الخطب الاربع

بسم الله الرحمن الرحيم

مُقدمَة الكِتَابَ

روح الإنسان وأزمة العصر

منذ مائة سنة حصل تقدّم كبير في وسائل رخاء الإنسان ورفاههه وصحته، فتضخمت الآلات العاملة لخدمة الإنسان، وتحسنت وسائط النقل، ونمت الزراعة، وتوصل إلى الوقاية من أمراض كثيرة ومعالجتها... ومع ذلك يسود العالم الآن قلق شديد، وعدم الطمأنينة، وخوف على مستقبله ومصيره. وسبب ذلك الحروب الكثيرة التي حدثت في هذه الفترة، ومنها الحرب العالمية الأولى والثانية، والحروب المحلية المحدودة، وثورات التحرر الوطني، وارتفاع الأسعار، وزيادة السكان، والصرف على التسلّح، والرعب من حرب ذرية ماحقة.

ومن حق الناس أن يرين على قلوبهم القلق والفزع لهذه الأسباب في النظرة العابرة لأول وهلة، ولكن إذا أردنا أن نتعمق في الأمر، ونتفهم روح الإنسان وحقيقته، نجد ما يبعث على الأمل والرجاء، ويطرد اليأس والأسى.

إن مشكلتنا مع اسرائيل والدول الاستعمارية جزء من مشكلة الانسان القديمة والحديثة...مشكلة الصراع بين قوى الخير وقوى الشر، بين قوى الحق وقوى الباطل...هذه المشكلة التي حسبها بعض الفلاسفة والأدباء مشكلة أزلية وأبدية. وفي الحقيقة أن الإنسان الكائن الحي العاقل الجبار لابد أن يحلها وينهي أمرها بعون الله تعالى ومشيئته التي لا تقهر.

يعم العالم العربي الآن حيرة بسبب النكسة التي أصابته... ثلاثة ملايين تتغلب على مائة مليون عربي!...ولكن تزول الدهشة إذا عرفنا إنَّ مشكلتنا ليست مشكلة محلية، بل مشكلة عالمية، وجزء من الصراع بين قوى الخير والشر، بين قوى الأثم والعدوان وقوى المحبة والأمان، بين قوى الغدر وقوى الصدق والشرف.

فمعركتنا مع إسرائيل لا تزال معركة طويلة الأمد، وهي جزء من المعركة العالمية، لذلك لابد أن يطول أمدها. والمهم أن لا يتغلب على نفوسنا اليأس، ويجب أن لا نستسلم ونقبل بأنتهائها لغير صالحنا. فما دامت قوى الشر مع اسرائيل وقوى الخير والانسانية بأسرها معنا، فلابد أن تنتهي المعركة لصالحنا.

لقد أبتلي العرب بإسرائيل بسبب الدول الاستعمارية. وان كانت مسؤولية انقاذ العرب من النكبة تقع على الضمير الحي العالمي المتمثل في الدول المحايدة وكل شعوب العالم، فمن الواضح أن ذلك لا يسقط العمل والمسؤولية عن انفسنا. فعلينا أن نستعد من الآن للمعارك القادمة بكل ما اوتينا من قوة، ونعبئ كل قوانا ــ الروحية والمادية والحربية ــ كي نساعد العالم ويساعدنا على الخلاص من الصهيونية والاستعمار.

يحسن أن نرجع إلى تحليل نفس الفرد الانساني. فنلاحظ في حياة الفرد مظاهر أربعة: الحس، والفكر، والشعور، والعمل.. أي إنَّ الإنسان جسد، ومخ، وقلب، ويد. فرقي الحواس وسعة الفكر وسمو الانفعال والعاطفة وتحرر يديه من المشي جعله أكثر اتصالاً بما حوله من جماد واحياء وناس، وأكثر تأثيراً..أي إنَّ الإنسان أصبح أكثر انفتاحاً للعالم من جميع الأحياء..ففي جرمه الصغير انطوى العالم الأكبر، كما قال الشاعر:

وتحسب أنك جرم صغير
 

وفيك انطوى العالم الأكبر
 

 

فالإنسان حيوان ناطق. فهو وان كان يشابه الحيوان في أفعاله الحيوية، لكن يختلف عنه أختلافاً نوعياً، فيختلف أختلافاً تاماً عن أرقى الحيوانات.

فالحيوان يقف من العالم موقفاً منفعلاً سلبياً يتأثر بما حوله، ولكن لا حول له ولا طول له، لا يستطيع أن يؤثر في العالم ويغيره. والإنسان حيوان مفكّر ذو عزيمة وإرادة قوية لا تقهر، فيقف الإنسان من العالم دائماً موقفاً إيجابياً يتفهم العلاقات بين الاشياء ويغير العالم الطبيعي لصالحه.

والإنسان كما أنه وقف موقفاً إيجابياً إزاء علاقته بالطبيعة فهو لم يقف موقفاً سلبياً إزاء علاقته بأبناء جنسه ونوعه منذ أبتداء التاريخ. فما استكان إلى ضيم ولا رضي يوماً بالذل والهوان. فالإنسان دائماً بطل معركة، ميزته الصمود والبطولة ومقاومة الشر، والنصر والمجد للإنسان دائماً.

إنَّ أهداف الفرد في الحياة مرتبطة بروحه وميزاته الجسدية والنفسية، فليس همه إشباع حاجات الجسد فقط، بل تتغلب عليه الحاجات النفسية والمعنوية على حاجاته الجسمية. فهدف الفرد السعادة في الحياة، ولكن السعادة ليست في القناعة أو العزلة أو الكسل أو الانهماك في الشهوات، بل في العمل والنشاط وعمل الخير والمحبة الإنسانية، ولا يتحقق ذلك للفرد إلاَّ في ظل مجتمع متقدّم سليم يسوده الإخاء والحرية والعدالة. والحياة الفردية المنعزلة لا يمكن أن تحقق السعادة للفرد، والحياة الاجتماعية الراقية هي التي تحقق الحرية الواسعة والسعادة للفرد. أما الحرية المطلقة للفرد التي يتصورها الفلاسفة الوجوديون فلا حقيقة لها. وما نجد من مساوئ في الحياة الاجتماعية فسببه فساد النظام الاجتماعي الذي يحتاج إلى أصلاح وتغيير.

والإنسان منذ القديم مازال يحلم بسيطرته الواسعة على الطبيعة واستغلالها لراحته وسعادته، ويحلم بالتخلص من الظلم ومن خضوع فئة لفئة أخرى.

وكان التأخر العلمي والصناعي وقلة الإنتاج عائقاً لتحرر الإنسان من الطبيعة، وجهل الناس وعدم معرفتهم بحقوقهم مع التأخر الصناعي ساعد على الظلم الاجتماعي.

ويأمل الإنسان ــ في المستقبل القريب ــ أن تزداد سيطرته على الطبيعة، كما إنَّ التخلّص من الاستبداد السياسي والفقر والجهل والمرض آخذ في الاتساع، وأصبح قريباً الزمن الذي يحصل فيه الناس على حرياتهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية بفضل جهادهم وجهودهم.

إنَّ الفرد وإن كان يسعى لتحقيق رغباته الفردية في النجاح والحب والسعادة، ولكنه يدرك إن حياته إلى زوال وفناء، فيرغب في أعماق نفسه أن تكون لحياته معنى وقيمة، ويفتش عن عزاء لنفسه لهذا الفناء والزوال، فيجد عزاءه تارة بطاعة الله ومحبته وتارة بالذرية أو الإبداع الفني أو العلمي أو الصناعي، أو تشييد المباني الفخمة والمشاريع الخيرية، أو المحبة الإنسانية والإصلاح الاجتماعي وغير ذلك.

فحقيقة الفرد الإنساني أنه جزء من عالم الطبيعة وعالم الأحياء والمجتمع، ولكنه جزء ينطوي على العالم بأسره، كأنه ممثل لله وخليفته في أرضه. فعن طريق الحواس والعقل يدرك العالم الخارجي ويتصل به، وهو كائن تتمثل فيه صفات جميع الأحياء. وعن طريق الحب والعاطفة والشعور بالمسؤولية يشمل أخوانه من البشر ويندمج بهم. وعن طريق العمل يتصل بالعالم الخارجي ويؤثر فيه ويغيره، فيزرع الأرض، ويشيد العمارات، ويبني السدود، وينصب المصانع.

إن الشرور التي نشاهدها في الوقت الحاضر في المجتمع الانساني كالحروب، والجريمة، والقتل، والفقر، والسرقة، والكذب، والاحتيال، والخيانة، والدعارة، والقلق، واليأس، والانتحار، والجنون أحياناً... كلها ناتجة عن خلل الأنظمة الاجتماعية التي تسود العالم، وسوف تنتهي بإصلاح هذه الانظمة، وتحقيق التعاون الدولي، والتخلص من أسلحة الدمار، وانتهاء الحروب.

والإنسان بالرجوع إلى العلم والعقل والحب والعمل يستطيع الوصول إلى أقصى مراتب الرقي والحرية والسعادة.

ومع الأخطار الكثيرة التي تكتنف الانسان في الوقت الحاضر وتنذر بالشر في المستقبل بسبب حماقة الاشرار من ابنائه...فإن مراجعة التاريخ وسائر المعلومات المتوفرة لدينا عن روح أكثرية الناس، تدلنا ان النصر للإنسان والغلبة لقوى الخير والنور والتقدم على قوى الشر والظلام والتأخر.

والإسلام هو الدين الوحيد الذي حثَّ على العمل والجهاد، وأكّد على الموقف الإيجابي من العالم، وندد بالنسك والهروب...بينما كثير من الأديان، كالمسيحية والبوذية، حبّذت العزلة والموقف السلبي من العالم.

[وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ].

*****

هذه الخطب السبع التي بين يدي القارئ كان الفقيد الوالد الإمام حجة الإسلام الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء ألقاها في الفترة الزمنية من حياته، بعد حضوره المؤتمر الإسلامي المنعقد في القدس الشريف لمدة اسبوعين ابتداء من ليلة الإسراء 27رجب 1350هـ الموافق 6 كانون الأول 1931م. ويلاحظ القارئ في أكثرها قسطاً كبيراً في الحث للدفاع عن فلسطين، ووجوب الجهاد لحمايتها وانقاذها، ولهذا السبب ولمضامينها الأُخرى يجد القارئ كأنها كتبت لهذا الوقت، ولم تفقد فائدتها وأهميتها.. خصوصاً وانها صدرت من مرجع ديني فذ أحس بواجبه الديني والقومي، ولم يتهرب من المسؤولية، فنبه قومه إلى الأخطار المحدقة.

وإن لم يتحقق في حياته ما كان يصبو إليه من تحرر ورقي للمسلمين والعرب، فأن كلماته وصيحاته الداوية قد أثرت في نفوس الجماهير واثمرت مع جهود المخلصين ثمراً طيباً بعد وفاته.

 

عبد الحليم كاشف الغطاء

النجف الأشرف

10/7/1389هـ

 

فتوى

الإمام الكبير حجة الإسلام والمسلمين العلامة الراحل

الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء

 

بشأن قضية فلسطين

من النجف الأشرف ــ في 5 جمادي الثاني 1357هـ

إلى جمعية الدفاع عن فلسطين ــ بغداد

نمى إلينا عن بعض ما قدرتموه من جعل يوم الجمعة (5 آب 1938م) يوم فلسطين، وان تقوموا مع الأمة العراقية التي لا تزال مشكورة المساعي في مساعدة شقيقتها بأعمال عساها تكون نافعة إن شاء الله.

ورأينا إن من واجبنا أن نقول كلمة في الموضوع تكون كنداء عام... وها هي تصل إليكم للنشر...تدفعها الزفرة، وتمدها العبرة، وتؤلفها شظايا القلب المتقطعة، وتؤججها نيران الأسى والأسف من هذه الأمة المتمزقة... نعم! منها وعليها... الأمة التي أصبحت لا من الأحياء فترجى ولا من الأموات فترثى. وعسى أن يحدث الله بعد ذلك لها أمراً، ويجعل لها من أمرها فرجاً ويسراً.

محمد الحسين

((وإليك نص الفتوى)):

نداء عام

أيها الإسلام!...

أيها العرب!...

لا.. بل أيها الناس ويا أيها البشر!...

أصبحت الحالة التي بلغت إليها فلسطين الذبيحة مشاهدة محسوسة لكل أحد. ونحن نقول ــ وما زلنا نقول ــ : إن قضية فلسطين ليست قضية تخصها، وليست هي قضية فلسطين فقط، بل قضية العرب بأجمعها. فإذا خرجت فلسطين من هذا الجهاد ظافرة فقد ظفرت العرب وفازت، وإذا ــ لا سمح الله ــ تغلّبت عليها الدولة الظالمة والصهيونية الغاشمة فقد باءت العرب بالذل والخسران، لا بل بالموت والعار المخلّد.

وكنا نقول أيضاً ــ ولا نزال نقول ــ : إن الدولة التي أحتلت فلسطين كأنها أخذت على نفسها من يوم قيامها بهذا الاحتلال الغاشم غير المشروع أن لا تقيم للعدل وزناً ولا للحق معنى ولا تصغي إلى آية حجة ومنطق .. فكان موقع الأحتجاجات والمقالات من سمعها موقع الهواء في شبك ممزق ! ولذلك ذهبت تلك الاحتجاجات من الأقطار العربية والإسلامية، مدة عشرين سنة، كلها سدى .. بل ما أفادت سوى الشدة والعناد، والتمادي في الغي والفساد.

وعلى فرض أنه كان للإحتجاج في الزمن الغابر معنى وفيه ومضة أمل أو لمضة رجاء .. أما اليوم فقد حقت الحقائق وصرح الزبد عن محضه، وجازت القضية عن دور الاحتجاج والأقوال إلى دور الأعمال.

وقضية العمل منوطة إلى كل عربي، بل كل إنسان، بمقدار الحد من غيرته وشعوره، ومبلغ حظه من الإنسانية. فمن كان يجري في عروقه الدم الحي الشريف فلا ريب إن شرف عنصره يهيب به ويدفعه إلى اللحوق بإخوانه في فلسطين والجهاد معهم، ولا ينتظر أن تأتيه فتوى المفتي بوجوب الجهاد، بل فتوته تسبق الفتوى وتعرفه بواجبه بوحي من ضميره وشرف وجدانه.

فيا أيها العرب!.. ويا أيها المسلمون!.. بل يا أيها البشر ويا أيها الناس!.

أصبح الجهاد في سبيل فلسطين واجباً على كل إنسان لا على العرب والمسلمين فقط. نعم! هو واجب على كل إنسان لا بحكم الشرائع والأديان فقط بل بحكم الحس والوجدان، ووحي الضمير وصحة التفكير.

والخطة العملية في ذلك هي: إن من يستطيع اللحوق بمجاهدي فلسطين بنفسه فليلتحق بهم، وأني ضمين أنه كالمجاهدين مع النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم) في (بدر)، فأن المقام أجلى وأعلى من ذلك المقام، مقام شرف وغيرة وحس وشعور، لا مقام طلب أجر وثواب، وان كان كل ذلك بأعلى مراتبه.. ومن لم يستطع اللحوق بنفسه فليمدهم بماله، وإما بتجهيز من لا مال له ليلحق بهم، أو بأرسال المال إلى المجاهدين وعيالهم

 

وأطفالهم. ومن عجز عن كل ذلك، فعليه أن يجاهد ويساعد بلسانه وقلمه ومساعيه جهد أمكانه.. وهذه هي أدنى المراتب.

وليكن كل أحد على علم جازم أن القضية قضية موت العرب وحياتها. وليعلم ناشدو الوحدة العربية والإسلامية إنهم لا يجدونها أبداً إلاَّ بنصرة فلسطين، فإن انتصرت ــ بحول الحي وقوته ــ فما يرومونه من الوحدتين في قبضة أيديهم وعلى كثب منهم، وإن كانت الأُخرى ــ لا سمح الله ــ فأين العرب وأين الإسلام حتى تكون لهم وحدة أو تتطلبها لهم القضية !.. نكون كما يقول أرباب الفنون ((سالبة بأنتفاء الموضوع)).

هذه دعوتي وندائي العام أبعثه إلى عموم العرب والإسلام.

ويشهد الله لولا أني قد تجاوزت العقد السادس من العمر مع تزاحم أنواع العلل والاسقام على هذه العظام النخرة، لكنت أول من يلبي هذه الدعوة، ولشخصت بنفسي اليوم إلى تلك البلاد المقدسة كما شخصت إليها بالأمس.

وأنه لعزيز علي أنه لم يبقَ عندي من النصرة لها إلاَّ هذه الكلمات، وعبراتي التي تسبق العبارات، وتوقد لاعج الزفرات.. وعند الله أحتسب كل ذلك، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

النجف الأشرف                                                محمد الحسين آل كاشف الغطاء

5/6/1357هـ

فتوى ثانية للفقيد

نشرت في الصحف العراقية بالعنوان التالي:

 

((اعلان الجهاد المقدس لأنقاذ فلسطين))

أصدر سماحة المجتهد الكبير العلامة الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء الفتوى الخطيرة التالية في سبيل انقاذ فلسطين:

ققق

وله الحمد

من العراق ــ النجف الأشرف

15 ذو القعدة 1366هـ

[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ…].

طلب مني بعض الأعاظم إرسال نسخة من الفتوى التي كنت أصدرتها في لزوم الدفاع عن فلسطين. والباعث على هذا الطلب ما وصلت إليه هذه الأرض المقدّسة في محنتها الحاضرة بعد كفاح ثلاثين حولاً، والتضحيات بالأنفس والأموال التي تفوق حد الإحصاء.

ونحن نرى، في الحال الحاضر، إن المحنة والبلوى قد تجاوزت حدود الفتوى، وأصبح كل ذي حس من المسلمين يفتي له وجدانه ويوحي له ضميره وجوب الدفاع

 

عن فلسطين بكل ما في وسعه، ويستهون ببذل العزيزين (النفس والمال) في هذا السبيل وأعلان الجهاد المقدّس.

فلا تهنوا أيها المسلمون...ولا تتوانوا وأنتم الأعلون...وان تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم. وما النصر إلاَّ من عند الله والله قوي عزيز.

                                                                 النجف الأشرف

محمد الحسين آل كاشف الغطاء

 

صرخة داوية لفلسطين الدامية

من الإمام حجة الإسلام آية الله ((كاشف الغطاء)) لعموم المسلمين

[وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ]

أيها المسلمون:

نشرت الصحف العراقية عليكم نداء عاماً منافي جواب الكتب التي وردتنا من لفيف من الشباب البغدادي النجيب ومن غيرهم، وكان ذلك قبل اعلان الحرب الرسمي ــ أي قبل 15 أيار ــ.

أما اليوم وقد اشتبكت الدول العربية، وأعلنت حربها لليهود لتطهير البلاد المقدسة من رجس الصهيونية..فقد أصبح جميع العرب في حالة حرب.

والمصيبة العظمى التي لعلها أعظم من مصيبة الصهيونية هي: إنَّ المسلمين، والأخص العراق بحدته، وعشائريه، وزعمائه، وشبابه، وسائر طبقاته..لا يزالون يغطون في نومهم العميق..لا يحسون بهذا الحس ولا يشعرون بهذا الشعور كي يقوم كل واحد بواجبه، ولا يزالون يعمهون في سكرتهم، ويتمتعون في شهواتهم ولهوهم.

أيها المسلمون:

أتحسبون إن اليهود إذا غلبوا على فلسطين ــ لا سمح الله ــ يتركون العراق والحجاز وغيرها من الأقطار العربية؟!.. أيهون عليكم أن تصبحوا رعايا لأشقى أمة في الأرض: اليهود والصهاينة؟!.

فإن كنتم لا تحضرون ميادين الحرب مع اخوانكم فلا أقل من اعانتهم بجمع الأموال والعتاد والسلاح.

وكان اللازم أن تكثروا الاكتتابات الشعبية في كل مدينة، وفي كل قبيلة، ومن كل زعيم، ومن كل تاجر وذي ثروة.. ثم تمدونهم بالتضرّع والدعاء إلى الله ــ جلَّ شأنه ــ في كل جامع، وفي كل مسجد، وفي كل مرقد من المراقد الشريفة.. تتضرعون إليه تعالى وتضجون بالعويل، خاضعين باكين، في أن يمد أخوانكم الذين في المعارك وتحت حمم القنابل بالصبر والثبات، ويكتب لهم الفواز والظفر.

أيها المسلمون:

قد برز اليوم الإيمان كله إلى الشرك كله.. وعادت الحروب الصليبية بأبشع صورها، وتألبت دول الكفر بأجمعها على الإسلام بأجمعه.

أتعرفون ما معنى ((الحروب الصليبية))؟.. هي اتفاق دول الغرب على محو كلمة الإسلام من صفحة الوجود، كما صنعوا في القرن السادس زمن صلاح الدين الأيوبي.

أفلا يجب عليكم ــ أيها المسلمون ــ أن تنهضوا لحفظ كرامتكم وبلادكم من ألد أعدائكم؟!.

وأعلموا أنَّ الله ــ سبحانه ــ لا يجعل النصر لكم إلاَّ إذا انقطعتم إلى الله، وتركتم الملاهي والمقاهي والسينمات، وتجعلونها حراماً عليكم حتى ينصر الله اخوانكم في فلسطين. فإن رجعتم إلى الله وأنبتم، ورفضتم المحرمات والمنكرات، وأخذتم بالدعوات والتضرعات.. فأنا الضمين لكم بالله ــ جلَّ شأنه ــ أن يكون الفتح لأخوانكم والنصر وقفاً على جيوشكم، وإلاَّ فخزيُ الدنيا وعذاب الآخرة!.

اللهم أشهد، فأننا قد بلغنا وأنذرنا، وإليه الحجة البالغة.

[وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ]

                                                              النجف الأشرف

محمد الحسين آل كاشف الغطاء

 

خطبة

الاتحاد والاقتصاد

الخطاب الجليل الذي تفضّل به سماحة المصلح العظيم، أمام المؤتمر الاسلامي، العلم حجة الإسلام الشيخ محمد الحسين كاشف الغطاء، وألقاه في المسجد الأعظم بالكوفة في 6 شوال 1350 هجرية.

تقديم

وبعد...

فلا أراني مغالياً إذا قلت: أن الأمة الإسلامية عامة أصبحت في حالة دونها شق الضمائر وفقع المرائر، هائمة في ميدان الجهالة، سادرة في بيداء الغواية والضلالة.. أخذ الأجنبي بخناقها، وربض الدخيل بكلكله على غاربها.. تصبح على هم وتمسي على غم.. تكابد ما لو تشعر الحمامة ببعضه لمزقت أطواقها، وتحمل ما لو أحست الجبال بمثله لأكثرت أطراقها.. دائبة على النفاق، داعية إلى الشقاق.. يأكل القوي منها الضعيف، ويدافع البدين النحيف.. [أَيُحِبُّ أَحدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ]؟!.

رؤوس لا تفكر، وجسوم لا تدبر!.

أني لأفتح عيني حين أفتحها
 

على الكثير ولكن لا أرى أحدا
 

 

قوم إلههم واحد..نبيهم واحد.. كتابهم واحد.. تكاليفهم واحدة..كل أصولهم وعقائدهم واحدة..إلاَّ أنهم مختلفون!..

هذا ــ لعمر الحق ــ العجب العجاب. هذا الذي حيّر الأوهام وأطاش الألباب. أدين واحد وشنئنان؟ وسطح واحد وهواءان؟. ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين!.

هذا إجمال من تفصيل، وقليل من جليل، مما اتصفت به في هذا اليوم الأمة الإسلامية والجماعة المحمدية.

نعم! وهذا ما حدى بسماحة المصلح العظيم، والإمام الجليل، العلامة الشيخ ((محمد الحسين كاشف الغطاء)) إلى قيامه برحلته الإسلامية وهجرته الدينية إلى البيت المقدس، لحضور المؤتمر الإسلامي العام، مهاجراً إلى الله ورسوله.. ومن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله.

أجل! هذا ما نبّه منه ذلك الأسد الذي ما تعود أن يفترش الترب ذراعيه، وأسمع منه ذلك البطل الذي لم يصم يوماً من الأيام عن دعوة الحق أذنيه..

فشمّر ــ على أسم الله ــ عن ساعد لا يعرف الكلل، وترجم ــ وهو المفوه ــ بلسان صدق لا يعتريه الملل. وما فتأ سماحته من يوم قفوله من المؤتمر الإسلامي حتى اليوم مقتعداً غارب عزمه الوقّاد داعياً ومرشداً..فمن استنهاض واستنفار، إلى دعوة وأرشاد، إلى محاضرات أصلاحية، إلى خطب اجتماعية..شاحذاً الهمم، وموقداً نار الحماسة والعزيمة في قلوب العراقيين، باعثاً لهم ــ بكل ما أوتي من قوة ــ إلى عقد الجمعيات الخيرية، وتشكيل النقابات الإصلاحية، وتأليف اللجان الاقتصادية.. له بكل مقام مقال، وبكل نادٍ ارشاد. فيوم ببغداد، وآخر بكربلاء، وثالث بالنجف، ورابع بالكوفة….

له بكل محفل خطاب جليل، وبكل مشهد مقال عريض طويل. وآخر مواقفه الخطيرة ــ كثّر الله لنا من أمثالها ــ ذلك الموقف الجليل والمحفل المهيب، الذي عقد لسماحته في مسجد الكوفة الشريف ــ عصر الجمعة 26 شوال 1350 هجرية ــ بناء على طلب وإلحاح من وجهاء أهل الكوفة وأشرافها..وقد حضره ثمانية آلاف أو يزيدون، من جهات العراق وأرجائه، وطبقاته العالية ووجهائه. وما أستوى ــ حفظه الله ــ على المنبر حتى هزَّ النفوس طرباً، وملأ القلوب عجباً. وأستدام يخطب ــ مرتجلاً ــ أكثر من ساعتين، أورق في خلالهما عود الأمل بعد الذبول، وأثمرت أغصان ((ليت ولعل)) بعد النصول، ودبت روح الرجاء بعد اليأس في قلوب الناس.. فآثرنا أن نتقدم بذلك الخطاب النفيس إلى العالم الإسلامي، رجاء أن يستيقظ بعد غفلته، وينتبه عقب سكرته [وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ].

النجف الأشرف

صالح الجعفري

e

[رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي  وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي].

أيها المؤمنون!..

لو أردت أن أتكلم بكل ما أعلم، وبما أوتيت من براعة البيان وقوة اللسان، وبما يلائم الطبقة الراقية منكم من ذوي الفضل والمعارف، كنت أوجبت حرمان الآخرين من الحاضرين. فرعاية لحق الجميع، لا مندوحة لي من أن أتكلم باللسان الذي ينتفع به الجميع ولا تختص به طبقة دون طبقة، وقد قيل ((إن الرجل إذا أراد أن يتناول شيئاً من الأرض لابد له من أن يتطأطأ وينحني)). إذاً فلا مؤاخذة لو تكلمت باللسان العادي، بعد أن كان جلَّ الغرض هو الإفهام، لا أظهار الصناعة والبراعة وتزويق الكلام.

قال سبحانه وتعالى: [ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ].

هذه الكرة الأرضية التي نعيش على ظهرها أحياء، ونرمس في بطنها أمواتاً، وكلما فيها وما عليها وما يحيط بها وما يخرج منها من الكائنات من الأمهات الأربع: الماء والتراب والنار والهواء، والمواليد الثلاث: الجماد والحيوان والنبات… كل هذه الحقائق، بجميع أصنافها وأنواعها، ومختلف أشخاصها، كلها قد تكونت من أجزاء متغايرة وعناصر مختلفة.. أنضم بعضها إلى بعض، وأمتزج بعضها ببعض، على نسبة مخصوصة ووضع خاص، حتى صارت حقيقة نوعية، لها آثارها الخاصة وخواصها المتعينة..هذا شجر، وهذا حجر، وهذا انسان…

ولكل واحد من تلك الموجودات العينية فساد وصلاح، ونقص وكمال. وصلاح كل موجود هو عبارة عن ترتيب الأثر المقصود منه، وحصول الغاية التي خلق من أجلها، والثمرة المتوخاة فيه.. وفساده عبارة عن تخلف ذلك الأثر، وعدم حصول تلك الغاية منه. فصلاح الزرع ــ مثلاً ــ أن يثمر الثمر الجيد والحب الذي يطلب من مثله، وصلاح المسك بأن تفوح منه الرائحة الطيبة وإذا لم تكن له تلك الرائحة فهو فاسد.

وإذا تعمقنا في البحث، ودققنا النظر في الأسباب والعلل، لا نجد علة الفساد وسبب الصلاح في تلك الكائنات سوى ما يرجع إلى أمر واحد.. فصلاح الشيء وترتب أثره المطلوب منه إنما ينشأ من استجماع أجزائه وانضمام بعضها إلى بعض وارتباطها على نسبة خاصة ووضع معيّن، وارتباطاً يجعل تلك الأجزاء المتغايرة شيئاً واحداً ذات أثر واحد، فإذا زادت تلك الأجزاء أو نقصت، أو أختل وضعها الخاص وتركيبها المعيّن، فأنحل ذلك التركيب وتفككت تلك الأجزاء، فهناك يأتي الفساد وتتلاشى الحقيقة، ويفوت الأثر المقصود منها.

فمرجع الصلاح ــ في الحقيقة ــ في كل الكائنات إلى الوحدة والإنضمام، ومرجع الفساد إلى التفرق والانقسام.

ولو نظرنا بالنظرة الأولى إلى الأشياء التي يعرضها الفساد، مثل الفاكهة واللحم ونظائرها لا نجد فسادها إلا من جهة انحلالها، ورخاوتها، وتفكك أجزائها.. وما كان صلاحها إلاَّ من جهة تماسك أجزائها وشدة ارتباطها وصلابتها.

وهكذا يتمشى القول في هذا الهيكل الانساني بالنظر إلى كل فرد منه، فإن صحته وصلاحه ليس إلاَّ عبارة عن استجماع أجزائه المقوّمة له على تركيب خاص، فلو زادت أو نقصت أو أختل ذلك التركيب والوضع وتفككت الحجيرات التي تكون منها لحمه ودمه، جاء الفساد، وعرض المرض، وتسربت إلى جسده العلة... واستجماعه لأجزائه بالمرتبة المعينة له تستوجب وحدة حقيقية، بوحدة الحس والإدراك والتعقل، وهذه الوحدة تستوجب تبادل المنفعة بين الأعضاء.

ومثل ما قلناه في الفرد يأتي القول في المجموع، وأعني به الأمة التي تتألف من الأفراد.. وكل فرد فإنما هو جزء من أجزائها، فإن صلاحها بالضرورة إنما هو بإنضمام أفرادها، وشدة إرتباط بعضها ببعض ارتباطاً يستوجب وحدتها الحقيقية، بحيث يعود حال المجموع حال الفرد في حد نفسه، له روح واحدة وحس واحد، حتى لو ضربت العين أو الأنف أو اليد أحست كل الأعضاء بالألم، وإذا ابتهجت العين بمنظر حسن أبتهج البدن كله، وهكذا إذا انتعش الأنف برائحة طيبة انتعش كل البدن..وكذلك المنافع متبادلة بين الأعضاء، فاليد تخدم العين وتحامي عنها، وكذلك العين تخدم اليد كما تخدم سائر الأعضاء، فإذا تبادلت المنافع وصار كل واحد من الأعضاء خادماً لسائرها، فالكل قائم بخدمة الكل، فهناك البدن الصحيح السوي، الصالح القوي، الذي لا يتسرب إلى شيء من الفساد.

أما إذا فسد بعض الأعضاء أنقطعت علاقته من الباقي وزال الأثر المقصود منه من منفعة البدن وخدمته، وربما سرى فساده إلى غيره، وكان الواجب قطعه.

هذا حال الإنسان فرداً، وعلى هذا القياس حاله مجتمعاً.

فإذا ارتبطت أفراد الأمة بعضها ببعض ارتباطاً يوجب لها الوحدة الحقيقية، تعيش بروح واحدة، وترمي إلى هدف واحد، وتكون بمثابة الجسد الواحد الصالح الصحيح الذي يسعى كل فرد من المجموع لخدمة المجموع، وإذا تألم فرد منه تألمت جميع أفراده كما قال صلوات الله عليه: (المؤمن من المؤمن كالعضو من الجسد، إذا تألم عضو أصيب سائر الجسد بالسهر والحمى)…

هناك تصير الأمة بأفرادها كأنها بنيان مرصوص، فتتضاعف القوة، وتتوحد القوى، ولا يتسرب إليها شيء من الفساد، وتدرأ الأخطار والكوارث عنها بفضل قوتها المجتمعة، وصارت أمة صحيحة حية، صالحة قوية، لها مجدها وكيانها، وعزها وشأنها.

أما إذا كان كل فرد قد انقطعت علاقته من المجموع، وزال ذلك الربط وتمزقت تلك الوحدة، وصار كل فرد ــ فضلاً عن انه يشتغل لنفسه ويعمل بفرده ــ يسعى لهدم أخيه والإضرار به وخرابه، فقد خرب بيت الجميع، وانهدم صرح الأمة من أساسه وهو على رأسه.. ففسدت الأمة بأجمعها، وزال عنها كل عز وملكة، ووقعت في أسوأ الهلكة، وأصبحت فريسة للذئاب وطعمة للكلاب… كما أصبحتم تشاهدون كل هذا بأعينكم.

ثم أن الفساد الذي هو الانحلال والتفكيك إنما ينشأ مما كسبت أيدي الناس من عدوان بعضهم على بعض، وحب الغلبة والاستيثار الناشئ كله من الجهل بصالح الفرد وصالح المجموع، وإن صالح المجموع هو صالح الفرد.

الفساد هو أن يصبح كل أنسان لا يهمه إلاَّ أمر نفسه، ولا يبالي بما أصاب أخاه أو صديقه أو جاره أو رحمه، ولا يواسيه في سرّاء ولا ضرّاء.. وبهذا ومثله يظهر مغزى قوله تعالى: [ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ] ومن تقاطع الأمة الواحدة وتفككها وبغض بعضها لبعض..فعندها [لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا] فترتفع البركات، وتنقطع الخيرات، وينزل البلاء، ويحجب الدعاء، ويحبس غيث السماء. وفي الحديث: (إذا رضي الله عن قوم أنزل عليهم المطر في وقته، وجعل المال في سمحائهم، وأستعمل عليهم خيارهم، وإذا سخط عليهم حبس المطر عنهم، أو أنزله في غير وقته، وجعل المال في بخلائهم، وأستعمل عليهم شرارهم) الحديث.

إذاً فصلاح الأمة حاله حال سائر الموجودات، والكائنات الحيوية، وكل ما على الكرة الأرضية، إذا اجتمعت تكون صالحة في المجتمع، ولا يكون صلاحها إلاَّ بتضامنها وانضمامها، بحيث تعيش بروح واحدة، تتبادل منافعها كتبادل أعضاء الجسد الواحد والكل يخدم الكل.

قال أمير المؤمنين (عليه السلام): (ألا لا يعدلن أحدكم عن القرابة أو العشيرة يرى بها الخصاصة أن يسدها بالذي لا يزيده إن أمسكه ولا ينقصه إن أهلكه، ومن يقبض يده عن عشيرته فإنما يقبض منه عنهم يداً واحدة، وتقبض منهم عنه أيدٍ كثيرة).

إذا مددت يدك إلى قومك فقد مدت إليك منهم ألف يد، وإذا قبضتها قبضت عنك منهم ألف يد. فكل واحد يشتغل بيد واحدة خير لنفسه أو يشتغل بألف يد؟..ولعل إلى هذا أيضاً الإشارة في الحديث المشهور (يد الله مع الجماعة).

إذا اتفقت الأمة وأحب بعضها بعضاً، كان كل واحد منها تشتغل له الأيدي الكثيرة. وإذا تقاطعت فكل واحد منها تشتغل في تقطيعه الأيدي الكثيرة…وهناك الدمار، والبوار، وخراب الديار.

العرب كانت من أقدم الأمم نجاراً، وأعظمها آثاراً، وأشدها بأساً، وأبعدها في التأريخ ذكراً، وأسماها فخراً. وكانت لهم في الجاهلية مزايا عالية، وأخلاق سامية، قلّما يحصل مثلها في أمة من الأمم...الوفاء، والإباء، وحماية الذمار، وحفظ الجار، وإكرام الضيف، وصدق الحديث، والقناعة، والبساطة.. إلى كثير من أمثال ذلك. وأفضل ما أمتازوا به من الصفات الحسنة صفتان هما من أمهات مكارم الأخلاق: (الجود والشجاعة).. وإن شئت فقل: الاستهانة بالعزيزين: (النفس والمال).

ولكن.. هل نفعها شيء من تلك المزايا الفاضلة والسجايا الكاملة؟..كلا! ثم كلا!.

بل كان بأسها بينها، وقوتها وبالاً عليها. فكان أكبر شاغل لها الحروب المستمرة بينها، فكانت وقائعها الشهيرة، وحروبها الكبيرة لا تحصى. وقد بلغ توالي الحروب فيها، وتفاخرها بالسبي والسلب والغارة، وإراقة الدماء بغير حق وعلى غير قاعدة وقانون، إلى فوق ما يتصوره العقل، وما يقشعر له الوجدان من الجهل والهمجية في وأد البنات وقتل الأولاد [وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاَقٍ] وعبادة الأوثان، وتأليه الأحجار التي يصنعونها بأيديهم ويعبدونها…فهل كانت الشجاعة والكرم نفعتهم شيئاً، أو جمعت لهم شملاً، أو وحدث لهم كلمة؟.. كلا!.. بل كانوا بحيث يقتل الأخ أخاه، والولد أباه، والعشيرة الواحدة بينها حروب كثيرة.

وما يزالوا يتخبطون في سنادس الظلم والظلمات، وقتل الأولاد والعشيرة.. فكانت أمة فاسدة، وشعباً مبعثراً، وقوة متفرقة.. انقلبت الحسنات منهم سيئات، والملكات هلكات، والفضائل رذائل..إلى أن لطفت بهم العناية الآلهية، ونظرتهم عين الرحمة..فأبتعثت إليهم ذلك المصلح الآلهي، والطبيب الرباني، والناصح الشفيق، فصدع فيهم بدعوة الحق، فوحد كلمتهم، وجمع قوتهم، وطهرهم من عبادة الأصنام ورجس الأوثان، وغسل عنهم درن الأحقاد والأضغان، حتى صحَّ فيهم قوله تعالى: [وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا].

نعم! صدع فيهم بدعوة الحق، وجاهد وتحمل الأذى في سبيل أصلاح الأمة العربية، حتى وحدت وتوحدت، وحمدت ربها وتوحدت فيما بينها..ونفخ فيها من الحياة روحاً جديدة، فأصبحوا جسداً واحداً بروح واحدة، يرمون إلى هدف واحد.. إذا أصيب فرد واحد بأذى تألم له جميع ذلك الجسد، وهو مجموع الأمة.

فما كان بأيسر من أن ملكوا العالم بأجمعه بتلك الروح الطيبة التي تحققت بينهم، فجاءوا بمدهشات العقول...حروبهم التي كانوا يتحاربون فيها بينهم جعلوها على الأعداء، فكان الواحد يقابل الألف!.

(غزوة بدر) كان المسلمون 313 رجلاً في مقابل ما يزيد على الألف من جبابرة قريش، مع ما كانوا عليه من القوة والسلاح وهؤلاء عندهم سبعون بعيراً وفرسان ومع ذلك في يوم واحد، في موقف واحد، كسروهم تلك الكسرة الشنيعة..قتلوا سبعين، وأسروا سبعين.. والإسلام يومئذٍ أبن سنتين.. ثم أخذوا بهذه الوتيرة وبهذه القوة حتى بلغوا ما بلغوا.

حرب (اليرموك) كان المسلمون 30000 واعداؤهم من رومانيا ومن الشام ألف ألف من المشركين، ومعهم ملوك الأفرنج.. فكان كل واحد من المسلمين يقابل ثلاثة آلاف من المشركين! حتى غلبوهم في سنة 16 هجرية.

وفي عين تلك السنة يحاربون من طرف الشام القياصرة، ومن طرف العراق في القادسية يحاربون الأكاسرة...

هكذا كانت قوة الإسلام، لأنهم أصبحوا في روح واحدة، ترمي لغرض واحد، ولكن لم تبق هذه الروح على تلك الحالة، حتى أصبحت تضعف وتتضاءل، وتأتي عليها العوامل المفرقة، والسموم القتالة.. إلى أن أصبح المسلمون على هذا الحال الذي تراهم عليه.

الإسلام هو الذي هذّب تلك الأخلاق، وجعل تلك الروح صخرة إيمان ويقين.

قالت طواغيت قريش لرسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم) في أول الدعوة: كيف نتبعك واتباعك كلهم عبيدنا ــ مثل بلال وصهيب وعمار ــ ونحن ملوك العرب وجمرات قريش؟ فقال لهم: (أتفاخرونني بآبائكم أحجار جهنم؟‍ والله ليكثرن بعد القلة، وليعزن بعد الذلة، وسيفتحون ممالك كسرى وقيصر، ويصير كل واحد منهم صاحب رأى، فيقال: هذا رأي فلان وهذا رأي فلان) الحديث.

نعم !‍ وما مضت على ذلك بضع سنوات حتى ملكوا ممالك كسرى وقيصر، وقذفت لهم خزائن الدنيا بكل ما في أحشائها.

الصلاح هو الذي يرفع الأمة إلى أوج المجد، والفساد هو الذي يهبط بها إلى حضيض الهوان.

الأمة الفاسدة المبعثرة قواها لا محالة تكون طعمة للكلاب وفريسة للذئاب. الأمة التي لا تحفظ كيانها، ولا تشيد بنيانها، ولا تعيش عيش الصلاح، لابد وان تصير طعمة للغير. والقوي بالضرورة يأكل الضعيف. ولكن أنى لنا بالصلاح، وأين المصلحون؟؟.

فسدت الأخلاق فساداً يعجز عنه نطس الأطباء، وعادت الأمة العربية إلى جاهليتها الأولى يوم كان يقتل بعضها بعضاً..القلوب مشحونة بالاحقاد والاضغان والدسائس… انقلبت المسألة رأساً على عقب، وأصبح كل منا يريد هدم الآخر ويسعى في هلاكه.

فسدت الأخلاق وساءت النيات، فحقت علينا (كلمة العذاب)، وأذاقنا الله وبال بعض ما عملنا لا وبال كل اعمالنا، فأن ذلك موكول إلى يوم آخر ودار أخرى..أذاقنا وبال بعض اعمالنا لعلنا نرجع إليه ونستدرك أمرنا [لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ].

ولما كانت الأمة العربية صالحة صحيحة، مجموعة كلمتها، متحدة قوتها، حقَّ لها وعد ربها حيث قال: [وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِي الصَّالِحُونَ]..

نعم! ورثوا الأرض وقبضوا على قرني الشمس من مشرقها إلى مغربها..من الصين إلى المحيط الأطلانطيك..جيوشهم في وقت واحد مع (العلاء الحضرمي) في الشرق، ومع (طارق بن زياد) في الغرب، حتى فتحوا الاندلس، واصبحوا إما ملوكاً على الملوك والممالك، أو يأخذون الجزية والأتاوة منهم...ولما دبَّ الفساد فيهم، غلبت عليهم الأمم، وأصبحوا نهزة كل طامع ونهسة كل ماضغ. ويستحيل أن نعيش ونحيا كأمة من الأمم ونحن على هذا الحال التي نحن فيها، والأخلاق الفاسدة التي تخلقنا بها. أصبحنا على كثرة عددنا مملوكين ومحكومين، أذلاء مقهورين.

وأدهى من ذلك كله؛ أننا لا نحس بما نحن فيه.. تخدرت أعصابنا وكأنما ضرب كل واحد منّا بعشر أبر من (المورفين)، فصرنا لا نحس بالألم فضلاً من أن نأخذ التدبير لعلاجه.

نعم! صرنا جميعاً على حد ما وصفه (عليه السلام): (أضرب بطرفك حيث شئت من الأرض، هل ترى إلاَّ فقيراً يكابد فقراً! أو غنياً بدَّلَ نعمة الله كفراً! أو بخيلاً أتخذ البخل بحق الله وفرا! أو متمرداً كأن بأذنه عن سمع المواعظ وقراً!)..نعم سنة الله في الكون التي لا تتغير ولا تتبدل [إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ].

كل طبقة من الطبقات فاسدة. وما من طبقة إلاَّ وهي محتاجة إلى الاصلاح. كل طبقة في نفسها أصبحت منحلة..أخلاقها سيئة، مداركها منحطة، ولا تعرف رشدها، ولا تهتدي إلى سبيلها، ولا تدري كيف تعيش وكيف تحيا.

هذا العالم الاسلامي العظيم الذي يكاد يملأ نصف الكرة.. (400مليون) أو (600مليون) لو يرتبط ويتفق، بحيث يشعر بشعور واحد، ويعيش بروح واحدة..هل كان يعقل أن هناك قوة تقابله أو تتغلب عليه؟..كلا! وهيهات!.

ولكن أنى لنا بذلك ونحن لا نقدر أن نتفق مع أخينا، ولا نستطيع أن نتفاهم مع صديقنا أو جارنا؟!.. أهل بيت واحد لا يتفقون ولا تكون فيهم روح واحدة يتبادلون في المنفعة ويشتركون في الفائدة ويدافع بعضهم عن بعض، فكيف بذلك العالم الشاسع الأطراف، الواسع الاكناف، المشحون بالبغضاء والعداوات، والخصومات والمنازعات، على أوهام فارغة وتخيلات واهية…

لا صدق ولا أمانة، ولا تعقل ولا روية..نختصم في كل شيء، وليس لنا من الأمر شيء، ولم يبق بيدنا شيء يستحق المنازعة.

أجدادنا العرب جاءوا إلى الخليفة (عمر بن الخطاب) بتيجان كسرى وحلله وعرشه، وفيها من الجواهر واليواقيت ما يختطف الأبصار ويدهش الأفكار، فتعجب الخليفة من ذلك وقال: (إن أمة تؤدي مثل هذا ولا تخون شيئاً منه لأمة أمينة يوشك أن تغلب على سائر الأمم).

كانوا يؤتمنون على تلك النفائس العظيمة.. ونحن لا نؤتمن على أعراض أخواننا، ولا اموالهم، ولا على شيء منهم...ونخونهم في كل شيء، ويرمي كل واحد منّا أخاه بالعظائم، ويقذفه بالفظائع، من غير ذنب ولا جناية!..ذهب المتاع، وبقيت الخصومة والنزاع..

تنازع اثنان على خرج في فلاة من الأرض، فجعلا يتضاربان ويتلاكمان والخرج مطروح خلفهما..فجاء سارق فسرق الخرج وولى!.. وبينما هما مشغولان بالتضارب والتسابب، إذ ألتفتا فلم يجدا الخرج، فكان حظهما الملاكمة والمخاصمة، والسارق أخذ الخرج غنيمة باردة...وهكذا نحن أيها المسلمون، قد تخاصمنا وتشاتمنا، وكانت الغنيمة لغيرنا.

أيها الناس!

اللص أخذ (الخرج)..فعلام هذه النزاعات والخصومات، والبغضاء والعداوات؟.. علام هذا التضارب والتنافس؟.. كل واحد منا يملأ قلبه حقداً وحسداً على أخيه!.

أيها الناس!

الوعاظ والذاكرون والخطباء يخوفونكم من نار جهنم في الآخرة، ومن أغلالها وسعيرها وسلاسلها وحياتها وعقاربها.. وأنا أحذركم من نار جهنم في الدنيا.. هي نار العداوة والبغضاء تلك [نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ].. نار العداوة في الدنيا هي التي تتكون منها نار جهنم في الآخرة..النمائم هي التي تصير في القبر عقارب وأفاعي...الضغائن والأحقاد هي السكاكين التي قطعتكم ومزقتكم وجعلتكم طعمة للأغيار. هذه الأخلاق الذميمة في الدنيا، هي عين نار جهنم في الآخرة. الأعمال تتجسم، والأخلاق تتصور، كل واحدة بما بناسبها.

[إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا]..نعم! مال اليتامى اليوم هو عين النار غداً.

أيها الناس!

يوم الدنيا يوم الطي ويوم الآخرة يوم النشر.

النواة في عالم الطي نواة وفي عالم النشر شجرة، وقد أنطوى في النواة كل ما في النخلة من سعف وجريد وتمر وغير ذلك...

وهذه الأخلاق الرذيلة، التي تبعثنا على الأفعال الذميمة المنطوية فينا، تظهر في يوم النشر حيات وعقارب، وأغلال وسلاسل، وتكون أطواقاً في أعناقنا...هي النار والسعير والسلاسل والأغلال حقيقة لا مجازاً. يقول جلَّ شأنه: [ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ]...ومنشأ كل تلك الرذائل هي الحرص والجشع والتهالك على الدنيا، وكله ينشأ من عدم الثقة بالله عزَّ شأنه.

تريدون النصائح وهي موقوفة على أبداء الحقائق وذكر السيئات والمعايب، وأخشى أن ينهتك الستار، ويرتفع الحجاب، ويظهر العار. كل واحد منّا حبله على غاربه، لا رادع ولا مانع، ولا هادي ولا مرشد..وإذا عمَّ الشرَّ على البشر هلك الجميع.

هذه صفاتنا وأحوالنا النفسية. أما أعمالنا من حيث السرف والبذخ والتبذير، فهو الداء العضال الذي قتلنا. فلو كان هناك نفوس شريفة، وعلو همة، ورجال عزم وإباء، وفتيان شمم وشهامة، لنسجوا والله ثياباً من (خوص النخل) واستغنوا بها عن الملابس الأجنبية!.. وهل الذل والعبودية إلاَّ الحاجة؟.

(أحتج إلى من شئت تكن أسيره)..كيف اشتري وأدفع روحي وحياتي إلى الأجنبي؟!.

(درهمك دمك، فلا تجره في غير عروقك).

ذهب عزنا يوم صرنا محتاجين إلى الاجانب في كل شيء حتى (الخيط والأبرة)، ويوشك ان نحتاج إليهم حتى في الخبز والماء. سقط العراق ــ كما تعملون ــ في أعمق

 

حفائر الفقر والفاقة، ذهب الذهب وذهب كل شيء)..فالتجارة خسارة، والزراعة إضاعة.. وأي حياة لبلاد لا تجارة فيها ولا أرباح ولا زراعة ولا صناعة؟!.

الشبان

أيها الشبان!

أيها الأولاد!.. أيها الأكباد!.. يا زهرة البلاد!…المستقبل لكم، والبلاد بلادكم. نحن على وشك الرحيل وانتم الخلف. ما هذا البذخ والترف في الأموال التي تسمونها (الكماليات) وهي عين النقصيات؟! كل أوضاعكم سرف وتبذير. ما هذه الربطة التي تضعونها في العنق؟.. هي والله رباط الذلة، هي رباط العبودية… ما هذه السفاسف والزخارف؟…

لو إنكم تجمعون تلك الأموال التي تبذلونها لهذه الأمور التافهة، وتشترون بهاتيك الفضول، لأجتمع عند المسلمين أعظم ثروة، تستطيعون بها تأسيس مدارس عالية، وكليات إسلامية، تغنيكم عن الهجرة إلى بلاد الأجانب التي تمتص أموالكم، وتفسد أخلاقكم، وتمحق أديانكم. أما كان أحق بكم وأحرى عوض تلك الزخارف أن تجمعوا أثمانها لمستشفيات تحفظ صحتكم، وصحف تنوّر شبابكم وتثقف عقولكم؟.

الاسراف والتبذير

ناهيك بالسرف في المأكولات والمشروبات، مما تجلبونها من الأجانب...كلنا نسعى إلى هلاك أنفسنا من حيث ندري ولا ندري، وبهذا صار كل قطر من أقطار المسلمين يئن من مخالب الاستعباد، ويرزخ تحت نير الاستعمار..والمسلمون ضعفاء في أوطانهم، اسراء في نفس بلادهم، أذلاَء في عقر دارهم.

العز في الثروة، فإذا ذهبت الثروة ذهب العز. وما ملك الغرب الشرق إلاَّ بالصنائع، وأمتصاص ينابيع الثروة منه.

وديننا الشريف جاءنا بكل المصالح التي تعود علينا بالثمرات وأبان لنا ضرورة الاقتصاد...[ إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ]، [وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ].

أليس الإمام زين العابدين (عليه السلام) يقول: (اللهم متعني بالاقتصاد، وأجعلني من أدلة السداد، ومن صالحي العباد، وامنعني من السرف، وحصّن رزقي من التلف، وأقبضني عن التبذير، وعلمني بلطفك حسن التدبير، وأجر من اسباب الخير أرزاقي، ووجه في أبواب البر انفاقي.. اللهم صن وجهي باليسار، ولا تبتذل جاهي يالاقتار، فأسترزق أهل رزقك واستعطي شرار خلقك، فأفتتن بحمد من أعطاني، وابتلي بذم من منعني، وأنت من دونهم ولي الأعطاء والمنع...).

أيها الشبان!

البذخ جنون، والتبذير تدمير، والسرف تلف، والتدبير عز وبركة. إذا بقينا بهذا الفقر وبهذه الذلة متى يمكننا النهوض؟!.

أيها الشبان!

مهما كان الأمر فعليكم المعول، والمستقبل إليكم، ونحن راحلون. أتدرون ماذا تعملون؟ وفي أي أودية تهيمون؟..

متى يرجى بالولد أن يكون من رجال الغد..رجل حق وصدق، رجل نشاط وعمل..وهو يقف ساعة أمام المرآة كل صباح ومساء، بين الاصباغ والأدهان، والزينة، ونتف كل شعرة من وجهه، حتى يبرز بهذا التخنث والتأنث، وكأنه بنت مبهرجة! أفبهذا تريدون أن تصيروا رجالاً بواسل كأسلافكم الأقدمين الذين فتحوا الفتوح، وملكوا الملوك؟!.

يجب على الرجل أن يكون صلباً خشناً، يسمو إلى معالي الأمور ويتعود على المصاعب.. لا على الترف والنعيم. إذا لم يتعود على مكافحة المصاعب لا يكون رجل صدق وزعيم حق، وإذا تعلّم على الزينة والبذخ متى يكون رجلاً عاملاً يدافع البهم ويكافح الأمم. تحترق عليكم أكبادنا يا أولادنا..مستقبلكم مظلم، وخطتكم وخطيآتكم مهلكة.

 

فلسطين والمؤتمر الإسلامي

عمَّ البلاء، واستحكمت حلقات المحن، وأشتد كابوس الضغط على كل قطر من أقطار المسلمين، وأصبح الإسلام في آخر رمق من الحياة، وفي حضيرة من الاحتضار.. ولكن الله سبحانه له عناية في دينه مهما تجرأنا وتمردنا عليه، وإن دينه عزيز عليه..

على طف جزيرة العرب، وفي الجانب الغربي منها، أمة من الناس..لسانهم لساننا، ودينهم ديننا، وكتابهم كتابنا، وقبلتهم قبلتنا، والدم الذي يجري في عروقهم من دمنا ودم آبائنا..قد نشبت بهم منذ سنين أظفار (الصهيونيين) ومخالب الاستعمار، ووقعوا بين ذا وذاك، بين كابوسين، بل بين طابقين من نار.. حتى أصبح ثلاثة آلاف عائلة من المسلمين ــ أو أكثر ــ بلا مأوى ولا مقر…أخذت الصهيونية أراضيهم، واستنزف الإستعمار الغاشم أموالهم، وأجلوا إلى شعف الجبال القاحلة، حيث لا زرع ولا ضرع.

الصهيونيون يبذلون لهم الأموال فيشترون أراضيهم، ويعدونهم بأبقائهم فيها ــ لفلحها وحرثها ــ ..ثم بعد قليل يطردونهم..والضرائب الباهضة من وراء ذلك يستنزف تلك الأموال..فيصبح أولئك المساكين لا أرض ولا مال، ولا مقر ولا مفر!.

فلو كان المسلمون أمة لها قوة ومنعة، وكالجسد الحي الصحيح الذي يتألم بعضه لبعض، لكنا نغار عليهم، وندافع عنهم بكل ما في جهدنا. ولكن من أين وأنى ونحن كناقش الشوكة بالشوكة وضلعها معها؟! أريد أن أداوي بكم وانتم دائي!.

نعم! هناك رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه.. فنهضوا نهضة الأسد الخادر، ووقفوا سداً منيعاً عن أن يجرف ذلك التيار صروح الباقين، وأستغاثوا بأخوانهم المسلمين من أطراف الأرض فحضر ثلة من فطاحلهم في (المؤتمر الإسلامي) الذي بعث الله فيه من روحه ونشر عليه منه جناح بركة ورحمة..ذاك حين علم ــ جلَّ شأنه ــ بما أنطوت عليه جوانح الداعين والملبين من روح الاخلاص والحفيظة، فنصرهم لما نصروه، ووازرهم لما وازروه [وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ]، [وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ]… فتقدم المؤتمر بنجاح لم يكن بالحسبان، وفشلت كل المساعي والدعايات الذي وضعت في سبيل أحباطه وفشله (مستأجري الصهيونية) وأذناب الاستعمار وأبواقهم.. وكذا إذا أراد الله أمراً هيأ أسبابه.

وما كانت أعمال المؤتمر، وجهود أعضائه، ومحكمات مقرراته، تخص بالفائدة أهل فلسطين فقط، بل هو لصالح المسلمين أجمع، في جميع أقطار الأرض.

نعم! غرس طيب غرسناه لكافة المسلمين في تربة طيبة، فأن أحس المسلمون وأحسنوا القيام بواجبهم فسقوا ذلك الغرس وتعهدوه نما وأثمر وآتى أكله شهياً طيباً، ونال الجميع حظهم منه، وان تركوه وأهملوه كما كان الغالب في سائر أعمالهم ــ لا سمح الله ــ قضى عليه في مهده، وأصبح كأن لم يكن شيئاً مذكورا..وهناك الخزي والعار على المسلمين عند سائر الأمم، ولا تقوم لهم قائمة بعد هذا أبداً..فلينظروا لأنفسهم، فهذا هو الحد الفاصل بين الموت والحياة.

ما يلزم المسلمين

من الجمعيات وجمع المال

أنظروا للمستقبل أيها المسلمون!

تداركوا أمركم، وأنظروا مستقبلكم، وأجمعوا شملكم.

هاتيك الدول كلها منذ فرغت من الحرب الكونية إلى اليوم ما انفكت تجمع قوتها، وتوفر أموالها، وتشحذ أسلحتها، وتزيد عددها وعدتها ليوم مشؤوم على الشرق، بل على العالم أجمع. ولا أدري أقريب هو أم بعيد، ولكن الساسة ونوابغ الرجال يتنبأون بحرب عالمية كبرى، ولا محالة ستكون أعظم من الأولى...أفلا يتحتم عليكم أن تنظموا صفوفكم، وتصلحوا شؤونكم، وتوحدوا كلمتكم..حتى إذا دهمكن البلاء أتاكم وانتم على بصيرة من أمركم، وعدة واستعداد من معرفة مصيركم؟…قد تسرب الفساد إلى جميع الطبقات، وكل طبقة تحتاج إلى الاصلاح، سنة الله في الكون التي لا تتغير ولا تتبدل.

[إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ].

 

والاصلاح لا يتسنى إلاَّ بتشكيل نقابات..وهي تحتاج إلى هيئة عاملة مشرفة، تتصدى للتنظيم، وتجعل لكل صنف هيئة تنتخبها لتدبير شؤون ذلك الصنف، وتسعى لأصلاحه وجلب مصالحه، ودفع الأخطار عنه، وأصلاح ذات بينهم، وحسم ما يقع من الخصومات بين أفرادهم، والسير بهم إلى المساعي النافعة والأعمال المثمرة، وجمع مقدار من المال للكوارث والبلايا التي تنزل بهم من غير حسبان.

فلو ان هذه البلدة الطيبة، التي دعانا أهلها لزيارتهم، وساعدتنا العناية بهم على اجابتهم..يجمع في كل يوم من كل فرد ربع (آنه) أي في الشهر نصف (ربية) لوجدوا كم يجتمع في السنة عندهم من المال، الذي يتمكنون به من انشاء المشاريع الخيرية النافعة لهم، ولا يتصور باذل هذا المبلغ الزهيد أنه يدفع المال لغيره، بل فليكن على يقين أنه يجمعه لنفسه، وهو كصندوق أحتياطي له، يعود بالنفع عليه وعلى أخيه وجاره وولده وأرحامه وقومه.

نعم! يحتاج هذا إلى نهوض جماعة من أهل الهمة والنشاط، ومن ذوي الشخصيات اللامعة، ليجمعوا المال بحنكة وحكمة وأمانة وحسن تدبير..فلو عملوا على هذه المناهج لأجتمع عندهم من القليل كثير، وأمكنهم بهذا أن يساعدوا (المؤتمر) وغير المؤتمر، وكل شيء..

ومهما بلغت الأزمة والضعف بأهل العراق، فأنها لا تبلغ العجز عن بذل تلك المبالغ الزهيدة وذلك المقدار البسيط، الذي لا يكاد يحس...على ان دفع المقادير الكثيرة على أهل الهمم العالية ليس بكثير.

كان في (الاستانة) جامع منهدم في بعض محلاتها البعيدة المهجورة، لذلك أبت الحكومة عن بذل المصارف لتعميره، فنهضت الحمية برجل من المسلمين ضعيف الحال، أخذ العهد على نفسه أن يجمع ثمن كل ما يمكن الاستغناء عنه من لباس ومأكل ومشرب، ويجعله في صندوق لا سبيل إلى فتحه..فكان إذا أشتهى فاكهة ــ مثلاً ــ أو ثوباً جديداً أو نحو ذلك منع نفسه عنه وطرح ثمنه في الصندوق. وبعد مرور سنتين أو ثلاث أجتمع في الصندوق مال كثير، فأخرجه وبنى به ذلك الجامع بناءاً فخماً، ووضع على بابه صخرة كبيرة مكتوباً عليها باللغة التركية: هذا جامع (كأني أكلت، كأني شربت، كأني لبست)!.

العمل والنشاط

العمل العمل..أيها الناس!

فوالله ما ترقى الغرب الذي ملك العالم إلا بالعلم والعمل! وما سقط الشرق وتأخر إلا بالجهل والكسل، والخلاف والجدل.

الخلاف هو الذي يهدم الرأي، ويهلك الأمة..النزاعات هي آفتنا القتالة المهلكة، ولا شغل لنا سواها. وكلها على أوهام خيالية فارغة عكس ما أمر الله ــ سبحانه ــ به، وما جاءتنا به الشريعة السمحاء المهذبة للأخلاق، الكفيلة بأقتلاع كل الجراثيم التي تقضي بهلاك الإنسان وهلاك أمته.

إن شريعة الإسلام جمعت السعادتين: سعادة الدنيا، وسعادة الآخرة. وأخذت بالعدل، وزادت عليه بالعفو والفضل... [الْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ]، [وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ].

وزين العابدين (عليه السلام) يقول في دعاء مكارم الأخلاق من زبور آل محمد: ((اللهم صلِّ على محمد وآله، ووفقني لأن أعارض من غشني بالنصح، وأجزي من هجرني بالبر، وأكافي من قطعني بالصلة، وأخالف من اغتابني إلى حسن الذكر)).

أما نحن.. فقد عكسنا هذه القواعد الذهبية، وصرنا نجازي من نصحنا بالغش، ومن برنا بالهجر، ومن وصلنا بالقطع.. وكلما أصابنا فيما كسبت أيدينا، وقد أرشدنا المصلحون.. ولكن نحن الضايعون والمضيعون.

الحفاوة والحفلات

وجدنا من المسلمين في سفرنا هذا من العراقيين وغيرهم من أهالي (فلسطين) و(سوريا) من كل من مررنا عليهم.. أكمل الحفلات، وأكرم الحفاوات، وجدنا منهم الشعور الرقيق، والتأثر العميق، والسخاء العربي، والحفيظة الإسلامية، وكلما يرق

 

ويروق للناظر والسامع من هذه الطلائع. ولا شك إن مساعيهم مشكورة، وأجورهم عنده ــ تعالى ــ مذخورة.. ولكن هل في شيء من ذلك ما يشفي العلة ويبرد الغلة؟.

إن الذي يراد من المسلمين، والذي يجب أن يسعى إليه الجميع، هو العمل المنتج، العمل المثمر، العمل الذي ينفعهم في الدارين.

لا نريد حفاوة ولا تكريماً، ولا تجلة ولا تعظيماً..نريد أن تكونوا رجالاً أشداء على الأعداء، أقوياء في عزائمكم، رحماء فيما بينكم.. أمة صحيحة صالحة، وأسود مجد وسؤدد يحامي بعضهم عن بعض... هذا الذي يسرنا منكم، هذا هو الذي ينعش قلب الرجل الناصح، ويطرب سمع المجاهد المخلص.. أما هذه الحفاوات، فماذا أنتفع بها أنا، وماذا تنتفعون أنتم بها؟.

أريد أن تكون الأبناء كالآباء في النخوة والإباء، والأولاد كالأجداد في الحزم والسداد، والخلف كالسلف في العز والشرف. ضحك لهم الدهر وعبس علينا، وما أدري أحسن إليهم وأساء إلينا، أم كل ذلك مما جنيناه على أنفسنا؟!.

عبسن لنا وجوه الدهر حتى
 

تناهشنا بأثياب حداد
 

فلا ندري السقوط بأي غور
 

ولا ندري الهبوط بأي وادٍ
 

وكنا نجتني ثمر المعالي
 

فصرنا نجتني شوك القتاد!!
 

 

أيليق بأمثالكم أن تغمرهم الفترة، وتمر عليهم السنوات وهم في سنة الغفلة؟..ألا تبعثكم الشهامة؟..ألا تحفزكم الكرامة وأنتم سلائل أولئك البواسل الفاتحين الذين فتحوا هذه الممالك وأوجدوا لكم هذا العز العظيم؟.

يا أهل شريعة الكوفة!

قد أجبنا دعوتكم، ووفينا بوعدكم، وأنتم تطلبون منّا مواعظ ونصائح، ولا أجد جزاء لكم وعاطفة عليكم ألزم وأهم من أن أنصحكم في شيء واحد؛ أوصيكم ــ وكل المسلمين ــ بتصافي القلوب، ورفع الحزازات والبغضاء، وتعاطف بعضكم على بعض، بحيث تكون لكم وحدة وتضامن، وتتوثق ما بينكم عرى الأخوة وروابط المحبة..أجتمعوا وأجمعوا المال لليوم الأسود الذي سيغشى العالم لا محالة..ساعدوا الضعيف، أرحموا اليتيم، أقبلوا عثرات ذوي المروءات، وخذوا بيد من رماه الدهر بنكبة من النكبات.

أيها المسلمون!

دين الإسلام دين الفطرة، دين الرحمة والبركة، دين العلم والعمل، لا دين البطالة والكسل.

الإسلام دين التوحيد، يعني يوحد الله في العبادة، ويوحد المسلمين في الآخرة.

الإسلام بوتقة تذوب عندها العناصر...الكل سواء بالنظر إلى الحق والعدل.

دين الإسلام كيمياوي يوحد العناصر المختلفة..العربي، والفارسي، والهندي، والتركي...وكل البشر سواء. أي دين جاء للبشر بهذه السعادة؟.. [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]، [يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ].

إذا أردت أن تتزعم وتترأس أخدم أمتك، أخدم وطنك، فإن الزعيم المحبوب خير من الحاكم المرهوب.

الزعيم المحبوب هو من يخدم أمته ويخلص لوطنه وقومه، من يدافع عن كلمة الحق، من يثبت على مبدئه، ويسهر لمصلحة بلاده. ليس الزعامة بالدعاوي والفخافخ..أخدم تجد خداماً.

أيها الناس!

أنا داعي الله.. أنا داعي الحق.. أنا داعي الوحدة.. أنا داعي الصلاح والإصلاح.. أخشى بدعوتي هذه وفي مقامي هذا أن تتم عليكم الحجة.. إذا لم تنشطوا للعمل ينزع الله عنكم البركات، ويرفع الخيرات، ولا يكون لنا في السماء عاذر، ولا في الأرض ناصر.

السياسة والإصلاح

أنا لا أؤيد السياسة ولا أعارضها.. لا أؤيد ولا أفند.. ولا أمدح ولا أذم...ولازلت أقول: إن السياسة جمرة نار أحسها ولا ألمسها.. أراها بعيني ولا أمد لها يدي. لا أقول هذا خوفاً ومجاملة، ولا طمعاً ولا رجاء، فإن الله ــ سبحانه ــ قد عافاني من رذيلتي خوف الناس ورجائهم.. من كان قوي الثقة بالله لا يخاف ولا يرجوا إلاَّ الله…ولكن أقول ذلك علماً واجتهاداً. ويقيناً واعتقاداً.

كان السيد الأفغاني (رحمه الله) يقول:

(الأحزاب السياسية للأمة نعم الدواء، ولكنها في الشرق تنقلب غالباً إلى شر داء).

ومعنى ذلك: أن الاشتغال بالسياسة لا ينفع الأمة إلاَّ إذا كان منبعثاً ومتشبعاً بروح الإخلاص، والإخلاص عزيز.

السياسة مع المطامع داء ومع الإخلاص نعم الدواء...هذا مع أني أعتقد ان الأمة لا تسود إلاَّ إذا كانت آراء المعارضين محترمة لديها مقدّسة عندها، والحقيقة ضالة الجميع، ولعلها في جانب خصمك أكثر مما في جانبك.

فأجتمعوا وتحابوا وتفاهموا، عساكم تصيبوا الحقيقة.

يلزمنا أن نصلح أنفسنا قبل كل شيء. كيف نأمل أن نصلح الممالك والحكومات ونحن غير صالحين؟! نحن بعد لم نصلح شؤون بيوتنا، وأخلاق عائلاتنا وأولادنا، وأهل بلادنا… فكيف نستطيع إصلاح غيرنا؟.. لنصلح أنفسنا، ونعلم أبناءنا وأهالينا.

أننا إذا أردنا أن نعيش أمة حية قوية، مثرية غنية، يلزمنا أن نلبس من غزل أيدينا ونأكل من نتائج أراضينا، ونستغني عن مصنوعات غيرنا جهد امكاننا.

هل الأسر والعبودية إلاَّ الحاجة؟.. ونحن في كل شيء محتاجون إلى غيرنا (الصغيرة والكبيرة).. وكل ذلك من ضعف الإرادة، وقصور الهمة، وتشتت الكلمة. الأخ مع أخيه، والوالد مع ولده، وكل قريب مع قريبه غير متفاهم ولا متصافي.. القلوب مشحونة بالبغضاء والشحناء على أوهام لا وجود لها وتخيلات لا حقيقة فيها!.

كان لرجل بستان خرج منها إلى داره القريبة منها، وبينما هو راجع من بيته لبستانه، فإذا برجل خرج من البستان راكضاً خائفاً وجلاً، فقال له صاحب البستان: ما دهاك أيها الرجل؟ ومما هذا الخوف والاضطراب؟ فقال: دخلت هذا البستان لأستريح قليلاً وإذا به مملوء بالضباع!.. فأستغرب البستاني ذلك، إذ قد فارقه قريباً ولا شيء فيه..فقال له: كم عدد ما رأيت فيها من الضباع؟ قال: مائة على الأقل! فقال له: أظنك مشتبهاً، فتأمل جيداً. فتنازل إلى الخمسين.. ولم يزل البستاني يشككه ويأمره بالتدبر والتروي إلى أن قال: أما الواحد فلا شك فيه، وقد رأيته الآن بعيني! فقال البستاني: نعم هذا جائز فهلم معي إلى البستان كي تدلني عليه ولا تخف. فدخلا البستان، وإذا على شجرة منها عباءة سوداء منشورة، ظنها ضعيف القلب ضبعاً..ثم غلا في وهمه وجعل الواحد مائة!!.

وهكذا نحن بعضنا على بعض، نسيء الظن بأخواننا ثم نجعل الواحد مائة.. وفي الحقيقة لا أحد ولا مائة. ويشيع الواحد منّا على أخيه العيوب والمخازي ولعله بريء منها جميعاً.. مع أن الله ــ سبحانه ــ أمر بالستر ونهى عن إشاعة الفاحشة.

أيها الناس!

قد بذلت لكم النصائح، ودللتكم على العلل والأمراض، وشخصت لكم الداء والدواء، ولا أريد بذلك جاهاً، ولا مالاً، ولا زعامة، ولا كرامة.. أنا بفضل الله غني عن ذلك.. ولكن الذي يسرني منكم واعده السعادة لي ولكم أن تندفعوا إلى العمل والشروع في المشاريع النافعة، ولا تتواكلوا، ولا تتخاذلوا، فحسبكم ما مرَّ وجرى عليكم. وأعلموا أن القول وإن كثر، والوقت وإن طال، ولكن ما تكلمت إلاَّ من ناحية من نواحي الحقيقة وحواشيها دون الصميم والصريح منها. والحقائق كلها مطوية لا سبيل إلى بيانها.

الثقة مفقودة، والألسن معقودة، والعقول معقولة، والأيدي مغلولة..فماذا يقول اللسان وهو معقود بألف عود.

أقول وقد شدوا لساني بنسعة
 

أمعشر تيم أطلقوا لي لسانيا
 

 

ولكن ربما تسألون: ماذا كانت النتيجة والغاية من كل تلك الكلمات وصرف ساعتين من الأوقات... فالجواب المختصر الكافي: إن كل أمة لها حس وشعور فهي لا محالة تطلب سعادتها.. ولا تحصل السعادة إلاَّ بوسيلتين، ولا تقوم إلاَّ على دعامتين: (الاتحاد والاقتصاد). إذا أتحدتم سعدتم، وإذا أقتصدتم سعدتم. إذا أتفقتم وفقتم، وإذا أختلفتم تلفتم.

 

نحن محتاجون إلى الاقتصاد في كل شؤون الحياة، وفي جميع أعمالنا وأحوالنا. وليس المراد بالاقتصاد حبس الأموال في جميع الأحوال، بل الاقتصاد الحرص على جمع المال من سبله المشروعة، وحبسه عن الانفاق إلاَّ في مواضع الشرف أو الضرورة... الاقتصاد أنفاقه في مواضع الشرف لا مواضع السرف والترف والشهوات البهيمية. أحرص عليه في موارد السرف، لتنفقه في موارد الشرف.

أين السامعون العاملون بأحسن ما يسمعون؟!.. جعلكم الله من الذين يقول فيهم جلَّ شأنه: [فَبَشِّرْ عِبَادِي الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ]، ولا يجعلكم ممن قال فيهم: [صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ]. والكثير من الناس وإن صاروا على هذا الحال وبهذه الصفة، ولكن لا يأس من روح الله. وأرجو أن يكون لكلماتي أثر في نفوس العموم، لأني أتكلم ــ كما يعلم الله ــ بروح شفقة وإخلاص وحنان ورحمة.. أتكلم معكم عن قلب.. والكلام ــ كما قيل ــ إذا خرج من القلب دخل في القلب.

أيها الناس!

أنا النذير العريان.. أنا النذير المجرد عن كل غرض وغاية سوى غاية خيركم وصلاحكم...لذا أملي قوي إن كلامي هذا سوف لا يذهب ــ بتوفيقه تعالى ــ إدراج الرياح، ولا يعود ــ كما يقال ــ صيحة في وادِ، ونفخة في رماد.

وأملي أن يكون تأثيره في (النجف) التي هي بمنزلة الدماغ المفكر من العراق، وفي (شريعة الكوفة) التي هي بمنزلة الكف والساعد من النجف.

أيها الناس!

أنا كما تعلمون (رجل روحاني).. لست بخطيب، ولا واعظ، ولا ذاكر.. ولا أستطيع كل يوم، بل ولا كل شهر، أن أقرع سمعكم وأسمع جمعكم بأمثال تلك الكلمات الرائعة والنبرات اللاذعة، وأنا عند نزولي عن هذه الأعواد سوف أعود إلى أعمالي الدينية ووظائفي الروحانية، من التدريس والصلاة والفتوى، وأرجو أن تشتغلوا أنتم بالاجتماع والمفاوضة، وتعيين الخطط والمناهج.

والله ــ سبحانه ــ يسعدكم ويساعدكم، ويأخذ بأيديكم إلى سبيل النجاة والنجاح إن شاء الله.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

 

الخطب الأربع

الخطب الارتجالية الأربع التي تفضل بألقائها سماحة المصلح العظيم، حجة الإسلام والمسلمين، الإمام الراحل، الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء على جماهير (العشار) و(البصرة) و(الحلة) و(النجف الأشرف) بعد عودته من إيران.

وقد طبعت هذه الكتب في كراس مستقل تحت عنوان (الخطب الأربع) بمطبعة الراعي في النجف الأشرف سنة 1353 هجرية.

تقديم

بلية الأمم في أدوائها الأجتماعية التي تنخر في جسمها كنخر السوس في جذع الشجر، وتزداد هذه الأمراض بتقادم الزمن ومرور الأعوام عليها، فتصبح إذ ذاك أمراً يصعب استئصال شأفته وقطع جذوره، لأنها تكون متينة الأساس قوية الأركان، فتصير كصفة طبيعية وغريزة نفسية لا يسع المجال للقضاء عليها.

أما إذا تهيأ لها الإنسان بادئ ذي بدء، وأعدَ العدة قبل أن يتسع الخرق على الراقع، فذلك أمر محمود، لأنه يسهل الطريق، ويوفر الزمان، ويربح الأمة قبل أن يتمكن منها المرض ويزمن الداء ويصعب الدواء.

ذكرنا هذه الكلمة لنعود بها إلى أمتنا التعيسة النكدة التي أبتليت بالعلل والاسقام منذ زمن غير قليل، فكانت عللها الاجتماعية هذه تهبط بها إلى دركات الذل وحمأة الشقاء وهي لا تشعر بما أصابها من جراء ذلك، لأنها تخدرت واستسلمت للقضاء والقدر استسلام الرجل المشفي على الموت، فلا يرتجى الشفاء إلاَّ بالصدقة، ولا الصحة والعافية إلاَّ عن طريق الهلاك.

سارت أمتنا في هذا الطريق ولكنا سارت من دون أن تبصر، وتحركت من دون أن تشعر، ولا قائد هناك يقودها، ولا مرشد يرشدها. وشأنها في هذا شأن كل أمة هوت إلى حضيض الشقاء، حيث تبقى تلك الأمة سائرة على ما هي عليه حتى يقيض لها الله من ينتشلها من هذه الهوة السحيقة، ويأخذ بها في طريق السعادة ويسقيها من رحيق الحياة المختوم، فعند ذلك تفتح عينيها من أغماءتها، وتصحو من سكرتها، وتعد العدة لنفسها، وتسير متتبعة الطريق الذي رسمها لها منقذها، منفذة الخطة التي سنّها لها مرشدها.. حينئذٍ تبدأ الحياة من جديد، وتعيد مجدها الماضي.

لو ألقينا نظرة بسيطة مختصرة إلى أمم الغرب، كأيطاليا وما أصابها بعد سقوط عاصمتها روما سنة 476م، لرأيناها تتخبط تخبط العشواء في جنح الليل البهيم إلى أن هيء لها من سعى لصلاحها وأجتهد في ارشادها، وكذلك كان لها مازيني وكافور ومن بعدهما غاريبالدي وعمانؤيل.

أما ألمانيا فإنها قبيل حرب السبعين كانت منقسمة إلى ألمانيا الشمالية وألمانيا الجنوبية، ولكن بطلها (بسمارك) لم يرضَ بذلك فأخذ بيدها إلى أوج الوحدة.

وكذلك فرنسا فإنها لم تتخلص من قيود أباطرتها ونبلائها إلاَّ بعد أن قبض لها من انتشلها، أمثال فولتير، وميرابو، وربسبير، ودانتون وغيرهم.

أما العرب فحدث عن جاهليتها قبل الإسلام ولا حرج، ثم منَّ الله عليها بهذا الدين الحنيف الذي صعد بها إلى أوج المجد، ثم سرعان ما عادت إلى شبه جاهليتها الأولى، وفي تلك الفترات التي تاهت بها أمتنا كان الله يرسل لها في الفينة بعد الفينة من يشعرها ذلها، ويذكرها حالتها، وكان شيخنا الحجة في هذا العصر، وحيد زمانه ونبي أوانه، لم يزل ولن يزال يسعى في إصلاح هذه الأمة وفي رقيها، مجازفاً براحته مضحياً كل غالٍ لديه في تشخيص أدواء هذه الأمة وتحضير الدواء لها، فكان من الأطباء النطاسين الذين فازوا بالنجاح بعد التجربة، فهو على بعد الشقة وضعف الشعور بالوحدة، لم تضعف عزيمته أو نقل همته، بل لم يزل يدأب على معالجة أدواء الأمة المزمنة منها والمؤقتة، يشخص الداء بمنظار العقل والإخلاص والمثابرة، مركباً الداء التركيب الكيمياوي الذي به خير الأمة وعلاجها.

لم يزل شيخنا منفرداً عن أقرانه، يقوم بالرحلات ويخطب الخطب ويقول المقالات، يحض الأمة، وينصح أفرادها بأتباع طريق السداد، والسير في منهج الرشاد، يفضل المصلحة العامة على كل مصلحة تخصه، يفرغ من جهة ويتحول إلى أخرى، لا يكل ولا يمل، كأن الله قد زوده بروح منه، فسار والهدف أمامه، متخذاً إرادته القوية واخلاصه القويم وتجاربه الحكيمة خير ساعد ومعين. فلا زالت مواقفه الشريفة في العراق، والشام، وفلسطين، ولبنان، والحجاز، وايران، ومصر كلها تبرهن على ما بذله في سبيل ترقية أمته، والقيام بواجبه الملقى على عاتقه، متتبعاً، ومنقباً عن النواقص، متطلباً الشفاء لها، فكانت لنهضته هذه صدى رددته الصحف العربية، ورجع رجعته الأندية العامة والخاصة، وهو يثابر محالفاً الله على أن يخلص لأمته مهما كلفه الأمر، ومهما حاول بعض المرائين من الحط في عزيمته، وكانت رحلته الأخيرة التي جاب بها بلاد ايران وكرَّ راجعاً إلى وطنه مملوءة بالعظات الغالية والنصائح الثمينة والآثار الخالدة، فكان كلما يحل ببلدة من البلدان يزود أهله بالكلمات الشريفة والخطب الارتجالية البليغة، حاضاً أياهم على التمسك بالفضائل، وخلع الخزعبلات والقشور، موصياً إياهم بألتزام نصائح الشرع الإسلامي القويم، والتضامن على الوحدة الصحيحة، فكانت البصرة، والناصرية، والديوانية، والحلة ممن تزودت بوصاياه الغالية وكان الكتاب في أكثر المواقف يتسارعون في ألتقاط ما يتفوه به وتدوينه، فأجتمع لديهم مجموعة نفيسة من النصائح، وكان آخرها ما رقى به المنبر في أواخر شهر صفر وحضَّ أمته على ترك جميع ما هو مخل بالدين، ومضر بالأخلاق، ومنافٍ لما نزل به الوحي على سيد المرسلين، والقضاء على العادات المنكرة التي يقوم بها بعض الأوباش في العشر الأولى من ربيع الأول في النجف، وقد تهافتت الطلبات على سماحة الحجة، راجين نشرها في رسالة يسترشدون بنورها، فتصديت أنا لجمعها ونشرها، ومالي إلاَّ خدمة الشعب مقصد.

 

فما أحوجنا إلى أمثال هؤلاء الرجال في مثل هذا الوقت الذي تتمخض فيه أمتنا عن ظروف عصيبة، إذ بوجودهم تنتعش وتحيا وبفقدانهم تنتكس وتموت.

وفقه الله في أعماله وسدده في خطاه أنه سميع الدعاء.

1 ربيع الثاني 1353هـ

نوري كاشف الغطاء

الخطبة الأولى

هذا ما أمكن ضبطه للكاتبين ساعة الألقاء من خطاب سماحته في (جامع المقام) في العشار يوم 7 ذي القعدة 1352هـ الموافق 21 شباط 1934م. وقد ذهب أكثر من ثلثها لعدم أمكان ضبطه لشدة انحدار الخطيب في الكلام بين حماسه وتهيجه.

ققق

قال ــ سبحانه وتعالى ــ في كتابه المجيد: [إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ].

أول حادث حدث في البشرية، منذ فجر يومها الأول ومبدأ تاريخها القديم، أن قتل نصف العالم نصفه، حيث قتل أبن آدم أخاه. ومن ذلك اليوم أخذت البشرية تقاسي آلاماً وتعامي عللاً وأسقاماً، ويعادي ويعتدي بعضها على بعض، وفي كل يوم ينتشر الشر، ويتفاقم البلاء، وتعظم الرزية.

على ذلك تعاقبت الأيام، وسلفت الدهور، ومضت القرون، ونسلت الأحقاب.. وإذا بالفضيلة تهبط إلى الحضيض وتتربع الرذيلة على كرسيها، فتعالى الضرر، وتفاقم الشر، وأستحكمت العصبية، وبقى العالم يسود فيه التباغض والتحاسد والتناكر والتفاسد، ولا شيء فيه من التراحم والتوادد.. غنيهم يستعبد فقيرهم، وقويهم يفترس ضعيفهم، يغتصب كل منهم حقَّ صاحبه، ويشرب كل واحد دمَّ أخيه، ولكن الغاية الأزلية ــ جلت بركاتها ــ لم تزل تشفق على هذا المخلوق التعيس، فترسل إليه رسلاً معالجين، ورجالاً صالحين ومصلحين، وأطباء ماهرين، نبياً بعد نبي، وولياً أثر ولي، وصالحاً تلو صالح، يهدون ويرشدون، ويعاجلون ويعالجون… فلم ينفع ذلك في البشر إلاَّ ما شذَّ وندر، والشر على ما كان عليه.

أبتعثت العناية نوحاً، وهو شيخ الأنبياء وأب الرسل، فخاطبهم بلغتهم، وأبلغ في الدعوة، وأقام عمراً طويلاً ــ ألف سنة إلاَّ خمسين عاماً ــ ليهتف فيهم ليلاً ونهاراً وسراً وجهاراً، داعياً إلى الصلاح والإصلاح، فلم يؤثر فيهم شيئاً. وكان عاقبة كل ذلك الطوفان، وما أستجاب له ونجا معه إلاَّ نفر قليل.

جاء إبراهيم، وتلاه اسحاق ويعقوب، ثم جاء موسى ــ وهو بطل الأنبياء والقوي الأمين ــ وأعتضد بالمعجزات الباهرات، من العصا وفلق أليم وأمثالها، فكانت نتيجة بني إسرائيل [فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاَ إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ]. وأعظم من ذلك عبادة العجل والتخبط أربعين سنة في التيه.

ثم آل الأمر إلى عيسى الذي يدعونه بالمخلص، فأراد أن يخلص البشرية من رذائلها فلم يفلح ولم يصنع شيئاً، وأصبحت أمته اليوم شر أمم العالم وأشدها في الظلم والقسوة.. ثم كان عاقبة أمره الصلب.

كل ذلك والبشرية يتفاقم شرها، ويتعاظم بلاؤها.. إلى أن نفخت العناية بجوهرتها المكنونة، ولطيفتها المخزونة..أرسل إليهم الحكيم الأعلى والطبيب الألهي الذي ما فوقه طبيب، أرسل إليهم سيد الرسل محمد بن عبد الله ( صلى الله عليه وآله وسلم)، فشخّص داءها ودواءها، وعرف العلاج الشافي لها، والدواء الناجع القالع لجرثومة أمراضها.

عرف إن الداء العضال والمرض القتّال إنما هو التفرقة الناشئة من توغل الأنانيات والعصبيات الباعثة على التفاخر ثم التنافر فالتقاطع والتدابر..فدك العنصريات، وسحق القوميات، واستهلك العصبيات، فصرخ الوحي على لسانه [يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ]، [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا]. ثم زاد وأوضح البيان فقال:

 

(الناس كلهم لآدم وآدم من تراب. لا فضل لعربي على عجمي إلاَّ بالتقوى)، (ليس منّا من دعا إلى عصبية)، يعني لا فخر بعجمية ولا عربية ولا هندية ولا تركية، وإنما الفخر بالعمل الصالح والمزايا الطيبة، الفخر بالفضيلة واجتناب الرذيلة.

نعم! العصبية والأنانية هي كل الداء، والاعتماد على الفضيلة هو منتهى الدواء..عين الدواء بعد ان شخّص الداء، ولم يبقَ إلاَّ الاستعمال، ولذا كانت شريعته خاتمة الشرائع ودينه أكمل الأديان.

كان ينادي في كل ملأ ومجتمع (أما والذي نفس محمد بيده إنكم لن تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولن تؤمنوا حتى تجتمعوا، ولن تجتمعوا حتى تتحابوا).

ثم مضى على ذلك صحبه الكرام، فساروا على خططه ومنهاجه واحداً بعد واحد، فكانوا أخواناً على صفاء..حتى خاضوا البحار وملكوا الأقطار، وهم أعراب بادية، لا درس ولا مدرسة، ولا كتاب ولا مكتبة..فتقدموا ذلك التقدم الباهر، ونجحوا ذلك النجاح الزاهر.. كل ذلك بقوة الإيمان، وعدة الوحدة والاتفاق، ونبذ التفاخر والاختلاف، حتى أخذوا بقرني الشمس مشرقها ومغربها.

قال أمير المؤمنين (عليه السلام) في النهج في أحدى خطبه: (ألزموا السواد الأعظم، فأن يد الله مع الجماعة. وأياكم والفرقة! فإن الشاذ من الناس للشيطان، كما إن الشاذ من الغنم للذئب، إلاَّ ومن دعا إلى هذا الشعار فأقتلوه ولو كان تحت عمامتي هذه) ويعني بـ(هذا الشعار) شعار التفرقة.

كلّت الألسن، وعجزت الأقلام، وتعبت الصحف من الدعوة إلى الوحدة والتوحيد وبيان إن الداء الدوي الذي أنهك الإسلام وأهلك المسلمين هو التفرق والتباغض، حتى صارت الذئاب تفترسهم والأذناب تتريسهم.

فكم قام من حكيم عرف الداء ودعا إلى استعمال الدواء، ولكن لم ينفع، وبقى الحال على ما هي عليه من سيء إلى أسوء، ومن تعيس إلى أتعس.

كلّت ألسنتنا، وملّت وتصدّعت أقلامنا، وصرنا نخشى أن نتكلم في سبيل الوحدة أو ندافع عن التفرقة، وأصبح حديث الوحدة والإتفاق مهزلة من المهازل!.

الصهيونية

قلنا قبل هذا: إن الإسلام قد بني على دعامتين: (توحيد الكلمة) و(كلمة التوحيد)..توحيد الخالق، وتوحيد بين الخلائق.

كم قلنا وكم نبهنا وكم صرّح الحكماء والمصلحون قبلنا، ولكن هل أثر ذلك شيئاً؟ كلا! لا والله حتى صرنا اليوم نخجل أن نتكلم في اتحاد أو جمع كلمة، وحتى عرف رجال الغرب إن المسلمين أتفقوا على أن لا يتفقوا، وأبوا إلاَّ أن يتفرقوا! وأصبحت الأذناب تعلو على الرؤوس، حتى آل الأمر إلى أسوأ الأحوال، وصارت الصهيونية التي هي طريدة العالم ونفاة الأمم يتكلمون في بلادنا، ويبثون الدعاية الواسعة بين أظهرنا، ونحن مشغول بعضنا ببعض، والبلاء محيط بنا من جميع جوانبنا.

إن الصهيونية من أخطر البوائق وأعظم البلاء..جمعية أقوام متفرقة أعداء الإسلام في بلاد المسلمين، يجمعون أموال المسلمين ويملكون أراضيهم والمسلمون مشغولون عنهم.

ليست الصهيونية بلاء على فلسطين وحدها، بل هي بلاء على العالم أجمع..يجمعون الأموال بكل حيلة ووسيلة، ويرسلونها إلى أخوانهم في فلسطين لينشئوا فيه وطناً قومياً.

الصهيونيون يرون إن الأموال التي في أيدي الناس مغتصبة منهم، وإن المال كله في الأرض لإسرائيل وبني اسرائيل، بل الأرض كلها لهم، فيجب أن ينتزعوها من أيدي الناس بكل مكر وخديعة.

أين حميتكم أيها المسلمون وأين غيرتكم؟ أين جمعياتكم وأين جهودكم؟…خمسة عشر مليون كل ما في العالم تلاعبوا بالدول وألهبوا نار الحرب والفتن بين عامة الأمم مسلمة ونصرانية.

المسلمون أربعمائة مليون تغلبت عليهم تلك الفئة الضئيلة، حتى أخذوا أزمة الأمور، وقبضوا روح السياسة، وأستولوا على دفة الحكم...فما من دائرة من الدوائر في العراق، بل وفي غيره من الممالك الإسلامية، إلاَّ وتجد لليهود فيها يداً عاملة تنفذ السموم القاتلة، إذ جميع اليهود على الأغلب صهيونيون، ولا أحسب يهودياً غير صهيوني.

لقد تخدّرت أعصابنا، وماتت هممنا، وخمدت عزائمنا، فأصبحنا أُسراء في ديارنا وأذلاّء في أوطاننا، ولا نعلم ماذا يراد بنا وكيف يكون مصيرنا.

الله أكبر! ما أعضل هذا الداء !... كيف لا ينفطر قلب المسلم الغيور إذا بلغه إن نساء المسلمين، من الضعفاء والمساكين في بلادكم هذه، وهي من عواصم بلاد الإسلام، يستخدمن عند اليهود والأجانب وأنتم ساكتون، تنظرون ولا تفكرون، وتبصرون ولا تبتصرون..أليست نساء أخوانكم وأعراضهم أعراضكم؟! أفلا تهيج غيرتكم وتثور حميتكم؟!.

أيها الناس !

أنا نذير الله إليكم! الله الله في بلادكم! الله الله في دينكم!.. دين الله وديعة عندكم وقد أصبح مهدداً، فإن لم تتفقوا وتتحدوا فسينزعه الله منكم فتنزع عنكم كل خير وبركة! وإذا بقيتم على هذا الحال من الفرقة والتقاطع فستذهب ريحكم ويتمزق شملكم وتكونون أذل من قوم سبأ!.

هنالك لو تدعو كليباً وجدتها
 

أذل من القردان تحت المناسم
 

 

أيها الناس !

قلنا ولا نزال نقول: إن الإتفاق والإتحاد ليس من مقولة الأقوال ولا من عالم الوهم والخيال، ويستحيل أن توجد حقيقة الإتفاق والوحدة في أمة ما لم يقع التناصف والعدل بينها بإعطاء كل ذي حق حقه، والمساواة في الأعمال والمنافع، وعدم أستئثار فريق على آخر.

ولكن أين ذلك وأنى؟

كاد أن يغلب على القنوط واليأس منكم…ذهبت إلى ايران وكنت يائساً على حسب الشائع والمسموع. ولكني ــ بحمد الله ــ وجدت كل ما يرتاح إليه طالب الصلاح والإصلاح، ونجحت نجاحاً باهراً..ولكن في بلادي أخفقت على رغم كل جهودي، ويا للأسف!.

الله الله في أوطانكم!.. الصهيونية بين أضلاعكم، وهي سوس السياسة، والبلاء المبرم، والداء العضال..وانتم هامدون خامدون، لا تحسون بهذا البلاء العظيم الذي ينذركم بالتلف.

أيها الناس !

إن البلاء لعظيم، لا يبقي منكم باقية، ولا يذر في الدار دياراً. كل عام، بل كل شهر، تشد قناطير الأموال من العراق وتذهب إلى جمعية صهيون، فهل أولياء الحكم في العراق يعلمون؟..

نعم! يعلمون ولكن هل يعملون لدفع هذا الخطر؟ أم نحن ازاء اليهود صمٌ بكمٌ فهو لا يفقهون؟!.

(إن اللبيب من الإشارة يفهمُ).

الصهيونيون طرداء العالم ونفاة الأمم..يوماً تطردهم (ألمانيا) ويوماً (فرنسا) وآخر (أسبانيا) و(النمسا)..وهكذا كل برهة وكل مملكة. لا تستطيع حكومة من حكومات أوربا ذات الحول والطول أن تحملهم.

دولة ألمانيا القهارة ذات الصناعات الباهرة وملكة الجو لم تقدر ــ يا أمة الإسلام ــ على تحملهم حتى أخرجتهم من بلادها، ولكن زجهم القضاء الأسود إلى فلسطين فأوشكوا أن يبتلعوها، ثم يسري البلاء إلى سوريا ثم إلى العراق.

هم لا يزالون يدأبون في السعي، مخططين الخطط ومشكلين المناهج..ونحن غرقى في المنام، نتضارب في الأحلام، ويقاتل بعضنا بعضاً على الأوهام.

أين العزائم؟ أين الهمم؟ أين الرجال؟…

يا أيها المسلمون‍ كونوا رجالاً.. والله ــ ويا للأسف! ــ لسنا برجال، بل ولا أناثى ولا مخنثين!.. أهذا شأن الرجال؟.. أين أصلاحكم؟ أين جمعياتكم؟ أين معارفكم؟.. القوم في جد وأجتهاد وأنتم مشغولون بالزخارف والسفاسف التي لا تنفع ولا تجدي، والتي لا يبلغ الإنسان بها إلى مجد ولا رفعة. أنتم مشغولون بالمقاهي والملاهي والسينمات والأشياء التوافه الساقطة..أتقوا الله أيها الناس (إن لم يكن لكم دين

 

وكنتم لا تخافون المعاد فكونوا أحراراً في أوطانكم) كلمة عظيمة قالها ذلك الرجل العظيم أول الإسلام.

أيها الناس!

أول مجدد شرف في الإنسان الغيرة، ومن لا غيرة له لا حس له ومن لا حسَّ له ليس بإنسان.

أيها الناس!

أتركوا هذه الأعمال المضرة بأخلاقكم ونفوسكم وأموالكم. الخطر قد أحاط بكم من كل جانب. أتركوا هذه السفاسف المضرة في دينكم ودنياكم.

أن هؤلاء الذين جاؤوكم بالسينما والخمر والميسر اللذين حرمهما الله في نصَّ كتابه، لا يريدون نفعكم، وإنما جاءوا بها ليفسدوا أخلاقكم ويستلبوا أموالكم ويوقعوا بينكم العداوة والبغضاء [ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ]، [إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]. لكن نحن قد عكسنا الآية! الله سبحانه يقول: [فَاجْتَنِبُوهُ] ونحن نقول: (فأرتكبوه)!.

أيها الناس!

أشربوا.. ألعبوا.. أكثروا التردد إلى السينما والملاهي...الله أكبر! أين العقول؟ أين الحجى؟ أين الأحلام؟..ما طبّكم؟ ما دواؤكم؟..القوم رجال أمثالكم..أنتم رجال وهم رجال، فما بالكم تأخرتم وتقدموا، وجهلتم وتعلموا؟…كيف تريدون الاعتزاز كالأمم؟ أنظروا إلى جامعتهم وعصبيتهم وتآلفهم. اعتبروا بأذل الأمم (اليهود)..يهودي في الصين وآخر في العراق.. الروح واحدة والقلوب متفقة والآراء سواء. إذا أصيب أحدهم بمكروه في العراق تألم الآخر له في الصين، وإذا ضرب يهودي في ألمانيا صاحَ كل يهودي في العالم (آخ!) وصرخوا صرخة واحدة، وهذه الصفة هي من أساسيات قواعد الإسلام حيث يقول: (المؤمن من المؤمن كالعضو من الجسد، إذا تألم عضو تألم له سائر الجسد)، (المسلمون كالبنيان المرصوص يشد يعضه بعضاً). ولكنا ــ ويا للحسرة والأسف! ــ بناء مفكك يهدم بعضه بعضاً!.

فكأن تلك الوصايا التي أوصانا بها الله ورسوله قد أوصى بها اليهود وأوصانا بخلافها!!.

مغزى الوحدة

بعد تلك المقالات والخطب الرنانة التي ألقيتها في بغداد في (الحسينية) في أحدى ليالي شهر رمضان زهاء أربع ساعات في جمع لا يقل عن خمسة آلاف..فماذا كانت النتيجة؟.

كانت النتيجة (كتاب الحصان)…فأنظروا ما أحسنها من نتيجة، وأنظروا كيف تؤثر الخطب والنصائح في بلادنا وأمتنا… والله يسترد بلطفه من مغبة اجتماعنا هذا وأمثاله…

أيها الأخوان!

لا نجاح ولا فلاح ما دامت أمورنا تمشي على المجاملات دون المصارحة والحقيقة.

أيها الناس!

قد تعودنا على النفاق والمداهنة والمكر والخديعة..يخدع بعضنا بعضاً ونسميها (مجاملة)..كلنا كذابون، كلنا منافقون كل أمورنا مبنية على النفاق. لا نصارح بالحقيقة ولا نعطي الحقيقة حقاً...أنا أحدكم وعلى غراركم.

لساني يقول ولا أفعل، وقلبي يريد ولا أعمل، وأعرف رشدي ولا أهتدي، وأعلم لكني أجهل...نحن مملوؤن نفاقاً وخداعاً، وتحت كل شعرة منا شيطان!.. نحن جميعاً نتبع الهوى ونعبده [أَفَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ].

قال أمير المؤمنين (عليه السلام): (أيها المسلمون! إنما أنتم أخوان على دين الله، ما فرق بينكم إلاَّ سوء السرائر وخبث الضمائر، فلا توازرون ولا تناصحون ولا تباذلون ولا توادون). وكان سيد الرسل ( صلى الله عليه وآله وسلم)لا يزال ينادي في أصحابه: (أيها المسلمون! لا تتباغضوا، فإنها والله الحالقة..لا أقول حالقة الشعر ولكنها حالقة الدين والدنيا).

 

أيها المسلمون!

على ممَ هذا التضارب والتباغض؟…كل واحد منّا يقول للآخر (أنا أخوك) و(نحن أخوان ومتحدان) ولكنه يريد أن يخدعه بذلك، ولو كان أخوه حقاً لأنصفه على الأقل إذا لم يواسه ويؤثره على نفسه.

أيها الناس!

لا تتقدم الأمة مادام أحد أفرادها يسلب حق الآخر، وإنما تتقدم الأمم بالعدل والتناصف وإعطاء كل ذي حق حقه.

الأخوان المشتركون في دار واحدة إذا أختص أحدهم بالغرف والعلالي وترك الآخرين تحت السماء يلفحهم حر الهجير وبرد الزمهرير، ويقول لكل منهم أصبر واحتسب فأنا أخوك...يستحيل أن يقنع بذلك القول وان يدوم السفاء بينهما ويتحدا حقيقة.

أعطه حقه وناصفه تكن أخاه، وإلاَّ فليس إلى الراحة بينهما من سبيل، ولسنا بالغين المرتبة التي أدبنا الله بها وحثنا عليها، فقال ــ جلَّ شأنه ــ [وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ].

حارت العقول، وضلّت الألباب، وتاهت الأفكار في طب المسألة وعلاجها..فكم من حكيم ذهبت عصارة أفكاره أدراج الرياح، وراحت نفسه عليهم حسرات.

غلب الشر منذ كان على الخلق
 

وماتت بغيظه الحكماء
 

وإذا ما العقول لم تقبل النصح
 

فماذا تفيده النصحاء؟
 

 

وجوب ترك الخمر والميسر

غاصت الأمم في البحار، وطارت في السماء، وقبضت على مفاتيح خزائن الأرض، وبلغت أقصى مراتب الرقي والعمران، وأخذت زينة الحياة الدنيا بحذافيرها...وبقينا مذبذبين حيارى لا دنيا ولا آخرة!..ذهب العز والمال، وذهب الشرف والإستقلال وذهب كل شيء.

أيها المسلمون!

أعلموا ــ وأنتم تعلمون ــ إن الأمر أصبح محسوساً وملموساً..

أضرب بطرفك ــ أيها المسلم ــ حيث شئت من الأرض، شرقها وغربها، هل تجد مملكة إسلامية أو قطراً من أقطار المسلمين لا يعاني بلاء الإستعمار ولا يرزح تحت نير الاستعباد ولم يعد أسيراً في بلاده أو ذليلاً في عقر داره وغريباً في وطنه…أنظر في الغرب: تونس، ومراكش، والجزائر…وفي الشرق: مصر، وسوريا، والعراق، والجزيرة، كلها في البلاء سواء، وإن أختلفت أنواع البلاء وأشكال المحن.

أليس كل ذلك من تقاطعنا وتفرقنا؟ أليس كل ذلك من تركنا لأحكام ديننا ونواميس شريعتنا؟.

ألستم تعرفون الخمر ومضارها وفظاعة تحريمها في شريعة الإسلام، ومع ذلك تذهبون وتشربون جهاراً ومحاربة لله ورسوله؟! أليست أصبحت تباع في أسواق المسلمين جهاراً وعلانية محاربة ومخالفة للقرآن؟.

أليس الربا والقمار أصبح شائعاً عند المسلمين بغير نكير؟ وإذا أردنا أن نتخرج نخرجه مخرج البيع ونلبس الباطل صورة الحق، [يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ]، [وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ].

أيها المسلمون..إن اتفقنا وأصلحنا أنفسنا وأخذنا بأحكام ديننا، عادت السعادة إلينا، وزال كابوس الاستعباد عنّا.. وإلاَّ..فأعلموا أنا وأنتم سنهلك ما بقينا في شقاق، وسنتدهور في هوة الدمار والبوار وخراب الديار.

تربية النشء

أيها الناس!

أولادكم ودائع الله عندكم...الأولاد والشبان اليوم رجال الغد، هم للبلاد والبلاد لهم، فهل تحفظونهم؟ أم تفسدون أخلاقهم كما فسدتم أنتم؟!..الصغير ينشأ على أخلاق الكبير فإن رآه يشرب الخمر فهو لا محالة يشربها. أتريدون منه الصدق وأنتم تكذبون؟ أو تلتمسون منه العفة وأنتم تفسقون؟!.

أيها الناس!

 

لا تستطيعون تربية أولادكم إلاَّ بتربية أنفسكم، وما أحسن ما قال بعض العارفين: الوعظ الذي لا يعادله نفع ولا يمجه سمع، ما نطق به لسان الفعل وخرس عنه لسان القول.

عظوهم بأفعالكم قبل أقوالكم. تأدبوا ــ أيها الناس ــ بآداب الله وكتاب وبسنة نبيه، فوالله ما ترك من خير إلاَّ وأرشدكم إليه ودلكم عليه! ولكنكم ضيعتموه فضعتم، وخذلتموه فخذلكم.

أيها الناس!

أتحدوا اتحاداً صحيحاً صريحاً. قتلتنا المجاملات، وأهلكنا عدم المصارحة..كن صريحاً تكن مريحاً.

أيها الناس!

ربما أكون قد أطلت، والإطالة توجب الملالة، والملالة تجر إلى الألم..وبعض الذي قلناه كافٍ لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد. أما من لم يكن له قلب ولا حس، فلا يجدي فيه القول والتقريع مهما طال وكثر.

وفي الختام: نسأله ــ تعالى ــ أن يصلح شأنكم. فإن صلحتم صلحتم لأنفسكم، وإن فسدتم فالفساد عليكم..ولكنا نتألم لكم، ونريد لكم كل خير وصلاح، وتقدم ونجاح. والله ولي ذلك كله، والسلام عليكم.

الخطبة الثانية

الخطبة التي ألقاها سماحته في (جامع المنارتين) بالبصرة في 10 ذي القعدة 1352 هجرية.

ققق

قال ــ سبحانه ــ في كتابه المجيد وفرقانه الحميد: [وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ].

هذا نص القرآن المجيد وآية منه، وما أعظمها. يقول تعالى: [لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ].

أيها الأخوان الكرام!

تعلمون ــ وحقاً تعلمون ــ إن البلاد، منذ بدء الخليقة، مازالت تسعد وتشقى، وتسفل وترقى، وتجمع باطلاً وحقا..وليست سعادة البلاد بطيب هوائها، وعذوبة مائها، وبهجة خضرائها ونضرائها، بل سعادة البلاد الحقيقية هي كرم أخلاق أبنائها، ومعارف سكانها، بعوارفهم ومعارفهم، بعلومهم وآدابهم.

سعادة البلاد بأبناء البلاد، وسعادة الأبناء بالعلم والسداد، وينابيع الثروة والاقتصاد، وكل ما يجلب العز والسعادة، ويوجب المنعة والاستقلال، وللبلاد في أبان تأسيسها، ومبادئ وضعها وتكوينها، مناسبات ومقتضيات، تعين على سعادة أبنائهم وارتقائهم إلى أوج المجد.

الكوفة والبصرة

لما بزغت شمس الإسلام، وانجلى النور المحمدي فمزق ظلمات الجاهلية، ما انفرط العقد الثاني في التاريخ حتى تكون مصران عظيمان من أمهات المدن الاسلامية، ولم يكن لهما نظير في تلك العصور: أما الأول فهو (الكوفة) تأسست سنة 16 من الهجرة، مصرها وأختطها سعد بن أبي وقاص الصحابي الكبير والفاتح الشهير، والمصر الثاني (البصرة) أسسها قرب ذلك التاريخ عتبة أبن غزوان. وكلا المصرين تأسسا بأمر الخليفة الثاني (رضي الله عنه) وما مضى عليهما خمس أو ست سنوات حتى أتسعت منهما الدائرة وأزدهرتا بنوادي العلم والأدب وأزدحمت عليهما الوفود لأرتشاف العلم والمعارف من منهلهما العذب، وبالأخص البصرة، فإنها بعد بضع سنوات أصبحت مطمح أنظار رجال العالم، وإليها الهجرة وشد الرحال من كل حدب وصوب. وكان يقال لها (قبة الإسلام) و(خزانة العرب)، و(كنانة الأدب). وغبَّ وقوع الحادثة التاريخية الشهيرة (وقعة الجمل) دارت أدوارها، وطابت معايشها، وتوفرت أسباب الراحة والعمران فيها، وأصبحت معهداً علمياً اسلامياً. وفيها نشأ (المربد) وهو أول

 

معهد اسلامي ومدرسة كبرى، وقد تخرج منه فطاحلي علماء العربية ومؤسسو العلوم الإسلامية.

هذه هي البصرة ــ أيها الأخوان ــ وهذا مربدها المشهور.

من تحت هذه السماء، ومن جذور هذه التربة، ومن سائل هذا الأثير الجوي نشأ أبو الأسود الدءلي مؤسس (علم النحو)، والخليل بن أحمد مؤسس (علم العروض) وصاحب (كتاب العين)، ومسلم بن معاذ مؤسس (علم الصرف) و(البيان) و(المنطق) ــ أعني المنطق العربي لا اليوناني ــ …هؤلاء الفطاحل الثلاثة هم مؤسسو علوم الإسلام ــ العلوم التي يتوقف عليها فهم الكتاب والسنة، ويستقى من ينابيعها نطف الأدب ــ وإليهم كانت تشد الرحال، ومن حوزة دروسهم تتخرج الرجال.

من هذه التربة والماء، وتحت قبة هذه السماء، نبعت تلك العلوم، وتبرزت اولئك الاساطين، وتخرج عليهم الأعلام المشاهير، كسيبويه، والكسائي، والاصمعي، والفراء، وخلف الأحمر، وكثير من أمثالهم..كما إن منها نشأت طرائق الزهد والتصوف والسلوك، وكان أول من أظهرها أو تظاهر فيها في القرن الأول من قرون الإسلام (الحسن البصري) و(فرقد السنجي) وأضرابهم، بل ومن ههنا نبغت أول طائفة بحثت في العقائد، وخاضت في المادة، ونظرت في الطبيعة وما بعد الطبيعة وخواص الواجب والممكن، وهي طائفة المعتزلة، وفي طليعتهم (واصل بن عطاء) و(أبو هاشم الجبائي) وأخوانهم، وهم من أهل هذه البقعة أيضاً.

فأنت ترى إن من هذه الأجواء والأرجاء قد انبعثت أشعة جلّ العلوم الإسلامية إلى سائر الآفاق.

ثم تعاقبت عليها الخطوب، وتداولتها المحن كسائر بلاد الله، ولكنها ــ بحمد الله ــ ما خلت في وقت من الأوقات من العلماء والصالحين، الذين يرشدون إلى سواء السبيل، ويكونون للحق خير دليل. ولا غرو أن تمتاز هذه البلاد بتلك المزايا والمآثر، لما خصها الله به من المزايا الطبيعية والموقع الجغرافي الذي لم يتسن لغيرها من البلاد.

وصايا وعظات

يا أهل البصرة!

هذان الرافدان يأتيان إليكم من أقاصي جبال أرمينيا..يحييانكم ويعطيانكم درساً يرمزان فيه إلى أمر مهم تعود فائدته إليكم..فهل علمتموه، أم هل أطلعتم على كنهه وسره؟.

يشيران إليكم بفائدة الاجتماع، وضرورة الاتفاق، وبركة الانضمام والوحدة..يقولان لكم: ما آتيناكم إلاَّ بعد أن امتزجنا وأتحدنا بحيث لا يمتاز كل واحد منّا عن أخيه!.

خرجنا من منابعنا مختلفين متباعدين، وقبل أن نتصل ببلادكم ونأتي إليكم أتحدنا وأقترنا...ألا هكذا فأتفقوا وأتحدوا.

وهذه أحدى الميزات التي خصَّ الله بها بلادكم دون سائر البلاد...هذا البحر إلى جنبكم، وهذا البر الفسيح مفتوح أمامكم..البحر يعلمكم اللين والمرونة، يعطيكم الصفاء والملاحة، والبر يحملكم على الرزانة والقوة، وسعة الصدر والثبات.

يقول (الخليل) من أبيات في وصف البصرة:

بر وبحر أحاطا من جوانبها
 

فالضب والنون والملاح والحادي
 

 

(الحادي) لسفن الصحراء، و(الملاح) لسفن الماء.

تسورت بلدتكم هذه بأسوار طبيعية ــ النهر العظيم وشط العرب والبحر الزاخر والنخيل المشتبك ــ فهل تجدون بلداً في العراق أو غيره تفوقها أو تساويها؟ أفلا يحق ويجب عليكم أن تصونوها وتحصنوها بالأخلاق الفاضلة والعلوم العالية، والاتفاق الصحيح والوحدة الحقة، لا وحدة الخداع والمكر؟.

أتعرفون ما هي الوحدة الحقة؟… يقول العباس بن الأحنف أو غيره!.

أقول لورقاوين في فرع نخلة
 

وقد طفل الامساء أو جنح العصر
 

وقد بسطت هاتي لتلك جناحها
 

ومد إلى هاتيك من هذه النحر
 

ليهنكما إن لم تراعا بفرقة
 

ولم يسع في تشتيت شملكما الدهر
 

 

أتعلمون أيها الكرام ما يقول هذا الشاعر وما الذي يوعز إليه؟

أتعرفون ما المراد بالحمامتين والورقاوين التي تبسط أحداهما جناحها للأخرى رحمة ورأفة، ووئاماً وأتحاداً على فرع نخلة؟.

هما طائفتان من المسلمين، تجمعهم لغة واحدة، وكتاب واحد، وقبلة واحدة، وأهل وطن واحد، وهم في الحسب والنسب والآباء سواء…أفلا يجب أن يكونوا كذينك الحمامتين المتآخيتين؟!.

منح الله البصرة مزايا جليلة وخواص كريمة، أمتازت بها على سائر المدن..فهل تحفظون هذه الكرامة وتشكرون هذه النعمة وتتحدون وتتفقون حقاً كما أوصى الله في كتابه الكريم؟؟.

نحن قلنا حتى مللنا، وأسمعنا حتى سأمنا…أسمعنا الدعوة إلى الوحدة والاتفاق، وقلنا للمسلمين: إن الذي يقتلكم، ويفرق جمعكم، ويخمد جذوة عزائكم، ويجعلكم ــ بل جعلكم ــ أذلاء صاغرين للأجانب، هو هذا الخلاف والشقاق الذي تغلغل وتوغل فيكم…أهبنا بالمسلمين، ودعوناهم إلى ما دعاهم إلى الله ورسوله.. ولكن هل وجدنا أثراً، أو أصبنا للأمة نفعاً أو دفعنا ضرراً؟..كلا!.

[أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ]، [لقد أسمعت لو ناديت..]، [وَلَوْ علِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا..].

منح الله ــ سبحانه ــ البشر عقولاً بها أمتازت عن البهائم ليميزوا بها الحسن من القبيح، والخير من الشر، والنافع من الضار..فيا ترى هل بقى شك أو شبهة لأحد في ضرورة الاتحاد والاتفاق؟..وإن العدو ما كادهم في بلادهم إلاَّ بما يدسه فيما بينهم من سموم النفاق، حتى استفحلت بليته، وأمكنت فريسته، على أوهام فارغة، وأمور فاشلة، لا حقيقة لها ولا وجود ولا أثر ولا عين.

خلق الله ــ سبحانه ــ الكائنات من عناصر وأوليات، ولكن كل عنصر من عناصر تلك الاوليات لا تترتب عليه بإنفراده فائدة ولا تظهر له في نفسه منفعة..حتى ينظم إلى أمثاله، ويتحد مع أحزابه، ويكون ــ بعد الانضمام والتركيب ــ شيئاً واحداً له آثاره الخاصة وفوائده المعينة، أما مع الانحلال والتفكيك، فلا فائدة فيها ولا كيان لها.

هذه الكائنات بأجمعها، من أرض وسماء، وإنسان وحيوان، ونبات وجماد..كانت أجزاء متفرقة وعناصر متباينة، ثم جمع الله جزءاً إلى جزء، وضمَّ بعضها إلى بعض، على نسب مخصوص ومقادير معينة، حتى حصلت لكل كائن وحدة بها ظهرت فوائده وبرزت في الوجود آثاره، وحال الكل حال الابعاض، وحال الأمم حال الأفراد، فكما إن الفرد عدة أجزاء متباينة، من دم ولحم وعظم وأعصاب، قد أنضم بعضها إلى بعض حتى حصلت لها وحدة تجمعها من الروح الانساني أو الحيواني، فصار شخصاً ماثلاً، وكائناً كاملاً، يضر وينفع، ويعطي ويمنع، وله آثاره وخواصه..فكذلك الأمة إذا أنضم بعض أفرادها إلى بعض، وحصلت فيها روح واحدة تجمعها، وتجعلها تحس بحس واحد، وتتحرك وتسكن بشعور واحد...هناك تكون أمة حية تحفظ كيانها، وتشيد بين الأمم أركانها، وتصون عزّها من الذل والاستعباد، وتصلح ما يطرأ عليها من الخلل والفساد.

واعلموا ــ أيها المسلمون ــ أننا لو ملأنا آفاق السماء وفجاج الأرض عجيجاً وضجيجاً ودعوة إلى الوحدة، بإقامة البراهين الدامغة والحجج البالغة..لم يجد ذلك شيئاً ما لم تتحقق فيكم تلك الروح الواحدة، وذلك الحس والشعور الذي يدفعكم إلى تناصف بعضكم لبعض، وعدم استئثار بعض على بعض. وتلك الوحدة المنشودة التي تتكون بها الأمم وتستدر بها السعادة والنعم ليست هي لفظاً وقولاً وخداعاً ومكراً، ولا تثمر تلك الثمرات ولا تترتب تلك الغايات إلاَّ على الأعمال الجدية، وخلوص النية، والولاء الصريح، والإخاء الصحيح، و(أن يحب الإنسان لأخيه ما يحب لنفسه). وقد كانت هذه الكلمة البارعة والوصية الجامعة، من أهم وصايا رسول الله لأمته التي لا يزال يقرع بها أسماعهم ويكررها عليهم، ولكننا قد أضعناها وحفظها الأجانب. أخذوها منّا وتغلبوا بها علينا، ونحن أحق بها وأولى…

فرض لازم وحتم واجب على كل مسلم أن لا يسأل إنساناً إلاَّ عن الشهادتين وجامعة (لا إله إلاَّ الله محمد رسول الله)، فإن وجدها لا يسأل عن شيء بعدها.

 

وكان المسلمون، أيام الفتوح والتوغل في البحار والأمصار، إذا سئل أحدهم عن نسبه وقبيلته، قيل له: من أبوك؟ يقول:

أبي الإسلام لا أب لي سواه
 

إذا افتخروا بقيس أو تميم
 

 

أعوزنا وأضربنا عدم الثقة بالله، وإنا لا نعتقد اعتقاد اليقين بجزاء ولا حساب ولا كتاب، وأن مصيرنا إلى الله، وإن الأمور كلها بيده وفي مشيئته، وقد جعلها منوطة بأسبابها.

أمم الغرب ــ على الغالب أيضاً ــ ليس لها ذلك الأعتقاد الراسخ، ولكن كبرت نفوسهم، وتعاظمت همتهم، فأنبعثوا إلى الأعمال الجدية لنيل العز والشرف..وبذلك تغلبوا علينا. ونحن ــ مضافاً إلى لزوم طلب تلك المعالي والعز الذي كان لآبائنا ــ نعتقد بالجزاء ودينونة الحق في دار القرار..وكلها دواع وبواعث يجب أن تدفعنا إلى لمِّ شعثنا، وتهذيب أخلاقنا، وأسترداد تراث سلفنا.

أمر هائل، وخطب فظيع، تحار منه العقول، وتطيش له الألباب..الحال الذي صرنا إليها لو حللناها تحليلاً كيمياوياً، ونظرنا كيف كنّا وكيف أصبحنا، وإلى أي حد من الشقاء بلغنا، وكيف أتفقنا على أن نعين عدونا، ونخرب بيوتنا بأيدينا..إذاً لأنشقت المرائر، وتفطرّت القلوب. والخطب الأفظع: إن الخطب والمقالات، والنوادي والاجتماعات، تذهب هواء في شبك، ولا تؤثر شيئاً من الأثر المطلوب.

يا أهل البصرة!

كنت أخبرتكم: إن العلوم الإسلامية انبثقت من بصرتكم هذه، وفيها تشكل (المربد) الذي كان كأول معهد علمي إسلامي، ومنها تخرج الأعلام، وعظماء الإسلام...أفلا تنهض بكم الغيرة والحمية ثانياً فتستعيدوا ذلك المجد الباذخ؟! أفلا تثور فيكم النخوة فتتقدموا أمام المسلمين بنهضة شريفة، فتجمعوا كلمتكم، ولا تدعوا مجالاً لتأثير الفوارق المذهبية في صدع وحدتكم؟!.

أفلا تنهضوا نهضة آبائكم الكرام، وتنبذوا الحرص على حطام هذه الدنيا الدنية، ولا تحتذوا ما تخيله لكم الأوهام الشيطانية؟!.

[الشَّيْطَانُ يعِدُكُمْ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ].

العلم والعمل

لا تنهض الأمة وتطير في أجواء المعالي إلاَّ بجناحي العلم والعمل، والعمل موكول إلى العلماء، وهم القادة والسادة، والتعليم فرض محتم عليهم، وما أخذ الله على الجهال أن يتعلموا حتى أخذ على أهل العلم أن يعلموا.

دعائم السعادة في الأمم ثلاث: تعليم العلماء، وعمل الأمة، وعدل الحكومة...فإذا قام كل واحد من هؤلاء بواجبه عمرت البلاد وسعدت العباد.

العلماء إذا قاموا بوظائفهم، وعلموا غيرهم، ورشدوا ونصحوا وأخلصوا لله في أعمالهم [طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مآبٍ]، فقد كتبوا في ديوان الله من الأمناء والسعداء الآمنين. وإن لم يعملوا أو لم يعلموا فتعساً لهم! وقد كتبوا في ديوان الله من الأشقياء الخائنين، فإن العلم وديعة الله عند العلماء للتعليم والعمل، لا للاستطالة والكبرياء، والجدل والمراء، والعجب والرياء.

والأمة إذا تعلمت وعملت وقبلت نصائح العلماء وإرشادهم، فقد أحرزت حظّها من السعادة، وانقادت لها أزمة الخير.

والحكومة إذا قامت بواجبها نحو الأمة، وأخلصت للمصلحة ونصحت للرعية، وعلمت حق العلم إن الحكومة أجراء للشعب، تأكل من كد يمينه وعرق جبينه، فالواجب عليها أن تخدم الشعب بأخلاص، ولا تتطاول عليه ولا تجحف به، ولا تزاحمه حتى في بلغة معاشه ولقمة قوته، وأن تقيم فيه موازين العدل والقسط، والواجب أن تخلص الدولة في خدمة الرعية، وتنقاد الرعية للدولة، وتخضع لقوانينها العادلة، وتنعقد ما بينهم عرى الصفاء والمجد، حتى يكونوا يداً واحدة وقلباً واحداً…هنالك ترقى البلاد، وتسعد العباد، ويعيش كل فرد من المجتمع عيشاً اجتماعياً هنياً..لا كالحال الذي نحن فيه منذ اليوم، حيث أصبح كل فرد منّا يعيش عيشاً فردياً. والإنسان مدني بالطبع، ويستحيل أن يعيش إنسان بأنفراده، فإذا أنفرد عن المجتمع وانقطع، فليس هو بإنسان، بل وحش من الوحوش!.

نعم! نحن في صورة الظاهر مجتمعون، ولكن ما أشد التباين ما بين الإنسان وأخيه، وبين المرء وقريبه، وبين الشخص وجاره..وهكذا لا تجد شخصين متفقين على جامعة صحيحة ورأي واحد. فنحن حقيقة كما قال ــ جلَّ شأنه ــ : [تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى]. ولا تسعد أمة مادامت بهذا الحال أبداً.

التشتت، وأختلاف الآراء والأهواء، وفقدان الزعيم والقائد المخلص الذي يجمع الأمة وتجتمع إليه.. هو السبب الوحيد في هلاك الأمة.

إذا ما أراد الله هلاك أمة
 

رماها بتشتيت الهوى والتخاذل
 

 

ما وجدنا أمة صعدت إلى أوج المجد فسعدت وهي متفرقة متخاذلة. ما كان ذلك أبداً ولا يكون. كما أنه لا يستقيم أمر أمة بغير زعيم قائد يقودها إلى مناهج الهدى وسبل الخير. والأمم إما أن يكوّنها الزعيم، أو تكوّن الزعيم لها. والضرورة لها على كل حال. ومن حكم العرب ومحاسنها القديمة العالية قول الأفوه:

لا تصلح الناس فوضى لا سراة لهم
 

ولا سراة إذا جهالهم سادوا
 

 

عليكم أيها الناس بالركون إلى العلماء العاملين والأخذ منهم، فإنهم بمعونة الحق لا يقودونكم إلاَّ إلى الهدى، ولا يحملونكم إلاَّ على جناح النجاح. ولعل ما حلَّ بكم من النكبات والرزايا من بعض أسباب التجافي عنهم والتباعد منهم، وإلاَّ لعرفوكم إن هذا التخاذل يؤدي إلى سوء العواقب، وإن لا ثمرة بهذه الخطة ولا سلامة في هذا الطريق...

إن كنتم تريدون سعادة وتاريخاً مجيداً كما كان لأسلافكم فلا سبيل إلى ذلك إلاَّ بالأقتداء بهم، والسعي وراء العمل الجدي والتخلق بالأخلاق الكريمة.

أيها الناس!

لا ينال الشرف والمجد وعز الاستقلال الصحيح بالأماني والأباطيل. أتحسبون إن الأجانب بلغوا ما بلغوا بمثل هذه الأحوال التي نحن عليها؟ قد أبى الله ــ سبحانه ــ أن يجري الأمور إلاَّ بأسبابها، وأن تؤتى البيوت إلاَّ من أبوابها. وجعل الجد والعمل هو ملاك الفوز والنجاح [وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى].

عودوا ــ أيها المسلمون ــ إلى ما كانت عليه أسلافكم..من الأخلاق الكريمة، والعفة والنزاهة، والصدق في القول والفعل، والسعي وراء العمل النافع، ومعرفة الوقت الثمين.

نحن نقتل الوقت الذي هو عبارة عن عمرنا العزيز ضياعاً في الأباطيل، نصرفه في كل رذيلة ويمكننا أن نكسب به كل شرف وفضيلة.

سوادنا الأعظم يصرف عامة وقته في المقاهي والملاهي والسينمات والمواخير.

مسارح اللهو بالناس معمورة مغمورة والمساجد ونوادي العلم مهجورة..تجد تلك مكتظة بالخلائق والمساجد في مواقيت الصلاة خالية خاوية. أليس هذا مما يقرح قلب المؤمن الغيور؟ أو يوقد في فؤاد المسلم شعلة الأسى والأسف؟.

العلم العلم أيها الناس! فإن العلم أول مبادئ السعادة. ففي الحديث: (من أراد الدنيا فعليه بالعلم، ومن أراد الآخرة فعليه بالعلم، ومن أراد الدنيا والآخر فعليه بالعلم).

ثم العمل العمل! فإن العلم بلا عمل كالسراج في يد الأعمى، والعالم بغير عمل كالجاهل الحائر، بل في الحديث: (إن الحجة عليه أعظم، والحسرة له ألزم، وهو عند الله ألوم).

ثم الاخلاص الاخلاص! فإن الأعمال كلها بغير إخلاص هباء بل حسرة وندامة. أخلصوا لله ــ أيها الناس ــ في أعمالكم تنالوا سعادة الدنيا والآخرة. صبّروا أنفسكم عن هذه الشهوات الفانية من غير طرقها المشروعة، فإنما هي أيام قلائل وظل زائل (ألا كل شيء ما خلا الله باطل).

أين الذين طالت أعمارهم فعاشوا الآلاف من السنين، عمّروا بها الدور، وشيدوا القصور، وسخّروا العباد، وفتحوا الأمصار، وأحتلبوا درة أفاويق الدنيا وأخلاف نعيمها، ثم أصبحوا هباء منثوراً كأن لم يكونوا شيئاً مذكوراً.

 

 

ثم أضحوا كأنهم ورق جفَّ
 

فألوت به الصبا والدبور
 

 

فما لنا نحرص على الدنيا هذا الحرص المجهد ولا نحرص على هذا العمر القصير فلا نصرفه بالأباطيل والأعمال التافهة؟.

إن الله ــ سبحانه وتعالى ــ رأفة بعباده وإتمام للحجة عليهم يبتعث في البرهة بعد البرهة رجالاً مخلصين، وأطباء ماهرين عارفين بأمراض المجتمع وعلله وأدوائه، ينبهون ويرشدون، ويبثون الحكم والنصائح التي فيها شفاء للناس، فإن أخذوا بها فازوا، وإن تركوها هلكوا. ولعل الله ــ جلَّ شأنه ــ دفعني في مواقفي المشهودة إلى ألقاء هذه الكلمات وأمثالها لأتمام الحجة، وأرجوا أن تسعدوا بها، وأن تكون نعمة لا نقمة عليكم.

الله الله في بلادكم! الله الله في أعراضكم! الله الله في أولادكم!..لا تنهمكوا بهذه المدنية الزائفة، ولا تنغمروا بهذا التيار الجارف من هذه السفاسف والزخارف التي ما جاءوا بها إليكم إلاَّ ليهلكوكم ويفسدوا أخلاقكم ويمتصوا دم حياتكم.

الشباب

أيها الشباب الأنجاب..! أيها الأولاد الأمجاد!

أنتم رجال الغد وإن كنتم أبناء اليوم..عليكم اليوم العمل، وغداً لكم المستقبل.

أيها الشبيبة والأولاد!..بل أيها العيون والأكباد!..

أنتم للبلاد وهي لكم.. أنهضوا نهضة شريفة تعيدون بها مجد أسلافكم. تعاشروا بعضكم مع بعض بروح الحنان والرحمة والإخاء والمودة، وصكّوا جباه المستعمرين الذين يريدون استعبادكم بصخرة الإنكار والشدة والقوة. كونوا كأوائلكم [أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ].

الشباب المثقف هو السلاح الجاهز للأمة وقوتها النارية وعدتها في الشدائد، ولكن يجب أن تسيرها حنكة الشيوخ في تجاربهم، وتنتظم في عقول الكهول وأحلامهم، كي ترتسم فيها فضيلة الشجاعة والاعتدال، وتصونها عن الوقوع في طرفي الإفراط والتفريط من رذيلتي الجبن والتهور.

أهم ما يجب ويلزم على الشباب أن يعتصم بالعروة الوثقى من النزاهة والعفة، ولا يفسح لنفسه مجالاً للركض وراء الشهوات فتستدرجه إلى مداحض الفسوق وبؤرة المفاسد، فيخسر شرفه وعزه، بل يخسر نفسه وتخسره الأمة.

مكائد المستعمرين

وكان من أحد مكائد المستعمرين إذاعة الملاهي وإباحة الخمور ومعدات الفسق والفجور في بلادنا لتلك الغاية، وقد ظفروا بما دبروا، وبلغوا ما أرادوا من استعباد المسلمين.

أطمح بطرفك ــ أيها المسلم ــ حيث شئت، من شرق الأرض وغربها، فهل تجد مملكة اسلامية أو أمة من المسلمين لم تقبض على نياط أحشائها براثن الاستعمار، ولم تنشب في أعماق فؤادها مخالب الاستعباد، ولم يستول على كل مقدراتها الأجانب؟..فيكونون هم الآمرون والحاكمون، بل الملوك والمالكون.. والمسلمون لهم خولاً وعبيداً. أفلا يحق لنا البكاء على هذه الحال، لولا إن البكاء ((تكرم عنه عيون الرجال))؟!… ولكن أين الرجال؟ وأين الأبطال؟ وأين الشمم والشرف؟..ذهب كل ذلك من المسلمين (ذهاب أمس الدابر). فعلى الإسلام والمسلمين السلام!.

نحن الذين كنّا نملك الدنيا أصبحنا مملوكين ولا نملك شيئاً من الدنيا. أفليس هذا من أسوأ العار؟.

هل تجدون أمة عربية في أقطار الأرض مستقلة بحقيقة الاستقلال وليس للأجانب عليها سلطان، حتى البدو والقبائل الرحالة في البوادي وإعراب القفار والصحاري.. لماذا كل هذا؟ أتحسبون إن ذلك لقصور في عقولنا، أو نقص في جوارحنا، أو خلل في شيء من حواسنا؟..كلاّ وعزة الله! لا نقص فينا حسب المواهب الفطرية، ولا زيادة لهم علينا، ولكنهم زادوا علينا في الجد والنشاط، والاستهانة بهذه الحياة في سبيل الشرف، وطرح الفوارق الشخصية..فأصبحت كل أمة منهم كشخص واحد. بهذا

 

تفوقوا علينا، وإلاَّ فنحن أدق فهماً وأرق طبعاً، وأسمى خَلقاً وخُلقاً، ومنا أخذوا، وعلينا تظاهروا وأستظهروا.

أفليس بعد هذا حرام عليكم أن يتعادى أو يعتدي مسلم على مسلم، أو يتنابذ أخ مع أخيه؟! أو ليس من الحتم علينا إن ننتظم تحت راية واحدة، لا فرق بين عربي ولا عجمي ولا هندي ولا تركي، ونكون أخواناً كما أراد الله منا أن نكون؟.

واجبنا

إن هذه صفة من الصدف، ونادرة من نوادر الدهر، إن رمت بي الأقدار والأسفار إلى بلادكم، وتبوأت مقامي هذا منكم، أرشدكم إلى المناهج السوية، وألقي عليكم هذه النصائح بلهجة قوية، وأسلوب بسيط، خال من التكلف والصناعة..حقاً إنها لفرصة ثمينة، عسى أن تغتنموها ولا تضيعوها، ولعل لها الأثر النافع، والثمر اليانع. فكم خطب الخطباء، وكم كتب الكتاب وأجتهد المصلحون، نعم المعري يقول:

كم وعظ الواعظون منا
 

وقام في الناس أنبياء
 

فأنصرفوا والعناء باقٍ
 

ولم يزل داؤك العياء
 

 

ولكن الله ــ سبحانه ــ يقول: [ وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ]. ونأمل من لطفه ــ تعالى ــ أن لا يضيع مساعينا فيكم، فإنا لا نتكلم إلاَّ عن شفقة وإخلاص، وليس لنا أدنى منفعة تعود إلى شخصنا. نعم! فائدتنا العظمى، وأقصى أمانينا، ومنتهى رغباتنا: أن نراكم أمة حية، متحدين جميعاً، وعاملين على إعادة مجدكم السابق. فإن أتفقتم وفقتم، وإن أتحدتم سعدتم. وإلاَّ فعسى الله أن يلطف بكم ويأخذ بأيديكم إلى مهابط الرحمة ومساقط العناية..وإن كنّا على رصين علم من أنه ــ تعالى ــ لا يلطف بعبده حتى يجد من العبد توجهاً وإقداماً، وعزماً وهمة. لا يعطف الرب على عبادة حتى يتعاطف بعضهم على بعض ويرحم بعضهم بعضاً.

كان رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: (والذي نفس محمد بيده! إنكم لن تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولن تؤمنوا حتى تتحابوا، ولن تتحابوا حتى تجتمعوا ويعطف بعضكم على بعض).

وبمثل هذه التعاليم، وبمثل هذه الفضائل، بلغ أصحابه ما بلغوا، وتغلبوا على أقوى مملكتين في ذلك العصر ــ مملكة الفرس والروم ــ في أقل من عقدين، مع قلة العدة والعدد، وأكثرهم إعراب أميون، لا حضارة عندهم ولا صناعة، ولا علوم ولا فنون، ولا أسلحة منظمة ولا قوة..ولكن كانت قوة الإيمان واليقين بالله والثقة به أعظم سلاح وأكرم جناح يتسابقون إلى رضوان الله في الآخرة وشرف العز والكرامة في الدنيا.

فمن تدبّر في أحوال تلك الفئة، وكيف كانوا وكيف تقدموا، عرف جلياً ما للأخلاص والصدق، وما للجد وأحتقار هذه الحياة الدنيا، من عظيم التأثير والنجاح الخطير، وإن المدار في الغلبة ليس على كثرة العدد وتوفير العدة وقوة السلاح، وإنما المدار على صحة الإيمان وقوة العزائم وصدق النية [رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ] فبلغهم الله ما تسامت نفوسهم إليه.

هذه عبر باهرة..ولكن أين المعتبرون؟.

نقرأ الكتب، وتمر بنا الحوادث، ونحن في غمرة ساهون.. [بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ]. تمر بنا الحوادث، وتسنح الفرص، ولا نأخذ الفائدة منها. وتضييع الفرصة غصة. يمر الكلام على آذاننا ولا يمس ولا طرفاً من قلوبنا، يمر علينا وهو منطلق كالهواء، فلا يؤثر في أحوالنا وأعمالنا شيئاً. استولى الخور والفشل والضعف على كل مشاعرنا وجوارحنا، فجفّت العزائم وماتت الهمم.

الغيرة والهمة العالية أساس كل خير ومفتاح كل نجاح، فإذا أستنهضتم همتكم وحفزتم غيرتكم بلغتم ما تريدون، ولكن لا تجتمع الغيرة والإنهماك في الشهوة أبداً. أحذروا هذه المدنية اللماعة الخدّاعة الزائفة الجائفة، التي ما جاءوا بها إليكم إلاَّ لسلب شرفكم وغيرتكم فضلاً عن سلب أموالكم. أتحسبون إن السينمات في بلادهم هي على هذا النحو الذي في بلادكم؟..كلا! فإنها في بلادهم منظمة على أصول علمية وغايات أخلاقية ومشاهدات فنية…على العكس من التي عندكم المفسدة لأخلاق فتيانكم وفتياتكم. أين العقول الصافية والقرائح الوقّادة التي تدرك من كل شيء مغزاه ولا ينخدع بالظواهر والمظاهر؟.

 

أيها الناس!

أنصروا الله ينصركم، وأحفظوه يحفظكم. أغضبوا لحرمات الله، وغاروا لشرائع الله.

الله أنزل هذه الشرائع والأحكام وشرع الحلال والحرام، لا ليتعاظم في ملكه ويتوقر في سلطانه، ولا ليجلب إليه نفعاً أو يدفع عنه ضراء وإنما الغرض من تلك الأحكام والنواميس صلاح أبدانكم وتربية أجسادكم وتثقيف أرواحكم وحفظ جامعتكم وتنظيم أمور معاشكم ومعادكم، كي تكونوا أمة قوية حية، تستحق البقاء والبركة والنعماء، وتسلكوا سبيل الأمم الراقية التي كانت قبلكم.. [يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ].

شرع الله الشرائع، وأنزل الكتب وبعث الأنبياء.. كل ذلك رحمة وعناية بالخليقة، ولأنقاذهم من الظلمات إلى النور وسوقهم إلى السعادة الأبدية. وهو ــ جلَّ شأنه ــ لا تنفعه طاعة من أطاعه، ولا تضره معصية من عصاه..ولكن ــ مع ذلك ــ فإن تلك الأحكام والحدود والأوامر والنواهي هي محارم الله وحرماته. فمن شرب خمراً، أو أكل الربا، أو لعب قماراً، فقد هتك حرمة الله، وبارز الله بالمحاربة والمخالفة، وكان الله خصمه. إذا شتم أحد الناس أباك وعشيرتك تغضب وتغار لأنه هتك حرمتك ومسَّ شرفك، ولكن إذا هتكت حرمات الله بشرب الخمور وإرتكاب الفجور لا تغضب ولا تتأثر. وما ذاك إلاَّ من أجل أنه لا علاقة لك مع الله ــ جلَّ شأنه ــ فلا تغضب لغضبه ولا تغار على حرماته ونواميسه.

ما أنزل الله كتاباً أكرم وأعظم من القرآن، ولا شرع شريعة أجمع وأنفع من شريعة الإسلام، ولا بعث نبياً أفضل وأكمل من محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم)...محمد سيد الأنبياء، وقرآنه سيد الكتب، وشريعته أفضل الشرائع..ومع ذلك فقد خصّكم الله بها دون سائر الأمم. أفليس من الأسف الممضِ أن تضيعوها وتهملوها؟.

كان رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: (أنا حظكم من الأنبياء وأنتم حظي من الأمم). أما حظنا من الأنبياء فنعم الحظ ونعم النصيب، ولكن أنظر كيف حظه منّا؟ أنبعث له الخجل يوم القيامة ونطأطأ رأسه بين الأنبياء أم نرفع رأسه؟.

فأي حظ له نحن!..لو كنّا نرتسم سيرة نبينا وصحابته ونأخذ من الألف واحداً لسعدنا. ولكنا عكسنا الحقيقة ولبسنا الإسلام لبس الفرو مقلوباً. ولو نظرنا في أحوالنا لم نجد عندنا من حقيقة الإسلام أثراً. نعم! عندنا من الإسلام قشور خالية من اللب لا تصلح إلاَّ لأحراقها في النار. إن الله لا ينظر إلى صوركم ولكن ينظر إلى أسراركم. ولو عاد إلينا آباؤنا المسلمون الأولون وعاشرونا لأنكرونا وما عرفوا من إسلامنا شيئاً.

هذا آخر كلامي فيكم وخطابي لكم، وأستودعكم الله السميع العليم، وأسأله أن يأخذ بأيديكم إلى حيث المجد والرفعة وسعادة الدنيا والآخرة، وأرجوا أن لا تكون نصائحي هذه كصرخة في وادٍ ونفخة في رماد، لأنها ــ كما يشهد الله ــ خرجت من قلب فلا تذهب هباء، والله يتولاكم بعنايته والسلام عليكم ورحمة الله.

الخطبة الثالثة

من خطاب سماحته يوم 16 ذي القعدة الحرام 1352هـ في (جامع الحلة الكبير) وكانت أحتشدت فيه سيول الجماهير حتى غصَّ الجامع بالمستمعين، وتسوروا على السطوح وتعلقوا بشرفات الجامع، وكان يوماً مشهوداً. أرتجل سماحته، كعادته(رحمه الله) في جميع خطبه، مستهلاً الكلام:

ققق

قال الله تعالى: [لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ].

أشتملت هذه الآية الكريمة على أسرار عظيمة، ومقاصد جليلة، ونكات دقيقة، وحكمة عالية..فأشارت إلى كيفية سعادة الإنسان ورقي المجموعة البشرية، وترتيب الأحوال والمدارج لتنظيم أمور سعادتهم ونظم معاشهم، وتعديل سلوكهم والمحافظة على كيانهم، ودرء الشر عنهم وصيانتهم من الوقوع في المفاسد والمهالك، فقال ــ عزَّ من قائل ــ : [لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ …].

نعم! أرسلهم بالمعجزات الباهرة والدلائل النيرة والبراهين الساطعة على ثبوت رسالتهم، مؤيدين بالبينات الشاهدة على نبوتهم الناطقة بحجتهم..هذا كله حتى يتم دور النبوة، ويبلغ الأمر إلى بليغ الحجة، فإذا قامت على ذلك المعجزة وتمت الحجة، وأعتقدت الناس بصحة رسالة الرسول ونبوة النبي، جاء حينئذٍ الدور الثاني، وهو وقت اداء النبي وظيفته وقيامه بواجبه، وتنفيذه لمهمته، المهمة المبعوث لها والناهض بثقل ابلاغها وتنفيذها، إلاَّ وهي علاج البشر، وإنقاذه من مخالب المعاطب، وإصلاح فاسده، وتقويم معوجه، وبيان أنه بماذا يكون، وبأي شيء تتحقق تلك التأدية ويتنفذ ذلك الغرض.

نعم! لا يتنفذ ذلك الغرض، ولا تحصل الغاية المتوخاة، إلاَّ بوضع قوانين إلهية، ونواميس ربوبية، يضمها كتاب جامع يتكفل بالنور الساطع والدواء الناجع..وذلك الكتاب هو (القرآن) المبين، والحبل المتين والماء المعين، فقال ــ عز من قائل ــ [وَأَنزَلَنا مَعَهُمْ الْكِتَابَ].

الكتاب هو ذلك القانون المشتمل على الداء والدواء، والمرض والشفاء، وعلى الوسائل والغايات، والأسباب والنتائج...الكتاب هو القانون الالهي المتكفل لسعادة البشر، المشتمل على التعاليم الموجبة لصلاحهم، ونظم معاشهم، وحفظ حدودهم، وتوازن حقوقهم...الكتاب هو القانون الباقي للإنسان ما بقى الإنسان.

طيب!..أنزلنا معهم الكتاب؛ أي القانون المتضمن للميزان الذي توزن به الحقوق والمعاملات بين الناس بعضهم مع بعض، بل المعاملات بين الخالق والمخلوق وبين الخلائق أنفسهم، وبه تتشخص وتتعين الحقوق الشخصية، كحق الوالد على ولده وحق الولد على أبيه، والزوج على زوجته والزوجة عليه، والأخ على أخيه…وهكذا مما يستلزمه نظام البشر وحفظ هيئتهم الاجتماعية. وتختلف تلك الحقوق بأختلاف الصفات والعلاقات، فوضع ذلك القانون الإلهي ميزاناً يعين حقوق هذا على هذا وحقوق الكل على الكل. هذا هو عين الميزان الذي توزن به الحقائق، وتقاس به الطرائق، وتعرف به الحدود والفوارق، ويقوم به القسط والعدل بين المخلوق والخالق وبين الخلائق.

وبعد أن تمَّ وضع هذا القانون وانتهى دور التشريع جاء (الدور الثالث) وهو دور التعلم والتعليم، دور العمل والتطبيق، فقال ــ عزَّ شأنه ــ : [لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ] يعني: ليقوموا بالعدل والتكافؤ، ويحفظوا بينهم التوازن، ولا يستأثر بعضهم على بعض فيحدث من الاستئثار العثار، ولا يستبدوا فينجر الاستبداد إلى الفساد. فإذا توازنت الحقوق، وتوزعت الفوائد، وتعممت المنافع، أنتظم الأمر، وجرت مياه الصفاء، وأزهرت منابت الراحة والهناء، ولم يكن ثمة شغب ولا لغب. نعم، [لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ] والعدل بعد تعيين الحقوق وفرضها.

[وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ]..هذا هو (الدور الرابع) من الادوار التي أشتملت عليها هذه الآية الكريمة الربانية والجوهرة الإلهية من الأدوار المتدرجة والأطوار المترتب بعضها على بعض. نعم! هذا هو الدور الرابع، دور التنفيذ، بعد دوري التشريع والتطبيق. العلم وحده بلا عمل ولا تطبيق لا ينفع. التشريع بلا إجراء ولا تنفيذ لغو لا فائدة منه. فكأنه ــ تعالى شأنه ــ يقول: أيها الأنبياء؛ أيها المرسلون؛ أيها المصلحون؛ علموا البشر، ثقفوا المهج، قوموا المعوج، هذّبوا النفوس، أنشروا بين سائر الطبقات القوانين والتعاليم، عرفوهم حقوقهم، أوقفوهم عند حدودهم، فأن نجع ونفع وسمعوا وأطاعوا فيها وأنعم، وقد فازوا وسعدوا، وإن لم ينفع الوعظ والإرشاد باللسان ولم يقتنعوا بالحجة والبرهان، فلابد عند ذاك من (الجماغ)، ولابد من الحديد ذي البأس الشديد، لابد من السيف. (الجماغ) هو القوة التنفيذية الوحيدة لعلاج البشر وتمشية العدل بينهم، وكم في الحديد ذي البأس منافع للناس كما تحسون وترون. ويزع الله بالسلطان مالا يزع بالقرآن (حديث شريف). القرآن لذوي الألباب والعقول، والسيف والسلطان للعنيد الجهول.

ثم عقب ــ جلَّ شأنه ــ تلك الفقرات النيرات بالبينات العالية، حيث قال ــ وما أعلاها من كلمات ــ قال: [وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ].

وبيان ذلك: أنه ــ تعالى ــ يقول: أيها الناس! إنا أرسلنا إليكم الرسل بالمعجزات البينات أولاً، وشرعت لكم القوانين النافعة وأنزلت بها الكتاب ثانياً، وفرضت عليكم العمل والتطبيق ثالثاً، وجعلت القوة التنفيذية بعد التشريع رابعاً…والغرض من كل ذلك صلاحكم، ولكي أنظر من ينصر الله حتى أنصره، ومن يعز ديني وشرائعي حتى أعزه.

أيها الناس! هذه تعاليمي وشرائعي وحكمي وأحكامي، فمن ينصرني فيها فأنا له ناصر، ومن لا ينصر الله فيها فإن الله قوي عزيز...قوي على الانتقام، عزيز لا يضام.

هذا نظم الآية الشريفة على الإجمال، ولكن السر في ذلك كله ــ أي سر الحاجة إلى ارسال الرسل وإنزال الكتب ووضع الميزان بالقسط ووضع الحديد ذو البأس الشديد هو إنَّ الله ــ جلَّ شأنه ــ بسابق حكمته لما أوجد الإنسان في بدء فطرته جاهلاً لا يعلم شيئاً ــ وأي بلاء أبلى من الجهل! ــ [والله اخرجكم من بطون امهاتكم لا تعلمون شيئا]..نعم! وكما أوجد مفطوراً على الجهل كذلك أوجده محتاجاً فقيراً فاقداً لكل ما يحتاج إليه، حتى إن البهائم والحشرات، بل وكل مخلوق في بدء تكوينه وأول ظهوره، قد يكون خيراً من الإنسان..يولد عارياً من كل شيء، من ساتر جسده، وماسك رمقه…

ثلاث غرائز وجدت مع الإنسان هي أصل كل بلاء عليه وخسران: الجهل، والعجز، والفقر. ولكن قد تداركته العناية وشملته الرحمة، فجعلت لكل واحد من تلك المهلكات الثلاث أسباباً لزوالها. وجعل الإنسان على مقربة أستعداد وأوفى عدة لعلاجها.

جعله مستعداً لعلاج الجهل بالعلم، ورفع العجز بالاقتدار، وإزاحة الفقر بالغنى..ولكن من طرق خاصة وأساليب معينة، وارسال الرسل، وإنزال الكتب، ونشر التعليم، إنما هي لتعيين تلك الأساليب وتشخيص تلك الوسائل الموصلة إلى الغاية التي هي النجاة من تلك المهالك والفوز بالسعادة الأبدية.

أترون أن الله ــ تعالى شأنه ــ أوجد البشر رحمة أم نقمة؟..كلا! ثم كلا!…إنما أوجده للرحمة والهناء لا للتعاسة والشقاء. فلما أوجدهم للعناية والرحمة فلابد أن يهيء لهم الأسباب إليها، وحيث كانت تلك الخلال الثلاث هنَّ أصول الرذائل وأمهات المفاسد والشرور، وأول فساد نشأ منها في دور الإنسان الأول هو قتل أحد الأخوين أخاه بدافع الغلبة والاستئثار، ثم أتصلت بعد ذلك المصائب وتوالت النوائب، حتى أتسع نطاقها وأمتد رواقها، ولم تزل تتنوع وتتشكل بأشكال مختلفة..فمن غارات مشبوبة، وأموال منهوبة، ودماء مسفوكة وأعراض مهتوكة، وأصنام مقصودة، وأحجار معبودة..وهلم جرا…فرايج شرور وولايج أفك وزور.

نعم! والعناية الأزلية والألطاف الربوبية لم تزل معنية بالبشر، تنشر وتثقف، وتعلم وتهدي...إرسال رسل، بعث أنبياء، إنزال كتب، وضع موازين، جعل قوانين، قصاص وديات، حدود وعقوبات...ولكن هل نفع كل ذلك أو نجع بعضه؟..كلا!.

أقام نوح بين ظهراني قومه ألف سنة إلاَّ خمسين عاماً يدعوهم إلى الهدى ويرشدهم إلى الطاعة، فماذا كانت النتيجة؟ وإلى أين بلغ الحال بعد دعوة شيخ المرسلين العريضة الطويلة؟..نعم! كانت طوفاناً مريعاً وهلاكاً فجيعاً، وإبادة لكل ذلك الجيل عدا قليل.

ثم تسلسلت الأنبياء على ذلك والناس لا تزداد إلاَّ تعاسة وشرا، والعناية لم تزل تساوقهم وترافقهم، ولا تريد بهم إلاَّ خيراً.

فلم يتهيأ للبشرية من يعطيها دواءها الحاسم ويعرف علاجها الشافي، ويسبر الغور ويبلغ المدى ويصيب الهدف ويطبق المفصل حتى جاء المثل الأعلى والمظهر الأتم الأجلى، سيد الرسل ومنقذ البشرية، النبي الأعظم محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم)، فعرف إن داء البشرية الوحيد ومنشأ كل الويلات والمفاسد هو حب الغلبة والاستئثار، حب الأثرة يدفع بالنفس إلى أن تطمح للحصول على كل أسباب التفوق، فيطغى بها شرر الشر والنهمة، فتركن إلى القوميات وتتعالى بالعنصريات.

الفارسي يقول: أنا من سلالة الملوك الأكاسرة. والرومي يقول: أنا من اولئك البطارقة والقياصرة. والعربي يشمخ بقومه أهل الكرم والشجاعة والفراسة والبراعة...وهكذا كلٌ يريد أن يتفوق على أخيه ويستلب الحق من ذويه.

نعم! هذه هي بلية البشر الصماء وداهية المصائب الدهماء..حب الغلبة يدعو أحدهم أن يسلب الآخر ماله ليكون أغنى منه، ويبتزه أرضه ليكون أوسع ملكاً منه، وينتزع نعيمه ورياشه ليكون أهنأ عيشاً منه..وهكذا يسلبه كل شيء حتى يجعله بلا شيء ويكون له كل شيء.

نعم! جاء محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم) فمحا كل هذه العنعنات، وطمس عيون العنصريات، وسحق جماجم القوميات، فقال ــ وقوله الحق ــ : (كلكم لآدم وآدم من تراب، لا فخر لعربي على عجمي). فضيلة الأسلاف لا تنفع الأخلاف حتى يكونوا أمثالهم. الكرم هو التقوى، والفخر بشرف الخلال لا بشرف العم والخال.

علاج أدواء البشرية وأمراضها أن ينضوي الجميع تحت راية واحدة وجامعة فذة، إلاَّ وهي جامعة الانتساب إلى الله وراية أن لا إله إلاَّ الله، التي تجمع الهندي والتركي والعربي والرومي والفارسي، وتجعلهم أخواناً وعلى الخير أعواناً.

بثَّ ــ سلام الله عليه ــ روح الوحدة، وحمل مشعل التوحيد، ونشر راية الأخوة بين البشر..وأجرها أولاً عملياً بين أصحابه، حتى بلغ الأمر بهم أن ملكوا بعده شرق الأرض وغربها بتلك الروح المباركة، التي جعلتهم في الأرض ملائكة يضحون كل شيء للإسلام ولا يفتخرون إلاَّ بالإسلام. أهاب ذلك المصلح الأعظم صارخاً: (قولوا لا إله إلاَّ الله وأسلموا تسلموا وتحصلوا على كل شيء).

ما أدرك أحد من الانبياء ما أدركه من هذا السر العميق والمعنى الدقيق والعلاج الشافي.

جعل أصول التعاليم وقواعد التكاليف الأولية ثلاثة..ويالله ما أعظمها وما أهمها!.

أولها (العلم): وهو أول تكليف كلّف به البشر، وأول ما أوجبه الله عليهم ليرفع عنهم رذيلة الجهل المتوغلة فيهم [يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ]. ولم يزل النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم) يحث على طلب العلم حثاً شديداً حتى قال: (إن أردتم الدنيا فعليكم بالعلم، وإن أردتم الآخرة فعليكم بالعلم، وإن اردتم الدنيا والآخرة فعليكم بالعلم). هذه التعاليم المقدّسة وهذه الروح العالية لا تجدهما في غير شريعة الإسلام وكتابه المقدّس. أسبر (التوراة) بأجمعها و(الأناجيل) بتمامها، هل تجد فيها شيئاً من هذه النفحات القدسية والرشحات الربوبية؟.

نعم! أول تكليف على الإنسان أن يكون عالماً ولا يبقى جاهلاً. ثانيها أن يعمل بعلمه. وإلاَّ فما الفائدة بعلمه؟…العلم بلا عمل ليس كما يقال كـ(الشجر بلا ثمر) بل كالشجر الذي يثمر ثمراً مراً، بلاء ووبال!.

قال أمير المؤمنين (عليه السلام): (العامل بغير علمه مثل الجاهل المتحيّر المستغرق في جهله، بل الحجة عليه ألزم، والبلية عليه أعظم، وهو عند الله ألوم).

وقال (عليه السلام) أيضاً ــ وهي من حكمه الرائعة ــ : (يا جابر! قوام الدنيا بأربعة: عالم يستعمل علمه، وجاهل لا يستنكف أن يتعلم، وغني لا يبخل بماله، وفقير لا يبيع آخرته بدنياه..فإذا لم يستعمل العالم علمه أستنكف الجاهل أن يتعلم، وإذا استنكف الجاهل أن يتعلم بخل الغني بماله، وإذا بخل الغني بماله باع الفقير آخرته بدنياه، ففسد العالم). يعني إن فساد العالم وعدم استعماله لعلمه هو السبب الأخير لفساد العالم، بل السبب الوحيد.

ثالثها (أن يعلم غيره)؛ وإلاَّ لبطلت فائدة التكاليف ولم يحصل التهذيب والتثقيف..(كلكم راعٍ وكلكم مسؤول). ولو لم يجب تعليم الغير لبقيت الناس خاملة جاهلة. فكل انسان يجب عليه أن يعلم ويعمل ويعلّم.

نعم! هذه هي أصول التكاليف ومهماتها وأمهاتها. ومما لا شك فيه إن حظ كل واحدة منها التقصير والإهمال منّا، كما هو حالنا في سائر المهمات وضروريات السعادة والحياة.

لا طلب علم صحيح، ولا عمل بما نعلم، ولا تعليم للغير كما يجب!!.

 

نحن نعلم ولكن نعبد الهوى ونعمل بما تبعثنا إليه الشهوات. كلنا عالمون وكلنا ضالون ومضلون..[ أَفَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ]، فنحن ممن أضلنا الله على علم منّا.

نحن عالمون وفي عين الوقت ضالون كأننا جاهلون. أتريد شاهداً على ذلك؟.

هل بقى خفاءاً وستاراً إن الخمر من أشد الكبائر أثراً وأعظمها ضرراً وأكثرها بلاء وشرا..نقص في الدين، نقص في العقل، نقص في الصحة، نقص في المال، نقص في النسل، نقص في كل شيء…ولم تزل طائفة من الناس غير قليلة تشربه في الجاهلية والإسلام حتى في عصر النبوة. ولكن الفرق أنه من ذلك العصر المتألق إلى عدة عصور كان يشرب سراً وفي الخفاء، رعاية للإسلام وصيانة للإحكام، أما في هذا العصر ــ ويا للأسف! ــ فقد صار يباع في الأسواق جهاراً وعلناً..يباع في عواصم الإسلام كبغداد والشام ومصر وأمثالها، ويمر عليه المسلمون بلا إزراء ولا انكار، ويشربون جهاراً محاربة لله ورسوله ومعاكسة صراحاً لكتابه وقرآنه.

زجاجة الخمر الموضوعة في حوانيت بلاد المسلمين نقول للمسلمين: (أنا جئتكم من أوربا على رغم آنافكم، لأفقأ عيونكم، وأنشر عيوبكم، وأنقص أموالكم، وأسلبكم عقولكم، وأحارب قرآنكم!..القرآن يقول: (الخمر أثم فأجتنبوه) وأنا أقول: (الخمر غنم فأرتكبوه). النبي يقول: (أيها الناس! شارب الخمر عابد وثن، إذا مرض لا تعودوه، وإن مات لا تشيعوه، وإن تشفع إليكم لا تشفعوه، وإن خطب إليكم لا تزوجوه). وأنا أقول: (شارب الخمر عظّموه وأكرموه)...وعلى هذا الحال والمنوال سائر الكبائر من الربا والقمار والفواحش وغيرها.

أيها الناس!

إن من حق المسلم على المسلم اداء النصيحة له، وأنتم أعزة لدينا كرام علينا..الله الله في أنفسكم! الله الله في أولادكم! الله الله في أموالكم وأعراضكم! الله الله في بلادكم وأوطانكم!...إن هذا السير الذي تسيرون عليه سير على غير الطريق، وهو لا محالة سوف يؤدي بكم إلى الهلاك الأبدي والعذاب السرمدي.

نحن حتى لو قطعنا النظر عن الآخرة والحساب والجزاء، وصرنا ــ معاذ الله ــ قوماً طبيعين، فإن حياتنا المادية لا تساعدنا على ارتكاب هذه الأعمال..أصبح حالنا على الحقيقة حال الجاهلية الأولى، سوى إننا نقول بألسنتنا: (لا إله إلاَّ الله)، وكلكم تعلمون إنها لا تقبل إلاَّ بشروطها، وما شروطها سوى تنفيذ حدود الله والإلتزام بأحكام الله، وذلك هو الإسلام حقيقة.

كان الناس في الجاهلية يشربون الخمر، ويرتكبون الفواحش، ويأخذون الربا، ويستحلون قتل النفس المحترمة، وتشيع بينهم الغيبة، وينتشر عندهم الحسد...فبالله عليكم! طبقوا هل بيننا وبينهم فرق؟..نحن بالقول مسلمون وبالعمل جاهليون (لساني يقول ولا أعمل).

إن أهم ما يجب على المسلم اليوم هو أن يطهر قلبه من كل غش وغل لأخيه المسلم، حتى يعود المسلمون كما كانوا؛ كلهم كتلة واحدة. وهذه هي القاعدة الأساسية وأهم التعاليم التي نجح بها الإسلام وتقدم.

ألف النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم)وآخى بين أصحابه حتى صاروا روحاً واحدة وأمة حية تحيا بروح واحدة وتشعر بشعور واحد، ولا يصلح آخر هذا الأمر إلاَّ بما صلح به أوله.

مكافحة البضائع الأجنبية

أيها الناس!

انتقض البناء الذي بناه لنا الأولون فأصبحنا مملوكين للأجانب محتاجين إليهم في كل شيء، وليس معنى ذلك إن الله جعلنا محتاجين إليهم، ولكن نحن أحوجنا أنفسنا إليهم، لأنا لم نقنع بما يكفينا في قوام الحياة. نسمي الفضول (كماليات) وهي عين النقائص، ولو قنعنا بما يكفينا وترفعنا بأنفسنا عن تلك الفضول لما أصبحنا بهذه الحاجة والفاقة الماسة والفقر المدقع، ولما ابتلينا بهذا النقص في الأموال والثمرات. ما الحاجة إلى شراء هذه السفاسف اللماعة والزخارف الخدّاعة؟..خدعونا فجعلوا يبتزون أموالنا ويسلبونا عزّنا ومجدنا، بل يمتصون دم حياتنا.

نحن أحوجنا أنفسنا إليهم فصرنا أسراء لهم..(أحتج إلى من شئت تكن أسيره)، ولو قنعنا بما عندنا لكفانا.

 

أيها الناس!

أنا قلت من قبل ولا أزال أقول: (الاتحاد والاقتصاد)...أحفظوا هذين الأصلين وخلاكم ذم. دبروا معاشكم، فإن التدبير نصف المعيشة، وما أفتقر من دبر. ذهب الذهب وذهب كل شيء معه...هل ترون ليرات؟ أين الليرات التي كانت أيديكم وأكياسكم مملوءة بها؟..قد أصبحت أيديكم من الذهب صفراً، كما أصبحت أراضيكم من الخير قفراً!!.

العمل ... العمل

إن كنتم تريدون أن تكونوا رجالاً أحراراً كأسلافكم..رجال صدق وعما حق..فأنبذوا الأهواء والرذائل والجلوس في المقاهي ومجالس البطالة. وما أدري ــ وليتني كنت أدري ــ ماذا تجنون من ثمرة بجلوسكم في تلك المجتمعات التي لا شيء فيها من الخير؟.

الناس جدوا فنالوا، واجتهدوا فحصلوا، وصدقوا في الطلب فوفقوا.. وهل هم إلاَّ رجال أمثالكم؟…طاروا في السماء، وشقوا البحار، وسخروا القوى الكامنة، واستغلوا كل شيء، حتى ضوء النجوم وقوة تيار النور وكامن أسرار الطبيعة.

الله الله أيها الناس! أحذروا زبارج هذه المدنية الخلابة اللماعة البراقة، فإنها تذهب بكل نخوة وشرف، وما أخترعها القوم إلاَّ لهلاك هذه الأمة، القوم أخذوا تعاليم الإسلام ففازوا وتقدموا، وتركناها فتأخرنا.

أليس من تعاليم الإسلام (اغزوهم في عقر دارهم قبل أن يغزوكم، فوالله ما غزي قوم في عقر دارهم إلاَّ ذلوا). وهكذا كان سير المسلمين...طووا عرض البسيط، وتقحموا لجج المحيط من أسبانيا في الغرب إلى جدران الصين في الشرق.

أما اليوم ــ ويا للأسف! ــ فقد أنعكس الأمر وانقلب علينا الدهر، فلم تبق بقعة من بلاد المسلمين إلاَّ وهي مستعمرة بل مستعبدة لهم، يغزوننا في عقر دارنا ويملكوننا في بلادنا. أشغلوكم بالترهات والخزعبلات، واندفعوا إلى الجديات التي أنتم لاهون عنها بالمقاهي وقابعون في غمرة الملاهي.

الحلة الفيحاء

أنتم معشر الحليين الكرام! لم تزل بلدتكم الكريمة هذه سامية الآثار عالية المنار من بدء تأسيسها في آخر القرن الخامس حتى الآن، ولا جرم ولا غرو، فقد أنشأها أرباب السيف والقلم وأعلام العلم والعمل وفرسان المحابر والمنابر، العرب الأقحاح (بنو دبيس) من (بني أسد)، أنشأها سيف الدولة صدقة بن منصور بن دبيس بن مزيد. وكانت ــ كما يقول الحموي ــ (أجمة تأوي إليها السباع)، فنزلها بأهله وعساكره، وقصدها التجار، فصارت من أفخر مدن العراق وأحسنها. ولكنها ما لبثت، بعد أن كانت أجمة قصب، أن عادت أجمة فضل وأدب، وبعد أن كانت تأوي إليها السباع تتهافت إليها المصاقع من الأصقاع تهافت الجياع على القصاع.

لله هي من تربة! فكم انتجت وانجبت من الرجال، ومازالت تؤتى أكلها حيناً بعد حين بما تخرج من فطاحل العلماء وأماثل الأدباء، وقد أستمر سيرها الأدبي والعلمي عدة قرون. ولو أردنا تعداد أو احصاء من تخرج من هذه الفيحاء من الأعاظم لأحتجنا إلى عدة دفاتر وطوامير ومحابر، ولا ننفك نجد منهم الرجال الذين يلمعون في أفق التأريخ لمعان الكواكب في آفاق السماء، وكأن تربتها قد عجنت بعبير الذكاء والعبقرية، وأمتازت بالفطانة واللوذعية. ولم يزل يتعاهدها بالتربية والتثقيف أساتذة أساطين، نشأوا منها ونزحوا عنها ثم عادوا إليها، منهم جدي الأعلى (كاشف الغطاء)، وخلفه جدي القريب الإمام (موسى بن جعفر) فإنه كان يصطاف بها كل عام، وكانت لبعض وجهائها حديقة غناء يدعوه إليها كل سنة، فقال الشيخ صالح التميمي ــ أحد نوابغ شعراء الحلة في ذلك العصر ــ :

عذرت ولم أعذر على البغي جنة
 

طغت فبدا بين الجنان غرورها
 

تهز غصونا كالعذارى إذا انثنت
 

فماس بأوراق الحلى نضيرها
 

تزور ملوك الأرض (موسى) وهذه
 

كفاها فخاراً إن (موسى) يزورها
 

ولو لم تكن طور الحدائق لم تكن
 

له عادة في كل عام يطورها
 

 

وكان حاكم الحلة يومئذٍ (سليمان باشا) أحد قرابات الوالي الأقطاعي في بغداد (داود باشا)، وكان الحاكم المزبور ظالماً غشوماً..فإذا حلَّ الشيخ في الحلة كفَّ الحاكم

 

عن ظلمه وعدل واعتدل، فإذا قفل راجعاً إلى النجف عاد إلى شنشنته، فقال الشيخ صالح ــ المتقدم ــ في أحدى مغادرات الشيخ للحلة متوجعاً لسفره عنها:

بمن تفخر الفيحاء والفخر دأبها
 

قديماً وعنها سار موسى بأهله
 

وغادرها من بعد عز ومنعة
 

تحاذر كيد السامري وعجله
 

 

فبلغ ذلك سليمان باشا، فأستحضره للعقوبة، وقرأ عليه البيتين، فقال الشيخ صالح: (هذان البيتان قد حرفا، والذي قلته غير هذا). ثم أنشأ ارتجالاً قوله:

زهت بأبي داود حلة بابل
 

وألبسها بالأمس بردة عدله
 

وكانت قديماً قبل موسى وقبله
 

تحاذر كيد السامري وعجله
 

 

فعفى عنه وخلع عليه.

ثم تلى (الشيخ موسى) أخوه (الشيخ حسن). فإنه أقام في الحلة برهة، وكان مرجعها الوحيد، وفيها ألّف كتابه الجليل الموسوم بـ(أنوار الفقاهة). ولم تزل المشايخ من أسرتنا يتعاهدونها من حين إلى آخر..إلى أن أشرقت فيها الكواكب الساطعة من (آل عبد المطلب) والسادة الأشراف من (آل مناف) بدور الهدى وبحور العلم وينابيع الأدب الغض، وهم منّا ونحن منهم، ومازال هذا البيت (آل معز الدين) ممدود الرواق السامي الآفاق، إذا غاب منهم كوكب لاح كوكب..(من تلقَ منهم تقل لافيت سيدهم).

فيا أهل هذه البلدة الطيبة التي خصها الله بتلك المزايا الفاضلة والشعور المتوقد! ألا يجدر بكم أن تنهضوا إلى المعالي، وتغتنموا الفرص، وتستردوا مجد الجدود والآباء، وتكونوا قدوة لغيركم من سائر البلدان؟.

الشبيبة

يا شبيبة الحلة!

أنتم زهرة البلاد، وانتم الأرواح والأكباد، وأنتم الأموال والأولاد..البلاد لكم وانتم للبلاد، فإن حفظتموها حفظتم المجد والشرف، وإلاَّ ضعتم وأضعتم.

أياكم والسرف في المقاهي والملاهي!..الشباب باكورة العمر وربيع الحياة، فأغتنموا العمل والجد والاجتهاد فيه. أغتنم صحتك قبل سقمك، وشبابك قبل هرمك، ووجودك قبل عدمك...لا تحصيل إلاَّ وقت الشباب، فأغتنموا شبابكم، وإلا فما أشد الندم بعده، حيث لا ينفع الندم. ولعل الله ــ سبحانه ــ ساقني إليكم لأنبهم وأرشدكم وليتم الحجة عليكم، والمصلحة تعود لكم، وقلوبنا تحترق عليكم. ونستودعكم الله بالسلامة. والسلام.

الخطبة الرابعة

الخطاب الذي تفضل به سماحته في النجف الأشرف ــ في 28 صفر سنة 1353 هجرية ــ في الصحن الشريف على جماهير من المستمعين مرتجلاً. قال (رحمه الله):

ققق

الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على محمد وآله الطاهرين وصحبه الطيبين.

قال الله تعالى: [وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ].

إن الله ــ سبحانه وتعالى ــ لما ذرأ الخليقة، وبرأ النسمة وأوجد البشرية..أوجد فيها ثلاث غرائز ملازمة لها: أوجد الإنسان جاهلاً لا يعلم شيئاً، وفقيراً لا يملك شيئاً، وعاجزاً لا يقدر على شيء. فهذه الخصال الثلاثة هي الضريبة الأولى على ابن آدم التي جبل عليها وتمكنت منه…جهل، وعجز، وحاجة.

ولكنه ــ جلَّ شأنه ــ قابل هذه الرذائل المتأصلة فيه، والتي هي أمهات بلائه، وأصول شقائه، وينابيع ضرائه، وشجرة جميع رذائله وذمائمه..بثلاث من النعم: نعمة الوجود، ونعمة الحياة، ونعمة الإدراك. فجعله موجوداً حياً مدركاً. وهذه هي أصول النعم والفضائل التي يستطيع بها أن يتدارك ما يدخل عليه من النقص بتلك الرذائل السابقة. ولكن الإنسان بما أنه جاهل لا يعلم كل شيء [وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا]، فلا يهتدي ولا يستطيع أن يستثمر تلك المواهب العظمى،

 

فكان بالضرورة وبالطبع يجب على الله من باب اللطف، لأنه أوجد البشرية للنعمة والهناء لا للبلية والشقاء..نعم! كان من الواجب عليه أن يبعث في كل برهة معلمين مهذبين يعلمون الناس كيف يستغلون نعمة الحياة ويستثمرون أدراكهم وعلمهم، فكان المصلحون والمرشدون لا يزالون على طول الأبد تأتي منهم ثلة بعد ثلة.

فأعلى طبقاتهم الأنبياء والمرسلون، فإنهم ما بعثوا إلاَّ لتثقيف البشر وتهذيبهم ودفع تلك الرذائل عنهم، ثم يليهم الأئمة والأوصياء والسفرة والبررة، ثم بعد هاتين الطبقتين العلماء، ولا أعني بالعلماء من أشار إليه أمير المؤمنين (عليه السلام) حيث قال: (وآخر يسمى عالماً وليس به، قد جمع أضاليل من ضلال وجهالات من جهال)، ولكن أريد العلماء الذين يعنون بتهذيب البشر وإصلاح أخلاقهم وتزكية نفوسهم، فما من أمة قام فيها مرشدون إلاَّ وكانت سعيدة وحصينة من السوء، وما من أمة خلت منهم إلاَّ وكانت عاقبتها الدمار. فالله يقول: [وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ]، ثم عقب هذه الفقرة الشريفة بكلمة أنبأت عن مغزاه من ارسالهم، حيث قال: [فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]. فالغاية منهم أن يكونوا مبشرين بفوائد الإصلاح ومنذرين بمضار تركه. وإلى هذا أشار في آية أخرى، حيث قال: [وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ]، يعني: إن وجود المصلحين يستحيل معه هلاك الأمة. فإذا جاء الأنبياء وورثتهم العلماء وقاموا بوظيفتهم، فحينئذِ من آمن وأصلح وأتبع سيرتهم فلا خوف عليهم، وأما إذا لم يتبعوا السيرة النبوية ولم يكونوا مصلحين فهناك الخوف والحزن.

أهمية المصلحين

منزلة المصلحين من الأمم منزلة الأطباء والمعالجين..فكما إن الأطباء يعالجون الأمراض الجسمانية فكذلك العلماء يعالجون الأمراض النفسانية المهلكة لها، وبهلاك النفس هلاك الجسد، ومرتبة هؤلاء كمرتبة الروح من الاجسام.

أمراض النفوس وعللها وأسقامها أكثر من أمراض الأجسام..فهي تشمل الحسد، والجهل، والغرور، والكبر، والبخل...أصولها كثيرة فضلاً عن فروعها وجزئياتها. وهذه الأخلاق الرذيلة هي سوس الأمم وموجب هلاكها. وكما يستحيل أن تبقى أمة بلا معالجين للأجسام، فكذلك يستحيل أن تحيا أمة بدون مطهرين للأخلاق.

وكما إن لكل قرد من الأفراد كياناً مخصوصاً ووجوداً محسوساً، وهو معرّض لآفات كثيرة..كذلك الأمم، فهي متكونة من مجتمع تلك الأفراد المرتبطة بروابط روحية، مثل الدين واللغة والتربية، فإذا أتحدوا في هذه المشخصات الثلاث صاروا أمة من الأمم. وهي كالفرد الذي هو عبارة عن أشياء متباينة وحقائق مختلفة مربوط بعضها ببعض، وهي العظم واللحم والعصب والعروق، قد جمعتها روح واحدة، وصيرتها عالماً محسوساً وشخصاً واحداً، وهي أيضاً عرضة للأمراض الاجتماعية، فإذا قتلت روحها هلكت الأمة، كالفرد تماماً.

وهذه العلل والاسقام التي تعرض للأمم تنشأ من عدم المصلحين فيها وأهمالهم الاصلاح الذي هو فريضة على كل انسان كل بحسبه..(كلكم راعٍ وكلكم مسؤول).

تنشأ المفاسد من جهلاء ناقصين عقلاً، فيهملون العلماء أصلاحهم، ثم يتسع الخرق شيئاً فشيئاً حتى يعم البلاء.

الله أعطى الإنسان مواهب كما ابتلاه بمثالب، وجعل تلك المواهب درء للمثالب، فإذا أقتصر على الثانية أنعكس الأمر وهلكت الأمة بتكاسل زعمائها ومصلحيها.

القضاء على الأعمال المنكرة

في مثل هذه البلدة التي هي مركز العلم والتقى والصلاح، والتي هي مطمح أنظار العالمين، تقوم فيها مثل هذه البدع التي لا يقر عليها شرع ولا عرف..يقوم فيها بعض الجهلاء فلا يردعون، تعم الرزية والعقلاء ساكتون عن مثل هذه المنكرات الفظيعة!..مثل هذا الحرم المقدّس (ربِّ أجعل بيتي حرماً آمناً) يصير حرماً مخيفاً يخافه كل متستر من بلاء يفع عليه!.

هذه الأعمال الفظيعة والمنكرات المخزية، التي يطغى شرها وينتشر شررها في هذه الأيام، هي التي فككت روح الأخوة الإسلامية وفرقتها.

ولو كانت هناك روح واحدة لأحس كل مؤمن بألم الآخر وبالمنكر الذي يقع على أخيه ولتألم منه، وإذا تألم يتصدى لرفعه,,لكنا نعيش عيشاً فردياً لا اجتماعياً، فإذا نزل بأحدنا مكروه لا نحس به ولا نتصور أنه سيقع علينا، وهذه الأحوال والمصائب هي التي أوصلتنا كافة إلى هذه الحال من الضعف، فهضمت الحقوق وسلبت العزة، ولم تبق لنا حرمة.

ولكن كل هذا البلاء وهذا العناء وهذه المصائب التي ترد علينا ليس الملوم فيها غير أنفسنا [إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ].

هل علمتم بما جنيتم..فمظلومون أنتم وأنتم الظالمونا؟!.

أنا أترصد وأترقب سير الأمور. وقد رأيت عياناً محسوساً إن الكتاب الصادر في العام الماضي، والذي يقول (هؤلاء سبأية ساسانية، أزيحوهم وأكسحوهم من العراق، لا تعطوهم شيئاً من الحقوق)..اليوم أرى عياناً أنهم أخذوا يطبقون تلك النظريات ويسيرون عليها..ولكن من ذا يحس ويعمل للمستقبل؟!.

نحن نشتغل، ولكن شغلنا بمثل هذه الأمور التافهة من (الطرقات) والكبائر والإفتراء على الله والنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم) والزهراء (عليها السلام)، فتؤذي طلاب العلوم المهاجرين عوض أحترامهم وأكرامهم، وفي الحديث القدسي (من آذى لي مؤمناً فقد بارزني بالمحاربة)، مستعدون لنشتغل بمثل هذه الأمور..أما من جهة ما يجري على إخواننا وأولادنا من البلاء، وقد امتلأت منهم السجون، فذاك أمر لا ندري به ولا نتساءل عنه.

حدثني أحد وجهاء الحلة يقول: الحلة أصبحت هي المحبس والمسجن العام في الفرات، ولهذه السجون صورة مهولة من كثرة المسجونين، ولكن قف على سطح السجن ونادِ: يا نصراني (لا جواب)، يا يهودي (لا جواب)، يا صبي (لا جواب)، يا جعفري (مئات وألوف من الأجوبة)!!..فأهل الجنايات والحبوس كلهم منّا. وباليقين ليس كلهم أهل جرائم، بل قسم منهم أبرياء وآخر جناة، ووزر كلا القسمين على مجموع الأمة.

أما الجناة فحيث إن الأمة قد عدمت المصلحين الذين يرشدونها فتركوهم وأهملوهم أمرهم، فأرتكبوا الجنايات ووقعوا في مهاوي العقوبات. وأما الأبرياء الذين ظلموا وحبسوا لأغراض وهوى في النفوس فوزرهم علينا، لأنا لسنا بأمة تدفع الضيم بعضها عن بعض، فيأتي الذئب يفترس هذه النعجة والأخرى والثالثة...وهكذا، ولا دافع ولا مانع. أليس الذنب علينا؟ أليست البلية سوف تصل إلى كل منّا؟.

ذهب الإيمان من صدورنا فذهبت العزة والنخوة من رؤوسنا والله سبحانه يقول: [وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ]. ولكنا خنعنا فصرنا أذلاء.

يقول أمير المؤمنين (عليه السلام) في نهج البلاغة: (إن أمرأ يمكن عدوه من نفسه، يهشم عظمه ويعرق لحمه ويمتص دمه، لبادي الوهن ضعيف ما ضمت عليه جوانح صدره. أنت فكن ذاك، وأما أنا فدون أن أعطي ذلك من نفسي ضرب يطير منه فراش الهام وتطيح منه السواعد والأقدام).

ولكن أيرجى فينا الصلاح؟..هيهات!.

والله لا يرجى الصلاح وأمرنا
 

فوضى وشمل المصلحين ممزق
 

ماذا يرد الظلم عنك: أزفرة؟
 

أم حسرة؟ أم عبرة تترقرق؟
 

لا تلجأن إذا ظلمت لمنطق
 

فهناك أضيع ما يكون المنطق
 

 

أنت ظلمت بالقوة، وبالقوة يمكنك إزالة الظلم. وليست القوة إلاَّ اتحادكم وطرح الأحقاد التي هي على غير طائل فيما بينكم، وقد صرتم غنيمة للأجانب. حالنا حال الأغنام تماماً..كل يوم الجزار يسحب قسماً منها والباقي ساكنون لاهون بالعشب والمرعى، لا يدرون ما سيجري بهم غداً.

أيها الناس!

نعود إلى ما كنّا فيه:

الله يقول: [وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى]..أسرعوا في الاصلاح وإلاَّ هلكتم، ولا أقول ستهلكون، ولكنكم هلكتم..وأنا الناصح لكم، ولا ينبئك مثل خبير.

 

أليس من العار والخزي أن تشتغلوا بمثل هذه التوافه وأنتم في قعر ظلمات الظلم؟!..في صحن الأمير تهتكون حرمات الله!.

أيها الناس!

أعلموا ــ وأنا المسؤول عنكم أمام الله ــ إن اعمالكم في تاسع ربيع كلها حرام، وضرب (الطرقة) أعظم من شرب الخمر..ضارب الطرقة كبائع الخمر! فحاربوا هذه الأعمال وأشباهها مثل أذية المؤمنين. من آذى مؤمناً فقد انقطعت العصمة بينهما، وإذا أنقطعت العصمة بينه وبين المؤمنين أنقطعت صلته بالله، وعند ذلك الويل والثبور. لا يكفيكم فعل هذه المنكرات المخزيات حتى صرتم تنسبونها إلى الله ــ جلَّ شأنه ــ وإلى الشرع الشريف [وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ].

تكذبون على الله وتقولون هذه (فرحة الزهراء)!!.

أيها الناس!

قمت بينكم في العام الماضي وارشدتكم، وأشكركم، ويشكركم الحق، حيث أطعتم وأمتثلتم. وأرجو أن كونوا في هذا العام أشد منكم في العام الفائت في ترك هذه المحرمات.

هذا مشهد أمير المؤمنين (عليه السلام) أسد الله وأسد رسوله، وباب مدينة العلم والتقى. إلا يجب أن يكون من أطهر البقاع وأنقى المشاهد؟.

الشيبة يذكرون أن أحد الولاة كان محباً لأهل البيت، وجاء للنجف مرة، وأمر أن تنزع الأحذية في باب الصحن، ومنع البصاق والتدخين داخله، ومضى زمن على ذلك. هؤلاء رجال من العامة، أنظروا كيف يقومون بالحرمات، ونحن الشيعة نضرب الطرقات قرب الرأس، ونحرق الأموات. مائتا جاهل يعبثون وأكثر من 30 ألف نسمة لا يتصدون لردهم.

أنا لا أمنعكم من الأنس والسرور، فإن هذه الأيام أيام أنس وفرح، أيام المولود النبوي المبارك الذي أرسله الله رحمة للعالمين...ولكن ليس السرور بضرب الكبائر والطرقات وإيذاء المؤمنين، بل بعقد الولائم والمجالس، وعمل النكات الهزلية الأدبية، وقراءة مدائح النبي وأهل بيته (عليهم السلام).

ما يستحون من الله ويريدون رحمته!..ليلة الوفاة، وفاة سيد الأنبياء، يضربون الطرقات. الوزر عليكم جميعاً أيها الناس!..هذا يوم ولله يوم آخر! الغيرة مسلوبة من الخلق، ولو كانت هناك غيرة لما استعبدوا وذلوا. يقولون أننا أكثرية..ولكن ماذا تفيد الأكثرية..أكثرية الغنم مقابل مدية الجزار؟!.

إصلاح معدوم وصلاح مفقود.

أين المصلحون؟ أين أحراركم؟ أين صلحاؤكم؟…لو كان هناك إصلاح لما انحطت الهيئات الاجتماعية والفردية كلها إلى هذه الدرجة من التعاسة. الآية الشريفة تقول [وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ].

نصائح وعبر

أيها الناس!

الله قيضني لأتمام الحجة عليكم أن أرقي المنبر مرة في كل عام على الأقل، كي أنذركم وأحذركم من الطوارئ والرزايا، وانتم لا تعرفونها، وأنا أراها بدقيق النظر وثاقب الفكر والبصر.

أجمعوا صفوفكم..وحدوا كلمتكم..اعلموا اعمالاً منظمة بقيادة كبراء الأمة، لندفع ما أحاط بنا من الذل وسقوط الشرف الذي صيرنا فقراء خانعين متفرقين، وأصبح غيرنا متنعماً بأموالنا في القصور الشاهقة والجنائن المؤنقة. أصبحنا فقراء اسراء في بلادنا وكل ذلك من انفسنا. فوضى..فوضى في كل شيء..متفرقين في كل ناحية!.

لا تصلح الناس فوضى لا سراة لهم
 

ولا سراة إذا جهالهم سادوا
 

 

لا زعامة ولا حشمة بسيادة الجهّال، فيجب أن تبحثوا عن اناس شفوقين عليكم، تنقادون لأرشاداتهم وتعاليمهم لينقذوكم من هذا البلاء.

السجون مملوءة منّا، والضرائب والضربات متوالية علينا، ونريد أن نكون محترمين، وأن تدفع إلينا حقوقنا..وذلك لا يكون بالالتماس.

الحق يؤخذ ولا يعطي...إذا لن تأخذوا الحق بالقوة لا تأخذوه بالألتماس والمروة. الأمة التي تمَّ بينها الوئام يستحيل أن تذل وتضام. أما الظلم والضيم فهما لكل أمة متشتتة متفرقة.

سيد الشهداء علم كل الدنيا، لا خصوص الشيعة، طريقة الإباء والعز والشرف والشهامة. فعل فعلاً فريداً من نوعه ليعلم شيعته الإباء والتمسك بالمبادئ المقدسة، ولكنا تركنا اللباب وأخذنا القشور، واقتصرنا على النوح واللطم والبكاء. أنا لا أقول لا تلطموا، بل أقول: لا تقتصروا على القشور والظواهر وتتركوا اللباب والجواهر.

الحسين (عليه السلام) لم يكن فقيراً ولا بائساً ضعيفاً، بل كانت جميع أسباب النعيم والثروة متوفرة عنده حاضرة لديه، ولكنه فادى بكل ذلك في سبيل الشهامة وعدم الرضوخ والذل.

محمد بن بشر الحضرمي تألم لما أسر ولده في الري، فإذن له الحسين بالذهاب لفداء ولده، ولكنه أبى، فقدم له الحسين خمسة ثياب كل ثوب بقيمة مائتي دينار ذهب، وسقى الحر، وألف فارس وألف فرس ماء، مع أنه كان في بادية هيماء، لا ماء فيها ولا كلاء.

أين ذهبت تلك المغازي؟..أفهل كان قصده من شهادته اللطم والبكاء؟.

العرب البائدة قبيلتان: (طسم) و(جديس). تغلبت طسم على جديس وفعلت بها الأفعال الشنيعة وأذلوها، إلى أن اغتصب ملك طسم أمرأة من فتيات جديس، فخرجت على قومها وفي نواديهم تصيح!:

أيجمل ما يؤتى إلى فتياتكم
 

وانتم رجال كثرة عدد النمل
 

فلو أننا كنا رجالاً وكنتم
 

نساء لما كنا نقر على الذل
 

فإن أنتم لم تغضبوا بعد هذه
 

فكونوا نساء للمغازل والكحل
 

 

أمة تعودت على الانخداع بالألفاظ والأقوال، لا توجد فيها نهضة شريفة قويمة، ولا فكرة ناضجة مستقيمة.

هذه أعمال تاسع ربيع كلها محرمة ما أنزل الله بها من سلطان، ولو انكم تشربون الخمر لكان خيراً لكم من هذه الأعمال!! ولكنكم ــ إن شاء الله ــ لا خمر تشربون ولا أفعال محرمة تفعلون. أنتم بنظر أسد الله وفي جواره، أنتم بضربكم (الطرقات) تضيعون الأموال وتؤذون الأحياء والأموات، فما هذه اللذة؟.

أي أمة من الأمم الوحشية تعمل مثل أعمالكم هذه؟..أنظروا البدو، فهل عندهم مثل هذا؟.

نحن في بلد هو مهجر العلم ومحط رجال رواد المعارف، أفيليق أن تكون أفعالنا فيه مثل هذه؟ لا حياء، لا غيرة…والتقصير مني ومن أمثالي، وما هناك من مصلح، بل كلنا مشغولون بمصالحنا.

وظيفة العالم لا تنحصر في الفتوى فقط، بل أعم وظائفه الارشاد والإصلاح [لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ] والعلماء ورثة الأنبياء والأوصياء، فيجب أن يقتدوا بهم في التزكية والتهذيب.

أيها المؤمنون!

طال المقام، فأختم كلمتي بشيء ربما يؤثر عليكم:

في مثل هذا اليوم أنفتحت أبواب المصائب على المسلمين، لأن الرحمة العامة التي أرسلها الله لحمل مشعل الإصلاح ارتفعت..ارتفعت تلك الرحمة عن البشر في مثل هذا اليوم، فما اجدرنا بالحزن والبكاء فيه! لأنه يوم كان فيه مصدر مصائبنا وارتفاع الخير والبركات عنّا.

اذكروا نبيكم على الفراش والأعمال تدبر. أريد أن أشير لكم إلى معنى كي تعرفوا عمّا للتدابير والمؤامرات من التأثير في تحوير الحقائق..أربعة أو خمسة تآمروا ودبروا، وعلى الحق تعاونوا وتناصروا، وعقدوها عقدة لا تحل. أفلا يوجد فيكم أربعة أو خمسة يدبرون للحق ويتعاونون للعدل ويتناصرون على دفع الضيم؟..ولكنكم عند

 

قدوم تاسع ربيع أرقصوا في هذه الزاوية من الصحن وتضاربوا!!وأعمالكم هذه والله معدومة حتى عند الوحوش والبهائم!!.

غفر الله لنا ولكم. والسلام عليكم.

في ذكرى ميلاد أمير المؤمنين علي (عليه السلام)

خطبة الفقيد الراحل (كاشف الغطاء) في مولد الإمام أمير المؤمنين علي (عليه السلام) في 13 رجب 1368هـ في (حسينية باب السيف) في (الكرخ) ببغداد.

ققق

[رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي].

يعز عليَّ ــ أيها الأعزة ــ أن أحل مجلسي لأنتهاز هذه الفرصة الثمينة وإلقاء ما يناسب هذه الليلة المباركة وهذا الحفل الكريم مع أني في دور النقاهة..منهوك القوى، خافت الصوت، ضيق الصدر، رهين العلة والمعالجة. ومن يقول عن مقال له تواضعاً؛ هذا جهد المقل، أو هذه نفثة مصدور..فأنا أقولها حقاً لا تنازلاً، والعيان أصدق شاهد على ذلك.

نعم! نبتدئ كلمتنا متفائلين بقوله ــ تعالى ــ [فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَقُلْ رَبِّ أَنزِلْنِي مُنْزَلاً مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ]. وقال: [وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِاِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ].

هذه السفينة في الزمن الأول والعهود المتوغلة في القدم أول مركب نجا به جميع من على وجه الأرض من المؤمنين المستضعفين، تخلصوا من سطوة الغاشمين وسيطرة الظالمين، بعد الجهود الطائلة واتمام الحجة من شيخ الأنبياء زهاء ألف سنة. ويعد أن عامت السفينة في أمواج الطوفان الذي غمر هذه الكرة بأجمعها سنة كاملة [قِيلَ يَانُوحُ اهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ].

نعم! هذه السفينة هي السفينة التي شبه رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم) أهل بيته بها في الحديث المشهور بين الفريقين: (أهل بيتي كسفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلف عنها هلك وهوى).

ومن يتدبر حال العصور التي قبل الإسلام وما كان العالم فيه، لا جزيرة العرب فقط، بل حتى الدول العظمى في تلك القرون، من الفرس والروم..من يتدبر ما كانت فيه تلك الأمم من الجهل والجور والاستبداد، يعرف طوفان البلاء الذي غمر الدنيا يوم ذاك، ويعرف شدة الحاجة إلى من ينقذ ذلك الخلق البائس من تلك الغمرات.

فبعثت العناية الأزلية المنقذ العظيم حبيبه محمد رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم)..ولكن قبل أن يتم رسالته وينقذ عموم البشر من ذلك الشر الذي توغل في النفوس وأستفحل من عهد قديم..قضت الحكمة الغامضة أن يعود إلى الملكوت الأعلى الذي جاء منه.

واكمالاً للرسالة، وإبلاغاً للغاية، أشار إلى من يتم بع الفرض، ومن تقوم به الحجة، فقال قبل رحلته بقليل: (إني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي أهل بيتي). وبهذا أتجه أن يصدع الوحي بقوله ــ تعالى ــ : [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي].

وجد نبي الرحمة، عند قرب رحيله، إن العالم لا يزال بعده مغموراً بطوفان الجهالة، والضلالة لا تزال مستحكمة، وان لابد لهذا الطوفان من سفينة تنجي من أراد النجاة، فقال: أهل بيتي هم السفينة. وفي دعاء شعبان: ((اللهم صلي على محمد وآله، الفلك الجارية في اللجج الغامرة، يأمن من ركبها ويغرق من تركها..)).

ولايته السفينة فأركبوها
 

نجا والله من ركب السفينا
 

 

بيد أن سفينة نوح ما نجت من الطوفان ورست على الجودي إلاَّ بمحمد( صلى الله عليه وآله وسلم) وآله (عليهم السلام)..كما أشار إلى ذلك العباس بن عبد المطلب في مقطوعة تنسب له يمدح بها أبن أخيه محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم) فيقول:

من قبلها طبت في الظلال وفي
 

مستخصف حيث يخصف الورق
 

ثم هبطت البلاد لا بشر
 

أنت ولا نطفة ولا علق
 

بل ملك تنقذ السفين وقد
 

الجم نوحا وقومه الغرق
 

 

صانع السفينة الأولى شيخ المرسلين، وواضع السفينة الثانية سيد المرسلين.

السفينة الأولى خشب يجري على الماء، والسفينة الثانية نور هبط على الأرض من السماء..واضعها محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم)، وربانها ومسيرها أخوه وصنوه الإمام الذي أحتفلت هذه الجمعية (جمعية المقاصد الخيرية العراقية) بذكرى ولادته في هذه الليلة المباركة [إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ].

ولا نستطيع في مقامنا هذا، أن نأتي على اليسير من فضائل هذا الإمام العظيم فضلاً عن الكثير. ومن ذا يقدر على احصاء نجوم السماء من مناقبه..شجاعته، وبلاغته، وزهده، وسوابقه في الإسلام، التي هي كلمات الله..[ وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ]. [قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي].

إنما المناسب في المقام هو التعرض لولادته في هذه الليلة المباركة. ونتعرض لشأن واحد من شؤون ولادته (عليه السلام) وهو ولادته في الكعبة على أشهر الروايات، ولعل غيرها من مدسوسات النواصب، الذين يريدون أن يستروا ضوء الشمس بأكفهم.

وولادته في الكعبة طفحت بها الكتب ونظمتها الشعراء حديثاً وقديماً، وآخرهم (عبد الباقي) الشهير في مستهل قصيدة له:

أنت العلي الذي فوق العلى رفعا
 

ببطن مكة وسط البيت قد وضعا
 

 

وهي منقبة لم يشاركه فيها أحد في الإسلام.

وقد ذكروا إن مريم لما جاءها المخاض بعيسى (عليه السلام) آوت إلى بيت المقدس لتضعه فيه، فنوديت: أخرجي يا مريم! فهذا بيت العبادة لا بيت الولادة!..وفاطمة بنت أسد لما أحست بالطلق وهي في الكعبة، أنسدت ولم تقدر على الخروج حتى وضعت علياً (عليه السلام).

ولعل في هذه الحادثة الغريبة أسرار ورموز أجلها وأجلاها إن الله سبحانه كان يقول: أيتها الكعبة! أني سأطهرك من رجس الأوثان وعبادة الأوثان والانصاب والأزلام بهذا المولود فيك.

وهكذا كان...فإن النبي دخلها عام الفتح والأصنام منضودة ومعلقة على جدرانها، ولكل قبيلة من قبائل العرب صنم...فأصعد علياً على منكبيه، وصار يحطمها ويرمي بها إلى الأرض، والنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: (جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا).

وقد نظم (الشافعي) هذه الفضيلة في مشهورة تنسب له يقول في آخرها:

وعلي واضع أقدامه
 

في محل وضع الله يده
 

 

فإن النبي كان يحدث عن المعراج قائلاً: (إن الله ــ عزَّ شأنه ــ وضع يده على كتفي حتى أحسست بردها على كبدي).

وفي ولادته رمز آخر لعله أدق وأعمق.. وهو أن حقيقة التوجه إلى الكعبة هو التوجه إلى ذلك النور المتولد فيها. ولو أن القصد مقصور على محض التوجه إلى تلك البنية وتلك الأحجار لكان أيضاً نوع من عبادة الأصنام ــ معاذ الله ــ ..ولكن التناسب يقضي بأن البدن، وهو تراب، يتوجه إلى الكعبة التي هي تراب، والروح التي هي جوهر مجرد تتوجه إلى النور المجرد. وكل جنس لاحق بجنسه..النور للنور، والتراب للتراب. وإلى بعض هذا أشار بعض شعراء الفاطميين إذ يقول عن الإمام:

بشر في العين إلا انه
 

من طريق العقل نور وهدى
 

جلَّ أن تدركه أبصارنا
 

وتعالى أن نراه جسدا
 

فهو في التسبيح زلفى راكع
 

سمع الله به من حمدا
 

تدرك الأفكار منه جوهراً
 

كاد من إجلاله أن يعبدا
 

فهو الكعبة والوجه الذي
 

وحّد الله به من وحدا
 

 

وهذا الطراز من الشعر وإن كان فيه شيء من الغلو، ففيه كثير من الحقيقة، وفيه لمعات من التوحيد.

نعم! نتوجه بأبداننا في خلواتنا إلى الكعبة، وبأرواحنا إلى النور الذي أشرق وأضاء فيها..نتوجه إليه فنجعله الوسيلة إلى الله، كما قال ــ عزَّ شأنه ــ : [اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ] نتوجه إليه كي يوجهنا إلى الخير والسداد. فالتوجه منّا إليه والتوجه منه لنا.

نعم! كتاب الله والعترة سفن النجاة والعروة الوثقى التي لا انفصام لها، ولا يضل ولا يزل من تمسك بهما..ولكن ليس التمسك قول باللسان وثرثرة بالألفاظ...

التمسك عقيدة راسخة وأعمال صحيحة، بنية خالصة، وقلب طاهر سليم، وأخلاق فاضلة...التي هي روح الدين وجوهر الإسلام، والتي طفح بها الكتاب والسنة.

ولكن أين نحن من مراحل هذه الفضائل والأخذ بهذه الوسائل؟!…أبهذا التفسخ الأخلاقي والتفكك الاجتماعي ونبذنا الكتاب والسنة رواء ظهورنا نريد أن نعد أنفسنا من المسلمين وبالعروة الوثقى متمسكين؟!…كلا! وكلا!…ولو كان لنا من الإسلام ذرء أو ذرة لما سقطنا هذا السقوط الشائن ولما فشلنا هذا الفشل المخزي.

أمتحنت (فلسطين) بمحنة الصهيونية منذ أربعين سنة، وما زالت الصهيونية تتقدم والعرب والإسلام تتأخر. وقد أقتحمت معاركها الأولى، ولم أزل منذ عشرين سنة، أقرع المنابر وأقرع الأسماع بالخطب النارية، وأنشر المقالات الملتهبة في الصحف وغيرها، وأهيب بالمسلمين وأدعوهم إلى الوحدة وجمع الكلمة، وإن الإسلام بني على دعامتين (كلمة التوحيد، وتوحيد الكلمة)، وأصرخ الصرخات الداوية أن يصلحوا الوضع بينهم لإنقاذ فلسطين الدامية...وكنت من زمن بعيد أبث شجواي في أبيات منها:

نهضت فقيل أي فتى فلما
 

خبرت القوم طاب لي القعود
 

وأني بعد مجهدة وقومي
 

كضاربة وقد برد الحديد
 

وحيد بينهم ولعل يوماً
 

عصيباً فيه يفتقد الوحيد
 

لنا في الشرق أوطان ولكن
 

تضيق بنا كما ضاقت لحود
 

نقيم بها على فقر وذل
 

ونظماً، لا يساغ لنا ورود
 

مواعيد السياسة بينات
 

تكيد بها السياسة من تكيد
 

وعود كلها كذب وزور
 

فكم والى ممَ تخدعنا الوعود؟
 

إذا ما الملك شيّد على خداع
 

فلا يبقى الخداع ولا المشيد
 

إذا لم تبتن ملكاً صحيحاً
 

فلا تغني الجيوش ولا البنود
 

 

ومن هذه الشعلة ثلاثة أبيات ذكرتها في مقدمة الجزء الأول من مؤلفنا (الدين والإسلام) الذي طبع في مطبعة العرفان قبل 38 سنة، وهي:

فلا طلعت عليَّ الشمس يوماً
 

إذا عن مجد قومي لا أذود
 

أموت وقد بلوت النفس جهداً
 

كما تحمى عرينتها الأسود
 

كذلك فلتكن للعرب نفسٌ
 

وإلاَّ ما الحياة وما الوجود؟!
 

 

نعم! كنّا نعتز بذكر العرب ونرتاح بالأنتساب إليهم..ثم دارت رحى الزمان، فصرنا نخجل من ذكر العرب والعروبة وما يشتق منها، ونود لو كنا من (الخزر) و(البربر) ولم نكن من هذه الأمة، وأنطبق علينا تماماً قول القائل:

ورثنا المجد عن آباء صدق
 

أسأنا في ديارهم الصنيعا
 

إذا الحسب الرفيع تواكلته
 

بناة السوء أوشك أن يضيعا
 

 

(فلسطين) قلب البلاد العربية تحقيقاً، تحف بها ــ كالهالة ــ مصر وسوريا ولبنان والأردن والحجاز..فإذا هلك القلب فما حال بقية الأعضاء؟!..ولا شك أن الوضع إذا بقي على هذا الحال فلنا فلسطينات أخرى في زمن قريب ــ لا سمح الله ــ !.

ألا يخطر على بالكم قول شاعر الفردوس الضائع ــ الفردوس العربي ــ حيث قال:

حثوا أرواحكم يا أهل أندلس
 

ليس البقاء بها إلاَّ من الغلط
 

من جاور الشر لا يأمن عواقبه
 

كيف الحياة مع الحيات في سفط
 

العقد يبتر من اطرافه وأرى
 

عقد الجزيرة مبتوراً من الوسط!
 

 

مصيبة المسلمين عظيمة...وأعظم منها: إن المصائب من شأنها أن تنبه الشعور، وتعطي لأهلها دروساً وعبر، وتجمع الشمل، وتوحد الكلمة...أما مصيبتنا بفلسطين فما صنعت شيئاً من ذلك، وتلقاها زعماء العرب وقادتها الذين ذبحت فلسطين على مذبح مطامعهم الدنية وجشعهم الخبيث...نعم! تلقوها برحابة صدر وبرودة دم..وما كفاهم ذلك حتى مكنوا اليهود ــ طائعين ــ من البقية الباقية من أراضي فلسطين التي يسكنها الألوف من عرب المسلمين، وجعلوهم عبيد اليهود، يعطون الجزية عن يد وهم صاغرون.

وكانت أهالي فلسطين تأمل من ملوك العرب نصرهم...ويا ليتهم كفوها شرهم، ولم يكونوا سماسرة للمستعمرين ومنفذين لأرادتهم..وسوف يعلمون كيف تدور الدائرة عليهم! [ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمْ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ].

نعم! كل ما أصابنا إنما هو من محاربتنا للدين، ونبذ القرآن، وترك العمل بتعاليم الإسلام.

وما أفسد هذا الشباب الخليع المستهتر إلاَّ هذه المدارس التي جعلت الدين قشراً لا لب فيه، وجسداً لا روح له...

ولكن قد أحيي ميت الأمل ما بشرني به معالي الوزير (النجيب الراوي)(1) ــ حفظه الله ــ من أنه جعل في المدارس ــ أو سيجعل قريباً ــ للدين والقرآن درجة وأمتحاناً، وينتخب المعلمين من ذوي الثقافة الدينية والعفة والأمانة، وفقه الله لهذه الخدمة الجليلة، وإنه الجدير بمثلها، ولا ترتجى إلاَّ من مثله.

أيها المسلمون!

عودوا إلى ما كان عليه أسلافكم تعد لكم عزتكم. أكرموا القرآن بالعمل به كي يعيد لكم كرامتكم. أترجون صلاحاً أو إصلاحاً من هذا الشباب الواهن المنجرف في تيار شهواته؟!.

أصل بليتنا ــ معاشر المسلمين ــ هو الاستعمار..وكل رزية وبلية فالاستعمار أصلها وفرعها، ومنبعها ومطلعها، وما جرَ علينا بلاء الاستعمار، ومكنهم من نفوسنا وأموالنا وأولادنا وأخلاقنا وتقاليدنا، إلاَّ زعماؤنا وقادتنا.

وملوكنا قد أسلمونا للعدى
 

لله درَّ ملوكنا ما تصنع!
 

وما أفسد الإسلام إلاَّ عصابة
 

تأمر نوكاها ودام نعيمها
 

واضحت قناة الدين في كف فاجر
 

أقيم لأصلاح الورى وهو فاسد
 

 

وهل يستقيم الظل والعود أعوج؟!..يقولون (بالزبيبة عود) أما قضيتنا؛ ففي الزبيبة عمود كل أحد يراه ويشكو إلى الله.

لمثل هذا يذوب القلب من أسف
 

لو كان في القلب إسلام وإيمان
 

 

أيها المسلمون!

أحفظوا أولادكم من هذا الشر المستطير والداء الذي يفسد دينهم ودنياهم..أنشئوا لهم مدارس أهلية مثقفة ثقافية دينية تتلاءم مع روح العصر، واستحضروا لهم معلمين من أهل الصلاح والفضيلة، فأن أهم واجب على مدارس أهلية أو حكومية جعل الدروس الدينية في الدرجة الأولى من الأهمية، وتجعل لها أمتحاناً وشهادة.

ولا يتسنى للأهليين انشاء المدارس الكافية للتعليم إلاَّ بتشكيل الجمعيات الخيرية، كي تتعاون على هذه الأعمال الجليلة والمشاريع الحيوية.

وهذه (جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية) بادرة خير من أهالي الكرخ، وهي بذور صالحة يرجى بتوفيقه ــ تعالى ــ وهمة المؤسسين لها ومعاونة أخوانهم لهم أن تنمو نماءً حسناً وتثمر ثمراً جنياً، يجدون فيها الهدى والهنا والخير والبركة في أنفسهم وأولادهم وأموالهم.

ومن المعلوم ان الجمعيات مثل كل كائن يحتاج إلى نموه وبقائه إلى غذاء، وغذاؤها المال..فلا تتهاونوا في التعاون والمساعدة، كل حسب أمكانه ومقدوره..والقليل من الكثير كثير. فتعاونوا وأجتمعوا، فإن يد الله مع الجماعة، والإجتماع خير وبركة.

وآخر وصيتي ونصيحتي أقولها بدء وعوداً، ولا أخص بها المسلمين، بل أقول:

أيها البشر! عليكم بالقرآن، ففيه سلامتكم، بل سعادتكم..ولو عمل الناس وأخذت الدول بتعاليمه لأستراحت البشرية من هذا التكالب والتحارب، وعرف كلٌ حده وحقه.

 

القرآن أجعلوه الجامعة العربية والوحدة الإسلامية، وتجنبوا الخلافات المذهبية والخصومات الطائفية، وليعمل كلٌ على مذهبه في فروعه بغير جدال ولا خصومة.

وأقصى الأماني والآمال أن تتوحد الحكومة والأمة، فتكون الحكومة كأب بار بالرعية، والرعية كأبناء في معاونة الحكومة، كي يسعد الجميع، ويكون العراق كما يقال عن (جمهورية أفلاطون) و(المدينة الفاضلة) للفارابي.

وأهم ما يجب على المراجع المسؤولة: أنتخاب الموظفين المهذبين، الذين لا يقطعون الصلة بين الحكومة والرعية بسوء تصرفاتهم، ولا يجعلوا الحكومة كذئاب مفترسة لهذا القطيع الوديع بأستعمال الضغط الفظيع، من الغطرسة والكبرياء والشدة إلى الرشوات وارتكاب المنكرات.

حاسبوا انفسكم ــ أيها الناس ــ قبل أن تُحاسَبوا.. واجعلوا نصب أعينكم المسؤولية العظمى..[ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ].

وسلام على المرسلين والحمد لله ربِّ العالمين

خطبة الإمام كاشف الغطاء

في المؤتمر الإسلامي بباكستان

نص خطاب سماحة الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء في مؤتمر علماء الإسلام بباكستان يوم السبت 19 جمادي الأولى سنة 1371هـ الموافق 16 فبراير سنة 1952م:

ققق

[رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا].

قال ــ سبحانه وتعالى ــ : [هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ].

أشارت هذه الآية الكريمة إلى حال الأميين قبل الإسلام وبعده. والمراد بالأميين؛ الجاهلين من العرب وغيرهم من الأمم. وقد كان العالم، يوم ذاك، بأجمعه في الحقيقة أمياً، يتخبط في ظلمات الظلم والجهالة والغي والعمى. فأشارت الآية إلى هذه الحالة، وعبرت عن سوء هذا الحال بأوجز عبارة وأجمعها لمعاني الشقاء، وهي قوله ــ تعالى ــ: [وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ].

كان البشر عموماً كسفينة في بحر عجاج تتقاذفه الأمواج، وكان العرب بالأخص في أقصى مراتب الشقاء، يعبدون الأوثان، ويعتدون بالأثم والعدوان..يغزو بعضهم بعضا، ويثب بعضهم على بعض..يقتلون أولادهم خشية أملاق، ويدفنون بناتهم حال الحياة حذر الانفاق..عصابات متضاربة، وقبائل متحاربة..لا علم ولا ثقافة، ولا تفكير ولا تدبير، ولا صناعة ولا زراعة..

لا نظام ولا وئام..عصابات وعصبيات..تسودها القبلية، وتقودها الأقليمية، ويحكمون حكم الجاهلية..[ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ حُكْمًا..].

وبينما هم ــ أي العرب وجميع البشر ــ يتخطبون في حنادس هذه الأهوال والأحوال، من التعاسة والشقاء، والطيش وسوء العيش..إذ أشرقت شمس الاسلام على الإنام من أفق العناية الأزلية وسماء الألطاف الأحدية..جاء الإسلام إلى الأنام، ففتح الأسماع وكانت صماء، ونور الأبصار وكانت عمياء، وصقل القلوب بالنور وكانت ظلماء، وبدل كل وضع سيء بالأحسن [بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ].

وكان أول بذرة غرسها وقاعدة رصينة أسسها قاعدة (التوحيد للخالق، وتوحيد الحقوق للمخلوق): (الخلق امام الحق سواء)، (لا فضل لعربي على عجمي)..سحق العنصريات ومحق العصبيات، وأباد نعرات الطائفيات، وصار يسقي هذه البذرة ــ بذرة التوحيد ــ ويتعاهدها وينميها قولاً وفعلاً، سراً وجهراً، فكراً وذكراً..[ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ]. (أيها الناس! كلكم لآدم وآدم من تراب، لا فضل لعربي على عجمي إلاَّ بالتقوى).

ولما وجد ــ سلام الله عليه وعلى آله ــ إن داء التفاخر بالأنساب صار داء مستحكماً في ذهنية العرب، بل وعموم الأنام تلك الأيام، صار يعيد ويبدي، يكرر التحذير من هذا الداء، فيقول: (يا بني هاشم! لا يأتيني الناس بأعمالهم وتأتوني بأنسابكم تقولون نحن ذرية محمد).

ثم حقق ذلك في العيان عملياً، وأوجده خلقاً سوياً..فوحّد وآخى بين (صهيب الرومي وبلال الحبشي) و(سلمان الفارسي وأبي ذر العربي).

وقد شاعت وانتشرت كلمتنا حيث قلنا قبل عشرين سنة: (بني الإسلام على دعامتين: كلمة التوحيد وتوحيد الكلمة). فكان هذا الدين دين التوحيد، دين الوحدة، دين المساواة، دين محق العصبيات وسحق العنصريات، ونبذ القوميات وعنعنات الطبقات، والتفاخر بالأنساب والتعالي والتفوق بالآباء والأمهات.

ضرب صاحب الرسالة، منقذ البشرية، رسولنا الأعظم، أعلى مثل لذلك..فزوج بنت عمّته زينب، وأمها بنت عبد المطلب سيد البطحاء، من غلامه ومملوكه وعتيقه زيد بن حارثة، فقضى بهذا على سيئتين من سيئات الجاهلية وعاداتها: سيئة التبني، أي البنوة المصطنعة [مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ] وسيئة التعالي بالأنساب. ولم يجعل الناس طبقات عالية وسافلة بغير العلم والتقوى.

ومشى أصحابه وخلفاؤه الراشدون على ضوء هذه التعاليم، وألتزموا المشي على هذه السنة والمنهاج. وكلمة الخليفة عمر (رضي الله عنه) مشهورة، حيث قال لبعض أمرائه حين ضربه بسوطه وقال له: متى استعبدتم الناس وقد خلقهم الله أحراراً؟..

وأجل وأجلى من ذلك قضية جبلة بن الأيهم الغساني أحد ملوك الغسانيين في الشام، حين جاء إلى المدينة بأفخم أبهة وأعظم زينة. ورد (يثرب) بموكبه الملكي ليعتنق دين الإسلام. وكان يوم وروده يوماً مشهوداً، وللمسلمين عيداً سعيداً. وبعد أن أسلم وغمر الفقراء بالمنح والعطايا، خرج الخليفة عمر إلى الحج وخرج الغساني بموكبه وبخيله ورجاله، وبينما هو يطوف وضع رجل من غمار الناس رجله على طرف مئزر الملك فأنحل، فغضب الملك الغساني ولطم الرجل لطمة شديدة. فشكاه إلى عمر، فأحضر الخصمين لديه، وسأل المدعى عليه فأعترف. فقال عمر للمدعي: لكَ أن تقتص منه ويلزمه الانقياد لك. فقال الغساني للرجل: أشتري منك اللطمة بألف، فأبى.. ولم يزل يترقى حتى بلغ عشرة آلاف، فأبى الرجل إلاَّ أن يقتص. ولما أحرج موقف الغساني قال: كنت أحسب إن كرامتي بالإسلام تتضاعف وتصان لا أن تسقط وتهان! ثم أستمهل إلى الصباح، وغلس مع موكبه هارباً من الحرم ليلاً، وذهب من فوره إلى قيصر الروم في القسطنطينية (فروق)، فأكرمه وأعطاه أضعاف ما كان يملكه بالشام. ولكنه ندم وصار يأسف ويتلهف على ما فاته من شرف الإسلام، وأنشأ أبياته المشهورة التي منها:

تنصرت الأشراف من أجل لطمة
 

وما كان فيها لو صبرت لها ضرر
 

فيا ليت لي بالشام أدنى معيشة
 

أروح وأغدو فاقد السمع والبصر
 

ويا ليتني لما أصبت بنكبة
 

رجعت إلى القول الذي قاله عمر
 

 

ونحن لا نريد أن نعلّق على هذه الحادثة الغريبة، ولكن محل الشاهد منها بيان صلابة الخلفاء في إلتزامهم تعاليم أستاذهم المنقذ الأعظم مهما كلفهم الأمر وفاتهم من الفوائد الجزيلة.

وأدهش من ذلك مخاصمة اليهودي مع الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) عند عمر، حيث قال له الخليفة: قم يا أبا الحسن وقف مع خصمك! فظهر التغير في وجه الإمام..وبعد انتهاء الخصومة قال الخليفة: يا أبا الحسن! لعله ساءك أمري لك أن تقف مع خصمك اليهودي؟! فقال: كلا! وإنما سائني أنك كنيتني ولم تساوِ بيني وبين خصمي، والمسلم واليهودي أمام الحق سواء.

فهل سمعت أذناك أم رأت عيناك أمة كهذه الأمة وبهذه الأخلاق الفاضلة..ملكوا الشرق والغرب، ودكوا عروش كسرى وقيصر بأقل من نصف قرن..ثم أخذت هذه الروح، روح الوحدة، روح المساواة، روح التوحيد، تضعف وتتضاءل حتى تلاشت، وعاد المسلمون إلى أسوء مما كانوا فيه في الجاهلية..تفرقة في كل أمر، وشتات في كل شيء، وأختلاف وخصام في كل نظام.

ما انسلخ القرن الأول إلاَّ ونشأت المذاهب المختلفة والأفكار المتضاربة. وأول فتنة أصابت الدين في قلبه فتنة الخوارج، ثم اعقبتها فتنة المذاهب: معتزلة، وأشعرية، ومرجئة، وقدرية، وزيدية، وأموية...ومثلها في الفروع: ظاهرية، وحنفية، وشافعية، ومالكية، وحنبلية..أختلاف في الأصول، أختلاف في الفروع، اختلاف في كل شيء.

وصارت سياسة الخلفاء تغذي هذه الخلافات وتقويها كي تستغلها وتعتمد عليها على قاعدة (فرّق تسد)، وصارت الممالك الإسلامية، من عهد بعيد وإلى اليوم، يضرب بعضها بعضاً ويذيق بعضها بأس بعض، حتى أوشك ــ لا سمح الله ــ أن ينطبق عليها قوله تعالى: [قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ].

وانتهز المستعمرون هذه الفرصة فأمتلكوهم واستهلكوهم جميعاً، وصارت الممالك الإسلامية كالفريسة الملقاة في الفلاة تنهشها الكلاب، يأخذ كل واحد منها حصته حسب قدرته وامكانياته.

ثم إن كل دولة من الدول الإسلامية إنما نشأت وتكونت بعنوان أقليمي أو عنصري، كالعراق ومصر وايران والافغان وغيرها.. ولكن هذه الدولة الفتية، الدولة الباكستانية، إنما نشأت بأسم الإسلام، والإسلام أولدها وكوّنها. فالإسلام أبوها وهي وليدة الإسلام ونسله وسلالته. فيا هل ترى إنها ستكون بارة بأبيها، حافظة لعهوده، معيدة لمجده، فتسحق العنصريات، وترعى الأقليات، وتنظر كل رعاياها بنظرة واحدة، وتعامل الجميع بالعدل والحق على السواء، وتأخذ بما رسمه القرآن الكريم والسنة النبوية، وتجعل شعارها (لا إله إلاَّ الله والله أكبر) وتنصر الله فينصرها، وتحفظ القرآن فيحفظها؟!..

وبما إنها نشأت بأسم الإسلام وتقمصت بهذه الروح، وإلاَّ فهي من الهند وقطعة منها…ولكنها أخذت ناحية الروح ورفضت ناحية الجسد المادي، فهي بجسدها العنصري هندية وبروحها السامية اسلامية، وهي ناحية من نواحي التصوف ــ نعم! ولعل من الهند نشأ التصوف ــ ..وبهذه السمة، سمة التقمص بالإسلام، قد أمتازت هذه الدولة عن سائر الدول الإسلامية التي جعلت شعارها وشارتها الناحية العنصرية أو الاقليمية. وهذا هو مستند فتوانا بأنه يجب على كل مسلم مساعدتها ومناصرتها..ولكن إن حافظت على قوانين القرآن ونواميس الإسلام.

فيا أيها المسلمون!

تعلمون حق العلم إنه لا يعود لكم مجدكم وعزكم ومناعتكم واستقلالكم إلاَّ برجوعكم إلى الله والإنقطاع إليه، وأن يصير كل واحد منّا مسلماً عملاً لا قولاً، وحقيقة لا صورة ومجازاً. وكما أن العطشان لا يرويه لفظ الماء ولو كرره ألف مرة، فكذلك لا ينفعنا قولنا (أننا مسلمون) ولو كتبناه على جباهنا ما لم نكتبه في قلوبنا، ونطبق على أحكامه جميع أعمالنا.

وها نحن وجميع أخواننا المدعوين الأماثل قد تحملّنا أعباء السفر ومشقة الغربة، ملبين دعوة أخواننا الباكستانيين، مندفعين بهذا الأمل، راجين أن يكون في هذا المؤتمر بهذه الدولة المباركة، حياة للإسلام جديدة، ونهضة مباركة سعيدة...تنتعش بها الروح الإسلامية التي تؤلف روحاً وحقيقة بين العراقي واليماني والحجازي والإيراني والباكستاني، وتقربهم مهما تباعدوا، وتوحدهم مهما تعددوا..وتخرجنا من هذه الفوضى الضاربة أطنابها علينا، التي جرتنا إلى الاهمال والتسامح بكل شيء حتى في أمور ديننا..نتسامح في الأمور الصغيرة، فتفوتنا المهمات الكبيرة.

نحن نقول (إننا مسلمون) ولكن تاريخنا مسيحي..مسلمون ولكن عطلتنا يوم الأحد..مسلمون، ولكن أكثرنا يتكلم ويتفاهم بالانكليزية..مسلمون، ولكن لا نحسن شيئاً من العربية لغة القرآن العظيم والسنة النبوية ونحسن اللسان الأجنبي.

بلغ بنا الإهمال ــ إننا معشر العلماء كما يقال عنّا ــ ربما نجتمع في المؤتمر للمذاكرة بشؤون الإسلام، وقد نسمع الآذان، ويقول المؤذن (حي على الصلاة) أو (قد قامت الصلاة) فلا نقوم إلى الصلاة..نتجاذب أطراف القيل والقال والتخاصم والجدال.

 

مسلمون، ولا يهمنا شيء من أمور الإسلام كما تهمنا أمورنا الذاتية..مسلمون، ولا يرحم غنينا فقراءنا ولا يعطف أقوياؤنا على ضعفائنا، والله سبحانه يقول: [وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ].

فأين الإسلام؟ وأين شعائره يا كرام؟!.

ولكن..أصبح من امراضنا الإجتماعية أننا نقول ولا نفعل، ونعلم ولكننا مثل من يجهل..[ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ]، ونأمر بالبر وننسى أنفسنا [أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ].

أيها المسلمون!

خذوا عدتكم، وأجمعوا قوتكم، ونظموا صفوفكم..فإن السياسة العالمية السوداء تنذر البشرية عموماً، والعرب والإسلام خصوصاً، بخطر هائل، يأتي على الأخضر واليابس، ويستهلك القوي والضعيف. وهذا الاستعمار الغاشم الذي يتسمى كل يوم بأسم، ويتشكل كل برهة بشكل، ويلبس كل حين لباسا…فيوماً أنتداب، ويوماً حماية، ويوماً وصايا، واليوم أسموه بالدفاع عن الشرق.. العبارات شتى والحقيقة واحدة. وقد رأيتم فضائع أعماله هذه الأيام بمصر وتونس ومراكش والجزائر وغيرها..وقد تخلصت دولة إيران ــ نصرها الله ــ من مخالبه وأنيابه ونوائبه، وما تخلصت إلاَّ بعد عناء وكفاح، وما تخلصت إلاَّ باتفاق كلمتها وتوحيد جهودها وتناصر ملكها وشعبها وحكومتها. فنحن نبارك لها، نسأله ــ تعالى ــ أن يوفق سائر الممالك الإسلامية لهذا الفتح المبين والعز المكين(1).

وأنا أبتهل إلى الحق ــ جلَّ شأنه ــ أن يمنح النصر والإستقلال الصحيح لكل دولة إسلامية، وأن يجعل اجتماعنا هذا مثمراً بالثمرات اليانعة والفوائد النافعة للإسلام والمسلمين أجمعين.

خذوها أيها المسلمون مقالة جامعة، ودعوة لامعة..صدرة حرة من كبد حزين لأب روحاني شفيق عليكم، صهرته المصائب، وحنكته التجارب، وانحلته النوائب، وأبلته الصروف، وتقلبت به الظروف..فقال داعياً: [ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا].

والسلام عليكم ورحمة الله

نداء عام

من الإمام الراحل الشيخ محمد الحسين كاشف الغطاء

تكلّم السيف فأسكت أيها القلم
 

الحرب شبّت فماذا تنفع الكلم؟!
 

 

تكاثرت الكتب والرسائل إلى الفقيد الراحل الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء من العالم الإسلامي والعربي، طالبين منه (رحمه الله) نشر كلمة توجيهية كنداء للمسلمين عن فلسطين في حالتها الحاضرة ومحنتها المتأزمة، وذلك بعد أعلان التقسيم المشؤوم في عام 1947م.

والإمام الراحل كان إمام (مؤتمر فلسطين)، بل إمام المسلمين في عامة أقطار الأرض..وهو خطيب فلسطين، وخطبته التاريخية في القدس، التي طبعت عدة مرات وبعدة لغات، مشهورة معلومة.

وبعد أن تكاثر الطلب عليه (رحمه الله) وجّه بهذا النداء القيّم، ننشره هنا لصلته الوثيقة بالوضع الحاضر.

وقد كانت قد عرضت عليه في حينه فتاوي علماء المذاهب الإسلامية...فتفضّل(رحمه الله) بهذا النداء القيّم:

نداء لعموم المسلمين

بشأن محنة فلسطين

ققق

ماذا تجدي الفتوى ونحن لا نزال نقول: إن محنة فلسطين من المسلمين أعظم من محنتها بالصهيونيين!.

وسر هذه العقدة: إن المسلمين ــ حتى الآن ــ تمر عليهم قضية فلسطين كقصة من القصص التاريخية…يمرون عليها لاهين ساردين…تطرق أسماعهم ولا تمض عواطفهم، ولا تخرق شغاف قلوبهم، ولا يعرفون إن البلية لو كانت تخص فلسطين لربما هان الأمر وخفَّ الرزء، ولكن الخطر والغرض هو استملاك جميع البلاد العربية والقضاء على الإسلام والمسلمين!.

ولو إن كل فرد من المسلمين يحس بجمرة المصاب، ويعتقد إن شعلة هذه الكارثة واصلة إليه قريباً لا محالة، لكان لكل شعب ولكل بلاد شأن غير هذا الشأن ونهضة غير هذه النهضة، ولما استقبلوا هذه البلية بهذه البرودة.

الفتوى المثيرة النافعة هو أن يفتى لكل إنسان ضميره، ويوحى إليه وجدانه، ويحفزه إلى العمل الجدي إخلاصه.

وحركة كل مسلم على مقدار علاقته من الإسلام، ورابطته بالدين، وحظه من الغيرة الإسلامية.

أما هؤلاء الساكتون، أو المثبطون الذين يثبطون العزائم ويبذرون بذور الشك والوساوس، فالكشف عن حالهم موكول إلى غيرنا...ولكنا نقول:

أيها العرب!...أيها المسلمون!...

لا يختلجكم الشك والريب، فإن البلية على كل واحد منكم والاستعباد ــ لا سمح الله ــ لكل شعب من شعوبكم، وإن معابدكم وجميع مقدساتكم في خطر هائل وبلاء نازل..فأنهضوا نهضة تحفظ كرامتكم وتصون مقدساتكم، فإن دول الغرب قد استكلبت عليكم، وإن اليهود الصهاينة سوف يغزونكم مرة أخرى ويستلبوا أراضيكم، فأغزوهم واسترجعوا أراضيكم قبل أن يغزوكم.

ولا ينبئك مثل خبير. والله المستعان.

النجف الأشرف                                                     محمد الحسين كاشف الغطاء

 

 


(1) هو نجيب الراوي أبن المرحوم العلاّمة الشيخ ابراهيم الراوي، وكان وزيراً للمعارف حينئذٍ، وحاضراً في الأحتفال.

 
 
البرمجة والتصميم بواسطة : MWD