المثل العليا في الإسلام

لافي بحمدون

بقلم

سماحة الامام المصلح الكبير

محمد الحسين آل كاشف الغطاء قدس سره

 

 

المطبعة الحيدرية                                                              النجف الأشرف

1373هـ                                                                             1954م

 

 

مكتبة كاشف الغطاء                                                           النجف الأشرف

 

 

 

 

كان قد ورد إلى سماحة الامام الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء كتاب من نائب رئيس جمعية أصدقاء الشرق الأوسط في الولايات المتحدة الأمريكية يدعوه لحضور مؤتمر لرجال الدين من المسلمين والمسيحيين يعقد في لبنان لبحث القيم الروحية في الديانتين والأهداف المشتركة وموقف الديانتين من الشيوعية.

وقد رفض سماحته حضور المؤتمر لضعف مزاجه وكثرة اشغاله، ووعده بأن يرسل اليه كتاباً يوضح فيه رأيه في الموضوع.

والى القارئ نص كتاب نائب رئيس الجمعية وجواب سماحة الامام اليه المفصل،وقد رأينا ضرورة نشر الكتاب والجواب كي يستنير به العالم الإسلامي والشعوب العربية في الحذر من حبائل الاستعمار وخداعه وجرنا إلى الاستعباد، والاضطهاد والحرب والدمار والبوار.

 

الناشر

 

 

 

 

 

 

بسمه تعالى

مقدمة الطبعة الثانية والثالثة

كنا قد نشرنا هذه الرسالة لأول مرة وأذعناها على العالمين الإسلامي والعربي فلقي من الحفاوة والاقبال ما سبب نفاد جميع نسخ الكتاب، ولما كان عدد المطبوع قليلا بحيث لا يبلغ الألف وما لبث القراء في جهات الأرض ان انهالت طلباتهم بكثرة يريدون منا ان نزودهم باعادة طبعه ثانياً.

ولما كان سماحة الامام الحجة الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء دامت بركاته في زيارة كربلاء - انتظرنا قدومه المبارك، وما ان قدم النجف باليمن والسعادة والاقبال وعرضنا عليه رغبة المسلمين الملحة في نشر الكتاب حتى تفضل (على عادته) فاجازنا بنشره مرة أخرى. وقد أضاف عليها بعض الزيادات، وبرزت هذه الطبعة أصح من الطبعة الأولى والثانية. وبما ان سماحته لا يوافق على إعادة طبعه الا بإشرافه، لذلك لا يجوز نشره بدون مراجعته.

فها نحن باسم العرب والمسلمين تقدم لسماحته فائق الشكر والثناء مبتهلين إلى المولى عز وجل ان يديم في عمره الشريف ويجعله ذخراً للاسلام ولسان صدق يذب عن حوزته انه سميع مجيب.

 

ولما نفدت الطبعة الثانية وكثر الطلب أيضاً لم نجد بداً من الطبعة الثالثة وقد أضاف دامت بركاته اليها تتمة مهمة بثلاثة عناوين او اكثر مع زيادات في أثناء المواضيع السابقة.

20/ رمضان المبارك/ 1373هـ                                  الناشر

 

 

الدعوة لحضور المؤتمر

نيويورك، في 15 آذار سنة 1954م

فضيلة الشيخ محمد الحسين كاشف الغطاء المحترم

النجف -العراق

سيدي

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .

لاشك انكم تشاركونني الرأي في ان الإسلام والمسيحية لها أهداف واحدة في كثير من النواحي، كما ان لهاتين الديانتين أعداء مشتركة، من بينها المغريات الدنيوية والأغراض المادية ثم الشيوعية.

وأعتقد أيضاً انكم تشاركونني في رأيي انه ما دام لهاتين الديانتين العظيمتين أهداف مشتركة وأخصام مشتركة يترتب إذاً وضع أسس للتعاون بينهما.

وبعد التباحث مع بعض الشخصيات من المسلمين والمسيحيين وجدت ان أفضل الطرق لمعالجة هذا الأمر هو عقد اجتماع تمهيدي يضم رجال الدين من كلا الطرفين.

في هذا الاجتماع يدلي كل فرد من المجتمعين برأيه ويقر النقاط التي يمكن الوصول إلى اتفاق بشأنها. إذ ان هذا الاجتماع هو عبارة عن تبادل في الرأي.

بناء على ذلك عرضت الاقتراح على مجلس ادارة جمعيتي الذي رحب بدوره بالفكرة ورجا التوفيق لهذه الخطوة المباركة كما أبدى استعداداً لمؤازرة المشروع.

لذا فقد كلفني مجلس الإدارة المذكورة ان اتخذ الإجراءات اللازمة لعقد هذا المؤتمر، وهاأنذا أوجه الدعوة إلى 25 من الشخصيات الكسيحية و25 من الشخصيات المسلمة كيما تجتمع في أوتيل امبسادور، الكائن في (بحمدون) لبنان وذلك لحضور المؤتمر الذي سينعقد في 22 نيسان سنة 1954 ويستمر ستة أيام (أي 22 إلى 27)، هذا وقد حرصت على ان يجري عقد هذا المؤتمر في أحد المصايف المنعزلة في جو هادئ بعيد عن ضوضاء الصحافة.

وستكون أبحاث  المؤتمر محصورة في النواحي الروحية والقيم المثلى التي وردت في تعاليم الدين مبينة عقم الفلسفة المادية الفانية)

وسيتناول البرنامج المواضيع الآتية:

  1. مراجعة القيم الروحية في كلتا الديانتين :
  • القسم الروحية في الإسلام.
  • القيم الروحية في المسيحية.
  1. النواحي الروحية في الدين وقدر الانسان وكرامته:

أهمية هذه القيم

  1. بالنسبة إلى الفرد :
  1. في الإسلام.
  2. في المسيحية.
  1. بالنسبة إلى العائلة :
  1. في الإسلام.
  2. في المسيحية.
  1. بالنسبة إلى المجتمع:
  1. في الإسلام.
  2. في المسيحية.

((الصيغة الدينية والدنيوية في المجتمع .

والصيغة الجماعية والفردية في المجتمع)).

  1. الاعمال الحيوية المستمدة من الدين:
  1. في الإسلام - الزكاة وإمكانية انتشارها.
  2. في المسيحية - أعمال البر والعدالة الاجتماعية.
  1. خطر الشيوعية، على المجتمع في عصرنا الحاضر:
  1. ما هو جواب الإسلام على الشيوعية.
  2. ما هو جواب المسيحية على الشيوعية.
  1. التطبيق العملي:
  1. ما هي الطرق الكفيلة في الإسلام لنقل هذه القيم الروحية إلى الجيل الحديث؟
  2. ما هي الطرق الكفيلة في المسيحية لنقل هذه القيم الروحية إلى الجيل الحديث؟
  3. ما هي الوسائل التي يمكن للطرفين ان يتعاونا بموجبها لتحقيق هذا الهدف؟

وسيتباحث المؤتمرون معاً مرتين ام ثلاث في اليوم ثم يعقدون الجلسات عقب ذلك. ولي وطيد الأمل في ان يمضي المؤتمرون قسماً من وقتهم في التآلف والتآخي.

وبهذه المناسبة يسرني ان اذكر ان الكثيرين من الشخصيات المسيحية والإسلامية البارزة من جميع انحاء العالم قد قبلوا دعوتنا، واني استرعي انتباهكم إلى انه يمكنكم الاستعلام عن موقف جمعية أصدقاء الشرق الأوسط الأمريكية وأهدافها السامية من أصحاب السعادة الدكتور محمد فاضل الجمالي او السيد عبد الله بكر او السيد موسى الشهبندر.

كما واني أوردت في كتابي هذه التفاصيل كلها راجياً تشريفنا بقبول دعوتنا هذه التي أوجهها اليكم للاشتراك معنا في ابحاث المؤتمر. حيث ان حضوركم سيعود بالنفع الكبير.

نحن مستعدون لتغطية نفقات السفر ذهاباً وإياباً إلى (بحمدون) مع بقية نفقات المعيشة أثناء إقامتكم فيها.

اعتقد انكم تدركون ولا شك انه من الضروري جداً ان نعلم فيما إذا كنتم ستتكرمون علينا بحضوركم وذلك كيما أتمكن من دعوة شخص آخر بدلاً منكم إذا لم يكن بمقدوركم ذلك.

لذا أرجو ان تتكرموا بإرسال جوابكم لي برقياً وفي أقرب فرصة ممكنة. ويمكن إرسال البرقية بالعنوان التالي:

وبالختام تفضلوا بقبول فائق التحية والاحترام

 

المخلص

كارلند ايفانز هوبكنز

نائب الرئيس التنفيذي

 

 

جواب سماحة الشيخ محمد الحسين على كتاب الدعوة

من النجف الأشرف

بسم الله الرحمن الرحيم

جناب نائب رئيس جمعية أصدقاء الشرق الأوسط كارلند ايفانز هوبكنز المحترم.

اكراما واحتراماً

وردني كتابكم تدعوني فيه إلى الحضور في المؤتمر الذي اعتزمتم على عقده آخر نيسان في (بحمدون)، لبنان. ويتكون من خمسة وعشرين شخصاً من علماء المسلمين ومثلهم من المسيحيين للمداولة في أهداف كلتا الديانتين وقلتم ان ابحاث المؤتمر ستكون محصورة في النواحي الروحية والقيم المثلى التي وردت في تعاليم الدين، مبينة عقم الفلسفة المادية الفانية، ثم ذكرتم جهات البحث في كلتا الديانتين إلى ان وصلتم إلى الغاية المقصودة والناحية التي لعلها هي الغرض الوحيد من هذه الترانيم والاناشيد، فقلتم (4) خطر الشيوعية على المجتمع في عصرنا الحاضر، ويتلخص جميع ما ذكرتم من النواحي التي تريدون البحث عنها والنظر فيها من أعضاء المؤتمر الذين يبلغ عددهم الخمسين وتبلغ موادها العشرين، نعم تتلخص ابحاثها في أمرين:

  1. القيم الروحية والمثل العليا في الإسلام والمسيحية.
  2. خطر الشيوعية على المجتمع وطلب علاجها من الإسلام  والمسيحية

فنقول :

يلزم قبل كل شيء ان تعرفوا جيداً ان لسان العمل ابلغ واشد اثرا من لسان القول، ان ألوف المؤتمرات والمذاكرات وكل الاجتماعات والمجتمعات ليس لها أي أثر إذا لم تكن الدولة المؤسسة لتلك المؤتمرات والمذاكرات هي في نفسها منسجمة وملتزمة بالقيم المثلى والنواحي الروحية، ولا يندفع خطر الشيوعية الا بتحقيق حرية الشعوب والعدالة الاجتماعية وقلع جذور الظلم والعدوان وقمع رذيلة الحرص والشره على حق الغير والتجاوز عليه، فهل انتم معاشر الامريكان، ويا حكومة الولايات المتحدة، ويا دولة الانكليز، هل انتم واجدون تلك الصفات وهل عندكم شيء من القيم الروحية والمثل العليا، وهل ابقيتم للقيم الروحية قيمة، وقديماً قال الحكماء فاقد الشيء لا يكون معطياً.

أليست أعمالكم العظيمة وضربتكم القاسية للعرب والمسلمين في فلسطين قد سودت وجه الدهر، والبست الاعصار، جلابيب الخزي والعار. وها أنتم هؤلاء لا تزالون كل يوم تضربون العرب وبيدكم الأثيمة، ويد الصهيونية اللئيمة، فتهاجم قرى العرب العزلاء، وتقتل رجالها وأطفالها ونساءها الأبرياء. ألستم أنتم الذين لا تزالون تمدونهم بالمال والسلاح وتدفعونهم إلى هذه الجرائم دفعاً، والا فاليهود اقصر باعا وأضعف قلبا من ان يجرأوا على العرب هذه الجرأة.

ألستم أنتم أخرجتم تسعمائة الف نسمة من العرب أخرجتموهم من أوطانهم وبلادهم وشردتموهم بالصحاري والقفار يفترشون الغبراء ويلتحفون السماء، وكانوا في أوطانهم أعزاء شرفاء، يكاد يتفجع  لحالهم الصخر الأصم، ويبكي لحالهم الأعمى والأصم، وأنتم لا تزالون تغرون اليهود بالعدوان عليهم . فهل فعل نيرون كأفعالهم هذه والعجب كل العجب انكم في نفس الوقت تطلبون من المسلمين والعرب الانضمام إلى جهتكم، والتحالف معكم. وإبرام المعاهدات لكم فانكم تضربون العرب بأرجلكم ورجالكم، تصفعونهم على عيونهم بيد، وتمسحون رؤوسهم باليد الأخرى.

 

عبادة المادة

وجئتمونا اليوم تريدون عقد المؤتمرات للمثل العليا وتناشدون اقامة المذاكرات للقيم الروحية. أليست هذه الإضرابات والاضطرابات التي تراق فيها دماء أهل الوطن الواحد والملة الواحدة في طهران وسوريا ومصر ولبنان، أليست كلها من أصابعكم الخفية التي تلعب ليلا ونهارا من راء الستار. ألستم أنتم الذين تصبون البلاء والمحن وتريقون دماء الأبرياء في الشرق والغرب فتونس ومراكش والجزائر تصطلي في المغرب بناركم، وكوريا والهند الصينية وكينيا تضطرم في الشرق بأواركم، كل هذا حرصاً على المال وتهالكاً على المادة

- المادة التي تقول عنها في كتابك:

ان ابحاث المؤتمر ستكون محصورة في النواحي الروحية والقيم المثلى التي وردت في تعاليم الدين مبينة عقم الفلسفة المادية الفانية. وهل الدين عندكم غير المادة. وهل تعبدون الا المادة. وهل ملأتم الدنيا شرا وبلاءاً إلا في سبيل المادة. وهل أعددتم القنابل الذرية واخواتها المهلكة للعالم الا للاستيلاء والغلبة واستعباد العالم وتفانيا على المادة، وهل هذه الاصرار على الاستعمار، وسلب الاحرار حرياتهم المقدسة الا عبودية للمادة . وهل يسيل لعابكم الا لهذه المادة السائلة وهل تطلبون السيادة الا على هذه المادة السوداء.

نعم كانت أهالي القارة الأمريكية بمعزل عن العالم القديم. ولكن زج بها وجرها إلى هذه الويلات والولايات شيطان أبالسة الاستعمار، زجها بهذا الآتون المضطرم لصالحه واكمال رسالته في الاستعمار واستعباد الامام، والغلبة على الالمان والنازية التي كادت ان تجعله صفراً في أرقام صحيفة الدول. استعان بها في الحرب الأولى والثانية وقرأ عليها درس الاستعمار درساً درساً، وغرس في لهاتها ضروس الاستعباد ضرساً ضرساً.

وبالضرورة ان أمريكا أصبحت تريد السيطرة لا على الروس فقط بل على العالم كله، وعسى ان يصل التحالف الأمريكي الانكليزي إلى تخالف يسحق كل منهما الآخر.

نحن والشيوعية

نريد عقد مؤتمر في لبنان للبحث في العلاج لدفع خطر الشيوعية ولكن إذا كانت هذه سيرتكم وسريرتكم مع الامم عموماً ومع العرب والملمين خصوصاً فلعل كثيرا من الناس يقول: الف سلام على الشيوعية على شدة نفورنا منها وبعدنا عنها ومكافحتنا المريرة لمبادئها الهدامة ومحاربتنا لها بكل قوانا، ولكن لو انعمنا النظر وضربنا الرقم القياسي على طاولة الحساب، ووضعنا أعمال الجهتين في كفتين هانت علينا الشيوعية، وثلجت صدورنا منها، فان الشيوعية ما استعمرت من العرب دولة، ولا غصبت منا بلادا، ولا ابتزت منها مالا وعتاداً، وهذه الحرب الباردة التي تدسها الشيوعية في كل بلاد، حتى في النجف انما هي منكم ومن أجلكم، ولا تقصد الا الانكليزي المتقمص بثوب الإسلام او العرب:

ولو تخليتم عنا، ولم تستميلوا اليكم ضعفاء الايمان من رجالنا لما كان للشيوعية أي شأن معنا وكنا في مأمن من شرها فلا تكون لها ولا لينا. وليست لدينا من نظام الدول الشيوعية وأهدافهم وأسلوبهم في العمل، وإمارات وعلائم تدل انها تريد حربنا من الخارج، كما لا نريد حربها.

 

نعم وحقاً ان الطعنة الدامية التي طعنتم العرب والمسلمين فيها بتهويد فلسطين واجلاء العرب عنها كانت قرة عين الشيوعية، شماتة بكم وبالدول العربية المسخرة لكم، والتي صارت مطايا تحتكم تبلغون بها إلى مقاصدكم من استعباد الشعوب، وامتلاء الجيوب باختلاس أموالهم وامتصاص دمائهم، نعم أنتم ذبحتم فلسطين ولكن بيد الدول العربية، ذبحتموها بيد الدول المسلمة ليكون ذبحا شرعيا ذبحاً بيد المسلم (ذبح على القبلة) حتى تكون ذبيحة يحل أكلها لكم وللصهاينة، لأنكم أناس أهل ورع ودين تريدون المثل العليا، فلا تأكلون الا الحلال الطيب، ذبيحة المسلم هي الحلال الطيب.

وما كفاكم ذلك. يا لله وللعجب كل يوم عدوان جديد من الصهاينة وصنائعكم على العرب. وفي عين الوقت تبذلون مساعيكم كي تزجون العرب في معاهدة الدفاع المشترك وأمثال هذا من الأحاييل والأشراك التي تصطادون بها الطيور الضعيفة، المقصوصة الأجنحة.

المساعدات الدولارية المبهرجة

لا أدري وليتني أبدا لا أدري. هل تنصاع هذه الدول العربية وتقع في حبائلكم كما وقعت الباكستان والدولة التي زعمت انها دولة مسلمة وباسم الإسلام وجدت وتكونت. ما أدري هل تنخدع الدول العربية بوعودكم الخلابة الكاذبة، وبالاسلحة الرمزية المزيفة، وبالمساعدات الدولارية المبهرجة التي برهنت التجارب انها كالسراب إذا جاءه العطشان لم يجده شيئاً، تدفع أمريكا دولاراً واحداً لتأخذ عوضه عشرة بل مائة.

نعم لا ادري، ولكن ساسة العراق المخلصين يتوجسون خيفة من الوضع الراهن في العراق ولعلهم يقولون، كما ان النبوة والبعثة تسبقها حالات شاذة. ويتقدمها حوادث غريبة، تسمّى (إرهاصات) النبوة، كذلك للسياسة إرهاصات.

ولعل منها هذه الرحلات والزيارات المطلية بطلاء المجاملات والدبلوماسيات، والاكتشاف والاستطلاع. ومما يزيد في بعث الريبة، ويبرم خيوط الظنة، اشارات من على رأس الحكومة وكنايتها الكيانات التي هي أبلغ من التصريح، كل ذلك يشعر ان وراء الستار مساومات ومعاملات وخطط واتجاهات، وان هذا الانكار المترجرج، والدفاع المتحرج، انما هو تخدير اعصاب وجسة نبض، ووضع خربطة.

ومع هذا كله، بل ومع كل هذا الذي يدلي به المعارضون من الامارات والدلالات على ان الواقعة سوف تقع وان الامر سوف يتم، وان البلاء لا سمح الله سوف ينزل، ولكن على كل الفروض والتقادير ولا تكاد نفسي تذعن وتؤمن بان حكومة العراق الرشيدة، بجميع أشكالها وتبدل رجالها وتغير أعضائها وأوضاعها تتورط في هذا المأزق، وتثير نقمة الشعب عليها التي تجر الى الاضطرابات والإضرابات الدامية.

ضرورة الحياد

كيف المسؤولون لا يغيب عنهم ثورة الشباب بالأمس، وتضحيتهم باغصان الشبيبة اليانعة في معاهدة (بورت اسموث).

وهي بالقطع واليقين أهون من هذه المعاهدة المغلفة والمغطاة بالمساعدة العسكرية، وعامة الشعب لم يكن قد شارك في تلك الوثبة لأنه لم تصله شؤوها وشجونها، ولم تفتح بهل عيونها، اما اليوم فقد عم الوعي، حتى لرجل الشارع بل حتى للنساء والأطفال واللهجة عامة اننا أية فائدة استفدنا من مساعدة الدول العربية في الحرب الأولى والثانية سوى اننا ضحينا بأموالنا وأنفسنا، بل تضررنا وخسرنا. بعد الحرب العالمية الأولى تفرقت الأقطار العربية بعد ان كانت متحدة.

نعم تفرقت كغنائم للمستعمرين واستوطن اليهود أرض فلسطين. وبعد الحرب العالمية الثانية ضاعت منا فلسطين والاسكندرية نهائياً، وأمريكا تريدها حرباً عالمية (لا كان ذلك) ولكن لو كان فليس لنا بالدخول معها سوى الضرر والخسران، بل قد يكون لنا الاحتلال والاضمحلال.

فان كانت هي الغالبة فليس لنا من الغنمة شيء، بل لا شك اننا نكون غنائم لها ولحلفائها المقربين، انكلترا وفرنسا وتركيا وإسرائيل. وان كانت المغلوبة فالويل ثم الويل لها ولأتباعها ونحن وحينئذ أول صريع في الميدان.

 

وكيف نعتمد على الدول الاستعمارية لتسليحنا، وهل حقا يريدون تسليحنا وهم أعداؤنا ونحن أعداؤهم. فهل يطمئن الشخص ويعطي سلاحه الى عدوه، نحن أعداء الحكومات الاستعمارية بالطبع ولسنا أعداء شعوبها.

ويمكن ان نتعاون مع الدول الغربية عندما تأتي حكومات تحسن النية معنا ويظهر لنا بوضوح تغيير سياستها. واذا أردنا ان نتسلّح حقيقة فالحكومة الوطنية تستطيع ان توفر من دخلها القومي وتنظيم ثروتها وتشتري أسلحة حقيقية لا رمزية من دول كثيرة مستعدة لبيع السلاح، الى الدول العربية، التي هي دول شرعية معترف بها دولياً، يجوز بيع الاسلحة لها، وليست عصابة ثائرة.

أما من يقول ان إنكلترا وفرنسا والدول الأوربية الداخلة في حلف الأطلسي قبلت المساعدات العسكرية ولم تفقد استقلالها.

فالجواب: ان هذه الدول بالحقيقة فقدت اسـتقلالها الكامل في أمورها الاقتصادية والسياسية والعسكرية وتبعت أمريكا في سبيل مصالحها الاستعمارية والاقتصادية المتبادلة. ومع ذلك نجد في تلك الدول أحزاباً كثيرة تدعو الى الانفصال عن السياسة الأمريكية مثل حزب العمال في إنكلترا وهو حزب كبير. أما نحن فلا تربطنا بأمريكا والدول الاستعمارية أية مصلحة هم يريدون لنا الفقر والجهل والتأخر في شتى النواحي، في التسلح والعمران والزراعة والصناعة لنبقى خاضعين لهم وراضين بنهب ثروات بلادنا الطبيعية، ونحن نريد العلم والسعادة والتقدم.

هم يريدون لنا التفرق والتفكك والتخاصم، ونحن نريد الاتحاد والاخاء، وهم يريدون الحروب والفتن والثروات، ونحن نريد السلم والأمن.

وقد يرى البعض ان لا حول لنا ولا قوة لصمود على الحياد ضد رغبة الدول الاستعمارية. وهذا رأي فاشل، فان الذل والخضوع والهوان لم تكن في يوم ما سبيلا ينال به الشعب حقه. والشعب الضعيف المتأخر باتحاد أبنائه وإخائهم وإخلاصهم وتفانيهم في العمل بنظام وحكمة يصبح قويا عظيما. وما ضاع حق له طالب.

وفي نفس الوقت الذي أحذر فيه الحكام العرب وساستهم من عقم طريقة الخضوع والاستسلام للدول الاستعمارية أنصح الشباب والجمهور في الحذر من الانجراف مع تيار الشيوعية، لأن ذلك يعقد الوضع الدولي ويخل بالسلام حيث قد تتخذ الدول الغربية من ذلك ذريعة لمقاومتنا بالقوة والاعتداء علينا وان كان ذلك حاصلا فعلا بالمعنى.

صور جديدة للاستعمار

كان الشرق بأجمعه يعاني كابوسين من الاستعمار. إنكليزي وفرنسي وفي كل برهة ينتفض قطر من المستعمرات انتفاضة يحاول التخلص من البلية الاستعمار، فيخدعونه باعطاء الاستقلال المزيف، في استعمار مغلف، ويبدلون الصيغ والعناوين، استعمار فانتداب فحماية، الحقيقة واحدة لا تتغير، والعبارات شتى.

حتى نزلت الى ميدان الاستعمار الدنيا الجديدة فجاءت بلون من الاستعمار جديد، الدفاع المشترك، المساعدات العسكرية النقطة الرابعة، المساعدات الفنية، الحلف العسكري، وكلها خداع وصراع، واختلاست وأطماع، خداع مغلف وطمع مزيف.

 

ولو ان امريكا تريد المساعدات الحقيقية والمعنوية الجدية للدول الضعيفة المتأخرة لظهر أثر ذلك حتى الآن. وقد مضى على هذه المواعيد والأقاويل زمن ليس بالقليل. هذا العراق وهذه سوريا ولبنان أية مساعدة وجدوها من أمريكا وأي مشروع ينفع أنجزته أمريكا. نعم لم يجدوا غير الضجة والأقاويل، وكلها تهاليل وأباطيل.

تريد ان تأخذ منا كل شيء ولا تعطينا أي شيء، وقد قال بعض كبراء ساسة الولايات المتحدة مشيراً الى هذه الأساليب والأكاذيب:( هكذا علمتنا أمتنا إنكلترا ).

اضطهاد الزنوج يفضح سياسة حكومة أمريكا

لو كان عندالأمريكان شيء من المثل العليا، والقيم الروحية لحموا الهنود الحمر السكان الأصليين للبلاد، والأمريكان أجانب عنهم ونزلاء عليهم، لحموهم من الانقراض والفناء، لعطفوا عليهم لقلة عددهم وتأخرهم وحياتهم البدائية.

ولكن الهنود الحمر العزل المساكين لاقوا من الفاتحين المغامرين ألوان العذاب والموت والتشريد والتقتيل، ولو كان عند حكومة أمريكا الحاضرة ذرة من العدل والانصاف، لأحسنوا معاملة الزنوج الذين استعبدوهم منذ مائتين من السنين، ولم يفكوا أسرهم وعبوديتهم حتى الآن وقد بلغ عددهم خمسة عشر مليون نسمة. نعم الزنوج متساوون مع البيض في دستور الاتحاد الأمريكي ولكن بسبب القوانين والأنظمة التي تشرعها الولايات لتضر بالزنوج صراحة او اشارة، وبسبب العرف والتقاليد والتعصب العرقي السائد وتغاضي الحكومة والمسؤولين عن المحافظة على حقوق الزنوج من البيض المتعصبين، فان الزنوج  محرومون ،بالعمل وبالواقع من كل شيء، لغيرهم الغنم وعليهم الغرم، عليهم الواجبات الثقيلة، وليس لهم أبسط الحقوق، فلا يصوت في الانتخابات منهم الا عدد قليل، والزنجي ان قتل يذهب دمه هدراً، ويحرم التزاوج بين البيض والسود، ولا يملك الفلاح الزنجي أرضاً يزرعها، والعامل الزنجي يأخذ أجراً أقل من نصف أجرة العامل الأبيض، ويقوم بأعمال أشق من الاعمال التي يقوم بها البيض، ولا يدرس الزنوج في مدارس البيض، ولا يسكنون مع البيض في منزل واحد، ولا يسمح لهم بالنزول في فنادق البيض ولا يزورون البيض في منازلهم ولا يزارون. وفي الحقيقة ان الحرب الأهلية التي نشأت بين أهل ولايات الشمال وولايات الجنوب لتحرير العبيد في ايام ابراهام لنكولن لم تنفع الزنوج شيئاً بل أدت الى اشتراك أهل الشمال في الغنيمة، وهي أتعاب الزنوج البؤساء.

وكان اللوردات والملاكون الكبار من الانكليز يعاملون سابقاً سكان أيرلندة بصورة مشابهة مما أدى الى نضال أيرلندة المتواصل الى ان استقلت وتحررت من حكمهم وظلمهم.

اذن يروق لك أيها العربي الغيور ذلك الوضع التعيس والعيش الخسيس، وان ينتهي بك الأمر الى مثل ذلك الحال، فان الدولة التي تضطهد أبناء وطنها. فمن الأولى ان لا تتورع من اضطهاد أبناء الأقطار الأجنبية البعيدة.

ويكشف اضطهاد الزنوج في أمريكا كذب مزاعم حكومة أمريكا في الدفاع عن حرية الشعوب وفي السعي لتقدم الشعوب ورفاهها وسعادتها.

تذمر الشعب من سيرة الحكومة وسوء الإدارة

ليت شعري ولا أدري هل تجهل الحكومة العراقية حالة الشعب العراقي وتذمره الشديد، والكبت المؤلم من الحرمان وسوء الوضع في جميع دوائرها.

وقلنا ولا نزال نقول: ان الشعب قد تورم وتألم بأجمعه من سوء أعمال المسؤولين بجميع طبقاتهم من رأس الوزارة الى أدنى ادارة حتى صار كالجرح الذي تقيح ويوشك ان ينفجر.

ولو أردنا ان نجعل هذه الجملة كمتن من المتون ونشرحها ولو شرحا وجيزاً ونعلق عليها ولو تعليقاً خفيفاً لكان يلزمنا ان نخرج الى المكتبة العربية كتابا بحجم القاموس.

 

بل لو أردنا ان نقتصر فقط على قضايا الشرطة ورشواتهم وسوء تصرفاتهم ومقاسمتهم السرقات مع اللصوص والمجرمين، ولم يحصي هذا الوضع التعيس قاموس بل ولا قواميس. وقل مثل هذا في كل دائرة من الدوائر، حتى القضاء المحاكم التي ربما يقال انها أنزه الإدارات نسبة، ولكن هل تنحسم الدعوى البسيطة بين المتخاصمين في سنة او سنتين؟ كلا! بل ربما تبلغ بالأخذ والرد والتمييز والاستيناف الى بضع سنين، وحتى يضيق الخناق وتبلغ النفوس التراق.

اما الاختلاسات والخيانات وفتح باب الرشوات على مصراعيه في الري والاشغال والاعمار والاعاشة والبلديات والاستهلاك وغيرها فهو أمر مكشوف لا ستار عليه ولا أغطية، وصار حديث المقاهي والأندية.

ليس الغرض بيان هذه الكوارث التي تهيج الشجون، وتستنزف ماء الجفون، وانما الغرض بيان تذمر الشعب الشديد، الى حد بعيد، فلو اصطدم بهذه الطامة الكبرى والكارثة العظمى يوشك ان ينتفض انتفاضة ينقلب بها الوضع رأساً على عقب ولا يقاومها أي قوة وكفاح، ولا يتمشى فيها أي ارشاد واصلاح.

وأعظم من ذلك خطر هذا الشباب المتحمس اذا حفزته الغيرة على وطنه والنخوة على أمته اندفع مع العاطفة اندفاع العاصفة لا يرده شيء، ولا جدوى حينئذ ولا صغوى الى نصائح الحاكمين وما ينشر في صحفهم من ان الشباب لا يجوز له ان يزج بنفسه ويتدخل بمعامع السياسة ويلزمه العكوف على مدرسته ودروسه، فأمثال هذه الكلمات المعسولة قد تكون في عرف السياسة مقبولة، لكنها في عرف العواطف زخارف ليس لها أي أثر مثل ان تلقى الزيت على النار وتنصحه ان يشتعل.

ضرورة تحالف صحيح من الدول العربية والإسلامية

ثم كيف وانى يتورط العراق بالدخول في حلف تركيا والباكستان، في الوقت الذي تدعو فيه الحكومة العراقية الدول العربية الى الوحدة العربية او الاتحاد العربي.

وهل هذا الا كجمع النقيضين، والتوفيق بين الضدين :( متطلباً في الماء جذوة نار ).

كيف نحالف تركيا وهي صديقة ( إسرائيل ) في الوقت الحاضر وأول دولة اعترفت بها ولا تزال تؤيدها وتروج بضاعتها وتجارتها؟!

وحكومة تركيا الآن عدوة العرب والإسلام وصديقة اليهود وقديماً قالوا:(صديق عدوي ليس لي بصديق ) وقد باعت تركيا شرف استقلالها بالدولار وصارت آلة لأمريكا وتصرفها كيف تشاء وباشارة منها أصبحت أكبر مساعد لإسرائيل لقيطة أمريكا وبنتها المدللة.

ثم ان دخول العرب في حلف تركيا سهم في قلب العروبة نعم هو سهم ذو ثلاث شعب:

  1. انه إماتة لقضية فلسطين.
  2. تمزيق لوحدة العرب.
  3. نقمة الشعوب العربية وثورتها ولعنة الأجيال.

كل هذا من غير منفعة مادية، ولا فائدة أدبية.

نعم من الواجب واللازم إنشاء حلف صادق من الدول العربية والإسلامية مشروط بعدم دخول الدول الاستعمارية فيه واعتقد اعتقادا أكيدا ان الشعب الباكستاني المسلم سوف تقوده عقيدته الإسلامية السليمة الى فسخ المعاهدات العسكرية الاستعمارية في القريب العاجل.

كما ان الأمل غير ضعيف في الحركة النامية في تركيا للحرية الدينية والرجوع الى سياسة التآخي مع المسلمين، والاخبار من تركيا تنبئ بزيادة أعضاء حزب الأمة التركي الذي يدعو الى الحياد والانفصال عن الغرب والتقارب مع الدول الإسلامية.

 

وعي الشعوب

الحكومات والدول كلها تعلم او يجب ان تعلم، ان الشعوب ليست اليوم على وضعها السابق كسلع تباع وتشترى في الاسواق العالمية، في أسواق المستعمرين، ولا كغنائم حروب تقسم سهاما بين الفاتحين، المغرب حصة فرنسا والمشرق لإنكلترا، والجنوب لهولندا وإيطاليا وهكذا.

ثم فتحت أخيراً أمريكا عيونها وجاءت تريد الحصة الوافرة بل الكل من هذه الفريسة وتضحك على الذقون، فتقدم المساعدات المالية والأسلحة الرمزية، والقواعد العسكرية، ولا شيء الا المواعيد الخلابة، والأقاويل الكاذبة. أنظر الى القحة وصلابة العود، وصفاقة الوجه.

تبذل أمريكا الأسلحة الفتاكة لإسرائيل نقداً لا وعداً تدفعها بلا قيد ولا شرط، ولو تقاتل بها العرب، بل على ان تقاتل بها العرب.

اما العرب فتبذل له الأسلحة الرمزية العاطلة وعداً لا نقداً، وبشرط ان لا تقاتل بها إسرائيل.

ما أدري اذا لم تقاتل به إسرائيل فمن نقاتل؟! واي عدو لها أمرّ وأدهى من إسرائيل؟ ومن خلق وأنشأ دولة إسرائيل نعم تقول أمريكا بلسان الحال، الذي هو أبلغ من لسان المقال:

أعطيكم السلاح على ان يقاتل به بعضكم بعضا حتى تهلكوا جميعا كما هو الحال اليوم في ايران ومصر وسوريا وغيرها. وخاصة الدول العربية، وشعوبها ذات (الجامعة العربية ) التي فرقت العرب ومزقتهم شر تمزيق، وخانتهم وطعنتهم بالصميم.

وانكشف ان رئيسها وسبعة من أعضائها جواسيس للأجانب بل عمال للإنكليز، مستأجرون على ضرب العرب وتمزيقهم وقد أخذوا الألوف بل مئات الألوف أجرة على هذه الخيانة.

تهاون الحاكمين العرب في جمع الكلمة

ولو ان ساسة العراق المسؤولين القديرين على إبرام المعاهدات ووضع الأطواق في الاعناق على العراق، ولو انهم وتلاميذهم الذين يقذفونهم في كل سنة مرتين او ثلاث الى لندن، يقومون بالسفارة والخدمات الجبارة لأبناء سكسون، الزرق العيون، على حساب العراق، وجلب أمواله وخيراته وبركاته الى الجزر البريطانية.

لو انهم عوض تلك الرحلات والأسفار الى الأقطار النائية يجعلونها فقط ال مصر وسوريا ولبنان لجمع كلمة الدول العربية وشعوبها، واصلاح شؤونها وجمع كلمتها.

اما كان خيراً من تلك التنقلات والتجولات التي ليس فيها أي خير للعرب، ان لم تكن شراً عليهم وتمزيقاً لوحدتهم المهلهلة.

تلك الدول السبع التي سلمت لليهود فلسطين وشردت أهاليها الأعزاء وتركتهم في العراء أذلاء صاغرين. نصف مليون من اليهود يتغلب على سبعة ملايين من العرب بل على سبعين مليون:

يا للعار والشنار، وسوء الدمار، وخراب الدار، واليوم جاءتنا
( نيويورك ) وجمعية أصدقاء الشرق الأوسط تناشدنا الحضور في مؤتمر تبحث فيه عن القيم الروحية والمثل العليا.

يا هؤلاء العتاة الردة، ويا شياطين الأبالسة، انهضوا من عثرتكم، واستقيلوا من خطيئتكم، واخرجوا من ضلالتكم وردوا الحق الذي اغتصبتموه الى أهله، ردوا فلسطين الى أصحابها الشرعيين وأخرجوا منها الصهيونيين، وردوا أهلها المشردين اليها.

ثم اعقدوا المؤتمرات للبحث عن المثل العليا والقيم الروحية أما يد تسبح، ويد تذبح، وعين تدمع، وكف تصرع، فهذه مهزلة من المهازل، اذا جازت في عرف الكياسة ولغة السياسة، فلا تجوز في لغة العقل والمنطق. كل هذه الفظايع والشنايع التي تتجاهر وتتعاهر بها أمريكا وإنكلترا ووليدتهم البنت المدللة عندهم (إسرائيل) كله عجيب بل من أعجب الأعاجيب، وأعجب من ذلك خمود جمرة العرب وموت عزائمهم وغيرتهم، وتفرق كلمتهم، وتهافتهم على التمرغ على اعتابهم والعكوف على أبوابهم، وهم يجدون منهم هذه المعاملة القاسية والاصرار على إذلالهم، وإهانتهم وترجيح اليهود عليهم.

 

وقسماً بكل المقدسات لو ان الدول العربية بقي في ظروفها وشل من الغيرة، وثمالة من الشرف والحمية، والنخوة الإسلامية لقاطعوا كل أمريكي وإنكليزي، ولأخذوا بسياسة السلب والمقاطعة التي أخذ بها زعيم الهند (غاندي) ونجح، ولحرموا على أنفسهم كل بضاعة أجنبية، من بضائع أولئك الظالمين ولأخذوا التدابير للاستغناء عن صنايعهم ومنسوجاتهم، فان لباس الصوف الخشن مع العز والكرامة انعم وأكرم، وأعلى وأشرف من لباس الحرير والاستبرق مع المذلة والمهانة.

ولكن إذا أراد الله ان يهلك قوماً بسوء أعمالهم، حبب اليهم عيش النعيم. فاستبدلوا الشرف بالترف وتوصلوا الى اللذة بالذلة. وفقدوا حس الشعور بكرامة النفس وعلو الهمه، وهانت عليهم الطعنات الجارحة، والضربات الفاضحة.

أمتي عزها بعظم رميم
هم على بعضهم أسود ولكن
ضربت في الهوان رقم قياس
(من يهن يسهل الهوان عليه
(ذل من يغبط الذليل بعيش
 

 

قدِّست تلكم العظام الرمام
لعداهم مذلة أغنام
عجزت عن حسابه الأرقام
ما لجرح بميت ايلام)
رب عيش أخف منه الحمام)
 

 

فيضان السياسة وسياسة الفيضان

قلنا للسفير الإنكليزي في محاورتنا معه التي نشرت في العام الماضي ([1]) ان العراق منذ احتلالكم له حتى الآن يسير من سيء الى أسوء في جميع نواحيه الاقتصادية والعمرانية وغيرهما.

فقال: ما معناه كلا! بل تحسنت الأمور وتقدم العمران وكان قصر الملك في بغداد يحيط به الماء كل سنة عند الفيضان، وقد صار آمناً من ذلك.

فقلت: ليس المهم قصر الملك بل المهم كوخ الفلاح الذي يشيد منه قصر الملك، بل وقصر الكريمات مقر فخامتكم في الكرخ كوخ الفلاح الذي يغرق منه كل سنة الألوف ومئات الألوف من الفلاحين المساكين يهيمون على وجوههم، ومن يسلم من موت الغرق من عيالهم وأطفالهم يصيحون بلا مأوى، ويستولي التيار على كل ما يملكون من مقومات الحياة وهكذا دواليك ( كل عام وأنتم بخير ). الناس منكم بشر واي شر. فأين العمران والتعمير يا فخامة السفير، وهل هذا الا التدمير.

نعم وكأن ترجمان الغيب شاء ان يصدقني ويحقق نبوءتنا وشاءت الطبيعة او شاء الله تعالى ان يضرب بغداد هذه السنة بنكبة لم يحدث تاريخ بغداد بمثلها، ولم يقتصر بلاء الماء على بغداد وحدها بل شمل مناطق واسعة من الحقول والقرى في لواء الكوت وديالة، ولواء بغداد، وتقدر الخسائر في المزارع والبضائع بنحو عشرين مليون دينار([2]). خمسة آلاق صريفة (كوخ) بل أكثر قلعها الفيضان، وهام أهلها على وجوههم شاردين بأبدانهم خمسون ألف نسمة على أقل تقدير، وهؤلاء هم عصب العمل، ودولاب الحركة في العاصمة، وهم أنفع للمجتمع من أولئك الذين يسكنون القصور، ويتمتعون بافتراش الحرير والحور، وشرب الخمور، ملايين الدنانير من المعبود الأسود، ومن ضرائب المساكين من الأهلين، يصرفها المستعمر وأولياؤه الحاكمون على مصالحهم وشهواتهم، ويهملون هذه الناحية المهمة، والمأساة التي تتكرر عليهم كل سنة، بالويلات والفجائع والروائع.

حدثني الكثير من الاعراب انهم كانوا يشاهدون الجثث من النساء والأطفال والرجال طافية على وجه الماء منتفخة أبدانهم ولا يستطيع أحد ان ينقذهم من غمرات ذلك التيار الذي أمتد من أعالي بغداد الى الكوت ومن الكوت الى الناصرية. وكلما مر على قرية او قبيلة أغرقها وقضى عليها وعلى أهليها.

 

سياسة الفيضان

ويظهر ان اخذ التدابير لدفع هذا الخطر الهائل عن العاصمة ليس من صالح الأسياد المستعمرين، والا لجعلوا بغداد في أمان من طغيان الفيضان مهما كان، بل كان في إمكانهم ان يجعلوها كبرج ايفل او كناطحات السحاب. ولعل من صالحهم ان تصير كل سنة بهذا المصير. ( العصفور يتقلى والصياد يتفلى ) البلاء يتموج والمستعمر  يتفرج.

وقبل سنوات غرق أيضاً معسكر الرشيد وجميع ما فيه من الأسلحة التي تقدر بالملايين الداخلة في خزائن الاستعمار والاستثمار ذاك على أثر اعطاء هذا الاستقلال العفن المزيف. بعد الجهود والتضحيات في طلب الاستقلال الصحيح.

نعم ولعل فيضان السياسة وسياسة الفيضان، اقتضت يومئذ ان تغرق وما يدرينا لعل هذا اليوم كذلك اليوم. فان للسياسة أسراراً غامضة دقيقة، وآباراً عميقة، وأضرار الفيضان هذه السنة كما ذكرنا تقدر على الأقل بعشرين او ثلاثين مليون دينار عدا الاضرار بالارواح، ولو ان المستعمر والمستعمر (بالكسر والفتح) تقدموا بصرف نصف هذا المبلغ او ثلثه لتحصين بغداد من الغرق لجعلوها أمنع من عقاب الجو، ولو بلغ الفيضان الى الطوفان، ما تسربت اليها قطرة واحدة.

قد مر على احتلاله ثلاثون سنة او أكثر في كل سنة تتمثل رواية هذه المأساة نصب عينيه فهل هذا الا الاهمال المقصود ولا يعلم سببه ولا سره الا الله والراسخون في علم الاستعمار.

الغرض الحقيقي من الدفاع المشترك

وملحوظة أخرى جديرة بالذكر والتفكر، وهي ان المستعمر حديثه وقديمه في الممالك العربية ولا سيما العراق، وهو المالك المطلق والفاعل المختار، ولا تمشي الأمور الا على وفق إرادته، وطوع مشورته، بل طوع إشارته، وبالأخص في النواحي الاقتصادية، والشؤون المادية والمالية كلها تعود اليه وتدخل في خزائنه مباشرة او غاية:

الذهب الأحمر والأبيض والأسود وكل ما هنا يرجع الى ما هنالك وكل المؤسسات ذات الشأن هي له ولمصالحه.

العراق يبني المدارس المشيدة، ولكن ثكنات عسكرية وتعمر الجسور المنضدة، ولكنها جسور حربية. ويقيم عمارات للسكك الحديدية، ولكنها متارس دفاعية. المهندسون والفنيون والمدراء كلهم إنكليز، ويستوفون الرواتب الضخمة من مالية العراق لصالح الأسياد والحلفاء. وراتب الواحد منهم شهريا مائتا دينار فأكثر. والعامل العراقي يكد ويكدح من الصبح الى المساء بربع دينار.

فإذا كانت كل نواحي العراق وغيره من الاقطار العربية في قبضة المستعمر، وفي قبضة العاملين له، اذن فما الباعث والداعي الى المحالفات والمعاهدات العسكرية والدفاع المشترك، والدخول في جبهة تركيا والباكستان اللهم الا ان يكون هناك أغراض أوسع وأنفع لهم.

نعم لعل لهم بذلك غرضين مهمين:

( الغرض الأول ) كبح جماح يقضة الاحرار ونهضة الشعوب العربية بالقوة والسلاح والثكنات والجيوش الأجنبية. وبالتالي بقاء سيطرتهم الاقتصادية والمادية بل زيادة منافعهم واستغلالهم.

( والغرض الثاني ) هو تقديم رجال العراق لميادين الحرب وجعل الشباب من الجيش العراقي دريئة ووقاية للمستعمرين اذا وقعت الواقعة، وقامت عليهم القيامة، ودهتهم القوى اليسارية بمدافعها وطائراتها وقنابلها الذرية وغير الذرية.

ففي الحرب الثانية الماضية بلغنا أكيداً أنهم كانوا يضعون الجنود من العرب والهنود في الصفوف الأمامية لمقابلة المدافع النازية في العلمين وتونس، والجيش الانكليزي خلفهم وفي ذلك فائدتان. لا يبقى للعربي مناص للخلاص، ولا مدار للفرار، فان الانكليز وراءهم والألمان أمامهم، فهم بين نارين. وأيهما هلك العرب او الألمان فهو فتح للآخرين.

 

وعليه فحكومة العراق أرشدها الله مهما كانت وبأي شكل تشكلت يرجى ان تكون أعقل وأحجى، من ان تقذف بأولادها وفلذة أكبادها وذخيرة بلادها تقذفهم على حساب الغير، صفوف صفوف الى لهوات الحتوف، والى جهنميات القتال.

أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم

وليعلم الناظر في كلماتي هذه ان القلم قد طغى علي واندفع بالقاء هذه الفقرات او الجمرات، على غير قصد مني اليها. وما كان قصدي في جواب الكتاب المشتمل على دعوتي للحضور في المؤتمر الذي نوه عنه صاحب المكتوب. الا بيان أمرين مهمين يرتبطان بصميم أهداف الدعوة، بعد ان أرسلت اليه الجواب المختصر في الاعتذار عن الحضور ووعدته بأن أدلي اليه برأيي في تلك الابحاث التي اشار اليها في كتابه المتقدم (الأول) ما سبقت الاشارة اليه في كتابي هذا من ان اللازم ضرورة فيمن يدعو الى المثل العليا والقيم الروحية ان تكون متمكنة منه ويكون متمكناً منها, وانها من أخص صفاته وأرسخ ملكاته وهذه الركيزة من أهم ركائز الإسلام ودعائمه فالقرآن المجيد يقول:

(أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ  كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ). وما أريد ان أخالفكم الى ما أنهاكم عنه. وفي أحاديث السنة النبوية من ذلك ما هو أكثر وأوفر فلا ينفع الوعظ الا من المتعظ. وهل يصح التعليم الا من المتعلم.

(و هل يستقيم الظل والعود أعوج ).

المثل العليا في الإسلام

وبهذا يرتبط ( الأمر الثاني ) ارتباطاً وثيقاً. وهو ان من يتطلب المثل العليا حقيقة، ويلتمس العثور على ما يجمع القيم الروحية تماماً وواقعياً، فلا يجدها مهما كد وكدح، وشرق او غرب، ولا يجدها الا في الإسلام، لا يجدها الا في شريعة محمد وقرآن محمد  صلى الله عليه وآله وسلم وسيرة محمد  صلى الله عليه وآله وسلم ولا يجد الديمقراطية الصحيحة والاشتراكية العادلة الا في حياة محمد  صلى الله عليه وآله وسلم وعند خلفاء محمد  صلى الله عليه وآله وسلم  .

كان أمير المؤمنين، علي بن ابي طالب عليه السلام  يشتري الثوبين فيعرضهما على غلامه ومولاه قنبر. ويقول له: اختر أحسنها فيدفع له أجودهما ويلبس هو سلام الله عليه أدناهما. ويصوم ويفطر على الماء وخبز الشعير اليابس يكسره على ركبتيه، ويطعم الأرامل واليتامى الجوز والتمر والزبيب. يقف مع خصمه اليهودي تارة عند قاضيه شريح فيحكم عليه ويرتاح لحكمه. وعند الخليفة الثاني أخرى، ويغيظه ان الخليفة كناه وقال له يا ابا الحسن. وما ساوى بينه وبين خصمه. ويؤثر بطعام افطاره اليتيم والأسير والمسكين ويبقى هو وعياله بلا طعام ثلاثة أيام. (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا)، إلى كثير من أمثال هذه المزايا والفضائل التي تبهر العقول والألباب في هذا الباب.

هذا الخليفة عمر بن الخطاب. توضع بين يديه كنوز كسرى وتاجه وأساوره من الذهب المرصع بالجواهر واليواقيت التي تخطف الأبصار فيأخذه العجب ويقول:

ان قوما يأتون بمثل هذا كاملاً لا يخونون فيه لقوم أمناء

فقالوا له: لما كنت أميناً صرنا أمناء (ولو خنت خنا).

فقسم المال على الجيش وعلى المهاجرين والأنصار ولم يبق لنفسه منه شيئاً. وما اكتفى بهذا ومثله في الأمانة والعفة، حتى رأى ذات يوم عند إحدى بناته او زوجاته قلادة محلاة بمثقال او مثقالين من الذهب. فقال هذا مال زائد عن الحاجة:فأخذه منها ووضعه في بيت المال.

 

وأتى اليه يوما رسول قيصر ملك الروم سفيراً، فسأل: أين الخليفة عمر؟ فقالوا: خراج المدينة فخرج اليه فوجده نائماً على الأرض وقد صنع له وسادة من الرمل وليس معه سوى درته التي هي أشد هيبة من سيف الحجاج. فقال له: أمنت فنمت، ولو خفت لسهرت.

هذا نموذج من تلامذة محمد  صلى الله عليه وآله وسلم وخريجي مدرسته، وكلهم من هذا الطراز وعلى هذه الشاكلة. ولو أردنا تعدادهم وعد مزاياهم. لم نحص عدتهم الا بألف عداد. أما هو صلوات الله عليه وآله فقد كان المثل الأعلى، والناموس الأكبر، وعقل الكل وكل العقل، بشر الملائكة، وملك البشر.

أهداف الإسلام وأهداف المسيحية

يشترك الإسلام والمسيحية في أهداف معينة كثيرة، ويمتاز الإسلام عنها، ويفترق عنها بالكثير بل الأكثر.

يتفقان في الدعوة الى الاعتقاد بالخالق القادر الحكيم الأزلي الذي لا مبدأ له، وهو مبدأ كل كائن، والى وجوب عبادته وتقديسه والخضوع له بالطقوس الخاصة المحبوبة له، من الصوم والصلاة، والبذل والاحسان، والاعتقاد بالمعاد والدنيوية والجزاء وان المحسن يجزي بإحسانه. والمسيء يعاقب بإساءته، وانه لابد من يوم وموقف ينتقم فيه المظلوم من الظالم، وتقام فيه موازين العدل والقسط. ويرجع كل حق مغصوب من غاصبه الى صاحبه (يَابُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُنْ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ  ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ. وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ).

كل هذه الأهداف الشريفة التي جاءت بها الأديان واجتهدت وجاهدت فيها الانبياء انما هي لإصلاح البشر وسعادتهم في الحياتين وراحتهم في النشأتين. وان يتعاشروا بينهم بالمعروف والاخاء، والمودة والولاء، والتعاون على الخير ( لله المجد وعلى الأرض السلام )([3]) وأحسن كما أحسن الله اليك. وقولوا للناس حسناً.يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن النكر وأصبر على ما أصابك ان ذلك من عزم الأمور. ولا تصعر خدك للناس ولا تمش في الأرض مرحاً ان الله لا يحب كل مختال فخور.

حقاً ان هذه الجذور الأساسية للحياة الإنسانية حياة سعيدة ومجيدة هي أهداف جميع النبوات والديانات خاصة الإسلام والمسيحية ولكن فرق عظيم بين أهداف الديانتين وتعاليمهما المسيحية نظرت بل اقتصرت على الناحية الروحية وعلاقة الانسان بابيه الذي في السماء. وطلبه الغفران لخطيئة أبيه التي أوقعت أبنائه في الجريمة وان لم يشاركوه في ارتكابها، ولكن شاركوه في عقابها ( الآباء يأكلون الحصرم والأبناء يضرسون ). المسيحية تدعو الى التسامح والتساهل والتحمل ولكن مع الخضوع والذل والاستسلام، مثلا الانجيل يقول: من ضربك على خدك الايمن فأعطه خدك الأيسر. ومن سلبك رداءك فأعطه إزارك. ومن سخرك ميلاً فسر معه ميلين. وهذا يعني غاية الذل والهوان وسقوط الهمة.

اما الإسلام فهو أيضاً يدعو الى التسامح والصبر والتحمل ولكن مع العزة والكرامة، وشرف النفس وعلو الهمة.

فيقول القرآن : وان عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به، ولئن صبرتم لهو خير للصابرين. ويقول: جزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفى واصلح فأجره على الله. الانجيل يقول ما معناه: أعط قوتك للفقير. اعط رغيفك للمسكين. والقرآن يقول: لا تبسط يدك كل البسط ولا تجعلها مغلولة الى عنقك فتقعد ملوما محسورا.

ويقول: وآتوا حقه يوم حصاده. ولا تسرفوا انه لا يحب المسرفين. لا تسرفوا في الاعطاء بحيث يضر شؤونكم وسد حاجتكم الانجيل يشرع ويحبذ الرهبانية التي هي كبت للغريزة الطبيعية، وحرمان من الموهبة الآلهية وقطع لما أراده الله من الحكمة في بقاء النسل والذرية.

أما القرآن فيقول محافظة على ذلك: فانكحوا ما طاب لكم من النساء. وشدد في تحريم البغاء والزنا. الإسلام أخذ من كل فضيلة بحدها الوسط، وجعل العدل في الأوساط، بين التفريط والافراط، وترك للانسان الحرية فيما زاد على الوسط من طرف الفضيلة، فامساك المال عن الواجب بخل، وانفاقه في الواجب عدل. وبذل مقدار منه في الاحسان والمعروف بحيث لا يخل بالواجب فضل، وما عدا ذلك تبذير وإسراف والبخل او الإسراف رذيلة ومحرم. وانفاق على النحو المشروع لنفسه وعياله واجب وبذله في سبيل البر والاحسان فضيلة ومستحب.

أهداف الشريعة الإسلامية، انتشال الانسانية من أوضار الطبيعة: وأقذار المادة وخسة الحيوانية، والعروج بها الى مصاف الروحانيين، والمثل العليا، ولم يدع وسيلة للهناء والسعادة، والعز والكرامة، الا عينها وبينها في هذه الحياة او في الحياة الأخرى وجعل لمن آمن به ويرسله وباليوم الآخر، مقاماً رفيعاً وكريماً في الدارين.

ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين

طلب الإسلام ان يكون المسلم صلب العود، رابط الجأش رفيع الهمة، عزيز النفس، طيب الأعراق، دمث الأخلاق، شديد العناد لأهل السوء والفساد، سلس القياد لأخوانه المسلمين. يغار لهم وتهمه أمورهم. جعلهم أخوة في الدين، ووحد كلمتهم بكلمة التوحيد يشد بعضهم بعضا كالبنيان المرصوص، ويواسي كل واحد منهم الآخر. فلا يشبع وأخوه جائع. ولا يأمن وأخوه خائف، ولا يعز وأخوه ذليل.

والكلمة الجامعة التي يريدها لاسلام لمن يتدين به، هي ان يجعل أخاه المسلم نفسه الا انه غيره، وجعل علامة الإسلام وشارته ان تهتم بأمور المسلمين فقال: من أصبح لا يهتم بأمور المسلمين فليس من الإسلام في شيء. وجعلهم أشداء على الكفار رحماء بينهم، وجعل عزتهم مع عزة الله ورسوله فقال تعالى: (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ). الى كثير من أمثال هذا الذي لو أردت أن أحصيه، وأفيض فيه، تجاوزت القصد، وفات الغرض، ولكن الذي أريد ان أقول: يا هل ترى هل تجد شيئاً من هذه الإشارات او الشارات والعلامات في واحد من هذا الناس الذي يزعمون انهم مسلمون، والإسلام يبرأ الى الله منهم. الإسلام أرادهم أعزاء ((وقد صاروا أذل من قوم الأمة)). وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله. انعكست فيهم الآية. أرادهم أشداء على الكفار. رحماء بينهم، فصاروا أشداء فيما بينهم مستعبدين للكفار أرادهم تن لا يكونوا لليهود والنصارى أولياء... من يتولهم منكم فانه منهم نعم ولم يتخذوهم أولياء ولكن اتخذوهم أسياداً وقادة وسناداً يعملون لصالحهم ويتهالكون على خدماتهم. أراد ((ان يهتم كل مسلم بأمور المسلمين)) فصار كل مسلم يهتم بتفريق كلمة المسلمين، وتمزيقهم وصب البلاء عليهم.

هجم اليهود بالنار والحديد والقنابل على العرب والمسلمين في قرية (قبية) العزلاء فنسفوا البيوت ردموها على من فيها من النساء والأطفال والرجال، وليس بينهم وبين الجيش الأردني الذي يقال انه عربي ومسلم، ليس بينه وبين موقع الحادثة سوى بضعة أمتار، يسمعون الصراخ والاستغاثة بآذانهم، ويرون النار وتساقط الدور بأعينهم، فلا يحرك واحد من الجيش ساكناً. ولو كانت القلوب من الصخر الأصم، لذابت لذلك الظلم الفظيع.

نعم بعهد انتهاء الحادثة ورجوع اليهود الى أماكنهم سالمين غانمين، جاء الجيش الأردني كي يحصي عدد القتلى هل هم مائتان أو أكثر. وكيف يحركون ساكنا، ويسعدون صارخاً، وقائد الجيش الأردني الإنكليزي ( كلوب باشا ) .

أنشأوا في الأردن جيشاً إنكليزيا ليضرب العرب وهكذا كان وهكذا فعل ويفعل. كل يوم تقع هذه البلية العاتية، والضربة القاسية من اليهود على القرى العربية، منذ خمس سنوات الى يومنا هذا. فهل سمعت طيلة هذه المدة مع هذه الهجمات الفظيعة من اليهود على قرى الأردن. هل سمعت ان العرب أو الدول العربية المحيطة بإسرائيل من كل جهاتها. هل سمعت انهم قتلوا كلباً يهودياً أو هرة يهودية فضلا عن انسان او صورة انسان. نعم السلاح الوحيد عندهم والملجأ للأردن وغير الأردن الاحتجاج الى الدول الغربية الكبرى الشكوى. وأقصى ما عند هؤلاء الدول الاستنكار الفارغ والعاب الفاتر. يشكي عاهل الأردن الى مثيله في العراق ( شكوى الجريح الى جريح مثله )، وتشتكي الدول العربية المنهوكة المهتوكة الى مجلس الأمن والدول الكبرى. (شكوى الجريح الى العقبان والرخم ). أندري ما يكون من من شكوى الجريح الى العقبان والنسور وأمثالها من سباع الطير، انه تنزل الى الجريح فتقطع لحمه وتمص دمه، وتهشم عظمه، وتأكله في ساعة طعاماً سائغا، وهكذا الدول الاستعمارية تصنع مسنا معاشر المسلمين. اذا اشتكينا اليهم يضربون بعضنا ببعض ويلقون بأسنا بيننا ثم يسلطون اليهود علينا.

أنظر الى ما يجري في مصر من الانقلابات والاضطرابات وإراقة الدماء، واعطف نظرك ثانياً إلى سوريا وشكليات الشيشكلي ومشكلاته، والنفوس التي زعقت في تلك الحوادث. وهكذا طهران ولبنان والعراق. الاستعمار يعبث فيها بيد فيشغلها بنفسها وفي داخلها ويدفع اليهود عليها باليد الأخرى ويقول: ارجعي الكرة على العرب واغتنمي ما دامت مشغولة بنفسها.

وما ندري أي المصيبتين أوجع، سحق العرب بعضهم لبعض وتضاربهم فيما بينهم وغفلتهم او تغافلهم عما يكيد لهم العدو الذي القى بأسهم بينهم، ام تهالك الدول الغربية على اهلاك العرب وإبادتهم. وضعة العرب والضعة التي خضعوا لها في تحملهم للذل والضيم وعدم الانتصار من ظالمهم تذكرني بقول الشاعر القديم (نُصيب) :

ولولا ان يقال صبا نُصيب
بنفسي كل مهضوم حشاها
 

 

لقلت بنفسي النشأ الصغار
اذا ضلمت فليس لها انتصار
 

 

ويحق ان نقول لتلك الدول العاتية الظالمة التي تتطلب المثل العليا والقيم الروحية يحق ان نقول لهم:

ضجت بظلمكم الشعوب جميعها
تلوى به عصب البلاد وتشتري
 

 

ورحى الفساد أدارها الدولار
ذمم الرجال وتخمد الأفكار
 

 

ما أدري أي المصيبتين أنكى وأنكد على الشعوب العربية، مصيبتها بحكوماتها التي تساوم عليها، تريد ان تبيعها بيع الرقيق وتسوقها الى الجزارين سوق الأغنام للذبح، أم مصيبتها من الدول الغربية التي أصبحت شراً على العالم كله، ونفثت على العرب خاصة أسوء سمومها وأنكى مكايدها, ولكني أنتظر بطشة الله الكبرى، بهذه الدول العاتية الطاغية. وما أدري ان حلمه تعالى واناته تتسع لأكثر من هذا الإمهال وان يترك هذه الأمم المستضعفة فريسة لهذه السباع الضواري من البشر.

أنبياء الخير وأنبياء الشر

بعث الله أكثر من مائة الف من الأنبياء لاصلاح الأمم في العصور المختلفة والأخذ بأيدي الناس الى سبيل الهناء والسعادة، وكان فيهم خمسة أنبياء دعوتهم عامة ومكانتهم عالية وتعاليمهم سامية يعرفون ((أنبياء أولي العزم)) وهم (نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد)، هؤلاء الذين بعثوا لتعليم الناس أصول العدل، ومكافحة الظلم، وغرس جذور الفضائل، وقلع جراثيم الرذائل، ألزموا الناس بالصدق والفة والوفاء والأخاء ونشر السلام والمحبة في المجتمع ورعاية حقوق الفرد والأسرة والجماعة وأمروا بكل ما فيه راحة الانسان وسعادته في معاشه ومعاده ولكن لم يخل عصر من العصور من فئة شريرة تكافح تلك التعاليم الرفيعة، والقضايا القويمة وتعكس الآية وتدعو البشر الى أضدادها ركضاً وراء الهوى، وجريا مع العاطفة الطاغية والشهوة العارمة.

 

وكما بعث الله في العهود الغابرة خمسة أنبياء هم أنبياء الخير والرحمة. كذلك ابتعث أبالسة الجبت والطاغوت في هذه العصور خمسة هم أنبياء الشقاء والشر على البشر ( روزفلت، وترومان، وايزنهاور، وتشرشل، وايدن ) هؤلاء جراثيم البلاء وخراطيم الشقاء الذين صبوا المصائب على الامم والشعوب صباً، وأمعنوا فيها غصباً ونهباً، وقلبوا الفضائل التي جاءت بها الرسل والأنبياء رأساً على عقب. وبدلوا الاصلاح بالفساد والخير بالشر، والسعادة بالشقاء فأصبح العالم وجميع بني آدم في أمواج من القلق وفقدان الهناء والراحة، تتدافعه موجة الى موجة وتتقاذفه بلية الى أخرى.

وأخذت عواصم الشرق حظها الوافر من هذا القلق والاضطراب والفتن والمحن، راكسة الى هامتها في حروب داخلية يتضارب بعض مع بعض، وينتفض بعض على بعض، فلا تجد اليوم عاصمة من عواصم الشرق لم ينشب هذا الداء الوبيل فيها مخاله، ولم يصب عليها مصائبه، نعم الا إسرائيل لأنها يدهم الأثيمة التي يساعدونها ويمدون ساعدها لإراقة دم العرب والمسلمين.

أفسدوا أخلاق كل قطر من الأقطار وأسلبوه كل عزة وكرامة ونبل وشهامة.

بغداد بالأمس وبغداد اليوم

بغداد دار السلام او دار الفساد والخصام

هذه بغداد التي كانت تسمى ( دار السلام ). بغداد وما أدراك ما بغداد – أدركنا من زمن سلطة الأتراك عليها الى الاحتلال الإنكليزي مدة أربعين سنة أدركناها في عهد الأتراك. ولا نبالغ فنقول: كات من الفساد، ولكن كان من القلة والتكتم بحيث يصح ا يقال: ان نسبتها ذلك اليوم الى هذا اليوم نسبة العفيفة الطاهرة الى العاهرة الفاجرة.

كنا نتردد على بغداد فنجد فيها بقية من الصالحين ينهون عن الفساد في الأرض. وتجد فيها بيوت الشرف والشهامة، والفتوة والزعامة. وفيها فئة صالحة من العلماء الأتقياء من السنة والشيعة. أدركت فيها من الفريق الأول، عبد الرحمن النقيب، ومحمد جميل وولده عيسى، وشكري، وعاكف، ونعمان، وأمثالهم من الآلوسيين ويوسف السويدي وولده ناجي، وعبد الحليم الحافاتي، والشيخ سعيد في جامع الفضل، وأخاه الشيخ عبد الوهاب النائب وآخرين من أقرانهم. ود عاشرتهم جميعاً، وذاكرتهم في أكثر العلوم مراراً حتى في الحكمة والكلام. فكانت لهم في المعارف الإسلامية مكانة مرموقة، ومثلهم من الفريق الآخر كالسيد حسين حيدر، وأبنه السيد كاظم والشيخ شكر والشيخ أحمد الظاهر.

والقصارى اننا كنا اذا دخلنا بغداد نجد أنفسنا قد دخلنا بلداً اسلامية يلوح عليها شعائر الإسلام. وفاعل المنكر لا يستطيع التجاهر به. فلا تجد حانوتاً يباع فيه الخمر علانية. نعم قد يباع عند اليهود في الخفاء.

أما اليوم فأعاذنا الله من شر هذا اليوم ومن أشراره، وما أكثر الأشرار فيه. نعم بغداد اليوم انقلبت فيها المقاييس، وانتهكت بها الحرمات والنواميس، ولبس الإسلام فيها لبس الفرو مقلوبا، المعروف منكر والمنكر معروف، والفسق والفجور، وشرب الخمور والبغاء والزنا، والرقص والخنا، والقمار والعهار. يتعاطاها الصغير والكبير، والغني والفقير. كل حسب امكانه بلا نكير والنساء والرجال على ذلك المنوال لا ناعي ولا آمر، ولا واعظ ولا زاجر. والمصيبة العظمى شيوع كل ذلك وتفشيه في الشباب بل والشباب المثقف فيما يزعمون. وأعظم من ذلك رزية سريانه حتى الى المسؤولين والحاكمين والذين يجب ان يكونوا هم المصلحين.

 

دخول الإنكليز في العراق

دخل الإنكليز العراق وطرد الأتراك بمساعدة أهل العراق رغبة فيما يظنون من عدله وانصافه ومعونته واسعافه فلما رأوا غطرسته وجبروته، وكان الاعتساف بدل الاسعاف، والاجحاف عوض الانصاف وكان فيهم (أي العراقيين) كما ذكرنا بقية شرف وشمم، وعزة وكرامة، ونبل وشهامة، وصلابة عود، وقوة إيمان،تأبى ان تحمل الضيم، وتخضع للظالم، فثاروا عليه وانتفضوا عليه غير مرة كسروا بها شوكته، وأذلوا عزته، فأخذ على عادته وقاعدته من اللف والدوران، فضربهم الضربة الفانية، ولطمهم اللطمة القاسية وأعطاهم الحكم المغلف، والاستقلال المزيف، وهو – كما هو معلوم – تجاري رأسمالي، قبل كل شيء، فرأى انه لا يقدر ان يسلب من العراق ثروته حتى يستلب عقيدته، ولا ينتزع أمواله وإمكانياته حتى ينتزع صلابته وإيمانه، ويميت شعوره ووجدانه.

رأى أنه لا ستولي على العراق تماماً الا بفساد الأخلاق، والعرق بلطافة طبعه. وخفة روحه، سريع الاستجابة الى الشهوة العارمة، والنزوة الراغمة.

وكان أكبر هم المستعمر جلب المغريات، وإثارة الشهوات فتم له ما أراد، ووصل الى بغيته ممن أقرب الطرق وأسهلها فاستلب بجيش الشهوة، كل ثروة، وهدَّ جميع قوى العراق بلا كفاح ولا قوة. وسرت هذه الروح الخبيثة، روح الفساد، فساد الأخلاق والاستهتار والخلاعة. وموت الشعور والوجدان، وضياع المقاييس وهتك النوامييس، الى جميع الطبقات. الحاكمين والمحكومين والرعاة والرعية.

حضر عندي في العهد القريب رجل من المحافظين على اتزانه وإيمانه وصار يشكو من سوء الوضع وتردي الأحوال، وتلاعب الموظفين والارتشاء العلني، فأردت تسكين لوعته وتهدئة فورته، نوعا ما. فقلت له: أنتم تريدون حكومة من الملائكة، او من المعصومين، وهذا لا يكون والحاكم بشر يصيب مرة ويخطئ أخرى ويجور طوراً. يعدل أطور.

وعندكم في صحيح البخاري عن النبي  صلى الله عليه وآله وسلم ما مضمونه: اذا تولى عليكم عبد حبشي أجدع فأطيعوه، فقال: لا يا سيدي لا نريد من الحاكمين ان يكونوا ملائكة ولا معصومين ولا من العلماء المتقين نريده ان يكون الحاكم كرجل عادي وكواحد من ذوي الحرف والمهن. نريده كالبقال والحمال والكاسب، نريده ان لا يكون ((حرامي)) ولصاً وسارقاً ومختلساً، نريده ان لا يقول فيكذب وان لا يعد فيخلف، ولا يتولى فيظلم، ولا يؤتمن فيخون نريده ان لا يتكبر ويطغى ويتجبر. نريده ان لا يشمخ بأنفه على أفراد الأمة التي يعيش من مالها ويتنعم على حسابها.

نعم نحن نرضى ونطيع لعبد حبشي أجدع اذا كان عفيفا نظيفا، شفيقاً على من يتولى عليهم. ولا يستفزه الطمع، فيبيع أمنه وبلاده بيع السلع.

هكذا قال لي الرجل والله شهيد على ما قال وأقول. ثم عقب كلامه فقال: لا نريد منهم ان يلتزموا بأركان الدين، وشعائر الإسلام والمسلمين. أما الصوم والصلاة والحج والزكاة وزميلاتها من أمهات ومهمات قواعد الإسلام.

فدع عنك نهباً صيح في حجراته
 

 

ولكن حديث ما حديث الرواحل
 

 

الحديث حديث الصدق والأمانة، والعفة والصيانة، حديث الظلم الفاحش، والحكم الطائش، حديث الرشوات والمحسوبيات، وحرمان الوظائف لذوي الكفاءات، حديث انطماس الآداب الاجتماعية، واندراس العائر الإسلامية، قد تسلم على بعضهم فلا يرد السلام، وتكتب اليه الكتاب في دفع ظلامة او مصلحة عامة، فلا يعيد الجواب، ولا يدري ان جواب الكتاب واجب كجواب رد السلام، انبثق في بغداد سيل العرم، من الموبقات والمنكرات وطغى فيضان الويسكي والبيرة وأخواتها من الاشربة الاجنبية وارتفع نقاب الحياة ، وصار كل واحد وواحدة يعمل ما يشاء. نعم طغى فيضان هذه الموبقات أكثر من طغيان فيضان الماء المتدافع على بغداد وضواحيها من الأرض والسماء. ولعل هذا لفيضان من آثار ذلك الفيضان، ومن بعض عواقبه وعقوباته. اذ ان هذا الاندفاع الهائل ليس أمراً عادياً، ولا حدثاً طبيعياً. فان كل حادث خارق للعادة، ناشز على نواميس الطبيعة، وخارج من المتعارف، لا شك انه مسبب عن أسباب خفية، ومنبعث عن بواعث غير مادية ولعلها غضبة او ضربة من السماء، ومن رب السماء، على هذه البلدة الظالم أهلها، المتمادية في ظلمها وبغيها وبغائها وفسقها وفجورها، وأرسلت السماء ذات يوم مطراً غزيراً على قرية فأغرقت مواشيها، وأخربت بيوتها، وكان في القرية رجل عابد فزع اليه أهاليها مستسعفين به يلتمسون ان يسأل الله تعالى ان يكشف عنهم البلاء. فقال لهم ((ان أعمالكم تستوجب ان يصب عليكم ناراً تحرقكم. أفلا تشكرونه حيث أكتفى فأرسل ماء يغرقكم.

بلغ الفسق والفجور، وسكب الخمور في بغداد الى حد ان أهالي لندن وباريس وأمريكا يتعجبون من ذلك ولكنهم طبعاً يفرحون. حقاً ان بغداد قد حقت عليها كلمة العذاب، كأنها تمثل آية من الكتاب المجيد حيث يقول: (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ).

ولعل هذا الطغيان انذار وارهاص لما بعده. سئل آخر ملوك الفرس ما الذي أزال ملككم الذي رسخت دعائمه من آلاف السنين فقال: ولينا صغار الرجال على كبار الأعمال فحقد علينا الكبار، ولم يستطع كفايتنا الصغار، فآل أمرنا الى الزوال. هكذا ما وقعنا في اليوم، وليت الأمر لصغار الرجال بل صار لهم و… ولا أدري كيف يكون المآل.

وقد سألني بالأمس سائل يقول: ما بال هذا البلاء قد أنصب خصوصاً على المساكين والفقراء وأهل الصرائف والأكواخ والفلاحين الذين قضى على جميع أموالهم وكل آمالهم، فأهلك ما عندهم من زرع وضرع وربما أتلف بعض نفوسهم.

وما أصاب الأغنياء والأمراء، وأرباب الدولة والثراء، منه لفحة أذى ولا خدشة سوء. وها هم متنعمون في قصورهم ، يتمتعون بأشربتهم وخمورهم. القوي مالك، والضعيف هالك.

فأين العدل العدل في القضاء، وأين ميزان السماء.

فقلت له: ان هذا السؤال وأمثاله ناشئ عن تفريطنا معاشر المسلمين في كتاب الله العظيم، كأنك لم تقرأه أو قرأت ولم تتدبر ما قرأت، يقول سبحانه من قائل: (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ).

نحن لانغمارنا في المادة، وغلبة شهواتنا على عقولنا، وانطماس نور الهدى منا، تحسب ان أولئك العتاة المتنعمين بالقصور والفجور تحسبهم في نعيم وحبور، وهم في عين الوقت في شقاء وبلاء. وانما هم كأولئك المرضى الذين يسلب الأطباء حسهم وشعورهم (البنج) كي يقطعوا لحومهم وجلودهم فلا يحسون ولا يتألمون.

وعند الصباح يحمد القوم السرى                وتنجلي عنهم غيابات الكرى

وقديماً قلت ان قوله تعالى: (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ) ليس معناه انها ستحيط بهم يوم القيامة. بل سطح الآية ونصها يقول ان جهنم محيطة بهم حالا. غايته لا يحسون بذلك الا بعد حين. انا وأنت لضعف اداركنا وغلبة الشهوات على أرواحنا نرى ان نعومة العيش والترف، هو الشأن والشرف، وان الحياة البهيمية واللذة الحيوانية، هي الغاية والوسيلة إلى السعادة الأبدية لروح الانسان، وان الغاية من خلق الانسان هو هذه الحياة التعيسة. التي تبدو لذيذة ونفيسة. ولا أريد أطيل عليك في هذا الموضوع وأصعد بك الى اللانهاية من أجواء الملكوت التي لعلي لست أنا أهلا لها ولا أنت ولكني أختمه لك بآية من كتاب الله، وأوصيك أكيداً ان تتدبرها ما وسعك التدبر عسى ان ينفتح لك منها أبواب من المعارف يثلج بها صدرك، وتطمئن بها نفسك يقول جل شأنه (يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ). ثم ما يدرينا ماذا يخلف هذا الماء من البلاء وما يتبقى منه في المستنقعات التي يحدث منها أنواع الأمراض (لا سمح الله) فتكون نكبة هؤلاء الأغنياء المتنعمين أشد من نكبات أولئك الفقراء المساكين.

 

أساليب العمل في الإسلام لرفع الظلم ودفع الشر

ومقاومة الشعوب للاستبداد والفساد

الوسائل المتبعة للاصلاح الاجتماعي وتحقيق الدل وتمزيق الظلم ومقاومة الشر والفساد، تكاد تنحصر في ثلاثة أنواع:

  1. وسائل الدعوة والارشاد بالخطب والمقالات والمؤلفات والنشرات. وهذه هي الخطة الشريفة التي أشار اليه الحق جل شأنه بقوله:
    (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ). وقوله عز شأنه:(ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ).

وهذه هي الطريقة التي استعملها الإسلام في أول البعثة وهي خطتنا التي ما زلنا عليها منذ تحملنا المسؤولية ونهضنا بأعباء الاصلاح، والمرجعية الدينية والوظائف الروحية منذ خمسين سنة لا ندعو الى ثورة ولا نرضى باضراب واضطرابات، وننشد السكينة والسلام في كل مقام.

  1. وسائل المقاومة السلمية والسلبية، كالمظاهرات والإضرابات والمقاطعة الاقتصادية. وعدم التعاون مع الظالمين وعدم الاشتراك في أعمالهم وحكومتهم. وأصحاب هذه الطريقة لا يبيحون اتخاذ طريق الحرب والقتل والعنف وهي المشار اليها بقوله تعالى: (تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمْ النَّارُ* لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ). وفي القرآن الكريم كثير من الآيات التي تشير الى هذه الطريقة. وأشهر من دعا الى هذه الطريقة وأكد عليها النبي الهندي بوذا والمسيح عليه السلام والأديب الروسي تولستوي والزعيم الهندي الروحي (غاندي).
  2. الحرب والثورة والقتال: والإسلام يتدرج في هذه الأساليب الثلاثة. (الأول) الموعظة الحسنة والدعوة السليمة، فان لم تنجح في دفع الظالمين ودرء فسادهم واستبدادهم.

(فالثانية) المقاطعة السلمية او السلبية وعدم التعاون والمشاركة معهم فان لم تجد وتنفع.

(فالثالثة) الثورة المسلحة. فان الله لا يرضى بالظلم أبدا والراضي بل والساكت شريك الظالم.

الإسلام عقيدة. وقد غلط، وركب الشطط من قال ان الإسلام نشر دعوته بالسيف والقتال، فان الإسلام ايمان وعقيدة والعقيدة لا تحصل بالجبر والاكراه، وانما تخضع للحجة والبرهان والقرآن المجيد ينادي بذلك في عدة آيات منها (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ).

والإسلام انما استعمل السيف وشهر السلاح على الظالمين الذين لم يقتنعوا بالآيات والبراهين، استعمل القوة في سبيل من وقف حجر عثرة في سبيل الدعوة الى الحق. أجهز السلاح لدفع شر المعاندين لا الى ادخالهم في حظيرة الإسلام.

يقول جل شأنه: (قاتلوهم حتى لا تكون فتنة). فالقتال انما هو لدفع الفتنة لا لاعتناق الدين والعقيدة.

فالإسلام لا يقاتل عبطة واختيارا، وانما يحرجه الأعداء فيلتجئ اليه اضطراراً، ولا يأخذ منه الا بالوسائل الشريفة فيحرم في الحرب والسلم، التخريب والاحراق والسم، وقطع الماء عن الأعداء، كما يحرم قتل النساء والأطفال، وقتل الأسرى ويوصي بالرفق بهم والاحسان اليهم، مهما كانوا من الأعداء والبغضاء للمسلمين ويحرم الاغتيال في الحرب والسلم، ويحرم قتل الشيوخ والعجزة ومن لم يبدأ بالحرب. ويحرم الهجوم على العدو ليلا. (فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ). ويحرم القتل على الظنة والتهمة والعقاب قبل ارتكاب الجريمة. الى أمثال ذلك من الأعمال التي ) يأباها الشرف والمروءة التي تنبعث من الخسة والقسوة والدناءة والوحشية كل تلك الأعمال التي أبى شرف الإسلام ارتكاب شيء منها مع الأعداء في كل ما كان له من المعارك والحروب. وقد ارتكبتها بأفظع صورها وأهول أنواعها، الدولة المتمدنة في هذا العصر الذي يسمونه عصر النور. نعم أباح عصر النور قتل النساء والأطفال والشيوخ والمرضى والتبيت ليلاً والهجوم ليلاً بالسلاح والقنابل على العزل والمدنيين الآمنين. وأباح القتل بالجملة. ألم يرسل الألمان في الحرب العالمية الثانية القنابل الصاروخية الى لندن فهدمت المباني وقتلت النساء والأطفال والسكان الآمنين؟! ألم يقتل الألمان ألوف الأسرى؟! ألم يرسل الحلفاء في الحرب الماضية الوف الطائرات الى ألمانيا لتخريب مدنها؟! ألم يرم الأمريكان القنابل الذرية على المدن اليابانية؟!

وبعد اختراع وسائل الدمار الحديثة كالصواريخ والقنابل الذرية والهيدروجينية لا يعلم الا الله ماذا يحل بالارض من عذاب وخراب ومآسي وآلام اذا حدثت حرب عالمية ثالثة ولجأت الدول المتحاربة الى استعمال تلك الوسائل. أرشد الله الانسان الى طريق الصواب وهداه الصراط المستقيم.

ومن يتولهم منكم فانه منهم

وكل هذه الأساليب الدنيئة عملت بها اليهود، ولا تزال تعمله كل يوم بإشارة الدولتين العادلتين أصدقاء العرب أمريكا وانكلترا اللتين بلغت فظاعة ظلمها للشعوب العربية، ما لم ترتكب شيئاً منه الشيوعية. وان كانت الشيوعية بحد ذاتها قد لا تمتنع عن القسوة والتنكيل والانتقام من خصومها في الحرب ولثورات والإسلام هو الوحيد بين جميع الملل والدول أكد على تحريم تلك الفظائع في الحرب والسلم والحرب والأمن، وهو ما قلناه من وقوفه على حد الوسط والعدل في جميع تعاليمه وأحكامه.

(وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ)

فلسنا مع اليمين ولا مع اليسار بل جعلنا الله أمة وسطا. ( شجرة مباركة لا شرقية ولا غربية ) وهذا من أهداف الإسلام ومثله العليا. ومن مثله العليا:

الميزان العدل الذي وضعه لنا في معاملتنا مع الدول الخارجية والأمم الأجنبية حيث يقول عز شأنه: (يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ  إِنَّمَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ).

وعلى هذا الميزان العدل والعيار القويم فكل من قاتلنا في الدين ولكوننا مسلمين او اخرجنا من ديارنا او ظاهر المخرجين فهو عدونا لا يجوز ان نتولاه او نتولى من يتولاه سواء كان مسلما او كافرا.

فهل ان أمريكا ورجلاها اللتان تمشي بها إنكلترا وفرنسا لم يقاتلونا وهذه أيديهم ملطخة بدمائنا قبلا وفعلا؟!

وهل لم يخرجونا من ديارنا وتسعمائة الف لاجئ مشردين عن بلادهم العزيزة؟. وهل لم يظاهروا على إخراجنا وهم الذين أتوا بالصهيونية ويدفعونها للاعتداء علينا كل يوم؟. وهل تركيا التي تزعم هي والدول العربية انها مسلمة، ليست شريكة ومعينة لتلك الدول الظالمة على اخراج أولئك المسلمين من ديارهم؟.

وهل الباكستان اذا دخلت في معاهداتهم لا تكون ممن ظاهر على اخراج المسلمين من ديارهم وخرج عن حظيرة الإسلام والقرآن الكريم يقول: (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ).

فاذا تمت معاهدتهم وأرجو ان لا تتم، ألا تكون دولة الهند وزعماء حكومتها الأشداء الحكماء الذين رفضوا الاستعمار والمستعمرين أولى بالمودة والموالاة من أولئك؟! اذ ليس المدار كما تشير اليه الآية الشريفة على الأسماء والعناوين والأقوال، الي تكذبها الأعمال.

وكيف نحكم على دولة انها مسلمة وهي توالي وتعاون عدو الإسلام.

 

وجوب المعاملة الحسنة في الإسلام

للمخالفين والكافرين المسالمين والمحاربين

وفي الآية نكتة لا ينبغي إغفالها وهي من المثل العليا في الإسلام ذاك انه عز شأنه لم ينهنا عن الذين لم يقاتلونا ولم يخرجونا من ديارنا ان نبرهم ونحسن اليهم ونعاملهم بالقسط والعدل، وان كانوا من غير ملتنا ومن غير عنصرنا. اما الذين قاتلونا واخرجونا من ديارا وظاهروا على اخراجنا فان الله سبحانه ينهانا عن موالاتهم ومحبتهم لعدوانهم وظلمهم. ينهانا عن موالاتهم فقط. ولا ينهانا عن معاملتهم بالقسط والعدل وحفظ الحقوق.

فالعدل في القضاء، عند الإسلام قائم على سواء، بين المسلم والكافر، والعدو والصديق، والقريب والبعيد، وبأي لون كان ومن أي عنصر يكون، فالمسلم وأعداء الإسلام والمحاربون له في عدل لقضاء سواء. بل فوق ذلك لم ينهنا عن برهم والاحسان اليهم.

ومن مثل الإسلام وأهدافه السامية انه يقول: (إدرأ السيئة بالحسنة). ويقول الحديث الشريف (أحسن الى من أساء إليك وأعط من حرمك وأعف عمن ظلمك وصل من قطعك تكن مؤمنا حقا). الإسلام يقابل الإساءة بالإحسان، وانتم تقابلون الإحسان بالإساءة ولعدل بالظلم وكل فضيلة بضدها القرآن يقول (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ). ويقول: أحسن كما أحسن اليك. ويقول: قولوا للناس حسناً. يعني للمسلم والكافر والعدو والصديق والأسود والأبيض.

فهل عندكم يا دول الديمقراطية مثل هذه المثل العليا والقيم الروحية؟! وهل تجدونها في غير الإسلام؟! وهل توافقوني اذا ختمت رسالتي بما افتتحتها به:

( المثل العليا في الإسلام لافي بحمدون )

الإسلام والسلام

هنا قضيتان مهمتان من قضايا الإسلام ذوات الشأن:

(الأولى) ان المشرع الأعظم يقول: ((الحكمة ضالة المؤمن يأخذها أينما وجدها)) يعني يأخذها من كافر او مسلم وعدو او صديق، ويشهد لها قول الامام في معنى ( انظر الى ما قيل لا الى من قال ).

(الثانية) ان الإسلام والمسيحية اتفقا على الدعوة الى السلام وكراهة الحرب والتحذير منها، فالله جل شأنه هو السلام ويدعو الى السلام، وداره دار السلام، يهدي الله من اتبع رضوانه سبل السلام وينجيهم من عذاب اليم، والقرآن العظيم كله سلام وخير وبركة وتحذير من الحرب وبلاتها وبلياتها (فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة) والانجيل يقول لفظه او معناه (لله المجد وللناس الأخوة وعلى الأض السلام) وعلى هذا فلو ان امة تدعو الى الحرب وأخرى تدعو الى السلام فأيهما أحرى بالاتباع والمناصرة، وليس معنى الالتزام بدعوة السلام ومناصرتها اننا اخذنا بجميع مبادئ تلك الأمة التي تدعو اليه فنحن نوافقهم على دعوة  السلام ولا نوافقهم على سائر مبادئهم الهدامة، ولكنا نقول حبذا السلام وحيا الله من يدعو الى السلام، ولعنة الله على الحرب وعلى كل داع اليها، وكل من أتانا او دعانا الى أمر مشروع ومقبول فنحن أولى من كل واحد بالقبول ولكن بشرط عدم الاخلال بالنظام وحفظ الأمن، أما الاخلال بالنظام فحرام وألف حرام وربما يؤدي الى عكس الغرض.

الاضطرابات المتتابعة الموجبة للازعاج والقلق العام المؤدية أحياناً الى غلق الأسواق وتعطيل الأعمال واشباه ذلك نخشى ان يكون من الفساد في الارض ومحاربة الله فتنطبق عليه آية ((إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا..)) ونحن حيث نقول نبغض الحرب وندعو الى السلام لا نريد بذلك الافساد واضرار العباد وان يكون الأمر الى الرجالة والأوباش وصبيان المكانيب القائمين بالشغب الذي يؤدي غالباً الى السلب والنهب والغارة واتعاب العقلاء والمصلحين. بل السبيل الجدد هو ان تكون المظاهرة بالتسالم والتفاهم. فاذا أردت ان تهتدي الى السبيل فاقرع الحجة بالحجة والدليل بالدليل.

اذا ما قصدت الأمر من غير بابه
 

 

ظللت وان تقصد من الباب ترشد
 

 

 

 نعم الإسلام لم يسوغ الحرب والقتال الا في موارد مخصوصة وبشروط معينة أهمها: من يقف حجر عثرة في سبيل دعوة الحق والتوحيد هو الجهاد في سبيل الله بشروطه المعلومة. الثاني محاربة أهل الظلم والبغي والفساد في الأرض. الثالث: الدفاع عن النفس والعرض ورد الهجوم على البلاد الإسلامية، اما الحرب في سبيل الغنائم والأموال والأغراض الاقتصادية والاستعمارية كما هي في الوقت الحاضر وكالحروب التي تثيرها حكومة إنكلترا وأمريكا فهي من أعظم المحرمات في ميزان الشرع ومن أعظم المخازي في معيار العقل، ولا يليق بشرف الانسان ان يقتل بعضه بعضاً في سبيل النفط والكبريت والفحم والحديد والمطاط وما شابه ذلك.

 

مؤتمر بحمدون

لعل في مثل هذه الأيام قد اجتمع المؤتمرون في حمدون، وحضر معهم من لبى دعوتهم واستجاب لهم برمشة عين وأرشد الله فئة رفضت تلك الدعوة المشؤمة وحتى الآن لم نعرف شيئاً من مقرراتهم.. ولكن الي اريد ان أتساءل عنه انهم هل ذكروا او تذكروا هجوم الصهيونيين قبل بضع سنين على (دير ياسين) فقتلوا الرجال والأطفال، وبقروا حتى بطون الحوامل، وهل ذكروا مباغتة الصهاينة ليلا على ((قبية)) فصبوا صواعق قنابلهم على البيوت وأهاليها نيام. نسفوا تلك المساكن على من فيها من رجال ونساء وأطفال والجيش الأردني المسلم الذي هو طبعاً بقادة كلوب باشا يبصر بعينه ويسمع بأذنه عويلهم وصراخهم وتهافت الانقاض عليهم نساءاً ورجالاً وصبية وأطفالاً.

وهل ذكروا قتل اليهود رجال (نحالين) من غير جناية بلا أي سبب؟ وهل ذكروا ان نسف تلك البيوت ما كان الا بقنابل أمريكية وما قتل أولئك العرب المساكين من المسلمين إلا بأسلحة أمركية وما شجعوا على هذه الوحشية إلا بقوى أمريكية. زهقت تلك النفوس الزكية وجبلت الأرض بدمائهم تحت سمع وبصر تلك العدالة عدالة العالم الحر، وإنسانية العالم المتمدن الذي يتطلب المثل العليا والقيم الروحية كل ذلك وما هو أعظم من الجرائم العظام التي يقشعر منها أبشار البشرية، ويعرق من ذكرها جبين الإنسانية.

كل ذلك على حسابكم يا أبنا العم (سام) وعلى (شأنكم) يا أبناء سكسون، وكرامة لعيونكم يا زرق العيون، جرت كل هذه الوقائع فهل تحركت شعرة في ذقن العم (سام) او سالت دمعة من عين (جون بول) او اهتز طرف من اعطاف (ترومان) او رف جفن من أجفان ((تشرشل)) هل ذكروا مصائب دير ياسين وما جرى على آل ياسين وهل تفجعوا لها تفجعهم حزناً وشفقة على الصهيونيين المشردين بسطوة ((هتلر)) وبطشه فانتصر لهم ابن العم سام وأمه الحنون بل الخؤون سكسون. انتصروا لم فاتخذوا لهم وطناً قومياً وأخرجوا منها أهاليها الشرعيين من آلاف السنين ((غيري جنى)). هل تذاكروا حال أولئك المشردين عن أوطانهم، تسعمائة ألف نسمة من العرب في الصحاري والقفار تلفح أبدانهم العارية لوافح الهجير، وتقشر جلودهم لواقح الزمهرير، لا غطاء ولا وطاء سوى الأرض والسماء، وكل يوم تدفعون اليهود لشن الغارة بأسلحتكم الجهنمية عليهم كي يلتجأوا الى قبول الصلح الذي قررته محكمة عدالتكم، الصلح المجاني بلا قيد ولا شرط ولا عوض. تقولون لأولياء المقتول أصطلح مع القاتل مجاناً وقبّل يده والا لا يزال صفعك بها، فهل سمعتم يا أبالسة الشياطين ويا لعنة السماوات والأرضين. هل سمعتم بأفظع من هذا الظلم؟ واهاً منكم يا بني سكسون أقسم حقاً لو جمع كل ظلم من طواغيت البشر وجبابرتهم من ملايين سنين لما ساوى ظلمكم للعرب والإسلام سنة واحدة. ومنذ سبعمائة سنة أي من عهد الحروب الصليبية الى اليوم أنتم دائبون في الكد للاسلام تبغون له الغوائل وتنصبون له الحبائل وتقذفونه بالقنا والقنابل وكانت مكيدتكم هذه الأخير أنكد المكايد وأدهى الفظايع. مكيدة وليدتكم المدللة ((صهيون)).

وكان العرب أولى بهذه العناية من اليهود، ولكنكم عرفتم ان العرب غالباً عنصر نجيب لا يحسن في الاكثر أَفانين المكر والخداع والحيلة، واليهود منذ كانوا ونشأوا في بدء تاريخهم والى اليوم قد تمرنوا على المكر والخدع ومهروا في القاح الفتن وأعاجيب الأكاذيب يتوسلون لسلب أموال الناس وإغراء الحاكمين حتى بأعراضهم وطالما بعثوا بناتهم الى المحاكم الذي يتعلق لهم غرض عنده وهذا الحال من هذا العنصر الخبيث أصبح مكشوفاً في جميع بلاد الدنيا ولما وجدتم أقصى أمانيكم عندهم ساعدتموهم على الرب بالكثير والقليل (والجنس الى الجنس يميل).

 

أنتم يا أبناء العم سام ويا بني سكسون تزعمون أنكم اتباع عيسى وانه ربكم ونبيكم والمكفر خطاياكم، واليهود هم الذين كذبوه وصلبوه ولعنوه وأقل تعبير لهم عنه ابن القحبة الزانية مريم زنى بها عشيقها الحسن الصورة يوسف النجار فأولدها اليسوع فادعت انه ابن الله ولا يزالون على هذا الاعتقاد الى يوم الناس هذا. أما الإسلام فيقول عيسى روح الله وكلمته ألقاها الى مريم ويقول عن مريم انها البتول العذراء المحصنة التي أحصنت فرجها رداً لليهود وتكذيباً لهم فكان هذا جزاء المسلمين منكم وتلك أعمالكم معهم. ولكن من أين لكم الدين ومن اين لكم الوفاء والنجابة.

( إذا أنت أكرمت الكريم ملكته ) الى آخره.

ومن لم يكن عنصره طيباً لا يصدر منه العمل الطيب طبعاً ولا يزال هذا دأبكم وديدنكم أيها الإنكليز من أول تاريخكم الى يومكم هذا، تسيئون الى كل من يساعدكم ويحسن اليكم ولا تكتفون بمقابلة الاحسان بالإساءة بل تقضون على حياته.

لا ينسى الناس في الحرب الأولى كيف ساعدكم المرحوم أمير المحمرة ولما انتهت الحرب سلطتم عليه السلطة الإيرانية فأزالته عن ملكه ثم سجنته ومات خنقاً في سجنه بإشارتكم، ساعدكم الملك حسين وحارب الأتراك وطردهم من الحجاز وكان جزاؤه بعد تلك المواثيق المؤكدة ان نفيتموه الى جزيرة قبرص فمات او استشهد فيها غريباً. أما المرحوم فيصل فلا أدري كيف مات غريباً في أوربا ولكن المعروف انه تناول الغداء مع العجوز الإنكليزية وما خرجت من الغرفة حتى خرجت روحه الزكية أما المرحوم (غازي) فلعنة الله على العمود الكهربائي الذي صدم سيارته وفضخ هامته ولو اردنا أمثال هذا من اعمالكم مع اصدقائكم لأمكننا  تأليف أكبر موسوعة مفتوحة في قضاياكم المفضوحة.

مساعدات أمريكا بالأسلحة للعراق بدون التزامات

بلغني وانا أملي هذه الكلمات ان الصحف اليوم نشرت نبأ مساعدة أمريكا للعراق بالأسلحة العسكرية بلا قيد ولا شرط ولا التزامات، واعتبرت الحكومة ذلك غنيمة عظيمة. فقلت: نعم هذا فن من فنون الاستعمار الجديد. نعم هذا اللف و(البلف) والقفز والدوران، واللعب على الحبل. نعم العراق عنصر نجيب لابد ان يقابل الاحسان بالاحسان.((ومن وجد الاحسان قيداً تقيداً)). وهل يتبصر الحاكمون او المتحكمون. وينظروا ان وراء الأكمة ما وراءها. نعم يبذلون لنا الأسلحة الذرية بشرط ان لا نحارب بها إسرائيل بل ربما بعد ذلك يلزمونا بالصلح مع إسرائيل رضوخاً للأمر الواقع ونتعبد لهم ونحن أربابهم ولكن:

أ ربُّ يبول الثعلبان برأسه
 

 

لقد ذل من بالت عليه الثعالب
 

 

 وليت ابن العم سام وابن اخيه سكسون كفونا شرهم ومنعونا خيرهم ولا نريد منهم أية مساعدة فانهم هم شر أعدائنا ومنبع بلائنا.

يحكى ان عبداً شديد السواد مهول الصورة يحمل ولداً لمولاه. والطفل كلما نظر الى وجه العبد الهائل في البشاعة يبكي ويصرخ والعبد يقول له لا تفزع ولا تخف أنا معك والطفل يزداد في البكاء. ففطن الى النكتة بعض الأذكياء فقال للعبد ان الطفل يفزع منك ويبكي من بشاعة وجهك اطرحه على الأرض وأذهب عنه فسوف يأمن ويرعوي من البكاء.

نحن نبكي ونخاف من مساعداتكم ومعاهداتكم وقانا الله شرها وشركم.

 

خاتمة المطاف

ومطاف الخاتمة

خطرت لي سوانح دفعني حافز من الغيب الى ان اختم بها هذه الكراسة، فتكون خاتمة المطاف. وتلك السوانح وان كانت قضايا مبعثرة لا يرتبط بعضها ببعض، ولكنها جميعاً لا تخرج عن الغرض، ولا تحيد عن الهدف الأسمى.

السانحة الأولـى طاعة الرغبة أبقى من طاعة الرهبة

قد سبقت الاشارة الى ان كلما أوردنا من البيان، عتبا كان او نقداً، حلواً كان أو مراً. صحيحاً كان أو سقيماً. ما دفعنا اليه الا عاملان:

  1. أداء الواجب والخروج من عهدة المسؤولية.
  2. انها نفثة مصدور، وزفرة مجمور، لا تعدو ان تكون كوضع الماء على النار لابد ان يغلي ويفور.

ونظراً الى ان جل الغرض هو النصح والارشاد والخدمة الانسانية لنوع البشر.

( نقول ) ان الدول الكبرى في هذا العصر كل واحدة منها تشعر أحوالها وأعمالها بأنها تتطلب بحرص وجشع شديد ان تكون لها سيادة العالم، وان تخضع لها كل الدول. والأخرى تريد لنفسها أيضاً مثل ذلك. فالجميع يتسابقون في هذا الميدان، ويبذل كل واحد كلما في وسعه من الجهود حسب الامكان لذلك الغرض، حرصاً على التفوق، وجشعاً الى الغلبة والأثرة.

ومن هنا تكثرت المخترعات وتوفرت آلات الإبادة وسلبت الراحة والاستقرار من عامة البشر وأصبحت كل أمة او دولة كأنها معلقة بنجاح طائر لا تدري متى ينتفض فتسقط وتهلك، وأصبح هذا التنافس بلاء ومحنة عليهم وعلى العالم كله.

وربما يكون التنافس وحب الغلبة والأنانية غريزة جبلت عليها النفوس وانصهرت بها العقول، والتغلب على الطباع، غير مستطاع، نعم قد يكون ذلك حقاً (وتأبى الطباع على الناقل ). ولكن الغلبة والتفوق والسيادة، وان كان فيها السعادة، لا ينحصر الطريق اليها بالبطش والفتك والاستعداد للإبادة  والهلك، بل هناك من الطرق اليها ما هو أهون وأضمن، وأهون في الكفاح، وأضمن في النجاح. وهو طريق العدل والإحسان. فعوض ان يملكوا أجساد الشعوب والأمم بالظلم والإرهاق، وغل الأعناق. لماذا لا يملكون القلوب بالبر والإحسان والإشفاق، ويعلم كل ذي شعور ان طاعة الرغبة بالطوع والاختيار، أبقى وأخلد من طاعة الرهبة بالقسر والاضطرار. وقد قالت الحكماء ان الحركة القسرية لا تدوم وكل شيء يرجع الى طبعه والشعب قد ينتفض، والمغلوب قد يغلب والحرب سجال،والدنيا دول. أما ملك قلوب الشعوب بالإحسان والعدل فهو في أمن من هذه الأخطار فما بال تلك الدول المعظمة تعدل عن هذه الخطة السليمة، الى تلك الخطة السقيمة.

ولعل من يجيب عنهم يقول: ان ساسة تلك الدول رأت ان الانسانية قد هرمت مداركها وتحجرت عقولها وقست قلوبها فصار البر والاحسان لا يبعثها على السلامة ولا يمنحها الاستقامة ولا يسوقها الا السوط والعصا ولا يبرء علتها الا العملية الجراحية وإراقة الدماء بلا هوادة ولا رحمة.

( أقول ) وقد يكون هذا حقاً او فيه بعض الحق ولكن لا أقل من التجربة فاننا منذ زهاء مائة سنة منذ سمعنا ان في الدنيا دولة تسمى إنكلترا أو أمريكا أو فرنسا ما سمعنا ان واحدة منهن استعملت العدل والقسط مع مستعمراتها فضلاً عن البر والإحسان ثم هل ان الانسانية بجميع عناصرها وأواصرها قست قلوبها وتحجرت عقولها فلا تستحق الرحمة ولا ينبغي معاملتها بالإحسان إلا الأمة اليهودية واللقيطة الصهيونية، ام هي السياسة العمياء والمكيدة الماكرة لضرب العرب بالصميم.

واذا كانت الحكومات العربية قد زاغت عن سبل الفضيلة ونزعت عن المزايا والخلق الكريم فلا تعرف للاحسان قيمة ولا للعرف معرفة. فان الشعوب ولا سيما الشعوب العربية فيها على قلة بقية صالحة وخير كثير وانما يحتاج الى التوجيه والتنوير.

وقد شرع القرآن شريعة العدل والاحسان فقال تعالى: (اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ). وقد أخذ بها المسلمون في أول عهودهم فنجحوا وتركتها الحكومات الإسلامية فما ربحوا.

السانحة الثانية تدهور الأخلاق

ان الاخلاق والفضيلة والمثل العليا والنواحي الروحية قد بلغت من التردي والسقوط والتدهور في هذا العصر الى أبعد حدودها. استعرض على ذهنك كل ما على هذه الأرض من الممالك والأمم والشعوب والقبائل فان كانت ذات دين او نجاة فهل تجدها قد تقيدت بشيء من دينها او التزمت بحكم من أحكام شريعتها مثلاً ان أصول الفضائل في العهدين القديم والجديد والوصايا العشر وخطبة المسيح على الجبل وأهم ما فيها لا تقتل لا تسرق ولا تزني لا تكذب الى آخرها، فهل تجد شيئاً من هذه الفضائل عند اليهود او النصارى بل وعند أكثر المسلمين بل وحتى عند البراهمة والبوذيين الذين هم أشد الأمم تمسكاً بديانتهم والتزاما بتقاليدهم، وأهم الأحكام عند البراهمة الذين لا يسوغ في شريعتهم مخالفة بوجه من الوجوه لا اضطراراً ولا اختياراً حرمة ذبح الحيوان بل حرمة إيذائه حتى الهوام والحشرات والانسان بالضرورة أشرف من الحيوان ومع هذا فلما نشبت الحرب بين الهندوس وبين المسلمين قبل سنوات صار ألوف المسلمين بل مئات الألوف نساءاً ورجالاً وأطفالاً تصب عليهم القنابل من الطائرات في جو السماء والمدافع في دو الأرض. يحرمون قتل النملة ولا يحرمون قتل الناس جملة.

أما أمريكا فقد نسفت مدينة من كبريات مدن اليابان بكل من فيها من السكان والذرية، بفضل القنبلة الذرية. ما أدري بلحظة واحدة أو أكثر. كما لا أدري ما ذنب أولئك المساكين من البش حتى يهلكوا جميعاً على صعيد واحد، وبنفخة واحدة. وأمريكا تدين بدين النصرانية وتبشر به وتوراتهم وإنجيلهم يصرخ في كل فرد منهم لا تقتل، لا تقتل. والإسلام يشدد في أمر القتل ويحرمه أشد حرمة. الا في موردين او ثلاث لأسباب خاصة من قصاص ونحوه. كما يحرم الظلم والعدوان، ويوصي بالشفقة والرحمة، والعطف حتى على الحيوان. وأوصى بالشفقة والرقة حتى على الكلب فقال اذا رأيت الكلب يلهث من العطش فاسقه الماء فان لكل كبد حرى أجراً. وقال لا تضرب وجه دابتك ولا تحملها فوق طاقتها واذا بلغت المنزل فابدأ بسقيها وعلفها قبل نفسك. وقال ان للماء أهلاً فلا تبولوا فيه فتؤذوهم. وقال لا تحرقوا بيوت النمل. وقال أمير المؤمنين علي عليه السلام في بعض خطبه: والله لئن أبيت على حسك السعدان مسهداً، او أجر في الاغلال مصفداً أحب إلي من ان ألقى الله ورسوله يوم القيامة ظالماً لبعض العباد، وغاصباً لشيء من الحطام. ويقول في آخرها: والله لو أعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على ان أعصي الله في نملة أسلبها جلب شعيرة ما فعلت.

هذا اضمامة صغيرة من زهرات آداب الإسلام وتعاليمه وحال الأصحاء من رجال المسلمين وأئمتهم. ولكن هل تجد شيئاً من ذلك عند المسلمين اليوم من عامتهم بل الكثير من خاصتهم.

أصبح اليوم الظلم والعدوان على حق الغير، والقسوة والرشوة، والكذب والبهتان، والقتل بجميع أنواعه، وما الى ذلك من المساوئ والرذائل، طعاماً سائغاً هنياً، يسيغه الناس كما يسيغون طعامهم وشرابهم من غير وحشة ولا نكير.

ولا أريد ان أستوفي هذا الموضوع حقه، وأخوض فيه الى أعمق نواحيه، إنما  الذي اريد ان اقتله بحثاً وعلماً، واصل الى قعره وغوره، وهو معرفة العلة والسبب في هذا الانقلاب الذي يشبه ان يكون انقلابا فجائياً في هذه الأمة التي تقول بلسانها انها أمة مسلمة وليس لها من روحيات الإسلام وحقايقه وخلايقه شيء قل أو كثر.

نعم أمعنت النظر وأنعمت الفكر وقايست بين هذا العصر والعصر الذي أدركته قبل نصف قرن أيام حكومة الأتراك المسلمة والتفاوت الشاسع بين الحالين مع القرب بين الحالتين الذي جعله عندي انقلاباً فجائياً فكرت وتدبرت الأسباب والمسببات والعلل والمعلولات فلم يوصلني السير الحثيث والبحث المتواصل الا الى أمرين أحدهما يعتنق الآخر ويلازمه.

( الأول ) توغل الاستعمار وتمكنه من هذه الاقطار الإسلامية ومن المعلوم ان الاستعمار عند أربابه فن من الفنون وله إدارات ووزارات ودروس ومدارس وأساتذة وامتحانات وإجازات.

وقد تجلى لهم كما هو الواقع ان الغرض الأتم والفائدة المتوخاة لا تحصل لهم الا بتغيير نفسيات المسلمين ووجدان الإسلام بروحه وجوهره هو الأخلاق والملكات الفاضلة وهي تقوم على أساس رصين من شيِّنات الخير الثلاث يلازم بعضها بعضاً ولا ينفك أحدها عن الآخر وهي: الشرف. الشمم. الشهامة. في قبال شينات السوء. الشر . الشؤم. الشغب.

أول بذرة غرسها النبي في نفوس أصحابه الأولين وهم أولئك الضعفاء المساكين كصهيب الرومي وبلال الحبشي وسلمان الفارسي لا مال ولا رجال ولا عشيرة في محيط يتماوج بجبابرة قريش وطاغوتها وخيلاتها.

غرس في نفوس أصحابه العزة والاباء وكرامة النفس واحتقار المادة والصلابة في الدين فقال ما معناه: تذل السماوات والأرض ولا يذل المؤمن، وتزول الجبال ولا يزول إيمانه وقال في كتابه العزيز: (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ). وقال: (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ). وقال: (قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنْ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً).

أما اليوم فهم يقاتلوننا ويجدون فينا رخاوة بل مساعدة على قتل إخواننا.

يقتل بعضنا بعضاً ويمشي
 

 

أواخرنا على هام الأوالي
 

 

رأى المستعمر ان المسلم يستحيل ان يرضى بعار الاستعمار ويلبس ثوب الذل والصغار، ما دام مسلماً يعرف لنفسه عزة وكرامة وشرفاً وشهامة، واذا فلا مناص لمن يريد ان يستعمر المسلمين ان يسلبهم قبل كل شيء عزتهم وإيمانهم، حتى يستطيع ان يأخذ بسهولة أموالهم وبلدانهم وبأي شيء يستطيع سلب عزتهم وكرامتهم وسلب إيمانهم وشهامتهم؟.

( الجواب ) سهل واضح يتوسل الى ذلك بالمغريات واشراك الشهوات وحبائل المال والمادة وهكذا فعل وهكذا وصل وهكذا صارت حالة المسلمين وذهب منها كل خلق كريم. وصارت طباعها تمج الفضيلة وتستلذ الذلة والرذيلة ولا تجد لنفسها أي قيمة إزاء الظالمين والمستعمرين، أراك تشك في هذا أيها المسلم فان كنت تشك فانت مسلوب الحس والشعور أيضاً كما انك مسلوب العزة والكرامة.

ومما زاد في نمو هذه البذرة بذرة المهانة والذلة واحتقار النفس ونكران الذات والانغماس في الشهوات والعزوف عن صفات الأماجد وأماجد الصفات هو ( الأمر الثاني ) الذي تولد وتكون من الأمر الأول. ذاك سكوت المرشدين والواعظين بل الأصح في التعبير عدم وجود مرشد لبيب، او واعظ او خطيب، يصرخ في هذا المجتمع الهالك صرخة توقظه من نومه بل تحييه من موته وتنشره من قبره، تراكمت العلل والأمراض في جسم هذه الأمم الإسلامية ولا طبيب يتصدى لعلاج واحدة من عللها من سائر مللها بل سرى المرض الى الأطباء فالمريض والطبيب سواء.

( رب داء سرى فأعدى الطبيب ).

المغريات وبواعث الشهوات بالألوف والملاين، والمثبطات والعظات ولا واحدة فكيف يكون الحال.

السانحة الثالثة كيف نحل مشكلة فلسطين

ان اختلاف كلمة المسلمين في القرن السادس والسابع للهجرة سبب حدوث الحروب الصليبية وغلبة المغول والتتر على الممالك الإسلامية. وفي القرن الثالث عشر والرابع عشر للهجرة أدى اختلاف كلمة المسلمين ايضا الى ابتلائهم بالاستعمار الأوربي، فاستولى الإنكليز على مصر والمحميات التسع وإمارات الخليج والعراق والحجاز واستولت فرنسا على الجزائر وتونس ومراكش ولبنان وسوريا.

واختلاف كلمة الدول العربية بعد الحرب العالمية الثانية هو الذي أدى الى فاجعة فلسطين وانشاء دولة إسرائيل.

والعالم العربي الآن يعرف جيداً ان لإسرائيل أهدافاً اعتدائية. ويعرف ان إسرائيل كالنار الملتهبة تستمر في حرق ما يجاورها او تخمد ويقضي عليها، وكالوباء والمكروبي الذي يظل منتشراً او يقتل ويفني.

ان قضية فلسطين في القوت الحاضر بعد ان اعترفت بها دول كثيرة أصبحت معقدة جداً حلها يحتاج الى كثير من الحكمة والحذر والصبر والشجاعة. ولمعالجتهاينبغي ان نأخذ بنظر الاعتبار أموراً كثيرة أشير الى بعضها:

  1. يجب الابتعاد عن الاقوال الفارغة والوعيد والتهديد والحذر من التظاهر بالدعوة الى الانتقام والثأر، والجولة الثانية، تلك الدعوة التي تدسها وتنشرها الدول الاستعمارية علناً عن سوء قصد، كي تلهي العرب بالخيال والأماني عن الواقع المر، ونحول نقمة العرب منهم الى إسرائيل.

وينبغي الحذر من دسائس الإنكليز والأمريكان ودحض دعابتهم التي تظهر العرب بمظهر المعتدي والمنتقم والحال ان العرب يطالبون بحقهم وهم الموتورون. ولو ردوا اليهم بلادهم لم يكن لهم مع اليهود ولا غيرهم حقد أو سوء. وقد عاش اليهود مع العرب بسلام حقبة طويلة من الزمن.

  1. ان أصل بلاءنا بإسرائيل كما ذكرنا من إنكلترا التي كونتها، وأمريكا التي شجعت إسرائيل وعاونتها. فخلاصنا من إسرائيل مرتبط ارتباطاً بخلاصنا من الاستعمار.

فان استقلت الدول العربية استقلالا كاملا، وتكونت فيها حكومات نزيهة مخلصة تتعاون وتتحد وتتسلح للقضاء على الخطر تهيأ الخلاص للعرب من إسرائيل وماتت من نفسها بلا عناء بل تموت بدون حرب وتستلم في الحال بلا قتال ولا جدال، لطالب العرب ويمكن حينئذ ضم القسم اليهودي الى الاتحاد العربي الواسع ومعاملتهم كمواطنين او اعتبارهم من أهل الذمة حسب قانون الإسلام.

  1. ان اختلاف كلمة دول العرب هو الذي أدى الى الكارثة ولا يتمكن العرب من إيقاف نمو إسرائيل او القضاء عليها الا بتضامنهم واتحادهم، والا فان البلاء اذا توسع هذه المرة فانه سوف يعم الجميع بل يؤدي الى فناء العرب وتشريدهم في الآفاق وينعكس الأمر فيصبح اليهود مجتمعين آمنين في بلدان العرب، والعرب مشردين عن بلدانهم وأوطانهم.

ولا ينفع حيئذ الندم ولا يمكن العلاج فان مثقالا من الوقاية خير من قنطار علاج وسوف نكون نحن الاسلاف لعنة الاخلاف وسبة الأجيال، واذا بقينا على خدرنا وكسلنا ونومنا العميق ستصلنا النار في القريب العاجل. بالله عليكم ايها العرب ارحموا انفسكم من العذاب الذي تعاونونه الآن ومن البلاء يدبره لكم الأعداء. ووحدوا صفوفكم وتضامنوا وتعاونوا ولا تتهاونوا تنجحوا وتفلحوا.

السانحة الرابعة النصح والارشاد، هل ينفع في دفع الشر والفساد؟

قد يقول قائل ان الموعظة والنصيحة مهما كانت صحيحة بليغة او فضيحة، ولكنها أصبحت في هذه العصور وفي هذه الأيام عديمة الجدوى فاقدة الفائدة ليس فيها الا العناء واضاعة الوقت فان الشر والفساد قد استحكم في النفوس حتى صار كطبيعة ثانية او ثابتة فيها الكلام لا يغير الطباع ولا يحل النظام. وقد قيل: غيروا ظروفكم تتغير أخلاقكم. يعني ان الانسان تكونه الظروف وتخلقه البيئة وقد انحدر سيل الفساد من أعالي جبال المدينة المادية كالتيار المتدافع لا ترده صيحات الصائحين، ولا تصده نصائح الناصحين، وعظات الواعظين، وكل من يقف في سبيل هذا السيل يحرفه ويقضي عليه.

( أقول ) وليست هذه النظرية من النظريات الحديثة وممن كان شأنها شدى بها في القدئم فيلسوف (المعرة) ونظمها في لزوميتها وفي غيرها بأساليب مختلفة مثل قوله:

كم وعظ الواعظون منا
فانصرفوا والعناء باق
 

 

وقام في الناس أنبياء
ولم يزل داؤك العياء
 

 

ويقول:

غلب البشر منذ كان على الخلق
واذا ما النفوس لم تقبل النصح
 

 

وماتت بغيظها الحكماء
فماذا تفيده النصحاء
 

 

وأبدع في كلمته المشهورة:

يروق مرأى لبني آدم
أحسن من أحسنهم صخرة
 

 

وكلهم في الذوق لا يعذب
ولا تظلم الناس ولا توكب
 

 

وسبقه المتنبي في مثله السائر :

               الظلم من شيم النفوس فان تجد . . . 

وقد أخذه من كلمة لأمير المؤمنين سلام الله عليه من كلماته القصار وجوامع الكلم وقد حلق اليها ابو الطيب وانحط دونها:

( الظلم مودع في النفوس، والقوة تبديه والضعف يخفيه )

ولكن هل في هذا واضعاف أمثاله من منظوم ومنثور، ومشهور ومأثور، قناعة لذي اللب بسقوط هذه الفريضة وارتفاع هذا التكليف؟ وهل الموعظة والإرشاد إلا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي هو من أهم فرائض الإسلام وأقوم أسسه ودعائمه؟ وهل كانت وظيفة الأنبياء والرسل سوى هذا؟ وهل نزلت  الكتب إلا لهذا؟ وكانت الأمم الغابرة التي بعثت الأنبياء اليها أغلظ طباعاً وأشد قسوة وامتناعاً، من الأمم المتأخرة وقد سرد القرآن الكريم قصص الأنبياء وما تحملوا في سبيل الدعوة من الجهد والعناء وضرب أروع الامثال في هذا المجال. أنظر الى حال نوح ومن بعده من أولاده من الأنبياء وماذا قاسوه من المهالك كل ذلك كي نعتبر ونتأسى بهم ولا نخلق لانفسنا الكهوف والمغارات لنستريح اليها وننزوي فيها ونتكلف المعاير للتهرب منها.

وأصح ما وصل اليه الباحثون في علم لنفس ان الانسان بحسب أصل فطرته وطبيعته ساذج مرن يجوز ان يتشكل بكل شكل ويتلون بكل لون حسب الظروف والملابسات والتربية والتربة لا اقتضاء فيه لخير ولا شر.

نعم لا ريب ان لكل طبيعة من الطبائع شواذاً يقال عنها (شواذ الطبيعة) فيوجد بل وجد أفراد لا تنفع فيهم العظة ويهزؤن بالنصيحة كما أخبر عنهم جل شأنه: (قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً). (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ) والقرآن يجعلهم موتى ((إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى * وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ)).

ولكن هذا النوع قل أو كثر لا يسقط التكليف لاتمام الحجة وقطع المعاذير وليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة. واذا تركنا العظة والتبليغ لوجود مثل هؤلاء في البشر يكون كمن ترك الماء لأن شخصاً شرق بالماء فمات.

المواعظ البالغة هي وظيفة الأنبياء ومن أجل وجوب القيام بها صار العلماء ورثة الأنبياء تلك العظات كالسحاب الماطر اذا أصاب الأرض الطيبة أنبتت نباتاً حسناً واذا وقع على الخبيثة أخرجت شوكا او ملحاً. كل هذا مما لا مراء فيه انما الداء العضال وعقدة الإشكال في الواعظين فأين الواعظون المتعظون وأين الصالحون المصلحون والكل يعلم ويقول ان الكلام اذا خرج من القلب دخل في القلب واذا خرج من اللسان لا يتجاوز الآذان وأصوان الفرايض يجمعها ثلاثة عناوين يجب لى كل انسان ان يعلم ثم يعمل ثم يعلم وروح هذه الأصول الثلاثة الاخلاص والمعرفة وعلى درجات الاخلاص يكون التأثير في المحل القابل، والاستعداد الكامل، وصف المتقين أمير المؤمنين  عليه السلام  فما فرغ من خطبته حتى صعق همام ولحق بإخوانه المتقين، ووعظ بعض العرفاء شاباً من تلاميذه فشهق شهقة كانت روحه فيها فجاءت أمه تبكي ومعها أهله يطالبون الشيخ بديته فقال الشيخ نفوس طهرت وطابت، ثم دعيت فأجبت، خذوا ديته ممن أخذه ممن دعا فلباه وتجلى له فاستهواه.

نعم هكذا تصنع المواعظ البليغة في من يعيها من سامعيها أما أنا وأنت وأمثالنا من الهياكل البشرية الجوفاء المشحونة بالهوس والأهواء فأي أثر لوعظنا، وأي فائدة في إرشادنا لو أرشدنا نحن علماء نتلو آيات الكتاب ونعرف فقه الحديث ولكن من طراز الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها... ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد الى الأرض واتبع هواه.

مضى عليّ أكثر من خمسين سنة وأنا أهيب بإخواني المسلمين أدعوهم الى الاتفاق والوحدة وجمع الكلمة ونبذ ما يثير الحفائظ وينبش الدفائن والضغائن التي أضرت بالإسلام وفرقت كلمة المسلمين فأصبح الإسلام غريباً يستنجد بهم. تكالب عليه أعداؤه وجاحدوه وخذله أهله وحاملوه. ومن أراد شاهد صدق على ذلك فليراجع الجزء الأول من (الدين والإسلام) او الدعوة الإسلامية الذي طبع منذ 44 سنة ولينظر أول صفحة من الى صفحة 27 تحت عنوان ( البواعث والدواعي لهذه
الدعوة ). ثم يشفع هذه النظرة بأخرى في أول الجزء الثاني منه فيرى المقطوعة التي يقول أولها:

بني آدم إنا جميعاً بنو أب
 

 

لحفظ التآخي بيننا وبنو أم
 

 

ومنها يقول:

رأيتكم شتى الحزازات بينكم
خذوا ظاهراً من صورتي فضميرها
يود لو ان الأرض تصبح جنة
بني آدم رحماكم في قبيلكم
حناناً على هذي النفوس فإنها
هلم نعش بالسلم عصراً فإننا
إليكم بني الأديان مني دعوة
الى السلم فيكم والتساهل بينكم
 

 

وما بينكم غير التضارب بالوهم
تصور من روح التحنن والرحم
تفيئكم ظل السلامة والسلم
فقد جزتم بري العظام الى الهشم
سماوية من رشح ذيالك اليم
قضينا عصوراً بالتضارب واللدم
دعوتكم فيها الى الشرف الجم
فيا حبذا شرع التساهل والسلم
 

 

ولم تزل نشراتي ومؤلفاتي في أكثر من نصف قرن سلسلة متوالية الحلقات متصلة غير منقطعة كلا في النصح والإرشاد والدعوة الى الاتحاد، ودفع الفساد، وقد طبع ( أصل الشيعة ) تسع مرات في كل واحدة مقدمة طويلة في الحث والبعث الى الوعي واليقظة، وان البلاء على الإسلام قد أحاط بالمسلمين منهم ومن الملحدين ومن المشركين.

وفي خلال هذه البرهة تحملت الأسفار وركبت متون الأخطار في البر والبحر والهواء، وانا في المرحة الأخير، من الحياة المنهوكة بالعلل والأسقام والتي هي تحت أجنحة الحمام، كل ذلك في سبيل الدعوة الى الخير والحق، وخدمة الإسلام خالصاً لوجهه الكريم لا نريد مالا او جاها ولا جزاء ولا شكورا. ومع ذلك أجدني مقصراً، ولا أرى لعظاتي ونصائحي أثراً فما السر في ذلك؟ حديث غريب يحز في النفس ويبعث الألم.

أظن ( وظن الألمعي يقين ) ان التأثير يحتاج الى قوة وصلابة، يحتاج الى شجاعة أدبية وصرامة دينية، وجرأة واندفاع لا رخاوة فيه ولا هوادة، لست أنا ذلك المؤمن الذي لو القى على الرجل فرية أقول له أسكت يا كذاب. او جلس عندي شارب الخمر أقول له قم يا فاسق واذا زارني الظالم أكرمه وأركن اليه والله جل شأنه يقول: (وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمْ النَّارُ) لو اننا نقول للكاذب أت كاذب وللظالم أنت الظالم لما وصلنا الى هذا الحال التعيس الذي يلعنه حتى إبليس.

نعم هذا السكوت وهذا النفاق وهذه المخاتلة التي نسميها مجاملة. والمخادعة التي نقول انها مصانعة.

هذه التلبيسات الشيطانية الناشئة من خور الطبيعة وضعف الدين وهزال اليقين هو الذي جرأ المسلمين وجرهم الى ارتكاب هذه العظائم والجرائم غير مبالين ولا مكترثين.

انا سكتنا عن الكذاب فانفتحت
يلقي علينا أقاويل مزخرفة
 

 

أمامه لفنون الكذب أبواب
ولا نقول له أسكت أنت كذاب
 

 

هذه الخمور التي تباع جهاراً في أسواق المسلمين وفي حوانيت المسلمين هي محاربة لله ولرسوله وللاسلام. نقول لك بلسان حالها من وراء زجاجتها لى رغم أنفك أيها المسلم أتيت من أوربا لتشتريني وتدفع المال يصنع به السلاح لاستعبادك واستعمارك. تقول لك على رغم دينك وقرآنك الذي يقول: (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ ). ها أنا ذا بارزة أمامك وأمام المسلمين يمرون على تلك الحانات غادين ورائحين فهل حركت الغيرة جماعة منهم لمكافحتها او مكافحة من يراودها ويرودها ويخرج منها مثلاً بتمايل؟ هل هجم ذو غيرة وحمية للدين والقرآن فيحطم تلك الزجاجات والقناني التي قد يكون أثرها على البلاد أسوء من القنابل بل هي القنابل الصامتة والمدافع الخرساء؟ هل هجم عليها أحد كما هجم جدنا كاشف الغطاء على حانة خمر لأحد الصوفية في شيراز فأراق خمورها في الشوارع فأنشأ الصوفي في البيتين البديعتين بالفارسية:

( شيخ نجفي شكست خمخانه مي ) البيتين المشهورين.

نعم سكوتنا عن المجرمين شجعهم على الجرائم والساكت عن المجرم شريكه في جريمته، يقول الكتاب العزيز لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه، ومما يثير العجب آية أخرى تقول: وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا) يفسق المترفون فتدمر القرية كلها.

نعم سكتوا عن المترفين او ساعدوهم. ونيرون لو لم يجد المساعدين من رعيته لما احرق المساكين. ويزيد لو لم يجد يساعده ابن زياد وابن سعد لما قتل الحسين وسبى عياله. وعتاة الصهيونية لولا أمريكا وانكلترا لما هجموا كل يوم على العرب والمسلمين يقتلون رجالهم ونساءهم وأطفالهم ثم تصر أمريكا على العرب بقبول ذلك الصلح الكافر. والظلم السافر الذي يهون الموت دونه ودون الخضوع له، وليعلم بنو العم سام وذيولهم سكسون وصهيون. انه من المستحيل بين العرب وإسرائيل، ان يقع صلح، او يندمل جرح، الا ان يرجع الحق لأهله ويعود العدل ال نصابه وترد البلاد لأربابها، ويخرج منها غاصبوها. والا فاذا انقطع الأمل في تلك الدول، ومن المربوطين بعجلتها العابدين لعجلها من الحكومات العربية، فأما ان تنهض الشعوب العربية معتمدة على نفسها وتعد عدتها وتوحد كلمتها وتأخذ ثأرها، وتغسل عارها، وتلبس الثياب الحمر وتنزع الثياب السود والا فلا معول بعد هذا الا ان تضربهم يد السطوة الأزلية بضربة من ضرباته التي لا يزال يضرب بها من طغى وتجير وحكم وظلم والحد وأفسد ثم يبطش بهم بغتة (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ وَمَا هِيَ مِنْ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ).

(سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا).

ألم تر كيف فعل ربك بعاد إرم ذات العماد الي لم يخلق مثلها في البلاد وثمود الذين جابوا الصخر بالواد وفرعون ذي الأوتاد الذين طغوا في لبلاد فاكثروا فيها الفساد فصب عليهم ربك سوط عذاب ان ربك لبالمرصاد.

اللهم ان هذا الثالوث المشوم: أمريكا، انكلترا، فرنسا قد سفكوا من دماء البشر ما لم تسفكه السباع الضواري في الغابات والصحاري. قد تمر السنة ولا نسمع ان السباع والذئاب افترست أناساً وهؤلاء كل يوم يفترسون ألوفاً من البشر اللهم انهم قد حكموا في البلاد وأكثروا فيها الفساد وظلموا عبادك وهتكوا كل حرمة وارتكبوا كل حرام فأذهبهم بعاجل عقابك. وأضربهم بسوط عذابك حتى يستريح العالم كله من شرهم ومكرهم وشياطينهم وسلاطينهم، واقطع دابر القوم الذين ظلموا وقيل الحمد لله رب العالمين وسلام على المرسلين والمصلحين.

 

الأحزاب السياسية

يقول الناشر: سمعت البعض يقول:

ما بال سماحة الامام يتدخل في السياسة وهو رجل ديني روحاني؟ فسألته عن هذا وعن رأيه في الأحزاب فأجاب دامت بركاته قائلاً: اما الأحزاب فحتى الآن لم يظهر منها الفائدة المتوخاة ولم تصل الى درجة من القوة تجلب الشعوب اليها حتى تقوم بأعمال جذرية في الاصلاح ولا أخص هذا في العراق بل في جميع البلاد العربية لم نجد منها الاعمال المجدية وذلك أما لعدم تضامنها وعدم تأييد بعضها لبعض او لغير ذلك من الاسباب، وعلى كل فنحن نتمنى لها التوفيق وان يمدها الله بروح من العناية عساها ان تأتي بعمل جدي ومجد.

أما التدخل في السياسة فان كان المعني بها هو الوعظ والإرشاد والنهي عن الفساد، والنصيحة للحاكمين بل لعامة العباد، والتحذير من الوقوع في حبائل الاستعمار والاستعباد، ووضع القيود والأغلال على البلاد وأبناء البلاد.

ان كانت السياسة هي هذه الأمور فأنا ( وأعوذ بالله من قولي أنا إلا في هذا المقام).

نعم أنا غارق فيها وهي من واجباتي وأراني مشغولاً عنها أمام الله والوجدان وهي من وظائفي ووظيفة آبائي الذين كانت لهم الزعامة الدينية منذ ثلاثة قرون أو أكثر لا في العراق (فحسب) بل في دنيا الإسلام كله وزهي النيابة العامة، والزعامة الكبرى، والخلافة الإلهية العظمى. (يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ). وفي بعض زيارات الأئمة الجامعة ( وأنتم ساسة العباد وأركان البلاد ).

فسياستنا هي سياسة النبي والأئمة سلام الله عليه وعليهم الخالية عن كل هوى وهوس وطمع ودنس. (وَلَا تَتَّبِعْ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ). واذا لم يتصد لها او يقوم بها آخرون فلعله معذور، ولتقصير او قصور.

واذا كان المعني بالسياسة: هو أحداث الفتن والثورات، والاضرابات والاضطرابات، للتوصل الى الحكم والجلوس على الكراسي الناعمة لمعاملة الناس بالخشونة والغطرسة والكبرياء واستغلال النفوذ للمنافع الذاتية والأطماع الدنية، والسمسرة للاجانب على البلاد وتسلطهم على الأمة ولو باراقة الدماء، ان كانت السياسة هذا وما اليه. فاني أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الغوي الرجيم. ( قل هل أنبأكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنة الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت أولئك شر مكاناً وأضل عن سواء السبيل ) وحسبنا الله ونعم الوكيل.

كلمة ناعمة

اذا كانت الغاية (كما يقولون) تبرر الوساطة، خصوصاً في بعض الأحيان والأحوال. واذا كانت الأعمال بالنيات، والمبادئ تتبع الغايات. واذا كان الدين هو النصيحة، ولطمة الناصح (كما في أمثالهم) خير من قبلة الغاش. وان الساكت عن الحق شيطان أخرس. وان افضل الجهاد كلمة عدل عند إمام جائر. وان الله قد أخذ على العلماء ان لا يقاروا على كضة ظالم ولا سغب مظلوم (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمْ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمْ اللَّاعِنُونَ).

هذا من جهة ومن جهة أخرى. ان العرب والمسلمين قد صاروا بالحال الذي أنبأ وتنبأ عنه نبي الإسلام حيث يقول لأمته يوشك ان تتداعى عليكم الأمم كما يتداعى الجياع على القصاع. فقالوا: أمن قلة فينا يا سول الله. فقال: لا بل أنتم يومئذ كثيرون ولكن غثاء كغثاء السيل من اتباع الهوى واختلاف كلمتكم. ويشهد لهذا الإسلام عموما والعرب خصوصاً لا تزال منذ قرون تنهشها أفاعي الاستعمار وزاد عليها في هذا القرن عفاريت الصهيونية والشيوعية. وأحاطت بها من الخارج العفاريت الثلاثة الشيوعية، والصهيونية، والعفريت الأعظم ( الاستعمار ) العتيق والجديد، ومن الداخل اختلاف كلمتها وتضارب بعضها ببعض، وفساد اخلاقها الى حد بعيد.

اذن: فمن له أدنى وقوف على ما نحن فيه من هذه الظروف اذا نظر الى ما نفثته براعتي في هذه الصحائف، لا يشك ان ذلك لم ينبعث الا عن زفرة قلب مشتعل، وفورة بركان ملتهب يقذف الحمم جمراً، ويرمي باللهب قسراً.

زفرات حرية بأت تكون حرى، لا يستطاع امساكها ولا استدراكها، وكيف يستطيع الغيور، الصبر على هذه الأمور، وهو يرى بلاده نهباً مقسماً، للأعداء مغنماً، والمسلمون صاروا أذل من اليهود بل فريسة لهم. ومع هذا كله، فما أردنا ان نخدش عاطفة، او نمس كرامة او ننال أحداً بسوء.

نعم ان ما أردنا فيما أوردنا الا النصيحة. وما بعثنا عليه الا الاخلاص في أداء رسالتنا، والقيام بواجبنا، وخروجاً عن عهدة المسؤولية يوم الحساب كي لا يقال لماذا لم نأمر بالمعروف وأنت تعرفه ولم تنه عن المنكر وانت تبصره. وها أنا ذا قد وقفت على عتبة الثمانين، وأخذت أهبة الراحلين غداً او بعد غد ( وما أنا إلا هامة اليوم او غد ). وقد انهكت قواي الأيام والآلام،ولم يبق من متع حياتي إلا آلامي وأقلامي، عساني أنتفع بالأولى، وأنفع أمتي بالثانية.

واذا كان في البيان، بعض الأحيان، خشونة، او في المقال شدة، فان الاعمال بالنيات، والعبرة بالمقاصد، لا بظاهر الكلمات. ولعل هذه الكلمة الناعمة ترفع تلك الخشونة، وتلين بها تلك الشد. فما قصدنا إلا الخير. ولا أردنا إلا المجد والمنعة، والعلو والرفعة والنصيحة الخالصة، لا لبلادنا (العراق) فحسب، بل لما هو أوسع من سائر أوطاننا العربية المجاورات لنا، العزيزات علينا كالأردن والكويت والمملكة السعودية، وما اليها من لبنان وسوريا ومصر واليمن، بل وما بعدت المسافات ما بينا وبينهن وهي منا ونحن منها، ديناً ولغة وأخلاقاً وأعرافا ومحنة، كتونس والجزائر ومراكش وليبيا، بل وعامة الممالك الإسلامية التي تشاركنا في الدين كما تشاركنا في الابتلاء كإيران والأفغان والباكستان وإندونيسيا.

ولو ان هذه الشعوب والممالك خلصت لله نيتا، وأحكمت وحدتها ووحدت كلمتها، وسحقت الأطماع وسياسة الخداع ما بينها، عارفة حق اليقين، ان مصارع العقول، تحت بروق المطامع، وان الاتحاد قوة، والاجتماع ثروة.

لو انها صنعت ذلك عن جد وحقيقة، لجعل الله منها قوة هائلة تخضع لها جميع دول الدنيا كما خضعت للاسلام من قبل.

والدول الغربية عرفت ذلك حق المعرفة، فأخذت تعمل كل ما في إمكانها من التدابير، وأمعنت في الدول الإسلامية، والشعوب العربية تفريقاً وتمزيقاً، ووضعت الحدود والقيود، وفرقت بين المرأ وزوجه، والأخ وأخيه، والولد وأبيه، فكيف لا تفرق بين أمة وأمة، ودولة ودولة.

أما آن لهذه الحكومات والشعوب ان تستيقظ من رقدتها، وتنشر  من موتتها، وتتدارك أمرها، أما أيقنت وأذعنت ان هذا الاستعمار الأعمى الظالم، بل المجنون العارم، يستحيل التخلص منه الا بالاتحاد العميق، والاتفاق الوثيق، وان تكون تلك الدول كأجسام فيها روح واحدة. ولكل واحدة التمتع بوحدتها واستقلالها مع انضمامها الى أخواتها في سائر أحوالها، بهذا حياة هذه الشعوب والدول، والا فالى الهلاك مصيرها لا محالة. ولا أقل ان يحصل للدول العربية او لشعوبها الوعي الصحيح الذي يدفعها للعمل الجدي والمجدي الموصل للغاية المنشودة من حرية وتقدم واستقلال واتحاد وما ذلك على الله بعزيز.

(رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا)

 

كلمة الناشر

كتب سماحة الامام دامت بركاته هذا الجواب الذي قد فاض به قلمه فابدع فيه بحقائق راهنة وأسرار عن الوضع العراقي كامنة وما تبيت له الدول الصديقة من البوار والتدمير والخداع السافر المكشوف من الدولتين الصديقتين أمريكا وإنكلترا وفضح (أيده الله ) تلك السياسة الغاشمة بأجلى بيان، وأوثق برهان.

نعم كتب كل ذلك على عادته من الرسل في الكتابة والخطابة من دون وقفة وأناة بل على جري القلم وعفو الخاطر وحضور البديهة مرتجلاً، بلا تحديد مراجعة في كتاب أو صحيفة او مقال مما يناسب هذه المواضيع التي تطرق اليها. ولذا ربما يفوته بعض ما يناسب المقام. مثلاً لم يذكر الأدلة التي تبرهن على سياسة حكومة أمريكاً العدوانية، وسعيها الحثيث لاشعال نار حرب عالمية، لاطماع واهداف وهمية وهي دحر الدول الشيوعية، والسيطرة على العالم.

ونحن لا ننكر ان الدول الشيوعية لها أهداف توسعية، ولكن المتابع لتصريحات زعماء الدول الشيوعية، يظهر له انهم لا يريدون الوصول الى غايتهم عن طريق إعلان حرب عالمية لما فيه من خطر عظيم على الانسانية، بل عن طريق الثورات الداخلية والتوسع التدريجي.

وعوضاً عن اتخاذ أمريكا أساليب مماثلة فتجلب اليها ود الشعوب وصداقتها بالمعاملة الحسنة والنية الصافية، تجدها تتفق مع الدول الاستعمارية القديمة في اتباع سياسة المكر والخداع البالية التي اصبحت سياسة غير مجدية أزاء يقظة الشعوب.

وتستعد في نفس الوقت لشن حرب عالمية عوضاً عن إصلاح الشؤون الداخلية للشعوب.

و إلى القارئ أهم الأدلة التي تثبت استعداد أمريكا لإعلان حرب عالمية.

  1. التصريحات الكثيرة التي أدلى بها كبار رجال السياسة الأمريكية موضحين استعدادهم للحرب العالمية.

ومن هذه التصريحات، ما نقلته صحيفة الحياد العراقية، تصريح المستر دالز وزير الخارجية الأمريكية في السابع عشر من كانون الثاني سنة 1954م عن الاستراتيجية الأمريكية الجديدة ( ان القرار القاعدي هو الاعتماد بصورة أولية على قابلية عظمى الانتقام في اللحظة والحال ).

وبعد ذلك وضح نائب رئيس الجمهورية المستر نيكسون هذه الخطة بقوله: ( اننا تبنينا مبدأ جديداً، فبدلا من ان نترك الشيوعيين يخزوننا وخزاً حتى نموت في طول العالم وعرضه بحروب صغيرة، فاننا سوف نعتمد في المستقبل على قوانا الانتقامية الهائلة الاجماعية المتحركة ).

وان كان المعنى الظاهري للانتقام هو الدفاع عند حصول اعتداء. ولكن المقصود الحقيقي هو الاستعداد لحرب عالمية، والانتقام من سياسة الدول الشيوعية ( آثار الحروب الصغيرة ) باعلان حرب عالمية.

  1. سعي أمريكا لبعث العسكرية الألمانية واليابانية، والاهتمام بالأحلاف العسكرية في الشرق الأوسط والشرق الأقصى ولو كانت خطة أمريكا خطة دفاعية لتساهلت في حل المشكلة الألمانية لأن خطر بعث العسركية الألمانية على أمن العالم جلي لكل انسان حيث قامت بإعلان حربين عالميتين.
  2. الاكثار من صنع القنابل الذرية والهيدروجينية وهي وسائل هجومية وليست وسائل للدفاع لأن وسائل الدفاع كما هو معلوم الملاجئ والطائرات المقاتلة والمدافع المضادة للطائرات والرادار وغيرها.
  3. اتخاذها موقفاً صلبا إزاء المشاكل الدولية ولم تقدم خطوة واحدة لتخفيف التوتر الدولي.

ان سياسة أمريكا الخارجية بعيدة عن المنطق السليم، فهي سياسة ذات طرف واحد تلاحظ مصلحتها القومية بدون ان تلاحظ مصلحة الدول والشعوب الأخرى.

ومن الأدلة على ذلك عدم الاعتراف بحكومة الصين الجديدة وموقفها من المشكلة الألمانية. وموقفها من قضية فلسطين.

وتأييد الاستعمار الإنكليزي والفرنسي والهولندي وغير ذلك. أمريكا اعترفت بإسرائيل وتمدها بالمال والسلاح وتعتبرها حكومة شرعية، ولكن ما اعترفت بحكومة الصين الجديدة، لأنها جاءت عن طريق الحرب والثورة.

نعم نوافقها على ذلك، ولكن حكومة الصين لم تحتل أرضاً أجنبية لم تشرد سكان قطر آخر، واعترفت بإسرائيل الدولة التي صنعت كل المخالفات.

وعندما تعالج أمريكا موضوع الحرب والسلم تعالجه على أساس بعيد عن المنطق والواقع بل تعالجه حسب مصلحتها. فهي لا تنظر الى الظروف الاجتماعية والتاريخية المعقدة التي تنشأ فيها الحرب وتتجاهل وجود حرب عادلة، للدفاع عن النفس، او المطالبة بحق مغتصب او اصلاح اجتماعي، وتتنامى عن وجود حروب اعتدائية غاشمة. وكأن أمريكا نست حربها مع إنكلترا في سبيل الاستقلال.

وعندما يدعو ساسة دولة أمريكا الى السلم، يقصدون به السلام المطلق في كل مكان وكل زمان. ومعناه استسلام الدول لسياسة أمريكا وأهدافها الاقتصادية، ودوام الاستعمار والاستغلال والاستعباد، والظلم والاضطهاد، ولا يعم السلام المطلق الا عند ما تتحرر الشعوب ويتم العدل والانصاف ويزول الاستعمار والاستغلال.

نعم يدعو ساسة أمريكا دائماً الى السلم المسلح وليت شعري متى كان التسابق على التسلح في التاريخ طريقاً للسلم. ان التمادي في التسلح يؤدي حتما ال الحرب. ان روح المحبة والتعاون ولمسالمة ولمفاهمة، في المجتمع البشري، دائماً هي طريق الخير والسلم وازدهار المدينة والعلم.

كما أشرنا الى وجود حروب عادلة وحروب اعتدائية في التاريخ، لا تنكر عدالة التسلح لرد الاعتداء. ولكن لا نستطيع ان نحكم ان دولة أمريكا تريد التسلح للدفاع. بل القرائن تدل انها تريد التسلح للحرب والاعتداء كما مر.

وفي العصر الحاضر الذي نما فيه وعي الناس وعقولهم وأفكارهم بفضل تقدم العلوم الاجتماعية، في هذا العصر الذي تضخمت فيه وسائل الحرب الى النهاية العظمى ووصلت حد الخطر لذلك من الأفضل الآن للدول اتخاذ سبيل المحبة والأخاء، وترك الاعتداء. والواجب على الشعوب ان تجبر حكوماتها لقبول هذا السبيل الوحيد لانقاذ الانسانية من الاخطار المقبلة. ان جميع الشعوب في العالم الآن تكافح كفاحاً شديداً لا فتور فيه ولا كلل في سبيل السلم. ان الشعوب ضجت من الآلام والمآسي والمظالم في الحرب والسلم وتريد انهاءها.

ان الشعوب مؤمنة بقدرة العلم على خدمة الانسان اذا توجه الى تلك الجهة. ان الشعوب تريد الأموال الطائلة التي تصرف على السلاح ان تحول الى الغذاء والكساء والدواء والبناء والكتب والمختبرات والمدارس والمستشفيات.

نجد ساسة دولة أمريكا تارة يدعون الى السلام ويعنون السلام المطلق، وتارة يدعون الى السلم المسلح. ولكن أحياناً تضيق نفوسهم من الكتب فيكشفون عن نواياهم ويصرحون ان لا حياة لهم بدون الرب وان الحرب الثالثة واقعة فعلاً في كوريا وفي الهند الصينية والأصح ان يقولوا انها واقعة فعلا في كل مكان من العالم، في كل مدينة وفي كل قرية من قراه، وفي كل مزرعة، وفي كل بيت من بيوته، الكل يصيبهم شرر من الحرب الحارة في كوريا والهند الصينية، وضرر من الحرب الباردة الموجودة في كل أصقع العالم([4]).

هذه سياسة حكومة أمريكا الخارجية، اما سياستها الداخلية فانها قد تركت المجال لعدد قليل من الشركات الكبرى لا تتجاوز المائة، تتحكم في حياة البلاد الاقتصادية، وغضت النظر كما مر عن اضطهاد الزنوج، وتهاونت في حفظ الأمن وسلامة أموال الناس وأرواحهم وأعراضهم.

فقد ذكرت بعض المصادر الموثوقة (ان مليوني حادثة انتهاك عرض فتاة وامرأة تحدث سنوياً في شوارع أمريكا غير المضاءة إضاءة حسنة).

((وتدل الإحصائيات الرسمية لعام 1952م ان 7210 أشخاص قتلوا و58140 سرقوا)).

ونلفت نظر القارئ الى ان سماحة الامام دامت إفاضاته لم يقصد من طعنه في سياسة دولة أمريكا، بث روح العداء لها بل لعله يقدر ما لها من ثقافة وصناعة وغيرها.

ولكن الغرض من ذلك حث الشعوب العربية والإسلامية والهند المحايدة لمقاومة تلك السياسة، فتضطر أمريكا أخيراً لتغيير سياستها، واتباع سياسة صحيحة تستهدف التعاون والتقارب مع جمع دول العالم وحفظ استقلالها، لأن ذلك أجدى في مكافحة الشيوعية.

وبالختام نسأل الله للشعوب الخير والهدى والسعادة.

وكان قد وردت بعد ذلك الكتاب برقية مسجلة جوابية من نيويورك من صاحب الكتاب المتقدم اليك ترجمة نصها:

شيخ. محمد الغطاء . النجف – بغداد.

اشارة الى دعوتكم في 15 مارس للاجتماع الديني في لبنان نرجو باحترام الاجابة برقياً عن عزمكم.

من نيويورك :                                                       هوبكنز

 الجواب:- لا نستطيع الحضور. بالأسف. نشكركم.

                                                                           كاشف الغطاء

احتجاج سماحة الامام كاشف الغطاء

الى رئيس حكومة الباكستان على قبول المساعدات العسكرية الأمريكية

بسم الله الرحمن الرحيم

فخامة رئيس وزراء الباكستان الأستاذ محمد علي دام عزه.

بعد السلام عليكم والدعاء لكم بالخير والسلامة والتوفيق والكرامة نبدي لمقامكم ان الدولة الباكستانية المحترمة هي دولة إسلامية وباسم الإسلام نشأت وتكونت فهي أحق الدول الإسلامية بأن ترعى وتراعي الشؤون الإسلامية والشعائر الدينية. والل سبحانه وتعالى يقول في كتابه الكريم: ((لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ)). ولا شك ولا اشكال في ان دولة أمريكا قد حادت الله ورسوله وحادت عن جادت العدل والإنصاف بالظلم والاعتساف على خصوص العرب وعموم المسلمين وغصبت منهم فلسطين وأعطتها لليهود ولا تزال تمدهم وتساعدهم بالسلاح والعتاد والأموال فلا يليق ولا يناسب من مثل دولتكم المسلمة ان ترتبط بدولة أمريكا بمعاهدات وخصوصاً معاهدات عسكرية. فان هؤلاء القوم رؤوس الاستعمار الموجب للبوار والدمار، وادخال الخزي والعار. فنحن نعيذكم بالله من مخالفة جمهور المسلمين والله يحفظكم ويرعاكم بدعاء.

20 ج 1 – 1373                                                  محمد الحسين

                                                                      آل كاشف الغطاء

 

 

 

مؤتمر الثقافة الإسلامية وعلاقتها بالعالم المعاصر

في جامعة برنستون

في حلال شهر آيار سنة 1953 ميلادية قدم الى العراق الدكتور فيليب حتى المؤرخ العربي الأستاذ في جامعة برنستون موفداً من الجامعة وسلم الى سماحة الامام كاشف الغطاء رسالة من الدكتور بيارد ضودج يدعوه الى حضور مؤتمر الثقافة الإسلامية وعلاقتها بالعالم المعاصر يعقد من 8 – 17 أيلول 1953 في جامعة برنستون وفي مكتبة الكونغرس في واشنطن من 17-19 أيلول. فاعتذر من الاستاذ حتى عن الحضور. كما اعتذر عن الحضور في هذا المؤتمر.

صدى الكتاب

في العالم العربي والإسلامي

لقد قابل جمهور الشعب في البلاد العربية والإسلامية، والزعاء المخلصون الكتاب بارتياح عظيم، واعتبره الناس معبراً عن شعورهم وآلامهم، وممثلاً لآرائهم ومصالحهم.

وقد نوه عن الكتاب عدد كبير من الصحف العراقية واللبنانية بما يستحقه من الإطراء منها: الاستقلال وصوت الأهالي والأخبار والزمان والشعب والحساب والوادي في العراق. والعرفان والهدف والتلغراف وبيوت المساء والصرخة في لبنان.

ووردت الى سماحة الامام تحارير كثيرة وبرقيات يبدي أصحابها سرورهم لصدور الكتاب واستحسانهم موقف سماحته المشرف من المستعمرين، واعجابهم ببلاغة بيان سماحته، وأصالة وإصابة الآراء التي أبداها سماحته بصراحة ووضوح.

ونقدم الى القارئ بعض تقاريظ الصحف ونصوص بعض الرسائل الواردة. سوف ننشر البعض الآخر في المستقبل.

في هذا الواقع المرير الذي تتخبط فيه البلاد العربية بعد ضياع فلسطين، توسعت هوة الاستعمار وصارت كل دولة تحاول شراء الضمائر الرخيصة لتستعمر بلادنا بالطرق الخفية.

وحلت أمريكا بعد إنكلترا في هذا المضمار. فعدا محاولاتها الاستعمارية العديدة من سياسية واقتصادية لجأت الآن لاى استعمار جديد فدعت فريقاً من رجال الدين من مسيحيين ومسلمين ال مؤتر عقد في (بحمدون) من أجل بحث القيم الروحية الموحدة بين الديانتين وطرق مجابهة الشيوعية. وقد تلقى سماحة الامام كائف الغطاء دعوة لحضور هذا المؤتمر غير انه اعتذر وفصل اسباب ذلك في كتاب ما لبث ان اخرجته المطبعة حتى انتشر في الالم العربي انتشاراً كبيراً للجرأة والصراحة ومجابهة الواقع التي تظهر ن قراءة هذا الكتاب.

ومهما بالغ الكاتب في إطراء كتابة الامام كاشف الغطاء فان القلم ليعجز عن ايفاء ما امتاز به رده اذ جاء مفصحاً لا يقبل زيادة لمستزيد ووضع النقاط على الحروف بفضحه أسرار المستعمرين وأساليبهم الخداعة.

وخوفاً من ان أضيع وقت القارئ فاني أضع أمامه بعض ما جاء في الكتاب من الحقائق الراهنة.

مؤتمر تعبئة القوى الروحية!

وجه رئيس جمعية أصدقاء الشرق الأوسط الأمريكية دعوة لعقد مؤتمر في (بحمدون) في الثامن والعشرين من هذا الشهر، يحضره خمسة وعشرون من رجال الدين المسلمين ومثله من المسيحيين، وذلك للبحث – كما قيل – في تعبئة القوى الروحية في العالم ضد ((العرفان)) لصاحبها الاستا أحمد عارف الزبن. العدد 7 أيار 1954.

القوى المادية المنبعثة من روسيا! أو كما ورد في الكتاب الذي وجهه نائب رئيس جمعية أدقاء الشرق الأوسط الى المدعويين: ((البحث في النواحي الروحية والقيم المثلى التي وردت في تعاليم الدين وتبيان عقم الفلسفة المادية الفانية))! هذا وقد جاء في هذا الكتاب أيضاً ((ان للديانتين الإسلامية والمسيحية أهداف واحدة.. كما ان لهما أعداء مشتركة، ومن بينها المغريات الدنيوية، والأغراض المادية، ثم الشيوعية))!! ثم يروح الكتاب يتحدث عن القيم الروحية في الديانتين، والطرق العملية لنقل هذه القيم الى الجيل الحديث! ويرشد الى ثلاثة من (أصدقاء)! هذه (الجمعية)! للاستفسار، وهم السادة: الدكتور محمد فاضل الجمالي، وعبد الله بكر، وموسى الشابندر! وأخيراً يعرب الكتاب عن استعداد الجمعية (لتغطية النفقات)!

لقد كان الرد الذي وضعه سماحة العلامة الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء، والذي ضمنه في كراس يقع في (61) صفحة لطمة عنيفة لهذا المؤتمر، وللداعين له، ولمؤيديه ولجمعية الشرق الأوسط وأصدقائها وجواسيسها.. لقد كان في الحق رداً رهيباً مخرساً لا يجادل ولا يجارى.

فمتى كان للأمريكان وأصدقائهم الإنكليز، قيم روحية ومثل عليا؟! ولماذا هذا الحرص على تعاليم الدين، ونحن تعلم عن تجربة مرة المذاق، ان ليس للاستعمار بين الأمريكان والإنكليز دين ولا ذمة؟!

ولماذا هذا التزهيد في (المغريات الدنيوية)!و(الأغراض المادية)! ونحن أعلم الناس بجشع وشره هؤلاء الأمريكان والإنكليز المتباكين على الدين والمتشبثين عبثاً: بقيم الدين وتعاليم الدين!

لئن كان الأمريكان والإنكليز زاهدين حقاً في (المغريات الدنيوية) و(الأغراض المادية) فلماذا ينهبون نفطنا وتمورنا وحاصلاتنا وأقواتنا؟؟! لماذا يقتلون عمالنا في شركاتهم النفطية عندما يطالبونهم بزيادة أجورهم لبضع فلوس؟! لماذا يفرقون إضراباتهم بالدم، ويطردونهم جملة وأفراداً ويعرضونهم في عقر دارهم الى التشرد والجوع والشقاء؟! لماذا هؤلاء الأمريكان والإنكليز (الزاهدين في الدنيا) يغزون بلادنا وغير بلادنا ببضائعهم وشركاتهم وبنوكهم ورؤوس أموالهم، وأخيراً بجيوشهم وطائراتهم ودباباتهم، ودسائسهم ومؤامراتهم وجواسيسهم وخبرائهم وشرورهم وآثامهم!؟

انهم يفعلون ذلك لأنهم بطبيعة الحال (أصحاب قيم روحية ومثل عليا) لأنهم (متمسكون بتعاليم الدين)! لأنهم زاهدون في هذه الدنيا الزائلة الفانية بمغرياتها!

انها لأعجوبة الزمان ان تنقلب ((الضواري)) الى ((حملان))! وان تتحول المستعمرات بين عشية وضحاها الى صوامع للعبادة وأديرة لرهبان الشركات الإحتكارية ودراويش الاستعمار!

((الوادي)) للاستاذ خالد الدرة، العدد 7 السبت 1 مايس 1954.

المثل العليا في الإسلام لا في بحمدون

صدرت الطبعة الثانية من هذا الكتاب الرائع الذي ألفه سماحة الامام المصلح الكبير محمد الحسين آل كاشف الغطاء، وتمتاز هذه الطبعة عن سابقتها باضافة مواضيع جديدة خطيرة نلفت اليها الانتباه كموضوع الإسلام والسلام وموضوع مؤتمر بحمدون وكيف تحل مشكلة فلسطين، وطاعة الرغبة أبقى من طاعة الرهبة والنصح والإرشاد لدفع الشر والفساد: كما تضمنت كملة الناشر كلمة عن الحرب والسلم ويلاحظ من هذه الأبحاث ان هذا الكتاب من الكتب النفيسة التي تستحق الدراسة.

ان من يطالع هذا الكتاب يحس بتدفق دماء الشباب المصلحين والغيرة الوطنية الصادقة، حتى ان هذا الشيخ الجليل ذكرنا بأسلوب مجلتنا (الوادي) في شبابها بل وأعاد الى أنفسنا الحنين الى ذلك الأسلوب الجرئ في محاربة المستعمرين وأذنابهم.

ان تأليف مثل هذا الكتاب من قبل العلامة كاشف الغطاء ليبعث الأمل الى النفوس بأن الكرامة الوطنية لها ركائز باقية فوق تربة الوطن، وان روح جمال الدين الأفغاني لم يمح أثرها من عقول بعض رجال الدين، وان الوطنية يمكن بعثها شاملة ما دام أمثال العلامة كاشف الغطاء يمسك بمشعلها ليحرق به الاستعمار وأوكار المستعمرين والخونة والمارقين.

(الوادي) للاستاذ خالد الدرة. العدد 10 السبت 15 ما يس 1954.

المثل العليا في الإسلام لافي بحمدون

من بشائر نمو الفكرة القيادية ودلائل مقت الاستعمار الغربي ومقاومة مظالمه في البلاد العربية والإسلامية ان يلقى هذا الرواج كتاب (المثل العليا في الإسلام لافي بحمدون) الذي وضعه سماحة الامام المصلح الكبير الحجة محمد الحسين آل كاشف الغطاء رداً على الدعوة التي تلقاها من نائب رئيس جمعية أصدقاء الشرق الأوسط في الولايات المتحدة الأمريكية، ذلك الرد المفعم بالحقائق والوقائع والبراهين والذي فضح فيه جرائم الاستعمار الأنكلو أمريكي، وهتك ستر هذا المؤتمر الاستعماري وما فيه من أحاييل لاصطياد عقول المسلمين فقد نفذ هذا الكتاب القيم خلال بضعة أيام وأعيد طبعه مرة ثانية بزيادات كثيرة جداً استوفى الموضوع من جوانب أخرى ذات أهمية بالغة، ولاشك ان نصيب هذه الطبعة سيكون النفاد السريع لخطورة الأبحاث التي عالجها سماحة الامام المصلح، بروح يتجلى فيها الصدق والاخلاص والحماس.

فنحن لا يسعنا إلا حث القراء على اقتناء هذا الكتاب لتنوير أذهانهم ومعرفة المكايد الاستعمارية وأعمال الدول الغربية الجائرة.

((الحياد)) للاستاذ صادق البصام. العدد 126 تاريخ 24 مايس 1954.

 

 

 

 

 

الهيئة العربية العليا لفلسطين

             القاهرة

التاريخ 22 رمضان 1373

        25 مايو 1954

بسم الله الرحمن الرحيم

حضرة الكريم الفاضل الشيخ شريف كاشف الغطاء حفظه الله تعالى.

النجف الأشرف – العراق

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد فقد حمل الي البريد هدية قيمة من مكتبة حضرة صاحب السماحة الأخ الأجل العلامة حجة الإسلام الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء حفظه الله وأدام النفع به. وهي رد سماحته البليغ على دعوة مستر غارلند ايفانز هوبكنز لعقد مؤتمر في (بحمدون).

وقد قرأت بكل عناية رسالة سماحته وتتبعت أجوبته السديدة المحكمة ومناقشته الهادئة القوية لموضوع دعوة هوبكنز التي حاول الأجانب ان يموهوا بها على المسلمين ويتخذوا من اجتماع بحمدون وسيلة لتحقيثق أهوائهم وأغراضهم وقد كان رفض سماحته الدعوة وتصديه للرد على القائمين بها بما ينير الأذهان ويجلو الشكوك والريب وتقديره للحقيقة الناصعة والآية الساطعة وهي ان المثل العليا هي دائماً وأبداً في الإسلام دين الله القويم وصراطه المستقيم – قد كان عملاً عظيماً صاحبته التوفيقات الربانية والنفحات السماوية العلوية. وإني اذ أشكركم خالص الشكر على اتحافي بهذه الرسالة القيمة أرجو ان تتفضلوا بابلاغ أذكى سلامي وعميق شكري وعظيم احترامي لسماحة مولانا الأخ الجليل حجة الإسلام. وأختم كلمتي بالدعاء الى الله عز وجل ان يشمله بعنايته ويتولاه بكريم فضله ورعايته والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

مفتي فلسطين

محمد أمين الحسيني

ديوان رئيس الجمهورية

        986

الى السيد محمد الصلوات مدير مكتبة سماحة الامام كاشف الغطاء العامة. في النجف الأشرف بالعراق.

تحية طيبة :

وبعد لقد وصلتنا النسخة التي تفضلتم بإهدائها للسيد اللواء أركان الحرب محمد نجيب رئيس الجمهورية من كتاب (المثل العليا في الإسلام لا في بحمدون) بقلم سماحة الامام الشيخ محمد الحسين كاشف الغطاء دامت بركاته. ولقد رفعنا هذه النسخة الى سيادة الرئيس فنالت لديه حسن القبول، واني اذ ابلغكم شكر سيادته وأطيب تمنياته مع بالغ تقديره لآراء سماحة الامام كاشف الغطاء أرجو التفضل بقبول أسمى تحياتي.   قائمقام. أ . ح

11 ما يو 1954                                        حسن كامل

                                                   مدير مكتب رئيس الجمهورية

1/5/1954 الشامية

سماحة العلامة الكبير محمد الحسين آل كاشف الغطاء المحترم السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

وبعد، فقد يدهشكم هذا الاسم الغريب الذي لم ترتبطكم به سابق معرفة، ولكن لا بأس، قليلاً من وقتكم الثمين، لمطالعة هذه السطور التي أجبرت على كتابتها أثر قراءتي لكتابكم القيم: ((المثل العليا في الإسلام لا في بحمدون)) ولا أكتمكم الحقيقة، فقد وجدتني أهتف خلال مطالعتي إياه وبصوت مسموع: ((مرحى مرحى)) ولم أكن أعلم اني جالس في مقهى ، وان عيوناً مجرمة تراقبني وتحصي حتى الزفرات المخلصة لكل شخص شريف.

سيدي:

كتابكم هذا سيف بتار أشهر في وجه الطغيان، فعلام كان مغمداً من قبل، تمنيت من صميم قلبي، لو خضتم المعركة مع آلاف المجاهدين من أبناء هذا الشعب الذي يجرع الظلم والاستهتار كؤوساً مرة.

تمنيت لو ان علماء الدين عملوا بقوله  صلى الله عليه وآله وسلم   : ((من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، ومن لم يستطع فبلسانه)) أليس علماء الدين خلفاء الأنبياء وحاملوا علم الجهاد من بعدهم؟؟. لقد حارب الأنبياء والمرسلون بكل قواهم: وخاضوا المعارك بأنفسهم فأدميت أجسامهم الطاهرة وشجت جباههم بسهام الطغاة، وسفهت دعواتهم ووصموا بكل شيء مقذع من الأقاويل الباطلة، ولكنهم كانوا أقوى من الاعصار وأمضى من الأقدار، وساروا يحدوهم الحق ويدفعهم صالح الجميع الى حيث شيدوا بأيديهم الطاهرة بناء راسخاً وطيداً.

مولاي :

أنتم وزملاؤكم من العلماء الأبرار، كان عليكم ان تخوضوها بكل قواكم فأما الى موتة مشرفة، واما الى حياة كريمة. وأؤكد لسماحتكم، ان ملايين من الناس الطيبين من عامة الشعب، من بسطائه، عمالاً وفلاحين وكسبة ومثقفين، ان ملايين من ؤلاء ستشد أزركم، وتندفع من ورائكم لا يوقفها سوط الظلم مهما يكن قاسياً.

وعلى كل حال، وبعد خروج كتابكم هذا الى حَّيز الوجود وجدته شيئاً قيماً جداً يستحق الاكبار والتعظيم ويشهد الله اني اشتريت عدة نسخ من جيبي الخاص لأوزعها على الناس المتلهفين، كما توزع أرغفة الخبز على الجياع.

سيدي:

تمنيت لو كان عندي غير كلمات الاطراء والثناء، لأجازي فضلكم فقد الهبتم عواطفكم الشريفة، في سبيل إضاءة الطريق، طريق إعلاء كلمة الحق، التي أصبحت في بلادنا مسكينة مضطهدة فمن قال الحق كان من المغضوب عليهم، ومن تكلم العكس ربت على كتفه، ذلك ما شاهدته بعيني، وخبرته بنفسي، الا ان الله تعالى وهب ولا يزال يهب، عقولاً جبارة همماً قوية، تحارب الطغيان وترفع البشر من حضيضه الذي يعيش فيه الى مقام أسمى، فالتاريخ يذكرنا بأن أعناق الظالمين قد دقت، وان بروجهم قد دكت، مما يجعلنا نزداد إيماناً ونتعظ، وننفض عنا غبار القنوط، ونتحرك لا بأرجلنا فقط واما بأفكارنا وعواطفنا.

سيدي:

لقد بلغت القمة بكتابك، وقد احتللت من نفوس الناس خير مكان، ان آراءك التي بينتها وأقوالك التي رددتها قد فتت الصخر وأذابت الحديد ووهبت الجماد روحاً، ولئن كان الفيضان في حدة هذه السنة قد شرد آلاف الناس، فان سيلك قد أنعش آلاف الأرواح التي عانت الأمرين من السكوت عن الحق والتغاضي عن المنكر.

وختاماً اليكم تحياتي العطرة، واحتراماتي العظيمة، راجياً من الله انه يجعلكم سنداً للخير ولساناً للحق ونوراً يستضاء به والله من وراء القصد، والسلام عليكم.                                                            أحد الأدباء

بغداد في 13/5/1954

سماحة الامام المصلح الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء دامت بركاته.

بعد تقبيل أياديكم الكريمة.

أرجو أن تكونوا في صحة جيدة وبعد فقد وقفت على رسالتكم السامي المسماة بـ((المثل العليا في الإسلام لا في بحمدون)) فأكبرت ما رأيت فيها من روح ثائرة ووطنية صادقة وإخلاص عميق يتجلى واضحاً في هذه الحملات العنيفة على الاستعمار الأنكلو أمريكي وعلى أذنابه.

ولست أستكثر هذا من سماحتكم. فقد كنتم ولا تزالون اليد العاملة واللسان الناطق والفكر المدبر ليس للعراق وحده بل للعالم الإسلامي من أقصاه الى أقصاه.

وقد لاقت الرسالة ما تستحقه من إكبار الناس الناس وإعجابهم في العاصمة وسائر المدن الأخرى. وكلي رجاء ان تكون هذه الرسالة فاتحة رسائل أخرى من هذا الطراز العالي الباني الموجه. وكلي رجاء كذلك ان تكون رعايتكم شاملة لشباب الجيل الطالع المنادي بالسلام والمنفد لكل حركة استعمارية يراد منها ربط العراق بالعجلة الزاحفة عجلة الاستعمار البغيض.

ويسرني جداً ان يكون في كتابي هذا ما يتناسب ومقامكم السامي وتفضلوا بقبول تهاني القبيلة الخالصة.

وأقبل أيديكم الكريمة ثانية سيدي.

المخلص

السيد طالب الحيدري

الكويت في 26/4/1954 حضرة صاحب السماحة الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء المحترم.

تحية وبعد:

لقد كان لموقفكم المشرف من المؤتمر الذي دعي لحضوره رجال الدين في البلدان العربية والذي تقرر عقده في بحمدون بلبنان. كان لموقفكم من هذه الحلقة من سلسلة المؤتمرات الاستعمارية الأمريكية في بلداننا أكبر الأثر وأعظمه في نفوسنا، ونفوس جميع الشرفاء المحبين للسلم عندنا.

لقد قمتم على أثر توجيه الدعوة لكم من قبل أصحابها الأمريكان بفضح نوايا المشرفين والموجهين لهذا المؤتمر. أولئك الذين يحاولون عبثاً تنصيب أنفسهم حماة للأديان السماوية في الوقت الذ تدل أعمالهم على عكس ما نادت به هذه الأديان، فعبثاً يحاول ايزنهاور وأتباعه مصاصوا دما الأطفال الأبرياء في كوريا ان ينجحوا في خدع الشعوب بتمويه حقيقتهم.

لقد عبرتم بموقفكم هذا عن رغبة شعوبنا الربية في التحرر والخلاص من شباك المستعمرين ومؤامراتهم. مهما اجتهد هؤلاء في اخفاء حقيقتها وإظهارها بالمظهر البريء.

فنحن اذ نحيي ونؤيد سماحتكم باسم أنصار السلم في الكويت نحيي دفاعكم المجيد عن منزلة الأديان السماوية المنادية بالعدالة والسلم، ونؤيد صلابتكم في تنزيه الأديان عن ان تكون وسيلة لذوي النوايا والأغراض السيئة. كما نهيب برجال الدين ان يكونوا على رأس جبهة النضال في سبيل السلم والتحرر الوطني. والسلام عليكم ورحمة الله.

عن اللجنة الوطنية

لأنصار السلم في الكويت

صدى الكتاب في لبنان

كان سماحة الامام قد أرسل حين انعقاد المؤتمر في بحمدون أحد فضلاء النجف لتوزيع نسخ من الكتاب على أعضاء المؤتمر وبعض الشخصيات اللبنانية وبعد ان قام يواجه أرسل الكتاب التالي الى سماحته آثرنا نشره لأهميته.

سيدنا ومولانا حجة الإسلام سماحة الامام كاشف الغطاء دامت بركاته.

ألثم أناملكم الكريمة الطاهرة، والتمس أبر أدعيتكم ورضاكم.

يوم سعيد نلت فيه السمو والرفعة، يوم تيسر لي ان أحظى بكريم عطفكم وفاضل عنايتكم وسامي ثقتكم الغالية بان وليتموني شرف المساهمة في نشر رسالتكم العالمية التي أخرجتموها بعد جهد، وبعد الشعور بالمسؤولية امام الله تعالى، وأمام هذا الشعب العربي الذي أصبح في وضع لا يحسد عليه، وقد فسدت ضمائر ساسته، ومتقلدي زمام أمره. واما التاريخ الذي سجل لكم حياة ناصعة،غنية بالجهاد المقدس، والنضال الشريف في سبيل الإسلام وأهله،والذي ينتظر ان يسجل لكم صفحات خالدة من المآثر الزاكية، والخدمات الجلى، والتوجيهات السامية، والأعمال الموفقة لخير الانسانية المعذبة، وتلبية لنداء الواجب الديني، ووحي الرسالة البشرية الملقاة على عاتقكم (والله يعلم حيث يجعل رسالته).

سيدي: بعد التشرف بزيارة العتباات المقدسة في كربلاء وبعد مقابلتكم الموجزة التي انتهت بتوديعكم، بعد التزود من فيض روحانيتكم المشرقة، وأخلاقكم السامية، ونور ابتسامتكم التي أوحت لي العزم والثبات، وارشاداتكم القويمة، وتوجيهاتكم الحكيمة المرفقة بالدعاء والرضا.

وفي مساء 23-4-1954 كنت في طريقي الى بيروت حيث دخلتها بتاريخ 24-4-1954 في تمام الساعة الواحدة والنصف ظهراً وما كانت هذه السرعة الا للوصول في الموعد المفيد لنشر رسالتكم، وفكرة الانتباه الى ما يرمي اليه دعاة المؤتمر من التضليل، واستغلال بساطة رجال الدين، وايمانهم الطاهر، للزج بهم في أتون هذه الحرب الباردة العالمية، والسياسية الاستعمارية المجرمة من كلا الطرفين الشرقي والغربي، باسم الدين، وقيمه الروحية، ومثله العليا، ثم الاستفادة من القرارات التي سيتمخض عنها المؤتمر بصورة فتوى دينية لمحاربة القوى المادية الهدامة.

هذه القرارات التي ستتحول بفضل تحريراتهم وتأويلاتهم، ودعواتهم العمل بروح النص الى فتوى صريحة لضرب الحركات التحريرية في العالم الإسلامي. ومحاربة كل فكرة وطنية تهدف الى الخلاص من الاستعمار، وبناء كيان دولة وطنية مستقلة. والغاية من هذه الفتوى اضفاء الصفة الشرعية باسم الدين على أعمالهم الاجرامية من سجن ونفي وقتل الوطنيين الأحرار في كل قطر إسلامي.

وبعد ساعة واحدة من وصولي تيسر لي الاجتماع ببعض قادة الحركة الفكرية في لبنان على اختلاف مذاهبهم الدينية وميولهم السياسية،. وقد كان للصدفة الفضل في تيسير هذا الاجتماع. وقد وفقت في عرض وجهة نظر سماحتكم قبل توزيع الكراس. وفي ختام الأحاديث وتبادل وجهات النظر يحضور العلامة العلايلي الذي وصل متأخراً، والدكتور سهيل إدريس. اطلعتهم على رسالتكم التي جاءت في كراس جواباً صريحاً فاضحاً لنوايا دعاة المؤتمر وأمثاله من المؤتمرات باسم الدين والقيم الروحية.

فكانت مفاجئة قوية ذات أثر فعال. هلل لها الحاضرون وباركوا هذا النتاج. وفي مساء ذلك اليوم كانت عدة نسخ منه بين يدي اثنى عشر عضواً. أخذ كل واحد منهم زاوية هادئة ليقرأ ما تضمنه هذا الكراس من حقائق فاضحة، وأبحاث واقعية، وتوجيهات متسقة بحيث كانت صفعة أليمة مُني بها المؤتمر، وكل من القائمين به والمؤيدين له، والساهرين عليه. مما أضطر هيئة الادارة الى تحويل جلسات المؤتمر العلنية الى جلسات سرية لا يجوز لأحد دخولها الا باذن خاص. ولمن كان صريحا في اخلاصه وحبه لفكرتهم.

وفي بيروت تناقلته الأيدي بعد ان وضعت تحت تصرفها عدة نسخ، أهدي القسم الأكبر منا الى قادة الحركة الفكرية والسياسية ولرؤساء الأحزاب والشخصيات اللبنانية، والعلماء الاعلام ورجال الدين.

بعد مضي ثلاثة أيام على وصولي النبطية. ذهبت الى بيروت بغية الوقوف على مدى الأثر الذي تركه هذا الكراس، الذي ظهرت نتائجه وفعاليته بين أعضاء المؤتمر أنفسهم. حيث انسحب عضوان بارزان من المشتركين فيه. وهما سعيد رمضان رئيس الأخوان المسلمين في القدس، والشيخ مصطفى السباعي الذي عقد مؤتمراً صحفياً في المجلس النيابي اللبناني تحدث فيه عن هذا المؤتمر وغاياته وأهدافه الذي كشف عنها الستار بقوله: ((كانت غاية المؤتمر انشاء جبهة لمكافحة معسكر معاد للدول الغربية، مما اضطرنا الى السعي بقوة للحيلولة دون توجيه المؤتمر الى مقاومة أي معسكر وخاصة المعسكر الشرقي)). ثم أعقب كلامه هذا بقوله: ((وقد جرت مناورات ومؤتمرات لتزوير قرارات المؤتمر في غفلة عن الأعضاء. وقد دفعتنا هذه المحاولات الى الاحتجاج والتهديد ومن ثم الى مراقبة القرارات بدقة خوفاً من التزوير وقد جعلنا أنفسنا رقباء للحيلولة دون ذلك)).

وقد اضطر اعضاء ودعاة المؤتمر ال ابقاء القرارات سرية أثر الفشل الذي مني، والحملة التي تعرض اليها، وخاصة فكرة تحويل القوى الروحية في الأديان، وتكتيلها للوقوف في وجه دول تعادي الدول الغربية، والتستر بالقيم الروحية لإخفاء نوايا لا يعرفها الا الله تعالى والراسخون في السياسية الاستعمارية.

هذا ما كان من أمر المؤتمر ونهايته الفاشلة، أما من جهة كتابكم ورسالتكم الموفقة، فقد تناولته الصحف في كثير من العرض والتعليق والتأييد، بعناوين بارزة، ومقتطفات مناسبة.

  • علقت (الهدف) على ما تضمنه الكتاب واستعرضت الأثر الذي تركه تحت عنوان ((الامام كاشف الغطاء يكشف الغطاء عن مؤتمر بحمدون المسيحي الإسلامي)) داخل اطار خاص يلفت النظر. وفي اليوم الثاني اقتطفت منه عدة فقرات مناسبة.
  • وتناولته جريدة (التلغراف) في عرض جيد وبأسلوب قوي، وتقديم لبعض فصوله المهمة، وقد أخذ هذا العرض ما لا يقل عن نصف الصفحة بستة أعمدة، ختمته بقول أحد رجال الدين الذين لا يؤمنون بمثل هذه المؤتمرات وهو يضحك مسروراً بملئ فيه: ((آل كاشف الغطاء كشف غطاءهم)).
  • واستوحى عبد الله المشنوق في (بيروت المساء) أثر اطلاعه على الكتاب افتتاحية قوية، ففضح فيها دعاة المؤتمر وأهدافهم ختمها بقوله: ((لقد باع رجال السياسة المسلمون دنياهم للحلفاء، ونحن لن نذهب الى بحمدون لبيع ديننا لأي كان)).
  • وتناولته صحيفة (الصرخة) الأسبوعية بالعرض والتعليق وصدرته بهذه الكلمة. ((نشر سماحة الامام محمد حسين كاشف الغطاء من كبار علماء الإسلام في العراق كراساً خاصاً حال فيه بالتفصيل ما تنطوي عليه الدعوى الى هذا المؤتمر من مآرب استعمارية مفضوحة، وكشف القناع عن المدبرين الحقيقيين لمؤتمر بحمدون)) واقتطفت منه عدة فقرات تتناسب ودعوة الحياد، وفصل كامل عن وعي الشعوب وسياسة الحكومات في العالم العربي والإسلامي.

بيان

كان الأمل اضافة بعض المواضيع في هذه الطبعة الثالثة كما أشرنا اليه في أولها. ولكن انحراف صحة الامام الأمر الذي ألزمه بمغادرة النجف الى بغداد للمعالجة استوجب تأخير ذلك، واذا منَّ سبحانه على سماحته بالعافية فسوف يصدر كتاباً ملحقاً لهذه الرسالة أسماه بـ(أشعة المثل العليا في الإسلام) وسوف نمثله بالطبع إن شاء الله.

 


([1]) وقد أعيد نشرها ثانياً في هذه السنة.

([2]) الإحصاء الأخير يقدر الخسائر بخمسين مليون.

([3]) الإنجيل.

([4]) توجد في الوقت الحاضر ثلاث دعوات في العالم ذات صلة بالسلام:

  1. السلم المسلح: وتروج له حكومة أمريكا والأحزاب الموالية لها في انكلترا وفسا واليلاد الأخرى. وتقصد به الاستمرار في التسلح لردع الاتحاد السوفيتي عن التوسع او الهجوم.
  2. السلم العالمي: وتتبنى هذه الدعوة الاتحاد السوفييتي والصين والحكومات الموالية لهما. وتؤيد هذه الدعوة الأحزاب الشيوعية الاشتراكية في العالم الرأسمالي. تؤيدها بعض الاحزاب الديمقراطية والحزب التقدمي في أمريكا وعدد كبير من المستقلين في جميع انحاء العالم. ويقصد به عدم حدوث حرب عالمية بين الاتحاد السوفييتي والدول الموالية له من جهة، وأمريكا وحلفائها من جهة أخرى واللجوء الى التفاوض والتسامح في حل المشاكل الدولية.
  3. الحياد: والمقصود به عدم الانحياز الى أحد الطرفين المتنازعين او الارتباط به بمحالفات عسكرية، وعدم التفكير في دخول الحرب العالمية ان حدثت وصرف الأموال على الاصلاحات الداخلية بالدرجة الأولى.

واذا اجتاح أحد المحاربين البلد المحايد يقف الشعب موقفاً سلبياً ولا يتعاون مع الجانبين. وهذه الفكرة في الحقيقة منبثقة من الدعوة الى السلم العالمي ومرتبطة به وان اختلف عنها قليلا، لأن وقوف عدد كبير من الدول على الحياد يثبط عزم أمريكا في إعلان حرب عالمية ويفسد عليها خططها ويقوي الجبهة الداعية الى السلام بينما يضعف الجبهة الأخرى لأن المهاجم يحتاج الى تحشيد القوى أكثر من المدافع وعند اعلان حرب عالمية من الناحية العسكرية يكون موقف أمريكا موقف المهاجم مع حليفاتها.

وتتبنى هذه الدعوة في الوقت الحاضر حكومة الهند وبرما وإندونيسيا وتؤيدها الشعوب الإسلامية والعربية.

 
 
البرمجة والتصميم بواسطة : MWD