October / 10 / 2015 | عدد الزيارات : 1064مشاركة الشيخ الدكتور عباس كاشف الغطاء في الملتقى الجعفري الخامس في الكويت


شارك سماحة الأستاذ الدكتور الشيخ عباس كاشف الغطاء أمين عام مؤسسة كاشف الغطاء العامة في الملتقى الجعفري الخامس في دولة الكويت الشقيقة، وقد جاءت كلمة الشيخ:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير المرسلين محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين وأصحابه المنتجبين.
وبعد:
إن وقفَ العُملةِ الورقيةِ يُعتَبَرُ نوعاً مُهِمّاً مِنْ أنواعِ الوَقفِ المُعاصر، لِما يَمتَلِكُ مِن مُقوماتٍ وإمكاناتٍ تُساعِدُهُ على الانتشارِ وتُؤهِلُهُ للقيامِ بدورٍ بارزٍ في تحقيقِ أهداف وغايات الوقفِ السامية من أقراضِ المحتاجين أو الاستثمار وصرفِ أرباحِه على طلاب العلمِ والفقراءِ وجهاتِ البرّ العامّة وغيرِها.
وبحثنا الموسوم (وقف العملةِ الوَرقيّةِ) قدْ اشتَمَلَ على أربعةِ مباحِث.
المبحثُ الأوّل: تناول تعريف العُملةِ الورقيّةِ وصفاتِها وتعريف النَقدينِ الذهب والفِضّة والفرقُ بينَ النقدينِ والعُملةِ الورقيّةِ والغرضُ من وقفِ العملةِ الورقيّة وصورِ مِنْ وقفِ العُملةِ الورقيّةِ.
ذكرتُ بأنّ العُملةَ الوَرقيّة أصبَحَتْ في يَومِنا الحاضِر غيرَ قابلةٍ للصَرفِ بالذهبِ والفضةِ بلْ هيَ عُملةٌ تُمَثّل قوّة قانونيّة لأداءِ الالتزاماتِ، فالقيمةِ التّي تحملُها قيمة اعتباريّة أكثر مِنْ قيمتها الذاتيّة لأنّ نفسَ الأوراق النقديّة لا قيمَة معتبرةٍ فيها وهي مالٌ متقوّم مثلي لا يتعَيّن بالتعيينِ معدودٌ لا يُمَثّلُهُ أحكام عقدِ الصرفِ ولا يجري فيها ربا البيع، نعم، يتحَققُ فيها ربا القرض فقط.
وتُعتَبَر العُملة الورقيّة متقوّمة بالجهة الاعتباريّة الصرفة، وذلكَ بأن تُقرّر الدولة بأنّ كلِّ ورقةٍ تحملُ ذلك النقش والألوان والتقاطيع المخصوصة بها فإنها بمقدار كذا من المال، وهذه العملة الورقيّة لا تتعدّى حدودِ البلد الذي يخضع للقانونِ الذي قضى بجعلِها عُملةً رئيسيّة. وليسَ لهذهِ العُملةِ الورقيّة قيمةً سلعيّة ولكن لها قيمة قانونيّة. فهي تستَمِدُّ قيمتها من إرادةِ المشرِّع الذي فرضَ تداولها، فلو ألغى التعاملُ بها لأصبحَتْ عديمةُ الفائدة.
وإنّ قيمتها كثيرةُ التقلّب، لأنّ الحكوماتِ في وسعها أن تزيدَ مِنْ كميّتها ما شاء, فكثير ما تنخفض قيمة العملة الورقية في الأزمات الاقتصادية ولم تصمد طويلاً فتقل قوتها الشرائية.
لذا أوضحْتُ في هذا البحثِ أنّ العملةَ الورقيّة تختلف عن النقدين الذهب والفضّة أي الدراهم والدنانير اختلافاً كليّاً جنساً ونوعاً وحكماً. فالنقدانِ الذهب والفضّة خُلِقا للثمنية بجعل من الشارعِ المقدّس فمالكهُما كالمالكِ لجميعِ الأشياءِ.
قال المقريزي: (إنّ النقودَ المعتبرة شرعاً وعقلاً وعادةً إنّما الذهب والفضّة فقط، وما عداهما لا تصلُح أن تكونَ نقداً).
ويرتبطُ بالنقدينِ الأحكامُ الشرعيّة فقد خُصّا بالذكرِ في تحريمِ كنزهما ووجوبِ الزكاة فيهما وجعل أحكام الصرفِ لهما وربط الديّة وقطع يدِ السارِقِ فيهما.
ومِنْ هذا يتقرّر أن الله سبحانه وتعالى أقامَ الذهب والفضة أثماناً بأصل الخلقة، أي أنه خلقها وجعلها أثماناً للأشياءِ، فلا يملكُ الإنسانُ أن يبطل ثمنية ما اقامهُ اللهُ ثمناً، أما لماذا خصَّ الذهب والفضّة بالثمنيّة دونَ غيرِهِما؟ فالإجابةِ أنّ الشارعَ الحكيمِ هو أدرى بمصالِحِ النّاس في أحوالهم ومعايشهِم ومعاملاتِهم، ويكفي هذا الاقتناع المؤمنُ دونَ إطالةِ الجدلِ بشأنِ علل اجتهاديّة، قد تقصر عن الوصولِ إلى درجةِ الاقتناعِ والإقناعِ.
وتَناولتُ في المبحثِ الثاني الأدلّةُ على صحّةِ وقفِ العملةِ الورَقيّة باعتبارِ أنّ الأصلَ في كُلِّ مال متقوّم منقولٌ مثلي يجوزُ وقفهُ ودخول العملةِ الورقيّة في عمومِ الأدلّةِ الدالّةِ على جوازِ الوقفِ وذلكَ بوقفِ الماليّة لها معَ تبديلِ العين الموقوفة لأنّ مِصداقَ الصدقة ليسَ منحصرٌ في انحباسِ العينِ بل يتعدّى إلى انحباسِ ماليّة الشيء التي يمكن تجسيدها في ضمن أعيان مختلفة متعاقبة. فالمحبوسِ قد يكون عيناً وقد يكون المالية. وهذا البيان لوقفِ الماليّة لا يعارضه ما ورد من تحبيسِ الأصل وتسبيلِ المنفعة حيث أنّ وقفَ المالية أيضاً تحبيسٌ لها. قالَ صاحبُ العروة الوثقى بصحّة وقف ماليّة العين (إذ وقف ماليّة عين أبداً، يمكن أن يقال: أنه وإن لم يكن من الوقف المصطلح إلاّ أنّ مقتضى العمومات العامّة صحته ونمنع حصر المعاملات في المتداولات، بل الأقوى صحّة كلّ معاملة عقلائية لم يمنع عنها الشارع، ولا مانع من وقف العين بلحاظ ماليتها).
أما دعوى منع وقف العملة الورقيّة لمنع وقف الدراهم والدنانير أصلاً، ولأنّ حكم البدل حكم المبدل عنه فهي غير صحيحة وذلك لما أوضحنا بأن العملة الورقيّة جنسٌ يختلف اختلافاً كلّيّاً عن النقدين الذهب والفضّة.
وإما اشتراط بقاء العين الموقوفة وتأبيدها، وإنّ العملةَ الورقيّة انتفاعها بذهابِ عينها، فيمكنُ الجواب عنه بأنّ الوقفَ لم يقع على عينِ العملةِ الورقيّة لأنها لا قيمة لها وإنما يقع على ماليّة العملة الورقيّة كما أنَّ الأموالَ المثليّة يمكنُ ردّ مثلها، وإرجاع المثل يحكم عليه عرفاً ببقاء العين، لما حكم الفقهاء بأنّ ردّ المثل بمنزلة بقاء العين، ومعلوم أن العملة الورقيّة لا تتعيّن بالتعيين.
وقد ذكرتُ هنالك عدّة مؤيدات لوقفِ العملة الورقيّة.
ثمّ تناولتُ في المبحثِ الثالث استثمار العملة الورقية الموقوفةِ في عقدِ الصرف، وأوضحتُ أنّ عقدَ الصرفِ من أحكامِ النقدينِ الدراهم والدنانير المسكوكينِ بسكّة المعاملة دونَ غيرهما. والعملةُ الورقيّة لا تنطوي تحتَ أحكام حكم الصرف، وتعتبر العملات الورقيّة للدول أجناساً مختلفة فلو أوقف الواقف العملة الورقية في استثمارها بعقد الصرف ونص على ذلك أو لم ينص على وسيلة الاستثمار أو جعل ذلك إلى الناظر ورأى المصلحة في استثمارها في عقد الصرف، فإنه في هذه الأحوال يجوز استثمارها من دون مراعاة لأحكام عقد الصرف.
أما المبحث الرابع فقد جاء في تغيير قيمة العملة الورقية الموقوفة، أي تغير القوة الشرائية لها، والأصل عند الفقهاء في الالتزامات المالية هي إرجاع المثل في العملة الورقية لأنها من المثليات.
نعم, إذا كان هنالك تغير فاحش بحيث كان انخفاض القوة الشرائية للعملة الورقية كبيراً، فهنا يجب إثبات قيمة العملة الورقية يوم الأداء، وإلاّ فالواجب المثل والصلح خير.
ولا مانع من الاحتياط عند وقف العملة الورقية بتحديد الدين بالعملة الورقية بقيمة الذهب، أي ربط الديون الآجلة بالعملة الورقية الموقوفة بالذهب، بأن يكون القرض عبارة أصلاً بقيمة العملة الورقية الموقوفة ذهباً، ويرجع بمقداره من العملة الورقية بقيمة الذهب الذي استلمه. والله العالم.
وجاءت الخاتمة بالنتائج التي توصل إليها البحث. وفي الختام نحمد الله أولاً وآخراً. والصلاة والسلام على رسوله وآله الطيبين الطاهرين.

 
 
البرمجة والتصميم بواسطة : MWD