا ترفع لزومه، وأمّا إنْ جهل به فيكونُ الاختيار بيد المضرور فإذا رضيَ به لزم البيع؛ لأنّ ضرره قد حَصَلَ الرّضا منه به فلا تشمله قاعدة (لا ضرر)، وإنْ لم يَرْضَ به فلا يلزم لشمول قاعدة (لا ضرر) له.

المقام العاشر: في الشكّ في الضَّرر مفهوماً أو مصداقاً

إنَّ المناطَ في المقام هو صِدْقُ الضَّرَرِ عُرْفاً ولغةً، وقد ذَكَرْنا في الأحكامِ وأطوارِها في المقام الخامس من قاعدة (لا حرج) ما يُوضِّحُ لكَ هذا المقام تماماً فلا نُعيدُ الكلامَ مرَّةً ثانية([748]).

المقام الحادي عشر: شمول القاعدة للموضوعات الضررية مطلقاً

ظاهرُ أدلّة (لا ضرر) يقتضي نفيها التكليف عن سائر الموضوعات
 الضررية سواء كانَ المكلَّف أوجَدَها باختيارِهِ كأنْ كان باختيارِهِ استعمل شيئاً يُوجِبُ ضَرَرَ الماء عليه أو ضَرَرَ الصَّوم منه، إلاّ إذا قام الدَّليلُ على ثبوتِ الحكم فيه فإنّه يكونُ مُخَصَّصاً؛ لأدلّة القاعدة كما قيل في المريض الذي تعمَّد الجنابة بقيامِ الدّليل على وجوب الغسل عليه وإنْ تَضَرَّرَ بهِ، وليسَ عندي مُتَّسَعٌ من الوقت لأنْ أنظر في هذا الفرع وتماميّة الدّليل المذكور فليراجع في بابِ غسل الجنابة، وكما في الأدلّة التي قامَتْ على وجوبِ رَدِّ المغصوب على المغصوب
منه وإنْ تَضَرَّرَ الغاصب، ولذا يحكم بقَلْعِ بنائه وتحقيقِ ذلك يَطْلُبُ من
 كتابِ الغصب.

المقام الثاني عشر: في أنَّ القاعِدَةَ تدلُّ على اشتراطِ نَفْسِ عَدَمِ الضَّرَر للأحكام لا عَدَم الضَّرر المعلوم أو المظنون

ظاهرُ أدلّة نفي الضَّرر أنّها تنفي الأحكام الشرعيّة الواقعيّة فإنّها تدلُّ على أنَّ الأحكام المستلزمة للضَّرر في الواقع ليستْ في الشَّرْع الإسلامي سواء كان المكلَّف عالماً بالضَّرَرْ، أو شاكّاً فيه، أو معتقداً للخلاف، فيكونُ الضَّرَرُ من الموانع الواقعية للحكم الشرعي من غير فرق بين العبادات والمعاملات، فلو فرض أنَّ المكلَّف كانَ عالماً بعدم تَضَرُّرِهِ بالغَسْلِ وبالصَّوم وفي الواقع كان يَتَضرَّر بهما كانَ التّكليف بهما بمقتضى أدلّة نفي الضَّرر مرتفع، فإنَّ  ظاهرَ قوله: (لا ضرر) هو تسليطُ النفي على الواقع فلابُدَّ  أنْ يكونَ  المراد منه أنَّه ليس حكم في الدَّين فيه ضَرَرٌ في الواقع،  سواء كانَ المكلَّف عالماً بالضَّرر أو ظاناً به أو شاكّاً فيه، خلافاً للمحكيّ([749]) عن الشيخ الأنصاري([750]) حيثُ ذَهَبَ إلى أنَّ المنفي هو الحكم الذي يكونُ فيه الضَّرر معلوماً لا مجهولاً بحيثُ لو فُرِضَ المكلّف معتقداً لعدم تَضَرُّرِهِ بالوضوء أو الصَّوم مثلاً فتوضّأ ثُمَّ انكشفَ أنه تضرّر به فدليل نفي الضرر لا ينفي الوجوب الواقعي للوضوء المذكور، مُستَدِلاً على ذلك بأنَّ ظاهر أدلّة (لا ضرر) أنَّ الشارع لم يوقع العبد في الضَّرَر بسببِ حُكْمِهِ الشَّرعي، ولا رَيْبَ أنَّ الحكم الفعليّ المنجّز هو الذي يوقع العبد في الضَّرر، وأمَّا الحكم الثاني فلا يوقع العبد في الضَّرر؛ لأنّه لا يوجب بَعْثَ العبد نحو العَمَلِ بخلافِ الفعليّ المنجّز فإنّه هو الذي يبعث العبد نحو العَمَل.

وعليه: فـ (لا ضَرَر) إنّما تقتضي انتفاء الحُكْمِ الفعليّ بالعَمَل المستلزم للضَّرر؛ لأنه هو الذي يُوقِعُ العَبْدَ في الضَّرر، ولا تقتضي انتفاءَ الحكم الشأنيّ بالضَّرر؛ لأنه لا يوقِعُ العَبْدَ في الضَّرر.

وعليه: فإذا كانَ العَبْدُ عالماً بالضَّرَر كانَ الشَّارعُ قد نفي الحكم عليه بذلك العمل؛ لأنَّ الحكم المذكور لو وُجِدَ كانَ باعثاً للعبد نحو الضَّرر، وأمَّا إذا لم يكن عالماً بالضَّرر كان الحُكْم المتعلَّق بالعَمَل شأنياً وهو غيرُ باعِثٍ نحو العَمَل فلا يكونُ مَرْفوعاً هذا الحكمُ ويكونُ باقياً على حاله، وإنّما يكونُ الباعِثُ  له هو تخيُّل الحكم بالعَمَل، فالمنفيّ في هذه القاعِدَة الشَّريفة هو  الحكمُ الفعليُّ دونَ الواقعي.

ولا يخفى ما فيه؛ فإنّه خلافُ ظاهِرِ الأدلّة مِنْ نفي الحكم المستلزِمِ للضَّرَر، مُضافاً إلى أنَّ الحُكْم الضَّرَريّ مع بقائهِ يكون هو الذي أوقعه في الضَّرر؛ لأنَّ الفعلية إنّما تكونُ له لا لحكمٍ آخر.

والأولى أنْ يقال: إنَّ أدلة (لا ضرر) حيثُ أنَّها واردَةٌ في مقام المنّة، ففي العبادات لو أتى العبد بالمضرّ منها جهلاً بالضَّرر لا منّة في رفع حُكْمِها؛ لأنَّ رَفْعَهُ يستدعي قَضَاءَها أو إعادتها، وفي ذلك كُلْفَةٌ على العبد، ولذا نسب إلى الفقهاء صِحّة العبادات المضرّة مع الجهل بضَرَرها.

وأمَّا المعاملات لو أتى العَبْدُ بالمضرّ منها جَهْلاً بالضَّرَر، فمِنَ المنَّةِ ارتفاعُ حُكْمُها وبُطْلانها، ولذا ذَهَبَ الفُقَهاء إلى بُطْلانِ المعاملة مع الجهل بالعيب أو الغبن.

وقد تَقَدَّمَ في المقام الثامن في صِحّةِ العبادات الضَّرَريّة سواء علم بضَرَرها
 أو جهل، وصِحّةُ المعاملات الضَّرَرية مع العلم بضَرَرها ما ينفَعُكَ في هذا المبحث.

المقام الثالث عشر: في قبول قاعدة لا ضرر للتخصيص

إنَّ قاعدةَ نفي الضَّرَر هَلْ هيَ من القواعِدِ غَير القابِلَةِ للتَّخْصيص
المسمَّاةِ بأصولِ المذهب، مثل: الحرّ لا يكون عبداً، أو هي من القواعد
القابلة للتخصيص المسمّاة بالقواعد العامّة كقاعدة حِلّية البيع، أو هي
من القواعد التي يرتفع موضوعها بالدليل المسمّاة بالأصول العملية كقاعدة البراءة؟

الحقُّ هو الثاني؛ لأنها قابلة للتخصيص، وورودها في مقام الامتنان لا يمنع من تخصيصها، إذ لعلَّ ذلك المورد الذي فيه الضَّرَر من المنّة ثبوت الحكم فيه كالجهاد، وليْسَتْ من الأصولِ العَمَليّة؛ لأنَّها تقدّم على الأدلّة الاجتهادية لكونها حاكمة عليها.

المقام الرابع عشر: في لُزومِ الفحص بالتمسُّكِ بهذه القاعدة في الشُّبْهَةِ الحكمية

إنّ التمسُّك بهذه القاعدة في الشُّبهة الحُكْمية لنفي التّكليف يُشْتَرَطُ
فيهِ الفَحْصُ عن المخصّص لها كما هو الشأنُ في سائر القواعِدِ العامّة، ولا
 يصحُّ التمسُّكُ بها في الشُّبْهةِ الموضوعية، فإنّه لو شكَّ في أنَّ الوضوء فيه ضَرَرٌ لم يصحّ أنْ يتمسّك بقاعدة (لا ضرر) في نفي وجوبه، وليس عليه أنْ يَفْحَصْ عن وجود ضرر فيه.

نعم، لو قُلنا بأنَّ خوف الضَّرر مؤثّر في رفع وجوبِ الوضوء، وكان الشكّ المذكور موجباً للخوف من الضَّرر كان الوضوء المحتمل الضَّرَر مُرْتفعاً وجوبه.

ومن أرادَ الاطّلاع على باقي القواعد الفقهية كقاعدة الحَرَج والسَّلْطَنة، فليراجع كتابنا الأحكام وأطوارها وشؤونها.

وما توفيقنا إلاّ بالله([751]).

 

الفهارس الفنية

أولاً: فهرس الآيات.

ثانياً: فهرس الروايات.

ثالثاً: فهرس الاعلام.

رابعاً: فهرس المؤلفات.

خامساً: فهرس المصادر والمراجع.

سادساً: محتويات الكتاب.

 

 

 

 


 

فهرس الآيات

الآية

السورة : رقم الآية                            

الصفحة

[اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنْ الظَّنِّ]

[أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي]

[أَقِمْ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ]

[أَقِيمُوا الصَّلاَةَ]

[إِنَّ الحَسَنَاتَ يُذهِبنَ السَّيِئاتِ]

[إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ]

[إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا]

[إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُوا]

[إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ] 

[أَوْفُوا بِالْعُقُودِ]

 

[تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ]

[جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا]

[حَتَّى يَطْهُرْنَ]

[حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ]

[ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ]

[الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ]

[عَبْدًا مَمْلُوكًا لاَ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ]

[فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ]

[فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ]

 

[فَرِهَانٌ مَقْبُوضَة]

[فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ]

[فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ]

[فَلاَ تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ]

[فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ]

[فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ]

[فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ]

[قُلْ لاَ أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا]

[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ]

[لاَ تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ]

[لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ مَا آتَاهَا]

[لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا]

[مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ]

[مُصدّقاً]

 

[مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ]

[مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ]

[وأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ]

[وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ]

[وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا]

[وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا]

[وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا]

[وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا..]

[وَلاَ تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ]

[وَلاَ تَسّبُوُا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ]

[وَلاَ تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ]

[وَلاَ تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ]

 

 [وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا]

[وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ]

[وَلاََ يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ]

[وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ]

[وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ]

[وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ]

[وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ]

[وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى]

[وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ]

[وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ]

[وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ]

[يا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ]

[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ]

الحجرات: 12

النساء: 59

الإسراء: 78

الأنعام: 72

هود: 114

النحل: 90

الحجرات: 6

التوبة: 28

الرعد: 7

المائدة: 1

 

النساء: 29

يونس: 5

البقرة: 222

المائدة: 3

البقرة: 2

البقرة: 159

النحل: 75

البقرة: 223

النحل: 43 الأنبياء: 7

البقرة: 283

المائدة: 4

الأنعام: 118

الإسراء: 23

البقرة: 197

التوبة: 122

البقرة: 193

الأنعام: 145

آل عمران: 110

البقرة: 233

الطلاق: 7

البقرة: 286

التوبة: 91

البقرة: 41، 91 النساء: 47

البقرة: 130، 135

النساء: 12

البقرة: 275

النساء: 24

البقرة: 205

التوبة: 107

الشورى: 40

البقرة: 143

الأنعام: 121

الأنعام: 108

الطلاق: 6

الأنعام: 152 الإسراء: 34

البقرة: 231

النساء: 5

البقرة: 228

البقرة: 282

النور: 31

القمر: 17

آل عمران: 97

الأنفال: 17

البقرة: 207

البقرة: 204

النساء: 115

البقرة: 183

المائدة: 101

 

499

127

363، 365

127

248، 272

166

24، 88، 127

25

43

24، 369، 467، 476، 716

24

362

25

409

21، 655

92

25

26

25، 93، 507

507

24

115

408

155

657

25، 91

649

409

31

643

217

218

25

198

 

198

649

24،341،503،699

24

621

643، 648

649، 650

31

408

175

649

24

 

643، 648

24

91

649

175

21

657

682

621

621

30

198

599

 

 

 

فهرس الروايات

الحديث............................................................................ الصفحة

 

اتركوا ما لا بأس به حذراً عما به البأس.................................... 273

أجمع لك السهو كله في كلمتين: متى....................................... 333

أخذتني بالقياس................................................... 157، 158

إذا أصبتم مثل هذا فلم تدروا، فعليكم بالاحتياط ............................ 274

إذا التبست عليكم الفتن كالليل المظلم فعليكم بالقرآن......................... 21

إذا خَرَجَتْ من شيء ثمّ دخلت في غيره فشكُّكَ ليس بشيء................... 487

إذا شَكَكْتَ فابنِ على اليقين.......................................... 326، 330

إذا قَصَّرْتَ أفْطَرْتَ........................................................ 181

اذهب فاقلعها وارم بها إليه فإنّه لا ضرر ولا ضرار...................... 612، 615

أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم .................................... 201

إلا غلب الحلال الحرام .................................................... 274

أما إذا كان بجهالة فليتزوجها بعد ما تنقضي عدتها............................ 219

أمّا ما علمت أنّه قد خلطه الحرام فلا تأكُلْ................................... 273

إنَّ الجارَ كالنَّفْسِ غير مُضَارٍّ ولا آثم......................................... 633

إنَّ الخطيئة لا تكفر الخطيئة، ولكن الحسنة تحطُّ.......................... 248، 272

إن الشيطان بين اليتي المصلي فلا ينصرفن أحدكم إلا بعد أن يسمع صوتاً أو..... 377

إنّ المجمع عليه لا ريب فيه .............................................. 44، 45

إنْ تراضيا فلا يضرّ........................................................ 630

إنْ خافَ عَطَشَاً فلا يهرق منه قطرة، وليتيمّم فإنَّ الصَّعيدَ أحبُّ إليّ............. 730

إنْ زاد المؤمنون شيئاً رَدَّهُم.................................................. 44

إنّ سمرة بن جندب كان له عَذق، وكان طريقه إليه.... 608، 609، 611، 612، 614

إنْ شَكَّ الرجل بعدما صلّى فلم يدر أثلاثاً صلّى أم أربعاً، وكان يقينُه حين...... 588

إنْ كُنتَ تَعْلَمُ بأنَّ فيه مالاً معروفاً رباً، وتعرف أهله........................... 272

إنْ لم يَكُنْ شيء يستبينُ في الماء، فلا بَأسَ ............................. 248، 273

إنْ يَكُنْ دخولكم عليهم فيه مَنْفَعَةٌ فلا بأسَ، وإنْ كان فيه ضَرَرٌ فلا........ 636، 651

إنك رَجَلٌ مُضَارّ....................................... 608، 6012، 625، 643

إنما الشكُّ إذا كنتَ في شيء لم تجزه......................................... 487

إنّما جُعِلَ التقيّة ليحقن بها الدم فإذا بلغ الدّم فليس تقية................. 694، 697

إنها مُحرَّمَةٌ عليه أبدا .............. ....................................... 155

إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي ............................ 21

أيّما أعظم عند الله القتل أو الزنا............................................ 156

بل يتيمّم................................................................. 729

تعمل هذه الأمّة برهة بالكتاب، وبرهة بالسنة................................ 151

تغسل ثوبك من الناحية التي ترى أنه قد أصابها.............................. 278

تغسله ولا تعيد الصلاة .................................................... 322

التيمُّمُ أفْضَلُ............................................................. 730

الجار كالنفس غير مضار................................................... 649

جعلت التقية ليُحْقَنَ بها الدّم فإذا بَلَغَ الدّم فلا تقيّة........................... 696

حتى يستبين لك غير ذلك.................................................. 602

حتّى يكونُ على يقينٍ من طهارته ........................................... 278

حلال بيّن، وحرام بيّن، وشُبُهاتٌ بين ذلك، فمَنْ ... ........................ 274

حلال محمّدٍ حلال أبدا إلى يوم القيامة، وحرامُهُ حرامٌ ........................ 171

خُذْ بما اشتهر بين أصحابك ................................................ 214

رفع عن أمتي تسعة أشياء: الخطأ، والنسيان.................................. 218

رُفِعَ عن أمّتي ما لا يعلمون..................................... 224، 307، 584

ستفترق أمتي على بضعٍ وسبعين فرقة... .................................... 151

سئل عن سُفْرة وجدت في الطريق مطروحة كثير لحمها وخبزها وبيضها.......... 412

الصّلاة أفضل أم الصيام؟.................................................. 156

صُمْ للرؤية وأفطر للرؤية............................................. 417، 447

عشرة من الإبل........................................................... 157

على اليد ما أخذت حتى تؤدي............................................. 209

على حسب أن لا تضرّ إحداهما بالأخرى إنْ شاء الله......................... 630

فإنه على يقين من وضوئه .................................................. 319

فَدَعَوتُ الغلمة، فقلتُ لهم: احملوني فاغسلوني، فحملوني ووضعوني........ 730

فذهب الرجل إلى رسول الله  (ص)  فشكاه، فقال: يا رسول الله، إنَّ سمرة.... 609

فلم أقله .................................................................. 97

فليمض على يقينه .................................................. 337، 586

فمَنْ تَرَكَ ما اشتبه عليه من الإثم فهو لما استَبان له أترك ....................... 276

قد جَعَلْته عليكم حاكماً ................................................... 367

القرآنُ هدىً من الضَّلالة ................................................... 21

قَضَى رَسولُ الله  (ص)  بين أهل المدينة في مَشَارِبِ النَّخْل أنّه لا يمنعُ نفع........ 632

قضى رسولُ الله بالشّفعة بين الشركاء في الأرضين والمساكن، وقال:....... 626، 661

كانت ناقة رسول الله القصواء إذا نَزَلَ عنها عَلَّقَ عليها زمامها، قال: فتَخْرُجُ..... 620

كُلُّ شيءٍ لك حَلال حتَّى يجيئك شاهدان إنّ فيه ميتة.......................... 274

كُلُّ شيءٍ لك طاهر حَتَّى تَعْلَمْ بنجاسته...................................... 601

كُلُّ شيءٍ هو لك حَلالٌ حتّى تَعْلَم أنّه حَرَامٌ بعينِهِ ............................ 248

كُلّ شيء يُضِرُّ بطريق المسلمين فصاحِبُهُ ضامِنٌ لما يصيبه....................... 631

كُلّ شيءٍ يكونُ فيه حلال وحرام، فهو حَلالٌ ................................ 248

كُلُّ ما شَكَكْتَ فيه مما قد مضى فأَمضِهِ كما هو................................ 487

لا بأس بأنْ لا يغتسل ويتيمَّم............................................... 729

لا بأس ما لم يعلم أنه ميتة.................................................. 412

لا بيع وقت النداء......................................................... 657

لا تجتمعُ أمّتي على الخطأ................................................... 163

لا تجتمع أمتي على ضلالة................................................... 32

لا تنقضُ اليقين بالشك....................... 352، 357، 437، 511، 541، 718

لا رهبانية في الإسلام........................................... 657، 665، 672

لا شَكَّ لكثير الشكّ....................................................... 672

لا صلاة إلا بطهور ....................................................... 365

لا صلاةَ لجار المسجد إلاّ في مسجده......................................... 673

لا ضرار ولا إضرار....................................................... 626

لا ضَرَرَ فلا ضرار......................................................... 626

لا ضرر في الإسلام........................................................ 634

لا ضَرَرَ ولا ضرار في الإسلام......................... 67، 628، 634، 638، 654

لا ضَرَرَ ولا ضرار.......... 605، 623، 626، 628، 637، 646، 661، 662، 673

لا ضرر.................................................................. 646

لا عَدْوَى في الإسلام....................................................... 681

لا عسر ولا حرج في الدين........................................... 666، 672

لا عول ولا تعصيب....................................................... 657

لا غُشّ بين المسلمين....................................................... 657

لا قياس في الدين.................................................... 657، 665

لا يترك، وذلك إنَّ رسول الله  (ص)  قال: لا ضَرَرَ ولا ضرار، وإنْ هَدَمَهُ كَلَّفَ.. 628

لا يغتسل ويتيمَّم.......................................................... 729

لا ينقض الوضوء إلا ما خرج من طرفيك أو النوم............................ 321

لا؛ لأنك أعرته إياه وهو طاهر، ولم تستيقنْ أنه نجَّسَه.......................... 341

لا، ولكنّك إنّما تُريدُ أن تذهب الشكَّ الذي وقع في نفسك..................... 602

لابُدَّ من الغسل........................................................... 730

لأنّكَ كنتَ على يقينٍ من طهارتِكَ ثم شكَكَت.................... 322، 323، 577

لأنك لا تدري لعله شيء أوقع عليك فليس ينبغي أنْ تنقض اليقين.............. 324

لأنه على يقين............................................................. 586

لَقَدْ قلتُ لا ضَرَرَ ولا ضرار................................................. 69

لكن ينقضه بيقين آخر..................................................... 539

لكنّه ينقض الشكَّ باليقين.................................................. 359

اللهم إنك لا تخلي الأرض عن قائم بحجة .................................... 42

لولا أنْ أشِقَّ على أمّتي لأمرتُهُم بالسِّواكِ مع كل صلاة.................. 137، 244

ليس شيء أبعد من عقول الرجال من تفسير القرآن............................. 23

ليس لمن اكترى داراً أنْ يدخل فيه ما يَضُرّ بالدار والجيران، فإنْ اكتراها.......... 627

ليس من المسلمين مَنْ غَشَّ مسلماً أو ضَرّه أو مَاكَرَه...................... 637، 654

ليس يجبر على ذلك إلاّ أنْ يكون وَجَبَ ذلك لصّاحب الدّار الأخرى بحقّ....... 627

ما اجتمع الحلال والحرام إلا غلب الحرام الحلال............................. 273

ما أراكَ يا سَمُرَة إلا مُضَارّاً........................................... 609، 653

ما آمن بي من فَسَّرَ برأيهِ كلامي، وما عَرَفَني... ............................... 22

ما جَرَىَ عليه الماء فَقَدْ طَهُر................................................ 301

ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم............................. 219

ما خالف الكتاب فليس من حديثي.......................................... 96

ما رآه المسلمون حَسَناً فهو عند الله حَسَن.................................... 163

ما علمتم أنه قولنا فألزموه، وما لم تعلموه فردُّوهُ إلينا.......................... 95

ما كان في مكان شديد فلا يَضُرّ، وما كانَ في أرضٍ رَخْوَةٍ بطحاء فإنّه يضرُّ....... 630

الماءُ كُلُّه طاهِرٌ ............................................................ 367

من أتلفَ مالَ غيره فهو لَهُ ضَامِنٌ........................................... 367

مَنْ أحيا أرضاً ميتة فهيَ له.................................................. 74

مَنْ أرادَ أنْ يُحوِّلَ باب دارِهِ عن موضعه، أو يفتح معه باباً غيره في شارعٍ........ 636

من أضرَّ بشيء من طريق المسلمين فهو له ضامن.............................. 631

من أضرَّ بطريق المسلمين شيئاً فهو ضامن.................................... 631

من بَلَغَهُ عن النبي  (ص)  شيء فعمله كان أجر ذلك له وإن كان رسول الله  (ص) 104

من جَدَّدَ قبراً أو مَثَّلَ مثالاً فقد خَرَجَ عن الإسلام............................. 236

من سمع شيئاً من الثواب على شيء، فصنعه كان له أجره وإنْ لم يكن على..... 105

من سَنَّ سنّةً حَسَنَةً فله أجرها، وأجرُ من عمل بها............................ 113

من فّسَّرَ القرآن برأيه فأصابَ الحقَّ فقد أخطأ.................................. 22

من فَسَّرَ القرآن برأيه فليتبوّأ مقعده من النار.................................... 22

مَنْ كانَ على يقينٍ، فأصابه شكٌّ، فليمض على يقينه.......................... 334

الناس في سعة ما لا يعلمون................................................ 219

الناس في سَعَةٍ ما لم يعلموا ................................................ 264

الناس مسلطون على أموالهم................................... 697، 698، 706

نعم...................................................................... 330

هذا الضِّرار.............................................................. 647

وإذا لم يدرِ في ثلاثٍ هو أو في أربع، وقد أحرز الثلاث، قام فأضاف............ 325

وإلا فإنه على يقين من وضوئه.............................................. 319

والسنة إذا قيست محق الدين.......................................... 158، 159

وإنْ علم أنّه تَعمَّدَ شيئاً من الضَّرر ردَّ بيعه وشراؤه............................ 651 

وإن كان رسول الله لم يقله................................................ 115

وإن لم يكن الأمر كما نقل إليه............................................. 115

وإن لم يكن الحديث كما بلغه.............................................. 115

وإنّهُنّ أمانةُ اللهِ عندكم فلا تُضَارُّوهُنَّ ولا تعضلوهن........................... 636

وقَضَىَ رسول الله  (ص)   بذلك، وقال: إنْ كانَتْ الأولى أخذت ماء الأخيرة.... 631

ولا تظننَّ بكلمةٍ خَرَجَتْ من أخيكَ سوءً، وأنت تجدُ لها في الخير مَحْمَلاً......... 499

ولا تنقض اليقين أبداً بالشك............................................... 580

ولا تنقض اليقين بالشك................................................... 601

ولا ضرار................................................................ 680

ولا يدخل الشك في اليقين، ولا يخلط أحدهما بالآخر......................... 329

ولا يضر أخاه المؤمن................................................. 649، 654

ولا ينقض اليقين أبدا بالشك، ولكن ينقضه بيقين آخر......................... 319

ولا ينقض اليقين بالشك............................................. 326، 424

ولكن ينقضه بيقين آخر.................................................... 540

ولم تخلُ الأرضُ منذ خلقها اللهُ من حُجَّةٍ له فيها، ظاهرٌ مشهور، أو غائب ...... 43

يا أشباه الرجال ولا رجال................................................. 672

يتقاسمان بحقائب البئر ليلة ليلة، فينظر أيّتهما أضَرَّتْ بصاحبتها، فإنْ رئيت..... 630

يتّقي اللهَ ويعمل في ذلك بالمعروف ولا يضرّ أخاه المؤمن....................... 629

يشتري منه ما لم يعلم أنّه ظَلْمَ فيه أحداً...................................... 274

يُصلّي فيهما جميعاً....................................................... 278

يعيد الصلاة.............................................................. 657

اليقينُ لا يدخل فيه الشكّ.................................................. 339

يكونُ بين العَينين ألف ذراع................................................ 630

يهريقهما جميعاً ويتيمَّم.................................................... 278

يُهريقُهُما ويتيَمَّم.......................................................... 278

 

 

 

فهرس الأعلام

 

رسول الله محمد  (ص) : 22، 27، 31، 43، 45، 67، 68، 69، 71، 74، 96، 104، 105، 110، 112، 114، 115، 117، 135، 137، 151، 157، 163، 168، 171، 198، 201، 202، 210، 218، 224، 244، 273، 274، 377، 378، 466، 538، 594، 608، 609، 611، 612، 615، 617، 618، 619، 620، 622، 623، 624، 625، 626، 627، 628، 631، 632، 634، 635، 637، 638، 640، 643، 644، 646، 648، 649، 653، 654، 661، 662، 664، 666، 681، 682، 684، 685، 696، 697، 698، 722

الإمام علي  عليهم السلام : 22، 42، 77، 278، 330، 331، 333، 334، 359، 412، 621، 636

فاطمةُ الزهراء I: 68

الإمام الحسين  عليهم السلام : 622

الإمام الباقر  عليهم السلام : 272، 273، 320، 321، 333، 608، 609، 611، 612، 615، 617، 636، 697، 729

الإمام الصّادق  عليهم السلام : 43، 44، 45، 104، 105، 155، 156، 157، 158، 159، 160، 181، 218، 219، 223، 272، 275، 277، 278، 321، 322، 323، 324، 334، 409، 626، 628، 629، 630، 632، 633، 634، 636، 660، 661، 664، 665، 698، 722، 729، 730

الإمام الكاظم  عليهم السلام : 248، 272

الإمام الرضا  عليهم السلام : 22، 729

الإمام الجواد  عليهم السلام : 279

الإمام العسكري  عليهم السلام : 632، 633

أبان بن تغلب: 157، 158، 620

ابن أبي الحديد المعتزلي: 621

ابن أبي عمير: 87، 98، 99

ابن أبي يعفور: 487، 730

ابن إدريس: 81، 376، 481، 580، 704

ابن الأثير: 640، 643، 657، 660، 662

ابن البرّاج: 80

ابن الحاجب: 81، 194

ابن الغضائري: 335

ابن جنيد الإسكافي: 150

ابن حنظلة: 101

ابن زهرة: 35، 41، 80، 184، 634

ابن زياد: 622

ابن سرحان: 729

ابن سينا: 362، 402

ابن طاوُس: 285

ابن عقدة: 622

ابن قبة: 79، 268

ابنُ قدامة: 700

ابن ماجة: 635، 638

ابن ملجم: 621

أبو الصلاح الحلبي: 41

أبو الفتح الكراجكي: 41

ابو القاسم القمي: 241، 284، 304، 604، 697، 709

أبو اللّيث السَّمرْ قندي: 32

أبو بصير: 48

أبو حنيفة: 161

أبو رجاء: 619

أبو عبيدة الحذّاء: 608، 615

أحمد الحسيني: 345

أحمد النراقي: 82، 238، 284، 335، 347، 363، 516، 613، 615، 651، 709

أحمد بن أبي عبد الله البرقي: 611

أحمد بن أبي عبد الله: 608

أحمد بن الحسين: 283، 587

أحمد بن حنبل:  51، 148، 175، 201

أحمد بن محمد بن خالد: 609، 610

الأخفش: 645

الآخوند الخراساني: 113، 354، 380، 427، 455، 511، 566، 673

الآراكي: 488

الأردبيلي: 239، 284

الاسترآبادي: 193

إسحاق بن عمّار: 274، 276

إسماعيل بن إبراهيم: 619

الآشتياني: 436، 583

الأغا الدربندي: 436

أغا رضا الهمداني: 259، 262، 459

أغا ضياء العراقي: 119، 484

الآمدي: 169، 201

الباغنوي: 363

البخاري: 619، 621

البدخشي: 656

البزنطي: 631، 729

البغوي: 610

البهائي: 105، 375، 378

البيضاوي: 150

البيهقي: 620، 635

الترمذي: 621

التنكابني: 517

جرير: 359

جعفر الشيخ راضي النجفي: 618

جعفر بن محمد بن يونس: 412

جعفر كاشف الغطاء: 434، 436، 491، 489، 517، 597

جُندب: 753

الجويني: 27

الحاكم النيسابوري: 635

الحر العاملي: 610

حريز: 218

الحَسَنُ البَصْري: 210

الحسن الصيقل: 608، 610

حسن العاملي: 194

حسن المامقاني: 435

الحسن بن زياد الضبي: 611

الحسن بن زياد العطّار: 614

حسن كاشف الغطاء: 593

حسين الترك: 435

حسين بن عبد الصمد الحارثي: 375

الحلبي: 271، 279، 409، 631، 729

حماد: 631

الحمصي: 40

الخوانساري: 211، 352، 364، 375

الدارقطني: 635

الداماد: 40

داود الظاهري: 28

الرازي: 36، 38، 151، 364

زرارة: 48، 101، 216، 318، 320، 323، 325، 376، 459، 487، 580، 581، 583، 586، 592، 602، 603، 608، 609، 611، 612، 613، 614، 615، 616، 617، 624

الزمخشري: 610

السبزواري: 240، 284، 375، 587، 709

السرخسي: 634

سلاّر: 35

سليمان بن خالد: 730

سماعة: 248، 272، 277، 412

سمرة بن جندب: 210، 607، 608، 609، 611، 612، 614، 619، 620، 621، 640، 653، 654، 689، 700

السيد الشريف: 35، 363

السيوطي: 635

الشافعي: 48، 84، 100، 162

الشريف الرضي: 311

الشريف المرتضى: 35، 41، 80، 97، 153، 311

شريف العلماء: 193، 436، 601، 602

الشهيد الأول: 40، 184، 210، 378

الشهيد الثاني: 91

شيخ الشريعة الأصفهاني: 656، 661

الصدر: 363

الصدوق: 81، 102، 157، 171، 610، 611، 630، 634، 655

الصّفار: 338

صفوان بن يحيى: 278

ضرير: 273، 276

الطباطبائي: 363

الطبرسي: 41، 81، 97

الطريحي: 634، 654

طَلْحَةَ بن زيد: 633

الطوسي: 20، 40، 41، 53، 54، 88، 98، 184، 211، 220، 270، 273، 285، 335، 376، 481، 634، 637، 654، 704

عبادة بن الصَّامت: 632

عبد الحسين الكاظمي: 304، 353، 484

عبد الحسين: 316

عبد الرحمن بن الحجاج: 219، 274، 277

عبد الرزاق المقرم: 610

عبد الكريم القمي: 349

عبد الله بن بكير: 609، 615، 653

عبد الله بن سليمان: 273

عبد الله بن سنان: 273، 276، 341، 359، 730

عبد الله بن عباس: 638

عبد الله بن مسكان: 608، 613، 615، 616، 617، 624، 646، 654

عبدُ المجيد كاشف الغطاء: 597

العضدي: 38

العطار: 618

عقبة بن خالد: 626، 630، 631، 632، 661، 662

علاء الدين الحنفي: 634

العلامة الحلي: 20، 78، 81، 103، 151، 193، 195، 335، 363، 376، 481، 482، 580، 633، 637، 705

علي الطباطبائي: 212، 709، 721

عليّ بن إبراهيم: 630

علي بن الحسين السعدآبادي: 611

عليّ بن جعفر: 248، 273

علي بن محمد العاملي: 517

عليّ بن محمد القاساني: 338

علي بن محمد بن بندار: 608

علي بن محمد: 340

عَمَّار الساباطي: 278، 330، 359

عمر بن الخطاب: 620

عمر بن حنظلة: 216

عوف: 619، 648

الغزالي: 27، 165، 201، 316، 363

غلام رضا: 628

الفاضل التوني: 665، 721

القاسم بن يحيى: 335

القاضي: 27، 35، 38، 285

القزويني: 618

كاظم الشيرازي: 8، 10، 13، 242، 295، 346، 353، 354، 372، 399، 426، 427، 456، 460، 461، 473، 546، 565

الكرباسي: 194، 363

الكليني: 219، 335، 620

الكناني: 631

ليث المرادي: 48

مالك: 28، 175، 201، 635

المالكي: 84

المتنبي: 359

المجلسي: 37، 238، 284، 334، 335، 359، 613

المحقق الحلي: 40، 81، 83، 86، 352، 481، 518

محمد الطباطبائي الكربلائي: 194

محمد امين الاسترابادي: 20

محمد باقر العلوي: 66، 122

محمد بن الحسن: 631

محمّد بن الحسين: 629، 630

محمّد بن حفص: 630

مُحمَّد بن عبد الله بن هلال: 630، 662

محمّد بن علي الأردبيلي: 614

محمد بن علي العاملي: 85، 103، 240، 284

محمّد بن عيسى: 95، 335

محمد بن مسلم: 48، 334، 487، 588، 729، 730

محمد بن موسى بن المتوكل: 611

محمّد بن يحيى: 629، 630

محمّد بن يعقوب: 629، 630

محمد تقي البروجردي: 119

محمد تقي الرازي: 435

محمد حسين الحائري: 241

محمد حسين الغروي: 541

محمد رضا كاشف الغطاء: 9، 17

مرتضى الأنصاري: 84، 103، 112، 128، 238، 240، 277، 284، 285، 309، 314، 338، 352، 377، 378، 439، 563، 564، 574، 575، 580، 606، 607، 608، 609، 610، 611، 612، 614، 615، 618، 619، 622، 623، 624، 625، 626، 637، 640، 641، 644، 646، 658، 674، 700، 722، 736

مرزا محمد: 618

مسلم بن الحجاج القشيري: 621

مصطفى التفريشي: 621

معاذ بن جبل: 198

معاويةَ: 621

معلّى بن خنيس: 631

 

المفيد: 54، 81

موسى بن جعفر التبريزي: 607

مؤمن بن هشام: 619

ميثم البحريني: 40

النائيني: 257، 307، 463، 478

النسائي: 621

النووي: 620، 635، 638

هادي الطهراني: 448

الهادي كاشف الغطاء: 9، 270

هارون بن حمزة الغنوي: 629

هاشم الخونساري: 612

هشام بن سالم: 104، 105

هلال الأنصاري: 619

الهيثمي: 634

الوحيد البهبهاني: 156، 193، 212، 238، 241

يوسف البحراني: 105، 240، 318

يونس بن عبد الرحمن: 49، 611

 

فهرس المؤلفات

 

 

الإحكام في أصول الأحكام: 67، 202

الأذكار: 638

الأربعين في إمامة الأئمة الطاهرين: 635

الإرشاد: 285

الاستبصار: 79، 82

أعلام الموقعين: 202

إعلام الورى: 41

الانتصار: 41

أنوار الفقاهة: 593

إيضاح الفوائد: 606، 607، 637

بحار الأنوار: 104، 334

بدائع الصنائع: 634

بصائر الدرجات: 95

التبيان في تفسير القرآن: 20، 637، 654

تحرير الأحكام الشرعية: 597، 705

تذكرة الفقهاء: 628، 633، 637، 704

التعليق العراقي: 40

تقريب الإشكال: 448

التقرير والتحبير: 202

تهذيب الأحكام : 79،218، 322، 609، 612، 613، 629

التوحيد: 218

الجامع الصغير: 635

جامع المقاصد: 289، 705

الحبل المتين: 378

الخلاف: 634، 637

الدّرة النجفية: 105، 273

الدروس: 597

دعائم الإسلام: 627، 636

الذريعة: 38

ذكرى الشيعة: 41، 211، 378، 633

الرسائل: 459، 517، 607، 628

روض الجنان: 289

روضة الكافي: 620

رياض المسائل: 518

السبع الشداد: 41

سنن ابن ماجة: 638

سُنَنِ البَيهقي: 620، 635

الشافي: 41

شرح القواعد: 593

شَرْحِ الوافية: 363

الشمسية: 189، 192

العدّة: 88، 315، 377

العروة الوثقى: 721، 728

العقد الطهماسبي: 375

علل الشرائع: 171

العناوين: 683

عوائد الأيام: 683

الغنية: 41

الغيبة: 41

الفائق: 610

قواعد الأحكام: 597، 705

قواعد المرام: 40

القوانين: 189، 518

الكافي: 41، 82، 93، 105، 608، 609، 610، 611، 612، 613، 616، 620، 626، 629، 630، 632، 661

كشف الغطاء: 488

الكفاية: 316، 455، 459، 488، 690

كنز العمال: 634

كنز الفوائد: 41

المبادئ:                                     318

المبسوط: 597، 634، 704

مجمع البحرين: 634

مجمع البيان: 22، 41

مجمع الزوائد: 634

المحاسن: 104

المختلف: 79

مرآة العقول: 37، 105

المستدرك على الصحيحين: 627، 629، 635، 636، 651

مستطرفات السرائر: 95، 704

مسند أحمد بن حنبل: 635، 638

مصابيح السنة: 610

المصابيح: 189، 191

مصادر الحكم الشرعي: 17

المعارج: 193، 195، 315

المعتبر: 40

المغني: 700

مفاتيح الأصول: 580

المفاتيح: 193، 194

من لا يحضره الفقيه: 79، 82، 613، 608، 611، 612، 617، 626، 628

المناهج: 516

منظومة الشافعية: 313

الموطأ: 635

النافع: 285

نقد الرجال: 621

النهاية: 189، 191، 192، 193، 195، 285، 318، 363، 634

نهاية الأصول: 20

نهاية اللغة: 628

النهاية في غريب الحديث: 634، 651، 656

نهج البلاغة: 621، 627

نوادر الحكمة: 335

 

النور الساطع: 120

الهداية: 240

 

الوافية: 81، 325

الوجيزة: 613

وسائل الشيعة: 23، 607، 610

 

 

 

 

المصادر والمراجع

القرآن الكريم.

  1. إجازات الحديث، محمد باقر المجلسي، تحقيق أحمد الحسيني، مطبعة الخيام، قم، نشر مكتبة آية الله العظمى المرعشي العامة، قم، ط1، (1410هـ).
  2. إجمال الإصابة في أقوال الصحابة، خليل بن كيكلدي العلائي، تحقيق د. محمد سليمان الأشقر، دار النشر، جمعية إحياء التراث الإسلامي، الكويت، ط1، (1407هـ).
  3. إحقاق الحقّ وإزهاقُ الباطل، نور الله الحسيني المرعشي، تعليق شهاب الدين المرعشي النجفي، منشورات مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي، قم.
  4. الإحكام في أصول الأحكام، علي بن محمد الآمدي، علق عليه عبد الرزاق عفيفي، المكتب الإسلامي، ط1، الرياض، (1387هـ)، ط2، بيروت، (1402هـ).
  5.  الأحكام، علي كاشف الغطاء، نشر مؤسسة كاشف الغطاء العامة.
  6.  اختيار معرفة الرجال (رجال الكشي)، محمد بن الحسن الطوسي، تصحيح وتعليق ميرداماد الأسترآبادي، تحقيق مهدي الرجائي، نشر مؤسسة آل البيت  عليهم السلام ، مطبعة بعثت، قم، (1404هـ).
  7.  الأربعين في إمامة الأئمة الطاهرين، محمد طاهر بن محمد حسين الشيرازي، تحقيق مهدي الرجائي، مطبعة الأمير، ط1، (1418هـ).
  8.  إرشاد الأذهان إلى أحكام الإيمان، الحسن بن يوسف بن المطهر (العلامة الحلي)، تحقيق فارس الحسون، مؤسسة النشر الإسلامي، ط1، (1410هـ).
  9.  إرشاد الفحول إلى تحقيق علم الأصول، محمد بن علي الشوكاني، تحقيق محمد سعيد البدري  دار الفكر، بيروت، (1412هـ).
  10.  الاستبصار فيما اختلف من الأخبار، محمد بن الحسن الطوسي، تحقيق وتعليق حسن الموسوي الخرسان، مطبعة خورشيد، نشر دار الكتب الإسلامية، طهران، ط4، (1363ش).
  11.  الاستذكار، يوسف بن عبد البر القرطبي، تحقيق سالم محمد، محمد علي معوض، مطبعة دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، (2000م).
  12. إشارات الأصول، محمد ابراهيم بن محمد حسن الكرباسي، طبعة حجري.
  13.  اصطلاحات الأصول، علي المشكيني، نشر دفتر نشر الهادي، مطبعة الهادي، قم، ط5، (1413هـ).
  14. أصول السرخسي، محمد بن أحمد السرخسي، تحقيق أبو الوفا الأفغاني، نشر دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، (1414هـ).
  15. الأصول العامة للفقه المقارن، محمد تقي الحكيم، مؤسسة آل
    البيت  عليهم السلام  للطباعة والنشر، ط2، (1979م).
  16. أضواء البيان، محمد الامين الشنقيطي، تحقيق مكتب البحوث والدراسات، مطبعة دار الفكر للطباعة والنشر، بيروت، (1415هـ).
  17. أضواء على السنة المحمدية، محمود أبو رية، نشر البطحاء، ط5.
  18. الاعتصام، ابراهيم بن موسى الشاطبي، نشر المكتبة التجارية الكبرى، مصر.
  19. إعلام الموقعين عن رب العالمين، محمد الدمشقي (ابن القيم الجوزية)، تحقيق طه عبد الرؤوف سعد، دار الجيل للنشر، بيروت، (1973م).
  20.  الأعلام، خير الدين الزركلي، نشر دار العلم للملايين، بيروت، ط5، (1980م).
  21.  أعيان الشيعة، محسن الأمين، حققه وأخرجه السيد حسن الأمين، دار التعارف للمطبوعات، بيروت.
  22.  الإقناع في حلّ ألفاظ أبي شجاع، محمّد بن أحمد الشربيني الخطيب، دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع.
  23. الإكمال في أسماء الرجال، محمد بن عبد الله الخطيب التبريزي، تعليق أبي أسد الله بن الحاد الأنصاري، نشر مؤسسة أهل البيت.
  24.  الأم، محمد بن إدريس الشافعي، دار الفكر، بيروت، ط2، (1403هـ).
  25.  الأمالي، محمد بن الحسن الطوسي (شيخ الطائفة)، تحقيق قسم الدراسات الإسلامية، مؤسسة البعثة، ط1، (1414هـ).
  26.  الأمالي، محمد بن علي بن بابويه القمي (الصدوق)، تحقيق قسم الدراسات الإسلامية، مؤسسة البعثة، ط1، (1417هـ).
  27.  الأمالي، محمد بن محمد بن النعمان البغدادي (المفيد)، تحقيق الحسين استادولي، علي أكبر الغفاري، منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلمية، قم المقدسة، (1403هـ).
  28.  أمل الآمل، محمد بن الحسن الحر العاملي، تحقيق أحمد الحسيني، مطبعة نمونة، قم.
  29.  الانتصار، علي بن الحسين الموسوي (الشريف المرتضى)، تحقيق مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين، قم، (1415هـ).
  30. أوثق الوسائل في شرح الرسائل، موسى بن جعفر التبريزي، نشر انتشارات كتبي، قم، (1369ش).
  31.  إيضاح الفوائد في شرح إشكالات القواعد، محمد بن الحسن بن يوسف المطهّر الحلي (ابن العلامة)، المطبعة العلمية، قم.
  32.  بحار الأنوار، محمد باقر المجلسي، نشر مؤسسة الوفاء، بيروت، ط2، (1403هـ).
  33.  بحر الفوائد في شرح الفرائد، محمد حسن الآشتياني، نشر مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي، قم، (1403هـ).
  34. البحر المحيط في أصول الفقه، بدر الدين الزركشي، تحقيق د. محمد محمد تامر، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، (1421هـ).
  35.  بداية الوصول في شرح كفاية الأصول، محمد طاهر آل الشيخ راضي، إشراف محمد عبد الحكيم الموسوي البكاء، مطبعة ستارة، قم، ط1، (1425هـ).
  36.  بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، علاءُ الدّين بن مسعود الحنفي، نشر المكتبة الحبيبية، باكستان، ط1، (1409هـ).
  37.  البرهان في علوم القرآن، محمد بن عبد الله الزركشي، تحقيق محمد أبوالفضل إبراهيم، دار إحياء الكتب العربية، ط1، (1376هـ).
  38.  بصائر الدرجات الكبرى في فضائل آل محمد  عليهم السلام ، محمَّد بن الحسن الصَّفار، مؤسَّسة الأعلمي، مطبعة الأحمدي، طهران، (1404هـ).
  39.  التبيان في تفسير القرآن، محمد بن الحسن الطوسي، تحقيق وتصحيح أحمد حبيب قصير العاملي، الناشر مكتب الإعلام الإسلامي.
  40. تحريرُ الأحكام الشرعيّة على مذهب الإمامية، الحسن بن يوسف بن المطهر (العلامة الحلي)، تحقيق إبراهيم البهادري، نشر مؤسسة الإمام الصادق  عليهم السلام ، مطبعة اعتماد، قم، ط1، (1420هـ).
  41.  تحريرات في الأصول، مصطفى الخميني، نشر مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني، مطبعة مؤسسة العروج، ط1، (1418هـ).
  42.  تحف العقول، الحسن بن عليّ بن الحسين الحراني، تصحيح وتعليق علي أكبر الغفاري، نشر مؤسسة النشر الإسلامي، ط2، (1404هـ).
  43.  تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي، ابو العلا محمد المباركفوري، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، (1410هـ).
  44.  تذكرة الفقهاء، الحسن بن يوسف بن علي بن المطهر (العلامة الحلي)، تحقيقُ ونشر مؤسّسة آل البيت  عليهم السلام  لإحياء التراث، مطبعة مهر، قم، ط1، (1414هـ).
  45.  تسديدُ الأصول، محمّد المؤمن القمّي، مطبعة مؤسسة النشر الإسلامي، ط1، (1419هـ).
  46.  تعليقة على منهج المقال، الوحيد البهبهاني، طبعة قديمة.
  47.  تفسير الآلوسي، شهاب الدين محمود بن عبد الله الآلوسي، طبعة حجري.
  48. تفسير البحر المحيط، أبو حيان محمد بن يوسف الأندلسي، تحقيق عادل أحمد عبد الموجود، علي محمد معوض، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، (1422هـ).
  49.  تفسير القرآن، عبد الرزاق بن همام الصنعاني، تحقيق الدكتور مصطفى مسلم محمد، مكتبة الرشد للنشر والتوزيع، السعودية، ط1، (1410هـ).
  50.  تفسير القمي، علي بن إبراهيم القمي، تصحيح وتعليق طيب الموسوي الجزائري، نشر مؤسسة دار الكتاب للطباعة والنشر، قم، ط3، (1404هـ).
  51.  التفسير الكبير، محمد بن عمر بن الحسن الرازي (الفخر الرازي)، دار احياء التراث العربي، بيروت، ط3، (1420هـ).
  52.  التقرير والتحبير في علم الأصول، محمد بن محمد الحلبي (ابن أمير الحاج)، دار الفكر، بيروت، (1417هـ).
  53.  تقريرات في أصول الفقه، تقرير بحث البروجردي للاشتهاردي، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين، قم، ط1، (1417هـ).
  54.  تنقيح الأصول، تقرير بحث آغا ضياء العراقي لمحمد رضا الطباطبائي، مطبعة الحيدرية، النجف الأشرف، (1371هـ).
  55.  التنقيحُ في شرح العروة الوثقى، تقريرُ بحث أبي القاسم الخوئي للميرزا علي الغروي، مطبعة حيدر، قم، ط3، (1410هـ).
  56.  تهذيب الأحكام، محمد بن الحسن الطوسي (شيخ الطائفة)، تحقيق حسن الموسوي الخرسان، دار الكتب الإسلامية، طهران، ط3، (1394هـ).
  57. تهذيب الأصول، تقرير بحث السيد الخميني للسبحاني، انتشارات دار الفكر، قم.
  58. تهذيب الوصول إلى علم الأصول، الحسن بن يوسف بن المطهر (العلامة الحلي)، تحقيق محمد حسين الرضوي الكشميري، مطبعة ستارة، قم، ط1، (1421هـ).
  59. التوحيد، محمد بن علي القمي (الصدوق)، تصحيح وتعليق هاشم الحسيني الطهراني، منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلمية، قم المقدسة.
  60.  ثواب الأعمال وعقاب الأعمال، محمد بن علي القمي (الصدوق)، تقديم محمد مهدي الخرسان، منشورات الشريف الرضي، مطبعة أمير، قم، ط2، (1368ش).
  61.  جامع الرواة، محمد بن علي الأردبيلي، نشر مكتبة المحمدي.
  62.  الجامع الصغير في أحاديث البشير النذير، جلال الدين السيوطي، نشر دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، ط1، (1401هـ).
  63.  جامِعُ المقاصِدْ في شرح القواعد، عليّ بن الحسين الكركي، تحقيق مؤسَّسة آل البيت  عليهم السلام  لإحياء التراث، مطبعة المهدية، قم، ط1، (1408هـ).
  64.  جامع بيان العلم وفضله، الحافظ ابن عبد البر، دار الكتب العلمية، بيروت، (1398هـ).
  65. جواهرُ الكلام في شرح شرائع الإسلامي، محمد حسن النجفي (الشيخ الجواهري)، تحقيق وتعليقُ عباس القوجاني، مطبعة خورشيد، نشر دار الكتب الإسلامية، طهران، ط2، (1365ش).
  66.  حاشية الدّسوقي، محمد عرفه الدسوقي، نشر دار إحياء الكتب العربية.
  67.  الحاشية على استصحاب القوانين، مرتضى الأنصاري (الشيخ الأعظم)، لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم، مطبعة باقري، قم، ط1، (1415هـ).
  68.  الحبل المتين (رسالة الشيخ البهائي الوجيزة)، محمد بن الحسين العاملي، نشر منشورات مكتبة بصيرتي، قم، طبعة حجري.
  69.  الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة، يوسف البحراني، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين، قم.
  70.  حقائق الأصول، محسن الطباطبائي الحكيم، مطبعة الغدير، نشر مكتبة بصيرتي، قم، ط5، (1408هـ).
  71. الحكمة المتعالية في الاسفار العقلية الاربعة، صدر الدين محمد الشيرازي، الناشر دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان، ط3، (1981م)
  72. حواشي الشّرواني، عبد الحميد الشَّرواني وأحمد بن قاسم العبادي، دار إحياء التراث العربي، بيروت.
  73.  الخصال، محمد بن علي القمي (الصدوق)، تصحيح وتعليق علي أكبر الغفاري، منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلمية، قم المقدسة، (1403هـ).
  74.  خصائص أمير المؤمنين  عليهم السلام ، أحمد بن شعيب النسائي، حققه وصحح أسانيده ووضع فهارسه محمد هادي الأمين، مكتبة نينوى الحديثة.
  75.  خلاصة الأقوال في معرفة الرجال، الحسن بن يوسف (العلامة الحلي)، تحقيق جواد القيومي، مطبعة مؤسسة النشر الإسلامي، ط1، (1417هـ).
  76.  الخلاف، محمد بن الحسن الطوسي، تحقيق جماعة من المحققين، مؤسسة النشر الإسلامي، (1407هـ).
  77.  درر الفوائد، عبد الكريم الحائري اليزدي، تحقيق محمد مؤمن القمي، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين، قم، ط5.
  78.  الدروس الشرعية في فقه الإمامية، محمد بن مكي العاملي (الشهيد الأول)، تحقيق ونشر مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين، قم.
  79.  دعائم الإسلام، النعمان بن محمد المغربي (القاضي النعمان المغربي)، تحقيق آصف بن علي أصغر فيضي، نشر دار المعارف القاهرة، (1383هـ).
  80.  ذخيرة المعاد في شرح الإرشاد، محمد باقر السبزواري، نشر مؤسسة آل البيت  عليهم السلام  لإحياء التراث، طبعة حجري.
  81.  الذّخيرة، شهابُ الدّين بن أحمد القرافي، تحقيق محمد حجي، نشر دار الغرب، بيروت، (1994م).
  82.  الذّريعة إلى أصول الشريعة، علي بن الحسين الموسوي (الشريف المرتضى)، تحقيق أبو القاسم كرجي، مطبعة دانشكاه، طهران، (1346ش).
  83.  الذريعة إلى تصانيف الشيعة، آغا بزرك الطهراني، دار الأضواء، بيروت، ط3، (1403هـ).
  84.  ذكرى الشيعة في أحكام الشريعة، محمد بن مكي العاملي (الشهيد الأول)، تحقيق مؤسسة آل البيت  عليهم السلام  لإحياء التراث، مطبعة ستارة، قم، ط1، (1419هـ).
  85.  رجال ابن الغضائري، أحمد بن الحسين البغدادي، تحقيق محمد رضا الحسيني الجلالي، مطبعة سرور، نشر دار الحديث، ط1، (1422هـ).
  86.  رجال ابن داود، الحسن بن علي بن داود الحلي، تحقيق محمد صادق آل بحر العلوم، المطبعة الحيدرية، النجف الأشرف، (1392هـ).
  87.  رجال الطوسي، محمد بن الحسن الطوسي، تحقيق جواد الإصفهاني، نشر مؤسسة النشر الإسلامي، ط1، (1415هـ).
  88.  رجال النجاشي، أحمد بن علي النجاشي الكوفي، تحقيق موسى الزنجاني، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين، قم.
  89. الرسالة، محمّد بن إدريس الشافعي (الإمام المطلبي)، تحقيق وشرح أحمد محمد شاكر، نشر المكتبة العلمية، بيروت.
  90. الرسالة، محمد بن إدريس الشافعي، تحقيق أحمد محمد شاكر، القاهرة، (1358هـ).
  91. رسائل الشريف المرتضى، علي بن الحسين الموسوي (الشريف المرتضى)، تقديم وإشراف أحمد الحسيني، إعداد مهدي الرجائي، مطبعة سيد الشهداء، قم، (1405هـ).
  92.  الرسائل الفقهية، محمد باقر الوحيد البهبهاني، تحقيق مؤسسة العلامة المجدد الوحيد البهبهاني، ط1، (1419هـ).
  93. رسائل الكركي، عليّ بن الحسين الكركي (المحقّق الثاني)، تحقيق محمد الحسون، مطبعة الخيام، قم، ط1، (1409هـ).
  94.  رسائل فقهية، مرتضى الأنصاري (الشيخ الأعظم)، تحقيق لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم، مطبعة باقري، قم، ط1، (1414هـ).
  95.  الرسائل، روح الله الموسوي الخميني، تحقيق وتذييل مجتبى الطهراني، طبع مؤسسة إسماعيليان، (1385هـ).
  96.  روضُ الجنان في شرح إرشاد الأذهان، زين الدين العاملي (الشهيد الثاني)، مؤسَّسة آل البيت  عليهم السلام  لإحياء التراث، قم، طبعة حجري.
  97.  الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية، زين الدين العاملي (الشهيد الثاني)، تحقيق محمد كلانتر، منشورات جامعة النجف الدينية، ط2، (1398هـ).
  98.  روضةُ الناظر وجنة المناظر، عبد الله بن أحمد المقدسي، تحقيق د. عبد العزيز عبد الرحمن السعيد، نشر جامعة الإمام محمد بن سعود، الرياض، ط2، (1399هـ).
  99. رياض المسائل، السيد علي الطباطبائي، تحقيق مؤسسة النشر الإسلامي، ط1، (1412هـ).
  100.  زبدة الأصول، محمد بن الحسين العاملي (الشيخ البهائي)، تحقيق فارس حسون كريم، نشر مرصاد، مطبعة زيتون، ط1، (1423هـ).
  101.  السرائر، محمد بن منصور الحلي، تحقيق لجنة التحقيق في مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين، قم، ط2، (1410هـ).
  102. سنن ابن ماجة، ابو عبد الله محمد بن يزيد القزويني، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، نشر دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع.
  103.  سنن الدار قطني، علي بن عمر الدار قطني، تعليق وتخريج مجدي بن منصور سيد الشوري، نشر دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، (1417هـ).
  104.  سنن الدارمي، عبد الله بن بهرام الدارمي، مطبعة الاعتدال، دمشق، (1349هـ).
  105.  سير أعلام النبلاء، محمد بن أحمد الذهبي، تحقيق شعيب الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط9، (1413هـ).
  106. الشافي في الإمامة، علي بن الحسين الموسوي (الشريف المرتضى)، تحقيق عبد الزهراء الحسيني الخطيب، مؤسسة الصادق للطباعة والنشر، طهران، (1407هـ).
  107. شرائع الإسلامي في مسائل الحلال والحرام، جعفر بن الحسن (المحقق الحلي)، تعليق صادق الشيرازي، مطبعة أمير، قم، انتشارات استقلال، طهران، ط2، (1409هـ).
  108.  شرح الرّضيّ على الكافية، رضيّ الدّين الاسترآبادي، تصحيح وتعليق يوسف حسن عمر، نشر مؤسسة الصادق، طهران، (1395هـ).
  109. الشرح الكبير على متن المقنع، عبد الرحمن بن قدامة المقدسي، دار الكتاب العربي للنشر والتوزيع، بيروت، طبعة أوفسيت.
  110. شرح المقاصد، سعد الدين التفتزاني، مطبعة البسنوي، (1305هـ).
  111.  شرحُ المقدّمة، حسن ابن الشيخ جعفر كاشف الغطاء، طبعة قديمة.
  112. شرح المواقف، عبد الرحمن بن احمد الايجي، تحقيق علي بن محمد الجرجاني، مطبعة السعادة، مصر، (1325هـ).
  113.  شرحُ الوافية، مُحْسِنْ بن الحسن الأعرجيّ (المقدّس الكاظمي)، مخطوط في مكتبة كاشف الغطاء العامة برقم 119.
  114. شرح شافية ابن الحاجب، رضي الدين الاسترآبادي، تحقيق وضبط وشرح محمد نور الحسن، محمد الزفزاف، محمد محيي الدين عبد الحميد، نشر دار الكتب العلمية، بيروت، (1395هـ).
  115. شرح مختصر المنتهى الاصولي، ابن الحاجب، تحقيق محمد حسن محمد اسماعيل، منشورات دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان.
  116.  شرح نهج البلاغة، عبد الحميد بن هبة الله بن أبي الحديد، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، نشر دار إحياء الكتب العربية، ط1، (1378هـ).
  117.  الشمسية، محمود بن محمد الرازي (قطب الدين الرازي)، طبعة حجري.
  118.  صحيح البخاري، محمد بن اسماعيل البخاري، نشر دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، طبعة أوفسيت عن طبعة دار الطباعة العامرة باسطنبول، (1401هـ).
  119.  صحيح مسلم بشرح النووي، محيي الدّين النووي، نشر دار الكتاب العربي، بيروت، (1407هـ).
  120. الصراط المستقيم، عليّ بن يونس العاملي، تصحيحُ وتعليق محمد الباقر البهبودي، مطبعة الحيدري، نشر المكتبة المرتضوية لإحياء الآثار الجعفرية، ط1، (1384هـ).
  121.  طرائف المقال في معرفة طبقات الرجال، علي أصغر بن محمد شفيع البروجردي، تحقيق مهدي الرجائي، نشر مكتبة آية الله العظمى النجفي المرعشي، مطبعة بهمن، قم، ط1، (1410هـ).
  122.  عُدَّةُ الداعي ونجاحُ الساعي، أحمد بن فهد الحلي، تصحيح وتعليق أحمد الموحدي القمي، نشر مكتبة وجداني، قم.
  123.  العدّة في أصول الفقه، محمد بن الحسن الطوسي، تحقيقُ مُحمَّدرضا القمي، مطبعة ستارة، قم، ط1، (1417هـ).
  124.  العروة الوثقى، السيّد مُحمَّد كاظم الطباطبائي، تحقيق ونشر مؤسسة النشر الإسلامي، ط1، (1417هـ).
  125. العقد الطهماسبي، حسين بن عبد الصَّمد العاملي (والد الشيخ البهائي)، مخطوط في مكتبة كاشف الغطاء العامة برقم 73.
  126. عمدة القاري، محمود بن احمد العيني، مطبعة دار إحياء التراث العربي، بيروت.
  127. العناوين الفقهية، مير عبد الفتاح الحُسيني المراغي، تحقيق ونشر مؤسسة النشر الإسلامي، ط1، (1417هـ).
  128. عناية الأصول في شرح كفاية الأصول، مرتضى الحسيني اليزدي الفيروزآبادي، نشر منشورات الفيروزآبادي، قم، ط7، (1386هـ).
  129. عوالي اللئالي العزيزية في الأحاديث الدينية، محمد بن علي الإحسائي (ابن أبي جمهور)، تحقيق مجتبى العراقي، مطبعة سيد الشهداء، قم، ط1، (1403هـ).
  130. عوائد الأيام، أحمد بن مهدي النراقي، تحقيق مركز الأبحاث والدراسات الإسلامية، مطبعة مكتبة الإعلام الإسلامي، ط1، (1417هـ).
  131. عون المعبود شرح سنن أبي داود، محمد شمس الحق العظيم آبادي، دارُ الكتب العلمية، بيروت، ط2، (1415هـ).
  132.  العين، عبد الرحمن الخليل بن أحمد الفراهيدي، تحقيق د. مهدي المخزومي، د. إبراهيم السامرائي، نشر مؤسسة دار الهجرة، ط2، (1409هـ).
  133. عيون أخبار الرضا  عليهم السلام ، محمد بن علي القمي (الصدوق)، صححه وقدم له وعلق عليه الشيخ حسين الأعلمي، منشورات مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت، (1404هـ).
  134.  الغدير في الكتاب والسنة والأدب، عبد الحسين أحمد الأميني، نشر دار الكتاب العربي، بيروت، ط4، (1397هـ).
  135.  غنائم الأيام في مسائل الحلال والحرام، محمد بن حسن (أبو القاسم القمي)، تحقيق عباس تبريزيان، مطبعة مكتب الإعلام الإسلامي، ط1، (1417هـ).
  136.  غنية النزوع إلى علمي الأصول والفروع، حمزة بن علي بن زهرة الحلبي، تحقيق إبراهيم البهادري، مطبعة اعتماد، قم، ط1، (1417هـ).
  137.  الغيبة، محمد بن الحسن الطوسي (شيخ الطائفة)، تحقيق عبد الله الطهراني وعلي أحمد ناصح، مطبعة بهمن، نشر مؤسسة المعارف الإسلامية، قم، ط1، (1411هـ).
  138. فتح الباري، احمد بن حجر العسقلاني، مطبعة دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت، ط2.
  139.  فرائد الأصول، مرتضى الأنصاري (الشيخ الأعظم)، تحقيق لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم، مجمع الفكر الإسلامي، مطبعة باقري، قم، ط1، (1419هـ).
  140. الفصولُ الغروية في الأصول الفقهية، محمد حسين الحائري، مطبعة نمونة، قم، (1404هـ).
  141.  الفصول المهمّة في أصول الأئمة، محمد بن الحسن الحر العاملي، تحقيق محمد بن محمد الحسين القائيني، نشر مؤسسة معارف إسلامي إمام رضا  عليهم السلام ، ط1، (1418هـ).
  142.  الفصول في الأصول، أحمد بن علي الجصاص، دراسة وتحقيق د. عجيل جاسم النمشي، ط1، (1405هـ).
  143.  فقه الصّادق، محمد صادق الحسيني الروحاني، المطبعة العلمية، نشر مؤسَّسة دار الكتاب، قم، ط3، (1412هـ).
  144.  الفهرست، محمد بن الحسن الطوسي، تحقيق جواد القيومي، طبع ونشر مؤسسة نشر الفقاهة، مطبعة مؤسسة النشر الإسلامي، ط1، (1417هـ).
  145.  فوائد الأصول، محمد علي الكاظمي الخراساني، بحث محمد حسين النائيني، تعليق آغا ضياء العراقي، مؤسسة النشر الإسلامي، (1404هـ).
  146.  الفوائد الحائرية، الوحيد البهبهاني، نشر مجمع الفكر الإسلامي، مطبعة باقري، قم، ط1، (1415هـ).
  147.  الفوائد الرجال، محمد المهدي بحر العلوم (سيد الطائفة)، تحقيق محمد صادق بحر العلوم، حسين بحر العلوم، مطبعة آفتاب، ط1، (1363ش).
  148.  الفوائد العلية، علي البهبهاني، المطبعة العلمية، قم، ط2، (1405هـ).
  149.  الفوائد المدنية والشواهد المكية، محمد أمين الأسترآبادي، نور الدين العاملي، تحقيق رحمة الله الرحمتي الآراكي، طبع ونشر مؤسسة النشر الإسلامي، قم، ط1، (1424هـ).
  150. قاعدة لا ضرر ولا ضرار، السيد عليّ الحسيني السيستاني، نشر مكتبة آية الله العظمى السيد السيستاني، قم، ط1، (1414هـ).
  151. قاعدة لا ضرر، آغا ضياء الدين العراقي، نشر دفتر تبليغات اسلامي، (1418هـ).
  152. قاعدة لا ضرر، فتح الله الاصفهاني (شيخ الشريعة)، مؤسسة النشر الاسلامي جامعة مدرسين،
  153. قرب الإسناد، عبد الله بن جعفر الحميري، مؤسسة آل البيت  عليهم السلام  لإحياء التراث، مطبعة مهر، قم، ط1، (1413هـ).
  154.  قفو الأثر في صفوة علوم الأثر، محمد بن إبراهيم الحنفي، تحقيق عبد الفتاح أبو غدة، مكتبة المطبوعات الإسلامية، حلب، ط2، (1408هـ).
  155. قلائد الفرائد، غلام رضا القمي، مؤسسة الامام الصادق  عليهم السلام  للتحقيق والتأليف، مطبعة العلمية، قم، (1414هـ).
  156. القواعد الفقهية، ناصر مكارم الشيرازي، طباعة ونشر مدرسة الامام امير المؤمنين  عليهم السلام ، ط3، (1411هـ).
  157. قواعد المرام في علم الكلام، ميثم بن علي البحراني، تحقيق أحمد الحسيني، مطبعة الصدر، ط2، (1406هـ).
  158. القوانين المحكمة في الأصول المتقنة، أبو القاسم محمد حسن القمي، شرحه وعلق عليه رضا حسين صبح، مطبعة ثامن الحجج، قم، ط1، (2009م).
  159.  الكافي في الفقه، أبو الصلاح الحلبي، تحقيق رضا استادي، مكتبة الإمام أمير المؤمنين علي  عليهم السلام  العامة، اصفهان.
  160.  الكافي، محمد بن يعقوب الكليني، صَحَّحَهُ وعَلَّق عليه علي أكبر الغفاري، دار الكتب الإسلامية، طهران، ط3.
  161.  كتاب سليم بن قيس الهلالي، سليم بن قيس الهلالي، تحقيق محمد باقر الأنصاري.
  162.  كشف الأسرار عن أصول فخر الإسلام البزدوي، علاء الدين البخاري، تحقيق عبد الله محمود محمد عمر، دار الكتب العلمية، بيروت، (1418هـ).
  163.  كَشْفُ الرّموز في شَرْحِ المختصر النافع، زين الدين بن أبي طالب (الفاضل الآبي)، تحقيق علي بناه الاشتهاردي، حسين اليزدي، نشر مؤسسة النشر الإسلامي، (1408هـ).
  164. كَشْفُ الغطاء عن مُبْهَمَاتِ الشريعة الغرّاء، الشيخ جعفر كاشف الغطاء، نشر مركز انتشارات دفتر تبليغات اسلامي حوزة علمية، قم.
  165.  كشف اللثام عن قواعد الأحكام، محمد بن الحسن الإصفهاني (الفاضل الهندي)، تحقيق ونشر مؤسسة النشر الإسلامي، ط1، (1416هـ).
  166. كفاية الاصول للاخوند الخراساني مع حواشي المشكيني، ابو الحسن بن عبد الحسين المشكيني، تحقيق سامي الخفاجي، دار الحكمة، قم، ايران، (1415هـ).
  167.  كفاية الأصول، محمد كاظم الخراساني (الآخوند)، تحقيق مؤسسة آل البيت  عليهم السلام  لإحياء التراث، مطبعة مهر، قم، ط1، (1409هـ).
  168.  كمالُ الدّين وتمام النعمة، محمد بن علي القمي (الصدوق)، صَحَّحَهُ وعَلَّقَ عليه علي أكبر الغفّاري، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم، (1405هـ).
  169. كنز العمال في سنن الأقول والأفعال، علي المتقي بن حسام الدين الهندي، ضبط وتفسير بكري حياتي، نشر مؤسسة الرسالة، بيروت، (1409هـ).
  170.  كنز الفوائد، محمد بن علي الكراجكي، طبعة حجري، مطبعة غدير، ط2، (1369ش).
  171.  الكنى والألقاب، عباس بن محمد رضا القمي، نشر مكتبة الصدر، طهران.
  172.  اللمع في أصول الفقه، علي بن إبراهيم الشيرازي، نشر دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، (1405هـ).
  173. اللُّمعة الدمشقية، محمَّد بن مكّي العاملي (الشهيد الأول)، مطبعة قدس، نشر دار الفكر، قم، ط1، (1411هـ).
  174.  مبادئ الوصول إلى علم الأصول، الحسن بن يوسف بن المطهر (العلامة الحلي)، تحقيق عبد الحسين محمد علي البقال، مطبعة مكتب الإعلام الإسلامي، ط3، (1404هـ).
  175.  المبسوط في فقه الإمامية، محمد بن الحسن الطوسي (شيخ الطائفة)، تصحيح وتعليق محمد تقي الكشفي، المطبعة الحيدرية، طهران، (1387هـ).
  176. المبسوط، شمسُ الدّين السّرخسي، نشر دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، (1406هـ).
  177.  مجمع الأفكار ومطارح الأنظار، هاشم الآملي النجفي، نشر المكتبة العلمية، (1395هـ).
  178.  مجمع البحرين، فخر الدين الطريحي، تحقيق أحمد الحسيني، نشر مكتب النشر والثقافة الإسلامية، (1408هـ).
  179.  مجمع البيان في تفسير القرآن، الفضل بن الحسن الطبرسي، حققه وعلق عليه لجنة من العلماء والمحققين والأخصائيين، منشورات مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت، ط1، (1415هـ).
  180.  مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، علي بن أبي بكر الهيثمي، نشر دار الكتب العلمية، بيروت، (1408هـ).
  181.  مجمع الفائدة والبرهان في شرح إرشاد الأذهان، أحمد الأردبيلي، تحقيق آغا مجتبى العراقي، علي بناه الاشتهاردي، آغا حسين اليزدي الإصفهاني، منشورات جماعة المدرسين، قم.
  182.  المجموع، محيي الدّين بن شرف النووي، دار الفكر.
  183.  المحاسن، أحمد بن محمد بن خالد البرقي، تصحيح وتعليق جلال الدين الحسيني، دار الكتب الإسلامية، (1370هـ).
  184.  المحصول في علم أصول الفقه، محمد بن عمر بن الحسين الرازي، تحقيق د. طه جابر فايض العلواني، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط2، (1412هـ).
  185.  مختصر المزني، إسماعيل بن يحيى المزني، نشر دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت.
  186.  المختصر النافع في فقه الإمامية، جعفر بن الحسن (المحقق الحلي)، نشر قسم الدراسات الإسلامية في مؤسسة البعثة، طهران، ط3، (1410هـ).
  187.  مختلف الشيعة، الحسن بن يوسف بن المطهر (العلامة الحلي)، مُؤسَّسة النَّشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرسين، قم، ط2، (1413هـ).
  188. مدارك الأحكام في شرح شرائع الإسلام، محمد بن علي العاملي، تحقيق مؤسسة آل البيت  عليهم السلام  لإحياء التراث، مطبعة مهر، قم، (1410هـ).
  189.  المدخل إلى مذهب الإمام أحمد بن حنبل، عبد القادر بن بدران الدمشقي، تحقيق د. عبد الله بن عبد المحسن التركي، نشر مؤسسة الرسالة، بيروت، ط2، (1401هـ).
  190.  المدخل للفقه الإسلامي، محمد سلام مدكور، مطبعة الرسالة، مصر.
  191.  مرآة العقول في شرح أخبار الرسول، محمد باقر المجلسي، نشر دار الكتب الإسلامية، طهران، ط4، (1379ش).
  192. مراة الكتب، علي بن موسى التبريزي (ثقة الاسلام)، تحقيق محمد علي الحائري، مكتبة اية الله العظمى المرعشي، مطبعة صدر، قم، ط1، (1414هـ).
  193.  مسالك الأفهام إلى تنقيح شرائع الإسلام، زين الدين بن علي العاملي (الشهيد الثاني)، تحقيق ونشر مؤسسة المعارف الإسلامية، مطبعة بهمن، قم، ط1، (1413هـ).
  194. المسائل السروية، محمد بن محمد البغدادي (الشيخ المفيد)، تحقيق صائب عبد الحميد، نشر دار المفيد للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، ط2، (1414هـ).
  195. مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل، حسين النوري الطبرسي، تحقيق مؤسسة آل البيت  عليهم السلام  لإحياء التراث، ط1، (1408هـ).
  196. المستدرك على الصحيحين، الحاكم النيسابوري، إشراف الدكتور يوسف عبد الرحمن المرعشلي، دار المعرفة، بيروت.
  197. مستدركات أعيان الشيعة، حسن الأمين، دار التعارف، بيروت، ط1، (1418هـ).
  198. المستصفى في علم الأصول، ابو حامد محمد بن محمد الغزالي، طبعه وصححه محمد عبد السلام الشافي، دار الكتب العلمية، بيروت.
  199.  مستطرفات السرائر، محمد بن احمد بن إدريس الحلي، مؤسسة النشر الإسلامي، ط2، (1411هـ).
  200. مستمسك العروة الوثقى، محسن الطباطبائي الحكيم، منشورات مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي، قم، (1404هـ).
  201.  مستند الشيعة في أحكام الشريعة، أحمد بن مهدي النراقي، تحقيق مؤسسة آل البيت  عليهم السلام ، مَشْهَدْ المقدَّسة، مطبعة ستارة، قم، ط1، (1415هـ).
  202.  مستند العروة الوثقى، أبو القاسم الموسوي الخوئي، منشورات مدرسة دار العلم، المطبعة العلمية، قم، ط1، (1411هـ).
  203.  مسند أحمد، أحمد بن حنبل، دار صادر، بيروت.
  204. المسودة في أصول الفقه، عبد السلام وعبد الحليم وأحمد عبد الحليم آل تيمية، تحقيق محيي الدين عبد الحميد، نشر المدني، القاهرة.
  205.  مشارق الشموس في شرح الدروس، حسين بن جمال الدين الخونساري، نشر مؤسسة آل البيت  عليهم السلام  لإحياء التراث.
  206. مصباح الأصول، تقريرُ بحث السيّد الخوئي لمحمد سَرْوَرْ الحسيني البهسودي، المطبعة العلمية، قم، نشر مكتبة الداوري، قم، ط5، (1417هـ).
  207.  مصباح الفقيه، آغا رضا الهمداني، مطبعة حيدري، منشورات مكتبة الصدر، طهران، طبعة حجري.
  208.  المصباح، ابراهيم بن علي العاملي الكفعمي، نشر مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت، ط3، (1403هـ).
  209.  مُصنَّفُ ابن أبي شيبة في الأحاديث والآثار، عبد الله بن أبي شيبة الكوفي، تحقيق وتعليق سعيد اللحام، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، ط1، (1409هـ).
  210.  معارج الأصول، جعفر بن الحسن (المحقق الحلي)، إعداد محمد حسين الرضوي، مطبعة سيد الشهداء، قم، ط1، (1413هـ).
  211. معالم الدّين وملاذ المجتهدين، جمالُ الدّين الحسن (ابن الشهيد الثاني)، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين، قم.
  212. المعتبر في شرح المختصر، جعفر بن الحسن (المحقق الحلي)، تحقيق عدة من الأفاضل بإشراف ناصر مكارم شيرازي، مطبعة مدرسة الإمام أمير المؤمنين  عليهم السلام ، (1364ش).
  213. المغني، عبد الله بن أحمد بن قدامة، نشر دار الكتاب العربي للنشر والتوزيع، بيروت، أوفسيت.
  214. مفاتيح الأصول، محمد الطباطبائي (المجاهد)، نشر مؤسسة آل
    البيت  عليهم السلام .
  215. مفتاح الكرامة في شرح قواعد العلامة، محمد جواد الحسيني العاملي، تحقيق وتعليق محمد باقر الخالصي، مطبعة مؤسسة النشر الإسلامي، ط1، (1419هـ).
  216. المكاسب، مرتضى الأنصاري (الشيخ الأعظم)، لجنة تحقيق تراثنا، مطبعة باقري، قم، ط3، (1420هـ).
  217. من لا يحضره الفقيه، محمد بن علي القمي (الصدوق)، صَحَّحه وعلَّقَ عليه علي أكبر الغفّاري، نشر مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم، ط2.
  218.  منتقى الأصول، تقرير بحث السيد محمد الحسيني الروحاني، عبد الصاحب الحكيم، مطبعة الهادي، ط2، (1416هـ).
  219.  منتهى الأصول، حسن بن علي أصغر البجنوردي، طبعة حجري.
  220. منتهى الدراية في توضيح الكفاية، محمد جعفر الجزائري (المروج)، مطبعة غدير، نشر دار الكتاب الجزائري للطباعة والنشر، ط6، (1415هـ).
  221. منتهى المطلب في تحقيق المذهب، الحسن بن يوسف بن المطهر (العلامة الحلي)، تحقيق قسم الفقه في مجمع البحوث الإسلامية، طبع مؤسسة الطبع والنشر في الآستانة الرضوية المقدسة، ط1، (1412هـ).
  222.  منتهى المطلب، الحسن بن يوسف بن المطهر (العلامة الحلي)، طبعة حجري.
  223. المنخول من تعليقات الأصول، ابو حامد محمد بن محمد الغزالي، تحقيق د. محمّد حسن هيتو، مطبعة دار الفكر المعاصر، بيروت، نشر دار الفكر، دمشق، ط2، (1419هـ).
  224. منهاج الفقاهة، محمَّد صادق الرَّوحاني، المطبعة العلمية، ط4، (1418هـ).
  225.  منهاج الهداية، إبراهيم الكرباسي، مخطوط.
  226.  مُنية الطّالب في شرح المكاسب، تقرير بحث الميرزا محمّد حسين النائيني لموسى الخوانساري، تحقيقُ مؤسَّسة النشر الإسلامي، ط1، (1418هـ).
  227.  المهذَّب، عبد العزيز بن البرّاج الطرابلسي (القاضي ابن البراج)، المطبعة العلمية، قم، مؤسسة النشر الإسلامي، (1406هـ).
  228. المواقف، عضد الدين الأيجي، تحقيق عبد الرحمن عميرة، مطبعة دار الجيل، بيروت، ط1، (1417هـ).
  229. مواهب الجليل لشرح مختصر خليل، محمد بن محمد المغربي (الحطّاب الرُعيني)، ضبط زكريا عميرات، نشر دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، (1416هـ).
  230. الموطأ، مالك بن أنس، تصحيح وتعليق محمد فؤاد عبد الباقي، نشر دار إحياء التراث العربي، بيروت، (1406هـ).
  231. نخبة اللآلي لشرح بدأ الأمالي، محمد بن سليمان الحلبي الريحاوي، نشر مكتبة الحقيقة، اسطنبول، أوفسيت، (1407هـ).
  232. نظرات في التصوّف والكرامات، محمد جواد مغنية، منشورات المكتبة الأهلية، بيروت.
  233. نقد الرجال، مصطفى بن الحسين التفرشي، تحقيق مؤسسة آل
    البيت  عليهم السلام  لإحياء التراث، مطبعة ستاره، قم، ط1، (1418هـ).
  234. تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة، كتاب القضاء والشهادات، فاضل اللنكراني، تحقيق ونشر مركز فقه الأئمة الأطهار  عليهم السلام ، مطبعة اعتماد، قم، ط1، (1423هـ).
  235. نهاية الإحكام في معرفة الأحكام، الحسن بن يوسف بن المطهر (العلامة الحلي)، تحقيق مهدي الرجائي، نشر مؤسسة اسماعيليان للطباعة والنشر والتوزيع، قم، ط2، (1410هـ).
  236. نهاية الأفكار، تقرير بحث آغا ضياء للبروجردي، نشر مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين، قم.
  237. نهاية الدراية في شرح الكفاية، محمد حسين الغروي الإصفهاني، تحقيق مهدي أحدي، أمير كربلائي، مطبعة أمير، قم، ط1، (1374ش).
  238. نهاية النهاية، محمد كاظم الخراساني، تصنيف عبد الحسين الغروي، طبعة حجري.
  239. نهاية الوصول الى علم الاصول، الحسن بن يوسف بن المطهر (العلامة الحلي)، تحقيق ابراهيم النهادري، مطبعة مؤسسة الامام الصادق  عليهم السلام ، ط1، (1425هـ).
  240. النهاية في غريب الحديث والأثر، علي بن محمد بن الأثير، تحقيق طاهر أحمد الزاوي، محمود محمّد الطناحي، نشر مؤسسة إسماعيليان، قم، ط4، (1364ش).
  241. النهاية في مجرّد الفقه والفتاوى، محمد بن الحسن الطوسي (شيخ الطائفة)، انتشارات قدس محمدي، قم.
  242. نهج البلاغة، شرح محمد عبده، مطبعة النهضة، نشر دار الذخائر، قم، ط1، (1412هـ).
  243.  النور الساطع في الفقه النافع، علي كاشف الغطاء، انتشارات طليعة نور، ط1، (1430هـ).
  244. نيل الأوطار من أحاديث سيد الأخيار، محمد بن علي الشوكاني، دار الجيل، بيروت، (1973م).
  245.  هداية المسترشدين، محمد تقي الرازي الإصفهاني، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين، قم.
  246.  الهداية في شرح الكفاية، عبد الحسين بن محمد تقي الدزفولي، مطبعة الآداب، بغداد، (1331هـ).
  247.  الوافية في أصول الفقه، عبد الله بن محمد الخراساني (الفاضل التوني)، تحقيق محمد حسين الرضوي الكشميري، مطبعة إسماعيليان، نشر مجمع الفكر الإسلامي، ط1، (1412هـ).
  248. وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة، محمد بن الحسن الحر العاملي، تحقيق ونشر مؤسسة آل البيت  عليهم السلام  لإحياء التراث، قم، ط2، (1414هـ).
  249.  وسيلة الوصول إلى حقائق الأصول، تقرير بحث السيد أبو الحسن الإصفهاني للسبزواري، تحقيق مؤسسة النشر الإسلامي، ط1، (1419هـ).
  250. وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، احمد بن محمد بن خلكان، تحقيق إحسان عباس، مطبعة دار الثقافة، بيروت.

 


([1]) المصنف، ابن أبي شيبة، ج5، ص358، باب 447 في القاضي ما ينبغي أن يبدأ به قضائه، ح2.

([2]) سورة البقرة: الآية 183.

([3]) سورة البقرة: الآية 41، الآية 91. سورة النساء: الآية 47.

([4]) سورة البقرة: الآية 130، الآية 135.

([5]) يظهر من مواهب الجليل، شمس الدين الطرابلسي المغربي، ج1، ص43. وإرشاد الفحول، الشوكاني، ص162.

([6]) أنظر: الفصول في الأصول، احمد بن علي الرازي الجصاص، ج4، ص307. الإحكام في أصول الأحكام، ابن حزم الاندلسي، ج5، ص642.

([7]) أصول السرخسي، أحمد بن أبي سهل السرخسي، ج2، ص106، وللشافعي في المسألة قولان، كان يقول في القديم: يقدم قول الصحابي على القياس، وهو قول مالك.

([8]) الإحكام في أصول الأحكام، سيف الدين الآمدي، ج4، ص149.

([9]) المصدر السابق، والمختار أنه ليس بحجة مطلقا.

([10]) المستصفى في علم الأصول، ابو حَامِدْ الغزالي، ص168، الأصل الثاني من الأصول الموهومة: قول الصحابي.

([11]) إن مسألة التقليد تخص الجاهل وغير المجتهد فإنه لا دليل على جواز التقليد. قال في كتاب التقليد والإجتهاد، سيد رضا الصدر، ص59، ما نصه: (ولا دليل على حجّيّة قول المجتهد المطلق للمتجزّئ؛ لأنّ دليل جواز التقليد يختصّ بالجاهل وبغير أهل الذكر، والمتجزّئ ليس بجاهل، بل هو من أهل الذكر في المسألة التي اجتهد فيها).

([12]) الإحكام في أصول الأحكام، ابن حزم الاندلسي، ج5، ص642، (وأما الحديث المذكور فباطل مكذوب، من توليد أهل الفسق...). وفي ج6، ص810، (وأما الرواية: أصحابي كالنجوم، فرواية ساقطة...).

([13]) إعلام الموقعين عن رب العالمين، شمس الدين الدمشقي، ج2، ص242، وأما ما يروى عن
النبي صلى الله عليه واله وسلم: (أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم) فهذا الكلام لا يصح عن النبي صلى الله عليه واله وسلم.

([14]) التقرير والتحبير في علم الأصول، ابن أمير الحاج، ج3، ص132، إلاّ أنّ الأول، أي: (أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم) لم يعرف.

([15]) المجموع، محيي الدين النووي، ج1، ص60.

([16]) المصطلحات، اعداد مركز المجمع الفقهي، ص731.

([17]) أنظر: كفاية الاصول تعليقة السبزواري، الآخوند الخراساني، ج2، ص339.

([18]) أنظر: القواعد الفقهية، الشيخ ناصر مكارم الشيرازي، ج1، ص117.

([19]) راجع الفوائد الحائرية، الوحيد البهبهاني، ص315، قال: الفائدة الثانية والثلاثون: ما هو الأصل في فعل المعصوم؟ فعل المعصوم B حجة، فهل الأصل فيه الوجوب، أو الاستحباب، أو الإباحة إلا أن يظهر وجهه، فقيل بالأول، لما ورد من الأمر بالاتباع مطلقا.

وقيل: بالثاني، للاحتياط، لدورانه بين الوجوب وغيره، والاحتياط عندهم مستحب.

وقيل: بالأخير، لأصالة البراءة.

([20]) انظر: شهاب الثاقب في وجوب الجمعة العيني، الفيض الكاشاني، ص64.

([21]) المصطلحات، اعداد مركز المجمع الفقهي، ص326.

([22]) الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية، محمد بن مكي العاملي، ج2، ص109.

([23]) القواعد الفقهية، محمد حسن الموسوي البجنوردي، ج7، ص219.

([24]) نهاية الأفكار، تقرير بحث آغا ضياء الدين العراقي، الشيخ محمد تقي البروجردي، ج3، ص99، (وأما الشهرة العملية) فهي عبارة عن اشتهار العمل بالرواية، والاستناد إليها عند الأصحاب في مقام الفتوى، ومثل هذه هي الجابرة لضعف الرواية، ومصححة للعمل بها، ولو كانت الرواية بحسب القواعد الرجالية في منتهى درجة الضعف.

([25]) مسند أحمد، أحمد بن حنبل، ج5، ص8، ص12. سنن الدارمي، عبد الله الدارمي، ج2،، ص264، باب في العارية مؤداة. سنن ابن ماجة، محمد بن يزيد القزويني، ج2، ص802، باب العارية، ح2400.

([26]) ذكره في عوالي اللئالي العزيزية في الأحاديث الدينية، ابن أبي جمهور الإحسائي، ج3، ص246، ص251.

([27]) الأصول من الكافي، أبو جعفر محمد بن يعقوب الكليني، ج5، ص292 - 293، باب الضرار، ح2.

([28]) معجم ألفاظ الفقه الجعفري، أحمد فتح الله، ص248.

([29]) هداية المسترشدين، الشيخ محمد تقي الشيرازي، ج3، ص441، (وإنما ظهر الخلاف فيه عن نادر من علمائنا، مجهول، عبر عنه الشهيد  عليهم السلام  ببعض الأصحاب، واستقربه  عليهم السلام ).

وفي ص442، (وكيف كان، فقد حكي اختيار ذلك عن المحقق الخوانساري، وربما يعزى ذلك إلى المصنف، نظرا إلى كلامه الآتي..).

([30]) ذكرى الشيعة في أحكام الشريعة، الشهيد الأول، ج1، ص51 - 52، الخامس: ألحق بعضهم المشهور بالمجمع عليه، فإن أراد في الإجماع فهو ممنوع، وإن أراد في الحجة، فقريب لمثل ما قلناه، ولقوة الظن في جانب الشهرة، سواء كان اشتهارا في الرواية، أو الفتوى، فلو تعارضا، فالترجيح للفتوى، إذا علم اطلاعهم على الرواية.

([31]) مشارق الشموس في شرح الدروس، جمال الدين الخوانساري، ج2، ص393، (ط.ق)، في مسألة عدم صحة صوم العيدين ولا أيام التشريق، قال: ولا يبعد تقييد هذه الأخبار بمن كان بمنى، لصحيحة معاوية بن عمار، واشتمالها على التفصيل، مع تحقق الإجماع، أو كمال اشتهار الفتوى بمضمونها بين الأصحاب.

([32]) نقلاً عن أوثق الوسائل في شرح الرسائل، موسى التبريزي، ص118.

([33]) هداية المسترشدين، الشيخ محمد تقي الرازي، ج3، ص441، والمشهور بين الأصحاب، من قدمائهم ومتأخريهم، بل لا خلاف فيما يعرف بينهم - إلا ممن عبر عنه الشهيد  عليهم السلام  ببعض الأصحاب واستقربه- عدم حجية الشهرة، وعدم جواز الاتكال عليها.

([34]) الفصول الغروية في الأصول الفقهية، الشيخ محمد حسين الحائري، ص253. حيث نقل دليل المانعين، وأجاب عنه.

([35]) معالم الدين وملاذ المجتهدين، ابن الشهيد الثاني، ص176.

([36]) رياض المسائل، السيد علي الطباطبائي، ج13، ص193، ما يظهر من قوله: وكونها عامية يجبرها الشهرة.

([37]) نقلا عن أوثق الوسائل في شرح الرسائل، موسى التبريزي، ص118.

([38]) انظر: فوائد الاصول، إفادات الشيخ النائيني، الشيخ محمد علي الكاظمي الخراساني، ج4، ص786.

([39]) منتهى الاصول، محمد حسن الموسوي البجنوردي، ج2، ص91.

([40]) مباحث الاصول، تقرير بحث محمد باقر الصدر، سيد كاظم الحائري، ج2، ص325.

([41]) وسيلة الوصول إلى حقائق الاصول، تقرير بحث الاصفهاني، الميرزا حسن السيادتي، ص563.

([42]) فوائد الاصول، افادات الشيخ النائيني، الشيخ محمد علي الكاظمي الخراساني، ج3، ص156.

([43]) يمكن أن يستفاد هذا الاستدلال مما ذكروه في أجود التقريرات، تقرير بحث النائيني، السيد الخوئي، ج2، ص101.

([44]) عوالي اللئالي العزيزية في الأحاديث الدينية، ابن أبي جمهور الإحسائي، ج4، ص133، ح229.

([45]) رياض المسائل، السيد علي الطباطبائي، ج2، ص364، ثم إنّ المشهور بين الأصحاب أن في حكم الخمر، العصير العنبي إذا غلا واشتد..، فانحصر دليلُ النجاسة في كلام الجماعة. مسالك الإفهام إلى تنقيح شرائع الإسلام، محمد بن مكي العاملي، ج1، ص123، والقول بنجاسة العصير هو المشهور بين المتأخرين، ومستنده غير معلوم.

([46]) هداية المسترشدين، الشيخ محمد تقي الرازي، ج3، ص452.

([47]) الدروس الشرعية في فقه الإمامية، محمد بن مكي العاملي، ج1، ص394، وسابعها: الطواف بين البيت والمقام، فلو أدخله لم يصحّ في المشهور.

([48]) الأصول من الكافي، أبو جعفر محمد بن يعقوب الكليني، ج4، ص413، باب حدّ موضع الطواف، ح1، وهي رواية محمد بن مسلم، قال: (سألته عن حد الطواف بالبيت، الذي من خرج منه لم يكن طائفاً بالبيت)، قال: (كان الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه واله وسلم يطوفون بالبيت والمقام، وأنتم اليوم تطوفون ما بين المقام وبين البيت).

([49]) رسائل الكركي، الشيخ علي بن حسين الكركي، ج1، ص275، والخبر الضعيف الإسناد إذا انجبر بقول الأصحاب وعملهم، ارتقى إلى مرتبة الصحاح، وانتظم في سلك الحجج، وألحق بالمشهور.

ومشارق الشموس في شرح الدروس، جمال الدين الخوانساري، ج1، ص222، (ط.ق).

([50]) الأصول من الكافي، أبو جعفر محمد بن يعقوب الكليني، ج1، ص48.

([51]) الأصول من الكافي، أبو جعفر محمد بن يعقوب الكليني، ج1، ص67 - 68، باب اختلاف الحديث، ح10.

([52]) عوالي اللئالي العزيزية في الأحاديث الدينية، ابن أبي جمهور الإحسائي، ج4، ص133، ح229.

([53]) فوائد الأصول، الشيخ محمد علي الكاظمي الخراساني، ج3، ص153 - 154، وهذه الشهرة الفتوائية لا تكون جابرة لضعف الرواية.

([54]) بدائع الافكار، حبيب الله الرشتي، ص310.

([55]) الحاشية على استصحاب القوانين، الشيخ مرتضى الأنصاري، ص228، الظاهر أنه أراد بالمسألة الأخرى، مسألة أصالة البراءة عند الشك في تحريم شيء، حيثُ أنّ الأخباريين ذهبوا في تلك المسألة إلى أنّ الشبهة إذا كانت في نفس الحكم الشرعي، ومسبباً عن اختفاء الأدلة الشرعية، فلابد من التوقّف في الفتوى، والاحتياط في العمل.

([56]) سورة الطلاق، الآية 7.

([57]) سورة البقرة، الآية 286.

([58]) التوحيد، الشيخ الصدوق، ص353، باب 56 الاستطاعة، ح24. وسند الخصال مطابق لسند التوحيد.

([59]) الخصال، الشيخ الصدوق، ص417، باب التسعة، ح9.

([60]) لا وجود لهذا الحديث في التهذيب، لا بلفظ (وضع) ولا (رفع)، وهو موجود بلفظ (وضع) في الأصول من الكافي، أبو جعفر محمد بن يعقوب الكليني، ج2، ص463، باب ما رفع عن الأمة، ح2.

([61]) الأصول من الكافي، أبو جعفر محمد بن يعقوب الكليني، ج1، ص164، باب حجج الله على خلقه، ح3.

([62]) في مستدرك الوسائل عن عوالي اللئالي عن النبي (ص): الناس في سعة مالم يعلموا. جامع احاديث الشيعة، سيد حسين الطباطبائي، ج1، ص326.

([63]) الأصول من الكافي، أبو جعفر محمد بن يعقوب الكليني، ج5، ص427، باب المرأة التي تحرم على الرجل فلا تحل أبدا، ح3.

([64]) نهاية النهاية، الاخوند الخراساني، تصنيف عبد الحسين الغروي، ج2، ص106.

([65]) المبسوط في فقه الإمامية، أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي، ج7، ص279، في مسألة إذا قصد رجل رجلا في نفسه أو ماله أو حريمه، قال: والأول أقوى؛ لأن دفع الضرر واجب عن النفس بحكم العقل، وكذلك المضطر إلى طعام أو شراب نجس، وجب عليه أن يتناوله.

([66]) اوثق الوسائل في شرح الرسائل، موسى التبريزي، ص270.

([67]) نهاية الأفكار، تقرير بحث آغا ضياء الدين العراقي، الشيخ محمد تقي البروجردي، ج3، ص270، (ولكن الذي يظهر من جماعة، بل قيل إنه المشهور، في مسألة تردّد الفائتة من الصّلاة بين الأقل والأكثر، هو خلافُ ما ذكرنا حيث إنَّ بنائهم في تلك المسألة على وجوب الاحتياط، ولزوم القضاء).

([68]) قال تعالى: [فَلَوْ لاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَة مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ]. (سورة التوبة، الآية 122).

([69]) ومن الآيات الدالة على وجوب السؤال عند الجهل، قوله تعالى: [فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُم لاَ تَعْلَمُونَ]. (سورة النحل، الآية 43).

([70]) راجع الأصول من الكافي، أبو جعفر محمد بن يعقوب الكليني، ج1، ص30 - 31، باب فرض العلم ووجوب طلبه والحث عليه.

([71]) مصباح الاصول، تقرير بحث السيد الخوئي، محمد سرور الواعظ البسهودي، ج2، ص149.

([72]) الأصول من الكافي، أبو جعفر محمد بن يعقوب الكليني، ج5، ص313 - 314، باب النوادر، ح40. ج6، باب الجبن، ص339، ح2. عن أبي عبد الله B، قال: سمعته يقول: (كل شيء هو لك حلال، حتى تعلم أنه حرام بعينه، فتدعه من قبل نفسك... أو تقوم به البينة).

([73]) تهذيب الأحكام، أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي، ج6، ص369، باب المكاسب، ذيل حديث 189، قال: إن كان خلط الحلال حراما، فاختلطا جميعا، ولا يعرف الحلال من الحرام، فلا بأس.

([74]) مستند الشيعة، احمد بن محمد مهدي النراقي، ج10، ص212.

([75]) معالم الدين وملاذ المجتهدين، حسن بن زين العابدين، ص77.

([76]) الاستحباب، الكراهة، الإباحة، بناءً على القول بأنها حكم.

([77]) أنظر: الذريعة أصول الفقه، السيد مرتضى علم الهدى، ج1، ص85، ص99.

([78]) أنظر: اوثق الوسائل في شرح الرسائل، موسى التبريزي، ص46.

([79]) فرائد الاصول، الشيخ مرتضى الأنصاري، ج2، ص182. وأيضاً أنظر: بحر الفوائد في شرح الفرائد، محمد حسن الاشتياني، ج1، ص86.

([80]) أنظر: اوثق الوسائل في شرح الرسائل، موسى التبريزي، ص48.

([81]) المصدر السابق، ص162.

([82]) اوثق الوسائل في شرح الرسائل، موسى التبريزي، ص99.

([83]) أنظر: فرائد الاصول، الشيخ مرتضى الانصاري، ج1، ص367.

([84]) هداية المسترشدين، محمد تقي الرازي، ج3، ص432.

([85]) التعليقة على معالم الاصول، علي الموسوي القزويني، ج5، ص286.

([86]) أوثق الوسائل في شرح الرسائل، موسى التبريزي، ص195.

([87]) أوثق الوسائل في شرح الرسائل، موسى التبريزي، ص190.

([88]) درر الفوائد، الشيخ عبد الكريم الحائري، ج2، ص399.

([89]) التعليقة على معالم الاصول، علي الموسوي القزويني، ج5، ص443.

([90]) تهذيبُ الأحكام، أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي ج1، ص459، باب تلقين المحتضرين، ح142.

([91]) المصدر السابق، قال مُحمَّد بن الحسن: قد اختلف أصحابنا في رواية هذا الخبر وتأويله، فقال محمد بن الحسن الصفار: من جدد بالجيم لا غير..، وقال سعد بن عبد الله: إنما هو من حدد قبرا، بالحاء غير المعجمة، يعني به من سنم قبرا، وقال أحمد ابن أبي عبد الله البرقي: إنما هو من جدث قبرا، بالجيم والثاء، ولم يفسر معناه، ويمكن أن يكون المعنى بهذه الرواية النهي أن يجعل القبر دفعة أخرى، قبرا لإنسان آخر؛ لأن الجدث هو القبر، فيجوز أن يكون الفعل مأخوذا منه.

([92]) نقلت الشهرة في اصطلاحات الأصول، الشيخ علي المشكيني، ص146. (وكذا إذا علم بحرمة الخمر، وشك في أنه هذا المايع أو ذاك، والحكم في هذه الشبهة الاحتياط على المشهور).

([93]) هداية المسترشدين، الشيخ محمد تقي الرازي، ج3، ص599.

([94]) فرائد الأصول، الشيخ مرتضى الأنصاري، ج2، ص200.

([95]) القوانين المحكمة في الأصول المتقنة، الميرزا أبو القاسم القمي، ج3 - 4، ص72.

([96]) الفوائد الحائرية، محمد باقر الوحيد البهبهاني، ص248، وأمَّا الشبهة المحصورة، فعند هؤلاء ليست داخلة فيما لا يعلم، حتّى يشملها أدلة الأصل؛ لأنَّ حرمة أحدهما أو نجاسته يقينية، فيجب امتثالهما قطعاً لعموم أطيعوا الله وغيره، والامتثالُ ممكن وخالٍ عن الحرج، ولا يتأتى إلا بترك المجموع، فأحَدُهما حرام أو نجس، والثاني يجب اجتنابه من باب المقدمة.

أقول: هذه قاعدةٌ وجيهة، إلاّ أنه وَرَدَ في الذي فيه الحلال والحرام، أنّه حلال حتى تعرف الحرام بعينه. انتهى.

([97]) لعله الظاهر من عبارته المتقدمة، إلاّ أنه ورد في الذي فيه الحلال والحرام.

([98]) مشارق الأحكام، محمد بن أحمد النراقي، ص381.

([99]) ينابيع الاحكام في معرفة الحلال والحرام، علي الموسوي القزويني، ص819.

([100]) قوانين الاصول، الميرزا أبو القاسم القمي، ص196.

([101]) لم نعثر على النسبة بهذا التفصيل، راجع الفصول الغروية في الأصول الفقهية، الشيخ محمد حسين الحائري، ص361، ولبعض المتأخرين في هذا المقام قول بجواز تناول ما لا يزيد على قدر الحرام، فلو اشتبه ثوب مملوك بثوب مغصوب جاز استعمال أحدهما مع التجنب عن الآخر، ولو تعددت الثياب وكان أحدها مغصوباً جاز استعمال الجميع ما عدا واحد منها، ولو تعدد الثوب المغصوب وجب ترك ما يساويها واستعمال الباقي.

([102]) لعله يظهر - بتكلف- من كلامه في ذخيرة المعاد في شرح الإرشاد، المحقق محمد باقر السبزواري، ج1، ص138، (ط.ق)، (السادس: لا يبعد أن يكون المشتبه بالمغصوب كالمشتبه بالنجس في وجوب الاجتناب عنه وبطلان الطهارة به للنهي عن استعمال كل منهما، ويشكل نظراً إلى صحيحة عبد الله بن سنان.. (كل شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه).

([103]) الحدائق الناضرة، المحقق يوسف البحراني، ج1، ص443.

([104]) مدارك الأحكام في شرح شرائع الإسلام، السيد محمد بن علي الموسوي العاملي، ج3، ص253، والذي يقتضيه النظر عدم الفرق بين المحصور وغيره وأنه لا مانع من الانتفاع بالمشتبه فيما يفتقر إلى الطهارة إذا لم يستوعب المباشرة لجميع ما وقع فيه الاشتباه.

([105]) هداية المسترشدين، الشيخ محمد تقي الرازي، ج3، ص60، ويعزى إلى بعض الأصحاب قول باستعمال القرعة في المقام، فيحكم بالحل والحرمة على حسب ما أخرجته، ومرجع هذا القول إلى الأول.

([106]) الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة، المحقق يوسف البحراني، ج1، ص516 - 517.

([107]) فرائد الأصول، الشيخ مرتضى الأنصاري، ج2، ص208 - 209، ومنه يظهر أن إلزام القائل بالجواز بأن تجويز ذلك يفضي إلى إمكان التوصل إلى جميع المحرمات على وجه مباح - بأن يجمع بين الحلال والحرام المعلومين تفصيلاً كالخمر والخل على وجهٍ يوجب الاشتباه فيرتكبهما- محل نظر، خصوصاً على ما مثل به من الجمع بين الأجنبية والزوجة.

([108]) الفصول الغروية في الأصول الفقهية، الشيخ محمد حسين الحائري، ص362، وكذا لو أراد وطي أجنبية جاز له أن يحثّ الاشتباه بينها وبين زوجته ثم يأتي إحداهما، فإن صادفها وإلاّ كرر إلى أن يصادفها.

([109]) مستمسك العروة الوثقى، السيد محسن الحكيم، ج5، ص203.

([110]) أنظر: القوانين المحكمة في الأصول المتقنة، الميرزا أبو القاسم القمي، ج1، ص522 - 523.

([111]) لم نعثر على مؤلف في الأصول للشيخ كاظم الشيرازي، ولا على كل ما نسبه إليه المصنف، مع
أنه P نقل عنه كثيراً، ولعل ما نقله عنه كان مشافهة في بحث الدرس، خاصة إذا علمنا بأنه اختص به بدرس خاص لسنوات طويلة.

([112]) الأصول من الكافي، أبو جعفر محمد بن يعقوب الكليني، ج3، ص22، ح1.

([113]) أنظر: عناية الاصول في شرح كفاية الاصول، مرتضى الحسيني اليزدي، ص42.

([114]) الأصول من الكافي، أبو جعفر محمد بن يعقوب الكليني، ج5، ص313، ح40.

([115]) سورة هود، الآية 114.

([116]) تهذيب الأحكام، أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي، ص369، ج6، باب المكاسب، ح189.

([117]) الأصول من الكافي، أبو جعفر محمد بن يعقوب الكليني، ج5، ص313، باب النوادر، ح39.

([118]) المصدر السابق، ج3، ص74، باب النوادر، ح16.

([119]) الحديث نصاً، عن أبي عبد الله B، قال: سمعته يقول: (كل شيء هو لك حلال حتى تعلم أنه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك، وذلك مثل الثوب يكون قد اشتريته وهو سرقة، أو المملوك عندك ولعله حر باع نفسه، أو خدع فبيع، أو قهر، أو امرأة تحتك وهي أختك أو رضيعتك، والأشياء كلها على هذا حتى يستبين لك غير ذلك، أو تقوم به البينة). الأصول من الكافي، أبو جعفر محمد بن يعقوب الكليني، ج5، ص313 - 314، باب النوادر، ح40.

([120]) أنوار الهداية، السيد الخميني، ج2، ص72.

([121]) فوائد الاصول، إفادات النائيني، الشيخ محمد علي الكاظمي الخراساني، ج4، ص23.

([122]) لا يخفى عدم ورود نص بهذه الألفاظ، وهو مستفاد من كثرة الأدلة اللفظية الواردة في حرمة الخمر.

([123]) كفاية الأصول، الآخوند الخراساني، ص88، أو لعدم إمكان تحصيله غير التصويب المجمع على بطلانه.

([124]) تهذيب الاصول، تقرير بحث السيد الخميني، شيخ جعفر السبحاني التبريزي، ج2، ص329.

([125]) جواهر الكلام، الشيخ محمد حسن النجفي الجواهري، ج1، ص301.

([126]) الهداية في الاصول، تقريرات بحث السيد الخوئي، سيد حسن الصافي، ج3، ص78.

([127]) الهداية في الاصول، تقريرات بحث السيد الخوئي، سيد حسن الصافي، ج3، ص395.

([128]) أوثق الوسائل في شرح الرسائل، موسى التبريزي، ص343.

([129]) درر الفوائد في الحاشية على الفرائد، الآخوند الخراساني، ج1، ص59.

([130]) تحريرات في الاصول، السيد مصطفى الخميني، ج7، ص441.

([131]) فوائد الأصول، الشيخ محمد علي الكاظمي الخراساني، ج3، ص15، الأمر الأول: المراد من الأصول المبحوث عنها في المقام من حيث قيامها مع القطع ليس مطلق الأصول، بل خصوص الأصول التنزيلية.

([132]) القواعد الفقهية، السيد محمد حسن الموسوي البجنوردي، ج1، ص306.

([133]) مصباح الفقيه، آغا رضا محمد بن هادي الهمداني، ج2، ص545، (ط.ق)، وفيه: ما تقرّر في محلِّه من أنَّ العلم الإجمالي كالتفصيلي، مُنجِّز للتكليف، وحيثُ إنّه يعلم إجمالا بأنه في الواقع إمّا مكلّف بإعادة الصلاة، أو قضاء المنسي، وجب عليه الاحتياط بالجمع بينهما.

([134]) مباحث الاصول، تقرير بحث محمد باقر الصدر، السيد كاظم الحائري، ج4، ص54.

([135]) نقلا عن منتهى الاصول، تقرير بحث السيد الروحاني، السيد صاحب الحكيم، ج6، ص181.

([136]) فرائد الاصول، الشيخ مرتضى الانصاري، ج1، ص95.

([137]) تعليقة على معالم الاصول، علي الموسوي القزويني، ج5، ص65.

([138]) جامع أحاديث الشيعة، السيد حسين الطباطبائي البروجردي، ج1، ص326.

([139]) فرائد الاصول، الشيخ مرتضى الأنصاري، ج2، ص87.

([140]) نهاية الأصول، تقرير بحث السيد البروجردي، الشيخ منتظري، ج1 ـ 2، ص579.

([141]) تعلقية على معالم الاصول، السيد علي الموسوي القزويني، ج6، ص170.

([142]) على ما حكاه عنه المحقق الحلي قائلاً: المسألة الثانية: يجوز التعبد بخبر الواحد عقلاً، خلافاً لابن قبة من أصحابنا، وجماعة من علماء الكلام. معارج الأصول، المحقق الحلي، ص141.

([143]) المبسوط في فقه الإمامية، أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي، ج3، ص16، إذا قال: هذه الدار لفلان، لا بل لفلان، أو قال: غصبتها من زيد، لا بل من عمرو، فإنَّ إقرارَهُ الأوّلُ لازمٌ، ويكونُ الدار له، وهل يغرمها للثاني أم لا؟ قيل: فيه قولان، أحدهما لا يغرمه..، والآخر وهو الصحيح أنه يغرمها له.

([144]) شرائع الإسلام في مسائل الحلال والحرام، المحقق الحلي، ج2، ص367.

([145]) المصدر السابق، ولو كان لواحد ثوبٌ بعشرين درهماً، ولآخر ثوبٌ بثلاثين درهما، ثمّ اشتبها، فإن خيّر أحدهما صاحبه فقد أنصفه، وإنْ تعاسرا، بيعاً، وقسم ثمنهما بينهما.

([146]) هو آية الله العظمى، الشيخ هادي ابن الشيخ عباس ابن الشيخ علي ابن الشيخ جعفر كاشف الغطاء، ولد (1290هـ) وتوفي سنة (1361هـ).

([147]) فرائد الأصول، الشيخ مرتضى الأنصاري، ج2، ص207.

([148]) الأصول من الكافي، أبو جعفر محمد بن يعقوب الكليني، ج5، ص145، باب الربا، ح5.

([149]) سورة هود، الآية 114.

([150]) تهذيب الأحكام، أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي، ج6، ص369، باب المكاسب، ح189.

([151]) الأصول من الكافي، أبو جعفر محمد بن يعقوب الكليني، ج3، ص74، باب النوادر، ح16.

([152]) عوالي اللئالي العزيزية في الأحاديث الدينية، ابن أبي جمهور الإحسائي، ج2، ص132، ح358.

([153]) لم نعثر عليه في كتب الرواية، نعم عثرنا على ما يقرب منه في تحف العقول، ابن شعبة الحراني، ص60، وقال صلى الله عليه واله وسلم: (لا يبلغ عبد أن يكون من المتقين، حتى يدع ما لا بأس به، حذراً لما به البأس).

([154]) تهذيب الأحكام، أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي، ج9، ص79، باب الذبائح والأطعمة وما يحل من ذلك..، ح71.

([155]) هو محمد بن سنان، ضعفه النجاشي، راجع رجال النجاشي، ابو العباس احمد بن علي النجاشي، ص328، ر888.

([156]) هو عبد الله بن سليمان الصيرفي، مولى، كوفي، ذكر النجاشي أنَّ له أصلٌ، ولم يوثِّقُهُ أو يضعّفه، رجال النجاشي، ابو العباس احمد بن علي النجاشي، ص225 - 226، ر592.

([157]) الدرة النجفية، المحقّق يوسف البحراني، ص5، ونصّ عبارته: روى ثقة الإسلام في الكافي والشيخ في التهذيب بسنديهما عن الصادق B في الجبن، قال: (كلّ شيء لك حَلالٌ حتّى يجيئك شاهدان ويشهدان عندك أنَ فيه ميتة).

([158]) الأصول من الكافي، أبو جعفر محمد بن يعقوب الكليني، ج6، ص339، باب الجبن، ح2. وفي سندها عبد الله بن سليمان.

([159]) المصدر السابق، ج5، ص228، باب شراء السرقة والخيانة، ح3.

([160]) المصدر السابق، ج1، ص67 - 68، باب اختلاف الحديث، ح10.

([161]) المصدر السابق، ج4، ص391، باب القوم يجتمعون على الصيد وهم محرمون، ح1.

([162]) لم نعثر عليه في كتب الحديث المعروفة، وقد وجدناه في الصراط المستقيم، علي بن يونس العاملي، ج3، ص284.

([163]) من لا يحضره الفقيه، الشيخ الصدوق، ج4، ص75، ح5149.

([164]) هداية المسترشدين، الشيخ محمد تقي الرازي، ج3، ص599، وإنْ كان ما وقع فيه الاشتباه محصوراً، فالمعروف من المذهب هو المنعُ من الإقدام على كلٍّ من الأفراد التي وقع فيها الاشتباه، وعدم جواز التصرف في شيء منها حتى يزول الاشتباه بوجه شرعي.

([165]) أنظر: فرائد الأصول، الشيخ مرتضى الأنصاري: ج2، ص84 – 85. تهذيب الأصول، تقرير بحث السيد الخميني، السبحاني، ج2، ص260.

([166]) أنظر: درر الفوائد، الشيخ عبد الكريم الحائري، ج2، ص435، وأيضاً: في فوائد الأصول، الشيخ محمّد علي الكاظمي الخراساني، ج3، ص377.

([167]) فرائد الأصول، الشيخ مرتضى الأنصاري، ج2، ص84، والجواب عنه: ما ذكرنا سابقا، من أن الأمر بالاجتناب عن الشبهة إرشادي، للتحرز عن المضرة المحتملة فيها.

([168]) المصدر السابق، ج2، ص220، ومنها: قوله صلى الله عليه واله وسلم في حديث التثليث: ... وحيثُ إنّ دفع العقاب المحتمل واجب بحكم العقل، وَجَبَ الاجتناب عن كُلِّ مشتبه بالشبهة المحصورة.

([169]) تهذيب الأحكام، أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي، ج1، ص229، باب المياه وأحكامها وما يجوز التطهير به وما لا يجوز، ح45. وأنظر ايضاً، باب تطهير المياه من النجاسات، ص249، ح44.

([170]) المصدر السابق، ج1، ص248، باب تطهير المياه من النجاسات، ح43.

([171]) المعتبر في شرح المختصر، المحقق الحلي، ج1، ص104.

([172]) منتهى المطلب في تحقيق المذهب، الحسن بن يوسف بن المطهر الحلي، ج1، ص176.

([173]) مدارك الأحكام في شرح شرائع الإسلام، السيد محمد بن علي الموسوي العاملي، ج1، ص107.

([174]) تهذيب الأحكام، أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي، ج2، ص225، باب ما يجوز الصلاة فيه من اللباس والمكان وما لا يجوز الصلاة فيه من ذلك، ح95.

([175]) نقلاً بالمضمون.

([176]) تهذيب الأحكام، أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي، ج1، ص422، باب تطهير البدن والثياب من النجاسات، ح8.

([177]) الأصول من الكافي، أبو جعفر محمد بن يعقوب الكليني، ج6، ص260، باب اختلاط الميتة بالذكي، ح2.

([178]) تحف العقول عن آل الرسول، ابن شعبة الحراني، ص480، وأما الرجل الناظر إلى الراعي وقد نزا على شاة، فإن عرفها ذبحها وأحرقها، وإن لم يعرفها قسم الغنم نصفين، وساهم بينهما، فإذا وقع على أحد النصفين فقد نجا النصف الآخر، ثم يفرق النصف الآخر، فلا يزال كذلك حتّى تبقى شاتان فيقرع بينهما، فأيّتها وَقَعَ السَّهْمُ بها ذُبِحَت وأحرقت، ونجا سائر الغنم.

([179]) وقد تقدم ذكره في المقام الأول.

([180]) نقل القول عن أربعين المجلسي في القوانين المحكمة في الأصول المتقنة، الميرزا أبو القاسم القمي،
ج3 - 4، ص72، وقيل: يحل له الجميع، لما ورد في الأخبار الصحيحة: (إذا اشتبه عليك الحلال والحرام فأنت على حِلّ حتى تعرف الحرام بعينه)، وهذا أقوى عقلاً ونقلاً.

([181]) مجمع الفائدة والبرهان في شرح إرشاد الأذهان، المحقق أحمد الأردبيلي، ج1، ص282، والظاهر بناءً على اعتبار قوانين الأصول، واعتبار العلم بالنجاسة، جواز استعمال أيهما أراد على تقدير التساوي.

([182]) ذخيرة المعاد في شرح الإرشاد، المحقق محمد باقر السبزواري، ج1، ص138، (ط.ق).

([183]) مدارك الأحكام في شرح شرائع الإسلام، السيد محمد بن علي الموسوي العاملي، ج1، ص107، وفيه نظر، فإنّ اجتناب النجس لا يقطع بوجوبه إلا مع تحققه بعينه، لا مع الشك فيه.

([184]) غنائم الأيام في مسائل الحلال والحرام، الميرزا أبو القاسم القمي، ج1، ص160.

([185]) مستند الشيعة في أحكام الشريعة، المحقق أحمد بن محمد مهدي النراقي، ج1، ص119 - 120، وأما الثاني: فبمنع وجوب اجتناب النجس مطلقاً، بل اللازم الثابت وجوب الاجتناب عن العلم باستعمال النجس، وهو يحصل باجتنابهما معا، وإنْ لم يجتنب عن كلٍّ منهما بدلا.

([186]) مستند الشيعة في أحكام الشريعة، المحقق أحمد بن محمد مهدي النراقي، ج1، ص120.

أقول: وليس فيه النسبة إلى الظاهر، ولعل مقصوده  عليهم السلام  ظهور عبارة المحقق النراقي في النسبة إلى النافع، كما ليس فيه ذكر لابن طاوُس.

([187]) المختصر النافع في فقه الإمامية، المحقق الحلي، ص4، ولو نجس أحد الإنائين ولم يتعين اجتنب ماؤهما.

أقول: الذي يظهر من عبارة النافع وجوب الموافقة القطعية.

([188]) إرشاد الأذهان إلى أحكام الإيمان، الحسن بن يوسف بن المطهر الحلي، ج1، ص238، ولو اشتبه النجس من الإنائين اجتنبا وتيمم.

أقول: ويظهر منه أيضاً وجوب الموافقة القطعية.

([189]) لم نعثر على الحكاية، والظاهر أن الحاكي يقصد ما ذكره الشيخ قائلا: وإذا نصب الإنسان شبكة يوماً وليلة، أو ما زاد على ذلك، ثم قلعها، وقد اجتمع فيها سمك كثير، جاز له أكل جميعه، وإنْ كان غلب على ظنه أن بعضه مات في الماء؛ لأنه لا طريق له إلى تمييزه من غيره. النهاية في مجرد الفقه والفتاوى، أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي، ص578.

([190]) المهذب، القاضي عبد العزيز ابن البراج، ج2، ص438.

([191]) فرائد الأصول، الشيخ مرتضى الأنصاري، ج2، ص211.

([192]) راجع نهاية الأفكار، تقرير بحث آغا ضياء الدين العراقي، الشيخ محمد تقي البروجردي، ج3، ص331، بل عن المحقق البهبهاني P، دعواه صريحاً، مع زيادة أنه من ضرورة الدين، قال في حاشيته على المدارك: إنّ الإجماع وضرورة الدين وطريقة المسلمين في الأعصار والأمصار على عدم وجوب الاجتناب فيها، ونحوه كلامه الآخر المحكي عن فوائده، وهو كما أفادوه.

([193]) نهاية الأفكار، تقرير بحث آغا ضياء الدين العراقي، الشيخ محمد تقي البروجردي، ج3، ص331، ونقل الاجتماع عليه مستفيض، كما عن الروض ومحكي جامع المقاصد.

([194]) روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان، زين الدين بن علي الشهيد الثاني، ص224، (ط.ق)، وإنما يجب اجتناب المشتبه بالنجس في الموضع المحصور عادة، كالبيت والبيتين، دون غيره، أي غير المحصور عادة، كالصحراء.

([195]) جامع المقاصد في شرح القواعد، المحقق علي بن الحسين الكركي، ج12، ص198 - 199 (إحداهما: أن يكون الاختلاط بعدد غير محصور في العادة، كنسوة بلدة أو قرية كبيرة، فله نكاح واحدة منهن، إذ لولا ذلك لسُدَّ عليه باب النكاح؛ لأنه لو انتقل إلى بلدة أخرى لم يؤمن مسافرتها إليها).

([196]) الظاهر أنه يشير إلى ما قاله في المدارك: والذي يقتضيه النظر عدم الفرق بين المحصور وغيره، وأنه لا مانع من الانتفاع بالمشتبه فيما يفتقر إلى الطهارة إذا لم يستوعب المباشرة لجميع ما وقع فيه الاشتباه. مدارك الأحكام في شرح شرائع الإسلام، السيد محمد بن علي الموسوي العاملي، ج3، ص253.

أقول: لم نعثر على قائل به قبل المدارك.

([197]) تقدم قبل صفحات ما عن الشيخ والقاضي في مسألة السمك المشتبه.

([198]) فرائد الأصول، الشيخ مرتضى الأنصاري، ج2، ص248.

([199]) أي الإمامية.

([200]) فرائد الأصول، الشيخ مرتضى الأنصاري، ج2، ص319، وبتقريب آخر: المشهور بين العدلية أنّ الواجبات الشرعية إنما وَجَبَتْ لكونها ألطافاً في الواجبات العقلية، فاللطف إمّا هو المأمور به حقيقة، أو غرض للآمر، فيجب تحصل العلم بحصول اللطف، ولا يحصل إلا بإتيان كل ما شك في مدخليته.

([201]) الأصول من الكافي، أبو جعفر محمد بن يعقوب الكليني، ج3، ص43، باب صفة الغسل والوضوء قبله، ح1.

([202]) نهاية الأفكار، تقرير بحث آغا ضياء الدين العراقي، الشيخ محمد تقي البروجردي، ج3،
ص401 - 402.

([203]) الهداية في شرح الكفاية، أسد الله التستري الكاظمي، ص93. ونص عبارته: (والظاهر أن من استقرأ تمام الأمثلة يشرف على القطع بما قلنا).

([204]) فوائد الأصول، الشيخ محمد علي الكاظمي الخراساني، ج4، ص161.

([205]) الخصال، الشيخ الصدوق، ص417، باب التسعة، ح9.

([206]) فرائد الأصول، الشيخ مرتضى الأنصاري، ج3، ص352 - 353، نقلا بالمضمون.

([207]) راجع وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة، محمد بن الحسن الحُرّ العاملي، ج27، ص154، ص175، باب 12 من أبواب فات القاضي، حيث ذكر  عليهم السلام  68 حديث في وجوب التوقف والاحتياط في القضاء والفتوى، ونحن نذكر بعضها، ففي حديث الأول: (فإذا أصبتم مثل هذا، فلم تدروا فعليكم بالاحتياط، حتى تسألوا عنه فتعلموا)، وحديث آخر: (الوقوف عند الشبهة خيرٌ من الاقتحام في الهلكة، وتركُكَ حديثاً لم تروه، خيرٌ من روايتك حديثاً لم تحصه).

([208]) مفتاح الكرامة في شرح قواعد العلامة، السيد محمد جواد الحسيني العاملي، ج6، ص620، وإيضاح ذلك: إنّ العبادة توقيفية، ولم نعلم عدم مدخلية الوجه، مع أنّ القول به معروف بين الأصحاب، مجمع عليه عند المتكلمين، حيث قالوا إنه بدونه لا يستحق ثوابا.

ونقل النسبة في فوائد الأصول، الشيخ محمد علي الكاظمي الخراساني، ج3، ص66، وقال: الأمر الأول: ينسب إلى جمهور المتكلمين، وبعض الفقهاء، اعتبار معرفة الوجه وقصده في العبادة، وقد حُكي الإجماع على ذلك أيضاً.

([209]) حُكي في ذكرى الشيعة في أحكام الشريعة، الشهيد الأول محمد بن جمال الدين العاملي: ج4، ص325، وسأل المرتضى  عليهم السلام  عنه - عن ذلك الرضي  عليهم السلام - فقال: الإجماع على أنَّ مَنْ صَلّى صلاة لا يعلم أحكامها فهي غير مجزية.

([210]) رسائل المرتضى، الشريف المرتضى، ج2، ص383، في جوابه على السؤال المتقدم، قال: الجواب: إنا قد بينا أنّ الجهل وإن لم يكن صاحبه معذوراً، بل ملوماً مذموماً، لا يمتنع أن يتغير معه الحكمُ الشرعيُّ، ويكون حكم العالم بخلاف حكم الجاهل، وليس العلم بأن من لزمه التقصيرُ إذا تمَّم صلاته لا يجزيه تلك الصلاة أصلاً.

([211]) لسان العرب، ابن منظور، ج1، ص520.

([212]) الأمالي، إسماعيل بن القاسم القالي، ج1، ص186.

([213]) فرائد الأصول، الشيخ مرتضى الأنصاري، ج3، ص9، الاستصحاب: وهو لغة أخذ الشيء مصاحبا.

([214]) وسيلة الوصول إلى حقائق الأصول، تقرير بحث الإصفهاني، حسن السيادتي السبزواري، ص702، وهو في اللغة: استفعال، من الصحب، بمعنى أخذ الشيء مصاحبا له، وهو فعل المكلف، ومنه الاشتقاقات المعروفة.

([215]) العدة في أصول الفقه، أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي، ج2، ص755، فأمّا استصحاب الحال، فصورته ما يقوله أصحابُ الشافعي.

([216]) لم نعثر على الحكاية على ما في أيدينا من مصادر، والظاهر أن الحاكي يشير إلى ما في المعارج: المسألة الثانية: إذا ثبت حكم في وقت، ثم جاء وقت آخر ولم يقم دليل على انتفاء ذلك الحكم، هل يحكم ببقاءه على ما كان ـ إلى أن قال ـ: مثال ذلك المتيمم إذا دخل في الصلاة، فقد أجمعوا على المضي فيها، فإذا رأى الماء في أثناء الصلاة، فهل يستمر على فعلها استصحابا للحال الأول، أم يستأنف الصلاة بوضوء (لوضوء)، فمن قال بالاستصحاب قال بالأول، ومن اطرحه (طرحه) قال بالثاني. معارج الأصول، المحقق الحلي، ص206.

([217]) كما في ذكرى الشيعة في أحكام الشريعة، محمد بن مكي العاملي، ج1، ص52.

([218]) القوانين المحكمة في الأصول المتقنة، الميرزا أبو القاسم القمي، ج3 - 4، ص128، وبعضهم فرق في استصحاب حال الشرع بين ما ثبت بالإجماع أو بغيره، فنفى الأول دون الثاني، كالغزالي.

المستصفى في علم الأصول، ابو حَامِدْ الغزالي، ج1، ص159.

([219]) الهداية في شرح الكفاية، أسد الله التستري، ص435-439.

([220]) القوانين المحكمة في الأصول المتقنة، الميرزا أبو القاسم القمي، ج3 - 4، ص133، إن الوجدان السليم يحكم بأن ما تحقق وجوده أو عدمه في حال، أو في وقت، ولم يحصل الظن بطروّ عارضٍ يرفعه، فهو مظنون البقاء، وعلى هذا الظّن بناء العالم، وأساس عيش بني آدم.

([221]) الفصول الغروية في الأصول الفقهية، الشيخ محمد حسين الحائري، ص369.

([222]) مباديء الوصول إلى علم الأصول، الحسن بن يوسف بن المطهر الحلي، ص251، ولإجماع الفقهاء على أنه متى حصل حكم، ثم وقع الشك في أنه هل طرأ ما يزيله أم لا؟ وجب الحكم بالبقاء على ما كان أولا.

([223]) نهاية الوصول الى علم الاصول، الحسن بن يوسف بن المطهر الحلي، ج4، ص366.

([224]) راجع الوافية في أصول الفقه، عبد الله بن محمد البشروي، ص218.

([225]) لم نعثر على الحكاية، راجع الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة، المحقق يوسف البحراني، ج1، ص51 - 52، اعلم إنهم صرحوا بأن الاستصحاب يقع على أقسام أربعة: بعد ذكر الاقسام الاربعة قال: وفي المعنى الرابع، وهو محل الخلاف في المقام، ومنتصل سهام النقض والإبرام، فجملة من علمائنا الأصوليين، بل أكثرهم على ما نقله البعض على القول بالحجية، والمشهور بين المحدثين وجملة من علمائنا الأصوليين ـ بل نقل بعض أنه مذهب أكثرهم أيضا على العدم، وهو المنقول عن الشيخ والسيد المرتضى والمحقق، وهو اختيار صاحبي المعالم والمدارك. انتهى.

ثم ذكر أدلة القائلين بالحجية وناقشها، وقال في ص54: وبإبطال ما ذكروه تنتفي الحجية.

([226]) نهاية الوصول الى علم الاصول، الحسن بن يوسف بن المطهر الحلي، ج4، ص363.

([227]) تهذيب الأحكام، أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي، ج1، ص8، باب الأحداث الموجبة للطهارة، ح11.

([228]) منتهى المطلب في تحقيق المذهب، الحسن بن يوسف بن المطهر الحلي، ج2، ص141.

([229]) منتهى الأصول، تقرير بحث السيد الروحاني، السيد صاحب الحكيم، ج6، ص38، وإنما محل الاستدلال بها هو قوله: (وإلا فإنه على يقين من وضوئه، ولا ينقض اليقين أبدا بالشك، ولكن ينقضه بيقين آخر)، الواقع في مقام الجواب عن السؤال عن حكم ما إذا حرك في جنبه شيء ولم يعلم به، الظاهر في كونه سؤالا عن شبهة موضوعية، للشك في تحقق النوم الناقض، وهو نوم الأذن والقلب.

([230]) الاستبصار فيما اختلف من الأخبار، أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي، ج1، ص79، باب النوم، ح2.

([231]) تهذيب الأحكام، أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي، ج1، ص421 - 422، باب 22 من أبواب الزيادات في أبواب كتاب الطهارة، ح8. ونصها: عنه، عن حماد، عن حريز، عن زرارة، قال: قلت: أصاب ثوبي دم رعاف أو غيره أو شيء من مني، فعلمت أثره إلى أن أصيب له الماء، فأصبت، وحضرت الصلاة، ونسيت أن بثوبي شيئا، وصليت، ثم إني ذكرت بعد ذلك، قال: (تعيد الصلاة وتغسله)، قلت: فإني لم أكن رأيت موضعه، وعلمت أنه قد أصابه، فطلبته فلم أقدر عليه، فلما صليت وجدته، قال: (تغسله وتعيد)، قلت: فإن ظننت أنه قد أصابه، ولم أتيقن ذلك، فنظرت فلم أر شيئا، ثم صليت، فرأيت فيه، قال: (تغسله ولا تعيد الصلاة)، قلت: لم ذلك؟ قال: (لأنك كنت على يقين من طهارتك، ثم شككت، فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك أبدا)، قلت: فإني علمت أنه قد أصابه، ولم أدر أين هو فأغسله، قال: (تغسل من ثوبك الناحية التي ترى أنه قد أصابها، حتى تكون على يقين من طهارتك)، قلت: فهل علي إن شككت في أنه أصابه شيء أن أنظر فيه؟ قال: (لا، ولكنك إنما تريد أن تذهب الشك الذي وقع في نفسك)، قلت: إن رأيته في ثوبي وأنا في الصلاة، قال: (تنقض الصلاة وتعيد، إذا شككت في موضع منه ثم رأيته، وإن لم تشك ثم رأيته رطبا، قطعت الصلاة وغسلته، ثم بنيت على الصلاة؛ لأنك لا تدري لعله شيء أوقع عليك، فليس ينبغي أن تنقض اليقين بالشك).

([232]) الأصول من الكافي، أبو جعفر محمد بن يعقوب الكليني، ج3، ص351 - 352، باب السهو في الثلاث والأربع، ح3.

([233]) الوافية في أصول الفقه، عبد الله بن محمد البشروي، ص206.

([234]) شرح الوافية، محسن بن الحسن الاعرجي الكاظمي (مخطوط)، ص190، وهذا الصحيح صريح في المطلوب.

([235]) الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة، المحقق يوسف البحراني، ج1، ص143، حيث نقل الرواية، ثم قال: والعمل بهذه القاعدة الشريفة بالنسبة إلى الشك في حصول الرافع وعدمه، مما لا خلاف فيه ولا شك يعتريه.

الفصول الغروية في الأصول الفقهية، الشيخ محمد حسين الحائري، ص371.

([236]) المسألة معروفة عند الإمامية، ولم نجد مخالفاً فيها، ذكروها في أحكام الشك في الصلاة، كالمبسوط في فقه الإمامية، أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي، ج1، ص123، مَنْ شَكَّ فلا يدري صلى اثنتين أم ثلاثاً في الرباعيات، وتساوت ظنونه، بنى على الثلاث وتمم، فإذا سَلَّمَ صلَّى ركعة من قيام، أو ركعتين من جلوس، وكذلك مَنْ شَكَّ بين الثلاث والأربع.

([237]) اختلفوا فيها، وأكثرهم على ما ذكر  عليهم السلام . راجع الشرح الكبير على متن المقنع، عبد الرحمن بن قدامة، ج1، ص691.

([238]) من لا يحضره الفقيه، الشيخ الصدوق، ج1، ص351، ح1025.

([239]) من لا يحضره الفقيه، الشيخ الصدوق، ج1، ص340، ح992.

([240]) بحار الأنوار، محمد باقر المجلسي، ج2، ص272، ح2، والحديث منقول من ارشاد الشيخ المفيد لا من الخصال.

([241]) بحار الأنوار، محمد باقر المجلسي، ج10، ص98، ح1، وحديث الاربعمائة عن الامام الصادق لا الباقر H.

([242]) فرائد الأصول، الشيخ مرتضى الأنصاري، ج3، ص68، وعدها المجلسي - في البحار- في سلك الأخبار التي يستفاد منها القواعد الكلية. انتهى.

أقول: جعل لها في بحار الأنوار باباً خاصاً، راجع بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج2، ص268، باب33، ما يمكن أن يستنبط من الآيات والأخبار من متفرقات مسائل أصول الفقه، ثم ذكر في ص272 عدة أحاديث، مضمونها يطابق الحديثين المتقدمين.

([243]) نقل التضعيف وضعفه في الفهرست، قائلا: محمد بن عيسى بن عبيد اليقطيني، ضعيف، استثناه ابو جعفر محمد بن علي بن بابويه عن رجال نوادر الحكمة، وقال: لا أروي ما يختص برواياته. الفهرست، ابو جعفر محمد بن الحسن الطوسي، ص216، باب محمد، ر26.

([244]) رجال الطوسي، أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي، ص391، باب الميم، ر10، محمد بن عيسى بن عبيد اليقطيني، يونسي، ضعيف على قول القميين.

([245]) ذكره النجاشي ولم يوثقه، رجال النجاشي، ابو العباس احمد بن علي النجاشي، ص316، ر866.

([246]) فرائد الأصول، الشيخ مرتضى الأنصاري، ج3، ص71.

([247]) بحار الأنوار، محمد باقر المجلسي، ج10، ص117، قال معلقاً على حديث الأربعمائة: ثمّ اعلم إنَّ أصل هذا الخبر في غاية الوثاقة على طريقة القدماء وإنْ لم يكن صحيحاً بزعم المتأخرين، واعتمد عليه الكليني  عليهم السلام ، وذكر أكثر أجزائه متفرقة في أبواب الكافي، وكذا غيره من أكابر المحدثين.

([248]) لم نعثر على الحكاية، ولعل مقصوده  عليهم السلام  أن تضعيف العلامة مستند إلى تضعيف ابن الغضائري، وتقدم عن الفرائد، ويأتي عن التعليقة على منهج المقال عدم الاعتناء بتضعيف ابن الغضائري.

([249]) رجال ابن الغضائري، احمد بن الحسين الغضائري، ص86، باب القاف، ر1، القاسم بن يحيى بن الحسن بن راشد، مولى المنصور، روى عن جده، وهو ضعيف.

([250]) راجع تعليقة على منهج المقال، الوحيد البهبهاني، ص285، قوله في القاسم بن يحيى: ضعيف. هذا من كلام الغضائري، فلا وثوق به.

([251]) فرائد الأصول، الشيخ مرتضى الأنصاري، ج3، ص308، ثم إذا ثبت عدم جواز إرادة المعنيين، فلابد أن يخص (يختص) مدلولها بقاعدة الاستصحاب، كالشك في الطهارة من الحدث والخبث، ودخول هلال شهر رمضان وشوال.

([252]) فوائد الأصول، الشيخ محمد علي الكاظمي الخراساني، ج4، ص365.

([253]) رياض المسائل، السيد علي الطباطبائي، ج13، ص67، لكن يتعين أقرب المجازات حيثما تعذرت الحقيقة، وهذه القاعدة في غاية من المتانة، سيما بعد الاعتضاد بالأصول المتقدمة، والشهرة العظيمة.

([254]) وسائل الشيعة، الشيخ محمد بن الحسن الحر العاملي، ج10، ص256.

([255]) هو علي بن محمد بن شيرة القاساني (القاشاني)، ذكر النجاشي أن أحمد بن محمد بن عيسى غمز فيه، وأنه سمع منه مذاهب منكرة، ثم قال: وليس في كتبه ما يدل على ذلك. رجال النجاشي، ابو العباس احمد بن علي النجاشي، ص255، ر669.

وضعفه الشيخ والعلامة، ففي رجال الطوسي، أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي، ص388، باب العين، ر9 (علي بن محمد القاساني، ضعيف، إصبهاني..). خلاصة الأقوال في معرفة الرجال، الحسن بن يوسف بن المطهر الحلي، ص363، باب علي، ر6، علي بن محمد القاشاني، إصبهاني، من ولد زياد مولى عبد الله بن عباس، من آل خالد بن الأزهر، ضعيف.

([256]) بحسب متابعتنا فإن شهرتها حاصلة بين متأخري المتأخرين، بل متأخريهم، وأول من استدل بها هو المحقق السبزواري في ذخيرة المعاد، المحقق محمد باقر السبزواري، ص418، (ط.ق).

([257]) سورة البقرة، الآية 275.

([258]) تهذيب الأحكام، أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي، ج2، ص361، باب ما يجوز الصلاة فيه من اللباس والمكان وما لا يجوز، ح27.

([259]) فرائد الأصول، الشيخ مرتضى الأنصاري، ج3، ص208 - 209، ومما ذكرنا يظهر فساد ما وقع لبعض المعاصرين من تخيل جريان استصحاب عدم الأمر الوجودي المتيقن سابقا، ومعارضته
مع استصحاب وجوده، بزعم أن المتيقن وجود ذلك الأمر في القطعة الأولى من الزمان، والأصل بقاؤه - عند الشك- على العدم الأزلي الذي لم يعلم انقلابه إلى الوجود إلا في القطعة السابقة من الزمان، قال في تقريب ما ذكره من تعارض الاستصحابين.

([260]) الرسائل، السيد الخميني، ج1، ص164. تهذيب الأصول، السيد الخميني، ج2، ص338.

([261]) درر الفوائد، الشيخ عبد الكريم الحائري، ج2، ص542، ص544.

أقول: يمكن أن يوجه كلام المعاصر المذكور - معاصر الشيخ الأعظم، وهو النراقي- على نحو يسلم عمّا أورد عليه، بأن نختار الشق الأول، ونقول: بأنّ الزمان وإنْ أخذ قيداً في الموضوع الذي تعلّق به الوجوب، إلا أنّ نسبة الوجوب إلى المهملة عن اعتبار الزمان صحيحة، لاتحاد المهملة مع الأقسام، كما بينا في محله، وبنينا على ذلك صحة إجراء أصالة البراءة في القيد المشكوك، فراجع مسألة الأقل والأكثر.

وعلى هذا نقول: لو وجب الجلوس المقيد بما قبل الزوال، فبعد انقضاء الزوال، يمكن أنْ يقال: ذات الجلوس كان واجباً قبل الزوال، ونشكُّ في بقائه، فيحكم ببركة الاستصحاب ببقاء الوجوب لأصل الجلوس فيما بعد الزوال، ويعارض باستصحاب وجوب الجلوس المقيد بما بعد الزوال؛ لأنه بهذا القيد مشكوك الوجوب، أو نختار الشق الثاني... وأما الشق الثاني: فاستصحاب الوجوب ليس له معارض، فإن مقتضى استصحاب عدم وجوب الجلوس المقيد بالزمان الخاص، أن هذا المقيد ليس موردا للوجوب على نحو لوحظ الزمان قيد، أو لا ينافي وجوب الجلوس في ذلك الزمان الخاص، على نحو لوحظ الزمان ظرفا للوجوب.

([262]) إشارة إلى ما ورد في حديث التثليث، راجع الأصول من الكافي، أبو جعفر محمد بن يعقوب الكليني، ج1، ص68، باب اختلاف الحديث، ح10، وفيه: (وإنما الأمور ثلاثة: أمر بين رشده فيتبع، وأمر بين غيه فيجتنب، وأمر مشكل يرد علمه إلى الله وإلى رسوله).

([263]) لعله يشير إلى مصباح الأصول، تقرير بحث الخوئي، محمد سرور الواعظ البهسودي، ج3، ص24، (وأخرى) لا تكون لها قابلية البقاء بنفسها كالزوجية المنقطعة مثلاً، فإنّها منقضية بنفسها بلا استناد إلى الرافع، فلو كان المتيقّن من هذا القبيل وشكٌّ في بقائه، فلا يستند الشكُّ فيه إلى احتمال وجود الرافع، بل الشكّ في استعداده للبقاء بنفسه، فيكونُ الشكُّ في أنَّ هذا المتيقَّن هل له استعداد البقاء بحيث يقتضي الجري العملي على طبقه أم لا؟ فهذا من موارد الشكّ في المقتضي فلا يكونُ الاستصحابُ فيه حجة.

([264]) فرائد الأصول، الشيخ مرتضى الأنصاري، ج3، ص50.

([265]) نسبه في فرائد الأصول، كما في الهامش المتقدم.

معارج الأصول، المحقق الحلي، ص206، (المسألة الثانية: إذا ثبت حكم في وقت، ثم جاء وقت آخر، ولم يقم دليل على انتفاء ذلك الحكم، هل يحكم ببقائه على ما كان؟ أم يفتقر الحكم به في الوقت الثاني إلى دلالة، كما يفتقر نفْيُهُ إلى دلالة. حُكيَ عن المفيد  عليهم السلام  أنّه يحكم ببقائه، ما لم تقم دلالة على نفيه، وهو المختار).

([266]) تنقيح الأصول، تقرير بحث آغا ضياء الدين العراقي، محمد رضا الطباطبائي، ص215، وهناك تفسير آخر أبدعه المحقق الخوانساري P في شرح الدروس، وهو الفرق بين الشك في المقتضي والشك في الرافع، فسلم الاستصحاب في الثاني فقط.

ومشارق الشموس في شرح الدروس، جمال الدين الخوانساري، ج1، ص76، (ط.ق).

([267]) وسيلة الوصول إلى حقائق الأصول، تقرير بحث الإصفهاني، حسن السيادتي السبزواري، ص720.

([268]) كفاية الأصول، محمد كاظم الخراساني، ص390، ثم لا يخفى حسن إسناد النقض - وهو ضد الإبرام- إلى اليقين، ولو كان متعلقا بما ليس فيه اقتضاء للبقاء والاستمرار، لما يتخيل فيه من الاستحكام، بخلاف الظن.

([269]) العبارة مشتهرة بين الأصوليين.

([270]) كتاب العين، الخليل بن أحمد الفراهيدي، ج5، ص50 - 51، والمناقضة في الأشياء، نحو الشعر، كشاعر ينقض قصيدة أخرى بغيرها، والاسم النقيضة، ويجمع نقائض، ومن هذا نقائض جرير والفرزدق.

([271]) الظاهر أنه يقصد نقائض الفرزدق، فلا وجود لنقائض المتنبي على ما في أيدينا من مصادر.

([272]) الحكمة المتعالية في الاسفار العقلية الاربعة، ملا صدرا، ج1، ص101.

([273]) شرح المقاصد، سعد الدين التفتازاني، ج1، ص431.

([274]) سورة يونس، الآية 5.

([275]) شرح المواقف، السيد الشريف الايجي، ج3، ص50.

([276]) سورة الإسراء، الآية 78.

([277]) لم نعثر على النسبة بهذا التفصيل، والذي عثرنا عليه في بحر الفوائد، محمد حسن الآشتياني، ج3، ص67 (الحكم الوضعي بالمعنى الذي عرفته على أقوال:

أحدها: الإثبات مطلقاً، صَرَّح به جماعة من أفاضل من تأخر من الخاصة، منهم السيد الكاظمي في شرحه على الوافية في مقام التعريض على السيد صدر الدين، ويظهر من بعض العامة أيضا، حيث زاد في تعريف الفقه قيد أو الوضع، بل نسبه في المناهج والإشارات إلى المشهور، وذكر الأستاذ العلامة أن هذه النسبة لا أصل لها، يظهر وجهه من الرجوع إلى كلماتهم..).

([278]) بحر الفوائد، محمد حسن الآشتياني، ج3، ص67.

([279]) زبدة الأصول، بهاء الدين محمد بن الحسين البهائي، ص62، الحكم الشرعي: طلب الشارع من المكلف الفعل، أو تركه، مع استحقاق الذم بمخالفته وبدونه، أو تسويته بينهما لوصف مقتض لذلك، فعلمت الأحكام الخمسة، والوضعي ليس حكما، بل مستلزما له.

([280]) في غاية المأمول في شرح زبدة الأصول، للفاضل الجواد، وهو ليس بأيدينا.

([281]) مشارق الشموس في شرح الدروس، جمال الدين الخوانساري، ج1، ص76، (ط.ق)، .. الحكم إما وضعي، أو اقتضائي، أو تخييري، ولما كان الأول أيضا عند التحقيق يرجع إليهما فينحصر في الأخيرين...

([282]) بحر الفوائد، محمد حسن الآشتياني، ج3، ص67، (ثالثها: التفصيل بين الشرطية والجزئية وغيرهما، بالنفي في الأولين والإثبات في الأخير، يظهر من بعض أفاضل من تأخر في جملة كلام له في أصالة العدم).

([283]) سورة الإسراء، الآية 78.

([284]) تهذيب الأحكام، أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي، ج1، باب الأحداث الموجبة للطهارة،
ص49 - 50، ح83.

([285]) نقلا بالمضمون، راجع تهذيب الأحكام، أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي، ج7، ص191، باب الشركة والمضاربة، ح30، عن أبي عبد الله B، قال: المضارب يقول لصاحبه إن أنت أذيته (أديته) أو أكلته، فأنت له ضامن، قال: (فهو له ضامن إذا خالف شرطه)، وفي ج10، ص230، باب ضمان النفوس وغيرها، ح38، قال أبو عبد الله B: (من أضر بشيء من طريق المسلمين فهو له ضامن) وح41: عن أبي عبد الله B، قال: (قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم: من أخرج ميزابا أو كنيفا، أو أوتد وتدا، أو أوثق دابة، أو حفر بئرا في طريق المسلمين، فأصاب شيء فعطب، فهو له ضامن).

([286]) الأصول من الكافي، أبو جعفر محمد بن يعقوب الكليني، ج1، ص67، باب اختلاف الحديث، ح10.

([287]) المصدر السابق، ج3، ص1، باب طهور الماء، ح2 - 3.

([288]) راجع فرائد الأصول، الشيخ مرتضى الأنصاري، ج3، ص128، ص130.

([289]) سورة المائدة، الآية 1.

([290]) فرائد الأصول، الشيخ مرتضى الأنصاري في، ج3، ص14، وأول من تمسك بهذه الأخبار - فيما وجدته - والد الشيخ البهائي P، فيما حكي عنه في العقد الطهماسبي.

([291]) هو الشيخ عزالدين حسين بن عبد الصمد بن شمس الدين بن محمد بن محمد بن علي بن حسين بن محمد بن صالح العاملي الجبعي الحارثي الهمداني، والد الشيخ البهائي، وينسب إلى الحارث بن عبد الله الأعور الهمداني، صاحب أمير المؤمنين B، ومن أخص أصحابه، والهمداني نسبة إلى همدان، قبيلة من اليمن، كان تلميذا للشهيد الثاني، له مؤلفات عديدة، منها: رسالة في الدراية، تحفة أهل الإيمان في عراق العجم وخراسان، شرح الأربعين حديث في الأخلاق ألفه باسم الشاه طهماسب، شرح قواعد العلامة، ولد في أول محرم سنة (918هـ)، وتوفي في 8 ربيع الأول سنة (984هـ). راجع أعيان الشيعة، السيد محسن الأمين، ج6، ص56، ص66.

([292]) العقد الطهماسبي، حسين بن عبد الصمد العاملي، ص12 – 13، (مخطوط).

([293]) ذخيرة المعاد في شرح الإرشاد، المحقق محمد باقر السبزواري، ص44، (ط.ق).

([294]) مشارق الشموس في شرح الدروس، المحقق حسين بن جمال الدين محمد الخوانساري، ص76، (ط.ق). نعم، الظاهر حجية الاستصحاب بمعنى آخر، وهو أن يكون دليل شرعي على أن الحكم الفلاني بعد تحققه ثابت إلى حدوث حال كذا أو وقت كذا مثلا، معين في الواقع بلا اشتراطه بشيء أصلا، فحينئذ إذا حصل ذلك الحكم فيلزم الحكم باستمراره، إلى أن يعلم وجود ما جعل مزيلا له، ولا يحكم بنفيه بمجرد الشك في وجوده، والدليل على حجيته أمران.

([295]) الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة، المحقق يوسف البحراني، ج1، ص142. ومنها: عدم نقض اليقين بالشك، والمراد من الشك ما هو أعم من الظن كما سلف في القاعدة المتقدمة، من دلالة حسنة الحلبي وصحيحة زرارة على ذلك.

والأخبار الدالة على هذه القاعدة الشريفة مستفيضة.

والقوانين المحكمة في الأصول المتقنة، الميرزا ابو القاسم القمي، ج1، ص138. الثاني: الأخبار المستفيضة عن أئمتنا B الدالة على حجيته عموما.

([296]) مستطرفات السرائر، محمد بن إدريس الحلي، ج1، ص62. في الكثير الراكد، وإن ارتفع التغير عنه من قبل نفسه، أو بتراب يحصل فيه، أو بالرياح التي تصفقها، أو بجسم طاهر يحصل فيه، أو بطرو أقل من الكر من المياه المطهرة، لم يحكم بطهارته؛ لأنه لا دليل على ذلك، ونجاستها معلومة بيقين، فلا يرجع عن اليقين إلا بيقين مثله.

([297]) العدة في أصول الفقه، أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي، ج2، ص758. والذي يمكن أن ينصر به طريقة استصحاب الحال ما أومأنا إليه، من أن يقال: لو كانت الحالة الثانية مغيرة للحكم الأول لكان على ذلك دليل، وإذا تتبعنا جميع الأدلة فلم نجد ما فيها ما يدل على أن الحالة الثانية مخالفة للحالة الأولى، دل على أن حكم الحالة الأولى باق على ما كان.

([298]) الذريعة إلى أصول الشريعة، السيد المرتضى علم الهدى، ج2، ص829، ص832، وأما استصحاب الحال: فعند التحقيق لا يرجع المتعلق بها إلا إلى أنه أثبت حكما بغير دليل؛ لأنهم يقولون: إن الرائي للماء في الصلاة، قد ثبت قبل رؤيته بالإجماع وجوب مضيه في الصلاة، فيجب أن يكون على هذه الحال مع رؤيته الماء، وهذا جمع بين الحالين في حكم من غير دلالة جامعة؛ لأن الحالين مختلفان، من حيث كان غير واجد للماء في إحديهما، وواجداً له في الأخرى، فكيف يسوى بين الحالتين من غير دلالة؟

غُنيةُ النّزوع، ابن زُهْرَة الحلبي، ص61. ولا يجوز الصلاة إلا بطهارة متيقنة، فإن شك وهو جالس في شيء من واجبات الوضوء، استأنف ما شك فيه، فإن نهض متيقنا لتكامله، لم يلتفت إلى شك يحدث له؛ لأن اليقين لا يترك للشك (بالشك).

([299]) معارج الأصول، المحقق الحلي، ص206، ص208. بعدما ذكر قول السيد المرتضى المتقدم، قال: لنا وجوه.

مباديء الوصول إلى علم الأصول، الحسن بن يوسف بن المطهر الحلي، ص250 - 251. في الاستصحاب: الأقرب أنه حجة.

([300]) المستصفى في علم الأصول، ابو حامد الغزالي، ج1، ص160. الثالث: استصحاب حكم دل الشرع على ثبوته ودوامه، كالملك عند جريان العقد المملك، وكشغل الذمة عند جريان إتلاف أو التزام.

الرابع: استصحاب الإجماع في محل الخلاف، وهو غير صحيح.

المحصول في علم أصول الفقه، فخر دين محمد بن عمر الرازي، ج6، ص120 - 121. واعلم أن القول باستصحاب الحال أمر لابد منه في الدين والشرع والعرف.

([301]) لم نعثر على هذا النص في المجاميع الحديثية العامة والخاصة، نعم ورد ما يشبهه في عوالي اللئالي، ابن أبي جمهور الإحسائي، ج1، ص380، ح1، قال  عليهم السلام : روي أن النبي صلى الله عليه واله وسلم قال: (إن الشيطان
ليأتي أحدكم وهو في الصلاة، فيقول: أحدثت أحدثت، فلا ينصرفن أحدكم حتى يسمع صوتا أو
يجد ريحا).

([302]) فرائد الأصول، الشيخ مرتضى الأنصاري، ج3، ص14.

([303]) العدة في أصول الفقه، ابو جعفر محمد بن الحسن الطوسي، ج2، ص757.

([304]) فرائد الأصول، الشيخ مرتضى الأنصاري، ج3، ص21، نعم، ذكر شيخنا البهائي P في الحبل المتين - في باب الشك في الحدث بعد الطهارة- ما يظهر منه اعتبار الظن الشخصي.

وفي ص22، ويمكن استظهار ذلك من الشهيد P في الذكرى.

([305]) الحبل المتين، بهاء الدين محمد بن الحسين العاملي، ص37. لا يخفى أن الظن الحاصل بالاستصحاب في من تيقن الطهارة وشك في الحدث، لا يبقى على نهج واحد، بل يضعف بطول المدة شيئا فشيئا.

([306]) ذكرى الشيعة في أحكام الشريعة، محمد بن مكي العاملي، ج2، ص207، قولنا: اليقين لا يرفعه الشك، لا نعني به اجتماع اليقين والشك في الزمان الواحد، لامتناع ذلك، ضرورة أن الشك في أحد النقيضين يرفع يقين الآخر، بل المعني به أن اليقين الذي كان في الزمن الأول لا يخرج من حكمه بالشك في الزمن الثاني، لأصالة بقاء ما كان، فيؤول إلى اجتماع الظن والشك في الزمان الواحد، فيرجح الظن عليه، كما هو مطرد في العبادات.

([307]) كفاية الأصول، الآخوند الخراساني، ص404. التنبيه الثاني من تنبيهات الاستصحاب.

([308]) لعله يشير إلى ما في مجمع الأفكار ومطارح الأنظار، تقريرُ بحث الشيخ محمد تقي الرازي، الميرزا هاشم الآملي، ج4، ص76. ومن العجب أنه P يقول في المقام بأنَّ ترتيب الأثر على المستصحب يجبُ أنْ يكون شرعياً، وحيثُ لا يكون الترتب هنا إلاّ عقلياً لا يجري الاستصحاب، ومع ذلك يلتزمُ بجريان استصحاب بقاء الاجتهاد أو بقاء الأعلمية لترتيب الأثر الذي هو جواز التقليد مع أن الترتب فيهما أيضا يكون من العقلي لا الشرعي، مع أن الإشكال في ذلك أقوى في المقام لكون وجوب تقليد الأعلم من العقليات المحضة.

([309]) ونسبه الشيخ الأعظم إلى المشهور، فرائد الأصول، الشيخ مرتضى الأنصاري، ج3، ص191. وأما الثاني فالظاهر جواز الاستصحاب في الكلي مطلقا على المشهور.

وفي هامشها عن محقق الكتاب: نسبته إلى المشهور باعتبار أن من جملة أفراد الإطلاق في هذا القسم هو الشك في المقتضي، والمصنف لا يقول بحجية الاستصحاب فيه. انتهى.

أقول: الذي يظهر أن النسبة إلى الأشهر هي الأصح.

([310]) هو الشيخ أبو علي الحسين بن عبد الله بن الحسين أو الحسن بن علي بن سينا المعروف بالشيخ الرئيس، واختلف المؤرخون في مولده ووفاته؛ وله مؤلفات تنيف عن مائة.

كان تلميذا لتصانيف الفارابي، وأستاذا للحكماء الإسلاميين، ولم ينتفع أهل الحكمة النظرية والأطباء كما انتفعوا منه، ولذا لقبوه بالشيخ الرئيس. أنظر أعيان الشيعة، السيد محسن الأمين، ج6، ص69، ص80.

([311]) شرح الاشارات، الشيخ الرئيس ابن سينا، ص3، ص318.

([312]) الفوائد العلية، السيد علي البهبهاني، ج1، ص39، ومما بيّناه تبيَّن أنه لو استبرأ عن البول وتطهر، فرأى بللا بين كونه بولاً أو منياً، وَجَبَ عليه الجمع بين الوضوء والغسل بناءً على المشهور من عَدَمِ إجزاء مطلق الغسل عن الوضوء.

وأيضاً في منية الطالب في شرح المكاسب، تقرير بحث النائيني، الخوانساري، ج1، ص147. وتوضيح ذلك: أنّا قد بيّنا في الأصول - أي في فوائد الأصول - أنّ في القسم الثاني قد يجري استصحاب الشخصي، كما يجري استصحاب الكلي، وقد لا يجري.

وأيضا في التنقيح في شرح العروة الوثقى، تقرير بحث السيد الخوئي، الغروي التبريزي، ج3، ص444، وأما البلل المردد بين البول والمني، فالأخبار غير شاملة له، ومقتضى العلم الإجمالي في مثله هو الجمع بين الوضوء والغسل.

([313]) ورد في الأصل (لما).

([314]) فرائد الاصول، افادات الميرزا النائيني، الشيخ الكاظمي الخراساني، ج1 ـ 2، ص135.

([315]) سورة المائدة، الآية 2.

([316]) سورة الأنعام، الآية 121.

([317]) سورة الأنعام، الآية 118.

([318]) الفروع من الكافي، محمد بن يعقوب الكليني، ج3، ص397، باب اللباس الذي تكره الصلاة فيه وما لا تكره، ح1.

([319]) المصدر السابق، ج6، ص206، ح19، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله B، قال: سألته عن قوم أرسلوا كلابهم وهي معلمة كلها، وقد سموا عليها، فلما أن مضت الكلاب، دخل فيها كلب غريب لم يعرفوا له صاحبا، فاشتركن جميعا في الصيد، فقال: (لا يؤكل منه؛ لأنك لا تدري أخذه معلم أم لا).

([320]) تهذيب الأحكام، أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي، ج2، ص371، باب ما يجوز الصلاة فيه من اللباس والمكان وما لا يجوز، ح76، اسماعيل بن عيسى، قال: سألت أبا الحسن B عن جلود الفراء يشتريها الرجل من سوق من أسواق الجبل، أيسأل عن ذكاته إذا كان البائع مسلما غير عارف؟ قال: (عليكم أنتم أن تسألوا عنه إذا رأيتم المشركين يبيعون ذلك، وإذا رأيتم يصلون فيه فلا تسألوا عنه).

([321]) مجمع الفائدة والبرهان في شرح إرشاد الأذهان، المحقق أحمد الأردبيلي، ج8، ص452، ولا شك في تحقق ذلك -الربا- في البيع، ويمكن في القرض أيضاً، وأما غيرهما فلا يعلم ثبوته فيه، مع أصل الإباحة المؤيد بظواهر الآيات والأحاديث الدالة على أنَّ حصول التراضي يكفي للإباحة، وعلى حصر المحرمات، وليس هذا منها.

وفي ج11، ص21. وبالجملة: قاعدتهم تقتضي تحريم ما فارقه الروح لأنه ميت، إلا إذا علم أنه مذكى شرعي.

وأيضا أنظر: كفاية الأحكام، المحقق محمد باقر السبزواري، ج2، ص582، ص614. كشف اللثام عن قواعد الأحكام، الفاضل الهندي، ج3، ص202. الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة، المحقق يوسف البحراني، ج5، ص45.

([322]) سورة الأنعام، الآية 145.

([323]) سورة المائدة، الآية 3.

([324]) تهذيب الأحكام، أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي، ج2، ص203، باب ما يجوز الصلاة فيه من اللباس والمكان وما لا يجوز الصلاة فيه من ذلك، ح2. محمد بن مسلم، قال: سألته عن الجلد الميت أيلبس في الصلاة إذا دبغ؟ فقال: (لا ولو دبغ سبعين مرة).

([325]) تهذيب الأحكام، أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي، ج2، ص234.

([326]) المصدر السابق، ج2، ص368، باب ما يجوز الصلاة فيه من اللباس والمكان وما لا يجوز، ح62.

([327]) المصدر السابق، ج1، ص420، باب المياه وأحكامها، ح46، عن جابر، عن أبي جعفرB،
أتاه رجل فقال له: وقعت فأرة في خابية فيها سمن أو زيت، فما ترى في أكله، قال: فقال له أبو
جعفر B: (لا تأكله)، قال: فقال له الرجل: الفأرة أهون علي من أن أترك طعامي من أجلها، قال: فقال له أبو جعفر B: (إنّكَ لم تستخفّ بالفأرة، وإنّما استخففت بدينك، إنَّ الله حرم الميتة من كل شيء).

([328]) قال الشيخ الأعظم  عليهم السلام : (وممن أنكر الاستصحاب في العدميات صاحب المدارك، حيث أنكر اعتبار استصحاب عدم التذكية الذي تمسك به الأكثر لنجاسة الجلد المطروح). فرائد الأصول، الشيخ مرتضى الانصاري، ج3، ص30.

([329]) تهذيب الأحكام، أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي، ج9، ص78، باب الذبائح والأطعمة وما يحل من ذلك وما يحرم منه، ح66.

([330]) من لا يحضره الفقيه، الشيخ الصدوق، ج1، ص258، ح793.

([331]) الاصول من الكافي، محمد بن يعقوب الكليني، ج6، ص297، باب نوادر، ح2.

([332]) أنظر: نهاية الأفكار، تقرير بحث آغا ضياء الدين العراقي، الشيخ محمد تقي البروجردي، ج4، ص145. أيضاً أنظر: منتهى الأصول، محمد حسن الموسوي البجنوردي، ج2، ص452. بداية الوصول في شرح كفاية الأصول، الشيخ محمدطاهر آل الشيخ راضي، ج8، ص141.

([333]) لعله يشير إلى ما في عناية الأصول في شرح كفاية الأصول، الفيروزآبادي، ج5، ص143.

([334]) حكاه الميرزا الآشتياني عن بعض أفاضل من تأخر، اُنظر بحر الفوائد في شرح الفرائد، محمد حسن الاشتياني، ج3، ص106.

([335]) تهذيب الأحكام، أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي، ج4، ص159، باب علامة أول شهر رمضان وآخره ودليل دخوله، ح17.

([336]) نهاية النهاية، الآخوند الخراساني، تصنيف عبد الحسين الغروي، ج2، ص199. والحق عندي صحة المعارضة، وبطلان ما أجيب به عنها.

([337]) ذكرى الشيعة في أحكام الشريعة، محمد بن مكي العاملي، ج2، ص348.

([338]) مستند العروة الوثقى، السيد ابو القاسم الخوئي، ج5، ص163. فإنَّ المعروفَ من مذهب أصحابنا: هو امتداد وقتي المغرب والعشاء إلى منتصف الليل، بل إلى الفجر كما هو الصحيح، وإن كان آثما في التأخير.

([339]) الاصول من الكافي، محمد بن يعقوب الكليني، ج3، ص351 - 352، باب السهو في الثلاث والأربع، ح3.

([340]) لعله يشير إلى ما في منتقى الأصول، تقرير بحث السيّد الروحاني، السيّد عبد الصاحب الحكيم، ج6، ص194. لا يخفى أنّ الأمر المشكوك البقاء، تارةً يكونُ له وجود فعليٌ تنجيزي في السابق، يُشَكُّ في زوالِهِ وبقائه، كنجاسة الماء المتغيّر إذا شُكَّ فيها بعد زوال تغيّره من قبل نفسه.

([341]) كفاية الأصول، الآخوند الخراساني، ص412 - 413.

([342]) هو الشيخ جعفر ابن الشيخ خضر ابن الشيخ يحيى المالكي الجناجي النجفي، الفقيه المشهور، ولد في النجف في حدود سنة (1154هـ) أو (46هـ) وتوفي في يوم الأربعاء عند ارتفاع النهار في 22 أو 27 رجب سنة (1228هـ) كما في مستدركات الوسائل، أو (1227هـ) كما في روضات الجنات، ودفن في تربته المشهورة في محلة العمارة بالنجف.

تخرّج عنه الكثير من الفقهاء المشاهير، مثل أولاده الثلاثة الفحول المعروفين، وهم: الشيخ موسى ابن الشيخ جعفر والشيخ علي ابن الشيخ جعفر، والشيخ حسن ابن الشيخ جعفر، وأصهاره
الثلاثة، وهم: الشيخ أسد الله التستري الكاظمي صاحب المقابيس، والشيخ محمد تقي الرازي صاحب حاشية المعالم، والسيد صدر الدين العاملي، السيد جواد العاملي صاحب مفتاح الكرامة، الشيخ محمد حسن صاحب الجواهر، السيد محمد باقر صاحب الأنوار، الشيخ محمد إبراهيم الكرباسي صاحب الإشارات.

له مؤلفات كثيرة، منها: كشف الغطاء عن خفيات مبهمات الشريعة الغراء، وشرح قواعد العلامة، كتاب كبير في الطهارة، رسالة عملية في الطهارة والصلاة سَمَّاها بُغية الطالب شَرَحَها ولده الشيخ موسى، مناسك الحج، غاية المأمول في علم الأصول، وغيرها كثير. أعيان الشيعة، السيد محسن الأمين، ج4، ص99، ص107.

([343]) هذا التعبير مستخدم عندهم كثيراً، راجع هداية المسترشدين، الشيخ محمد تقي الرازي، ج1، ص293 - 294. الفصول الغروية في الأصول الفقهية، الشيخ محمد حسين الحائري، ص17، ص50، ص365، وغيرهم.

([344]) هو الشيخ حسن، ويقال: محمد حسن بن عبد الله بن محمدباقر بن علي أكبر بن رضا المامقاني النجفي، ولد في مامقان في 22 شعبان سنة (1238هـ) وتوفي في النجف في 18 المحرم يوم السبت منه سنة (1323هـ) ودفن فيها في مقبرته المعروفة بمحلة العمارة. راجع أعيان الشيعة، السيد محسن الأمين، ج5، ص150 - 151.

([345]) هو السيد حسن بن محمد بن حسن بن حيدر الحسيني الكوهكمري أصلا الأرونقي مولدا التبريزي النجفي مسكنا ومدفنا المعروف بالسيد حسين الترك، له مؤلفات كثيرة، حكي عن تلميذه المامقاني أنه قال: رأيناها ملء عدل..، منها: رسالة في الاستصحاب كانت تدرس في عصره، رسالة في مقدمة الواجب، كتاب الصلاة.. وغيرها كثير. اُنظر أعيان الشيعة، السيد محسن الأمين، ج6، ص146- 147.

([346]) ليس في أيدينا تقريرات الشيخ المامقاني للسيد حسين الترك.

([347]) بحر الفوائد في شرح الفرائد، محمد حسن الآشتياني، ج3، ص129.

([348]) الفصول الغروية في الأصول الفقهية، الشيخ محمد حسين الحائري، ص378.

([349]) فرائد الأصول، الشيخ مرتضى الأنصاري، ج3، ص237.

([350]) مما نسب إلى كاشف الغطاء الكبير P في الرد على التمسك بالأصل المثبت.

([351]) فرائد الأصول، الشيخ مرتضى الأنصاري، ج3، ص244.

([352]) نهاية الأفكار، تقرير بحث آغا ضياء الدين العراقي، الشيخ محمّد تقي البروجردي، ج4، ص190. (ويمكن أن يقال): إنّ المستصحب حينئذٍ هي الرطوبة المسرية لا الرطوبة الصّرفة، واستصحابها وإن كان مثبتاً في الحقيقة، إلا أنه يمكن الاعتذار عنه بخفاء الواسطة في مثله، إذ العرف لا يفهم من بقاء الرطوبة المسرية في أحد المتلاقيين إلى حين الملاقاة إلا سراية النجاسة إلى الطاهر منهما.

([353]) من الموارد المستثناة لمن أنكر حجية الأصل المثبت.

([354]) تهذيب الأحكام، أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي، ج4، ص159، باب علامة أول شهر رمضان وآخره ودليل دخوله، ح17.

([355]) قوله P المتقدم: ومن هنا تظهر لك أمور. وهذا رابعها.

([356]) هو الشيخ هادي ابن الحاج ملا محمد أمين الواعظ الطهراني النجفي، ولد في 20 رمضان سنة (1253هـ) وتوفي في النجف، ودفن في حجرة صاحب مفتاح الكرامة من جهة القبلة، الأستاذ المحقق، صاحب الآثار المشهورة، والمطالب المأثورة، أحد المؤسسين في الفنون الشرعية، خصوصا الأصول، له مؤلفات عديدة منها: الحق اليقين في علم الكلام، كتاب التوحيد بالفارسية في الرّد على وحدة الوجود، رسالة في علم الرّجال، وغيرها كثير. أعيان الشيعة، السيد محسن الأمين، ج10، ص233.

([357]) نهاية الأفكار، تقريرات بحث آغا ضياء الدين العراقي، الشيخ محمد تقي البروجردي، ج4،
ص29 - 30. قال: (وأما أصالة عدم الحائل التي تمسكوا بها في باب الوضوء والغسل عند الشك في وجود ما يمنع عن وصول الماء إلى البشرة من جُصّ أو قير أو دم برغوث ونحوه، فيمكن أنْ يقال بعَدَمِ كونها أيضا من باب الاستصحاب، بل ولا من باب قاعدة المقتضي والمانع، (وأنّها) برأسها أصلٌ عقلائي مدركها الغلبة).

مصباح الأصول، تقرير بحث الخوئي، محمد سرور الواعظ البهسودي، ج3، ص151. قال: (كما إذا شككنا في وجود الحاجب وعدمه عند الغسل، فبناءً على الأصل المثبت يجري استصحابُ عدم وجود الحاجب، ويترتّبُ عليه وصولُ الماء إلى البشرة، فيحكُمُ بصحّةِ الغسل - مع أنَّ وصول الماء إلى البشرة لم يكن متيقّناً سابقاً - وبناءً على عدم القول به لابدَّ من إثباتِ وصولِ الماء إلى البشرة من طريقٍ آخر غير الاستصحاب).

([358]) مصباح الأصول، تقرير بحث الخوئي، محمد سرور الواعظ البهسودي، ج3، ص165.

([359]) كفاية الأصول، الآخوند الخراساني، ص416. الثامن: أنه لا تفاوت في الأثر المترتب على المستصحب، بين أن يكون مترتبا عليه بلا وساطة شيء، أو بوساطة عنوان كلي ينطبق ويحمل عليه بالحمل الشايع ويتحد معه وجوداً، كان منتزعاً عن مرتبة ذاته، أو بملاحظة بعض عوارضه مما هو خارج المحمول لا بالضميمة، فإن الأثر في الصورتين إنما يكون له حقيقة، حيث لا يكون بحذاء ذلك الكلي في الخارج سواه لغيره مما كان مباينا معه، أو من أعراضه مما كان محمولا عليه بالضميمة، كسواده مثلا أو بياضه، وذلك لأن الطبيعي إنما يوجد بعين وجود فرده، كما أن العرضي كالملكية والغصبية ونحوهما لا وجود له إلا بمعنى وجود منشأ انتزاعه، فالفرد أو منشأ الانتزاع في الخارج هو عين ما رتب عليه الأثر، لا شيء آخر، فاستصحابه لترتيبه لا يكون مثبتا كما توهم.

([360]) تهذيب الأحكام، أبو جعفر محمّد بن الحسن الطوسي، ج1، ص8، باب الأحداث الموجبة للطهارة، ح11. ونصه: عن زرارة، قال: قلت له: الرجل ينام وهو على وضوء، أتوجب الخفقة والخفقتان عليه الوضوء؟ فقال: (يا زرارة، قد تنام العين، ولا ينام القلب والأذن، فإذا نامت العين والقلب والأذن فقد وجب الوضوء)، قلت: فإن حرك إلى جنبه شيء ولم يعلم به، قال: (لا، حتى يستيقن أنه قد نام، حتى يجيء من ذلك أمر بين، وإلا فإنه على يقين من وضوئه، ولا ينقض اليقين أبدا بالشك، ولكن ينقضه بيقين آخر).

([361]) هو الشيخ عبد الحسين بن محمد تقي ابن الحسن بن أسد الله الدزفولي الكاظمي، توفي سنة (1336هـ). راجع الذريعة إلى تصانيف الشيعة، آغا بزرك الطهراني، ج24، ص402. ج25، ص187.

([362]) الهداية في شرح الكفاية، عبد الحسين بن محمد تقي الدزفولي، ص206، (مخطوط). قال: فليس استصحاب الشرط والمانع لترتيب الشرطية والمانعية بمثبت كما ربما توهم، بتخيل أنَّ الشرطية أو المانعية ليست من الآثار الشرعية بل من الأمور الانتزاعية، فافهم.

([363]) هو الشيخ آغا رضا ابن الشيخ محمد هادي الهمذاني النجفي توفي في سامراء صبيحة يوم الأحد 28 صفر سنة (1322هـ) ودفن في الرواق، كان عالما فقيها أصوليا محققا مدققا، من أفضل تلاميذ الميرزا السيد محمد حسن الشيرازي، مشغولاً ليله ونهاره بالتأليف والتدريس، له مؤلفات عديدة، منها مصباح الفقيه، حاشية على الرسائل، حاشية على المكاسب. راجع أعيان الشيعة، السيد محسن الآمين، ج7، ص19، ص23.

([364]) تقدمت في الجزء الأول في الدليل الثالث من الأدلة على حجية الاستصحاب.

([365]) ذِكْرُ الإيراد وجواب النائيني عنه في زبدة الأصول، السيد محمد صادق الروحاني، ج4، ص142، ولم يذكر المستشكل. منهاج الفقاهة، السيد محمد صادق الروحاني. ج1، ص373. وتوضيحه ما أفاده المحقق النائيني في رسالة لباس المشكوك من أنَّ الشكَّ في وجود المركب مُسبَّبٌ عن الشكّ في وجود أجزائه، والأصلُ الجاري في السَّبب حاكم على الأصل الجاري في المسبَّب.

([366]) منهاج الفقاهة، السيد محمد صادق الروحاني، ج1، ص373.

([367]) في الأصل (قال).

([368]) سورة المائدة، الآية 1.

([369]) جامع المقاصد في شرح القواعد، المحقق علي بن الحسين الكركي، ج4، ص38. قوله: (على الفور على رأي)، اقتصارا على مقدار الضرورة في مخالفة لزوم البيع، والاستصحاب يقتضي عدم الفورية، والأول أولى؛ لأن العموم في أفراد العقود يستتبع عموم الأزمنة، وإلا لم ينتفع بعمومه.

([370]) سورة المائدة، الآية 1.

([371]) درر الفوائد في الحاشية على الفرائد، الاخوند الخراساني، ج1، ص275.

([372]) فوائد الأصول، من إفادات النائيني، الشيخ محمد علي الكاظمي الخراساني، ج4، ص535 - 536.

([373]) ورد في الأصل (استمرار ضرورة).

([374]) كتاب الأحكام، الشيخ علي كاشف الغطاء، ج3 في قاعدة الميسور، الطبعة الاولى.

([375]) فرائد الأصول، الشيخ مرتضى الأنصاري، ج3، ص255.

([376]) الخلاف، أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي، ج3، ص150، مسألة 238. إذا اختلفا في شرط يفسد البيع، فقال البائع: بعتك إلى أجل معلوم، وقال المشتري: إلى أجل مجهول، أو قال: بعتك بدراهم أو دنانير، فقال: اشتريته بخمر أو خنزير، كان القول قول من يدعي الصحة، وعلى من ادعى الفساد البينة.

وفي المبسوط في فقه الإمامية، ابو جعفر محمد بن الحسن الطوسي، ج2، ص146 - 147. فأمّا إذا كان الاختلاف فيما لو تصادقا فيه أفضى إلى بطلان البيع، مثل أنْ يدّعي أحدهما ما يفسده، والآخر ينفيه، فقال أحدهما: بعتك بخنزير أو شاة ميتة، وقال الآخر: بل بذهب أو فضة، فالقول قولُ من ينفي ما يفسد البيع؛ لأنّ العقد إذا وقع فالظاهر أنه على الصحة حتى يعلم فساده.

([377]) مستطرفات السرائر، محمد بن إدريس الحلي، ج1، ص220.

([378]) المعتبر في شرح المختصر، المحقق الحلي، ج1، ص54. التاسع: لو تطهَّر من ماء، ثُمَّ علم فيه نجاسة، وشكّ هل كانت قبل الوضوء أو بعده، فالأصل الصحة.

([379]) نهاية الإحكام في معرفة الأحكام، الحسن بن يوسف بن المطهر الحلي، ج1، ص538. كُلُّ شاكّ في فعلٍ أو ساهٍ عنه، إذا كان محلّه باقياً فإنّه يأتي به، لأصالة العدم، وإنْ انتقل، لم يلتفت في الشكّ، ولا يجب به شيء بناءً على أصالة الصحة.

وفي تذكرة الفقهاء، الحسن بن يوسف بن المطهر الحلي، ج1، ص24. التاسع: لو شكّ في وقوع النَّجاسة قبل الاستعمال فالأصلُ الصِّحة.

([380]) كشف الرموز في شرح المختصر النافع، زين الدين اليوسفي، ج1، ص167.

وفي الدروس الشرعية في فقه الإمامية، محمد بن مكي العاملي، ج1، ص368. ولو شكا في وقوع العقد حال الإحرام أو الإحلال، فالأصل الصحة.

([381]) الفصول الغروية في الأصول الفقهية، الشيخ محمد حسين الحائري، ص50.

([382]) نهاية الأفكار، تقريرات بحث آغا ضياء الدين العراقي، الشيخ محمد تقي البروجردي، ج4،
ص241- 242.

([383]) الهداية في شرح الكفاية، عبد الحسين بن محمد تقي الدزفولي، ص216، (مخطوط).

([384]) اختلفوا في اعتبارهما قاعدةً واحدة أو قاعدتين، الأكثر على الثاني، والذي يظهر من الشيخ الأعظم أنهما قاعدة واحدة، راجع فرائد الأصول، الشيخ مرتضى الأنصاري، ج3، ص326.

([385]) راجع فرائد الأصول، الشيخ مرتضى الأنصاري، ج3، ص329. الموضع الأول: إنّ الشك في الشيء ظاهر- لغة وعرفاً- في الشكّ في وجوده، إلا أن تقييد ذلك في الروايات بالخروج عنه ومضيه والتجاوز عنه، ربما يصير قرينة على إرادة كون وجود أصل الشيء مفروغاً عنه، وكونُ الشكّ فيه باعتبار الشكّ في بعض ما يعتبر فيه شرطاً أو شطرا.

([386]) تهذيب الأحكام، ابو جعفر محمد بن الحسن الطوسي، ج2، ص352، باب أحكام السهو، ح47.

([387]) المصدر السابق، ج2، ص344، باب أحكام السهو، ح14.

([388]) المصدر السابق، ج1، ص101، باب صفة الوضوء والفرض منه والسنة والفضيلة فيه، ح111.

([389]) فرائد الأصول، الشيخ مرتضى الأنصاري، ج3، ص336.

([390]) في الجزء الخامس منه، في أصالة الصحة.

([391]) قال جدُّنا كاشف الغطاء فيما حكى عنه شارحُ الرَّسائل الحاجّ مُحمَّد باقر: (إنَّ الأصل فيما خلقه الله تعالى من الأعيان من الأعراض والجواهر هو الصحّة، وكذا ما أوجده الإنسان البالغ العاقل من أقوال وأفعالٍ من مسلمٍ أو كافرٍ هو الصحّة، فيبنى على الصحّة حتى يقوم شاهد على الخلاف، إلاّ أنْ يكونَ في مقابلته خصم). كشف الغطاء عن مبهمات الشريعة الغراء، الشيخ جعفر كاشف الغطاء، ج1، ص202.

([392]) راجع كشف الغطاء عن مبهمات الشريعة الغراء، الشيخ جعفر كاشف الغطاء، ج1، ص202.

([393]) نهاية الأفكار، تقريرُ بحث آغا ضياء الدين العراقي، الشيخ محمد تقي البروجردي، ج5، ص94.

([394]) في الأصل (الوقوف).

([395]) في الأصل (الموهب).

([396]) راجع فرائد الأصول، الشيخ مرتضى الأنصاري، ج3، ص381. نهاية الأفكار، تقرير بحث آغا ضياء الدين العراقي، الشيخ محمد تقي البروجردي، ج5، ص102.

([397]) سورة الحجرات، الآية 12.

([398]) الاصول من الكافي، محمد بن يعقوب الكليني، ج2، ص362، باب التهمة وسوء الظن، ح3.

([399]) قاعدة فقهية مستفادة من الروايات.

([400]) عوالي اللئالي، ابن أبي جمهور الإحسائي، ج1، ص214، ح70.

([401]) سورة البقرة، الآية 275.

([402]) لم نعثر على القائل به على ما في أيدينا من مصادر، نعم نسبه في مصباح الأصول إلى البعض، قائلاً: وإنّما الكلام في وجه تقديم الأمارة على الاستصحاب، وأنّه من باب التخصيص أو الورود أو الحكومة؟ فذَهَبَ بعضُهُم إلى أنّه من باب التخصيص، بدعوى أنَّ النسبة بين أدلة الاستصحاب وأدلّة الأمارات وإن كانت هي العموم من وجه، إلا أنّه لابدّ من تخصيص أدلة الاستصحاب بأدلة الأمارات وتقديمها عليها؛ لأنَّ النسبة المتحقّقة بين الأمارات والاستصحاب هي النسبةُ بينها وبين جميع الأصول العملية، فلو عمل بالأصول لم يبق مورد للعمل بالأمارات، فيلزم إلغاءها، إذ من الواضح أنّه لا يوجد مورد من الموارد إلا وهو مجرى لأصل من الأصول العملية مع قطع النظر عن الأمارة القائمة فيه. مصباح الأصول، تقرير بحث الخوئي، محمد سرور الواعظ البهسودي، ج3، ص247.

([403]) لم نعثر على من قال بالتوفيق العرفي.

([404]) درر الفوائد، الشيخ عبد الكريم الحائري، ج2، ص622 - 623.

([405]) كفاية الأصول، الآخوند الخراساني، ص429.

([406]) فرائد الأصول، الشيخ مرتضى الأنصاري، ج3، ص314.

([407]) الاصول من الكافي، محمد بن يعقوب الكليني، ج1، ص67، باب اختلاف الحديث، ح10، والحديث طويل.

([408]) سورة النحل، الآية 43. سورة الأنبياء، الآية 7.

([409]) نهاية الدراية في شرح الكفاية، الشيخ محمد حسين الغروي الأصفهاني، ج3، ص285.

([410]) لم نعثر على النسبة، ثم إنّه في زبدة الأصول، ومنتهى الدراية جعلا الأقوال ثلاثة، ولم يكن التوفيق العرفي منها، ففي الزبدة في وجه تقديم الاستصحاب على سائر الأصول العملية - نقلية وعقلية-: لكن يبقى السؤال عن وجه تقديم المحرز على غير المحرز، وأنَّ تقديمه عليها للورود، أو الحكومة،
أو التخصيص، حيثُ فيه وجوهاً وأقوالا. زبدة الأصول، السيد محمد صادق الروحاني، ج4، ص173 - 174.

وفي المنتهى: هذه هي الجهة الأولى، وحاصلها: إن النسبة بين الاستصحاب وبين الأصول الشرعية هي الورود، فهو وارد على الأصول، كورود الأمارة على الاستصحاب، وفي قباله قولان آخران، أحدهما الحكومة، وثانيهما التخصيص. منتهى الدراية في توضيح الكفاية، السيد المروج، ج7، ص777.

نعم، بناءً على أن المراد من الورود هو التوفيق العرفي تكون النسبة صحيحة.

([411]) حقائق الأصول، السيد محسن الحكيم، ج2، ص537. قوله: (هي بعينها النسبة) يعني نسبة الاستصحاب إلى سائر الأصول نسبة الوارد إلى المورود، وعلله في الحاشية بقوله: فإنَّ المشكوك معه يكون من وجه وبعنوان مما علم حكمه، وإن شك فيه بعنوان آخر وموضوع الأصول هو المشكوك من جميع الجهات. انتهى.

([412]) كفاية الأصول، الآخوند الخراساني، ص430. أما الأول: فالنسبة بينه وبينها هي بعينها النسبة بين الأمارة وبينه، فيقدم عليها ولا مورد معه لها.

([413]) الاصول من الكافي، محمد بن يعقوب الكليني، ج5، ص313، باب النوادر، ح40.

([414]) لعله يشير إلى الفاضل النراقي في مناهج الأحكام، ص235.

([415]) لم نعثر عليه.

([416]) المصدر السابق.

([417]) وسيلة الوصول إلى حقائق الأصول، تقرير بحث الأصفهاني، حسن السيادتي السبزواري، ص793. وهذه المسألة المعنونة في كلام الفاضل النراقي، المبتدع لها بمسألة المزيل والمزال.

([418]) هو السيد محمد بن محمد تقي بن عبد المطلب الحسيني التنكابني، المقيم بطهران، المولود في آخوند محله من قرى سخت سر (رام سر) تنكابن سنة (1277هـ)، وتوفي بدماوند، يوم الثلاثاء عاشر جمادى الثانية سنة (1359هـ). راجع الذريعة إلى تصانيف الشيعة، آغا بزرك الطهراني، ج26، ص76.

([419]) إيضاح الفرائد، السيد محمد التنكابني، والكتاب ليس بأيدينا.

([420]) كشف الغطاء عن مبهمات الشريعة الغراء، الشيخ جعفر كاشف الغطاء، ج1، ص200.

([421]) هو الشيخ علي بن محمد بن حسن بن زين الدين - الشهيد الثاني -  العاملي، الجبعي، أمره في العلم والفضل والفقه والتبحر والتحقيق وجلالة القدر أشهر من أن يذكر، له كتب منها: الدر المنظوم من كلام المعصوم، وهو شرح الكافي، خرج منه كتاب العقل وكتاب العلم مجلد، والدر المنثور في المأثور وغير المأثور، خرج منه مجلدان، وحاشية شرح اللمعة مجلدان.. . أمل الآمل، محمد بن الحسن الحر العاملي، ج1، ص129.

([422]) نقل الحكاية عن حاكيها الشيخ الأعظم، قائلا: (ثم اعلم أنه قد حكى بعض مشايخنا المعاصرين عن الشيخ علي في حاشية الروضة دعوى الإجماع على تقديم الاستصحاب الموضوعي على الحكمي). راجع فرائد الأصول، الشيخ مرتضى الأنصاري، ج3، ص405.

وفي هامشها: هو شريف العلماء، انظر تقريرات درسه في ضوابط الأصول، ص386.

([423]) لعله يشير إلى ما في فرائد الأصول، الشيخ مرتضى الأنصاري، ج3، ص404، حيث قال: وتبعه - ابن العلامة- في ذلك بعض من عاصرناه، فحكم في الجلد المطروح بأصالة الطهارة، وحرمة الصلاة فيه.

باعتبار أن صاحبي القوانين والرياض ممن عاصراه، فكل منهما توفي سنة (1231هـ)، ووفاة الشيخ سنة (1281هـ).

([424]) النسبة إلى الرياض فيها نظر، فعبارته غير ظاهرة في المطلوب، قال: (ثمّ إنّ اعتبار التذكية في العبارة يقتضي اعتبار العلم بها وإلحاق الجلد مع الجهل به بالميتة، وبه صرح جماعة من أصحابنا، وإن اختلفوا في إطلاق الإلحاق أو لزوم التقييد بالوجدان فيما عدا بلاد أهل الإسلام، خلافاً لنادر من المتأخرين، فاكتفي بالجهل بكونه جلد ميتة عن العلم بالتذكية، وحكم بالطهارة للأصل، ويدفع بما يأتي، ولاستصحاب طهارة الجلد والملاقي، ويعارض باستصحاب عدم التذكية). رياض المسائل، السيد علي الطباطبائي، ج2، ص426.

وفي ج3، ص152. في لباس المصلي: ثمّ إنَّ هذا إذا علم كونه ميتة، أو وجد في يد كافر، أما مع الشك في التذكية فقد مضى في أواخر كتاب الطهارة (المنع عنه) أيضاً، وفاقاً لجماعة، خلافاً لنادر، وقد عَرَفْتَ مستنده وضعفه بمعارضته بالمعتبرة المستفيضة المعتضدة بالشهرة، واستصحاب بقاء شغل الذمة، نعم لو أخذ من بلاد الإسلام حكم بذكاته، وكذا لو أخذ من يد مسلم.

([425]) القوانين المحكمة في الأصول المتقنة، الميرزا أبو القاسم القمي، ج3 - 4، ص176. فيمكن أن يقال في مثله: إنّه لا ينجس ملاقيه مع الرّطوبة، ولكن لا يجوز الصَّلاة معه أيضا.

([426]) نقلا عن فرائد الاصول مع حواشي اوثق الرسائل، موسى بن جعفر التبريزي، ج6، ص173.

([427]) المعتبر في شرح المختصر، المحقق الحلي، ج1، ص32، الثالث: استصحاب حال الشرع كالمتيمم يجد الماء في أثناء الصلاة، فيقول المستدل على الاستمرار: صلاة مشروعة قبل وجود الماء فيكون كذلك بعده، وليس هذا حُجَّة لأنَّ شرعيتها بشرط عدم الماء لا يستلزم الشرعية معه، ثم مثل هذا لا يسلم عن المعارضة بمثله؛ لأنك تقول: الذمة مشغولة قبل الاتمام، فيكون مشغولة بعده.

([428]) رياض المسائل، السيد علي الطباطبائي: ج1، ص140، وأما لو انفعل ما في الحوض ثم اتصل بالمادة المزبورة المشكوك كريتها، فالأقرب البقاء على النجاسة لاستصحابها السليم عن المعارض، وإن احتمل الطهارة أيضا في الجملة، بمعنى عدم تنجيسه ما يلاقيه بإمكان وجود المعارض من جانب الملاقي الطاهر لمثله، إلا أن الظاهر كون الاستصحاب الأول مجمعا عليه.

([429]) الرسائل، السيد الخميني، ج1، ص246.

([430]) تهذيب الأحكام، ابو جعفر محمد بن الحسين الطوسي، ج1، ص8، باب الأحداث الموجبة للطهارة، ح11.

([431]) لم نعثر على من ذكر هذا اللفظ، نعم في الرسائل الفقهية، الوحيد البهبهاني، ص35. والشارع قال: لا تنقض اليقين إلا بيقين مثله. وأيضا في ص122، ص168.

([432]) نهاية الدراية في شرح الكفاية، الشيخ محمد حسين الغروي الأصفهاني، ج2، ص588.

([433]) هو الشيخ محمد حسين الغروي الأصفهاني، ولد سنة (1296هـ)، وتوفي سنة (1361هـ)، من أشهر أعلام المحققين، له مؤلفات عديدة في الفقه وأصوله، أشهرها نهاية الدراية في شرح الكفاية، وله أيضاً بحوثٌ في الأصول يتضمّن ثلاث رسائل، هي: الأصول على النهج الحديث، الطلب والإرادة، الاجتهاد والتقليد، وله بحوث في الفقه يتضمن ثلاث رسائل، هي: رسالة في صلاة الجماعة، رسالة في صلاة المسافر، رسالة في الإجارة. نهاية الدراية في شرح الكفاية، الشيخ محمد حسين الغروي الاصفهاني، ج1، ص6- 9.

([434]) نهاية الدراية في شرح الكفاية، الشيخ محمد حسين الغروي الأصفهاني، ج2، ص287.

([435]) منتهى الأصول، محمد حسن الموسوي البجنوردي، ج2، ص495 - 496.

([436]) لم نعثر عليه.

([437]) مصباح الأصول، تقرير بحث الخوئي، محمد سرور الواعظ البهسودي، ج3، ص180.

([438]) فرائد الاصول، الشيخ مرتضى الانصاري، ج2، ص243.

([439]) نسبه إليهم في مصباح الأصول، تقرير بحث الخوئي، محمد سرور الواعظ البهسودي، ج3، ص182.

([440]) كفاية الأصول، الآخوند الخراساني، ص419 - 420، وأخرى كان الأثر لعدم أحدهما في زمان الآخر، فالتحقيق أنه ليس بمورد للاستصحاب.

([441]) كفاية الاصول، الشيخ كاظم الخراساني، ص420 - ص422.

([442]) لعله يشير إلى أوثق الوسائل في شرح الرسائل، موسى التبريزي، ص508 – 509. وراجع أيضاً مصباح الأصول، تقرير بحث الخوئي، محمد سرور الواعظ البهسودي، ج3، ص183.

([443]) راجع مصباح الأصول، تقرير بحث الخوئي، محمد سرور الواعظ البهسودي، ج3، ص183.

([444]) معارج الأصول، نجم الدين ابي القاسم المحقق الحلي، ص52. تفريع: الأصل عدم النقل؛ لأن احتمال النقل لو ساوى احتمال البقاء على الأصل، لما حصل التفاهم عند التخاطب مع الإطلاق.

وفي القوانين المحكمة في الأصول المتقنة، الميرزا أبو القاسم القمي، ج1، ص521 - 522.

وأيضاً في هداية المسترشدين، الشيخ محمد تقي الرازي، ج1، ص224، أنا إذا علمنا ثبوت معنىً للفظ في العرف نَحْكُمُ لذلك بثبوتِهِ له في اللّغة أيضاً، نظراً إلى أصالة عدم النقل.

([445]) وذلك باعتبار تصريحهم بعدم شمول أخبار حجية الاستصحاب لقاعدة اليقين، كما سيأتي بيانه من المصنف P.

([446]) مفاتيح الأصول، السيد محمد الطباطبائي، ص658.

([447]) حكاه في فرائد الأصول، الشيخ مرتضى الانصاري، ج3، ص304. قائلاً: لكنّ التعبير لا يلزم دعوى شمول الأخبار للقاعدتين، على ما توهّمه غيرُ واحدٍ من المعاصرين، وإنْ اختلفوا بين مُدَّعٍ لانصرافها إلى خُصوصِ الاستصحاب، وبين مُنْكِرٍ له عامل بعمومها.

([448]) ذخيرة المعاد، المحقق محمد باقر السبزواري، ج1، ص44، (ط. ق).

([449]) مستطرفات السرائر، محمد بن إدريس الحلي، ج1، ص104، فإن كانَ الشكّ العارض بعد فراغه وانصرافه من مغتسله وموضعه لم يحفل بالشكّ وألغاه؛ لأنه لم يخرج عن حال الطهارة إلا على يقين من كمالها، وليس ينقض الشكُ اليقينَ.

([450]) فرائد الأصول، الشيخ مرتضى الأنصاري، ج3، ص303 - 304. حيث نقل كلام صاحب الذخيرة المتقدم، ثم قال: (ولعله P تفطَّنَ له من كلام الحلّي في السرائر، ثمَّ نقل كلامه المتقدم وقال: لكنّ هذا التعبير من الحلّي لا يلزم أنْ يكون استفاده من أخبار عدم نقض اليقين بالشك، ويقرب من هذا التعبير عبارة جماعة من القدماء).

([451]) فرائد الأصول، الشيخ مرتضى الأنصاري، ج1، ص373.

([452]) الذي يبدو لي أنها قاعدة وليست رواية، وهي معروفة في علم الحديث.

([453]) هو الميرزا حسن، ويقال محمد حسن ابن الميرزا جعفر ابن ميرزا محمد الآشتياني الرازي، ولد حدود (1248هـ) وتوفي سنة (1319هـ)، وكانت وفاته في طهران ونقل إلى النجف الأشرف، ودفن في الصحن الشريف في إحدى الحجرات فوق الرأس. له مؤلفات عديدة، منها: حاشية الرسائل، وتسمى بحر الفوائد، وله رسائل في مسائل عديدة، منها: إزاحة الشكوك في اللباس المشكوك، قاعدة الحرج، الإجزاء، نكاح المريض، القضاء والشهادات. اُنظر أعيان الشيعة، السيد محسن الأمين، ج5، ص38.

([454]) بحرف الفوائد في شرح الفرائد، محمد حسن الآشتياني، ج3، ص181.

([455]) اقتباس من حديث الرفع المعروف، الاصول من الكافي، محمد بن يعقوب الكليني، ج2، ص463، باب ما رفع عن الأمة، ح2. ونصه: (وضع عن أمتي تسع خصال: الخطأ، والنسيان، وما لا يعلمون، وما لا يطيقون، وما اضطروا إليه، وما استكرهوا عليه، والطيرة، والوسوسة في التفكر في الخلق، والحسد ما لم يظهر بلسان أو يد).

([456]) هداية المسترشدين، الشيخ محمد تقي الرازي، ج2، ص665، على أنَّ في صحة الاستصحاب في مثله أيضاً كلاماً، لكونه من الشكّ في المقتضي، والمختار في مثله عدم جريان الاستصحاب.

فرائد الأصول، الشيخ مرتضى الأنصاري، ج3، ص47 - 48، وكيف كان، فقد يفصّل بين كون الشكّ من جهةِ المقتضي، وبين كونهِ من جهةِ الرافع، فينكر الاستصحاب في الأول.

([457]) أمل الآمل، محمد بن الحسن الحر العاملي، ج2، ص250، رقم 736. مولانا محمد باقر بن محمد مؤمن الخراساني السبزواري، عالم، فاضل، محقق، متكلم، حكيم، فقيه، محدث، جليل القدر، من المعاصرين، له كتب: منها شرح الإرشاد لم يتم (ذخيرة المعاد)، وكتاب في الفقه (كفاية الأحكام)، ورسالة في تحريم الغناء.

وفي الذريعة إلى تصانيف الشيعة، آغا بزرك الطهراني، ج10، ص19، قال: (المولود سنة (1017هـ) والمتوفى كما في جامع الرواة سنة (1090هـ)).

([458]) من لا يحضره الفقيه، الشيخ الصدوق، ج1، ص352، ح1027.

([459]) هو الشيخ حسن ابن الشيخ جعفر صاحب كشف الغطاء ابن الشيخ خضر الجناجي النجفي، ولد في النجف سنة (1201هـ)، وتوفي يوم الأربعاء 27 أو 28 شوال سنة (1262هـ) في الوباء الذي حَلَّ بالعراق في كربلاء ثمّ في النجف، وهو أصغر أخوته سنّاً، وحذا حذو أخويه الشيخ موسى والشيخ علي، فكان إماماً رئيساً فقيهاً زاهداً صالحاً صدوقاً طاهر القلب، له مداعبات ونوادر، مواظباً على السنن والآداب، تتلمذ على عدّة مشايخ أجازوه في الرواية وشهدوا باجتهاده، منهم: والده الشيخ جعفر، أخوه الشيخ موسى، السيد جواد العاملي صاحب مفتاح الكرامة، الشيخ أسد الله التستري، المحدّث السيد عبد الله شبّر وغيرهم، له مؤلفات عديدة، منها: أنوار الفقاهة عزيزُ النظير، شرحُ مقدمات كاشف الغطاء في الأصول لوالده، تكملة شرح أبيه على قواعد العلاّمة، وغيرها كثير.

([460]) شرح المقدمة، الشيخ حسن كاشف الغطاء، ص235.

([461]) شرح المقدمة، الشيخ حسن كاشف الغطاء، ص235، ص239.

([462]) عوائد الأيام، أحمد بن محمد مهدي النراقي، ص375، وأما الدليل على وجوب ذلك الفحص والتفتيش، فهو العقل الصريح، والإجماع القطعي من الأمة.

([463]) سورة المائدة، الآية 101.

([464]) قاعدة مستنبطة من الروايات، إذ لا توجد رواية بهذه الألفاظ، والموجود: (كل شيء نظيف حتى تعلم أنه قذر). تهذيب الأحكام، أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي، ج1، ص285، باب تلقين المحتضرين، ح119.

و(الماء كله طاهر حتى يعلم أنه قذر). الاصول من الكافي، محمد بن يعقوب الكليني، ج3، ص1، باب طهور الماء، ح2 - 3.

([465]) الاصول من الكافي، محمد بن يعقوب الكليني، ج3، ص351 - 352، باب السهو في الثلاث والأربع، ح3.

([466]) هو الشيخ المولى محمد شريف ابن المولى حسن علي المازندراني الحائري الشهير بشريف العلماء، من اعاظم العلماء في عصره، توفي (1246هـ) دفن في كربلاء وقبره مزار معروف، من اعظم تلامذته واشهرهم السيد ابراهيم القزويني والشيخ مرتضى الانصاري والسيد شفيع الجابلاقي وغيرهم. مرآة الكتب، ثقة الاسلام التبريزي، ص131.

([467]) تهذيب الأحكام، أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي، ج1، ص422، باب تطهير البدن والثياب من النجاسة، ح8.

([468]) الاصول من الكافي، محمد بن يعقوب الكليني، ج5، ص313 - 314، باب النوادر، ح40.

([469]) من لا يحضره الفقيه، الشيخ الصدوق ، ج1، ص257 - 258، ح791. عن الرجل يأتي
السوق فيشتري جبة فراء لا يدري أذكية هي أم غير ذكية أيصلي فيها؟ قال: (نعم، ليس عليكم المسألة، إن أبا جعفر B كان يقول: إن الخوراج ضيقوا على أنفسهم بجهالتهم، إن الدين أوسع
من ذلك).

([470]) الاصول من الكافي، محمد بن يعقوب الكليني، ج5، ص569، باب نوادر، ح5. قلت لأبي عبد
الله B: إني تزوجت امرأة فسألت عنها فقيل فيها، فقال: (وأنت لم سألت أيضاً، ليس عليكم التفتيش).

([471]) فرائد الأصول، الشيخ مرتضى الأنصاري، ج2، ص442.

([472]) القوانين المحكمة في الأصول المتقنة، الميرزا أبو القاسم القمي، ج2، ص470. وبالجملة: تقدم العلم بالوصف لا مدخلية له في ثبوت الوصف، والواجبات المشروطة بوجود شيء، إنما يتوقف وجوبها على وجود الشرط لا علي العلم بوجودها، فبالنسبة إلى العلم، مطلق لا مشروط، مثل أن من شك في كون ماله بقدر استطاعة الحج لعدم علمه بمقدار المال، لا يمكنه أن يقول: إني لا أعلم أني مستطيع، ولا يجب علي شيء، بل يجب عليه محاسبة ماله ليعلم أنه واجد للاستطاعة أو فاقد لها.

([473]) قاعدة لا ضرر ولا ضرار، تقرير بحث آغا ضياء الدين العراقي، السيد مرتضى الموسوي الخلخالي، ص16.

([474]) لم نعثر على مَنْ صَرَّحَ بالإجماع بما في أيدينا من مصادر، وفي عوائد الأيام، أحمد بن محمّد مهدي النراقي، ص43. قد شاع استدلالُ الفقهاء في كثيرٍ من المسائل الفقهية بنفي الضَّرر والضرار. انتهى. ثم ذكر أحد عشر رواية في نفي الضرر.

وفي ص53. وقد ظهر مما ذكر أنّ نفيَ الضرر والضرار في الأحكام الشرعية من الأصول والقواعد الثابتة بالأخبار المستفيضة، المعتضدة بعمل الأصحاب.

أقول: لا يخفى أنَّ القاعدة مشهورة، وأنَّ الفقهاء استدلوا بها في مختلف الأبواب الفقهية.

([475]) ويمكن الخدشة بالإجماع بأنه مدركي.

([476]) إيضاح الفوائد في شرح إشكالات القواعد، الحسن بن يوسف بن المطهّر الحلي، ج2، ص48. والضرر منفي بالحديث المتواتر.

([477]) فرائد الأصول، الشيخ مرتضى الأنصاري، ج2، ص457. قد ادعى فخر الدين في الإيضاح - في باب الرهن - تواتر الأخبار على نفي الضرر والضرار.

([478]) رسائل فقهية، الشيخ مرتضى الأنصاري، ص112.

([479]) ما يظهر من منهاج الهداية، الشيخ إبراهيم الكرباسي، ص506. في أكل الطين وما يلحق به، قال: نعم لو اضطر إلى شيء منها جاز أكله كساير المحرمات، ولاسيما إذا كان لدفع الهلاك، فإنه نفى الخلاف عنه في الإيضاح والمسالك، فضلاً عن فحوى ما دل على جواز أكل الميتة، للأصول والعمومات، وعموم نفي الضرر مع تواتره، كما هو ظاهر أولهما، أو صريحه في موضع.

([480]) هو الميرزا موسى بن جعفر بن أحمد التبريزي، له حاشية على القوانين، وحاشية على الرسائل (أوثق الوسائل). انظر الذريعة إلى تصانيف الشيعة، آغا بزرك الطهراني، ج2، ص473.

([481]) أوثق الوسائل في شرح الرسائل، موسى التبريزي، ص415.

([482]) وسائل الشيعة، محمد بن الحسن الحر العاملي، ج25، ص427، ص433، باب12- 13- 14 - 15 - 16 من كتاب إحياء الموات.

([483]) المصدر السابق، ج25، ص399 - 400، باب 5 من أبواب الشفعة، ح1. عن أبي عبد
الله B قال: (قضى رسول الله صلى الله عليه واله وسلم بالشفعة بين الشركاء في الأرضين والمساكن، وقال: لا ضرر ولا ضرار، وقال: إذا أرفت الأرف وحدت الحدود فلا شفعة). وفي ح2: ورواه الصَّدوقُ بإسناده عن عقبة بن خالد، وزاد: (ولا شفعة إلاّ لشريك غير مقاسم).

([484]) المصدر السابق، ج18، ص32، باب 17 من أبواب التجارة، ح3 - 4 - 5.

([485]) الاصول من الكافي، محمد بن يعقوب الكليني، ج5، باب الضرار، ص292، ص294.

([486]) الإكمال في أسماء الرجال، محمد بن عبد الله الخطيب التبريزي، ص91. هو سمرة بن جندب الفزاري حليف الأنصار.

وفي طرائف المقال في معرفة طبقات الرجال، السيد علي بن محمد البروجردي، ج2، ص138، رقم8072. سمرة بن جندب (ل): وفيه ذموم كثيرة.

([487]) العَذق بفتح أوله وسكون ثانيه: النخلة المثمرة كفلس، ويجمع على أعذق كأفلس، وبكسر العين عنقود النخلة، ويجمع على أعذاق كحمل وأحمال. لسان العرب، ابن منظور، ج10، ص238.

([488]) المراد بالحائط: البستان.

([489]) من لا يحضره الفقيه، الشيخ الصدوق، ج3، باب عدم جواز الإضرار بالمسلم، ص103،
ح3423.

([490]) هو السيد عبد الرزاق بن محمد بن عباس بن حسن بن قاسم النسابة بن حسون الموسوي آل المقرم الدغاري النجفي، معاصر لآغا بزرك الطهراني، وهو أحد أعلام العصر المنقدين المكثرين من التأليف، منها: كتاب الإمام السبط المجتبى، وكتاب حياة الإمام السبط الشهيد ومقتله، وكتاب السيدة سكينة، وكتاب زيد الشهيد، وغيرها.

([491]) هو أبو محمد الحسين بن مسعود بن محمد المعروف بالفراء البغوي، الملقب ظهير الدين، الفقيه، الشافعي، صنّف كتباً كثيرة، منها: التهذيب في الفقه، وشرح السنة في الحديث، ومعالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم توفي في شوال سنة عشر وخمسمائة، ومصابيح السنة. اُنظر وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، ابن خلكان، ج2، ص136 - 137، رقم185.

([492]) هو أبو القاسم محمود بن عمر بن محمد بن عمر الخوارزمي الزمخشري، الإمام الكبير في التفسير والحديث والنحو واللغة وعلم البيان، له مؤلَّفات عديدة، منها: الكشاف في تفسير القرآن، والمحاجاة بالمسائل النحوية، والمفرد والمركَّب في العربية، والفائق في تفسير الحديث، وأساس البلاغة في اللغة وغيرها، وكان معتزليّ الاعتقاد متظاهراً به، ولد يوم الأربعاء السابع والعشرين من شهر رجب سنة سبع وستين وأربعمائة بزمخشر، وتوفي ليلة عرفة سنة ثمان وثلاثين وخمسمائة بجرجانية خوارزم. اُنظر وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، ابن خلكان، ج5، ص168، ص174، رقم711.

([493]) حكاه في عناية الأصول في شرح كفاية الأصول، الفيروزآبادي، ج4، ص301.

([494]) وسائل الشيعة، محمد بن الحسن الحر العاملي، ج25، ص429، باب 12 من إحياء الموات، ذيل حديث 3.

([495]) من لا يحضره الفقيه، الشيخ الصدوق، ج4، ص496.

([496]) الاصول من الكافي، محمد بن يعقوب الكليني، ج5، ص294، باب الضرار، ح8. وهي رواية ابن مسكان عن زرارة.

([497]) المصدر السابق، ج5، باب الضرار، ص292 - 293، ح2.

([498]) فرائد الأصول، الشيخ مرتضى الأنصاري، ج2، ص457، ص459.

([499]) وهو ما كان جميع رواته عدولاً إمامية.

([500]) عوائد الأيام، أحمد بن محمد مهدي النراقي، ص45، ص47.

([501]) هم مجموعة من الرواة، أجمعت الإمامية على تصديقهم وقبول رواياتهم. أوثق الوسائل في شرح الرسائل، موسى التبريزي، ص181.

([502]) الفطحية: هم القائلون بإمامة عبد الله بن جعفر بن محمد، وسُمّوا بذلك لأنه قيل: إنه كان أفطح الرأس، وقال بعضهم: كان أفطح الرجلين، وقال بعضهم: إنّهم نسبوا إلى رئيس من أهل الكوفة يقال له: عبد الله ابن فطيح. راجع اختيار معرفة الرجال، أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي، ج2، ص524.

([503]) من لا يحضره الفقيه، الشيخ الصدوق، ج3، ص103، ح3423.

([504]) الوجيزة في علم الدراية، محمد باقر المجلسي، طبعة حجري (1321هـ).

([505]) رجال النجاشي، ابو العباس احمد بن علي النجاشي، ص47، ر96. الحسن بن زياد العطار، مولى بني ضبة، كوفي ثقة، روى عن أبي عبد الله B، وقيل: الحسن بن زياد الطائي.

([506]) الظاهر أنه متحد مع الحسن بن زياد العطار.

([507]) محمد بن علي الأردبيلي، كان عالماً متبحراً في علم الرجال والحديث، ولد نحو (1058هـ) وتوفي سنة (1101هـ) في كربلاء، معاصراً للمجلسي، وقرأ عليه وعلى الشيخ محمد علي بن أحمد بن كمال الدين حسين الاسترآبادي، له كتاب جامع الرواة ورفع الاشتباهات، وتصحيح الأسانيد. أعيان الشيعة، السيد محسن الآمين، ج9، ص442. إجازات الحديث، محمد باقر المجلسي، ص121.

([508]) جامع الرواة، محمد علي الأردبيلي، ج1، ص200.

([509]) رسائل فقهية، الشيخ مرتضى الأنصاري، ص109 - 110.

([510]) عوائد الأيام، احمد محمد مهدي النراقي، ص45، ص47، حيث نقل قصة سمرة بن جندب بثلاث طرق، وقال: السابع: موثقة ابن بكير عن زرارة.. الثامن: رواية ابن مسكان عن زرارة.. التاسع: رواية الحذاء عن أبي جعفر B.

([511]) فقه الصادق B، السيد محمد صادق الروحاني، ج18، ص370 - 371.

([512]) نصّ الكافي لرواية ابن بكير، عن زرارة هكذا: (إن سمرة بن جندب كان له عذق، في حائط لرجل من الأنصار، وكان منزل الأنصاري بباب البستان، وكان يمر به إلى نخلته ولا يستأذن، فكلمه الأنصاري أن يستأذن إذا جاء، فأبى سمرة، فلما تأبى، جاء الأنصاري إلى رسول الله صلى الله عليه واله وسلم، وشكا إليه وخبّره الخبر، فأرسل إليه رسول الله صلى الله عليه واله وسلم وخبره بقول الأنصاري وما شكا، وقال: إن أردت الدخول فاستأذن فأبى، فلما أبى ساومه حتى بلغ به من الثمن ما شاء الله، فأبى أن يبيع، فقال: لك بها عذق يمد لك في الجنة، فأبى أن يقبل، فقال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم للأنصاري: اذهب فاقلعها وارم بها إليه فإنه لا ضرر ولا ضرار). الاصول من الكافي، محمد بن يعقوب الكليني، ج5، ص292 - 293، باب الضرار، ح2.

وتقدم عن الكافي نص رواية ابن مسكان عن زرارة.

ونص رواية الفقيه هكذا: وروى ابن بكير، عن زرارة، عن أبي جعفر B، قال: (إن سمرة بن جندب كان له عذق في حائط رجل من الأنصار، وكان منزل الأنصاري فيه الطريق إلى الحائط، فكان يأتيه فيدخل عليه ولا يستأذن، فقال: إنك تجيء وتدخل ونحن في حال نكره أن ترانا عليه، فإذا جئت فاستأذن حتى نتحرز ثم نأذن لك وتدخل، قال: لا أفعل، هو مالي أدخل عليه ولا أستأذن، فأتى الأنصاريُّ رسولَ الله صلى الله عليه واله وسلم فشكى إليه وأخبره، فبعث إلى سمرة فجاءه، فقال له: استأذن عليه، فأبى، وقال له مثل ما قال للأنصاري، فعرض عليه رسول الله صلى الله عليه واله وسلم أن يشتري منه بالثمن، فأبى عليه، وجعل يزيده فأبى أن يبيع، فلما رأى ذلك رسول الله صلى الله عليه واله وسلم قال له: لك عذق في الجنة، فأبى أن يقبل ذلك، فأمر رسول الله صلى الله عليه واله وسلم الأنصاري أن يقلع النخلة فيلقيها إليه، وقال: لا ضرر ولا إضرار). من لا يحضره الفقيه، الشيخ الصدوق، ج3، ص233، ح3859.

ونص رواية التهذيب: عن زرارة، عن أبي جعفر B، قال: (إن سمرة بن جندب لعنه الله كان له عذق في حائط لرجل من الأنصار، وكان منزل الأنصاري بباب البستان، وكان يمر به إلى نخلته ولا يستأذن، فكلمه الأنصاري أن يستأذن إذا جاء فأبى سمرة، فلما تأبى جاء الأنصاري إلى رسول
الله صلى الله عليه واله وسلم فشكا إليه وخبّره الخبر، فأرسل إليه رسول الله صلى الله عليه واله وسلم وخبّره بقول الأنصاري وما شكا إليه، فقال: إذا أردت الدخول فاستأذن، فأبى، فلمّا أبى ساومه حتَّى بلغ من الثمن ما شاء الله، فأبى أن يبيع، فقال: لك بها عذق في الجنة، فأبى أنْ يقبل، فقال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم للأنصاري: اذهب فاقلعها وإرم بها إليه فإنه لا ضرر ولا ضرار). تهذيب الأحكام، أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي، ج7،
ص146 - 147، باب أحكام الأرضين، ح36.

([513]) رسائل فقهية، الشيخ مرتضى الأنصاري، ص110.

([514]) من لا يحضره الفقيه، الشيخ الصدوق، ج3، ص104.

([515]) كتاب المباني الجعفرية للشيخ جعفر ابن الشيخ عبد الحسن ابن الشيخ راضي الفقيه النجفي المتوفى سنة (1344هـ). الذريعة، اغا بزرك الطهراني، ج5، ص220.

([516]) هو المولى الجليل الخليل بن الغازي القزويني، فاضل عالم علامة حكيم متكلم محقق مدقق فقيه محدث ثقة ثقة، جامع للفضائل، ماهر معاصر، له مؤلفات، منها: شرح الكافي فارسي، وشرح عربي، وشرح العدّة في الأصول، ورسالة الجمعة، وحاشيةُ مجمع البيان، والرسالة النجفية، والرسالة القمية.. وغير ذلك. أمل الآمل، محمد بن الحسن الحر العاملي، ج2، ص112، ر314.

([517]) هو ميرزا محمد الأسترآبادي.

([518]) سَمُرة من فزارة العدنانية القيسية والأنصار من أوسهم وخزرجهم من الأزد القحطانية، وشتان بين النسبين فما حُكي عن رجال الميرزا محمد فيه نظر.

([519]) صحيح البخاري، ابو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، ج8، ص84 - 85، باب التعبير.

([520]) هو أبو بكر أحمد بن الحسين بن عليّ بن عبد الله بن موسى البيهقي الخسروجردي،
الفقيه الشافعي، الحافظ الكبير المشهور، ولد في شعبان سنة أربع وثمانين وثلاثمائة، ومن مصنّفاته السنن الكبير، والسنن الصغير، ودلائل النبوة، وتوفي في العاشر من جمادي الأولى سنة ثمان وخمسين وأربعمائة بنيسابور ونقل إلى بيهق. اُنظر وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، ابن خلكان، ج1،
ص74 - 75، ر28.

([521]) في صحيح مسلم، ابو الحسين سلم بن الحجاج، ج5، ص41، باب تحريم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام. ونصه: عن ابن عباس قال: بلغ عمر أن سمرة باع خمراً، فقال: قاتل الله سمرة، ألم يعلم أن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم قال: (لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها). ومثله في السنن الكبرى، احمد بن الحسن البيهقي، ج6، ص12، باب تحريم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام. والحديث مروي في العديد من المصادر الروائية، كمسند أحمد، ابو الحسين سلم بن الحجاج، ج1، ص25. سنن الدارمي، عبد الله الدارمي، ج2، ص115.

([522]) الروضة من الكافي، محمد بن يعقوب الكليني، ج8، ص332، ح515.

([523]) هو عز الدين أبو حامد عبد الحميد بن هبة الله بن محمد بن محمد بن الحسين ابن أبي الحديد الأنباري البغدادي المعتزلي، ناظم السبع العلويّات، وشارح نهج البلاغة، ولد في المدائن سنة (586هـ)، ومات (في بغداد) سنة (655هـ) قبل انقراض بني العباس بسبعة عشر يوماً. اُنظر الذريعة إلى تصانيف الشيعة، آغا بزرك الطهراني، ج9، ص17.

([524]) سورة البقرة، الآية 204 - 205.

([525]) سورة البقرة، الآية 207.

([526]) شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج4، ص73.

([527]) هو السيد مير مصطفى بن الحسين الحسيني التفرشي، من أعلام القرن الحادي عشر الهجري، ومن كبار تلامذة المحقق عبد الله بن الحسين التستري.

([528]) نقد الرجال، مصطفى بن الحسين التفرشي، ج2، ص374، حاشية رقم 5.

([529]) شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج4، ص78، ص79.

([530]) هو أحمد بن محمد بن سعيد بن عبد الرحمن بن زياد بن عبد الله بن زياد بن عجلان مولى عبد الرحمن ابن سعيد بن قيس السبيعي الهمداني، رجل جليل في أصحاب الحديث، مشهور بالحفظ، والحكايات تختلف عنه في الحفظ وعظمه، وكان كوفياً زيدياً جارودياً على ذلك حتَّى مات وذكره أصحابنا لاختلاطه بهم ومداخلته إيّاهم وعظم محله وثقته وأمانته. رجال النجاشي، أبو العباس أحمد بن علي النجاشي، ص94، ر233.

وفي ص95. قال: (ومات أبو العباس بالكوفة سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة).

([531]) حكاه في الغدير في الكتاب والسنة والأدب، الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني، ج1، ص44. قائلاً: أبو سليمان سمرة بن جندب الفزاري حليف الأنصار، المتوفي بالبصرة – على خلاف- سنة (58 او 59 او 60هـ)، هو أحد رواة حديث الغدير في حديث الولاية لابن عقدة.

([532]) حكاه في منية الطالب في شرح المكاسب، تقرير بحث النائيني، الشيخ موسى بن محمد الخوانساري، ج3، ص397. ولكن أورد عليه شيخنا الأنصاري P إيرادين: الأول: ما أفاده في رسالته المعمولة في هذه المسألة التي طبعت في آخر كتاب مكاسبه، فقال P: وفي هذه القصة إشكال من حيث حكم النبي صلى الله عليه واله وسلم بقلع العذق، مع أن القواعد لا تقتضيه، ونفي الضرر لا يوجب ذلك، لكن لا يخل بالاستدلال. راجع رسائل فقهية، الشيخ مرتضى الأنصاري، ص111.

([533]) الفروع من الكافي، محمد بن يعقوب الكليني، ج5، ص280، باب الشفعة، ح4.

([534]) لعله يشير إلى ما في تسديد الأصول، الشيخ محمد المؤمن القمي، ج2، ص269، مضافاً إلى ما عرفت من أن بعض نسخ الفقيه التي قيل أنه نسخة مصححة نقله. (ولا إضرار).

([535]) لم نعثر عليه.

([536]) هو الميرزا فتح الله بن محمد بن جواد النمازي الشيرازي الأصفهاني، المدعو بشيخ الشريعة، ولد في أصفهان سنة (1266هـ)، وتوفي في النجف في 8 ربيع الثاني سنة (1339هـ). اُنظر الذريعة إلى تصانيف الشيعة، آغا بزرك الطهراني، ج10، ص119.

([537]) الرسائل، السيد الخميني، ج1، ص24.

([538]) الفروع من الكافي، محمد بن يعقوب الكليني، ج5، ص293 - 294، باب الضرار، ح6. وفيها: عن عقبة بن خالد، عن أبي عبد الله B، قال: (قضى رسول الله صلى الله عليه واله وسلم بين أهل المدينة في مشارب النخل أنه لا يمنع نفع الشيء، وقضى صلى الله عليه واله وسلم بين أهل البادية أنه لا يمنع فضل ماء ليمنع به فضل كلاء، وقال: لا ضرر ولا ضرار).

([539]) مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل، الميرزا حسين النوري، ج17، باب 11 من أبواب كتاب الشفعة، ح5.

([540]) نهج البلاغة، شرح محمد عبده، ج3، ص100.

([541]) مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل، الميرزا حسين النوري، ج14، باب 19 من أبواب كتاب الإجارة، ح4.

([542]) مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل، الميرزا حسين النوري، ج13، باب 10 من أبواب كتاب الصلح، ح1. ودعائم الإسلام، ابو حنيفة النعمان ابن المنذر، ج2، ص504، ح1805.

([543]) لا توجد عندنا طبعة النجف الأشرف، وما بأيدينا هو طبعة جامعة المدرسين في قم، وفيها: (لا ضرر ولا إضرار في الإسلام). من لا يحضره الفقيه، الشيخ الصدوق، ج4، ص334، ح5718.

([544]) هو الشيخ غلام رضا بن رجب علي القمي المعروف بحاج آخوند القمي، المتوفى 16 ذي حجة (1332هـ)، والمدفون بقم، تلميذ الشيخ الأنصاري والميرزا حبيب الله الرشتي والميرزا حسن الشيرازي، من مصنفاته: قلائد الفرائد، وهو شرح على فرائد الأصول. راجع الذريعة إلى تصانيف الشيعة، آغا بزرك الطهراني، ج17، ص164.

([545]) لعله يشير إلى ما في تذكرة الفقهاء، الحسن بن يوسف بن علي بن المطهر الحلي، ج12،
ص195.

([546]) في الرسائل الفقهية، الشيخ مرتضى الأنصاري، ص111. ومنها: ما عن التذكرة ونهاية ابن الأثير مرسلاً عن النبي صلى الله عليه واله وسلم: (لا ضَرَرَ ولا ضرار في الإسلام).

([547]) قلائد الفرائد، الشيخ غلام رضا القمي، ج1، ص671.

([548]) مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل، الميرزا حسين النوري، ج13، باب10 من أبواب كتاب الصلح، ح3.

([549]) الاصول من الكافي، محمد بن يعقوب الكليني، ج5، ص293، باب الضرار، ح5.

([550]) المصدر السابق، ج5، ص293، باب الضرار، ح4. تهذيب الأحكام، أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي، ج7، ص79، باب ابتياع الحيوان، ح55.

([551]) الاصول من الكافي، محمد بن يعقوب الكليني، ج5، ص293، باب الضرار، ح5.

([552]) الفروع من الكافي، محمد بن يعقوب الكليني، ج5، باب الضرار، ص293، ح3.

([553]) المصدر السابق، ج5، ص203 - 204، باب الضرار، ح6.

([554]) من لا يحضره الفقيه، الشيخ الصدوق، ج3، ص102، ح3420. مع اختلاف في ألفاظه، ونصه:
عن أبي عبد الله B: في رجلٍ أتى جبلاً فشق منه قناة جرى ماؤها سنةً، ثمَّ إنَّ رجلاً أتى ذلك الجبل فشَقَّ منه قناة أخرى، فذهبت قناة الآخر بماءِ قناة الأوّل، قال: (يُقايسان بحقائب البئر ليلة ليلة،
 فينظر أيتها أضرَّت بصاحبتها، فإنْ كانت الأخيرة أضرَّت بالأولى فليتعور). ثم ذكر الزيادة التي في المتن.

([555]) تهذيب الأحكام، أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي، ج7، ص145، ح29، وفيه: عن أبي عبد
الله B، قال: (.. وقضى رسول الله صلى الله عليه واله وسلم في رجل احتفر قناة وأتى لذلك سنة، ثمّ إنَّ رجلاً حَفَرَ لجانبها قناة، فقَضَى أنْ يقاس الماء بجوانب البئر ليلةً هذه وليلةً هذه، فإنْ كانت الأخيرة أخذت ماء الأولى غورت الأخيرة، وإنْ كانت الأولى أخذت ماء الأخيرة لم يكن لصاحب الأخيرة على الأولى شيءٌ).

([556]) تهذيبُ الأحكام، أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي، ج3، ص158، باب النحل والهبة، ح28.

([557]) الفروع من الكافي، محمد بن يعقوب الكليني، ج7، ص350، باب ما يلزم من يحفر البئر فيقع فيها المار، ح3.

([558]) المصدر السابق، ج7، ص349 - 350، باب ما يلزم من يحفر البئر فيقع فيها المار، ح2. من
لا يحضره الفقيه، الشيخ الصدوق، ج4، ص155، ح5347. تهذيب الأحكام، أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي، ج10، ص223 - 224، باب ضمان النفوس وغيرها، ح11. وفيه: (مضر) بدل (يضر).

([559]) الفروع من الكافي، محمد بن يعقوب الكليني، ج5، ص293 - 294، باب الضرار، ح6.

([560]) لم نعثر على هذا اللفظ في مصادر الحديث عند الإمامية، وفي رسائل فقهية، الشيخ الأنصاري، ص111، (لا يمنع نقع البئر). وفي منية الطالب في شرح المكاسب، تقرير بحث النائيني، الشيخ موسى بن محمد الخوانساري، ج3، ص368 – 369. وفي بعض النسخ: بدل (نفع الشيء) (نفع البئر).

وفي كتاب الأم، الامام الشافعي، ج4، ص50: (لا يمنع نفع البئر)، وفي مسند أحمد، أحمد بن حنبل، ج5، ص327: (لا يمنع نفع بئر).

([561]) مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، علي بن ابي بكر الهيثمي، ج4، ص204، باب الحبس، باب جامع في الأحكام.

([562]) الفروع من الكافي، محمد بن يعقوب الكليني، ج5، ص292، باب الضرار، ح1.

([563]) تذكرة الفقهاء، الحسن بن يوسف بن المطهر الحلي، ج11، ص68.

([564]) المصدر السابق.

([565]) هو الشيخ فخر الدين الطريحي النجفي، فاضل، عالم، محدث، لغوي، زاهد، عابد، من مصنفاته كتاب مجمع البحرين. طرائف المقال في معرفة طبقات الرجال، السيد علي البروجردي، ج1، ص69، ر181.

([566]) مجمع البحرين، فخر الدين الطريحي، ج3، ص16.

([567]) هو الإمام الحافظ أبو الحسن نُورُ الدّين عليّ بن أبي بكر بن سليمان بن أبي بكر بن عمر بن صالح الهيثمي، ولد سنة 735 في مصر، وتوفي سنة 807. اُنظر معرفة الثقات، العجلي، ج1، ص145، ص153، الباب الرابع.

([568]) مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، نور الدين علي بن ابي بكر الهيثمي، ج4، ص110.

([569]) هو الإمام علاء الدين أبي بكر بن مسعود الكاساني الحنفي، الملقب بملك العلماء، المتوفى سنة (587هـ).

([570]) بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، علاء الدين أبو بكر الكاشاني، ج6، ص118.

([571]) هو محمد بن أحمد بن أبي سهل السرخسي، الإمام، شمس الأئمة، أبو بكر الفقيه الحنفي، صنف من الكتب: الأصول في الفقه، أمالي في الفقه، المبسوط في الفروع، وغيرها، توفي سنة (483هـ). اُنظر هداية العارفين، اسماعيل باشا البغدادي، ج2، ص76.

([572]) المبسوط، شمس الدين السرخسي، ج14، ص16، ص81، ص91. ج23، ص175، ص200. ج25، ص12.

([573]) النهاية في غريب الحديث، مجد الدين ابن الأثير، ج3، ص81.

([574]) من لا يحضره الفقيه، الشيخ الصدوق، ج4، ص334، ح5718. وفيه: (لا ضرر ولا إضرار في الإسلام).

([575]) كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال، علاء الدين علي المتقي الهندي، ج5، ص843، ح14534.

([576]) تقدم منه آنفا أن النسخة المصحّحة للفقيه فيها: (لا ضرر ولا إضرار في الإسلام).

([577]) الخلاف، أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي، ج3، ص42.

([578]) غنية النزوع، ابن زهرة الحلبي، ص224.

([579]) مسند أحمد، أحمد بن حنبل، ج5، ص327.

([580]) السنن الكبرى، أحمد بن الحسين البيهقي، ج6، ص69.

([581]) هو أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد بن حمدويه بن نعيم بن الحكم الضبي الطهماني، المعروف بالحاكم النيسابوري، له مصنفات كثيرة، منها: تاريخ علماء نيسابور، والمدخل إلى علم الصحيح، والمستدرك على الصحيحين، ولد في ربيع الأول سنة إحدى وعشرون وثلاثمائة بنيسابور، وتوفي بها يوم الثلاثاء ثالث صفر سنة خمس وأربعمائة. وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، ابن خلكان، ج4، ص281، ر615.

([582]) المستدرك على الصحيحين، ابو عبد الله الحاكم النيسبابوري، ج2، ص58.

([583]) سنن ابن ماجة، محمد بن يزيد القزويني، ج2، ص784، ح2340 - 2341.

([584]) سنن الدار قطني، علي بن عمر الدار قطني، ج4، ص145 - 146، ح4493.

وهو أبو الحسن علي بن عمر بن أحمد بن مهدي البغدادي الدارقطني، الحافظ المشهور، على مذهب الشافعي، من مصنّفاته السنن، والمختلف والمؤتلف، والدارقطني نسبة إلى دار القطن محلّة مشهورة في بغداد، ودفن قريباً من معروف الكرخي في مقبرة باب الدير. اُنظر وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، ابن خلكان، ج3، ص297، ص299، ص434.

([585]) هو الإمام أبو عبد الله مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر بن عمرو بن الحارث بن غيمان بن جثيل ابن عمرو ذي أصبح الأصبحي، إمام دار الهجرة، وأحد الأئمة الأعلام، ولد في سنة خمس وتسعين للهجرة، وحمل به ثلاث سنين، وتوفي في شهر ربيع الأول سنة تسع وسبعين ومائة. اُنظر وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، ابن خلكان، ج4، ص135، ص139، ر550.

([586]) الموطأ، أنس بن المالك، ج2، ص745، ح31.

([587]) هو أبو الفضل جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر بن ناصر الدين محمد السيوطي الشافعي، الفاضل المعروف، صاحب المصنفات المشهورة في فنون شتى، قيل أنها تزيد على خمسمائة مصنف. اُنظر الكنى والألقاب، الشيخ عباس القمي، ج2، ص343.

([588]) الجامع الصغير في أحاديث البشير النذير، جلال الدين السيوطي، ج2، ص749، ح9899.

([589]) مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل، الميرزا حسين النوري، ج17، باب 11 من أبواب إحياء الموات، ح2.

([590]) دعائم الإسلام، ابو حنيفة النعمان بن المنذر، ج2، ص505، ح1810. وفيه: رائغة بدلاً من رائقة.

([591]) مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل، الميرزا حسين النوري، ج14، باب 20 من أبواب الإجارة، ح1.

([592]) مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل، الميزرا حسين النوري، ج14، باب 67 من أبواب مقدمات النكاح، ح7.

([593]) الفروع من الكافي، محمد بن يعقوب الكليني، ج5، ص129، باب ما يَحلُّ لِقَيِّمِ اليتيم منه، ح4. تهذيب الأحكام، أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي، ج6، ص339، باب المكاسب، ح68. مع اختلاف قليل في الألفاظ.

([594]) الفروع من الكافي، محمد بن يعقوب الكليني، ج6، ص40، باب الرضاع. عن أبي عبد
الله B قال: (الرّضاعُ واحدٌ وعشرون شهراً، فما نَقَصَ فهو جَوْرٌ على الصبي). وفي باب نفقة الحبلى، ص103، ح3. (وأمّا قوله: [وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ]، فإنّه نَهَى أنْ يُضَارّ بالصَّبيّ أو يُضَارّ أمّه في رضاعه).

([595]) المكاسب، الشيخ مرتضى الأنصاري، ج1، ص275.

([596]) عيون أخبار الرضا B، الشيخ الصدوق، ج1، ص32، ح26.

([597]) فرائد الأصول، الشيخ مرتضى الأنصاري، ج2، ص457، قد ادعى فخر الدين في الإيضاح - في باب الرهن - تواتر الأخبار على نفي الضرر والضرار.

راجع إيضاح الفوائد في شرح إشكالات القواعد، الحسن بن يوسف بن المطهّر الحلي، ج2، ص48. والضرر منفي بالحديث المتواتر.

([598]) تذكرة الفقهاء، الحسن بن يوسف بن المطهر الحلي، ج5، ص291. ج11، ص68.

([599]) الخلاف، أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي، ج3، ص81، ص83، ص440.

([600]) التبيان في تفسير القرآن، أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي، ج1، ص379.

([601]) النهاية في غريب الحديث، مجد الدين ابن الأثير، ج3، ص81.

([602]) مسند أحمد، أحمد بن حنبل، ج5، ص327.

([603]) راجع المجموع، محيي الدين النووي، ج13، ص238. الحديث رواه أحمد في مسنده عن ابن عباس، وابن ماجه في سننه عن عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه واله وسلم: (لا ضرر ولا ضرار)، وإسناده حسن.

أقول: لم نعثر على حكاية لفظ (لا ضرر ولا ضرار في الإسلام) عن أحمد أو ابن ماجه.

([604]) في المصباح المنير في الغريب، الشرح الكبير للرافعي، أحمد بن محمد المقري، ص360.

([605]) النهاية في غريب الحديث، مجد الدين ابن الأثير، ج3، ص81.

([606]) بداية الوصول في شرح كفاية الأصول، الشيخ محمد طاهر آل الشيخ راضي، ج7، ص300.

([607]) المصباح، ابراهيم بن علي الكفعمي، ص346.

([608]) العين، الخليل بن أحمد الفراهيدي، ج7، ص6.

([609]) الشيخ الميرزا ابو الحسن بن عبد الحسين المشكيني، عالم فقيه، ولد في احدى قرى مشكين سنة (1305هـ) ونشأ بها، هاجر الى اردبيل ثم الى النجف اوخر سنة (1328هـ) وحضر بها الابحاث العالية، اشتغل بالتدريس حتى عد من مدرسي النجف في الاصول والفقه، وحضر مجلس درسه جمع من اهل العلم الافاضل، مؤلفاته: حاشية العروة الوثقى، حاشية كفاية الاصول، رسالة في الرضاع، توفي بالكاظمية 27 جمادى الاخر سنة (1358هـ) ونقل الى النجف ودفن في الصحن الشريف. كفاية الاصول مع حواشي المشكيني، تحقيق سامي الخفاجي، ج1، ص29.

([610]) سورة البقرة، الآية 231.

([611]) سورة التوبة، الآية 107.

([612]) حقائق الأصول، السيد محسن الحكيم، ج2، ص376.

([613]) سورة البقرة، الآية 233.

([614]) هناك ثلاثة أشخاص يعرفون بالأخفش، وهم:

الأخفش الأصغر: وهو أبو الحسن علي بن سليمان، النحوي، روى عن المبرد وثعلب وغيرهما، وروى عنه المرزباني وأبو الفرج المعافى الجريري وغيرهما، توفي سنة خمس عشرة، وقيل: ست عشرة وثلاثمائة فجأة في بغداد، ودفن بمقبرة قنطرة بردان.

الأخفش الأوسط: وهو أبو الحسن سعيد بن مسعدة المجاشعي بالولاء، النحوي، البلخي أحد نحاة البصرة، وهو من أئمة اللغة العربية، وأخذ النحو عن سيبويه، توفي سنة خمس عشرة ومائتين، وقيل: سنة إحدى وعشرون ومائتين.

الأخفش الأكبر: هو أبو الخطاب عبد الحميد بن عبد المجيد، من أهل هجر من مواليهم، كان نحوياً لغوياً، أخذ عنه سيبويه وأبو عبيدة ومن في طبقتهما، ولم أظفر بتاريخ وفاته.

والأخفش هو الصغير العينين مع سوء بصرهما. اُنظر وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، ابن خلكان، ج2، ص380 - 381. ج3، ص301، ص303.

([615]) حكاه في شرح الرضي على الكافية، رضي الدين الأستراباذي، ج1، ص163.

([616]) لم نعثر على القائل، وكل مَن ذكره نسبه إلى القيل، النهاية في غريب الحديث، مجد الدين ابن اثير، ج3، ص82. لسان العرب، ابن منظور، ج4، ص482. تاج العروس، الزبيدي، ج7، ص122.

وقالوا: وقيل: هما بمعنى، وتكرارهما للتأكيد.

([617]) شرح شافية ابن الحاجب، رضي الدين الأسترابادي، ج1، ص83.

([618]) المصدر السابق.

([619]) عناية الأصول في شرح كفاية الأصول، الفيروزآبادي، ج4، ص305.

([620]) سورة البقرة، الآية 231.

([621]) سورة التوبة، الآية 107.

([622]) تفسير القمي، علي بن إبراهيم القمي، ج1، ص305. التبيان في تفسير القرآن، أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي، ج5، ص297 – 298. تفسير جوامع الجامع، الشيخ الفضل بن الحسن الطبرسي، ج2، ص94 - 95، مع اختلاف في ألفاظها.

([623]) سورة البقرة، الآية 233.

([624]) سورة النساء، الآية 12.

([625]) سورة البقرة، الآية 282.

([626]) سورة الطلاق، الآية 6.

([627]) الاصول من الكافي، محمد بن يعقوب الكليني، ج5، ص293، باب الضرار، ح5.

([628]) المصدر السابق، ج2، ص666، باب حق الدار، ح2. ج5، ص31، باب إعطاء الأمان، ح5.

([629]) سورة البقرة، الآية 193.

([630]) سورة الشورى، الآية 40.

([631]) النهاية في غريب الحديث، مجد الدين ابن الأثير، ج3، ص81.

([632]) عوائد الأيام، أحمد مهدي النراقي، ص48. رسائل فقهية، الشيخ مرتضى الأنصاري، ص113.

([633]) النهاية في غريب الحديث، مجد الدين ابن الأثير، ج3، ص81 - 82.

([634]) مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل، الميرزا حسين النوري، ج14، باب 20 من أبواب الإجارة، ح1.

([635]) الفروع من الكافي، محمد بن يعقوب الكليني، ج5، ص293، باب الضرار، ح5.

([636]) المصدر السابق، ح4. تهذيب الأحكام، أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي، ج7، ص79، باب ابتياع الحيوان، ح55. وفيه: فقال: (لصاحب الدرهمين خمس ما بلغ، فإن قال: أريد الرأس والجلد فليس له ذلك هذا الضرار، قد أعطي حقه إذا أعطي الخمس).

([637]) قاعدة لا ضرر، شيخ الشريعة الاصفهاني، ص12.

([638]) التبيان في تفسير القران، الشيخ الطوسي، ج1، ص379.

([639]) مصباح الأصول تقرير بحث الخوئي، محمد سرور الواعظ البهسودي، ج2، ص519- 520.

([640]) لم نعثر عليه، ولعله يكون هو من قاله.

([641]) حكى الحكاية في وسيلة الوصول إلى حقائق الأصول، تقرير بحث الأصفهاني، حسن السيادتي السبزواري، ص695.

([642]) الحكاية في أوثق الوسائل في شرح الرسائل، الميرزا موسى التبريزي، ص416.

([643]) حاشية على كفاية الأصول، تقرير بحث البروجردي، بهاء الدين الحجتي، ج2، ص335. راجع جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام، الشيخ حسن الجواهري، ج37، ص15.

([644]) حكاه في منتقى الأصول، تقرير بحث السيد الروحاني، السيد عبد الصاحب الحكيم، ج5، ص399.

([645]) النهاية في غريب الحديث، مجد الدين ابن الأثير، ج3، ص81. فمعنى قوله لا ضرر: أي لا يضر الرجل أخاه فينقصه شيئاً من حقه.

([646]) لسان العرب، ابن منظور، ج4، ص482. فمعنى قوله لا ضرر: أيْ لا يضرّ الرجل أخاه، مجمع البحرين، الشيخ فخر الدين الطريحي، ج3، ص16، أي لا يضرّ الرجل أخاه فينقصه شيئاً من حقه.

([647]) منية الطالب في شرح المكاسب، تقرير بحث النائيني، موسى بن محمد الخوانساري، ج3، ص380. الثاني: إرادة النهي من النفي، ومرجعه إلى تحريم الإضرار، وهذا هو الذي يظهر من كلمات اللغويين.

([648]) سورة البقرة، الآية 197.

([649]) سنن الدارمي، عبد الله الدارمي، ج2، ص248، باب في النهي عن الغش.

([650]) دعائم الإسلام، ابو حنيفة النعمان بن المنذر، ج2، ص193، ح701.

([651]) قاعدة مستفادة من النصوص الدالة على نفي القياس.

([652]) أصل الشيعة وأصولها، الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء، ص289.

([653]) روض الجنان في شرح ارشاد الاذهان، الشهيد الثاني، ج2، ص785.

([654]) سورة آل عمران، الآية 97.

([655]) تهذيب الأحكام، أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي، ج2، ص143، ح18. وفيه: علي بن يقطين، قال: سألت أبا الحسن B عن الرجل ينسى أن يفتتح الصلاة حتى يركع، قال: (يعيد الصلاة).

([656]) بداية الوصول في شرح كفاية الأصول، الشيخ محمد طاهر آل الشيخ راضي، ج3، ص61. وأما صحة المعاملة مع هذا النهي فلأن النهي الذي له ظهور ثانوي في الدلالة على فساد المعاملة هو النهي عن المعاملة بداعي الإرشاد إلى فسادها، لا مثل هذا النهي التكليفي.

([657]) لم نعثر على الحكاية.

([658]) الفروع من الكافي، محمد بن يعقوب الكليني، ج5، ص280، باب الشفعة، ح4.

([659]) تنقيح الأصول، تقرير بحث آغا ضياء الدين العراقي، محمد رضا الطباطبائي، ص133.

([660]) مصباح الأصول، تقرير بحث الخوئي، محمد سرور الواعظ البهسودي، ج2، ص521. قاعدة
لا ضرر ولا ضرار، تقرير بحث آغا ضياء الدين العراقي، السيد مرتضى الموسوي الخلخالي،
ص48 - 49.

([661]) قاعدة لا ضرر، شيخ الشريعة الأصفهاني، ص22.

([662]) قاعدة لا ضرر ولا ضرار، السيد السيستاني، ص168.

([663]) وسيلة الوصول إلى حقائق الأصول، تقرير بحث الأصفهاني، حسن السيادتي السبزواري، ص696، ص670.

([664]) قاعدة لا ضرر ولا ضرار، السيد السيستاني، ص180.

([665]) دعائم الإسلام، ابو حنيفة النعمان بن المنذر، ج2، ص193، ح701.

([666]) النهي عن القياس مما تواترت به الأخبار عند الإمامية، ولا يوجد نص عن المعصوم B بهذه الألفاظ.

([667]) منتهى الدراية في توضيح الكفاية، السيد المروج، ج6، ص509. راجع الوافية في أصول الفقه، عبد الله بن محمد البشروي، ص194.

([668]) هو المولى عبد الله بن محمد التوني البشروي، عالم فاضل فقيه صالح زاهد عابد ورع، قال صاحب رياض العلماء: وهذا المولى على ما سمعنا ممن رآه قد كان من أورع أهل زمانه وأتقاهم، بل كان ثاني المولى أحمد الأردبيلي N، له مؤلفات منها: الوافية، شرح الإرشاد، والحواشي على المعالم والمدارك.

والتوني بضم التاء المثناة ثم الواو الساكنة نسبة إلى تون، وهي بلدة من بلاد قهستان بخراسان. اٌنظر الكنى والألقاب، الشيخ عباس القمي، ج2، ص127.

([669]) سورة البقرة، الآية 2.

([670]) قاعدة مستفادة من الآيات والروايات الواردة في نفي العسر والحرج.

([671]) هو يوسف بن أبي بكر بن محمد بن علي السكاكي الخوارزمي الحنفي أبو يعقوب، سراج الدين، عالم بالعربية والأدب، مولده ووفاته بخوارزم، من كتبه مفتاح العلوم، ورسالة في علم المناظرة، ولد عام (555هـ) وتوفي عام (626هـ). الأعلام، خير الدين الزركلي، ج8، ص222.

([672]) رسائل فقهية، الشيخ مرتضى الأنصاري، ص120. راجع عوائد الأيام، احمد محمد مهدي النراقي، ص56 - 57.

([673]) مصباح الأصول، تقرير بحث الخوئي، محمد سرور الواعظ البهسودي، ج2، ص529 - 530.

([674]) منية الطالب في شرح المكاسب، تقرير بحث النائيني، موسى بن محمد الخوانساري، ج3،
ص379 – 380. قال في ص380: وقد نسب هذا الوجه إلى فهم الأصحاب، واختاره شيخنا الأنصاري، وهذا هو المختار كما سنبين وجهه.

([675]) نهج البلاغة، خطب أمير المؤمنين B، ج1، ص70، خطبة رقم 27.

([676]) قاعدة مستفادة من الروايات الواردة في نفي الشك.

([677]) دعائم الإسلام، ابو حنيفة النعمان ابن المنذر، ج2، ص193، ح701.

([678]) تهذيب الأحكام، أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي، ج1، ص92، ح93.

([679]) تحريرات في الأصول، السيد مصطفى الخميني، ج8، ص295.

([680]) منتهى الدراية في توضيح الكفاية، السيد المروج، ج6، ص578.

([681]) لم نعثر عليه بما في أيدينا من مصادر.

([682]) لعله يشير إلى ما في مصباح الأصول، السيد أبو القاسم الخوئي، ج2، ص526، ص529.

([683]) النهاية في غريب الحديث، مجد الدين ابن الأثير، ج3، ص81 – 82. وقيل: الضرر ما تضرّ به صاحبك وتنتفع به أنت، والضّرار: أن تضره من غير أن تنتفع به. وقيل: هما بمعنى، وتكرارهما للتأكيد. لسان العرب، ابن منظور، ج4، ص482. ومعنى قوله ولا ضرار: أي لا يدخل الضرر على الذي ضره، ولكن يعفو عنه.

([684]) وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج1، ص371.

([685]) سورة الأنفال، الآية 17.

([686]) عوائد الأيام، أحمد بن محمد مهدي النراقي، ص56.

([687]) العناوين الفقهية، عبد الفتاح الحسيني المراغي، ج1، ص313 - 314.

([688]) الاحكام، الشيخ علي كاشف الغطاء، ج2، ص135.

([689]) فرائد الأصول، الشيخ مرتضى الأنصاري، ج2، ص464 - 465.

([690]) عناية الأصول في شرح كفاية الأصول، الفيروزآبادي، ج4، ص310، ص314 - 315.

([691]) أي الشيخ مرتضى الأنصاري.

([692]) كفاية الأصول، الآخوند الخراساني، ص452. فانقدح بذلك أنه لابد من تخصيص العام بكل واحد من الخصوصيات مطلقاً، ولو كان بعضها مقدماً أو قطعياً، ما لم يلزم منه محذور انتهائه إلى ما لا يجوز الانتهاء إليه عرفا.

وفي مصباح الأصول، تقرير بحث الخوئي، محمد سرور الواعظ البهسودي، ج2، ص537. وردّ عليه في الكفاية بأنه لا فرق بين أنْ يكونَ التّخصيص بعنوانٍ واحدٍ يكونُ أفرادُهُ أكثرُ من الباقي تحت العام أو يكون بعناوين مختلفة.

([693]) تهذيب الأحكام، أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي، ج6، ص172، باب النوادر، ح13.

([694]) جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام، الشيخ حسن الجواهري، ج22، ص167. ولا يجب عليه تحمل الضرر في رفع الإكراه مقدّمة لتجنّب ظلم الغير، ضرورة معلومية سقوط وجوب المقدمة بالعسر والحرج والمشقة.

وفي ص168. وبذلك انكشف الغبار عن المسألة التي ربما أشكل على بعض الناس مدركها، حتّى تعجب من دعوى جواز إضرار الغير في نفسه بالجرح ونحوه وعرضه وماله، دفعاً للضرر اليسير في نفسه وعرضه وماله.

([695]) المكاسب، الشيخ مرتضى الأنصاري، ج2، ص86، إنّما الإشكال في أنَّ ما يرجع إلى الإضرار بالغير-  من نهب الأموال وهتك الأعراض، وغير ذلك من العظائم - هل يباح كُلُّ ذلك بالإكراه ولو كانَ الضَّرر المتوعَّد به على ترك المكره عليه أقلَّ بمراتب من الضَّرَر المكرَه عليه.

([696]) الفروع من الكافي، محمد بن يعقوب الكليني، ج2، ص220، باب التقية، ح16.

([697]) جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام، الشيخ حسن الجواهري، ج22، ص168.

([698]) فقه الصادق B، السيد محمد صادق الروحاني، ج14، ص486.

([699]) عوالي اللئالي، ابن أبي جمهور الإحسائي، ج1، ص222، ح99. ص457، ح198.

([700]) يمكن ان يستفاد مما افاده الشيخ مكارم الشيرازي في هذا الموضوع وان لم يصرح بأسم المحقق القمي، ولكن هو نفس المطلب ونفس الحكومة في القاعدة على الناس مسلطون على اموالهم. القواعد الفقهية، ناصر مكارم الشيرزاي، ج2، ص27.

([701]) قاعدة لا ضرر، آغا ضياء الدين العراقي، ص21، ص24.

([702]) عوالي اللئالي، ابن ابي جمهور الاحسائي، ج1، ص222.

([703]) سورة البقرة، الآية 275.

([704]) مصباح الأصول، تقرير بحث الخوئي، محمد سرور الواعظ البهسودي، ج2، ص565.

([705]) هو أبو محمد عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي، ثم الدمشقي الصالحي، الفقيه الزاهد، شيخ الإسلام، وأحد الأعلام، صاحب التصانيف الكثيرة الحسنة من أعظمها المغني، توفي سنة (620هـ). اُنظر سير أعلام النبلاء، شمس الدين محمد ابن احمد الذهبي، ج8، هامش ص142.

([706]) المغني، عبد الله ابن قدامة، ج6، ص183. وهكذا الخلاف في كل ما يحدثه الجار مما
يضرّ بجاره، مثل أن يجعل داره مدبغة أو حماماً يضر بعقار جاره، إلى أن قال: ولنا قول النبي صلى الله عليه واله وسلم: (لا ضرر ولا ضرار).

([707]) لعله يشير إلى ما في رسائل فقهية، الشيخ مرتضى الأنصاري، ص129. لكنه صَرَّحَ بالضَّمان في تأجيج النار على قدر الحاجة مع ظنّ التعدي.

راجع اللمعة الدمشقية، محمد بن مكي العاملي، ص203 - 204. ولو أرسل ماء في ملكه أو أجج ناراً فسرى إلى الغير فلا ضمان إذا لم يزد عن قدر الحاجة ولم تكن الريح عاصفة، وإلاّ ضمن.

([708]) مصباح الأصول، تقرير بحث الخوئي، محمد سرور الواعظ البهسودي، ج2، ص533. وأمّا الترخيص في شيء يكون موجباً للضرر على نفس المكلف أو على غيره، فلا يكون مشمولاً لدليل نفي الضرر؛ لأنّ الترخيص في شيء لا يلزم المكلّف في ارتكابه حتَّى يكون الترخيص ضررياً، بل العبد باختياره وإرادته يرتكبه، فيكونُ الضرر مستنداً إليه لا إلى الترخيص المجعول من قبل الشارع.

([709]) لعل الصحيح: فتجري.

([710]) حقائق الأصول، السيد محسن الحكيم، ج2، ص388.

([711]) المبسوط في فقه الإمامية، أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي، ج3، ص273. وإن حفر رجل بئراً في داره، وأراد جاره أن يحفر بالوعة أو بئر كنيف بقرب هذه البئر لم يمنعه منه، وإن أدى ذلك إلى تغيير ماء البئر، أو كان صاحب البئر تستقذر ماء بئره لقرب الكنيف والبالوعة؛ لأنه يتصرف في ملكه بلا خلاف.

([712]) تذكرة الفقهاء، الحسن بن يوسف بن المطهر الحلي، ج2، ص414، (ط.ق). والأقوى أن لأرباب الأملاك التصرف في أملاكهم كيف شاؤوا، ولو حفر في ملكه بئر بالوعة وفسد بها بئر ماء الجار لم يمنع منه ولا ضمان عليه بسببه، ولكنه قد يكون فعل مكروهاً.

أقول: ليس في التذكرة نفي للخلاف.

([713]) مستطرفات السرائر، محمد بن إدريس الحلي، ج2، ص382 - 383. وإنْ حَفَرَ رجل بئراً في داره، وأراد جاره أن يحفر بالوعة، أو بئر كنيف بقرب هذه البئر لم يمنع منه وإن أدَّى ذلك إلى تغير ماء البئر؛ لأنه مُسلَّط على التصرف في ملكه بلا خلاف.

([714]) غنية النزوع، ابن زهرة الحلبي، ص295. فأما من حفر بئراً في داره، أو في أرض له مملوكة، فإنه لا يجوز له منع جاره من حفر بئر أخرى في ملكه، ولو كانت بئر بالوعة يضر به، بلا خلاف أيضاً.

وتقدم نفي الخلاف عن المبسوط والسرائر.

([715]) تحرير الأحكام الشرعية على مذهب الإمامية، الحسن بن يوسف بن المطهر الحلي، ج4، ص488، ولكلّ واحد أن يتصرف في ملكه بحسب العادة وإنْ تَضَرَّرَ صاحبه ولا ضمان.

([716]) قواعد الأحكام، الحسن بن يوسف بن المطهر الحلي، ج2، ص268. ولكل واحد أن يتصرف في ملكه كيف شاء، ولو تضرر صاحبه فلا ضمان.

([717]) جامع المقاصد في شرح القواعد، المحقق علي بن حسين الكركي، ج7، ص26. قوله: (ولكلّ واحد أن يتصرَّف في ملكه كيف شاء، ولو تضرَّرَ صاحبه فلا ضمان)؛ لأنّ الناس مسلّطون على أموالهم.

([718]) لم نعثر على الحكاية، وقد تقدم ما في المقاصد.

([719]) فرائد الأصول، الشيخ مرتضى الأنصاري، ج2، ص462. وما يظهر من غير واحد من أخذ التعارض بين العمومات المثبتة للتكليف وهذه القاعدة. ثم نقل كلامهم في ص468- 469.

([720]) كفاية الأحكام، المحقق محمد باقر السبزواري، ج2، ص556. ويشكل هذا الحكم في صورة تضرر الجار تضرراً فاحشاً، نظراً إلى ما تضمن الأخبار المذكورة عن قريب من نفي الضرر والإضرار.

([721]) رياض المسائل، السيد علي الطباطبائي، ج12، ص359. قال في اعتراضه على كلام السبزواري المتقدم: وفيه نظر، فإنَّ حديثَ نفي الضَّرر المستفيض مُعَارَضٌ بمثله من الحديث الدال على ثبوت السلطنة على الإطلاق لربّ الأموال، وهو أيضاً معمول به بين الفريقين، والتعارض بينهما تعارض العموم والخصوص من وجه، والترجيح للثاني بالأصل وعمل الأصحاب.

([722]) عوائد الأيام، أحمد بن محمد مهدي النراقي، ص53. قد ظهر مما ذكر أنَّ نفيَ الضَّرر والضِّرار في الأحكام الشرعية من الأصول والقواعد الثابتة بالأخبار المستفيضة، المعتضدة بعمل الأصحاب، الموافقة للاعتبار، المناسبة للملّة السمحة السهلة، المعاضدة بنفي العُسْرِ والحَرَج والمشقَّة، كَمَا وَرَدَ في الكتاب والسنّة، فهذا أصلٌ من الأصول كسَائر القواعِدِ والأصول الممهّدة، ودليلٌ شرعيٌ يستدل به في موارده، فإنْ لم يكن له معارضٌ فالأمر واضح، وإنْ كان بأنْ يدلّ دليل آخر على ثبوت حكم شرعي يلزم منه ضرر، فيعمل فيهما بمقتضى التعارض والترجيح.

([723]) القوانين المحكمة في الأصول المتقنة، الميرزا ابو القاسم القمّي، ج3 - 4، ص119. فنقول: قاعدة لزوم البيع تعارض قاعدة الضّرر، وبينهما عمومٌ من وجهٍ، ويحكم بالخيار ترجيحاً للثاني من جهة العقل والعمل وغيرهما، ولو كانت من باب الأصل لما عارضت الدليل.

([724]) مصباح الأصول، تقرير بحث الخوئي، محمد سرور الواعظ البهسودي، ج2، ص563. (الثاني): أنْ يكون ذلك بفعل شخصٍ ثالث غير المالكين، وفي مثله يتخيّر في إتلاف أيّهما شاءَ ويضمن مثله أو قيمته لمالكه.

([725]) نقل النسبة إلى المشهور في مصباح الأصول، تقرير بحث الخوئي، محمد سرور الواعظ البهسودي، ج2، ص563.

([726]) سورة المائدة، الآية 1.

([727]) كتاب الأحكام، الشيخ علي كاشف الغطاء، ج3، ص150 وما بعدها.

([728]) لعله يشير إلى ما في منية الطالب، تقريرُ بحث النائيني، موسى بن محمد الخوانساري، ج3، ص402. أن ما توهَّمَ خروجه بالتخصيص - الذي هو عبارة عن رفع الحكم عن موضوعه- هو باب الجنايات، والحجّ والجهاد والخمس والزكاة وباب المحرّمات ونحو ذلك من الأحكام الوضعية الراجعة إلى باب الغرامات للإتلاف أو التلف تحتَ اليد العادية ونحوها.

والحقّ: أنَّ خروجَ أكثر هذه الموارد بالتخصص.

([729]) بحر الفوائد في شرح الفرائد، محمد حسن الآشتياني، ج2، ص222.

([730]) الوافية في أصول الفقه، عبد الله بن محمد البشروي، ص193 – 194. إذا فتح إنسان قفصاً لطائر فطار، أو حبس شاة فمات ولدها، أو أمسك رجلاً فهربت دابته وضَلَّتْ، أو نحو ذلك، فإنّه حينئذٍ لا يصح التمسّك ببراءة الذمة.

([731]) رياض المسائل، السيد علي الطباطبائي، ج12، ص255.

([732]) نقلا عن تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة، كتاب القضاء والشهادات، الشيخ فاضل النكراني، ص89.

([733]) مصباح الأصول، تقرير بحث الخوئي، محمد سرور الواعظ البهسودي، ج2، ص552، فالوضوءُ الضَّرَري وإنْ كان وجوبه مرفوعاً بأدلّة نفي الضَّرَر، إلاّ أنَّ استحبابه باقٍ على حاله، فصحَّ الإتيان بالوضوء الضَّرري بداعي استحبابه النفسي، أو لغاية مستحبة.

ثمَّ قال: نعم، لا نقول بالصّحّة في غير الوضوء والغسل.

تعاليق مبسوطة على العروة الوثقى، الشيخ محمد إسحاق الفياض، ج5، ص163. فإذن يكون الحكم بصحة الوضوء أو الغسل الضرري إنما هو على أساس استحبابه النفسيّ لا من جهة اختصاص قاعدة لا ضرر بالضرر الواصل.

([734]) تهذيب الأحكام، أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي، ج1، ص197 - 198، باب التيمم وأحكامه، ح46. عن ابن سنان، سمعتُ أبا عبد الله B يقول: (إذا لم يجد الرجل طهوراً وكان جنباً فليمسح من الأرض وليصلّ، فإذا وجد الماء فليغتسل وقد أجزأته صلاته التي صلى)، قال أيده الله تعالى: (وإن أجنب نفسه مختاراً وجب عليه الغسل، وإنْ خاف منه على نفسه ولم يجزه التيمم)، وفي مضمونه ح47 - 48 - 49.

([735]) لم نعثر على نصٍّ يؤيّدُ هذا القول مع اشتهاره، ويؤيّدُهُ ما في مجمع الفائدة والبرهان في شرح إرشاد الأذهان، المحقق احمد الأردبيلي، ج9، ص160. وأخذ الغاصب بأشقّ الأحوال في الدنيا لا دليل عليه.

وفي ج10، ص528. قوله: الغصب إلى حين التّلف؛ لأنَّ الغاصب مؤاخَذٌ بأشقّ الأحوال، وهو دليلُ الرأي الثاني، وفيه منع، إذ لا دليل عليه، وليس ببديهي، وهو قرينة المدعي وأخذ (فأخذ - خ) الغاصب بالأشق الذي يكون مأذوناً فيه، فإنه لا يمكن أخذ الزائد ولا قبله لأنه غاصب، بل ولا زجره والقول الموذي بعد رجوعه وتوبته.

وما في المكاسب، الشيخ مرتضى الأنصاري، ج3، ص271. وأما ما اشتهر من أنَّ الغاصب مأخوذ بأشقّ الأحوال، فلم نعرف له مأخذاً واضحاً.

وفي ص475. وما ذكره في الإيضاح من احتمال تقديم حقّ المجيز لأنه أسبق، وأنه أولى من الغاصب المأخوذ بأشقّ الأحوال، فلم يعلم له وجه بناءً على النقل.

وجامع المدارك في شرح المختصر النافع، السيد الخوانساري، ج3، ص452. وما قد يقال من أن الغاصب يؤخذ بأشق الأحوال فلا نعرف له مدركاً.

([736]) لعله يشير إلى ما يظهر من المكاسب، الشيخ مرتضى الأنصاري، ج5، ص166. الأول: عدم علم المغبون بالقيمة، فلو علم بالقيمة فلا خيار، بل لا غبن - كما عرفت- بلا خلاف ولا إشكال؛ لأنه أقدم على الضرر. وما في مصباح الأصول، السيد أبو القاسم الخوئي، ج2، ص542 – 543. الأول: تقييد الفقهاء خيار الغبن والعيب بما إذا جهل المغبون.

الثاني: تسالم الفقهاء على صحّة الطهارة المائية مع جهلِ المكلّف بكونها ضررية.

([737]) مستمسك العروة الوثقى، السيد محسن الحكيم، ج2، ص444.

([738]) تهذيب الأحكام، أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي، ج1، ص406، ح13.

([739]) المصدر السابق، ج1، ص185، ح5.

([740]) المصدر السابق، ج1، ص196، ح40.

([741]) الفروع من الكافي، محمد بن يعقوب الكليني، ج3، ص68، ح1.

([742]) الفروع من الكافي، محمد بن يعقوب الكليني، ج3، ص65، ح1.

([743]) المصدر السابق، ج3، ص65، ح2.

([744]) تهذيب الأحكام، أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي، ج1، ص198، ح49.

([745]) المصدر السابق، ج1، ص198 - 199، ح50.

([746]) العروة الوثقى، السيد محمد كاظم الطباطبائي، ج2، ص172. مسوغات التيمم، مسألة 19، وأما إذا توضأ أو اغتسل مع اعتقاد الضرر أو خوفه لم يصح وإن تبين عدمه.

([747]) مصباح الأصول، تقرير بحث الخوئي، محمد سرور الواعظ البهسودي، ج2، ص544.

([748]) كتاب الأحكام، الشيخ علي كاشف الغطاء، ج4، ص360 - 361.

([749]) منتقى الأصول، تقرير بحث السيد الروحاني، السيد عبد الصاحب الحكيم، ج5، ص438.

([750]) رسائل فقهية، الشيخ مرتضى الأنصاري، ص118. فتحصل: أن القاعدة لا تنفي إلاّ الوجوب الفعلي على المتضرر العالم بتضرره.

([751]) لا إله إلاّ هو، وهو الموفق للسداد.

 
 
البرمجة والتصميم بواسطة : MWD