كتاب

التعارض والتعادل والترجيح

تأليف

آية الله العظمى

 الشيخ علي كاشف الغطاء

(قدس سره الشريف)

سم الله الرحمن الرحيم

        الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف خلقه وخاتم أنبيائه ورسله سيدنا محمد وعلى أهل بيته الطاهرين المعصومين.

وبعد:

يعتبر مبحث التعارض والتعادل والترجيح بين الأدلة الشرعية من أهم مباحث علم أصول الفقه لأنه مبحث واسع الأكناف متعدد الجوانب والأطراف يكاد يتيه في شعابه الخريت، ولا يفي بحقه إلاّ من أوتي حظا غير قليل من الفهم وشيئاً غير يسير من العلم ومقداراً وافياً من الدراية والإطلاع، فلا يقوم به حق القيام غير أفراد من العلماء الأعلام الذين لهم براعة في أكثر العلوم لاسيما علم الفقه وأصوله والحديث والكلام، وقليلاً ما نجد أصولياً أفرد موضوعاً من موضوعات هذا العلم بالتأليف فتناول الموضوع من جوانبه، وبين آراء العلماء المختلفة حوله، ويعرض أدلتهم ويناقشها مناقشة علمية فيرجح ما يهديه إليه علمه وتوصله إليه دراسته. والمصنف لهذا السفر قد جمع آراء الأصوليين ونقدها وناقش الأدلة المعتمدة عندهم، وهي مهمة صعبة إذ كانت تلك الآراء لجهابذة علماء الأصول خاصة، وما استقرت عليه المدرسة الأصولية. فإنه لم يكن يتعرض لمسألة من المسائل إلاّ ويذكر فيها من الصور والإحتمالات ما يبهر العقول وهذا هو جانب الإستيعاب والإحاطة المعمقة في فكره، وكان يتناول المسائل بالاعتماد على الذوق الموضوعي والإدراك العقلاني المستقيم مع ما اجتمعت عنده النزعة البرهانية المنطقية. وامتاز أسلوبه  ( رحمه الله ) بالسهل الممتع الواضح البيان مما جعل النفوس ترتاح له والقلوب تتقبله، كما تضاف أهمية لهذا السفر بأنه آخر ما خطه قلمه الشريف في أواخر حياته من دنياه الدنية الفانية التي غمطت حقه ولم يعرف أهل زمانه قدره.

وبنشر هذه المخطوطة بعد تبويبها ومنهجيتها حسب الفصول والمباحث وتخريج الأحاديث الواردة فيها وتراجم بعض الأعلام الواردة فيها أكون قد أديت بعض ما عليَّ من الواجب نحو التراث الإسلامي الخالد واضعاً لبنة في صرح المكتبة الإسلامية لينهلوا من معينه طلاب الحوزة العلمية، وأسأل الله أن يوفقنا لنشر باقي مخطوطات الآباء والأجداد خدمةً للإسلام والمسلمين والله الهادي إلى سواء السبيل.

التعارض والتعادل والترجيح 

لا يخفى عليك أنه ما من مسألة من المسائل الأصولية إلاّ وفي كونها من علم الأصول خلاف وإشكال، فإن مباحث الألفاظ بأجمعها قيل إنها من المبادئ اللغوية، ومباحث خبر الواحد والإجماع والشهرة وأصل البراءة والاستصحاب قيل إن البحث فيها عن دليلية الدليل لا عن أحوال الدليل الذي هو موضوع علم الأصول، ومباحث الاجتهاد والتقليد والتجزي قيل بخروجها عن علم الأصول من جهة عدم مدخليتها في استنباط الأحكام الشرعية.

وبالجملة لم تبق مسألة في علم الأصول إلاّ وفيها قول بخروجها عنه اما من جهة عدم شمول تعريفه لها أو من جهة ان البحث فيها ليس بحثاً عن موضوعه إلاَّ هذه المسألة فإن الكل مطبقون على أنها من مسائل علم الأصول، وذكرها في خاتمة مسائله من جهة أنها يبحث فيها عن شئون الأدلة ولا وجه للتأمل في ذلك لأن الميزان في عد المسألة أصولية ان كان صدق موضوع العلم على موضوع المسألة واتحاده معه فهو متحقق في المقام، ضرورة ان موضوع هذا البحث هو الأدلة المتعارضة وموضوع هذا العلم هو الأدلة، وإن كان الميزان هو صدق تعريف العلم على المبحث فصدق تعريف علم الأصول على هذا المبحث لا إشكال فيه. لأنه علم بالقواعد الممهدة لاستنباط الأحكام الشرعية الفرعية من أدلتها التفصيلية وإن كان بالتدوين فهذا البحث قد دوّن للغرض الذي دوّن له علم الأصول كما هو واضح، إذا  عرفت ذلك فاعلم ان مبحث التعارض والتعادل والترجيح باب جليل إذ قلما يتفق للفقيه في مجموع أبواب الفقه مسألة كان دليلها خال عن معارض, وقدّموا البحث عن التعارض على البحث عن التعادل والترجيح أن موضوعهما الدليلان المتعارضان فلابد قبل الدخول في البحث عنهما من البحث عن التعارض وكشف معناه وأحكامه.

الباب الأول

التعارض

    وفيه خمسة فصول:

 

 

الفصل الأول

تعريف التعارض شروطه وأركانه

المبحث الأول

معنى التعارض لغة

والتعارض لغة على وزن تفاعل مأخوذ من العَرْض بفتح أوله وسكون ثانيه بمعنى المنع، ومنه (سرت فعرض لي في الطريق عارض) أي مانع من السير، ومنه (عارضه في كلامه) أي منعه منه، ومنه سمي الرد على الدليل بالاعتراض عليه([1])، وعن مجمع البحرين([2]) في قوله تعالى: [وًلاَ تَجْعَلوّا اللهَ عُرْضَةً ِلأَيْمانِكُمْ] ([3]) أي حاجزاً  لما حلفتم عليه من أنواع الخير بل لكم مخالفته، فإطلاق التعارض على الدليلين المتنافيين لغة باعتبار ان كل منهما يمنع من حجية الآخر على ا لواقع وينفي دليليته عليه ويقتضي عدم صدقه وعدم مطابقته له.

ومنه ظهر ان فهم التضاد والتنافي والتقابل بين الدليلين من لفظ التعارض من جهة الأخذ في أصل معناه اللغوي لا كما ذكره بعض الأصوليين من ان ذلك لازم معناه.

المبحث الثاني

تعريف التعارض اصطلاحاً

معنى التعارض عند الأصوليين:

التعارض بحسب اصطلاح الأصوليين هو (تنافي الدليلين بحسب الدلالة ومقام الإثبات على وجه التناقض أو التضاد حقيقة أو عرضاً بأن كان يمكن اجتماعهما ولكن علم بكذب أحدهما إجمالاً) على ما ذكره المتأخرون، وإنما عدل المتأخرون عن تعريف القدماء للتعارض (بأنه تنافي مدلول الدليلين) لأن التعارض صفة للدليلين لا للمدلولين. ودعوى أنه صار صفة للدليلين بواسطة تنافي المدلولين، فإن تنافي المدلولين واسطة في ثبوت التنافي للدليلين كما ان حركة المفتاح بواسطة حركة اليد فيكون الأصح هو تعريف المتقدمين فاسدة، فإنه وإن كان الآخر كذلك لكن المدلولين لا يوصفان بالتعارض فلا يقال المدلولان متعارضان وإنما يقال الدليلان متعارضان.

وبعضهم جعل وجه العدول عن تعريف المتقدمين للتعارض هو الدخول في تعريفهم ما كان بين الدليلين حكومة والظاهر والأظهر والعام والخاص مع أنها لا تجري بينهما أحكام التعارض من الترجيح والتخيير والتساقط بخلاف تعريفه على رأي المتأخرين فإنه لا يشمل ذلك لعدم التنافي في الدلالة وسيجيء ان شاء الله تحقيق ذلك.

وكيف كان فالظاهر ان المراد بالاصطلاح هو الاصطلاح الناشئ من استعمال جماعة من الأصوليين للفظ التعارض في هذا المعنى ثم بعدهم غلب فيه فصار موضوعاً له وضعاً تعينياً لا ان الاصطلاح ناشئاً من نقل ناقل مخصوص يكون لوضعه لهذا المعنى ونقله له أثراً في متابعة الباقين من الأصوليين له في ذلك كما هو الحال في الحقيقة الشرعية وغيرها بأن يكون موضوعاً لهذا المعنى ومنقولاً إليه بالوضع التعيني، وذلك لأصالة عدم النقل بل يمكن المنع من ثبوت الاصطلاح لهم في ذلك بدعوى أنه من قبيل استعمال الكلي في بعض أفراده، وتفهم الخصوصية بذكر المضاف إليه فيقال (تعارض الأدلة) كما يقال (تعارض البينتين) و (تعارض الأصول) و (تعارض الكلامين) ونحو ذلك حيث ان الخصوصية في الجميع إنما تفهم بواسطة القرينة والإضافة لا من حاق اللفظ. ثم ان الظاهر ان هذا التعريف تعريفاً للتعارض مطلقاً بحيث يعم تعارض جميع أنواع الأدلة من العقل والنقل لأنهم في مقام بيان حقيقته وتميزها عما عداها وهذا لا ينافي كون مورد تكلم الأصوليين في هذا الباب أعني باب التعارض مختص بالأدلة الاجتهادية التي هي طرق للأحكام الشرعية كأخبار الآحاد الدالة على الأحكام الشرعية، وأما حكم تعارض طرق الموضوعات كالبينة واليد والأفراد واليمين والشياع فقد عقد الفقهاء له بابا في علم الفقه في كتاب القضاء لأنه من المسائل الفقهية فلا وجه لذكره في علم الأصول. وأما حكم تعارض الأصول العملية بعضها مع بعض فقد جرى ديدن الأصوليين على ذكره في طي مباحث علم الأصول لا في هذا الباب، ولعل السر في ذلك هو ان مسألة تعارض الأصول قليلة بحيث لا تصلح لعقد باب على حده لها فاقتصروا على ذكرها في مباحثها في ذيلها.

والحق ان  يقال ان وجه الاختصاص هو أن كتب الأخبار لما كانت هي الأسبق في التأليف وقد ذكرت تعارض الأخبار دون تعارض الأصول لأن تعارض الأصول لا توجد أخبار تدل على علاجه، وإنما القوم استنبطوا أحكامه من العقل ومن  أدلتها نفسها.

فالأصوليون تبعوا المتقدمين في ذلك ولم يذكروا في مبحث التعارض إلاَّ تعارض الأخبار ولو ذكروا غيرها لكان على سبيل الاستطراد.

المبحث الثالث

شرح تعريف الأصوليين

أولاً: تعريف الدليل

ولإيضاح الدليل نقول:

إن الدليل في عرف الأصوليين كما هو المحكي عن الشيخ البهائي([4]) وغيره (ما يمكن به التوصل بصحيح النظر فيه إلى مطلوب خبري).

وعن الشارح الجواد([5]) (قولنا إلى مطلوب خبري ولم نقل إلى العلم بمطلوب خبري ليدخل الدلائل الشرعية بأسرها فإن أكثرها أمارات لا تفيد العلم).

والمتحصل من ذلك ان الدليل عند الأصوليين هو (ما يمكن التوصل به بصحيح النظر فيه إلى مطلوب خبري توصيلاً علمياً أو ظنياً). إلاّ ان الظاهر من استقراء كلمات الأصوليين ان المراد (بالدليل) ما كان معتبراً ومعولاً عليه في الشريعة لمعرفة الأحكام الشرعية أو موضوعاتها بدليل عقلي أو سمعي قام على اعتباره. والظاهر ان المراد (بالمطلوب الخبري) ولو كان انتزاعياً من خطاب إنشائي كاقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فإنه ينتزع منه الصلاة واجبة والزكاة واجبة، فلو ورد ان الإمام قال إغتسل للجمعة وورد أنه قال لا تغتسل للجمعة كان التعارض بين ما ينتزع منهما من ان الجمعة يجب لها الغسل وأن الجمعة لا يجب لها الغسل، وإنما قيدوا المطلوب بالخبري لأن الإنشاء بنفسه لا يُوصِل ولا يوصَل إليه بالنظر حيث إنه بعث أو زجر فلا واقعية له حتى تحصل وتستكشف. هذا والمحكي عن الشيخ ان الدليل يختص بما كان طريقاً للحكم الشرعي وإن ما كان طريقاً للموضوع فيسمى أمارة، والظاهر ان هذا اصطلاح منه وإلا فكل منهما يستعمل في الطريق سواء كان للحكم أو للموضوع.

ثانياً: أقسام الدليل

 ينقسم الدليل إلى قسمين:

القسم الأول (التعليقي):  وهو ما يكون اعتباره وحجيته معلقة على عدم الدليل على الواقع كالأصول العملية المسماة بالأدلة الفقاهتية.

القسم الثاني (التنجيزي):  وهو مالا يكون حجيته معلقة على عدم الدليل على الواقع، وهذا القسم الثاني ان كان اعتباره من جهة كاشفيته عن الواقع سمي بالدليل الاجتهادي سواء كان لفظاً كخبر الآحاد أو غيره كالإجماع والعقل وسواء أفاد القطع بالمضمون كالخبر المتواتر أو أفاد الظن به كخبر الآحاد.

وإن كان اعتباره من باب التعبد المحض والسببية لثبوت الواقع به كالشهادة في الموضوعات والإقرار ونحوها سمي دليلاً تعبدياً وسببياً، والدليل الاجتهادي ان ثبت اعتباره من دليل خاص سمي بالظن الخاص كالأدلة الاجتهادية في زمان انفتاح باب العلم أو العلمي وإن ثبت اعتباره بالدليل العقلي من باب اللابدبة من أجل انسداد باب العلم والعلمي أو الاضطرار سمي بدليل الانسداد والظن بالمطلق.

ثالثاً: المراد بالدليلين

ثم ان المراد بالدليلين في التعريف الأعم من الاثنين أو الأكثر وطالما في لغة العرب يعبرون عن الشيء الواقع بين الاثنين فالأكثر بالاثنين كما يقال: المتنازعان، المتداعيان، المتناقضان، المتقابلان، تعبيراً بالأقل عن الأكثر لأنه أظهر في الفردية وأوضح في ترتيب الأحكام وتطبيقها عليه وإلاَّ فالتعارض قد يقع بين أكثر من اثنين كما لو دل أحدهما على الوجوب والآخر على الحرمة والثالث على الكراهة.

رابعاً: المراد بالإثنينية

والمراد بالاثنينية في الدليلين أعم من الاثنينية الحقيقية كما في الأمثلة أو الاثنينية الحكمية كما في الدليل الواحد فإنه قد يعارض نفسه بالنسبة لفردين منه كما لو حفر بالوعة في بيته تضر بجاره فحديث لا ضرر يعارض نفسه إذ كما ان الجار يتضرر كذلك المالك بالمنع من حفرها، ومثل ما لو قال المقر ملكي في النجف لزيد فإن قوله ملكي ينافي قوله لزيد لأن ملكه لا يكون لغيره، بل الأصوليون قد صرحوا بذلك كقولهم تعارض الاستصحابين فإنه عبارة عن تعارض قاعدة لا تنقض مع نفسها، بل في باب التعارض نفسه عبروا بقولهم ان التعارض يكون بين أدلة السند، ومعناه ان دليل حجية الخبر يعارض نفسه.

خامساً: المراد بالتنافي

والمراد (بتنافي المدلولين) هو امتناع الاجتماع بين المدلولين والتدافع بينهما.       

والمراد (بتنافي الدلالتين) هو دلالة كل منهما على ما يمتنع اجتماعه مع مدلول الآخر بحيث يكون بين المدلولين المنافاة والمدافعة سواء كانت بالذات كما لو دل أحدهما على الحكم الشرعي والآخر على عدمه أو بالعرض بأن قام الدليل على عدم اجتماع مدلولهما كما لو دل الدليل على وجوب الظهر يوم الجمعة والدليل الآخر على وجوب صلاة الجمعة فيها وقام الإجماع وهو دليل ثالث على عدم اجتماع الوجوبين للظهر والجمعة.

ثم تقيد التنافي بالمدلولين أو بالدلالة لإخراج تنافيهما بحسب العمل كالدليلين المتزاحمين كالدليل الدال على إنقاذ الغريق والدليل الدال على إطفاء الحريق فيما إذا ابتلى بهما دفعة واحدة ولم يتمكن من فعلهما معاً، بل لإخراج الدليلين المتنافيين بحسب المرتبة كأن دل أحدهما على الحكم للموضوع في مرتبة الظاهر والآخر دل عليه في مرتبة الواقع فإنه يوجد بينهما تنافي ولكنه في المرتبة لا بحسب المدلول ولا الدلالة كما لو دل الدليل على نجاسة الشيء في الواقع ودل الدليل على طهارته في الظاهر فإنه يكون تنافياً فيهما بحسب المرتبة إذ لا يجتمعان في مرتبة واحدة.

وكيف كان فالتعارض في حد ذاته لا يختص بدليل دون دليل بل يجري في جميع الأدلة من الكتاب والسنة والإجماع والعقل ويحصل التعارض بين كل منهما مع نفسه ومع غيره إلاَّ في  القطعيين منها كتعارض الاجماعين المحققين على أمرين لا يجتمعان - على مذهب المتأخرين - من حجية الإجماع إذا علم برأي الإمام – الواقعي منه - واما على مذهب القدماء في الإجماع من أنه الاتفاق الكاشف عن دخول المعصوم (عليه السلام  ) فيه فإنه يمكن حصوله إذ يمكن صدور حكمين من المعصوم (عليه السلام  ) من أجل التقية، إلاَّ ان الأصوليين خصوا بحث التعارض بخصوص الأمارات الشرعية على الأحكام الشرعية وسنتعرض ان شاء الله لتلك الأقسام.

كما ان المراد بإثنينية الدليلين أعم من الاثنينية الشخصية كما لو كان دليل واحد شخصي يعارضه دليل آخر واحد شخصي أو من الاثنينية النوعية كما لو كانت أدلة أكثر من واحد يعارضها دليل واحد آخر أو أدلة أكثر من واحد أعم من ان يكون على وجه يعارض كل منها كل واحد من صاحبيه، كما لو دل دليل على وجوب شيء والآخر على إباحته والثالث على حرمته، أو يكون على وجه يعارض واحد منها أو أكثر لأدلة متعاضدة دالة على معنى واحد كما لو دل دليل واحد أو أكثر على وجوب شيء ودلت أدلة أكثر من واحد على حرمته، وأعم من ان تكون بحسب النوع كتعارض السنة مع الكتاب أو مع الإجماع أو مع العقل أو بحسب الصنف كتعارض أصناف السنة بعضها مع بعض مثل تعارض القول والفعل والتقرير والإجماع المنقول وغيرها من أصناف السنة، وكتعارض البراءة والاشتغال والاستصحاب وغيرها من أصناف الدليل العقلي، وكتعارض الإجماع المحقق والمنقول والبسيط والمركب والحدسي ونحوها من أصناف الإجماع.

البحث الرابع

جهات التنافي بين الأدلة

إن التنافي بين الأدلة يكون من جهات ثلاث: من جهة الصدور أو من جهة وجه الصدور أو من جهة الدلالة لأن دلالة الدليل لا تكون حجة معتبرة إلاَّ بأمور ثلاثة:

الأول : الصدور

والمراد به وجود العلم أو الدليل المعتبر على صدوره وصحة سنده اما من المشرع، أو من العقل وهو قد يكون وجدانياً كالسماع شفاها، وقد يكون بواسطة قيام الدليل عليه وهذا كالأمارات فإن حجيتها واعتبارها بواسطة ما قام من الأدلة على صحتها صدوراً.

الثاني : وجه الصدور وجهته

والمراد به العلم بأنه صدر لبيان الواقع لا للتقية أو للخوف أو للهزل أو نحو ذلك من الدواعي المنافية لسوق الكلام لإفادة بيان الواقع فمتى احتمل ذلك لم يثبت به مدلول بل لابد من قيام الدليل على عدمه، أو أصل معتبر عليه كأصالة عدم التقية وعدم كونه هازلاً وعدم كونه مرائيا فهذا الأمر تثبته مثل هذه الأصول المعتبرة عند العقلاء.

الثالث : الدلالة

والمراد بها العلم بكون الدال مستعملاً في ظاهره، وهذا الأمر تثبته الأصول اللفظية كأصالة الحقيقة وكأصالة عدم القرينية وكأصالة العموم وأصالة الظهور، فإذا تعارض الدليلان فلابد من التصرف فيهما من إحدى هذه الجهات الثلاثة، اما من جهة الصدور بأن يمنع من صدورهما معاً، أو من جهة وجه الصدور بالحمل على عدم إرادة بيان الواقع بمدلولهما بالحمل على الصدور على وجه التقية، أو الهزل أو نحو ذلك، أو من جهة الدلالة بالحمل على التجوز أو الحذف أو نحو ذلك.

المبحث الخامس

ما يتحقق به التعارض

إن ما يتحقق به التعارض وما به قوامه أمور:

الأمر الأول : دليلية المتعارضين

دليلية المتعارضين واعتبارهما شرعاً فإنه لو كان أحدهما ليس بحجه لم يصلح لمعارضة الدليل المعتبر إذ لا يمنع من حجيته، ولو كان كل منهما ليس بحجة لا أثر للمعارضة بينهما لسقوطهما عن الاعتبار فلابد ان يكون كل من الدليلين المتعارضين معتبراً في نفسه وذاته ومشمولاً لأدلة الحجية بحيث لولا المعارضة بالدليل الآخر لوجب العمل به، فهو عند عدم المعارضة حجة فعلية وعند المعارضة حجة ثانية بمعنى أنه لولا المعارضة لكان حجة فعلاً، فالقياس والاستقراء والأولوية الظنية عند من لا يرى حجيتها لا تكون بينها وبين غيرها معارضة لعدم اعتبارها وعدم حجيتها فوجوده كعدمه، وهكذا ما كان يفقد بعض شرائط حجيته وتسقط حجيته واعتباره حال التعارض كالأصل العملي الذي يسقط اعتباره حال معارضته مع الأمارة حيث يكون وجوده كعدمه.

ومن هنا يظهر عدم الوجه لما ذكره بعضهم من وقوع التعارض بين القطعي والظني ممثلاً لذلك بما لو كان القطع من القطاع على ما ينافي مدلول الخبر الصحيح من وقوع التعارض بينهما وترجيح الظني على القطعي بناء على ما ذهب إليه جدنا كاشف الغطاء([6])(P) من عدم حجية قطع القطاع وبمثل ما لو حصل القطع للقاضي بحكم مع وجود البينة على خلافه أو حصل للأخباري قطع من غير الكتاب والسنة بحكم على خلاف ظواهر الكتاب والسنة فإنه لا يخفى خروج هذه الصور وأمثالها عن المقام، لأنك قد عرفت ان التعارض لا يكون إلاَّ بين الدليلين كل منهما باقي على صفة الاعتبار والحجية وأنه لا تعارض بين الحجية واللاحجية، وفي هذه الموارد لم يقع التعارض بين الدليلين لأن قطع القطاع بناءاً على عدم اعتباره فهو ليس بحجة سواء قام الظني المعتبر على خلافه أم لا.

وأما بناءاً على اعتباره فهو كقطع غير القطاع مقدم على الدليل الظني المعتبر.

وأما قطع القاضي على خلاف البينة فعلى القول بجواز عمل القاضي بقطعه فلا عبرة بالبينة لأن اعتبارها كسائر اعتبار الأمارات مقيد بعدم القطع على الخلاف ضرورة ان العلم مشاهدة للواقع فليس غيره مقدم عليه وعلى القول بعدم الجواز فبناءاً على سقوط كل من البينة والعلم عن الاعتبار من جهة ان البينة مقيدة أدلتها بعدم العلم على خلافه.

وأما القطع فلفرض عدم جواز عمله به فلا دليل ولا تعارض، وأما بناءاً على سقوط العلم عن الاعتبار وعدم تقييد أدلة البينة بعدم العلم فلا تعارض أيضاً لأن العلم لم يكن بحجة فلا تقابل بين حجتين ولا تعارض بين دليلين، وأما مسألة الأخباريين([7]) وهو القطع الحاصل من غير الكتاب والسنة على خلاف ظاهرهما فالتحقيق ان يقال إنه كالقطع الحاصل منهما فلا يعارضه أيضاً ظواهر الكتاب والسنة لما تقرر في محلة من تقييد اعتبار الظواهر بعدم العلم بالخلاف، نعم على مذاق الأخباريين يكون القطع المذكور كالشك في عدم الاعتبار فيسقط عن الحجية فلا معارض عندهم لظواهر الكتاب والسنة.

الأمر الثاني : تنافي الدليلين وتكاذبهما

الثاني مما يعتبر في تحقيق التعارض هو تنافي الدليلين وتكاذبهما بحيث لا يمكن اجتماع مدلولهما، والمراد منهما كالدليلين الدال أحدهما على الحكم والآخر دال على ضده أو سلبه فإذا لم يكن بين الدليلين تكاذب وتنافي كالدليل المورود مع الدليل الوارد وكالدليل الاجتهادي مثل الأمارات مع الدليل الفقاهتي مثل الأصل، وكالدليل العام مع  الدليل الخاص، وكالدليل المطلق مع الدليل المقيد وكالدليل المحكوم مع الدليل الحاكم، وكالدليل الظاهر مع الدليل الأظهر، وغير ذلك مما يجمع العرف بينهما ولا يرى تكاذباً بينهما إذا صدرت من متكلم واحد عاقل أو ما هو بمنزلته ولا يتحير في المراد منهما لما ذكرناه في مبحث مخالفة الاستصحاب للأدلة من أنه لا تمانع ولا تنافي بين تلك الأدلة لأن العرف يجمع بينهما بحمل الأول على الثاني حتى لو كان سند المقدم عليه أقوى من سند المقدم ضرورة ان منشأ التنافي وعدمه هو الدلالة لا الصدور، ولا ريب ان القطع بالصدور لا يوجب قوة الدلالة ولا الظن بالصدور يوجب ضعف الدلالة، والعرف هو المتبع في دلالة الألفاظ لأن الطلب من العرف بغير ما يفهمونه منه خلاف الحكمة ولقوله تعالى: [ وما أرسلنا من رسولٍ إلاَّ بلسان قومه] ([8]) مضافاً إلى ان ظاهر أدلة التعارض ان موضوعه والمأخوذ في حقيقته هو التحير في الحجة وإذا كان العرف يجمع بينهما فلا يكون تحيير بينهما.

الفرع الأول: مصدر التنافي بين الدليلين

إن التنافي بين الدليلين والتمانع بينهما لا يكون من جهة ذاتهما لأن كل منهما مجتمع مع الآخر في الوجود، والمتمانعان والمتنافيان لا يجتمعان في الوجود وإلاَّ لم يكن أحدهما مانعاً من الآخر ولا منافياً له، ولا من جهة دلالتهما على مدلولهما فإن دلالة كل منهما مجتمعة مع دلالة الآخر إذ كل منهما دال على معناه وليس ألفاظهما مهملة، بل ولا من جهة حكايتهما عن الواقع لأن كل منهما حاكي عن ان معناه هو الواقع، وإنما التمانع والتنافي بين مطابقتهما للواقع التي هي عبارة عن صدقهما فإن كل منهما يمنع من مطابقة الآخر للواقع وصدقه فهما غير مجتمعين في المطابقة للواقع ومتمانعين في الصدق إذ كل منهما يمنع من صدق الآخر، ويكون ثبوته لازمه انتفاء الآخر وعدم مطابقته للواقع، ولكن هذا لا ينافي إتصاف الدليل نفسه بالمعارضة أو إتصاف الدليلين نفسيهما بالتعارض والتمانع والتنافي فإنها صفات للدليل نفسه بذلك الاعتبار فإن الأوصاف للشيء قد تكون باعتبار تعلقه بشيء آخر كصفة الخالق باعتبار المخلوق والرب باعتبار المربوب فتكون الصفة لذلك الشيء حقيقة باعتبار تعلقه بذلك الأمر الآخر وفيما نحن فيه كذلك فإن وصف التمانع والتعارض والتنافي للدليلين حقيقة باعتبار شيء آخر وذلك الشيء الآخر اما الدلالة عند المتأخرين أو المدلولين عند المتقدمين أو المطابقة للواقع كما هو عندنا.

الفرع الثاني: التنافي الذاتي والعرضي

التنافي الذاتي : ان هذا التنافي بين الدليلين قد يكون منشأه وسببه التمانع عقلاً بين المدلولين ذاتهما في الوجود الخارجي، وهو قد يكون بنحو التباين كما لو كان أحدهما يدل على وجود الحكم والآخر يدل على سلب ذلك  الحكم كوجوب القنوت في الصلاة وسلب ذلك الوجوب، وقد يكون بنحو التضاد سواء كان التضاد في الحكمين كما لو دل أحدهما على وجوب شيء والآخر على حرمة ذلك الشيء، أو التضاد في موضوعهما كما لو كان أحدهما قد دل على الأمر بضد الآخر كأن دل أحدهما على وجوب الصوم في يوم الشك والآخر دل على وجوب إفطاره، وقد يكون بنحو العموم من وجه بالنسبة لمورد الاجتماع ويسمى هذا التنافي بالتنافي الذاتي لحكم العقل بعدم اجتماع المدلولين في الوجود، وقد يكون سبب التنافي بين الدليلين العلم الإجمالي بكذب أحد الدليلين بواسطة ملاحظة أمر خارجي ثالث يدل على امتناع اجتماع مدلولهما، وهذا الأمر الخارج الثالث قد يكون دليلاً قطعياً كالإجماع أو خبر متواتر دل على تلازم الحكمين تلازماً شرعياً دل أحد الخبرين على ثبوت أحدهما والآخر على عدمه، وهذا يسمى بالتنافي السمعي وبالعرضي لحكم الشارع بعدم اجتماع المدلولين في الوجود، ومثاله ما لو ورد الحديث بوجوب الظهر يوم الجمعة وآخر بوجوب الجمعة فيه فهما غير متعارضين بالذات لكن بواسطة الإجماع البسيط على عدم وجوبهما معاً حصل التعارض بينهما، ومثل صحة العتق وبطلان الملكية حيث قام الإجماع على حكم الشارع بأن العتق لا يكون إلاَّ في ملك، وقد يكون هذا التنافي العرضي السمعي بواسطة الإجماع المركب كما لو ورد حديث يدل على نجاسة القليل بالعذرة وآخر على عدم نجاسته بالميتة فإن هذين الخبرين لا تعارض بينهما بالذات لكن التعارض بينهما عرضي حاصل من الإجماع القائم على ان كل من قال بنجاسته بالعذرة قال بنجاسته بجميع النجاسات وكل من قال بعدم نجاسته بالميتة قال بعدم نجاسته بسائر النجاسات، وقد يكون التنافي العرضي بواسطة دليل ظني معتبر مثل ما روي عن أبي عبدالله (عليه السلام  ) من النهي عن إتمام الصلاة في عرفات([9])، وبين ما روي من ان الإمام محمد الباقر (عليه السلام  ) أو الإمام جعفر الصادق (عليه السلام  ) صام في منى مع قصده عرفات من مكة وقد نص الأصحاب ان المسافة بين مكة وعرفات أربعة فراسخ، فهذان الخبران لا تنافي بينهما بحسب الذات فإن موضوع الأول هو الصلاة وموضوع الثاني هو الصوم، ومن الممكن ان يجب على المكلف الصوم دون إتمام الصلاة أو إتمام الصلاة دون الصوم، ولكن بملاحظة الدليل الثالث الظني المعتبر وهو صحيحة معاوية بن وهب([10]) الدالة على التلازم بين القصر والإفطار وعدم اجتماع وجود أحدهما مع عدم الآخر كان الدليلان المذكوران متنافيين فيقع بينهما التعارض ولا يقع بينهما وبين هذا الأمر الثالث الخارجي أعني الصحيحة المذكورة تعارض، فيكون هذا الأمر الثالث خارجاً عن طرفي التعارض، ولا تجري أحكام التعارض بينهما وبين هذا الأمر الثالث، إلاَّ أنه يمكن ان يقال ان في صورة ما إذا كان الأمر الثالث الدال على التلازم الشرعي دليلاً ظنياً معتبراً يكون هذا الدليل الثالث داخلاً في طرف التعارض فيعامل مع الدليلين معاملة التعارض، ففي المثال المتقدم يضم ما دل على وجوب القصر في الصلاة بأربعة فراسخ إلى ما دل على الملازمة بين القصر والإفطار ثم يلاحظ التعارض بين هذين جميعاً وبين ما دل على عدم الإفطار في أربعة فراسخ.

وبعبارة أخرى ينضم هذا الأمر الثالث مع أحدهما ويلاحظ التعارض بينهما جميعاً وبين الآخر، ولذا ترى بعض العلماء يأول هذا الأمر الثالث أو يخصصه أو يطرحه، ولا ريب ان التصرف لابد ان يكون من جهة البناء على دخوله في طرفي التعارض. ولا يخفى ما فيه فإن انضمام الدليل الثالث الظني الدال على امتناع الاجتماع بين المدلولين إلى أحد الدليلين لا يجدي شيئاً كالحجر إلى جنب الإنسان إذ بعد ثبوت امتناع الاجتماع بين المدلولين بملاحظته يتحقق التعارض بين الدليلين الأولين فبعد ذلك يكون ضمه إلى أحدهما لا يجعله طرفاً للتعارض بل يكون الانضمام لغواً، مضافاً  إلى عدم إمكان جعله طرفاً للتعارض لأن المعتبر في التعارض وحدة الموضوع والمحمول ولا ريب ان كل واحد منهما موضوعه منفرد والدليل الثالث موضوعه مجتمعاً وكذا المحمول فيهما غير ما هو المحمول في الثالث.

إن قلت ان المعارضة تكون بين الدليلين الأوليين وبين الدليل الثالث فإنه مقتضى الأولين معاً هو نفي امتناع الاجتماع ومقتضى الثالث هو امتناع الاجتماع بين مدلولي الدليلين فيقع الثالث في طرف المعارضة لهما.

قلنا ان الثالث بعد دلالته على التلازم يكون حاكماً لوجهين:

أحدهما: أنه ناظر إليهما ومسوق لبيان حالهما كما هو شأن الحاكم في سائر الأدلة فيكون مقدماً عليها.

وثانيهما: ان دلالة الدليلين على نفي التلازم تكون دلالة إشارة وتبعية وهي لا تعارض دلالة الثالث على ثبوت الملازمة لأنها بالمطابقة الصريحة، وأما ما يتراءى من بعضهم من التصرف في الدليل الثالث بأحد الوجوه التي ذكرناها من تأويل الدليل الثالث أو تخصيصه أو طرحه فإنما هو دفع للتعارض لا علاج للتعارض حيث إنه رأى ان الثالث لا يصلح لإثبات التلازم الموجب لوقوع التعارض بين الأولين وإن الحكم بالتعارض بينهما محتاج إلى دليل آخر لأن هذا الدليل غير صالح له اما لقصور الدلالة أو لضعف السند فلا محالة تصرف فيه بالتأويل أو التخصيص أو الطرح من غير ان يلاحظ النسبة بينه وبينهما بل ولا المرجحات من الطرفين فلو كان تصرفه من جهة علاج التعارض كان عليه ملاحظة ذلك أولاً ثم ارتكاب أحد الوجوه الثلاثة لا التكلم في دلالة الثالث وحده وارتكاب أحد الأمور الثلاثة.

وبالجملة التصرف لعلاج  التعارض إنما هو بعد تحقق المقتضي للعمل بهما فيتصرفون في أحدهما لرفع  المانع بخلاف التصرف في الثالث فإنه ارتكاب قبل تحقق المقتضي للعمل به بمعنى أنه تصرفه فيه إنما هو من جهة فقد المقتضي للعمل به وشتان بين هذا التصرف والتصرف  للعلاج.

والحاصل ان للتعارض صور ثلاثة:

أولها: ان يكون كل منهما منافياً للآخر بذاته بحيث يكون كل منهما يكذّب الآخر كأن أحدهما يدل على وجوب غسل الجمعة والآخر يدل  على عدمه أو على حرمته أو نحو ذلك ويسمى هذا التعارض بالتعارض الذاتي.

ثانيها: العلم الإجمالي بكذب أحدهما بواسطة دليل قطعي قام على امتناع اجتماع مدلوليهما صراحة أو التزاماً.

ثالثها: قيام الدليل الظني المعتبر على امتناع الاجتماع بين مدلوليهما صراحة كما لو دل أحد الخبرين على وجوب القصر في هذا المكان والآخر دل على وجوب الصوم فيه، وقام خبر معتبر على ان وجوب الصوم لا يجتمع مع وجوب القصر أو التزاماً كما في هذا المثال لكن يفرض ان الخبر المعتبر دلَّ على أنه كلما وجب القصر وجب الإفطار فإن لازمه امتناع اجتماع وجوب القصر مع وجوب الإفطار ويسمى هذان القسمان بالتعارض العرضي.

إن قلت ان صورة العلم الإجمالي بكذب أحدهما ليست من صورة التعارض لأن فرض العلم بكذب أحدهما يقتضي ان أحدهما ليس بدليل ولا هو حجة لأنه لم يصدر من الإمام (عليه السلام  ) . وفي التعارض يشترط كون كل منهما حجة في نفسه لولا التعارض فهذا من باب اشتباه الحجة باللاحجة لا من باب تعارض الحجتين فلا تجري فيهما أحكام  التعارض من الترجيح أو التخيير بل لابد ان يعمل فيها بقواعد العلم الإجمالي.

قلنا ان ذلك لو تم لزم ان يخص التعارض بخصوص ما كانا معلومي الصدور وكان الشك في الجهة أو النسخ أو في الدلالة كأن لا يعلم  أيهما صدر تقية أو ناسخاً ومنسوخاً أو شأني الحكم أو فعلية أو مفقود منه القرينة ونحو ذلك مما يعلم أنه صادر عن المعصوم ووقع التنافي بينهما، واللازم باطل لوقوع التعارض بين المتنافيين ذاتاً كما لو ورد اغتسل ليوم الجمعة ولا تغتسل ليوم الجمعة مع العلم بكذب أحد الدليلين وعدم مطابقته للواقع وذلك لشمول أدلة التعارض لهما.

وتحقيق الحال ان  ما ذكره الخصم إنما يتم في صورة العلم بعدم صدور أحدهما إجمالاً كما لو علم وقطع بأن أحد الدليلين الدال أحدهما على وجوب القنوت والآخر الدال على وجوب الإقامة لم يصدر من الشارع، أو العلم بعدم  تمامية شرائط الحجية في أحدهما إجمالاً لا في صورة قيام العلم على كذب أحدهما إجمالاً أو قيام العلمي كالخبر المعتبر على كذب أحدهما من جهة عدم اجتماع مدلوليهما، وفرق بين الصورتين الصورة الأولى وهي مصورة قيام العلم بعدم صدور أحد الدليلين إجمالاً أو العلم بعدم جمع أحدهما لشرائط الحجية إجمالاً كأن يعلم إجمالاً بعدم عدالة راوي أحد الخبرين أو عدم اتصال السند أو نحو ذلك، وبين صورة الثانية وهي العلم الإجمالي بكذب أحدهما وجداناً كأن قطع بكذب أحدهما إجمالاً أو تعبداً كأن قام دليل ظني معتبر يقتضي كذب أحدهما.

إن قلت إذا علم بكذب أحدهما فقد علم بعدم صدوره لاستحالة كذب المعصوم.

قلنا لا يلزم ذلك فإن الكذب هو عدم المطابقة للواقع ويجوز عدم المطابقة من جهة اشتباه الراوي، أو نسيانه ونحو ذلك، أو من جهة التقية أو الامتحان أو نحو ذلك، أو من جهة الدلالة كفقد القرينة أو تخيلها أو تخيل الظهور أو اختلاف فهم الرواة أو نحو ذلك فإن في كل ذلك يتحقق الصدور للخبر مع تحقيق الكذب فيه.

أما في الصورة الأولى يكون من  باب اشتباه الحجة باللاحجة ولا تجري أولاً فيها أحكام التعارض من الترجيح أو التخيير إذ لا يشملها قوله (عليه السلام  ): (إذا ورد عليكم خبران)([11]) لأنه في هذه الحالة لم يجيء عنهم خبران لا وجداناً للعلم بعدم صدور أحدهما ولا تعبداً لعدم شمول أدلة اعتبار الخبر لهما معاً للعلم بفقدان أحدهما لشرائط الحجية مضافاً للإجماع على ان أحكام التعارض إنما تجري في الدليلين  الذين لو خلي كل واحد منهما عن الآخر لكان حجة، ولذا في تعريفهم للتعارض أضافوا لفظ التعارض للدليلين فقالوا (تعارض الدليلين) كما لا يمكن فيهما الجمع العرفي فلا يحمل الظاهر منهما على الأظهر ولا العام على الخاص ولا المحكوم على الحاكم ونحو ذلك لاحتمال ان غير الصادر، أو الذي ليس بحجة هو الأظهر أو هو الخاص أو هو الحاكم فيكون الحمل عليه حمل على غير الصادر منه.

والحاصل ان الجمع العرفي الذي يرتكبه أهل اللسان في الكلامين المتعارضين إنما يرتكبونه على تقدير إمكان صدورهما من متكلم واحد أو كالواحد كالأئمة ( عليه السلام   ) لتعيين المراد وتشخيصه منهما، وأما مع العلم بعدم  صدور واحد منهما عنه فيمتنع تشخيص وتعيين المراد منهما لاحتمال ان الحاكم أو الأظهر غير صادر منه فكيف يكون قرينة أو كاشفاً عن المراد له، والمرجع في باب اشتباه الحجة باللاحجة هو الأصول العملية، أو ما يقتضيه العلم الإجمالي لو حصل منهما علم إجمالي بالتكليف.

وأما الصورة الثانية فلابد من العلم الوجداني بصدورهما أو قيام  العلمي بصدورهما بأن يكونا مشمولين لأدلة الحجية بحيث يكون كل من الدليلين لو لا التعارض حجة فعليّة صالحة لاستنباط الحكم الشرعي الفرعي بمعنى ان كل منهما حجة شأناً وذاتاً ونفساً، وإنما هو  ليس بحجة فعلاً من جهة التعارض فإنه في هذه الصورة يصدق أنه قد جاء عنهم خبران اما وجداناً كما في صورة القطع بالصدور، أو تعبداً من جهة شمول أدلة الحجية لهما، وهذه الصورة على قسمين:

القسم الأول: ان يعلم بصدور الخبرين قطعاً، وسيجيء ان شاء الله الكلام في ان التعارض يتحقق في هذا القسم أم لا في مبحث فيما يعتبر في التعارض.  

القسم الثاني: وهو ان يكون الخبران المتعارضان مظنوني الصدور بالظن المعتبر سواء كانا متنافيان بالذات أو بالعرض ففي هذه الصورة ان أمكن الجمع العرفي كأن كان أحدهما أظهر وإلاَّ فيعاملان معاملة المتعارضين لأنه يعلم  تكاذبهما، وإن كانا مقطوعي النص والجهة، أو غير مقطوع أحدهما أو كليهما لأنه يعلم بالعلم التعبدي بواسطة شمول دليل الحجية لهما بصدورهما ولم يعلم باختلافهما في الجهة أو في الدلالة لاحتمال ان الراوي إشتبه أو نسي فتبين خلاف الواقع فلم يعلم باختلافهما في الجهة أو الدلالة الموجب لتوافقهما ورفع المعارضة بينهما.

إن  قلت فعلى هذا نعلم بعدم  صدور أحدهما فيكون من باب اشتباه الحجة باللاحجة.

قلنا لا نقطع بعدم صدور أحدهما حتى يكونا من هذا الباب بل دليل الحجية عّبدنا بصدورهما فدخلا في قوله (عليه السلام  ): (إذا ورد عليكم خبران).

إن قلت إذا قام التعبد بصدورهما فلا تكاذب بينهما ويكونان مثل مقطوعي الصدور في اقتضاء هذا العلم، العلم باختلافهما في الجهة أو في الدلالة الموجب للقطع بعدم تناقضهما.

قلنا العلم الوجداني بالصدور يوجب ذلك كما قدم، اما العلم التعبدي بالصدور فلا يوجب  العلم الوجداني باختلافهما بالحجة أو الدلالة الرافع لتنافرهما لاحتمال اشتباه الراوي.

وبهذا ظهر لك ان التعارض لا يقع بين مقطوعي الصدور، ولا بين ما هو مقطوع الصدور وبين مقطوع عدمه، ولا بين من لم يشملها دليل الاعتبار وإنما يقع بين مظنوني الصدور بالظن المعتبر.

دفع إشكال على المشهور:

وهو إنهم اعتبروا في التنافي بين الدليلين على وجه التناقض أو التضاد. والظاهر ان الوجه في ذلك هو ان الدليلين المتنافيين ان كان التنافي بينهما بالإيجاب والسلب كأن أحدهما دل على وجوب الإقامة والآخر دل على سلب الوجوب عنها كانا متناقضين بحسب الدلالة، وإن كان التنافي بينهما من جهة دلالة كل منهما على أمر وجودي منافي للآخر كأن دل أحدهما على الوجوب والآخر على الحرمة أو الاستحباب كانا متضادين بحسب الدلالة. والذي يرد عليهم أو أورد عليهم أمور:-   

أولها:  ان المتعارضين قد يكونان متنافيين مع دلالة كل واحد منهما على السلب كما لو دل الدليل على سلب الوجوب عن صلاة  الجمعة ودل آخر على سلب جواز تركها فإنه بين الدليلين تنافي مع ان كل منهما دال على السلب، إلاَّ ان يقال ان التنافي إنما صار بينهما لرجوع دلالتهما للدلالة على المتناقضين فإن سلب الوجوب يقتضي جواز تركها فيكون الدليل الدال على سلبه مناقضاً له، ولولا ذلك لما كان بينهما تنافي، ولكن على هذا الجواب يقتضي الاستغناء عن ذكر التضاد لأنه أيضاً يرجع لذلك، أو أنهم إنما خصوا التناقض والتضاد بالذكر لأنهما هما أغلب الأفراد وأظهرها في التعارض، أو من أجل أنهم أرادوا بهما المعنى العرفي لا الاصطلاحي فإنهما عند العرف ما كان من قبيل السلب والإيجاب يسمى تناقض، وما كان بينهما تنافي من قبيل الوجوديين كالوجوب والجواز ونحو ذلك يسمى عندهم تضاد، ولذا ترى ان بعض الفقهاء يعبر عن صلاة الجمعة أنها تضاد صلاة الظهر في يوم الجمعة مع أنه لا تضاد بينهما بحسب الاصطلاح وإنما عرض لهما التنافي في هذا اليوم  من جهة الإجماع والأدلة على عدم  وجوبهما فيه.

ثانيها: بالمتخالفين العامين من وجه كما لو دل الدليل على إكرام كل عالم ودل الدليل الآخر على عدم إكرام أهل البلد الفلاني، فإن هذين الدليلين يتنافيان في العالم من ذلك البلد. وجوابه أنهما متناقضان بالنسبة إلى عالم  ذلك البلد لأن أحدهما يدل على وجوبه والآخر يدل على عدم وجوبه، وهذا كافٍ في التناقض بينهما في الدلالة.

ثالثها: بما كان التقابل بينهما بنحو العدم والملكة، كما لو دل الدليل على ان البيع يوم الجمعة صحيح والآخر دل على أنه فاسد، فإن تقابل الصحة والفساد بنحو العدم والملكة، لأن الفساد هو سلب الصحة عما من شأنه ان يكون صحيحاً. وجوابه يعلم مما سبق في الجواب عن الاعتراض الأول.

رابعها: بما إذا دل الدليل على وجوب صلاة الجمعة ودل الآخر على وجوب الظهر فيها فإن بينهما تعارض بواسطة العلم الإجمالي بعدم وجوب أحدهما مع أنه لا تضاد ولا تناقض بين وجوب صلاة الجمعة وبين وجوب صلاة الظهر. وجوابه يعلم مما سبق في الجواب عن الاعتراض الأول من أنهم أرادوا بالتناقض والتضاد المعنى العرفي وفي المقام كانا متضادين عرفاً بواسطة عروض العلم الإجمالي بعدم اجتماع وجوبهما فهما متضادان بالعرض كما تقدم في التعريف.

خامسها:  بالعام إذا خصص بمخصص يوجب تخصيصه تخصيصاً مستهجناً فإنه يقع بينهما التعارض لتكاذبهما لأن العام لو صدق يلزم كذب الخاص والخاص لو صد ق يلزم كذب العام إذ لو صدق العام يلزم التخصيص المستهجن له. وجوابه أيضاً يعلم مما سبق.

الفرع الثالث: أنواع تنافي  الدليلين

ان التنافي بين الدليلين يكون على أنواع ثلاثة:

أحدها: بنحو الدلالة المطابقية كما لو دل الدليل على وجوب الصلاة في الوقت الفلاني والآخر دل على عدم وجوبها فيه.

ثانيها: بنحو الدلالة التضمنية كما في العامين من وجه، لأن كل منهما يدل على بعض ما دل عليه الآخر، ومنه ما لو اختلف الدليلان بالكل والجزء كأن قال: (كُلْ قرص الخبز بأجمعه)، وقال: (لا تأكل ربعها)، ومنه العام والخاص والمطلق والمقيد عند بعضهم.

ثالثها: بنوع الدلالة الالتزامية كالمفهومين المتنافيين، كما لو دل الدليل على ان الإنسان ان أفطر متعمداً فعليه عتق رقبة، ودل آخر ان سافر وأفطر فلا عتق عليه فإن مفهوم  الأول هو ان لم يفطر متعمداً فلا عتق عليه سواء سافر أم لا، ومفهوم الثاني ان لم يسافر فعليه العتق سواء تعمد الإفطار أم لا.

الأمرالثالث: التنافي بين مدلولي الدليلين في مرتبة واحدة

مما يعتبر في تحقق التعارض هو التنافي بين مدلولي الدليلين في مرتبة واحدة. بأن يكون الدليل المعارض دالاً على الحكم المنافي في مرتبة الحكم الذي دل عليه الدليل. مثل ان يدل أحد الدليلين على وجوب الشيء في الواقع والآخر يدل على حرمته في الواقع، ومثل ان يدل الدليل المعارض على حلية الشيء في الظاهر والدليل الآخر يدل على حرمته في الظاهر، كما في مشكوك الحلية والحرمة المعلوم سابقاً حرمته فإن أصالة الحل تدل على حليته في مرتبة الظاهر واستصحاب حرمته يدل على حرمته في مرتبة الظاهر.

ومن هذا الباب كان الدليل على الحكم الواقعي غير معارض للدليل على الحكم الظاهري المخالف له لاختلاف المرتبة كما في الخمر الواقعي المشكوك خمريته، فإن الدليل دل على حرمته في الواقع ودليل حلية المشتبه دل على حليته في الظاهر فلا تعارض بينهما مع ان الحرمة تنافي الحلية.

ومن  هذا الباب كان الدليل على الحكم المرتب على عصيان حكم الشيء غير معارض للدليل الدال على حكم ذلك الشيء، كما لو قال المولى: (تجنَّد للحرب) ثم قال (إذا لم تتجند للحرب فادفع هذا المقدار من المال).

ولقد عقد الأصوليون لهذا البحث باباً مستقلاً سموه (باب الترتب).

ومن هذا الباب الدليل الدال على أحد الحكمين المتلازمين مع الدليل الدال على غير الملازم في مرتبة الظاهر فإنه لم يكن بينهما تعارض لأن التلازم كان بينهما في الواقع لا في الظاهر، نعم لو كان مدلولهما الحكم الواقعي وكان مختلف لزم التعارض، ولذا في صورة ما إذا توضأ غفلة بماء مشتبه بالبول فإنه يحكم بطهارة بدنه لدليل أصالة الطهارة ووجوب إعادة وضوءه لدليل استصحاب نجاسة بدنه الحديثة مع أنه في الواقع يكون طهارة بدنه باستعمال المشتبه ملازمة كطهارة بدنه الحديثة باستعمال ذلك الماء إلاَّ ان هذه الملازمة كانت في الواقع، والإنفكاك بينهما إنما كان في الظاهر. ومثله دليل تحريم إحدى الأختين على من أدعى زوجيته للأخرى مع إنكار الأخرى لذلك مع دليل جواز تزويج المنكرة من غيره، فإن التحريم المذكور والجواز المذكور وإن كانا متنافيين في مرتبة الواقع لأن تحريم إحدى الأختين عليه لازمهُ زوجية الأخرى له وحرمة زواجها من غيره لا جوازه إلاَّ ان التلازم لما كان في مرحلة الواقع دون الظاهر جاز ذلك في الظاهر.

الأمر الرابع: إتفاق الدليلين المتعارضين في الوحدات الثمانية

مما يعتبر في تحقق التعارض اتفاق الدليلين المتعارضين في الوحدات الثمانية وحدة الموضوع والمحمول والمكان والزمان والشرط والإضافة ووحدة الجزء والكل ووحدة القوة والفعل على ما ذكره المنطقيون، وبحثنا فيه بحثاً مفصلاً في كتابنا نقد الآراء المنطقية.

فإن التعارض لا يكون بين الدليلين إذا لم يتحدا في ذلك على النحو الذي ذكره علماء المنطق، ولا يشترط الاختلاف في الكم والكيف والجهة كما اشترطه المناطقة في التناقض، فإن التعارض عند الأصوليين مجرد تكاذب الدليلين لعدم اجتماع مدلوليهما سواء جوّز العقل ارتفاعهما معاً أو جوّز العقل اجتماعهما معاً في حد ذاتهما كما لو كان تنافيهما عرضي بملاحظة دليل ثالث دل على امتناع اجتماعهما، فإن مراد الأصوليين  في هذا المقام هو مجرد بيان حكم تكاذب الدليلين لعدم اجتماع مدلوليهما بالذات كما لو دل أحدهما على وجوب الشيء والآخر على عدمه أو على ضده أو بالعرض كما لو قام دليل ثالث سواء كان قطعياً أو ظنياً معتبراً يدل على عدم اجتماع مدلوليهما بالمطابقة والصراحة أو بالالتزام. نعم يشترط في الدليلين المتعارضين الوحدات التي ذكرها المنطقيون واعتبروها في التناقض لأن الدليلين لا يتحقق بينهما التعارض الموجب لتكذيب أحدهما للآخر إلاَّ إذا تحققت تلك الوحدات.

الأمر الخامس: عدم العلم بصدور الدليلين المتعارضين

مما يعتبر في تحقيق التعارض هو عدم العلم بصدورهما، وإنما اللازم هو شمول دليل الحجية لهما لولا المعارضة لأن أخبار التعارض لا تشمل مقطوعي الصدور، كما هو واضح لمن راجعها، ولأنه لو علم بصدور الدليلين المتعارضين قطعاً لا يخلو الحال.

أولاً: تعارض مقطوعي الصدور والجهة

اما ان يكون معلومي الجهة أيضاً بأن كانا مع كونهما مقطوعي الصدور يكونان مقطوعي الجهة وإنهما لبيان الواقع مثل ما لو فرض أنه تعارض آيتين شريفتين، أو آية مع خبر متواتر، أو خبرين متواترين أو مقرونين بالقرائن الموجبة للقطع بالصدور، فإنه في هذه الحالة ان أمكن الجمع العرفي بأن كان أحدهما أظهر أو حاكماً حمل أحدهما على الآخر، وإلاَّ فيكونان مجملين بالإجمال العرضي عليهما، لأنه من القطع بالصدور والقطع بالجهة يحصل لنا القطع بأن الظاهر من أحدهما أو من كليهما غير مراد، وأنه هناك قرينة قد سقطت في البين أو لم نطلع عليها فلم يكن بينهما تكاذب قطعاً حتى يكونا من المتعارضين، بل قد أحرز توافقهما للقطع بسقوط القرينة التي تقتضي توافقهما، لاستحالة التناقض والتنافي في كلام الحكيم فضلاً عن المعصوم (عليه السلام  ) فيعرض الإجمال لهما بواسطة هذا القطع بسقوط القرينة التي ينكشف بها المراد منها، ولا  ريب في أن الإجمال يوجب سقوطهما عن الحجية في مؤدّاهما. نعم هما حجة في القدر المتيقن منهما لو وجد، وحجة في نفي الحكم المخالف لهما، فلا يجوز الرجوع للأصل المخالف لهما لأنه بالقطع بصدورهما يقطع بذلك وإنما يؤخذ بالقدر المتيقن منهما  لو كان، والرجوع للأصل الموافق لأحدهما لو لم يكن وذلك نظير الخبر المجمل فإنه يأخذ بالقدر المتيقن منه لو وجد ويعمل بالأصل الموافق له دون المخالف له وذلك لظهور المجمل في ذلك، والظهور حجة، أو لأن الإجمال إنما يمنع من الحجية بمقداره.

ثانياً: تعارض النصيين

وأما ان يكونا نصيين بأن كانا مع كونهما مقطوعي الصدور مقطوعي الدلالة ولا يحتمل وجود قرينة على خلاف ظاهر أحدهما ففي هذه الصور لا يمكن الجمع العرفي بينهما لكونهما نصيين مقطوعي الدلالة ولكن لا تعارض لعدم تكاذبهما بل أنه قد أحرز توافقهما لأنه مع القطع بالصدور والقطع بالدلالة يحصل لنا القطع بعدم كون أحدهما لبيان الواقع وإن الواقع غير مراد به قطعاً والآخر يكون لبيان الواقع، ومن المعلوم لا تكاذب بين ما كانا مختلفي الجهة بل يكون المحرز توافقهما لحصول القطع بكون  أحدهما لبيان الواقع والآخر لبيان غير الواقع بل يكون المقام من باب اشتباه الحجة باللاحجة لأن ما كان منهما لبيان الواقع فهو حجة وقد اشتبه بالذي ليس بحجة وهو ما كان لبيان غير الواقع وحينئذ يعاملان معاملتهما.

ثالثاً: تعارض مشكوكي الظاهر والحجة

وأما ان يكونا مشكوكي الظاهر والحجة بأن كانا مع كونهما مقطوعي الصدور لكل منهما ظاهر هو حجة وجهة صدور لبيان الواقع لو خلى عن المعارض لكن  ابتلى بالمعارض، وفي هذه الصورة يقطع اما بأن الظاهر غير مراد أو الواقع لم يقصد بيانه من أحدهما أو كليهما. والوظيفة في ذلك ان أمكن الجمع العرفي بأن كان أحدهما أظهر أو حاكم جمع بينهما لأن أصالة الجهة حينئذ تجري في كل منهما ولا يلزم من ذلك العلم بعدم حجية أحدهما إجمالاً حتى يقال إنه لا يصح الجمع العرفي، وإذا لم يكن الجمع العرفي فإن كان أحدهما موافق لمذهب المخالف أو مخالف لكتاب الله طرح وأخذ بالآخر وإلاَّ فيعاملان معاملة الصورة الأولى.

رابعاً: تعارض المختلفين

وأما المتعارضان المختلفان في القطعية والظنية بأن كان أحدهما قطعي الصدور والآخر ظني الصدور فإن أمكن الجمع العرفي بينهما كأن كان أحدهما أظهر يجمع بينهما ولذا خصص عموم القرآن الكريم بالخبر الظني المعتبر، وإلاَّ فيأخذ بالقطعي الصدور لأن قطعية الصدور الأخذ بها أولى من الأخذ بالأوثق والأعدل ونحوهما كما في مظنوني الصدور عند المشهور.

الأمر السادس: استناد التكاذب لامتناع اجتماع مدلولي الدليلين

مما يعتبر في تحقق التعارض ان يكون التكاذب مستنداً لامتناع اجتماع مدلوليهما اما بالذات كما لو دل أحدهما على عدم ما دل عليه الآخر أو على ضده، أو بالعرض كما لو قام دليل ثالث على امتناع اجتماع مدلوليهما كما في مثل لو قام الخبر على وجوب صلاة الظهر يوم الجمعة وقام آخر على وجوب صلاة الجمعة فإن الأدلة دلت على وجوب واحدة منهما في يوم الجمعة ومثاله تعارض أصالتي الطهارة في الإنائين المعلوم إجمالاً بنجاسة أحدهما فإن التعارض إنما كان بينهما بواسطة العلم الإجمالي الموجب لامتناع اجتماع طهارة أحدهما مع طهارة الآخر. وعلى هذا فمجرد العلم بكذب أحد الدليلين إجمالاً حتى لو كان من دليل قطعي من دون ان يكون ما يدل على امتناع اجتماع مدلوليهما لا يوجب وقوع التعارض بينهما لأن ذلك لا يوجب تكاذباً ولا تنافياً ولا تمانعاً بينهما لأن أحدهما لم يكذّب الآخر لا بالذات ولا  بالعرض وإنما علم بكذب أحدهما إجمالاً من أنه غير مطابق للواقع كما لو قام خبر معتبر على وجوب الإقامة للصلاة وقام خبر آخر معتبر على وجوب الأذان وحصل لنا علم إجمالي بكذب أحدهما كما لو صرح الإمام بذلك أو قام إجماع أو خبر معتبر على ذلك فإن أدلة التعارض لا تشملها والإجماع على ذلك وإنما يعاملان معاملة اشتباه الحجة باللاحجة. نعم لو حصل  لنا علم إجمالي بامتناع اجتماع وجوب الأذان مع وجوب الإقامة بأن صرح الإمام بذلك أو قام إجماع أو خبر معتبر على ذلك كان بينهما تعارض ويعاملان معاملة المتعارضين.

المبحث السادس

إزالة التعارض بالترجيح

إن التعارض والتنافي بين الدليلين أو الأدلة يتصور لإزالته بالترجيح بالمرجحات على أقسام أربعة:

القسم الأول: الترجيح بالدلالة

الأول الترجيح بحسب الدلالة وهو عبارة عن تقديم أحد المتعارضين على الآخر بقوة دلالته، كما إذا كان أحدهما عام والآخر خاص، أو أحدهما دلالته المنطوق والآخر بالمفهوم أو نحو ذلك ما ذكروه في باب تعارض الأحوال وتسمى المرجحات في هذا  القسم بالمرجحات الدلالية، وهو المسمى عند الأصوليين بالجمع العرفي، وهو المقصود من القاعدة المعروفة ان الجمع منهما ان أمكن أولى من الطرح، وهو مقدم على سائر المرجحات، ولذا خصصوا الكتاب والخبر المتواتر بالخبر الواحد.

القسم الثاني: الترجيح بالسند والصدور

وهو عبارة عن إتصاف أحد الدليلين المتعارضين نفسه بوصف يورث الظن بصدوره عن المعصوم (عليه السلام  ) دون الآخر ككون أحدهما عالي السند بأن كانت الوسائط بين الراوي والمروي عنه أقل من وسائط الخبر الآخر أو كان أحدهما رواته أكثر من الآخر، ومنه الترجيح بصفات الراوي ككونه أوثق أو أفقه أو أنه ناقل للفظ دون الآخر وتسمى المرجحات في هذا القسم بالمرجحات السندية.

القسم الثالث: الترجيح بجهة الصدور (المرجحات الجهتية)

وهو عبارة عن تقديم أحد الدليلين المتعارضين من جهة كون المقصود منه بيان الواقع لا التقية، فأن الذي يكون المقصود منه بيان الواقع مقدم على الآخر الذي لم يقصد به بيان الواقع كأن قصد به التقية أو غيرها من المصالح الداعية للمتكلم كالهزل أو الامتحان أو نحو ذلك. ولا يخفى ان المصالح الداعية لإلقاء الكلام على خلاف الواقع وإن كانت كثيرة إلاَّ ان الذي يستفاد من طريقة الأصحاب هو عدم  الاعتناء باحتمال غير التقية منها، ولذا لم يجرء أحد ان يقول ان هذا الخبر يحتمل أنه كان داعية الهزل أو الامتحان أو نحو ذلك وإنما يحتملون في الأخبار أنها لبيان الواقع أو للتقية ان كان هناك ما يوجب احتمالها. نعم ربما ينسب لصاحب الحدائق([12]) تجوزه غير التقية من الاحتمالات لكنه بمكان من الضعف  على ما تقرر في محله، ولذا هذا الترجيح لا يكون إلاَّ في المتعارضين الذين يكون أحدهما مخالفاً للمذهب المخالف والآخر موافق له فإنه يرجحون المخالف على الموافق  لعدم  احتمال التقية فيه ويسمى المرجح في هذا القسم بالمرجحات الجهتية.

القسم الرابع : الترجيح بالمضمون (المرجحات المضمونية)

وهو عبارة عن تقديم أحد المتعارضين لأقربية مضمونه للواقع من الآخر، كما إذا كان أحدهما موافقاً للشهرة الفتوائية أو للكتاب المجيد أو السنة النبوية وتسمى المرجحات في هذا القسم بالمرجحات المضمونية.

 

الفصل الثاني

أقسام التعارض

التعارض على أقسام ثلاثة: اما ان يكون بين دليلين لفظيين أو لبيين أو أحدهما لبي والآخر لفظي.

القسم الأول

التعارض بين دليلين لفظيين

وهو على ثلاث:

أولاً: التعارض في الآيات القرآنية

كتعارض آيتين.فالقابل لان يجري فيه من المرجحات هي المرجحات الدلالية ان أمكن كأن كانت أحدهما أخص والأخرى أعم، أو أحدهما دلالتها بالمنطوق والأخرى بالمفهوم، والمرجحات المضمونية كما لو كانت أحدهما موافقة للشهرة أو الكتاب نفسه أو للسنة، ومع عدم ذلك كله فيتخير بينهما لما سيجيء ان شاء الله تعالى من الحجتين المتعارضتين الأصل فيهما التخيير، ولا تجري فيهما المرجحات السندية للقطع بالصدور، وما ربما يتراءى من  التعارض بين مؤدى القراءتين كما في قوله (يطهّرن) بالتشديد والتخفيف فهو وإن كان تجري فيه المرجحات الصدورية فهو خارج عما نحن فيه، إذ الكلام هنا في الكتاب من حيث هو كتاب لا من حيث اختلاف القراءتين، وكذا لا مجرى للترجيح بمرجحات جهات الصدور لأنه تعالى يقصد بكلامه بيان الواقع. هذا كله إذا لم يحتمل النسخ، وأما إذا إحتمل بأن كانا معلومي التاريخ وشرائط النسخ موجودة فالمتأخرة تكون ناسخة، وإذا شك في اجتماع شرائط النسخ فمقتضى الأصل وقلة وجود النسخ هو عدم النسخ.

ثانياً: التعارض في السنة النبوية

وقد يكون التعارض اللفظي في السنة النبوية فإن كان المتعارضان منها مقطوعي الصدور كما لو كانا متواترين، أو محفوفين بالقرائن المفيدة للقطع بالصدور فحكمهما حكم الكتاب الشريف ولا تجري فيها المرجحات الصدورية للقطع بالصدور، ولا مرجحات جهات الصدور بالتقية لأن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم) لم يخش من أحد في بيان الأحكام الشرعية، وأما ان كان المتعارضان منها ظني الصدور فتجري فيها سائر المرجحات ما عدى مرجحات جهات الصدور بالتقية.

هذا كله إذا لم يحتمل النسخ في أحد الخبرين النبويين، وأما إذا وجد كأن كانا معلومي التاريخ وكانت شرائط النسخ موجودة فالثاني المتأخر وروداً يكون ناسخاً، وأما إذا شك في اجتماع شرائط النسخ فمقتضى الأصل وقلة وجوده هو عدم النسخ.

والحاصل إنهما ان كانا مقطوعي الصدور فلا يمكن الترجيح إلاَّ بحسب الدلالة لغرض القطع بالصدور فلا وجه للترجيح بحسبه ولا للترجيح بحسب الجهة لعدم احتمال التقية. نعم بناءاً على اعتبار الظن المطلق يرجح أحدهما بالشهرة ولكن لا نقول به فينحصر الترجيح بحسب الدلالة فإن وجد كأن كان أحدهما أخص أو حاكم أونحو ذلك أخذ به وإلاَّ فإن كانت شرائط النسخ موجودة من العلم بالتاريخ وانقضاء زمان العمل بالمتقدم وروداً أخذ بالأحدث من باب كونه ناسخاً، وإن لم توجب شرائط النسخ لزم الرجوع إلى الأصل الموافق لأحدهما وإلاَّ فالحكم التخيير من باب الاضطرار لا من باب حكم الأخبار العلاجية لظهور انحصار موردها بالأخبار الظنية لا القطعية، وكذا الحكم إذا شك في النسخ من جهة الشك في شرائطه فيحكم بعدمه لندرته ويعمل بما ذكرناه. هذا إذا كانا متباينين، وأما ان كانت النسبة عموم من وجه عمل بهما في مورد الافتراق، وأما في مورد الاجتماع فمع عدم الجمع الدلالي يؤخذ بالأصل الموافق لأحدهما وإلاَّ فالتخيير العقلي من باب الاضطرار.

ثالثاً: التعارض في الأخبار الواردة عن الأئمة

وقد يكون التعارض اللفظي بين الأخبار الصادرة عن الأئمة ( عليه السلام   ) فإن كان المتعارضان منها مقطوعي الصدور، فالقابل للرجوع إليه هو المرجحات الدلالية أو المضمونية أو جهات الصدور، ولا يصح الرجوع إلى المرجحات السندية لغرض القطع بالصدور، ولا يجيء احتمال النسخ لانقطاع الوحي بعد النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم)، ولو سلمنا إمكانيته بدعوى إمكان ان تكون أخبار الأئمة ( عليه السلام   ) كاشفة عن النسخ لما أودعهم النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم) من الأحكام وعلّمهم من المصالح والمفاسد المرتبة عليها فهو غير واقع في أخبارهم ( عليه السلام   )، ومع فقد المرجحات فالمرجع هو التخيير بينهما لما سيجيء منا ان شاء الله تعالى، وإن الأصل في الحجتين هو  التخيير، ولا يتساقطان بالكلية للإجماع على وجوب العمل بأحد مقطوعي الصدور. وإن كان المتعارضان منهما مظنوني الصدور، فإن كانا حجتين بمعنى يشملها دليل الحجية فتجرى فيها المرجحات بأقسامها الأربعة، ومع عدم جريان المرجحات فالمرجع هو التخيير كما سيجيء ان شاء الله، وأما إذا لم يشملها دليل الحجية الخاص وكانت حجيتها من باب الانسداد، فما كان مظنون منهما فهو الحجة وإلاَّ يتساقطان ويرجع للأصل ولو كان مخالفاً لهما.

رابعاً: تعارض الأخبار مع الكتاب الكريم

وقد يكون التعارض اللفظي بين الأخبار و الكتاب الشريف فإن كانت نبوية مقطوعة الصدور فالذي هو قابل لأجرائه من المرجحات هو المرجحات  الدلالية من الأخذ بالأخص أو الأظهر أو المرجحات المضمونية دون المرجحات الصدورية للقطع بصدور الخبر والقرآن الكريم ولا المرجحات لجهات الصدور لعدم التقية في القرآن الكريم أو السنة النبوية ومع عدم جريان المرجحات المذكورة كان المتأخر زماناً ناسخاً إجماعاً وإن جهل التاريخ قدّم الكتاب وأوّل الخبر لما دل من ان كل ما خالف الكتاب فهو زخرف وباطل ويمكن ان يقال ان ما دل على ان المخالف زخرف مورده هو الأخبار الظنية الصدور وعليه فاللازم في هذه الحالة هو الرجوع إلى الأصل الموافق ومع عدمه فالتخيير العقلي من باب الاضطرار، وإن كانت الأخبار صادرة عن الأئمة ( عليه السلام   ) قطعية الصدور فإنما تجري المرجحات الدلالية أو المضمونية دون الصدورية للقطع بصدور القرآن الكريم والخبر المخالف له ودون جهات الصدور إذ لا تقية في مخالفة الكتاب وإلاَّ فيطرح الخبر لما ورد من ان ما خالف الكتاب زخرف وباطل إلاَّ إذا قلنا بأن الخبر ينسخ الكتاب وكان الخبر جامعا لشرائط النسخ وقلنا بأن ما ورد من ان ما خالف الكتاب زخرف مختص بالأخبار الظنية فإنه إذا قلنا بذلك فيكون حاله حال السنة النبوية المقطوعة الصدور.

والتحقيق إنه لا معنى لاستثناء القطع بالصدور في الأخبار النبوية والإمامية لأن الكلام هنا في بيان الحكم الكلي للأدلة من دون نظر لخصوصيات أفراده فإن القطع يمنع من إجراء سائر المرجحات فلو كان النظر إليه في بيان الحكم للمتعارضين لكان يذكر القطع بالدلالة فإنه أيضاً لا  تجري المرجحات الدلالية معه وكذا القطع بجهة الصدور يمنع من جريان المرجحات المضمونية. والحاصل ان المقصود بيان حكم كل نوع في حد ذاته من أنواع  التعارض اللفظي فيذكر حكم  تعارض الكتاب في نفسه مع قطع النظر عن بعض أفراده المقطوعة الدلالة أو المقطوعة المضمون ويبحث عن نوع تعارض السنة النبوية مع قطع النظر عن حصول القطع بالصدور في بعض أفرادها كما هو البحث عنه مع قطع النظر عن قطعية دلالتها أو مضمونها في بعض أفرادها، وهكذا الحال في تعارض أخبار الأئمة ولكن نحن جرياً على نسق القوم أجرينا البحث عن ذلك.

القسم الثاني

التعارض بين الدليلين اللبيين

والدليل اللبي خمسة أنواع الإجماع والعقل والشهرة وفعل المعصوم وتقريره.

أولاً : التعارض بين الأدلة العقلية

قد يكون التعارض اللبي بين الأدلة العقلية وقد منع منه القدماء بأن الدليل العقلي المفيد للقطع غير قابل للتعارض لاستحالة القطع بالأمرين المتنافيين، والظني منه غير معتبر.

وأورد عليهم بعض المتأخرين بأنه ان كان مرادهم من ذلك هو عدم وقوع ذلك بين الدليلين المفيدين للقطع الفعلي بأن يفيد كل منهما صفة القطع بخلاف الآخر، فالدليلين الظنيين المفيدان للظن الفعلي أيضاً لا يقع بينهما التعارض لاستحالة القطع أو الظن بوجود الشيء وبعدمه أو ضده، فلماذا منعتم من ذاك وجوزتم هذا، وإن كان مرادهم بذلك الشأني أي ما كان من شأنه إفادة القطع وإن لم يفده فعلاً كذلك فيجوز وقوع التعارض بين القطعيين فيما لو قام خبر متواتر على شيء وخبر آخر متواتر على عدمه.

والجواب عن ذلك ان الدليل لا يوصف بأنه قطعي عند القوم إلاَّ إذا أفاد صفة القطع الفعلي فإن الدليل العقلي أو النقلي لا يقال له قطعي إلاَّ إذا أفاد صفة القطع، فلو فرض أنه انفك عن صفة القطع لا يقال له قطعي بخلاف الدليل الظني عندهم فإنه من شأنه ان يفيد الظن وإن انفك عن صفة الظن الفعلي.

وأما الأدلة العقلية التي حجيتها من باب الظن فكذلك والظاهر ان من يقول باعتبار الظن المطلق الشخصي الفعلي الذي قد حدث القول به في زمان الوحيد البهبهاني([13]) ولو من جهة انسداد باب العلم والعلمي لا يحسن منه ان يبحث عن التعارض أصلاً لأن ثبوت الحكم عنده دائر مدار الظن الشخصي الفعلي فمتى حصل وجب العمل به وإلاَّ فلا، ومن المعلوم أنه لا يعقل حصول الظن الفعلي بالمتعارضين لتنافيهما وعدم اجتماعهما في الوجود فهو كاليقين الفعلي، وإنما الذي يحصل هو الظن الواحد. والظاهر ان بحث من قال بحجية الظن الشخصي الفعلي فقط عن التعارض اما غفلة عن مذهبه أو تبعاً للقوم.

ثانياً: تعارض الإجماعين

قد يكون التعارض اللبي بين الإجماعين لكن الإجماع المحصل لا يمكن تعارضه مع مماثله إلاّ على طريقة القدماء، فإن الطرق المعروفة بينهم ثلاثة: طريق القدماء وطريق الشيخ([14]) (P) وطريق المتأخرين.

أما طريق الشيخ (P) لأن الإجماع عنده مبني على طريق اللطف، وإظهار الحق ولا يجيء هذا الدليل مع تعارض الإجماعين ولو في زمانيين، لأن الخلاف يكون حينئذ موجوداً، ولعدم إمكان النسخ بالإجماع لأنه لم يقل به أحد فيما نعلم.

وكذا لا يتحقق تعارض الإجماعين على طريقة المتأخرين لأن الإجماع عندهم مبني على حصول الحدس برضاء المعصوم (عليه السلام  ) من اتفاق الفتاوي، ولا ريب أنه  لا يمكن حصول الحدس برضائه (عليه السلام  ) على طرفي المسألة. وأما طريقة القدماء فيمكن فرض تعارض الإجماعين بناءاً عليها، لأن الإجماع عندهم عبارة عن (اتفاق جماعة يعلم بدخول المعصوم (عليه السلام  ) في جملة أقوالهم). ولا ريب في إمكان ذلك فإنه يجوز ان يتفق فريق على حكم وفريق آخر على نقيضه، ويدخل قول المعصوم (عليه السلام  ) في أقوال كلا الفريقين لكن في أحدهما من باب الرضاء وفي الآخرين باب التقية أو غيرها لعدم اشتراطهم في دخوله ان يكون من باب الرضا، ولا تجري فيه المرجحات الدلالية لأنه يسمع من كل واحد الحكم، ولا الصدورية لأن الإمام (عليه السلام  ) فيهم، وإنما تجري المرجحات الجهتية والمضمونية. ثم أنه لو فرض كشف اتفاق الأصحاب عن  أصل معتمد أو دليل معين فيجري عليه حكم ما كشف عنه.

وأما الإجماع المنقول فالقابل جريانه من المرجحات هي المرجحات الدلالية لأن المتكلم واحد، والمضمونية والصدورية لاحتمال خطأ الناقل واشتباهه كما إذا كان غير أفقه، والجهاتية لاحتمال ان فتوى المجمعين للتقية في عصر الناقل إذا كان عصره في عصر الإمام (عليه السلام  ) ونقله عن جماعة كان فيهم الإمام وإلاَّ فلا وجه لاحتمالها.

والحاصل ان الإجماع المحصل على طريقة الشيخ لا يتصور التعارض فيه لأنه معرفة الحكم منه من باب اللطف بأن يجب على الإمام (عليه السلام  ) الردع لو اتفقوا على الخطأ، وفي صورة التعارض لم يتفقوا على الحكم فلا يجب الردع.

وأما على طريقة الحدس المعتبرة عند المتأخرين فذلك لأنه به يستكشف رضاء المعصوم ومع اختلاف الفقهاء لا يستكشف الرضا لكون أحدهما مخالف للواقع.

وأما على طريقة التضمن المعتبرة عند القدماء فيجوز تحقق الإجماعين لإمكان اتفاق جماعة فيهم الإمام (عليه السلام  ) على حكم في مجلس واتفاق آخرين فيهم الإمام (عليه السلام  ) في مجلس آخر على غير الحكم الأول فيكون قوله (عليه السلام  ) في جملة أقوالهم في المجلسين ويكون أحد الحكمين لبيان الواقع والآخر مخالف للواقع لمصلحة يراها الإمام (عليه السلام  ) من تقية ونحوها، فيعمل في علاجهما ما يعمل في مقطوعي الصدور.

وأما الإجماع المنقول بناءاً على حجيته فالترجيح بحسب الدلالة من حيث الظهور والنصوصية جاري فيه، وأما باقي المرجحات المذكورة في النصوص العلاجية فهي أيضاً تجري فيه لكونه خبراً عرفاً ومعتبراً من باب التقيد بخبر العدل الواحد فيصير حال الإجماعين المنقولين حال الخبرين المتعارضين.

وأما مع عدم اعتباره من باب التقيد بالخبر الواحد فيتساقطان لعدم شمول أخبار العلاجية لهما لكونهما حسب الفرض ليسا بخبرين، ويمكن ان تجري فيهما المرجحات الخارجية فيرجح ما وافق السيرة العملية المعبر عنها بالإجماع العملي أو وافق الشهرة المحققة. أو ما وجد على وفقه الفتوى على ما لم يكن كذلك ونحو ذلك مما كان ناقله أكثر على ما كان ناقله أقل وما لم يرجع مدعيه عنه على ما رجع عنه مدعيه كما يحكى ذلك عن الشيخ رجوعه عن مدعيه.

ثالثاً: تعارض الشهرتين

وقد يكون التعارض اللبي بين الشهرتين بناءاً على حجيتهما فحكمها حكم الإجماع المنقول ولا تجري فيهما المرجحات الجهتية لعدم احتمال التقية أو نحوها في أحدهما، وقد ذكر المرحوم الشيخ أحمد بن الحسين أنه لا ينبغي التأمل في تقديم شهرة القدماء على شهرة المتأخرين لقرب عهدهم وكثرة إطلاعهم على أحوال الروات وأبصر بحالاتهم.

رابعًا: تعارض تقرير المعصوم

وقد يكون التعارض اللبي بين التقريرين ولا تجري فيه المرجحات الدلالية، وأما المرجحات الصدورية فما كان منه مشاهداً كما لو رأى المعصوم (عليه السلام  ) لم يردع من فعل هذا الفعل بمحضره وردع آخر قد فعله فلا تجري إذا المفروض إطلاعه على تقريره وتجري فيه المرجحات بحسب الجهة وبحسب المضمون، وأما ما كان منقولاً فتجري فيه المرجحات الأربعة.

خامساً: تعارض فعل المعصوم

وقد يكون التعارض اللبي بين فعلي المعصوم، وحكمه حكم التعارض بين تقريريه.

القسم الثالث

تعارض الدليل اللبي مع الدليل اللفظي

وقد يكون التعارض بين دليل لبي ولفظي، ومنه:

أولا: تعارض الكتاب والإجماع

وأما التعارض بين الكتاب والإجماع فالكتاب هو المقدم، لأن الإجماع إنما يكون حجة في مقابل الكتاب على طريقة القدماء فهو كاشف عن قول المعصوم فتكون معارضته حكمها حكم معارضة الكتاب للخبر المعتبر، وأما الإجماع  على طريقة الشيخ أو المتأخرين فلا يكون حجة لعدم اللطف وعدم حصول الحدس مع قيام الكتاب على الخلاف.

ثانياً: تعارض الإجماع المنقول مع الخبر الواحد

وما يكون من تعارض الإجماع المنقول بناءاً على حجيته مع الخبر الواحد المعتبر فعن الشهيد([15])( رحمه الله ) تقديم الإجماع المنقول مستدلاً بأنه خبر كاشف عن رضاء المعصوم (عليه السلام  ) مع علو سنده بخلاف الخبر الواحد فإنه ليس بعالي السند فيكون أوثق من الخبر. وفيه أنا لو سلمنا ذلك، وإلاَّ فقلة الوسائط قد توجد في بعض أخبار الآحاد كمسائل علي بن جعفر (عليه السلام  ) وغيرها, ثم ان الإجماع المنقول وإن كان عالي السند إلاَّ ان اعتباره مبني على الحدس والحدس مما يكثر فيه الخطأ بخلاف الخبر فإنه مبني على الحس وسماع الخبر من المعصوم (عليه السلام  ) أو من الوسائط التي تنتهي إلى السماع منه (عليه السلام  ) نعم الإجماع المنقول في زمان المعصوم (عليه السلام  ) أمكن كونه مبنياً على الأخبار عن الحس ولم نطلع على مثله حتى في كتب القدماء، ونقل عن صاحب الإشارات([16]) في وجه تقديم الخبر على نقل الإجماع هو قوة اعتبار الخبر وضعف اعتبار الإجماع المنقول لأن كل من قال بحجية الإجماع المنقول قال بحجية الخبر ولا عكس.

وفيه إنه مع اعتباره فلا تفاوت بينه وبين غيره من الحجج فالأقوى قابلية الرجوع إلى المرجحات المذكورة ومع التكافؤ فالتخيير أو التساقط مع الرجوع إلى الأصل على القولين فيه. 

ثالثاً: تعارض الشهرة مع الأخبار

ومن التعارض اللبي مع اللفظي تعارض الشهرة مع الخبر على القول باعتبارها، وقد يقال بتقديم الخبر عليها لأن الشهرة في الفتاوي وإن كانت حسية إلاّ ان معرفة قول المعصوم (عليه السلام  ) منها بطريق الحدس، ولا إشكال في تقديم الدليل الحسي على الحدسي لأنه أوثق لكن إذا قلنا بعدم حجية الخبر الذي لم يعمل به المشهور كانت الشهرة هي المقدمة لسقوط الخبر عن الحجية.

نعم لو اعتقد أحد المتعارضين بالشهرة من القدماء والآخر بالشهرة من المتأخرين فقد يقال بتقديم الأول نظراً لقرب العهد من زمان المعصوم (عليه السلام  ) وتمكنهم من الإطلاع فيوجب الظن بإصابتهم الواقع، وربما يقدم الثاني نظراً لكونهم أكثر فحصاً وأعرف بطرق الاستنباط.

والتحقيق ان المدار على الوثوق ومع القول بحجيتها فيعلم جريان المرجحات في تعارضها مما تقدم.

مبحث: تعارض الأصول الأربعة بينها

وأما يكون من تعارض الأصول الأربعة وهي البراءة والتخير والاشتغال والاستصحاب فقد ذكرنا أحكام تعارضها في محل البحث عنها من كتابنا مصادر الحكم الشرعي.

مبحث: التعارض بين الأمارات والأصول

وقد ذكر الأصوليون ان من التعارض التعارض بين الأمارات والأصول، وقد تقدم عدم وقوعه بينهما لأن الأصول تسقط عن الحجية إذا قامت الأمارات على خلافها كما تقدم تحقيقه وتنقيحه من ان موضوع الأصول هو عدم البيان والأمارات الشرعية المعتبرة نِعْمَ البيان فيرتفع موضوع الأصول العملية بقيام الأمارات وجداناً فتكون الأمارات وارده عليها.  

ودعوى ان الأمارات إنما جعلت في حق الشاك في الحكم فهي كالأصول العملية موضوعها الشك في الحكم فكل منهما يرفع موضوع الآخر فيكون بينهما تعارض فاسدة، لأن الشك المأخوذ في حجية الأمارة إنما اعتبره العقل لقبح حجيتها مع انكشاف الواقع وجداناً، وعليه فتكون حجة عند الشك في الواقع حتى مع قيام الأصل العملي عليه، بل وحتى مع قيام أمارة أخرى عليه ولذا يكون بينهما التعارض لأن الواقع غير منكشف بذلك وجداناً. اما الأصول العملية فالمأخوذ فيها هو الشك بالواقع بمعنى عدم قيام الحجة عليه سواء كانت قطعية أو ظنية، لأن الأصول العملية اما عقلية وهي موضوعها عدم البيان من الشارع على الواقع، أو شرعية وموضوعها عدم معرفة بالواقع لا بالقطع ولا بالحجة كما هو المفهوم من دليلها. فإذا عرفت ذلك عرفت ان موضوع الأصول العملية يزول وجداناً بقيام الأمارة المعتبرة لأنه بقيامها يعلم بالواقع علماً تعبدياً فلا يبقى موضوع للأصل العملي. وإما الموضوع للإمارة فهو باقي مع قيام الأصل العملي لأنه بقيام الأصل العملي لا ينكشف الواقع وجداناً.

رابعاً: التعارض بين أدلة الموضوعات

وهو ان يكون التعارض بين أدلة الموضوعات كتعارض البينتين فلا ريب في عدم  صحة جريان الجمع الدلالي فيها، فلا يصح حمل ظاهر إحدى البينتين المتعارضتين على الأخرى التي هي أظهر منها، إذ الجمع الدلالي فيهما إنما يكون فيما يصدر من متكلم واحد كأخبار المعصوم (عليه السلام  ) أو فتاوي الفقيه وما هو بمنزلة المتكلم الواحد كأخبار المعصومين ( عليه السلام   ). نعم ربما يجمع جمعاً دلالياً بين كلام علماء اللغة إذا كان كل منهم ينقل عن الواضع لها، وأما الجمع العملي وهو العمل بها مهما أمكن فهو غير صحيح لعدم اقتضاء أدلتها ذلك حتى لو قلنا بالموضوعية والسببية، لأن العمل بكل منها غير ممكن والعمل بأحدها المعين دون الأخرى ترجيح بلا مرجح وبأحدها لا بعينه لا تدل عليه أدلتها لأن الفرد المبهم لا يدل عليه العموم، وما ذكرناه من العمل بأحد المتعارضين لا بعينه في الأخبار من جهة ضميمة حكم العقل لأدلتها والعمل بالمتعارضين على سبيل التبعيض ليس عملاً بها في الحقيقة حتى يشمله أدلة وجوب العمل بالدليل، ولذا جعل الفقهاء الحكم بتنصيف الدار فيما لو أقام المتداعيان البينة على أنها لهما وكانت في يدهما أو خارجة عن يدهما، فهو من  باب المصالحة الجبرية أو من باب قاعدة الميسور لا يترك بالمعسور، وإلاّ فهو عمل بالبينتين المتعارضتين على سبيل التبعيض، ولعله يجيء منا ما ينفع    في هذا الموضوع تحقيقاً وتنقيحاً، وأن المرجع هو التساقط أو التخير أو التوقف أو الاحتياط أو القرعة وإنما ذكرناه للإشارة إليه ليكون الباحث على بصيرة منه.

خامساً: تعارض الأصل والظاهر

هو تعارض الأصل والظاهر في الموضوعات الصرفة. والمراد بالظاهر ما يدل عليه العرف أو تقتضيه العادة أو القرائن الخارجية أو الأغلبية، وبعبارة أخرى ما قام ظن غير معتبر شرعاً عليه، كما في الطفل الرضيع فالظاهر نجاسة مخرج بوله أو غائطه عند عدم علمه بنجاسته، والأصل يقتضي الطهارة وكالماء والطين الموجودان في الطريق، وكماء الغسالة، وكالمجنون في سؤره. فالتحقيق ان الأصل يقدم على الظاهر كما نسب ذلك لظاهر الأصحاب في المحكي عن النراقي([17]) لحجية الأصل ولم يقم دليل على تقديم  الظاهر خلافاً للمحكي عن المحقق القمي([18]) من تقديم الظاهر على الأصل، ولو فرض قيام الدليل على اعتبار الظاهر كالبينة مع أصالة عدم الملكية، وكسوق المسلمين مع أصالة عدم التذكية، وكاليد مع أصالة عدم الملكية، وكقاعدة الفراغ مع استصحاب عدم الإتيان بالمشكوك بعد الفراغ أو كان يبلغ حد الاطمئنان، أو كان الظاهر مما يعول عليه العقلاء كقول أهل الخبرة، وكما لو ادعت المرأة الدخول بها في الخلوة، وأنكره الزوج  فيقدم قول المرأة كما عليه جماعة، كان الظاهر مقدم على الأصل لأنه نِعمَ البيان وتفصيل ذلك يطلب من مواطنه.

سادساً: التعارض في أقوال أهل   الخبرة

هو التعارض بين أقوال أهل الخبرة كما في تعارض نقل أهل اللغة لمعنى اللفظ المستعمل في الخطاب الشرعي، كما لو قال صاحب الصحاح([19]) مثلاً ان الصعيد موضوع لوجه الأرض، وقال صاحب القاموس([20]) أنه موضوع للتراب الخالص وغَلّطَ صاحب الصحاح، أو في نقل أهل علم الرجال في توثيق الراوي وتضعيفه، كما لو قال العلامة([21]) ان فلاناً عدل ثقة وقال غيره أنه ليس بعدل ولا ثقة، وكالتعارض في سائر أقوال أهل الخبرة، فالحق هو  تساقطها لأن حجية قولهم بل حجية أقوال سائر أهل الخبرة إنما باعتبار إفادتها الظن الشخصي الفعلي كما هو المشهور والمدعى عليه الاتفاق وللسيرة والمتيقن منها هو حجيته ما أفاد الظن الفعلي، ولا ريب أنه بعد التعارض وعدم إفادتها الظن لا دليل على حجيتهما لانتفاء ما هو مناط الحجية فيهما فيتساقطان واللازم هو الرجوع إلى الأصول اللفظية ان كانت موجودة، كما إذا قال أحدهما ان معنى الصعيد مطلق وجه الأرض، وقال الآخر بأنه معناه ذلك لكن نقل إلى التراب الخالص فيكون المرجع هو أصالة عدم النقل، ويكون المرجع في غير الألفاظ إلى الأصول الجارية في المتعارضين نفسها، كما إذا قال أهل الرجال فلان عادل وقال آخر إنه فاسق ولكنه كان عادل فإنه يستصحب عدالته، ويرجع إلى الأصول العملية في المسألة الفرعية في مورد التعارض سواء كانت موافقة لأحدهما أم مخالفة لهما معاً لكن بشرط ان لا يحصل من مجموعهما الظن بنفي الثالث فإنه حجة لأنه ظن من قول أهل الخبرة وظن من علماء اللغة أو علماء أهل الرجال نظير الحال في قوله تعالى: [حتى يطهرن]على اختلاف القرائتين بالتخفيف والتشديد فإنه لم يكن أصل لفظي يعين أحدهما فيرجع إلى استصحاب حرمة المقاربة والصلاة والصوم حتى تغتسل. نعم لو حصل الظن الشخصي الفعلي بقول أحدهما كما لو كان أعدل أو أكثر عدد أو أكثر شواهداً أو تتبعاً أخذ به. هذا ولا يخفى عليك ان مجرد الاختلاف بين أهل اللغة في معنى اللفظ من دون تغليط أحدهما للآخر سواء كان بنحو التباين كما لو قال أحدهما ان لفظ القرء موضوع للطهر وقال الآخر موضوع للحيض أو بنحو العموم والخصوص من وجه كما لو قال أحدهما ان الغناء موضوع للصوت المطرب والآخر موضوع للصوت المرجع أو بنحو العموم من مطلق كما لو قال أحدهما ان الدابة موضوع للحيوان  الذي يدب على الأرض وقال الآخر أنه موضوع للحيوان ذي القوائم الأربعة ولم يصرح أحدهما بغلطية الآخر فيرجع للقواعد اللفظية في المقام  كأولوية الاشتراك المعنوي من الاشتراك اللفظي، وأصالة عدم النقل وأصالة عدم التأخر ونحوها مما هو مذكور في محله ففي صور التباين والعموم من وجه وعدم وجود قدر مشترك بينهما يصلح لهما يرجع للاشتراك اللفظي، وفي صورة العموم والخصوص المطلق يحمل على الاشتراك المعنوي. اللهم  إلاّ ان يكون ظاهر كل منهما أنه موضوع بوضع على حده فيحمل على الاشتراك اللفظي بين العام والخاص.

وكيف كان فلابد من تتبع الشواهد ومعرفة تطلع القائل في اللغة وخبرته فيها وما يستفاد من كلامه في تفسيرها.

خلاصة

في أقسام التعارض

هو أنه لا فرق في كون الحكم بالتخيير بين المتعارضين بين الأخبار وغيرها من طرق الأحكام والقوانين سواء كانا من سنخ واحد كالإجماعين المنقولين والشهرتين، أو من سنخين مختلفين لما سيجيء ان شاء الله من ان التخيير حكم ثابت على مقتضى الأصل والقاعدة فإخراج شيء من الموارد من تحت هذا الأصل يحتاج إلى دليل لا إدخاله فيها. وأما من لم يرى ذلك ويذهب إلى ان التخيير ثابت للأخبار فقط بواسطة الأخبار الخاصة وهو على خلاف القاعدة فلا يتعدى في الحكم بالتخيير إلى غير الأخبار إلاّ بواسطة دليل خارجي من إجماع أو تنقيح مناط أو نحوهما حصولها في غاية الإشكال لعدم عموم علة فيها للتخيير فلا يتعدى إلى غيرها بسببها.

 

 

الفصل الثالث

التعارض بين أكثر من دليلين

(إنقلاب النسبة)

لو وقع التعارض بين أكثر من دليلين، فالكلام فيه من حيث العلاج بالمرجحات هو الكلام في التعارض بين الدليلين من غير فرق، إلاّ أنه قد وقع الكلام في تعيين الظاهر والأظهر إذ يختلف حال التعارض بين إثنين منها بملاحظة أحدهما مع الثالث فتنقلب النسبة، مثلا قد يكون النسبة بين الاثنين عموم وخصوص مطلق وتنقلب بعد ملاحظته مع أحد الخاصين إلى عموم من وجه أو بالعكس أو إلى التباين، فلذلك يختص هذا المبحث أعني مبحث تعارض أكثر من دليلين بمزيد البحث والتنقيح.

أولاً
التعارض بين المتباينات

فنقول ان التعارض اما ان يكون بين متباينات كما لو ورد يجب الغسل ليوم الجمعة، ولا تغتسل له، ويستحب الغسل له، ففي هذه الصورة يرجح إلى الأخذ بالأظهر منها لو كان ومع عدمه إلى المرجحات فيؤخذ بذي المزية ومع عدمه يتخير بينهما، ومثل ذلك ما إذا كان التعارض بين ما كان بينها عموم من وجه، كما لو قال أكرم العلماء ولا تكرم الشعراء ولا تكرم الفساق فإنها في مورد الاجتماع تتعارض وحكمها حكم تعارض المتباينات عند من لم يفرق بينهما.

وأما ان يكون بينها عموم وخصوص كما إذا ورد عام وورد خاصان له ولم يكن بينهما عموم وخصوص من وجه كما لو قال أكرم العلماء ولا تكرم الفلاسفة ولا تكرم النحويين، فإنه يخصص العام بهما فإن نسبة الخصوصات إلى العام أشبه شيء بنسبة السهام إلى أصل المال الموروث فإن النصف والسدس والربع إنما يلحظ كل منهما منسوباً إلى أصل المال فنصف الأربعة اثنان وربعها واحد وسدسها كذا ولو لوحظت النسبة بعد إخراج كل سهم وقع الاختلاف والاجحاف، فالنسبة فيما نحن فيه إنما هي بملاحظة الظهورات في نفسها بما هي حجة لا ينثلم به ظهوره وإن انثلم به حجيته ولذا يكون بعد التخصيص حجة في الباقي.

وقد ذهب بعضهم إلى تخصيصه بأحدهما ثم يلحظ النسبة بين الباقي منه والخاص الآخر فتنقلب النسبة بين العام والخاص إلى العموم من وجه إذ يجتمعان في العالم النحوي ويفترق العام وهو العلماء في العالم الغير النحوي ويفترق الخاص عنه في النحوي الفيلسوف كما ذهب إلى ذلك بعضهم فيما إذا كان أحد المخصصات الإجماع مدعياً أنه كالمخصص المتصل في أنه يوجب انعقاد ظهور العام في الباقي لا في العموم. نعم لو كان المخصص متصلاً وهو المخصص الذي لا يستقل بنفسه بل يحتاج إلى انضمامه إلى الغير وحصروه في الخمسة المعروفة وهو الشرط والغاية وبدل البعض والصفة والاستثناء على القول بأن لها مفهوم، وزاد بعضهم التخصيص بالحال وبالتمييز إلاّ أنهما راجعان إلى التخصيص بالصفة فإن العام مع أحد هذه المخصصات يكون له انعقاد ظهور في الباقي لأن المخصص يكون جزء من الكلام فحينئذ تلاحظ النسبة بين الباقي وبين المخصص الآخر فتنقلب النسبة.

والحاصل إنه لا إشكال في المخصصات المتصلة لأنها توجب انعقاد ظهور في الباقي مثل القرينة المتصلة فيجب علاج التعارض مع المتصل أولاً ثم ملاحظة النسبة بين الباقي و المنفصل الآخر فإذا قال المولى أكرم العلماء إلاّ الفساق ثم قال لا تكرم النحوين فيخصص عموم العلماء أولاً بغير الفساق وهم العدول ثم تلاحظ النسبة بين العلماء غير الفساق وبين النحويين وهي عموم من وجه فيتعارضان في مادة الاجتماع وهو العالم النحوي غير الفاسق فيرجع في كيفية العلاج إلى المرجحات الدلالية ان كانت موجودة ومع فقدها للمرجحات المعتبرة ومع فقدها فيتخير كما هو في تعارض الأعميّن من وجه.

واما الكلام في المخصصات المنفصلة وهي ما تستقل بنفسها من غير حاجة إلى الانضمام لشيء آخر من غير فرق بين كونها لفظية كالمثال المتقدم أو لبية كالإجماع والعقل والعرف والسنة والفعل والتقرير في أنه يعالج التعارض بحسب الترتيب بأن يلاحظ العام مع أحدهما كالأسبق منها وجوداً ثم يلاحظ النسبة بين الباقي من العام والمخصص الآخر أو أنه يجب العلاج دفعةً واحدة والأصح هو الثاني لأن الخاصيين نسبتهما إلى العام نسبة واحدة لا أقربية لأحدهما على الآخر إذ لا يوجب المخصص المنفصل انعقاد ظهور للعام في الباقي وإنما تزيل حجية العام عن مورده ويبقى حجية العام في الباقي، مضافاً إلى ان ملاحظة العام مع أحدهما دون الآخر ترجيح بلا مرجح، ومما ذكرنا يظهر لك فيما إذا استند التخصيص إلى حال أو قرينة توجب ظهور العام في الباقي فيجيء ما ذكرناه هنا فيها.

وأما ان يكون الخاصان عند الإخراج من العام مستوعبين لسائر أفراد العام بحيث يبقى العام بلا مورد أو  يلزم التخصيص بالأكثر المستهجن كما لو قال أكرم العلماء ثم قال لا تكرم فساقهم وقال لا تكرم عدولهم، فحكي عن بعضهم ان العام يعامل معهما معاملة المتعارضين المتباينين لأن مجموع الخاصين مباين للعام، وردّه بعض أكابر العصر بأنه لا دليل على ملاحظة الخاصين كدليل واحد بل الظاهر وجوب الأخذ بالعام.

ثم إذا ترجح أحد الخاصين على الآخر فيخص به العام ويطرح الآخر لأن المفروض عدم إمكان ورود التخصيص معاً عليه ولو تساوى الخاصين تخير في التخصيص فإنه لو عومل العام مع الخاصين معاملة المتباينين ورجح عليهما فلابد من طرح الخاصين معا كما هو قضية المتباين وهو خلاف قاعدة الجمع مع أنهما حاكمان عليه ومفسران له، هذا إذا كان الخاصان التخصيص بأي منهما غير مستهجن وإنما يستهجن التخصيص بهما معاً اما لو كان التخصيص بأحدهما مستهجن في حد ذاته بأن كان يخرج أكثر أفراد العام فإنه يعامل معه معاملة المتباينين فإن رجح العام خصص بالمخصص الآخر.

قال المرحوم الشيخ أحمد بن الحسين والتعارض في المقام حقيقة بين الخاصين بالعرض أي بواسطة ملاحظة العام مع المخصصين وملاحظة عدم جواز التخصيص المستوعب فالعلاج لابد ان يكون بين الخاصين ولما فرض التساوي بينهما ولا يصح طرحهما معا لأنه لا مانع من العمل بأحدهما إذ ليس المانع من العمل بهما إلاّ المعارضة وطرف المعارضة ليس إلاّ المجموع وطرح المجموع يحصل بطرح أحدهما فحينئذ نعلم بوجوب العمل بأحدهما فيقع التعارض بينهما بسبب هذا العلم فلابد من المصير إلى التخيير، ولو فرض من موافقة أحدهما للعام في الحكم كما لو قال أكرم العلماء ولا تكرم فساقهم وأكرم فساقهم فتكون موافقة العموم مرجحاً له على الآخر وهذا معنى مرجحية موافقة عمومات الكتاب والسنة([22]).

ثانيًا

التعارض بين عام وخاصين بينهما عموم مطلق

وأما ان يكون عام وخاصين بينهما عموم مطلق كما لو ورد أكرم العلماء ويحرم إكرام الكوفيين ويحرم إكرام النحوين من الكوفيين، وفي هذه الصورة يخصص العام وهو العلماء بأخص الأخصين وهو الكوفيين من العلماء لأنه القدر المتيقن وأما الخاص الثاني ان كان التخصيص به للعام ليس بمستهجن خصص به وأما لو كان مستهجن فلابد من الرجوع للمرجحات ومع عدمها للتخيير بينهما ولا وجه لدعوى انقلاب النسبة لأن الجميع بالنسبة إلى العام في الظهور على حد سواء، ولتوضيح الحال نحتاج إلى مقدمة وهي ان للكلام الصادر من الحكيم ظهورات ثلاثة في معناه:

1-  الظهور التصوري:

الظهور التصوري وهو الذي يحصل بسبب الوضع فإنه مع العلم بالوضع يفهم المعنى من اللفظ بمجرد سماع اللفظ حتى من النائم والمجنون.

2-  الظهور التصديقي الاستعمالي:

والظهور التصديقي الاستعمالي وهو ظهور حال المتكلم في أنه قاصد استعمال هذا اللفظ في معناه ليحضره في ذهن السامع وهو يتوقف على كون المتكلم حكيما ومع الشك فأصل الصحة يقتضيه والعقلاء بناءهم على ذلك ولذا لابد في ظهور هذا اللفظ في هذا المعنى من إحراز كون المتكلم عاقلاً قاصداً ذلك لأنه ناطق باللفظ فقط.

3-  الظهور التصديقي الجدي:

والظهور التصديقي الجدي وهو ظهور حال المتكلم في كونه قاصداً إفادة المعنى لا عن هزل أو تقية أو امتحاناً، يثبت بأصالة الجد في الحديث عند العقلاء والعرف.

ومنشأ هذين الظهورين هو بناء العقلاء وأهل العرف على ذلك والمخصص المتصل إنما يؤثر في الظهور التصوري والاستعمالي باعتبار الوضع النوعي فيكون المنعقد له هو الظهور في الباقي فيكون بمنزلة اللفظ الواحد الذي له ظهور في الباقي. وأما المخصص المنفصل فهو إنما يؤثر في الظهور الثالث لأنه يقتضي ان العموم ليس بمراد جدي وإلاّ فالظهوران الأوليان باقيان على حالهما فالعموم معه مراد وإنما لا يراد الحكم على جميع أفراده وإنما ينتفي الظهور الثالث وقد حقق في محله ان العموم قد يراد لضرب القاعدة الكلية أو لمصلحة هناك تقتضي التكليف بما هو ظاهر العام فعلاً وإن كان الخاص مراداً في الواقع فإن أغلب العمومات والمطلقات كذلك ولا ريب ان التعارض إنما هو في الدلالة باعتبار ان كل من المتعارضين يتصادمان في الدلالة على خلاف ما دل عليه الآخر، والمخصص المنفصل إنما يرفع حجية العام عن بعض أفراده ولا يؤثر في ظهوره فيبقى العام على ظهوره في العموم فيصطدم مع المخصص الآخر بخلاف المتصل فإنه ينعقد به للعام ظهور في الباقي فيكون بمنزلة اللفظ الواحد الدال على الباقي ولذا تنقلب النسبة بالمخصص المتصل دون المنفصل لأن المنفصل والعام كل منهما محفوظ ظهوره وإنما التخصيص يزيل حجيته. فظهر أنه لابد من ملاحظة النسبة بين كل واحد من المخصصات وبين العام نفسه ويخصص  العام بكل واحد منها في عرض واحد لا ترتب فيها ولو كان بعض المخصصات مقدماً صدوراً أو قطعياً ما لم يلزم منه محذور التخصيص المستهجن حيث لا يجوز عرفاً ولغة وإجماعاً فلو لزم ذلك فلابد من ملاحظة المرجحات بين المخصصات فإذا كانت المخصصات بعضها أرجح خصص العام ومع التساوي فالتخيير بينهما خصص به، فإن اختير أحب المخصصات خصص به العام. فالمخصصات إنما تطرح من جهة الاستهجان وهو يرتفع بطرح بعضها فيقع التعارض العرضي بينها لقيام حجة فعليه على خلافها وهو العام وحينئذ لابد من ملاحظة أحكام العلاج بين المخصصات فإن كان أحدهما أرجح خصص به العام ويطرح الآخر وإلاّ فيخصص بما اختير منها ويطرح باقي المخصصات.

ثالثًا

التعارض بين عموم وخصوص من وجه فيما إذا كان بين الخاصيين عموم وخصوص من وجه

وقد قيل ان التعارض إنما يلاحظ بين الأدلة بمقدار كشفها وحكايتها عن المراد النفس الآمري، ولا شبهة ان العام بعد التخصيص يتضيق دائرته وتكون كاشفيته وحكايته عن المراد النفس الآمري في خصوص الباقي تحته ويزول كشفه وحكايته عن تمام ما تحته وحينئذ فتكون المعارضة بين الخاص وبين العام بمقدار ما كشف عنه فتنقلب النسبة بين العام المخصص وبين الخاص الآخر إلى عموم وخصوص من وجه فيما إذا كان بين الخاصين عموم وخصوص من وجه فلو قال أكرم العالم ثم قال لا تكرم الكوفيين فيكون العام وهو العالم كاشفا ودالاً على غير الكوفيين فإذا قال   لا تكرم الفلاسفة يكون بين الفلاسفة وبين العلماء غير الكوفيين عموم من وجه لاجتماعهما في الفيلسوف العالم وافتراق (العالم غير الكوفي) عنه في العالم الكوفي وافتراق الفيلسوف عن العالم غير الكوفي في العالم الكوفي؟ وجوابه ان التخصيص بالمخصص المنفصل إنما يرفع حجية العام في عمومه بمقدار المخصص لا أنه يرفع ظهوره فالعام باق على كاشفيته وحكايته عن العموم التي حصلتا بعد انتهاء الكلام فيكون معارضاً للخاص بعمومه لا بالباقي منه والدليل على بقائه على ظهوره هو التمسك بظهوره العمومي في الباقي. ان قلت ان النسبة إنما تلاحظ بين الدليلين بحسب ما هما حجة فيه بمعنى أنه لابد ان يكون كل من الدليلين من حيث ذاته حجة في مدلوله فكل منهما لا يكون معارضا إلاّ بمقدار ما يكون حجة فيه إذ لا وجه لمعارضة الحجة لما هو ليس بحجة وحيث ان العام المخصص بالمتصل أو بالمنفصل إنما هو حجة في الباقي وليس بحجة في تمام مدلوله وهو العموم فكان العام بعد تخصيصه إنما يعارض الخاص الآخر بما هو دال على الباقي فتنقلب النسبة بينهما إذ المعارضة حينئذ تكون بين العام بمدلوله الباقي بعد تخصيصه لأنه هو الحجة فيه وبين الخاص ولا تكون بين العام بمدلوله العمومي وبين الخاص الآخر لأنه ليس بحجة فيه بعد تخصيصه بالخاص الأول والمعارض لا يكون معارضاً إلاّ بمقدار ما يكون حجة فيه حيث لا معنى لمعارضة الحجة بما هو ليس بحجة؟  قلنا هذا لو سلمناه إنما يكون فيما إذا كان الخاصان أحدهما أسبق من الآخر أو متصلاً بالعام وإلاّ فلا وجه لملاحظة العام مع أحدهما فيخصص به ثم ملاحظة النسبة بين العام بمدلوله الباقي بعد تخصيصه وبين الخاص الآخر وإلاّ لزم الترجيح بلا مرجح مع أنا لا نسلم ذلك في المخصص المنفصل لأن التعارض إنما يكون بين الظهورين اللذين يكونان حجة في نفسهما مع قطع النظر عن المعارضة وإلاّ لم تقع المعارضة في صورة ما إذا كان أحدهما أرجح لأن المرجوح ليس بحجة وفيما نحن فيه كل من العام والخاص حجة في نفسه وقصر الحجية على الباقي إنما كان بعد المعارضة وبعبارة أخرى ان المعارضة إنما تكون باعتبار كشف كل منهما عن إرادة المتكلم مخالفة لإرادة من المعارض ولا ريب ان العام عند تمام الكلام يكون كاشفاً عن معنى العموم فتكون دلالته على العموم تامة وليس هناك ما يزيلها فإذا جاء المخصص المنفصل لم يزل دلالة العام على عمومه ولم تنقلب دلالته ولم يزل ظهوره فيما كان ظاهراً فيه أولاً ولذا نتمسك  به في الباقي وإنما يزيل حجيته في مورد المخصص عند العرف، ولو كان مزيلاً لدلالته التي هي الحجة لما صح ان يتمسك به أصلاً لاحتمال وجود مخصص له لم نظفر به أصلاً، وأصالة عدم المخصص لا توجب انعقاد ظهوره في أفراده الباقية لجواز إرادة الأقل منها. نعم بقرينة الحكمة يستفاد بأصالة عدم المخصص وقرينة الحكمة إرادة الباقي لا أنه ينعقد له ظهور في الباقي حتى يصلح لأن يخصص به.

والحاصل ان الحجية المعتبرة في المتعارضين هي الحجية الشأنية وهي الحجية التي لولا المعارض بمعنى انطباق موضوع الحجية عليها وهو أمر قهري وإلاّ لكان المتعارضان الذين أحدهما أرجح من الآخر يكونان من قبيل معارضة الحجة باللاحجة والعام بعد تخصيصه بالمنفصل يكون منطبق عليه موضوع الحجية بالنسبة لتمام أفراده فالحجة الشأنية لا تزول عنه بالنسبة لتمام أفراده وإنما زالت حجيته الفعلية فشرط المعارضة موجود بالنسبة للمخصص الآخر. وبعبارة أخرى ان العام فيما إذا كان مخصصاً بالمنفصل مستعملاً في عمومه وظاهراً فيه ولا يصير التخصيص سبباً لرفع ظهوره في العموم ولا هو يصير مخصصاً لعام آخر لأن أثر المخصص المنفصل هو رفع الحجية الفعلية فيما دل عليه المخصص لا رفع الظهور في العموم ولا رفع الحجية الشأنية التي هي شرط للتعارض، بل قد قيل ان المتكلم بالعام إذا لم يتصل به مخصص ينعقد له ظهور في أنه يريد عمومه بإرادة جدية ليكون قاعدة كلية للمكلف يعمل بعمومها ولا يتغير ظهور العام في العموم بالاطلاع على المخصص المنفصل بل ظهوره في العموم يكون باقياً على حاله إلى الأبد فيكون عمومه محفوظ وتكون نسبته مع الخاص المنفصل غير منقلبة.

 

 

الفصل الرابع

أحكام التعارض

الحكم الأول
في قاعدة ان الجمع بين المتعارضين أولى من الطرح

الحكم الأول للتعارض ما شاع في كلام جماعة من الأواخر ان الجمع بين  المتعارضين أولى من الطرح، وعن ابن أبي جمهور الاحسائي([23]) في عوالي اللئالي بأنها قاعدة إجماعية، وعن الشهيد في تمهيد القواعد([24])، وعن الفاضل القمي في القوانين في مبحث جواز التخصيص للعام بمفهوم المخالفة نفي الخلاف عنها، وعن العلامة  الحلي القول بها في التهذيب، وذكر السيد عبد الله شبر([25]) ان صاحب الذخيرة الخراساني وبعض المتأخرين ذهبوا إلى ان الحمل على الاستحباب والكراهية عند تعارض الأدلة أولى من الحمل على التقية.

قال ( رحمه الله ): (حتى أنهم لم يحملوا المعارض على التقية إلاّ عند تعذر الحمل على الاستحباب والكراهية، بل يرجحون ذلك على سائر المرجحات معللين ذلك بأن الجمع مهما أمكن أولى من الطرح والعمل بالمرجحات المنصوصة يستلزم الطرح بخلاف الحمل على الاستحباب أو الكراهية)، والذي ببالي ان والدي([26])( رحمه الله ) ذكر لي ما مضمونه ان أول من سلك الجمع بين الأخبار المتعارضة من أصحابنا هو الشيخ الطوسي( رحمه الله ) لعذر اعتذر به في أول التهذيب من ان بعض الشيعة وهو هارون الدين([27]) دخل في الدين من غير بصيرة وارتد عن المذهب بسبب حصول التناقض في أخبار الأئمة ( عليه السلام   )، أراد الشيخ الطوسي ( رحمه الله ) بذلك مجرد رفع التناقض بين الأخبار بإبداء الاحتمالات غير المنافية لا أنه جعل حاصل الجمع مفتى به ويشهد لما ذكره والدي ( رحمه الله ) ما قيل ان فتوى الشيخ الطوسي ( رحمه الله ) لم تظهر من كتابيه التهذيب والاستبصار وتوضيح الحال ان الشيخ الطوسي ( رحمه الله ) ليس بناءه على جعل حاصل الجمع مفتى به بل بناءه كان على الترجيح أولاً بالمرجحات المعتبرة ثم يأتي بالمعارض ليوجهه على نحو يرجع إلى ما جعله حجة، وهذه الطريقة كانت كذلك إلى ما بعد الشيخ  الطوسي ( رحمه الله ) إلى زمن صاحب المدارك([28])( رحمه الله ) وأمثاله حتى صار الجمع مقدماً على الترجيح غالباً كما صرح بذلك صاحب الفوائد الحائرية الاغا البهبهاني ( رحمه الله ).

ثم ان المراد بالجمع هو التصرف في دلالة الدليل بعد الأخذ بالسند كي يرتفع التعارض والتنافي بينهما ويسمى بالجمع الدلالي وهو على أقسام ثلاثة:

الأول: التصرف في دلالة أحد الدليلين لغة بحيث يجتمعان ولا يحتاج إلى شاهد هو جمع أصلاً، وهذا كالعام والخاص المطلقين وكالظاهر والنص والأظهر فيجمع بينهما بالتصرف في العام بحمله على الخاص والتصرف بالظاهر بحمله على النص أو الأظهر من دون شاهد.

الثاني: التصرف في دلالة كليهما كذلك مع الاحتياج إلى شاهدين يصرف أحدهما عن ظاهره ويصرف الآخر عن ظاهره كما في المتباينين عن أبي عبدالله الصادق (عليه السلام  ) (ثمن العذرة من السحت)([29]) وقوله (لا بأس ببيع العذرة)([30]) فإنهما لابد فيها من قرينتين تدل أحدهما مثلاً على حمل الخبر الأول على عذرة غير المأكول لحمه، وتدل الأخرى على حمل الخبر الثاني على عذرة مأكول اللحم.

الثالث: التصرف في دلالة أحد الدليلين لا بعينه مع الاحتياج إلى شاهد واحد كالعام والخاص من وجه.

المراد بالطرح: المراد بالطرح هو ترك الدليل وإسقاطه وهو في الدليلين المتعارضين على أقسام أربعة:

أولهما: طرح أحدهما من ناحية الصدور معيناً كما لو كان مع أحدهما مرجح يوجب ذلك.

ثانيها: كذلك مخيراً.

ثالثها: الطرح من ناحية جهة الصدور معيناً بحمل الدليل على صدوره لغير بيان الواقع اما لمصلحة أو للتقية أونحوهما.

رابعها: كذلك مخيراً، فحصل الفرق بين الجمع والطرح ان الجمع هو التصرف في الدلالة والظهور لا في الصدور ولا في جهته والطرح هو التصرف في الصدور أو في جهة، والمراد بالأولوية التعيين نظير الأولوية في قوله تعالى: [ وًأُوَلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى ببَعْضٍ] ([31]). والوجه في ذلك ان الدليل ان كان معتبراً لم يجز طرحه وإن لم يكن معتبراً وجب طرحه مضافاً إلى دعوى الإجماع من القائلين بها وسيجيء ان شاء الله أدلتهم عليها.

والحاصل ان مرادهم بالقاعدة هو ان الجمع بين الدليلين بحسب الدلالة والأخذ بسندهما يتعين ويقدم على طرح أحدهما حتى مع وجود المرجح في الآخر، وعليه فيكون الجمع بين المتعارضين مع تعادلهما أولى من التخيير بينهما لأن في التخيير طرح لأحدهما والجمع بين المتعارضين مع وجود المرجح لأحدهما أولى من الأخذ بالراجح لأن بالأخذ به طرح للمرجوح ويسمى هذا بالجمع التبرعي وهو محل الكلام والنقض والإبرام، اما الجمع إذا كان عليه شاهد كما لو قام خبر ثالث معتبر على الجمع بين المتعارضين فهو لا ريب في صحته والفتوى على طبقه لأن ذلك الشاهد هو الدليل عليه، وأما الجمع من جهة ان العرف بعد ملاحظة ورودهما عن متكلم واحد أو من في حكمه كالمعصومين ( عليه السلام   ) يفهم منهما أمر واحد فهو لا إشكال في أنه هو المتعين ولا يجوز الطرح ويسمى بالجمع الواجب والجمع المقبول والدليل على صحته إجماع الفقهاء عليه وبناء أهل اللغة عليه. وبناء أهل اللغة حجة لقوله تعالى: [وَمَآ أَرْسَلْنا مِن رَّسُولٍ إلاّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ] ([32]). ان قلت ان الأخبار العلاجية تشمله؟

قلنا لا تصلح لشموله لأن المفروض فيها هو تحير السائل مع أنه لا تحير  في موارد الجمع العرفي المقبول.

والحاصل ان محل البحث هو الجمع بلا شاهد من الشرع ولا بناء العرف عليه فذهب قوم إلى القول بوجوبه مطلقاً، وذهب آخرون إلى  القول بعدم الجمع مطلقاً حتى لو كان في أحدهما مزية منصوص الترجيح بها ويجري في المتعارضين حكم التعادل وهو المحكي عن الباقلاني([33]) والجبائيان([34])، وذهب السيد الصدر([35]) شارح الوافية إلى نفي وجوب الجمع والحكم بالرجوع للتخير أو التوقف أو الاحتياط وحمل أخبار الترجيح على الاستحباب.

الأدلة على هذه القاعدة

والذي استدل به على هذه القاعدة أمور:

الأول: أنه لما لم يمكن العمل بالدليلين المتعارضين فلابد اما من طرحهما رأساً أو ترجيح أحدهما على الآخر أو العمل بما يقتضيه الجمع بينهما بأقرب الوجوه، ولا سبيل إلى الأول لأن طرحهما خلاف مقتضى حجيتهما ولا سبيل إلى الثاني لأنه ترجيح بلا مرجح فيتعين الثالث وهو المطلوب.

وفيه مالا يخفى فإن الجمع بينهما وبناء الفتوى عليه مخالف لمقتضاهما الذي هو ظاهرهما فلم يكن بالجمع قد عمل بهما ثم ان هذا الدليل يخص المتعادلين ولا يشمل صورة الترجيح بالمرجحات فهو أخص من المدعى.

الثاني: ان قوله ( صلى الله عليه وآله وسلم) ( مالا يدرك كله لا يترك كله)([36]) وقوله ( صلى الله عليه وآله وسلم): (لايترك الميسور بالمعسور)([37]) بتقريب ان (ما) عبارة عن  العمل فيشمل ما نحن فيه بأن يقال ان العمل بالدليلين المتعارضين لم يدرك كله فلا يترك جله، وأن الميسور منه لا يترك بتعذر المعسور منه فيعمل بمقتضى الجمع بينهما لأنه بترك العمل به ترك للعمل بالمتعارضين المطلوب للشارع ولأنه هو الميسور من العمل بهما المراد للشارع. ولا يخفى ما فيه فقد تقدم منا المناقشة المفصلة في دلالتهما على لزوم البعض وأنه من الميسور من العمل عند تعذر الكل منه والمعسور منه، مضافاً إلى أنا لو سلمنا ذلك فأنا نسلمه في المركبات الشرعية مثل الصلاة والعمومات الاستغراقية أعني المطلوب منها جميع الأفراد فعلاً أو تركاً، مضافاً إلى أنه في مورد التعارض نعلم بكذب أحدهما فكيف يصح العمل ببعضه والميسور منه مع ان التعارض بينهما موجود فيه، مضافاً إلى ان الجمع في مورد التعارض اما ان يكون بإخراج كل منهما عن مدلوله كما لو دل أحدهما على الوجوب والآخر على الحرمة فإنه يجمع بينهما في مورد التعارض بالحمل على الكراهة ومن المعلوم ان العمل بالكراهة ليس من العمل ببعض الوجوب وبعض الحرمة، وأما ان يكون بإخراج أحدهما عن ظاهره في مورد التعارض بلا مرجح ومن المعلوم ان العمل بما هو خارج عن ظاهره ليس من العمل ببعض ظاهره أو الميسور من ظاهره وإنما هو إسقاط لظاهره بلا وجه.

الثالث: ما ذكره صاحب أنوار الفقاهة الشيخ حسن([38])( رحمه الله ) نجل الشيخ الكبير كاشف الغطاء من ان التعارض نفسه إمارة على الجمع وقرينة على صرف اللفظ عن ظاهره، وأجاب ( رحمه الله )  عنه بأن التعارض لا يصلح للقرينية لاحتمال ان التعارض كان لوجوه غير الجمع هي أقرب من الجمع فإن من الوجوه التقية أو الخطأ في الفهم أو النسيان أو الكذب فعن المغيرة بن سعد وأبا الخطاب دسافي كتب أصحاب الصادقين الأعاظم الأجلاء أحاديث لم يحدثوا بها.

الرابع:  الإجماع عليها كما تقدم حكايته عن ابن أبي جمهور الاحسائي فإن المحكي عنه أنه قال في عوالي اللئالي ان العمل بالدليلين مهما أمكن خير من ترك أحدهما وتعطيله بإجماع العلماء فإذا لم تتمكن من ذلك ولم يظهر لك وجهه فارجع إلى العمل بهذا الحديث. انتهى وأراد بالحديث هو مقبولة عمر بن حنظلة في عوالي اللئالي وقد تقدم ما فيه. وأن أول من جمع هو الشيخ الطوسي وأنه قبله لم يكن طريقة القدماء هو الجمع وأن الشيخ قد جمع لمجرد رفع التناقض وإلاّ لم يكن يفتي بمقتضى الجمع.

الخامس: ان بالجمع بين المتعارضين تبقى الدلالة لكل منهما ولو بنحو التبعية والتضمنية بخلاف الطرح فإنه لو طرحا معا زالت الدلالة عن كليهما وإن طرح أحدهما زالت عنه الدلالة فلا تبقى دلالة للمطروح أصلاً لا بنحو المطابقة ولا بنحو التضمن ولا ريب ان بقاء الدلالة لكل منهما ولو  بنحو التبعية والتضمن أولى من إزالة الدلالة بأجمعها، وبعبارة أوضح ان التعارض بين الدلالتين الأصليتين وهما المطابقة فيتساقطان، وأما الدلالتين التبعيتين  فلا تعارض بينهما فيكونان باقيتان ومقتضاهما الجمع بينهما. وبتقرير آخر ان لكل من الدليلين دلالة أصلية وتبعية وحجيتهما تقتضي العمل بهما والتعارض مانع من ذ لك والضرورة تقدر بقدرها ومقتضى ذلك هو رفع اليد عن الدلالة الأصلية فقط دون التبعية لأنه برفع اليد عنها يرتفع التعارض بخلاف العكس. وفيه مالا يخفى فإن التبعية تابعة للأصلية فإذا ارتفعت الأصلية ارتفعت التبعية إلاّ إذا كان العرف اللغوي يفهم ذلك كالعام والخاص والمطلق والمقيد والحاكم والمحكوم ونحوها. على ان العمل بأحدهما بدلالته الأصلية والتبعية وطرح الآخر أولى لأنه عمل بما هو مقتضى الأصل في أحدهما بخلاف ما إذا عمل بالتبعية فيهما فإنه فيه إهمال لما هو مقتضى الأصل في كليهما.

السادس:  من الأدلة على قاعدة الجمع إنه لا ريب في المتعارضين إذا كانا مقطوعي الصدور كالآيتين من القرآن الكريم أو الخبرين المتواترين المتعارضين يجمع بينهما دلالة بأقرب طرق الجمع بارتكاب التأويل فيهما أو في أحدهما لاستحالة إرادة الحكيم لظاهرهما فيكون القطع بصدورهما قرينة على الجمع بينهما فكذلك ما نحن فيه من تعارض الأمارتين المعتبرتين فإنهما بمنزلة مقطوعي الصدور لأن دليل اعتبارهما ينزل الظن بالصدور فيهما منزلة القطع بالصدور فيكون اعتبارهما صدوراً منزلة القطع بالصدور. وجوابه أنا لا نسلم ذلك وإنما نحكم بإجمالهما ولو سلمنا ذلك لكن الفرق واضح فإن مقطوعي الصدور لا نحتمل عدم صدور أحدهما فنقطع بعدم إرادة ظاهرهما جميعاً فتسقط أصالة الظهور في كل منهما للعلم الإجمالي بإرادة خلافها في أحدهما أو كليهما فيجمع بينهما دلالة بأقرب طرق الجمع. اما السند والصدور فهو مقطوع به.

والحاصل ان القطع بالصدور يكون قرينة على التصرف في الظهور بخلاف الأمارتين فإنا نعلم إجمالاً اما بعدم صدور أحدهما أو بعدم إرادة ظاهر أحدهـــــــا فلا وجه للبناء على صدورهما والتصرف بظاهرهما إذ لعل أحدهما غير صادر. ان قلت ان الدليل اعتبار الأمارة ينزّل الظن بها منزلة القطع وقد كان من آثار القطع بصدور المتعارضين هو الجمع بينهما فكذلك ما هو بمنزلته. قلنا ان دليل اعتبار الأمارة ينزل المظنون منزلة مقطوع الصدور في ترتيب آثار الواقع عليه الشرعية لا في الآثار العقلية للقطع وما ذكر كان من الآثار للقطع كان من آثاره العقلية التكوينية مع ان ذلك من آثار القطع نفسه لا من آثار الواقع وأدلة اعتبار الأمارة تنزّل المظنون منزلة الواقع لا أنها تنزل الظن منزلة القطع حتى يرتب آثار القطع نفسه على الظن نفسه، على أنا نقلب الدليل ونقول ان أدلة اعتبار الظهور يجعل الظن بالإرادة بمنزلة القطع بها فكما يجب طرح السند فيما إذا تعارضا دليلان مفيدان للقطع بالمراد من ظاهرهما ولا يمكن الأخذ بالسند وطرح الدلالة كذلك يجب طرح السند فيما إذا تعارض الظني السند مع ما هو ظني الدلالة لعين ما ذكره الخصم.

السابع:  ان اعتبار الظهور لكل دليل متفرع على اعتبار الصدور فإذا فرض استجماع الخبرين لجميع شرائط الحجية وجب التعبد بصدورهما ويتفرع عليه وجوب التعبد بظاهرهما أيضاً لكن لما لم يمكن العمل بظاهرهما لمكان التعارض فيدور الأمر بين رفع اليد عما هو الأصل في الاعتبار أعني رفع اليد عن صدورهما أو رفع اليد عما هو المتفرع اعتباره على الصدور وهو اعتبار ظورهما ولا ريب ان رفع اليد عن الفرع أولى من رفع اليد عن الأصل فلا مناص من الجمع بينهما.

وفيه مالا يخفى فإنا لا نسلم الفرعية فإن كل كلام سواء كان مشكوك صدوره أو مقطوع بعدم صدوره فإن أصالة الظهور تجري فيه لإثبات دلالته ومقدارها سعة أو ضيقاً فإن من بعض الكلام حبراً على ورق يأخذ بأصالة الحقيقة وأصالة عدم القرينة وعدم التخصيص وأصالة العموم فيه، ولو سلمنا ذلك لكن ما الدليل على هذه الأولوية فإنه طالما يكون فساد الفرع من جهة فساد الأصل فيتعين التصرف في الأصل.

الثامن: ان أدلة اعتبار الصدور حاكمة على أدلة اعتبار الظهور بمعنى ان أدلة اعتبار الصدور ترفع أدلة اعتبار الظهور بخلاف العكس فإن أدلة اعتبار الظهور مقتصرة على البيان وتنطبق بوجوب الأخذ بمقتضاها ما لم تكن قرينة صارفة عنه. وأما أدلة اعتبار الصدور فمفادها كون الخبر الظني يبنى على صدوره ولا معنى للبناء على صدوره إلاّ الأخذ به ولا معنى للأخذ به إلاّ العمل بمؤداه والأخذ بظهوره وكونه رافعاً لما يمانعه وقرينة صارفة لما ينافيه فهي ترفع حجية الظهور في الخبر الآخر بخلاف أدلة الظهور فإنها لا ترفع حجية السند لأنها لا تدل إلاّ على اعتبار الظهور مقتصرة على أنه هو البيان ويجب الأخذ بمقتضاه ما لم يكن قرينة على خلافه. ودعوى ان المعتبر في الحاكم ان يكون له بيان ولسان تفسير للمحكوم وأصالة الصدور لم ينشأ منها في المقام عدا الإجمال والإبهام فكيف تكون حاكمه فاسدة، لأن دليل اعتبار الصدور إنما يدل على وجوب التعبد بالخبر على الوجه الذي أخبر به من غير نظر إلى جهة الدلالة من النصوصية أو الظهور والإجمال فبعد التعبد بصدور كل منهما يكون كل منهما مبيناً لعدم بقاء الظهور في صاحبه وهذا المقدار كاف في صدق الحكومة ضرورة ان كلاً منهما لو لم يصدر صاحبه كان له ظهور يجب أخذه بمقتضى أصالة الظهور وبعد فحص صدور صاحبه يصير أصالة صدور صاحبه قرينة على خلاف ظاهره ومبيناً لعدم إرادة العموم وهذا المقدار من البيان إنما نشأ من أصالة الصدور وهو كاف في تحقيق معنى الحكومة. وجوابه أنا لا نسلم الحكومة فإن أدلة السند لا تدل إلاّ على اعتبار صدوره اما تشخيص دلالته فهو تابع للأصول اللفظية. ان قلت ان الأخذ بالظهور فرع حجية السند لأن الأخذ به متأخر عنه إذ لا ريب ان الكلام إذا لم يثبت صدوره من الإمام (عليه السلام  ) لا يثبت وجوب الأخذ به. قلنا هذا إنما يثبت التقدم الطبعي لاعتبار السند على اعتبار الظهور اللفظي بعد كون كل منهما اعتباره في نفسه مضافاً إلى ان هذا التقدم الطبعي إنما كان بين التعبد بصدور شيء وظهور نفسه لا بين التعبد بصدور أحد الدليلين وظهور الآخر بل يمكن ان يقال ان الشك في الصدور كان مسبباً عن الشك في الظهور والأصل في السبب مقدم على الأصل في المسبب.

التاسع: ان الشك في اعتبار الظهور مسبب عن الشك في اعتبار السند لوضوح ان المعتبر هو ظاهر ما كان صدوره مفروغ عنه إذ الظهور التصديقي إنما يتحصل فيما إذا أحرز صدور الكلام من متكلم قاصداً للبيان، فإذا كان السند قد عبدنا به الشارع فيتعين صرف المتعارضين في معنى يرتفع به التنافي كذا قرره المرحوم الاراكي.

وأجاب عنه (بأن هذا إنما هو في صدور كل خبر بالنسبة إلى نفس ظهوره لا بالنسبة إلى الحديثين لعدم الارتباط بينهما بعلاقة السببية والمسببة، فلو كان حديث ظاهره خلاف الإجماع أو العقل يتصرف في ظاهره بحمله على مالا يخالف الدليل القطعي بعد الأخذ بدليل السند وهذا بخلاف ظاهري الحديثين فإن دليل التعبد بسند كل واحد منهما ليس مقتضياً لصرف الآخر وهما في مرتبة واحدة لا ترتب بينهما ولازم ذلك حصول الإجمال بعد التصرف في كليهما أو أحدهما ولا معنى للتعبد بالمجمل). وتحقيق الحال يعرف مما سبق منا.

العاشر:  ان أدلة اعتبار الظهور لما كانت مقيدة بعدم وجود المخالف له كان ظهور كل منهما مسقط لظهور الآخر بخلاف أدلة السند فإنها تامة الحجية لأن سند الآخر لا ينافيها وإنما ينافيها متن سند الآخر ومن المعلوم ان حجيتها مطلقة بالنسبة إليه غير مقيدة به، وإن شئت قلت ان أدلة اعتبار السند موقوفة على وجود المقتضي وعدم المانع والمقتضي موجود وهو أدلة حجية الخبر والمانع مفقود إذ ليس هنا ما يتوهم أنه مانع إلاّ أدلة اعتبار الخبر الآخر المنطبقة عليه أو أدلة اعتبــــار الظهور للخبر الآخــــر ولا ريب ان الأول لا ينافيها ولا يمنع منها إذ صدور كل منهما لا ينافي صدور الآخر والثاني أيضاً لا ينافيها لأن أدلة اعتبار السند غير مقيدة بعدم اعتبار الظهور وإنما أدلة اعتبار الظهور مقيدة بعدم القرينة، والخبر الذي قامت عليه الأدلة نعم القرينة بجعل الشارع فيكون وارداً عليها، فتلخص ان التعبد بصدور كل منهما موجب هدم اعتبار ظهور كل منهما لأنه به يكون الخبر قرينة جعلية من الشارع على خلافه.

ولا يخفى ما فيه فإن الشك في الدلالة أوجب الشك في الصدور فهو نظير ما إذا إقترن بالصدور ما يوجب الشك فيه، وإنما يكون قرينة جعلية من الشارع على خلافه إذا جدت فيه أصالة الظهور فإن أدلة اعتبار السند إنما تدل على وجوب التعبد بصدوره من غير نظر إلى جهة دلالته من النصوصية أو الظهور أو الإجمال فهو لا يصلح للقرينة إلاّ إذا تمت دلالته ولا ريب ان دلالته غير تامة لمعارضة أصالة الظهور فيه بأصالة الظهور في الآخر فيكون عنده علم إجمالي اما بفساد أصالة الصدور في أحدهما أو أصالة الصدور في الآخر أو أصالة الظهور في أحدهما أو أصالة الظهور في الآخر. نعم لو كان أحدهما متعين الظهور أو كان أظهر كانت أدلة اعتبار الصدور تثبت قرينته على إرادة خلاف الظاهر في الآخر فلا تجري أصالة الظهور في الآخر.

الأدلة على فساد هذه القاعدة

والذي يمكن ان يستدل به على فساد هذه القاعدة أمور:

الأول: ان الجمع بين الدليلين في مورد التعارض تصرّف في كلام الشارع وإخراج له عن معناه بلا دليل وهو غير جائز ومخالف لمعنى الدليلين فهو لم يدل عليه دليل ومخالف لمقتضى الأصل في موردهما وهو حجة لأنه مدلول للأدلة القطعية مع عدم شاهد عقلي أو شرعي أو عرفي على هذا الجمع فلو بني على الجمع كان ذلك مخالفة لتلك الأمور وهو غير جائز. نعم لو كان الجمع من أجل إبداء الاحتمال لرفع التعارض بين الأخبار كما فعله الشيخ الطوسي (P) ولا يجعل حاصل الجمع حجة شرعية ومفتى به كان حسناً.

الثاني: ان الجمع مخالف للأخبار التي كادت تكون متواترة على المنع من الجمع حيث دلت على الأخذ عند التعارض بالأرجح وعدم الالتفات للآخر ودلت على التوقف والاحتياط بل على حرمة العمل بالظن ونحو ذلك. ان قلت ان هذه الأخبار ناظرة لمقطوعي الدلالة. قلنا موضوعها مطلق شامل للخبرين المتعارضين سواء كانا مقطوعي الدلالة أو مظنونها مع ان المقطوعين من حيث الدلالة في الأخبار المتعارضة في غاية الندرة ولا يليق بالحكيم ان يبين حكم النادر ويترك الكثير الوافر. ان قلت ان مقتضى هذا الوجه عدم جواز الجمع مطلقاً حتى حمل العام على الخاص والمطلق على المقيد ونحوهما حتى ان الأخبار دلت على المنع من الجمع مطلقاً من غير فرق بين الجمع المقبول والجمع المردود. قلنا الأخبار غير ناظرة للأدلة التي يكون بينها الجمع المقبول الذي هو الشرعي أو العرفي أو العقلي لوجود القرينة على المراد الواقعي من  المتعارضين في صورة وجود الشاهد الشرعي أو العقلي لأن ذلك الشاهد نِعْمَ القرينة وكذا مع وجود الشاهد العرفي لما عرفت من اعتبار فهم العرف عند الشارع في فهم الألفاظ بحكم الآية الشريفة [ وَمَا أَرْسَلْنا مِن رسولٍ  إلا بِلِسَانِ قَوْمِهِ]([39]).

الثالث: ان الجمع يعود إلى الطرح لأن إخراج الدليل عن  ظاهره طرح له وإبطال له.

الرابع: ان الجمع مستلزم لمخالفة أصلين وهما ظاهري الدليلين والطرح مستلزم لمخالفة أصل واحد وهو أصالة الصدور. ولا يقال أنه أيضاً في الطرح مخالفة أصلين الصدور وأصالة الظهور فإن الدليل المطروح لم يعمل بظاهره. فإنه يقال أنه لا مخالفة لأصالة الظهور في الدليل المطروح وإنما لم نعمل بظهوره لسقوط صدوره إذ بعد سقوط أصالة صدوره لم يتبق فائدة لظهوره لأن وجوب العمل بالظهور إنما يكون بعد ثبوت صدوره فالظهور من توابع وجود السند فتكون أصالة الظهور منتفية بانتفاء موضوعها، ولا ريب في أنه إذا دار الأمر بين مخالفة واحدة وبين مخالفتين فالمخالفة الواحدة أولى. وفيه ان في الجمع مخالفة لأصل واحد وفي الطرح أيضاً مخالفة لأصل واحد, اما في الطرح فعلى التقرير الذي ذكره المستدل، وأما في الجمع  فلأنه بعد ملاحظة التعارض يحصل العلم الإجمالي بمتروكية أحد الظاهرين فينتفي أحدهما بواسطة العلم الإجمالي وهو ليس بطرح فلم يبقَ إلاّ ظاهر الآخر وبالجمع يطرح أصل ظهوره فيكون بالجمع طرح واحد وهو طرح ظاهر الآخر على أنه في صورة ما إذا كان الجمع بحمل أحدهما على الآخر فبواسطة العلم الإجمالي يعدم صدور أحدهما، فإن الجمع موجب لمخالفة ظاهر واحد لعدم العبرة بظهور ما لم يثبت صدوره، والطرح موجب لمخالفة أصالة صدور المطروح ولا ترجيح لأحدهما على الآخر.

الخامس: إنه لو التزم في المتعارضين بالجمع وعدم الاعتناء بالمرجحات بقيت أخبار الترجيح بلا مورد أو مورد نادر لقابلية كل لفظ للتأويل حتى لو ورد مثل خطاب (أكرم زيداً) وخطاب (لا تكرمه) فإنه يمكن الجمع بتقيد الأول باليوم الأول والثاني باليوم الثاني وفتح هذا الباب موجب لانتفاء مورد أخبار العلاج فضلاً عن استلزامه الهرج والمرج واختلال النظام في الأحكام، هذا مضافاً إلى أنه لم يقع في الجواب من أئمتنا ( عليه السلام   ) الحكم بوجوب الجمع، وكيف كان فدعوى ان مورد السؤال على تعذر التأويل فاسدة لأنها حمل على مورد لا يوجد وإن وجد فهو في غاية الندرة.

مبحث: موارد الجمع بين الدليلين

الأصح هو حمل القاعدة على الموارد التي يوفق فيها بين الدليلين عرفاً ويجمع بينهما لغة وقد عدَّوا من ذلك أمور:

الأول: منها ان يكون أحدهما أظهر من الآخر سواء كان نصاً أو أقوى ظهوراً فإن السيرة القطعية عند العرب بل عند غيرهم من الأمم على حمل الظاهر على الأظهر وإن أصحاب النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة ( عليه السلام   ) ومن كان في زمانهم لما تلي عليهم الكتاب المجيد فهموا منه ما يفهمونه من كلامهم في محاوراتهم، وما شموا منها شائبة التنافي بين عامه وخاصه وحاكمه ومحكومه ونحو ذلك بعد تروي المعنى. وقد قال الله تعالى في محكم كتابه العزيز: [وَمَا أَرْسَلْنا مِن رسولٍ  إلا بِلِسَانِ قَوْمِهِ] ([40]) ويرشد إلى ذلك ما حكي عن الوسائل بسنده إلى أبي جون مولى الرضا (عليه السلام  ) عن الرضا (عليه السلام  ) قال: (إن في أخبارنا محكما كمحكم القران ومتشابها كمتشابه القران فردوا متشابهها إلى محكمها ولا تتبعوا متشابهها دون محكمها فتضلوا)([41]). فإن معنى المحكم هو الذي دلالته واضحة ومعنى المتشابه هو ما يتطرق له الشبه والاحتمال، فالإمام(عليه السلام  ) أمر ان يرد مثل العام فإنه، من المتشابه لاحتمال التخصيص فهو غير محكم الدلالة بخلاف الخاص فإنه أتقن في الدلالة. وقد ورد عن الأئمة ( عليه السلام   ): (أنتم أفقه الناس إذا عرفتم معاني كلامنا)([42]). ان قلت ان أخبار التخيير بين المتعارضين تشملها والأخبار العلاجية تعمهما فيعاملان معاملة المتعارضين. قلنا لما بينا ان الخبرين المتعارضين تعارضاً بدوياً وإن  العرف يجمع بينهما عند التروي في معناهما يكون فهم الجمع بينهما كفهمهم للمعنى المدلول عليه بظواهر الألفاظ ونصوصها من غير فرق أصلاً، بل لا يشعرون بالمنافات بينهما عند التأمل في معناهما فيكون السؤال والجواب في أخبار التخيير وأخبار المرجحات مصبه هو مالا يعرفون المراد منه إذا ألقي إليهم والذي يتحيرون في تشخيص المقصود منه عندما يكون التبصر فيه منهم فتكون الأخبار مختصة بغير موارد التوفيق العرفي والجمع اللغوي، وعليه فيجب في مورد الجمع العرفي هو العمل بالقاعدة وهي (مهما أمكن الجمع فهو أولى من الطرح) ولا إشكال بعد هذا في وجوب الجمع المذكور فيما إذا تحققت الصغرى في مورد أعني أحرز الظاهر والأظهر. وإنما الإشكال فيما إذا أشتبه الحال وشك في تشخيص الظاهر والأظهر وتحقق الصغرى فالميزان هو الظهور النوعي لأحدهما على الآخر، وقد ذكروا الميزان لتمييزه في المسألة المعروفة بتعارض الأحوال المحرره في مباحث الألفاظ. وقد ذكر المرحوم الأصفهاني([43]مورداً على ذلك بلفظ (أن) وحاصله ان ظاهر جملة من الأخبار العلاجية ان موردها يعم النص والظاهر والظاهر والأظهر منها:-

1-    ما في الكافي عن أبي عبدالله قال: (سألته عن رجل اختلف عليه رجلال من أهل دينه في أمر كلاهما يرويه، أحدهما يأمره بأخذه، والآخر ينهاه عنه كيف يصنع؟ قال (عليه السلام  ): يرجئه حتى يلقى من يخبره، فهو في سعة حتى يلقاه)([44]) ولا ريب ان الأمر ظاهر في طلب الفعل ونص في الجواز، والنهي ظاهر في التحريم ونص في طلب الترك ومقتضى حمل الظاهر على النص الحكم بالكراهة والرخصة في الفعل مع ان الإمام (عليه السلام  ) حكم بالتخير.

2-   ومنها مكاتبة الحميري إلى الإمام الثاني عشر الحجة (عليه السلام  ) يسألني بعض الفقهاء عن  المصلي إذا قام من التشهد الأول إلى الركعة الثالثة، هل يجب عليه ان يكبر؟ فإن بعض أصحابنا قال: لا يجب عليه تكبيره ويجزيه ان يقول بحول الله وقوته أقوم وأقعد فكتب (عليه السلام  ): (في الجواب فيه حديثان اما أحدهما فإذا انتقل من حالة إلى أخرى فعليه التكبير، وأما الآخر فإنه روى أنه إذا رفع رأسه من السجدة الثانية وكبر ثم جلس ثم قام فليس عليه في القيام بعد القعود تكبير وكذلك التشهد الأول يجري هذا المجرى، وبأيهما أخذت من باب التسليم كان صوابا)([45]). فحكم الإمام (عليه السلام  ) بالتخيير مع ان الثاني أخص من الأول فلو كان الجمع العرفي معتبراً شرعاً لحكم بحمل الأول على الثاني لكونه أعم.

3-  ومنها مكاتبة عبدالله بن محمد إلى أبي الحسن الرضا علي بن موسى الرضا (عليه السلام  ): (إختلف أصحابنا في رواياتهم عن أبي عبدالله  (عليه السلام  ) في ركعتي الفجر في السفر فروى بعضهم صلّها في المحمل، وروى بعضهم لا تصلها إلاّ على الأرض فأعلمني كيف تصنع أنت لأقتدي بك في ذلك فوقع (عليه السلام  ): موسع عليك بأية عملت)([46]). فحكم الإمام (عليه السلام  ) بالتخير مع أنهما من النص والظاهر لظهور الرواية الثانية في حرمة الصلاة على غير وجه الأرض ونصوصية الأولى في الجواز فيحمل الظاهر على الأظهر ويحكم بالجواز مع الكراهة ولو بمعنى ترك الأفضل. فيعلم من جميع هذه الروايات ان العلاج بالترجيح أو التخيير لا يختص بالذي لا يكون الجمع العرفي بينهما بل يشمل حتى ما كان الجمع العرفي بينهما.

وقد أجاب المرحوم الأصفهاني ( رحمه الله ) عن ذلك بأن الرواية الأولى لا دلالة لها على كون المورد من قبيل النص والظاهر بل ظاهرها ان مورد أحد الخبرين حقيقة الأمر والآخر حقيقة النهي وهما متباينان لا ان موردهما صيغة إفعل وصيغة لا تفعل ليكونان من النص والظاهر. وأجاب المرحوم الأصفهاني ( رحمه الله ) عن الرواية الثانية نقلاً عن بعض الفقهاء من ان حكمه (عليه السلام  ) بالتخيير دون الحمل  لعلمه (عليه السلام  ) بإرادة العموم إرادة حقيقة جدية لا لفظاً واستعمالاً فقط ولا ريب ان العموم إذا كان مراداً كذلك لا موقع لحمله على التخصيص ويكون بين العام والخاص تعارض فيعمل قواعد العلاج بينهما بالترجيح أو بالتخيير. وقد أورد عليه بما لا يخفى عدم وروده. وأما عن الرواية الثالثة، فنقول لا نسلم أظهرية الرواية الثانية من الأولى وقد بحثنا بحمد الله في هذه الروايات عند التعرض للأخبار الدالة على التخيير بين المتعارضين فراجعها.

ثم انهم ذكروا في الترجيح بحسب الدلالة وجوهاً كثيرة قيل ببلوغها ثلاثين وجهاً ولكنها راجعة إلى تقديم الأظهر من الدليلين ولو بواسطة القرائن الخارجية ونحن نذكر منها ما كان الجمع العرفي واضح فيها أو ما ذهب الكثير إلى تحققه فيها:-

الأول والثاني: ما إذا حصل القطع أو الاطمئنان بما هو حاصل الجمع بين الدليلين المتعارضين بشاهد من العقل كما لو قال: (إعتق عبدك عني) مع قوله (لا عتق إلاّ في ملك) فإن العقل يجمع بينهما بحمل الأول على الاضمار، أي بعد جعلك لعبدك ملكي لحكم العقل بأن العتق لا يكون إلاّ في ملك، ومثل ما إذا ورد نص مطلق بجواز ضرب اليتيم وورد نص مطلق بعدم جوازه فإن العقل يجمع بينهما بحمل الأول على التأديب والثاني على الظلم لأن  العقل مستقل بجواز ضرب اليتيم للتأديب وعدم جوازه للظلم أو بشاهد من الإجماع أو بشاهد من صريح الكتاب أو بشاهد من الأخبار كالخبر المتواتر فإنه لا إشكال في صحة البناء عليه والفتوى بمقتضاه لأن الاطمئنان والقطع حجة.

الثالث: ما إذا كان الجمع بشاهد شرعي كما إذا ورد خبر معتبر ظني يدل على حاصل الجمع بين المتعارضين، كما عن الصدوق حيث روى عن عبدالسلام الهروي قال: (قلت للرضا (عليه السلام  ): يا ابن رسول الله قد روي عن آبائك ( عليه السلام   ) فيمن جامع في شهر رمضان أو أفطر فيه، ثلاث كفارات، وروي عنهم ( عليه السلام   ) أيضاً كفارة واحدة فبأيّ  الحديثين نأخذ؟   قال (عليه السلام  ): بهما جميعاً، متى جامع الرجل حراماً أو أفطر على حرام في شهر رمضان فعليه ثلاث كفارات عتق رقبة وصيام شهرين متتابعين، وإطعام ستين مسكيناً وقضاء ذلك اليوم وإن نكح حلالاً أو أفطر على حلال فعليه كفارة واحدة وان كان ناسياً فلا شيء عليه)([47]).

ومثل ما ورد في صلاة العاري أنه يصلي قائماً([48])، وفي آخر أنه يصلي جالساً([49]). وفي خبر ثالث شاهداً على الجمع ان الصلاة قائماً لمن آمن من الناظر، وجالساً لمن يأمن من الناظر([50]).

ومثله ما ورد في جواز التكلم والقراءة عند سماع صوت القاري للقرآن وهو معارض لقوله تعالى: [وَإِذَا قُرِئَ  القُرآنَ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلّكُمْ تُرْحَمُونَ]([51]).

ومثله ما ورد من وجوب صلاة الوتر وهو معارض لما دل على استحبابها لكن قام الدليل على الجمع بينهما وهو ما ورد من ان المقصود وجوبها على النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم). ومثله ما ورد من أنه ما أعاد الصلاة فقيه يحتال لها ويدبرها فإنه معارض لما دل على حكم الشكوك والنسيان لكن قام الدليل على الجمع بينهما بما ورد من ان عدم  الإعادة من الفقيه فيما لو شك بين الثلاثة والأربعة ولا يخفى ان هذا الجمع لا إشكال عندهم فيه.

إن قلت ان الخبر الثالث الدال على التفصيل يعارض الخبرين الأوليين لأن الأوليين بإطلاقهما يرفعان التفصيل والخبر الثالث يقتضي التفصيل فلا وجه لترجيحه عليهما والأخذ به والعمل والفتوى عليه. قلت لأنه مفسر لهما فهو حاكم عليهما.

الرابع: من موارد الجمع ان يكون الأمر كذلك لكن لم يستفد من الثالث ان المراد بالمتعارضين هو حاصل الجمع ونظير ذلك ما ورد ان الناسي للنجاسة يعيد الصلاة وورد ان الناسي للنجاسة لا يعيدها وورد رواية ثالثة ان الناسي لنجاسة يعيدها في الوقت ولا يعيدها في خارجه فإن الخبر الثالث لم يستفد منه أنه تفسير لهما، لكن القوم ذكروا بأنه يجمع بينهما بما دل عليه الخبر الثالث، والظاهر ان الوجه في ذلك أنه يكون مقيداً لكل منهما كما نقل الإجماع قولاً وعملاً على الجمع بين المتعارضين بمثل ذلك.

الخامس: الجمع بين الدال على الاستحباب والدال على الوجوب يحمل الدال على الوجوب على الدال على الاستحباب مثل ما ورد منهم ( عليه السلام   ): (الغسل في الجمعة سنة)([52]) وورد (إغتسل يوم   الجمعة)([53]) فإنه يجمعون بينهما بحمل الخبر الثاني على الأول لأن العرف يجمعون بينهما كذلك ويفهمون منهما ذلك ويكون ذلك من حمل الظاهر على الأظهر.

السادس: الجمع بحمل من لم يشتمل على علة الحكم على المشتمل عليها فإن العرف يقدمون المشتمل عليها. ولا يخفى ان ذلك من جهة أظهريته، ومثله ما لو كان أحدهما مؤكداً بأداة التأكيد (كأن) و (واو القسم) ونحوهما فيحمل الخالي عن التأكيد على المؤكد لقوة المؤكد في دلالته.

السابع: الجمع بين ما دل على وجوب شيء وبين ما دل على وجوب آخر في موضوعه على الوجوب التخييري مثل ما ورد من ان من أدرك الوقت في السفر ولم يصل حتى دخل بلده يتم الصلاة وورد أيضاً يقصر وقد جمع بينهما بالحمل على الوجوب التخييري بين الإتمام والقصر ولكنه لا دليل عليه.

الثامن: الجمع بين المجمل والمبين لكون العرف يرى أنه مفسر له.

التاسع: تقديم أحد العامين من وجه على الآخر لقلة المورد أو ندرة وجوده لو خصص به مثل أدلة الشك بعد الفراغ مع أدلة الاستصحاب فإنه لو قدمت أدلة الاستصحاب لم يبقَ لقاعدة الفراغ مورد إلاّ نادراً.

العاشر: تقديم دلالة المطابقة على دلالة التضمن والالتزام والثانية على الثالثة والثالثة على دلالة الاقتضاء وهي على دلالة التنبيه وهي على الإيحاء، وقد حقق الحق في ذلك في محله وأنه من جهة الأظهر به.

الحادي عشر: تقديم أحد المجازين على الآخر لأقربيته للمعنى الحقيقي عرفاً أو شهرة أو لكثرة استعماله أو لغلبة وجوده.

الثاني عشر: تقديم القول على الفعل والتقرير لكونه أصرح منهما واظهر.

الثالث عشر: الجمع بين الأمر بالشيء والنهي عنه بكراهة ذلك الشيء كما لو قال (أكرم الفلاسفة) و(لا تكرم الفلاسفة) يحمل إكرامهم على الكراهة كما هو المحكي عن صاحبي الرياض([54]) والمطالع([55]) والمستند([56]) بدعوى ان الأمر نص في الجواز لأنه اما ان يستعمل في الوجوب أو الاستحباب أو الإباحة وظاهر في الجواز مع المنع من الترك الذي هو الوجوب فعلى كل حال يدل على الجواز والنهي نص في رجحان الترك ويستعمل في الحرمة والكراهة وظاهر في جواز الترك مع المنع من الفعل الذي هو الحرمة فما هما نص فيه وهو جواز الفعل ورجحان الترك لا تمانع ولا تنافي بينهما فيه فيؤخذ به فيكون العمل مكروهاً وما فيه التمانع ما كان ظاهرين فيه وهما الوجوب والحرمة لا تؤخذ فيه لأن ما كان الأمر نص فيه يكون قرينة على رفع ظاهر النهي وما كان النهي نص فيه يكون قرينة على رفع ظاهر الأمر لأن النص مقدم على الظاهر. قلت في صورة ما كان النهي عقيب الأمر يكون الجمع العرفي بينهما بحملهما على الجواز كما قرر في محله وأما في غيرهما فإن ثبت ان العرف يجمع بينهما كذلك فهو وإلاّ فليس الأمر إلاّ نصاً في جواز الفعل وهو ليس موجوداً في النهي وإنما الموجود هو جواز الترك كما ان النهي ليس إلاّ أيضاً في مرجوحية الفعل وهي ليست موجودة في الأمر فإن الأمر بأي معنى فرض لا يدل على مرجوحية الفعل بل على رجحانه، ويرشد إلى ذلك ورود السؤال عن حكمه في الأخبار حيث قال الراوي: (يرد علينا حديثان واحد يأمرنا بالأخذ به والآخر ينهانا عنه، قال: لا تعمل بواحد منهما حتى تلقى صاحبك فتسأله، قلت: لا بد ان نعمل بواحد منهما، قال: خذ بما فيه خلاف العامة)([57]). والمشهور هو تقديم الخبر الدال على الحرمة كما هو ظاهر المحكي عن العضدي([58])لوجوه:-

الأول: ان الدال على الحرمة أقوى دلالة. وفيه أنا لا  نسلم ذلك.

 الثاني: ان دفع المفسدة المحتملة أولى من جلب المنفعة المحتملة. وفيه أنا لا نسلم ذلك ولو سلمناه فيه ان ترك  الواجب أيضاً فيه مفسدة.

الثالث: الاستقراء في موارد دوران الأمرين الوجوب والحرمة فإنه يقدم الحرمة المحتملة على الوجوب المحتمل ألاّ ترى ان الشارع حكم باستظهار المستحاضة وتركها العبادة يوماً أو أكثر مع احتمال وجوب العبادة عليها. وفيه ان لا نسلم صحة الاستقراء فإن الاستقراء لا يثبت بمورد أو موردين مع أنا نمنع من حجيته.

الرابع: قوله ( صلى الله عليه وآله وسلم) (ما اجتمع الحلال والحرام إلاّ غلب الحرام)([59]).

وفيه ان الظاهر من الخبر ان مورده هو الحرام والحلال مع إحراز وجودهما لا مع احتمال وجودهما.

الرابع عشر: ما إذا كان أحد العامين من وجه المتعارضين وارداً في مورد اجتماعهما، كما لو قال المولى (أكرم العلماء) في مقام وفي مقام آخر سُئلَ المولى سائل عن (إكرام العلماء الفساق) فقال له (لا تكرم الفساق) فإن بين لا تكرم الفساق وأكرم العلماء عموم من وجه يجتمعان في العلماء الفساق لكن لابد من الجمع بينهما بتخصيص أكرم العلماء بمورد الاجتماع بأن نخرج العلماء الفساق من أكرم العلماء صوناً لكلام الحكيم عن اللغوية إذ لا يصح إخراجهم من لا تكرم الفساق وإلاّ لزم عدم مطابقة الجواب للسؤال وخروج مورد السؤال عن الجواب.

الخامس عشر: إذا كان المتعارضان بينهما عموم من وجه وكانت دلالة أحدهما على العموم بنحو الوضع والآخر دلالته بنحو الإطلاق فإنه يجمع بينهما بتقيد المطلق بالعام بترجيح العام على المطلق وتقديم التقييد على التخصيص، وقد ذكر ذلك الأصوليون في مبحث تعارض الأحوال في مباحث الألفاظ كما لو قال المولى (أكرم العلماء) وقال (الفاسق لا تكرمه) فإنه يقيد عموم الفاسق بغير العالم لوجهين:

الوجه الأول: ان المطلق دلالته مقيدة بعدم وجود ما يصح للبيان فتكون دلالته تعليقية حيث كانت معلقة على عدم وجود ما يصح للبيان والعام دلالته تنجيزية لأنها بالوضع فهي غير مقيدة بعدم البيان، وعليه فلو كانت بينهما معارضة بدوية كان العام مقدماً على المطلق لأنه يصلح ان يكون بياناً للمطلق دون العكس إذ المطلق إنما يخصص العام لو تم إطلاقه وتمامية إطلاقه موقوف على عدم كون العام بياناً له وعدم كون العام بياناً له موقوف على تخصيصه للعام فتوقف تخصيصه للعام على نفسه وهو الدور، وأما العام فتقيده للمطلق موقف على كونه بياناً له وهو موقف على وضعه للعموم فلا دور.

وقد أورد على هذا الوجه :

أولاً: بأن هذا إنما يتم بناءاً على ان أدوات العموم تدل بالوضع على عموم مدخولها لا ان عموم مدخولها بواسطة مقدمات الحكمة وإلاّ كان الأمر فيها متساوياً لأنه يكون المقام من باب تعارض المطلقين. وفيه ان أدوات العموم تدل بالوضع كما هو المتبادر منها.

ثانياً: ما أورده عليه المرحوم الآخوند([60]) في كفايته بما حاصله ان عدم البيان الذي هو من مقدمات الحكمة المقتضية لعموم المطلق إنما هو عدم البيان في مقام التخاطب لا إلى الأبد لصحة التمسك بإطلاقه بمجرد انتهاء المتكلم من كلامه ولو كانت دلالته موقوفة على عدم البيان حتى بعد انتهاء الكلام لكان المطلق مجملاً لاحتمال وجود البيان ولم نعثر عليه أو تأخر صدوره فلم تكن المقدمة للتمسك بإطلاقه محرزة وعنده فلا يصح التمسك بإطلاقه وهو خلاف ما بنى عليه اللغويون في كل لغة فإنهم بمجرد صدور المطلق من دون قرينة يتمسكون بإطلاقه، ودعوى ان عدم البيان يثبت بأصالة عدم القرينة مدفوعة، بأن عدم القرينة إنما تجري في لفظ له ظهور في معناه ويشك في قيام القرينة على خلافه لا فيما هو مجمل، وعليه فلا يكون العام صالحاً لرفع إطلاقه لثبوت إطلاقه بمجرد صدوره في  مقام التخاطب بلا بيان على تقييده لأن كل منهما دال على العموم تنجيزياً وفعلياً، وقد أجاب عن ذلك العلامة المرحوم الشيخ عبدالحسين الكاظمي([61]) بتنقيح وتوضيح منا من ان تقديم العام على المطلق ليس موقوفاً على رفع إطلاق المطلق من مبدأ صدوره، وإنما العمل بإطلاق المطلق حدوثاً واستمراراً موقوف على عدم الاطلاع  على البيان حدوثاً واستمراراً فعدم الاطلاع على البيان كما هو شرط حدوثاً فهو شرط بقاءاً واستمراراً فإذا كان الاطلاع على العام صالحاً للبيانية حدوثاً فهو صالح للبيانية استمراراً، ودعوى ان الاطلاع  غير موجب للظهور فاسدة، فإن القرائن مع عدم الاطلاع عليها ينعقد للفظ معناه الحقيقي وبعد الاطلاع عليها ينعقد له معنى آخر ألاّ ترى ان قولنا (عندي أسد) مع عدم إطلاع المخاطب على قرينة صارفة لمعناه الحقيقي يتبادر منه معناه الحقيقي ومع الاطلاع عليه ينعقد له معنى آخر.

والحاصل أنه ليست الدعوى إبطال إطلاق المطلق رأساً من الأول ببيان توقف الإطلاق على عدم البيان أبداً، كيف ومحل الكلام دوران الأمر بين التقييد والتخصيص الموقوف على سبق تحقق الإطلاق فإنه إذا لم يكن هناك إطلاق لم يكن تقييد قطعاً فما نحن فيه يشبه الحكم الظاهري فإنه يكون  ثابتاً ما لم نطلع على الواقع فإذا إطلعنا عليه في الواقعة زال الحكم الظاهري عنها فكذا ما نحن فيه تزول الدلالة على العموم من المطلق بالاطلاع على ما يصلح لتقييده.

الوجه الثاني: لتقديم العام على المطلق هو ان التقييد أغلب من التخصص والشيء يلحق بالأعم الأغلب. واعترض عليه في الكفاية([62]) أيضاً بأن أغلبية التقييد لا تنفع مع كثرة التخصيص حتى قيل (ما من عام إلاّ وقد خص) والأغلبية إنما توجب ترجيح التقييد عليه لو كان التخصيص نادراً فإن ندرة الشيء هي الموجبة لترجيح الطرف الآخر عليه فلابد في مقام المعارضة من ملاحظة خصوصياتها الموجبة لأظهرية أحدهما على الآخر وربما يكون ظهور المطلق في العموم أقوى من ظهور العام في  العموم فيما إذ كان معتضداً بأمور خارجية. ولا يخفى ما فيه  فإن كثرة التخصيص لا تنافي أغلبية التقييد الموجبة للوهن في دلالة المطلق على العموم فإن الشيء يلحق بالأعم الأغلب، وأما كون المطلق قد يكون أظهر بقرائن خارجية فهو ليس بأزيد من ان يكون المجاز أقوى من الحقيقة بقرائن خارجية.

السادس عشر: ما إذا كان أحد المتعارضين دال على حكم وضعي والمعارض يدل على نفي أثره كما دل من الأخبار على ان القُبلة ومس باطن الفرج ينقض الوضوء وأن من فعل ذلك أعاد الوضوء([63]) وورد أنهما لا ينقضان الوضوء([64]) فإنه يجمع بينهما بحمل الأول على الاستحباب لإعادة الوضوء حتى يلائم الدال على عدم النقض فيقال ان الوضوء منهما مستحب وليس بواجب ولعل نظرهم إلى ان الجملة الخبرية لا تفيد الوجوب أو لضعف دلالتها عليه.

السابع عشر: تعارض الإطلاق الشمولي بأن كان أحد الدليلين يدل على شمول الحكم  لتمام الأفراد بنحو الاستغراق كما لو قال (الفاسق لا تكرمه) مع الإطلاق البدلي بأن كان الدليل الآخر يدل على ثبوت الحكم لتمام الأفراد بنحو البدل كما لو قال (أكرم عالماً)، فقد ذهب القوم  على الجمع العرفي  بينهما بتقييد البدلي بالشمولي وتقديم الشمولي عليه ففي المثال يكرم العالم غير الفاسق مدعين أظهرية الشمولي، ولا وجه له لأن كلاً منهما دلالته على العموم بالإطلاق ومقدمات الحكمة. ويمكن ان يعلل ذلك بأن العرف لما كان يرى الترخيص في الإتيان بأي فرد من  الواجب البدلي وترك الباقي منها ويرى ان من أفراده ما يحتمل فيه وجود مقتضى للمنع منه بانطباق الشمولي عليه جمع بينهما بذلك.

الثامن عشر: تعارض المفاهيم بعضها مع بعض كمفهوم الشرط مع مفهوم الغاية فإنه يجمع بينهما بتقيد مفهوم الشرط بمفهوم الغاية لأن دلالة الغاية على المفهوم بالوضع بخلاف دلالة الشرط على المفهوم فإنها بمقدمات الحكمة.

التاسع عشر:  التخصيص بمفهوم الشرط مثل قوله (أكرم العلماء ان كانوا عدولاً) وقوله (أكرم العلماء) فإنه يقدم مفهوم الشرط لكونه دالاً على الانتفاء عند الانتفاء فيرفع اليد عن ظهور العام في العموم عند العرف وأهل اللغة لضعف ظهور العام بسبب كثرة التخصيص حتى قيل: (ما من عام إلاّ وقد خص) ونسب لبعضهم العكس بتقديم ظهور العام على مفهوم الشرط لكونه دلالة منطوقية وذاك دلالة مفهومية، ويؤيده قول الحر العاملي([65]) من ان كثيراً من الجمل الشرطية الواردة في القرآن الكريم ليس لها مفهوم أصلاً.

العشرون: تعارض التخصيص والتقيد مع النسخ فإنه يجمع بينهما بتقديم التخصيص على النسخ كما إذا ورد عام بعد وقت حضور وقت العمل بالخاص حيث يدور الأمر بين ان يكون الخاص مخصصاً للعام و ان يكون العام ناسخاً للخاص مثاله ما إذا قال المولى (لا تكرم زيداً العالم) ثم بعد أيام قال (أكرم العلماء) فإنه يدور الأمر بين ان يكون العام ناسخاً لحكم الخاص وعليه فيكرم زيد وان يكون العام متخصص بالخاص المتقدم عليه فلا يكرم زيد فيدور الأمر بين التصرف في دلالة العام الوضعية على عموم الأفراد وبين التصرف في دلالة الخاص الإطلاقية على عموم الزمان، ومثله ما إذا ورد الخاص بعد حضور وقت العمل بالعام مثل ما إذا قال (أكرم العلماء) ثم قال بعد مدة (لا تكرم زيداً) فإنه يدور الأمر بين ان يكون الخاص مخصصاً لعام بأن يكون مضيقاً لدائرة أفراد العام فيلزم التصرف في دلالته الوضعية أو يكون الخاص ناسخاً للعام بأن يكون مضيقاً لدائرة استمرار العام ودوامه فيكون التصرف في دلالته الإطلاقية.

والحاصل ان التخصيص والتقييد يكون فيهما الإخراج عن الأعيان، والنسخ يكون فيه الإخراج من الأزمان هذا إذا علم تأريخ ورودهما، ومثله ما إذا شك في تأريخ ورودهما فإنهم في جميع الصور يقدمون التخصيص على النسخ لغلبة التخصيص غلبة بلغت حداً أن صارت بمنزلة القرينة الحالية على إرادته وتقديمه على النسخ ولذا القوم لا يذهبون إلى النسخ إذا علم أو قام ظن معتبر على النسخ وربما يشكل بأن الحمل على التخصيص أو التقييد مع العلم بالتأريخ وأن الخاص كان صدوره بعد حضور وقت العمل به لأنه يلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة إليه وهو قبيح عقلاً لا يصدر عن الحكيم. وعليه فلا يصح في المخصصات والمقيدات في أخبار الأئمة ( عليه السلام   ) بالنسبة لعموم الكتاب أو السنة النبوية وغيرها مما علم صدورها بعد وقت العمل بالخاص أو المقيد ان تحمل على التقييد أو التخصيص بل لابد من حملها على النسخ. وجوابه أنا لا نسلم قبح ذلك إذا كانت المصلحة والمفسدة تقتضي التأخر عن وقت العمل وأن العمومات لم يكن عمومها الإفرادي مراداً من أول الأمر واقعاً وإنما كان مراداً ظاهراً فالمقام يشبه الحال في صدر الشريعة فإن أغلب الأحكام لم تكن مرادة في ذلك الوقت ظاهراً ثم بعد هذا أريد وجودها. قال الوالد ( رحمه الله ) في حاشيته على الكفاية: إنه على تقدير اقتضاء المصلحة أو المفسدة تأخير البيان فلا يكون المقام من تأخير البيان عن وقت العمل لأنه إذا فرض مصلحة تقتضي تأخير البيان فيكون وقت العمل بعد لم يجيء.

الحادي والعشرون: من الموارد ما إذا كان أحد الخبرين دالاً على التحريم والآخر دالاً على الإباحة فذهب بعضهم إلى تقديم الخبر الدال على التحريم، وقد يظهر من بعضهم نسبته إلى المشهور واستدل على ذلك بوجوه:

الأول: قوله ( صلى الله عليه وآله وسلم) (دع ما يريبك إلى مالا يريبك)([66]). بتقريب ان العمل بالخبر الدال على الحرمة لا ريب فيه قطعاً لجواز ترك المباح وليس كذلك العمل بالخبر الدال على الإباحة فإنه محل الريب لاحتمال كونه محرماً والأمر بترك ما فيه الريب بقوله (عليه السلام  ): (دع ما يريبك) للوجوب لأنه مقتضى صيغة إفعل. وفيه إنه للإرشاد لما يحكم به العقل لا للوجوب والذي يحكم به العقل في المقام هو عدم الإلزام.

الثاني: ما تقدم من قوله (عليه السلام  ): ( ما اجتمع الحلال والحرام إلاّ غلب الحرام الحلال).

وفيه ما مر من أنه ظاهر فيما تحقق وجودهما لا فيما احتمل مضافاً إلى أنه لو تم ذلك للزم الحكم بالحرمة في الشبهة التحريمية مع ان المشهور تقديم الإباحة، فالحق هو الرجوع في هذا المورد لأحكام باب التعارض من ترجيح ذي المزيه ومع عدمها فالتخير.

الثاني والعشرون: من موارد الجمع بين الدليلين المتعارضين في بادي الرأي ما كان بين الدليلين تخصص بأن يدل أحدهما على ان هذا البعض من موضوع الدليل الآخر غير محكوم بحكمه بلسان خروجه عن موضوعه واقعاً كما لو قام الدليل على وجوب (إكرام العلماء) ثم قام دليل آخر على ان من هرم ليس بعالم أو من ليس يصدق عمله علمه فليس بعالم، فإن هذا النحو من الخروج يسمى بالتخصص، ومنه الدليل القطعي مع الأصل العملي فإنه يزيل موضوعه واقعاً لأنه لا يبقى معه شك في الواقع. وتحقيق ذلك يطلب مما ذكرناه في التنبيه الخامس عشر من تنبيهات الاستصحاب في عنوان مخالفة الاستصحاب للأدلة في الجزء الثاني من كتابنا مصادر الحكم الشرعي.

الثالث والعشرون: من موارد الجمع بين الدليلين المتعارضين ما كان بين الدليلين وروداً بأن كان أحدهما دالاً على ان بعض الموضوع للدليل الآخر غير محكوم بحكمه بلسان خروجه عن موضوع الدليل الآخر تنزيلاً له منزلة عدمه فيكون مضيقاً لموضوعه كقول الشارع (لا شك لكثير الشك) حيث إنه دل على خروج شك كثير الشك عن عمومات وإطلاقات أحكام الشك بلسان تنزيل شكه منزلة عدمه لا تكويناً ولا حقيقة كما في التخصيص فيكون الوارد مضيقاً لموضوع المورد وقد يكون موسعاً لموضوعه بأن يكون دالاً على ان ما هو ليس بموضوعه محكوماً بحكمه بلسان تنزيله له منزلة وجوده كما لو قال الشارع: (الطواف في البيت صلاة) و(النبيذ خمر) وتوضيح ذلك يطلب مما كتبناه في التنبيه الخامس عشر من تنبيهات الاستصحاب.

الرابع والعشرون: من موارد الجمع ما إذا كان بين الدليلين المتعارضين حكومة، وهو ان يكون أحد الدليلين لسانه لسان بيان وتفسير لجهة من جهات الحكم الذي دل عليه الدليل الآخر من الإرادة لحكمه في بعض موارده أو في غيرها أو من جهة الجعل له أو من حيث وجه صدوره تقية أو امتحاناً أو هزلاً أو بنحو التفسير لموضوعه أو لمحموله كقول المولى (لم أرد أو لم أقل أو لم أحكم أو لا مصلحة) أو نحو ذلك، وبها قد يتبع المراد من الدليل الآخر وقد يتسع ويسمى الدليل الذي لسانه لسان بيان وتفسير بالحاكم والدليل الآخر بالمحكوم، مثل أدلة نفي الحرج فإنها تكون مبنية لمقدار ما يريده المولى من أدلة الأحكام الشرعية وأنه ما كان من الأحكام التي ليس فيها حرج وعسر على العبد، ومثله أدلة نفي الضرر بالنسبة إلى أدلة الأحكام الشرعية، ومثله أدلة نفي السبيل بالنسبة إلى أدلة الضمان.

الخامس والعشرون: من موارد الجمع هو ما كان بين الدليلين توفيق عرفي وهو ان يكون العرف يوفق بينهما كالظاهر والأظهر والمجمل والمبين.

مبحث: شرائط  الجمع العرفي

ذكروا للجمع بشاهد عرفي وهو الجمع الأول شروطاً:

الشرط الأول: منها ان يعلم بحجية صدورهما إذ لو علم بعدم صدور أحدهما على التعيين لم يكن ذلك المعلوم عدم صدوره بحجة ويكون الآخر هو الحجة ويعمل على طبقه ولا يصح حمل الآخر عليه ولا حمله على الآخر، وأما لو علم بعدم صدور أحدهما لا على التعيين فيكون المقام من باب اشتباه الحجة باللاحجة فلا يصح حمل أحدهما على الآخر لأنه يكون من التصرف بالحجة بواسطة ما هو غير الحجة، ومثله لو علم بفقدان أحدهما لشرائط حجية السند ألاّ ترى أنه لو ورد عام وخاص كأن قال (أكرم العلماء) ثم قال (لا تكرم فساق العلماء) وعلمنا بعدم صدور أحدهما من المولى فإنه لا يخصص العام بالخاص لاحتمال ان الخاص لم يصدر ولا يعمل بعموم العام لاحتمال أنه لم يصدر، ويكون من باب اشتباه الحجة باللاحجة. ان قلت إنا نعلم إجمالاً اما بكذب الخاص وصدق العام بعمومه أو بالعكس فيكون من باب اشتباه الحجة باللاحجة فلا وجه لتخصيص العام بالخاص. قلنا لما كان العرف يجمع بينهما بحمل العام على الخاص ولا يعلم بكذب أحدهما لأنه لا يكون بين المرادين منهما تنافي وهو وجوب الباقي تحت العام وعدم وجوب غيره. نعم لو لم يجمع بينهما العرف كان بينهما تكاذب وتنافي فإن قامت الحجة على صدورهما كانا متعارضين وإن كان قامت على حجية أحدهما لا على التعيين كانا من باب اشتباه الحجة باللاحجة.

الشرط الثاني: للجمع العرفي ان يكون المتكلم بالدليلين واحداً أو بحكم الواحد كالمعصومين ( عليه السلام   ) فإن كلام كل واحد منهم بمنزلة كلام الآخر إذ لو كان المتكلم متعدد فلا وجه للجمع العرفي لاحتمال أنه لم يرد ما أراده الآخر فلو صدر العام من شخص وصدر الخاص من شخص آخر لا يصلح حمل العام على الخاص عند العرف لاحتمال ان المتكلم بالعام أراد العموم ولم يرد الخصوص إذ ليس تعيين مراده بيد غيره وإنما بيد المتكلم نفسه، ولا يكون كلام غيره قرينة على تعيين مراده.

الشرط الثالث: ان يكون الدليل الذي يجمع عرفاً مع الآخر وارداً قبل مجيء وقت العمل به، فالخاص إذا ورد بعد مجيء وقت العمل به أو الحاكم ورد بعد وقت العمل به ونحو ذلك فإن العرف لا يجمع بينهما والإلزام تأخير البيان عن وقت الحاجة إلاّ إذا كان التأخير لمصلحة.

الشرط الرابع: ان يكون بين مدلولي الدليلين تنافي ذاتي لا عرضي فلو كان بينهما تنافي بالعرض مع صحة سندهما وعدم العلم بكذب أحدهما كأن علم إجمالاً بمخالفة أحدهما للواقع إجمالاً وكان أحدهما أظهر كما لو دل الدليل على وجوب صلاة الظهر يوم الجمعة بنحو الظهور ودل دليل آخر على وجوب صلاة الجمعة فيها بنحو الاظهرية وعلم إجمالاً بوجوب أحدهما فيها فإنه لا يعمل قواعد الجمع العرفي بينهما فلا يحمل الظاهر منهما على الأظهر، فلا يصح حمل الدليل الظاهر في الوجوب على الاستحباب وحمل الأظهر على الوجوب وذلك لأنه مع العلم بكذب أحدهما يكون أحدهما ليس بحجة فيكون من قبيل اشتباه الحجة باللاحجة، وسيجيء ان شاء الله أنه معه لا يصح الجمع العرفي إذ لعل الذي هو غير الحجة هو الأظهر. ولأن الأظهر إنما يقدم  باعتبار قرينيته على تعيين المراد من الظاهر وفي المقام لا يصلح الأظهر للقرينية على الظاهر لأنه كلام مستقل أجنبي عنه. ولا يخفى ما فيه فإن الجمع العرفي في المقام جاري لأنه لم يكن أحدهما أجنبي عن الآخر لأنهما من متكلم واحد أو ما هو بمنزلته، بل يكون بمنزلة المتصل به إلاّ أنه بواسطة هذا العلم الإجمالي صار كل منهما يدل على نفي الآخر فيؤخذ بأقوى الدلالتين وهي دلالة الأظهر على نفي مدلول الظاهر، وأما دعوى ان المقام من باب اشتباه الحجة باللاحجة فهي باطلة لأن الموجب لكون المقام من هذا الباب هو العلم الإجمالي بعدم الصدور أو عدم تمامية أدلة الحجية في أحدهما كأن علم بأن أحد الرواة لأحدهما ليس بثقة، ونحن كلامنا فيما تمت فيهما شرائط الحجية أو علم بصدورهما وإنما التنافي كأنه بين ظهوريهما لو لوحظ كل منهما مستقلاً. لو كان العلم بكذب أحدهما موجباً للدخول في باب اشتباه الحجة باللاحجة للزم ان يكون المتعارضان من هذا الباب للعلم بكذب أحدهما، ثم أنه بعد جمع العرف بينهما لا يحصل العلم بكذب أحدهما لأنه لا يكون تنافي بين المرادين منهما.

الشرط الخامس: ان يبقى لكل من الدليلين دلالة على مقدار يصح التعبد به، اما إذا كان الجمع يوجب إلغاء أحد الدليلين فلا يصح الجمع العرفي إذ يلزم من الجمع طرح ما كان للتعبد به الأثر فيسري التعارض فيهما إلى التعارض في دليل الحجية لفرض ان التعبد بحجيتهما مع الجمع العرفي غير ممكن فلو جمع بينهما لابد من طرح حجية أحدهما، ولا وجه لترجيح طرح أحدهما على الآخر فيتساقطان، اما إذا لم يلزم من الجمع العرفي الطرح لأحدهما فيكون التعارض بينهما في دليل حجية الظهور والمفروض الجمع العرفي بين هذين الظهورين فيصح الجمع مع المحافظة على حجية سند كل منها ومن هنا يظهر لك ان الجمع بحمل أحد الخبرين المتعارضين على التقية إذا كان موافقاً للعامة أو بحمله على مجاراة الممتحن كما إذا كان موافقاً للنصرانية أو اليهودية كما نشاهده في بعض أجوبة الأئمة ( عليه السلام   ) لهم على طبق معتقدهم ليس من الجمع  العرفي لأن ذلك موجب لسقوطه عن الحجية. ولا يخفى ما فيه فان العرف لما كان يجمع بينهما في الدلالة ويوفق بينهما لم يكن واحد منهما مطروحاً لأن الأخذ بكل واحد منهما يكون أخذاً بالآخر لاتفاقه معه في المراد والدلالة بحسب الجهة، فحل الموافق للعامة على التقية في الحقيقة لم يكن طرحاً له لأنه كان المراد منه هو المعنى بداعي التقية أو بداعي الامتحان وهو لازم المعنى الذي دل عليه الخبر الآخر فليس ذلك بطرح له، ولذا القوم  لا يرجعون في مثل هذا المورد إلى المرجحات السندية بل يحملونه على التقية أو الامتحان أو نحو ذلك. نعم لو دلت الأدلة على عدم حجية الخبر الذي يحمل هذه الصفة كان هذا الخبر خارج عن أدلة الحجية بنحو  التخصيص لها أو التقييد.

والحاصل ان انطباق دليل الحجية على كل واحد منها قهري والعرف لا يرى المنافاة بين دلالتهما لكونه يجمع بينهما بحمل أحدهما على الإرادة الجدية والآخر على الإرادة غير الجدية فلا وجه للطرح لأحدهما فبمقتضى ثبوت دليل الحجية لهما يحرز صدورهما من متكلم واحد فيؤخذ بالمفهوم منهما عرفاً.

الحكم الثاني
التعارض غير اشتباه الحجة باللاحجة

قد تقدم الكلام منا ان الفرق بين التعارض وبين اشتباه الحجة باللاحجة هو ان شرط التعارض يكون كل من الدليلين لو خلى عن المعارضة لكان حجة شرعية يجب العمل على طبقها بخلاف صورة اشتباه الحجة باللاحجة فإنه اما ان يعلم ان أحدهما إجمالاً ليس بحجة أو أنه يعلم بفقده لشرائط الحجة بحيث يعلم بأنه لو خلى عن  المعارضة لم يكن حجة، وقد عرفت في هذه  الصورة لو حصل له العلم  الإجمالي بقيام الحجة على التكليف الإلزامي ان يعمل بمقتضى العلم الإجمالي بالتكليف الإلزامي له كما لو دل أحدهما على وجوب شيء ودل الآخر على وجوب شيء آخر غير منافي له وإلاّ فالتخيير بينهما كما لو دلاّ على وجوب أمرين متضادين كأن دل هذا على وجوب القيام والآخر على وجوب القعود أو دلاّ على لزوم أمرين متناقضين كأن دل أحدهما على وجوب الشيء والآخر على حرمته فإنه يجب عليه التخيير لدوران الأمر بين محذورين، وأما إذا كان أحدهما يدل على حكم إلزامي والآخر على غير إلزامي فالأصل ينفي الإلزامي للشك في التكليف به إلاّ إذا كان له حالة سابقة فتستصحب ولا يصح فيهما حمل الظاهر على الأظهر ولا المحكوم على الحاكم لاحتمال ان الأظهر أو الحاكم هو الذي ليس بحجة، بخلاف ما إذا كان بينهما تعارض فإنه يحمل أحدهما على الآخر إذا أمكن الجمع العرفي كأن كان أحدهما الأظهر أو الحاكم.

الحكم الثالث
التعارض غير التزاحم

إن وجه الفرق بين تعارض الدليلين وتزاحمهما بأن التعارض هو تنافي الدليلين اما بحسب المدلولين كما عن بعضهم أو بحسب الإثبات كما عن آخر ويكون بينهما التكاذب بحيث كل منهما يكذب الآخر بخلاف الدليلين المتزاحمين فإنهما إنما يتنافيان في مقام العمل والامتثال كإنقاذ الغريق المؤمن إذا زاحمه إطفاء حريق المؤمن فإن التنافي بينهما إنما نشأ من عدم قدرة العبد على إتيانها دفعة واحدة وإلاّ فلا تنافي بينهما لا بحسب دلالة دليليهما ولا بحسب مدلولي دليليهما حيث لا تكاذب بينهما، فالاختلاف بين التعارض والمتزاحمين من عدة وجوه:

الأول: ان التنافي في التعارض من جهة الدلالة بحيث لا يمكن الجمع بين الدليلين إلاّ بطرح أحد الدلالتين أو كليهما، وقد يمكن امتثالهما معا كالتعارض بين دليل وجوب الجمعة والظهر وبين دليل الحكم كالاستحباب والوجوب أو دليل الإباحة، وفي باب التزاحم ليس كذلك فلا يمكن الجمع بين امتثاليهما معا لعدم القدرة التكوينية على ذلك والعجز عنه.

الثاني: ان التزاحم يجري في القطعيين سنداً ودلالة وجهة ولذا يحصل في الدليل الواحد بالنسبة لفردية المتزاحمين كما لو غرق مؤمنان ولا يتمكن من إنقاذ كليهما فإن دليل أنقذ الغريق يتزاحم فيهما والتعارض لا يجري فيه ذلك إذ لا يعقل من المولى الحكيم ان يتنافا مدلولا كلامه بجهة واحدة ولو وقع منه ذلك فلابد من كذب أحد الدليلين أو عدم  إرادة أحد الدلالتين أو اختلاف الجهتين.

الثالث: ان في التزاحم يعلم ان كل من الدليلين مراد ويعلم ان مقدار ما يدل عليه أيضاً مراد فمثلا دليل إنقاذ الغريق ودليل إطفاء الحريق كل منهما مراد للشارع ولا تكاذب بينهما، وأيضاً نعلم ان مقدار المراد من كل منهما هو إنقاذ كل غريق وإطفاء كل حريق فإذا فرض ابتلاء المكلف بكل منهما دفعة واحدة ولم يتمكن من إتيانهما معا فبرفعه يده عن أحدهما وتركه له من جهة العذر لم يصح  من المشرع ان يعاقبه على مخالفة الآخر منهما لحكم العقل بمعذورية العبد وعجزه عن فعلهما معاً لا من جهة أنه لم يشرعه ولم يرده من كلامه بل من جهة عدم تمكن العبد من فعلهما معا ولذا لو قدم أحدهما لا يكون تقييداً في دليل الآخر من حيث الإرادة الواقعية وإن كان تقيداً في مقام التنجزية بحكم العقل وهو في الحقيقة ليس بتقييد.

وأما في التعارض فغير معلوم صدور أحدهما أو كليهما أو غير معلوم مقدار دلالته أو جهة صدوره.

الرابع: ان في التعارض إنما يمتنع اجتماع مدلولي الدليلين في مقام الجعل والتشريع لأنه يلزم من تشريعهما التضاد والتناقض فيكون التنافي بين مدلوليهما في الجعل والتشريع ولذا كان كل منهما يكذب الآخر فلو أتى بهما لم يكن إلاّ ممتثلاً لحكم واحد والآخر لغواً ولو عصى ولم يأتِ بهما معاً فللمولى ان يعاقبه على الحكم الواقعي منهما وليس له ان يعاقبه على الآخر.

وأما في التزاحم فإنما يمتنع اجتماع مدلول الدليلين في مقام العمل بهما وامتثالها بعد ان كان قد تم وكمل كل منهما في مقام التشريع بحيث يعلم أنهما مجعولان في مقام التشريع والجعل فيكون التنافي بين مدلوليهما في مقام الامتثال، ولذا لا تكاذب بينهما فلا يكذب أحدهما الآخر فلو فرض أنه أتى بهما شخصان كان كل منهما ممتثلاً أو أتى بهما شخصاً كان يمكنه ذلك كان ممتثلاً للحكمين ومطيعاً للأمرين كما لو عصى ولم يأتِ بهما معا يحكم العقل بأن للمولى ان يعاقبه على تركهما كما احتمله بعضهم بناءاً على الترتب أو على ترك أي واحد منهما بخلاف المتعارضين فإنه يكون الممتثل واحد منهما وهو من أتى بالحكم الواقعي دون الحكم الآخر  لأنه ليس له واقعي والعقل يحكم بعقاب تاركهما على ترك خصوص الواقعي منهما دون الآخر.

إن قلت كيف تدعي ان في التعارض يكون التنافي في مقام الجعل وأن كلاً منهما يكذب الآخر مع ان بعض كلام القدماء في مقام الترجيح بين المتعارضين رجح أحد المتعارضين باقوائية المناط واستدل بعضهم على تقديم  الدليل الدال على النهي بأن دفع المفسدة أهم من جلب المصلحة فلو كان بينهما تكاذب فلا دلالة لهما على وجود المناط لكل منهما حتى يقدم الأقوى مناطاً، ولا يقدم النهي من جهة دفع المفسدة أهم من جلب المنفعة لاحتمال ان النهي كذب لا واقع له فلا يعلم وجود المفسدة به حتى يقدم على المنفعة. قلنا لعل ذلك منهم مبني على صورة العلم بوجود المناط لهما والملاكين فيهما من الخارج وحينئذ فيستكشف جعل الأقوى منها دون جعل صاحبه فتكاذبهما في الجعل لا ينافي العلم بالملاكين والمناطين لهما من  الخارج.

إن قلت ان في التزاحم أيضاً يسري التنافي إلى مقام الجعل حيث يسري تزاحم المصلحة والمفسدة فيه إلى تزاحمها في نظر المشرع عند جعل الحكم له ولا يكون المجعول من قبله إلاّ واحداً كما هو الشأن في جعل الأحكام للموضوعات الخارجية التي تزاحم ملاكاتها في نظر المشرع فيكون أحدهما كاذبا. قلنا كلامنا في المتزاحمين في مقام الامتثال بمعنى ان الملاكين لا تزاحم فيهما في مقام الجعل كإنقاذ الغريقين أو كإنقاذ الغريق وإطفاء الحريق فإن في كل منهما كان الملاك الموجب لإرادة المولى الجدية موجوداً وتاماً في مرحلة جعل الحكم، وإنما طرأ التنافي والتزاحم عند الإطاعة لهما وبعد الجعل لهما فهو من العوارض على الجعل وقد كان الجعل مأخوذاً في موضوع التزاحم نظير العلم بالتكليف، ومن المعلوم ان ما يكون مأخوذاً في العارض على الشيء تكون مرتبة موجوديته متأخرة عنه ولا تسري إليه فهو من وظيفة العقل ويرجع للعقل في حكمه لأنه أمر متأخر عن مرتبة التشريع. نعم قد يكون التزاحم بين الملاكين في مرحلة التشريع والجعل وهو يرجع أمره للمشرع فإن رأى في الشيء المصلحة أقوى حكم على طبقها ولم يحكم على ما تقضيه المفسدة إلزاماً واستحباباً وأن رأى المفسدة أقوى حكم على طبقها كذلك ومع التساوي يتساقطان ويحكم بالإباحة. نعم في بعض موارد اجتماع النهي والأمر مثل (صلِّ ولا تغصب) وقع النزاع في تكاذبهما في مورد الاجتماع وهو الصلاة في الدار المغصوبة أو تزاحمها، وسيجيء ان شاء الله تحقيق ذلك في بيان الفرق بين التعارض في العامين من وجه والتزاحم بينهما.

الخامس: ان المتعارضين إذا حصل مانع من العمل بأحدهما لا يوجب صحة العمل بالآخر لعدم ثبوت صدقه، فمثلاً إذا تعارض الدليلان في الصوم والقصر فأحدهما يوجب الصوم والآخر يوجب القصر فإذا منع مانع عن الصوم للجهل عن قصور أو اضطرار أو لم يأت به عصياناً فلا يصح مجرد وجود الدليل المعارض القصر ما لم يثبت صحة العمل به تعييناً أو تخيراً وعدم سقوطه بالمعارضة وذلك لتكاذبهما. والحاصل أنه لا اقتضاء للامتثال فيهما معا بخلاف المتزاحمين كإنقاذ الغريق وإطفاء الحريق فإنه مع المانع عن أحدهما كما لو اضطر إلى ترك إنقاذ الغريق أو جهل به أو تركه اختياراً فإنه يتعين العمل بالآخر، وذلك لعدم تكاذبهما وإنما حصل المانع من العمل بهما معاً فإذا وجد مانع عن العمل بأحدهما تعين العمل بالآخر فاقتضاء الامتثال فيهما موجوداً وإنما منع من تأثيره العجز وعدم القدرة بخلاف المتعارضين فإنه ليس فيهما معاً اقتضاء الامتثال للعلم بعدم كون أحدهما حكماً واقعياً.

إن قلت على هذا فالحكم غير مقيد بالقدرة على امتثاله لأنه مع العجز عن امتثاله بالمزاحمة تلتزمون بوجوده فإذن القدرة ليست شرطاً لجعله. قلنا نعم فإن إطلاق كل حكم وتقييده إنما يلاحظ بالنسبة إلى غير الحالات والعوارض المتأخرة المعلولة لثبوته اما بالنسبة إليها فلا يمكن له إطلاق أو تقييد نظير صفة التزاحم وعصيانه وامتثاله والعلم به والجهل به وتحقق موضوعه وعدم تحققه فإنهما فرع وجود الحكم وثبوته وما يكون متأخراً عن الشيء لا يعقل ان يؤخذ فيه وإلاّ لزم ان يتقدم على نفسه فجعل المولى يكون قاصراً عن التعرض لما هو في المرتبة المتأخرة عن جعله فليس له إطلاق ولا تقييد بالنسبة لمرتبة القدرة على امتثاله فهو كما أنه غير مقيد بذلك كذلك غير مطلق وإنما بيان الوظيفة فيها راجع للعقل بمعنى ان العقل هو المستكشف لآثار جعل المولى للحكم وجوداً وعدما ولو أراد المولى التعرض للآثار المرتبة على الجعل تعرض لها بدليل آخر كالأدلة المتكفلة لحال الجهل بجعل الحكم أو تعارض دليله مع دليل آخر أو مزاحمته له. نعم يمكن تقييده بالقدرة وعدم العجز عن المتعلق إذا لم يكن العجز مسبباً عن امتثاله فإنها من العوارض اللاحقة لجعل الحكم التي يمكن اعتبارها في متعلقه وإنما الممتنع هو التقييد بالقدرة وعدم العجز المسبب عن امتثال الحكم، ومن هنا يظهر لك فساد من تخيل ان  المتزاحمين لابد من تقييد إطلاق دليليهما من جهة لو لا التقييد يحصل التنافي والتكاذب بينهما فيكونان من المتعارضين لسراية التنافي في الامتثال إلى عالم الجعل ووجه الفساد ما عرفته  من عدم السراية لعدم شمولهما لمرحلة الامتثال والعصيان لكونهما من العوارض المتأخرة عن الدليلية وثبوت الحكم.

إن قلت على هذا كان الأمر بكل من المتزاحمين مطلقاً بالنسبة إلى وجوب الآخر فيلزم الأمر بهما معاً ومن المعلوم ان فعلهما بمعنى الجمع بينهما محال وغير مقدور والعجز عنه غير مسبب عن وجوب الامتثال لهما.

قلنا نمنع من اقتضاء إطلاقهما الأمر بالجمع بينهما إذ من الواضح ان ليس للمولى إلاّ مطلوبان هذا أو ذاك وليس الجمع بينهما مطلوباً ثالثا له. نعم مقتضى حكم العقل بوجوب امتثالهما هو ذلك لكن العقل إنما يحكم بوجوب امتثالهما مع عدم المزاحمة ومعها فيحكم بالتخيير مع عدم أهمية أحدهما.

إن قلت لا إشكال في إطلاق كل منهما بالنسبة إلى وجوب الآخر وامتثاله وهذا الإطلاق كاف في استحالة متعلقة فيجب تقييده.

قلنا مضافاً إلى ان هذا لا يصح التزامه فيما كان المتزاحمان فردان لواجب واحد كإنقاذ غريقين فإن الإطلاق بالنسبة إلى وجوب امتثال الآخر لا يصيره منجزاً ما لم يثبت إطلاقه بالنسبة إلى الجمع بين الامتثالين وعدمه وإلاّ لم يكن الأمر منجزاً مستحقاً على مخالفته العقاب، وقد عرفت أنه لا إطلاق له بالنسبة إلى ذلك لأنه يرجع إلى إطلاقه بالنسبة إلى امتثال نفسه وقد عرفت محاليته وإنما المحكم هو العقل وهو يحكم بالتخيير مع عدم أهمية أحدهما.

والحاصل أنه لا مانع من التكليف بالمتزاحمين كالتكليف بالضدين إلاّ عدم قدرة العبد على الجمع بينهما في الامتثال فالمجعول للمشرع كلا الحكمين بإطلاقهما إلاّ أنه لا يجب الامتثال لهما بحكم العقل إلاّ لأحدهما تخييراً أو تعيناً قال أستاذناٍ الشيخ كاظم الشيرازي([67]) الذي استفدنا منه هذا المطلب: (إعلم أنه لإطلاق الأمر بكل من الضدين مراتب:   أحدها: إطلاقه بالنسبة إلى القدرة على الآخر أو العجز عنه. وثانيها: إطلاقه بالنسبة إلى إتيانه نفسه أو عدم إتيانه.   ثالثها: إطلاقه بالنسبة إلى وجوب الآخر وعدم وجوبه.   رابعها: إطلاقه بالنسبة إلى وجوب امتثال الآخر وعدم وجوبه.   خامسها: إطلاقه بالنسبة إلى إمكان الجمع بين الامتثالين وعدمه، فما لم يتحقق الإطلاق بالنسبة إلى المراتب الأربعة لم يكن الأمر منجزاً يستحق على مخالفته العقاب ولم يمتنع تعلقه بالممتنع والمفروض ان الأمر بالضدين لا إطلاق له بالنسبة إلى المرتبة الرابعة وبيان الوظيفة فيها موكول إلى العقل نعم الأمر مجرداً عن الإطلاق المذكور ثابت موجود ما لم يدل دليل على تقييده في إحدى المراتب الأول.

مبحث: حكم المتزاحمين

إن للمتزاحمين أحكاماً منها:

الأول: هو التخيير بينهما مع عدم المرجح لأحدهما والتخيير يكون عقلياً حيث ان العقل هو الذي حكم به للتمكن من فعل أحدهما في مقام الامتثال مع إرادة الشارع له، وبعبارة أخرى هو وجود المقتضي للامتثال في كل منهما وعدم المانع إلاّ عن الجمع بخلاف خصال الكفارة فإن الشارع قد خير بينهما ولا حكم ولا وجوب إلاّ لأحدهما.

الثاني: استحقاق العقاب فيما لو تركهما معا فهو يكون على ترك أحدهما إذا لم نقل بالترتب، وأما إذا قلنا به فالعقاب يكون عليهما لأنه عليه يكون التكليف بالمتزاحمين على نحو عند عصيان أحدهما يجب الآخر فإذا لم يفعل الآخر استحق العقاب على هذا الآخر كما أنه على الترتب يجب عليه قضاءهما معا مع تمكنه من قضائها معاً، وتحقيق الحال وتنقيحه يطلب من مبحث الترتب.

الثالث: تنجز الخطاب بالآخر حين العلم به والنسيان أو الجهل بالآخر حتى لو كان المجهول منهما هو الأرجح لأنه لم يكن المانع عند العقل عن امتثال المعلوم إلاّ تنجز المجهول ومع عدم تنجزه لجهل به يرتفع المانع من تنجز الآخر، وبعبارة أخرى لما كان في التزاحم الحكمان موجودين بسائر شرائطهما وإنما المانع من امتثالهما حكم العقل بعدم إمكانه وعند الجهل بأحدهما زال حكم العقل المذكور وتبدل بحكمه بالامتثال للمعلوم لإحرازه وعدم تنجز ما يزاحمه في امتثاله. ان قلت ان المهم في الواقع حال المزاحمة بالأهم يكون فاقداً لشرط فعليته فيبقى خطاباً إنشائياً محضاً وتعلق العلم به لا يخرجه عن إنشائيته إلى فعليته. قلنا ان المزاحمة إنما هي في الامتثال وهي مرتبة تكون بعد كمال الحكم وفعليته وتماميته وإلاّ لم تكن مزاحمة في البين وإنما يزاحمه الأهم في مرتبة التنجز ومع الجهل به لا يتنجز.

الرابع: وقوع الترتب بين الأهم والمهم فإن العقل ينكشف من تحقق خطاب الأهم ان الخطاب بالمهم غير منجز عليه إلاّ حال عصيان خطاب الأهم تحصيلا للمصلحة الملزمة في المهم لذهاب المزاحمة من الأهم التي كانت مانعة عن تحصيله فيكون المقتضى لامتثاله موجوداً وهو فعلية حكمه والمانع عن امتثاله مفقود، وتحقيق ذلك يطلب من مباحثنا في الترتب.

مبحث: وقوع التزاحم  في الواجبات الضمنية

ذهب بعض أساطين الفن إلى عدم وقوع التزاحم في الواجبات الضمنية كالأجزاء والشرائط فلو دار الأمر بين جزأين من واجب واحد أو بين شرطية أو بين جزء وشرط منه لا يصح الرجوع إلى مرجحات باب التزاحم لأن الواجب هو المركب من جميع الأجزاء والشرائط وبعد تعذر الجزء أو الشرط يسقط الوجوب رأساً ولا تصل النوبة إلى التزاحم، ولذا لو اضطر الصائم إلى الإفطار في بعض ساعات النهار لم يلتزم أحد بوجوب الإمساك في الباقي من ساعاته. نعم في خصوص باب الصلاة يجب الإتيان بالباقي لما دل على ان الصلاة لا تسقط بحال إلاّ لفاقد الطهورين فإنه محل خلاف بينهم، والحق وقوعه بينها لأن الكلام في المتزاحمين إنما يكون بعد ثبوت وجوبهما بعد التزاحم اما لو ذهب وجوبهما وزال بعد التزاحم فلا يقع التزاحم بينهما لأن التزاحم إنما يكون في مقام الامتثال وهو مرتبة متأخرة عن الوجود للوجوب وعليه فالتزاحم بين  الواجبات الضمنية إنما يكون بعد وجوب المركب حال تزاحمها حتى يكون وجوبهما ثابت وإلاّ لو فرض سقوط المركب كان وجوبهما ساقط فلا تزاحم، ثم أنه بقاء وجوب المركب فيهما اما لدليل خاص مثل ما دل على (أن الصلاة لا تسقط بحال) أو القاعدة (أن الميسور لا يسقط بالمعسور) أو القاعدة (إذا أمرتكم بشيء فأتوا به ما استطعتم) أو لاستصحاب بقائه.

والحاصل ان محل الكلام هو صورة بقاء الواجب على وجوبه عند تعذر جزئه أو شرطه فلا يصح التمثيل بالصوم لقيام الدليل الخاص على عدم وجوبه عند الاضطرار إلى الإفطار في بعض الساعات من النهار. ودعوى ان المركب الواجب لا تزاحم بين واجباته الضمنية عند عدم القدرة إلاّ على أحدهما وإنما يكون بينها التعارض فالمتعذر المردد بين جزأين منــــه أو شرطين منـــــه أو بين جزء وشرط منــــه لا يكون داخلاً في باب التزاحم وإنما يكون داخلاً في باب التعارض إذ وجوب كلا المتعذرين معلوم الانتفاء لعدم القدرة إلاّ على أحدهما ولا ندري ان الواجب المجعول في هذا الحال أيهما فلابد من الرجوع إلى أدلة الأجزاء والشرائط وإجراء أحكام التعارض بينهما لا الرجوع إلى مرجحات باب التزاحم فاسدة. فإنه مضافاً إلى ان إجراء أحكام التعارض إنما يكون إذا تكاذب الدليلان في مقام التشريع بحيث مجرد حصول المانع من العمل بأحدهما لا يصحح العمل بالآخر بخلاف المتزاحمين كما تقدم منا ولا ريب ان فيما نحن فيه لو حصل المانع عن أحدهما بعينة تنجز الآخر وعوقب على مخالفته مضافاً إلى ذلك ان التزاحم قد يحصل فيما لو كان المردد من نوع واحد كالقيام في الصلاة إذا كان لا يقدر إلاّ على القيام في الركعة الأولى أو الثانية فإنه يقع التزاحم ويقدم الأقرب زماناً نظير إنقاذ الغريقين في وقوع التزاحم بين وجوبيهما، ولا وجه لدعوى التعارض بينهما لأن الدليل عليهما واحد والواحد لا يعارض نفسه. مضافاً إلى ان في باب التعارض لا يصح العمل بالدليلين عند التمكن من العمل بهما حتى من شخصين لكذب أحدهما وفي المقام يصح صدور كل واحد منهما من شخصين أو من شخص في وقتين فلو فرض ان أحد الشخصين يتمكن من السجود دون الركوع وجب عليه السجود وفرض ان الآخر بالعكس وجب عليه الركوع فلو كان ثالث يتمكن من أحدهما كان مخيراً ووقع التزاحم بين السجود والركوع فتجري قواعد التزاحم بينهما للعلم بصحة كلا الخطابين الضمنيين بهما ولا تكاذب بينهما وإلاّ لزم عدم صحتهما عند التمكن من أحدهما معيناً دون الآخر.

والحاصل ان العجز الآتي من ناحية الامتثال لا يؤثر على التكليف ويكون المحكم فيه هو العقل وهو يحكم بامتثال المقدم زماناً فإن الأحكام مجرد سن قانون وهي شاملة حتى لموارد عدم القدرة غاية الأمر أنه لا يحكم العقل بوجوب الامتثال فيها ولا باستحقاق العقاب على مخالفتها.

مبحث:  مرجحات باب التزاحم

وتتميماً للفائدة نتعرض لما ذكره القوم من المرجحات لباب التزاحم وإن كان في بعضها يرجع الأمر إلى عدم التزاحم، وخارجاً عن محل الكلام ولكنه كالملح في الطعام فلا يرموننا المغرضون بسهام النقد والملام.

الأول: ان يكون أحدهما فرداً من الواجب المضيق والآخر فرد من الواجب الموسع فإنه يرجح على الموسع كما لو في صورة ما لو وجب عليه صلاة الخسوف الجزئي أول وقت الزوال فإنه يقدم الفرد الواجب من صلاة الخسوف على الفرد الواجب من صلاة الظهر مع ان كل منهما واجد لملاك الوجوب وتام موضوع الوجوب فيه، لأنه بفعله لم يفوت واجباً عليه بخلاف ما لو صلى الظهر فإنه ينجلي القرص ويفوت عليه صلاة الخسوف في وقتها، ومن هذا الباب التزاحم بين إزالة النجاسة عن المسجد الواجبة فوراً وبين الصلاة فيه مع سعة الوقت لأدائها.

الثاني: من المرجحات ان يكون أحدهما فرداً من الواجب المعين والآخر فرد من الواجب المخير كما لو وجب عليه وفاء الدين وكان عليه أحد الكفارات الثلاثة وليس عنده من المال ما يكفي لوفاء الدين أو الإطعام أو عتق الرقبة فإنه يقدم الوفاء للدين لأنه بارتكابه لا يحصل مخالفة المولى بخلاف ما إذا أطعم أو أعتق فإنه يلزم المخالفة لوجوب الوفاء.

الثالث: من  المرجحات ان يكون أحدهما فرداً لواجب لا بدل له اضطراري والآخر له بد ل اضطراري وقد مثلوا له بصورة ما لو وجب عليه إزالة النجاسة عن بدنه للصلاة ووجب عليه الوضوء للصلاة وليس عنده من الماء ما يكفيه لهما معاً فإنه يقدم مالا بدل له على ما له البدل لأنه مع تقديمه لا يفوت على المكلف واجب إذ يمتثل أحدهما بإتيانه وهو تطهير البدن وإتيان الآخر ببدله وهو التيمم، بخلاف ما إذا إرتكب ما له البدل فإنه يفوت الآخر منه دون تداركه ببدل له، وقد ناقش بعضهم في المثال وبعضهم بأصل المقال والتحقيق ان يقال ان كان أحدهما أحرز أهميته عند المشرع فلا إشكال في تقديمه كما لو دار الأمر بين صرف الماء في حفظ النفس المحترمة وبين صرفه في الوضوء أو الغسل قدم الأهم وإن لم يحرز ذلك سواء أحرز تساويهما عند المشرع أو احتملت الأهمية في كل واحد منهما كما هو فرض الكلام كما في مثال دوران الأمر بين إزالة النجاسة والوضوء فالعقل في مقام  الامتثال يقدم ما ليس له البدل لوجهين:

الوجه الأول: هو من جهة دوران الأمر عند العقل في مقام الامتثال بين التعين والتخيير لأنه يحتمل تعيين ما ليس له البدل عليه لعدم قيام بدل له مقامه ولا يحتمل تعين ما له البدل عليه لتساويهما في المصلحة لو كان محرزاً لتساويهما فيها وتساويهما في احتمال الأرجحية مع رجحانه عليه للأرجحية من جهة عدم البدل فالعقل في نظره في مقام الامتثال يقدم ذلك.

الوجه الثاني: ان التزاحم بين الواجبين يوجب منع كل منهما من الإتيان بالآخر في مقام الامتثال له فيكون ما له البدل قد منع منه العقل في مقام امتثال المزاحم له وهكذا ما ليس له بدل يمنع منه العقل في مقام امتثال المزاحم له فيكون تمانع  بينهما في مقام الامتثال، لا ريب ان العقل هو المحكم في هذا المقام وهو في هذا المقام يقدم منع ما ليس له البدل لأن الشارع قد أمر بترك ما له البدل عند المنع منه إلى بدله دون الآخر هذا مع عدم وجود نص من الشارع في تقديم أحدهما على الآخر وإلاّ فهو المتبع فتأمل في المقام.

الرابع: من المرجحات ان يكون أحدهما مأخوذاً في موضوعه شرعاً القدرة والآخر لم يؤخذ فيه ذلك كما لو وجب عليه أداء الدين للناس أو لله ووجب عليه الحج وليس عنده من المال ما يفي بكليهما فإنه يقدم الذي لم يؤخذ الشارع في موضوعه القدرة الشرعية ففي المقام يقدم وفاء الدين على وجوب الحج لأن الحج قد أخذ الشارع في موضوعه القدرة والاستطاعة، والوجه في ذلك ان القدرة عليه تنتفي مع وجوب ما يزيل القدرة عليه حيث يكون مانعاً عن صرفها في الوجوب المشروط بها فيرتفع الوجوب المشروط بها لأن المشروط عدم عند عدم شرطه بخلاف غير المشروط بها فإن موضوعه غير مقيد بها وإنما امتثاله مقيد بها عقلاً فيكون موضوعه موجوداً فيكون فعليا مع فعليته تزول القدرة على المأخوذ فيه القدرة الشرعية. وتوضح الحال لرفع ما يشكل على هذا المقام والمقال مبني على مقدمات:

المقدمة الأولى: ان القدرة التي جعلت ميزاناً في الترجيح هي القدرة الخاصة أعني القدرة  على مباشرة العمل بمعنى تهيئة أسبابه التي يتمكن معها من إتيان العمل ومباشرته لا القدرة العامة التي هي عبارة عن التمكن من إتيان العمل وعدم العجز عنه ولو بالواسطة أو الوسائط، ولا ريب ان التي يأخذها المولى في موضوع التكليف أو في مقدماته كالحج هو القدرة بالمعنى الأول وإلاّ فالقدرة بالمعنى الثاني معتبرة في كل تكليف وفي شرائطه بحكم العقل البديهي فأخذها يكون لغواً.

المقدمة الثانية: ان القدرة بالمعنى الأول إذا أخذت في موضوع التكليف أو أخذت في شرائطه كالحج كانت شرط وجوب بمعنى أنه لا يجب تحصيلها وليس العمل بواجب عند عدم حصولها، وإذا لم تأخذ تلك القدرة في موضوع التكليف ولا في شرائطه كانت شرط وجود فيجب تحصيلها وإتيان العمل فلا يجب عليه ان يحصل المال للحج إذا كان ماله مغصوباً بالمخاصمه ولا يجب عليه قبول هبة المال الذي يكفي لحجه لو وهبه له واهب ولا استيفاء الدين الذي يكفي لحجه، بخلاف ما لو كان عليه دين فإنه يجب عليه ذلك لوفاء دينه.

المقدمة الثالثة: ان القدرة المذكورة على الشيء بالنسبة لما أخذت فيه موضوعاً تكون قبل وجوده فالقدرة  على الحج تكون قبل وجود الحج.

المقدمة الرابعة: ان محل كلامنا فيما إذا حصل واجب فعلي قبل القدرة الشرعية المأخوذة في موضوع الواجب الآخر ثم حصلت له هذه  القدرة الشرعية لو لم يكن ذلك الواجب الأول كأن كان عليه وجوب وفاء الدين ثم حصل له المال بحيث لو لم يكن عليه وجوب وفاء الدين لكان عليه الحج فهل يزاحمه وجوب الحج ويكون بينهما التزاحم ويعمل مرجحات باب التزاحم أم لا؟  اما في صورة ما إذا حصلت القدرة الشرعية بكمالها ولم يكن هناك واجب مزاحم للحج فلا ريب أنه لو حدث بعد حصولها واجب كانت بينهما المزاحمة كما لو استطاع للحج وبعد حدوث الاستطاعة للحج ودخول وقته وجبت عليه دية أو استحق دين عليه فتقع المزاحمة له بعد وجوبه وجب عليه ذلك الواجب. والحاصل ان محل الكلام هو ان وجوب الواجب فعلاً فيما لو كانت عنده قدرة لا يمكن صرفها إلاّ في ذلك الواجب أو في الحج يكون وجوب الحج مزاحم له، إذا عرفت ذلك فنقول ان وجوب الواجب الذي لم تأخذ القدرة  في موضوعه هو المقدم لأنه بوجوبه يرفع القدرة التي هي شرط للحج حيث إنها تكون مقدمة وجودية فيجب صرفها فيه لفعليته بخلاف الحج لم يكن إذ ذاك واجب عليه حتى لو دخل وقته لأن القدرة كان ممنوع صرفها فيه ومن هنا تعرف أنه لو صار عليه نصاب الزكاة وكان مستحقاً عليه الدين ومطالب به فعلاً لم تجب عليه الزكاة إذا كان الدين ينقص المال عن النصاب لأنه يعتبر في الزكاة عند  بلوغ النصاب القدرة والتمكن من التصرف فيه.

والحاصل ان ما أخذ القدرة فيه عند دخوله وقته لم يكن واجباً لارتفاع موضوعه وهو القدرة الشرعية بالمنع من صرفها فيه وهذا الكلام جاري حتى على القول بالوجوب المعلق لأنه على تقديره فالوجوب المعلق الذي أخذ في موضوعه القدرة لم يكن ثابتاً إذ لم تحصل القدرة لأنها شرط وجوب فيكون الوجوب المزاحم له الفعلي هو  المانع من   تحقق القدرة. واستدل بعض المحققين على صحة الترجيح المذكور بأن أخذ القدرة قيداً كالحج يكشف عن دخلها في موضوعه ومصلحته وعدم أخذها في الحكم الآخر كالوفاء للدين يكشف عن عدم دخلها في موضوعه ومصلحته حتى في مورد التزاحم فإذا تزاحما ودار أمر العبد بينهما كان  أحدهما وهو الذي لم تؤخذ القدرة في موضوعه واجداً لموضوعه ومصلحته قطعاً والآخر غير معلوم تحقق موضوعه ووجدانه لمصلحته فالعقل يرجح الأخذ بالمعلوم الموضوع على المشكوك فيه.

الخامس: من المرجحات ان يكون أحدهما أهم من الآخر عند الشارع كما لو دار الأمر بين إنقاذ الإمام و إنقاذ مسلم فإنه يقدم الأهم بحكم العقل لأنه الأرجح عند الشارع ويقبح العقل ان يقدم العبد المرجوح عند المولى على الراجح عنده لأنه لو رجح المهم لفوت قسماً من المصلحة الملزم بتحصيله مع تمكنه منه. وبعبارة أخرى يدور الأمر بين تحصيل المصلحة الكثيرة الملزمة من المولى بتحصيلها وبين تحصيل المصلحة التي هي اقل منها فلو اختار المهم فوّت قسماً من المصلحة الكثيرة بخلاف ما لو اختار الأهم  وأما إذا كان أحدهما يحتمل أهميته من الآخر دون الآخر فالأمر يدور بين التعيين لمحتمل الأهمية والتخيير بينه وبين الآخر فتكون المسألة من فروع دوران الأمر بين التعيين والتخيير وقد تقدم تحقيق الحال فيها.

أما طرق معرفة أهمية الحكم من مزاحمه وذلك من لسان الدليل كأن كان الدليل أحدهما يدل على شدة اهتمام المولى بمتعلقه بتعظيم شأنه كالصلاة في بيان أنها عمود الدين وأنه ان قبلت قبل ما سواها وإن ردت رد ما سواها أو بتشديد العذاب الدنيوي أو الآخروي على تركه كحفظ النفس المؤمنة أو بشدة الحث على طلبه وتأكيد إرادته ووجوبه ونحو ذلك، وقد جعل بعضهم إطلاق دليل الوجوب وعمومه لمورد التزاحم الأهم من الدليل الآخر الذي لا إطلاق له لمورد التزاحم. وفيه مضافاً إلى عدم دلالة ذلك على أهمية ما له الإطلاق فإن المقام يرجع  فيه للجمع العرفي حيث ان ما كان له الإطلاق يتمسك بإطلاقه والذي ليس له إطلاق كما لو قام  عليه دليل لبي أو دليل لفظي مجمل يؤخذ بالقدر المتيقن منه فإن كان القدر المتيقن يشمل مورد التزاحم وقع بينهما التزاحم وإلاّ فيؤخذ بإطلاق الدليل المطلق ولا يؤخذ بالدليل المجمل لأنه ليس بحجة في غير القدر المتيقن.

السادس: ان يكون أحد الواجبين متقدماً زمانا بأن يكون وقت امتثاله سابق على وقت امتثال الآخر، وأما إذا كان شرط صحة امتثال الثاني إتيان الأول كالظهر والعصر فلا إشكال، وأما إذا لم يكن كذلك لأن ترك الأسبق يكون عصيانـــــاً لـــــه بلا مبرر شرعي لقدرته على امتثاله في وقته بخلاف المتأخر زماناً فإنه لا يكون عصياناً له لا قبل مجيء وقته ولا بعد مجيء وقته لأنه قبل مجيء وقته ليس بواجب عليه وبعد مجيء وقته لا قدرة له عليه كما لو كان لا يقدر على صوم يومين متتابعين من شهر رمضان فإنه يقدم صوم اليوم الأول على صوم اليوم الثاني، ومثله لو دار أمره بين الركوع في الركعة الأولى أو الثانية أو القيام في الأولى أو الثانية. نعم لو كان الثاني أهم كما لو دار الأمر بين بذل المال فعلاً للوضوء وبين بذله بعد يوم لحفظ النفس أو العرض قدّم حفظ النفس أو العرض وإن كان متأخراً زماناً لحكم العقل باستحقاق العقاب على تفويت الواجب الأهم بتفويت القدرة عليه نظير ما يقال في وجوب المعرفة.

مبحث: التزاحم الملاكي

هو التنافي في مقتضيات الأحكام والقوانين وملاكاتها عند  المشرع لها فإن الأحكام والقوانين لما كانت تابعة للمصالح والمفاسد قوة وضعفاً وهي قد تتزاحم في رأي المشرع للأحكام والمقنن للقوانين ويكون الحكم والقانون تابع للأرجح منها عنده ويكون مانعاً عن حكمه على طبق المرجوح منهما ومع التساوي عنده يتساقط الحكمان ويُخيّر المشرع بين مقتضيهما، والفرق بينه وبين التزاحم الاصطلاحي ان التزاحم الاصطلاحي هو التنافي في مقام العمل ومرحلة الامتثال دون الملاك، ولذا قد يكون بين  فردين من واجب واحد بخلاف التزاحم في الملاك فإنه يكون التزاحم فيه تزاحماً للحكم في عالم التشريع ومرحلة التكوين له والجعل له ولذا يكون تكاذب بين الدليلين  فيه لأن الدليل يدل على الجعل للحكم والحال ان  المجعول هو واحد، والوظيفة فيه هو الرجوع لما يقرره المولى لأن  الجعل للحكم بيده لا بيد غيره فلو رأى العبد ان مولاه لم يحكم على طبق الأرجح لا يصح له مخالفته وصح عقابه عليها، وهذا التزاحم إنما يكون عند المشرع الذي أحكامه تابعة للمصالح والمفاسد كالمشرعين للقوانين الدولية وكما هو مذهب العدلية القائلين بتبعية الأحكام الإلهية للمصالح والمفاسد، وأما على مذهب الأشاعرة القائلين بعدم التبعية فلا تزاحم عندهم بين ملاكات الأحكام الشرعية بخلاف التزاحم الاصطلاحي فإنه لا يوجد تزاحم بين الدليلين في الجعل فلا تكاذب بينهما وإنما التزاحم فيما يقتضيانه من الامتثال والعمل بهما حيث كان العمل والامتثال لأحدهما يمنع من امتثال الآخر والعمل به وهذا التزاحم يتوقف على إحراز فعلية الحكمين وإرادة المولى لهما ولا يتوقف على إحراز الملاكين لهما ولذا يتحقق حتى على مذهب الأشاعرة. نعم على مذهب العدلية القائلين بالتبعية يتوقف على إحراز الملاك لهما في الأحكام الإلهية لا من جهة اعتبار إحرازه في تحققه فيهما بل من جهة ان الحكم الشرعي الإلهي عندهم لا يوجد من دون وجود الملاك والمقتضي له ولذا لو أحرز عدم الملاك عندهم لأحدهما فإن كان معيناً كان ساقطاً وإذا كان غير معين كانا متعارضين للعلم بكذب أحدهما إجمالاً. والوظيفة فيه هو الرجوع للعقل لأن  الجعل للحكم الواقعي منهما قد تم وكمل من المولى ويبقى امتثال الحكم وإطاعته وهما يرجعان للعقل وهو يعين الوظيفة فيهما ومثلوا له بمورد اجتماع الأمر والنهي بناءاً على الامتناع، والأمر بالمتضادين كالأمر بالقصر والتمام وبالإزالة للنجاسة والصلاة.

مبحث: طرق اكتشاف تزاحم الملاكين

فقد ذكروا لذلك طرقاً:

أحدها: ان يقوم دليل من الخارج على ان كل من الحكمين موجود ملاكه في مورده ولو في بعض الحالات كما يستكشف وجود ملاك وجوب الجهر ووجوب الإخفات عند الجهل أو النسيان ووجوب القصر والإتمام عندهما لأجزاء أحدهما عن الآخر،  وكما ورد عن ان الصلاة لا تترك بحال فإنه قد يستفاد منه ان ملاك وجوبها مقدم على كل ملاك.

ثانيها: بواسطة الدلالة الالتزامية فإن الدليل كما يدل على الحكم الشرعي يدل على وجود ملاكه في موضوعه بالدلالة الالتزامية العقلية لما ثبت عند العدلية من تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد فإذا تعارض الدليلان فإنما يتساقطان في دلالتهما المطابقية على الحكم دون دلالتهما الالتزامية لأن  التنافي إنما كان بين دلالتهما المطابقية وهو يزول بتساقطهما في دلالتهما المطابقية وتبقى دلالتهما الالتزامية على حالها. ودعوى ان الدلالة الالتزامية تابعة للمطابقية فهي تسقط إذا سقطت فاسدة، فإنه بالتعارض إنما زالت حجية الدلالة المطابقية والالتزامية ليست تابعة للمطابقية في الحجية وإنما هي تابعة لها في الوجود وهكذا الكلام في موارد اجتماع الأمر والنهي كصلِّ ولا تغصب بناءاً على الامتناع. ولا يخفى عليك ما فيه فإن الدلالة الالتزامية تابعة للمطابقية وجوداً وحجة لأن أدلة الحجية إنما شملتها بواسطة المطابقة  فإذا خرجت المطابقية عن الحجية زالت الدلالة الالتزامية عنها أيضاً.

ثالثها: وهو يختص بموارد اجتماع الأمر والنهي والقول بتقديم النهي ومثله صورة توقف الواجب على الحرام وتقديم جانب الحرام كاستطراق الأرض المغصوبة لإنقاذ الغريق. وحاصله ان الأمر في مورد الاجتماع مع النهي لم تقيد مادته بعدم المنهي عنه فالصلاة المطلوبة لم تقيد بعدم الغصب فالنهي إذا أزال الأمر عند اجتماع المأمور به بالمنهي عنه فإنما يزيل الأمر والوجوب عن مورد الاجتماع لأن التمانع إنما كان بينهما ولا يزيل مصلحة الأمر ولا ملاكه في مورد الاجتماع إذ مع اجتماع المصلحة والمفسدة فيما هو الفرض ليست المصلحة تزول وإنما تتغلب المفسدة عليها في تشريع الحكم فمصلحة الصلاة موجودة في الصلاة الغصبية.

والحاصل ان النهي قد كان موجوداً لأرجحية ملاكه وهو المفسدة على ملاك الأمر بها وهو المصلحة وأزال الأمر بها فقط والإرادة التابعة لها لمضادة النهي للأمر والكراهة للإرادة المنبعثتان عنهما. ويمكن المناقشة في ذلك بأن وجود الملاك في المادة إنما استفدناه من الحكم الفعلي المتعلق بها فإن الصلاة إنما استفدنا وجود مصلحة فيها من جهة تعلق الوجوب بها فإذا زال الحكم عنها لم يعلم وجود الملاك فيها وهذا نظير العلم بوجود النار في المكان من العلم بوجود الدخان فيه فإذا زال الدخان لم يعلم بوجود النار لا سيما إذا قيل بأن الأحكام قد تكون ملاكاتها قائمة بنفسها كالأحكام الامتحانية أو بالمجوع المركب من نفسها ومتعلقاتها فإن الملاكات لا ريب في أنها تزول بزوال الأحكام.

مبحث: الثمرة في معرفة الملاك

أنكر بعضهم الفائدة في هذا البحث لأن التزاحم في الملاك يرجع للمشرع في معرفة وجوده وفي الاختيار لأحدهما عند التزاحم فما فائدة العبد في معرفته أو معرفة الراجح منه لا سيما والأمر فيه يعود إلى التعارض فيؤخذ بالأقوى دلالة وإن كان أرجح ملاكاً ويؤخذ بالأقوى سنداً وإن كان أضعف ملاكاً لأن الأمر فيه يرجع للمولى فيعمل العبد بما يقرره المولى عليه إلاّ ان بعض فطاحل الأصوليين صحح العبادة والطاعة بقصد ملاكها ومصلحتها وإن زال الأمر بها بواسطة الأمر بضدها الذي هو أهم منها كالصلاة إذا زاحمها إحياء النفس أو بواسطة اجتماعها مع النهي عنه وتقديم جانب النهي كالصلاة في الدار المغصوبة عند النسيان أو الجهل بالحكم عن قصور أو عند الاضطرار لمخالفة النهي. ويمكن القول بأنا لو سلمنا استفادة وجود الملاك والمناط للأمر من ذلك فإنا لا نسلم كفاية قصد الملاك في صحة الطاعة وتحقق العبودبة والتقرب إلى الله فيما هو ليس بذاته عبادة كالسجود فإن المصلحة والملاك فيه لم تكن عائدة لله تعالى فلا يوجد قصده التقرب والعبودية له تعالى. نعم لو كانت المصلحة والملاك يعود له تعالى بتمجيده وتعظيمه أو عود فائدته للنوع كان الإتيان بالعمل بفرض عوده لله تعالى فيه نوع خضوع له تعالى. سلمنا لكن ليس كل مقرب محصل للغرض فلعل المحصل له هو التقرب بأمره تعالى دون التقرب بمصلحته ومناطه ومع الشك فالأصل هو الاشتغال كما هو عند ذلك البعض من الفطاحل. ان قلت هذا ينافي ما عليه المشهور من صحة عبادة الجاهل بالغصب موضوعا بل حكماً ان كان قاصراً مع ذهابهم إلى امتناع اجتماع الأمر والنهي وليس ذلك إلاّ لإحراز بقاء مصلحة الأمر وملاكه وكفاية الإتيان بداعيه في صحة الصلاة. قلنا قد أجاب عن ذلك أستاذنا الكبير الشيخ كاظم الشيرازي بأنه يمكن توجيه فتوى المشهور بوجوه ثلاثة بتوضيح منا:

 الوجه الأول: ان تقيد الأمر لما كان من جهة النهي فيقتصر فيه بمقدار منافاته وليست المنافاه إلاّ في مورد وجودهما ولو بالإطلاق، ومن المعلوم أنه لا نهي في مرتبة الجهل بالحكم إذ لا إطلاق له بالنسبة إلى المرتبة المتأخرة عن مرتبة الجعل ولا   ريب ان مرتبة العلم بالحكم والجهل به متأخرة عن مرتبة الجعل لأنهما إنما يتعلقان بالحكم فيكون موضوعهما الحكم فلو لم يكمل الحكم لم يكونا قد تعلقا به، وهذا بعينه نظير ما ذكرنا في مقام الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي من ان الثاني وهو الواقعي لا يمكن ان يكون له إطلاق بالنسبة إلى موضوع الأول وهو الظاهري وهو الجهل بالحكم الواقعي. ان قلت ان هذا يتم بالنسبة إلى الجهل بالحكم لا الجهل بالموضوع كالغصب في المثال إذ لا مانع من إطلاق النهي عن الغصب للجاهل بالموضوع والعالم به ومورد فتوى المشهور هو الثاني وإن ألحق به الأول جماعة من جهابذة الفن. قلنا الجاهل بالغصب أيضاً بعنوان جهله بالحكم الناشئ عن جهل بموضوعه غير ممكن الدخول تحت إطلاق النهي عن الغصب فيبقى إطلاق الأمر بالنسبة إليه سليماً. لا يقال إذا فرض بقاء النهي في المرتبة المتقدمة على الجهل فسقط بثبوته الأمر في تلك المرتبة المتقدمة فكيف يبقى في المرتبة المتأخرة. لأنا نقول إذا فرضنا ان المتصرف في دليل الأمر هو النهي الفعلي المنجز فيختص تصرفه بمورد ثبوته ولا ريب ان النهي غير ثابت بنحو التنجيز للجاهل به حكماً أو موضوعاً فيبقى الأمر على حاله من المنجزية كما في حال الاضطرار إلى المنهي عنه فإن النهي يوجد مع عدمه وينعدم مع وجوده، ولكن الأستاذ الأعظم الشيخ كاظم الشيرازي عبر في الجواب (بأن النهي غير ثابت للجاهل به فيخرج الجاهل به حكما أو موضوعاً عند دليله ويبقى داخلاً تحت إطلاق الأمر ولا محذور) ولكن هذا التعبير يلائم قول المصوبة القائلين بعدم اشتراك الجاهل مع العالم في الحكم إلاّ إذا فسرنا كلامه بما يرجع لما ذكرناه. قال الأستاذ: (وعليه يبتني صحة عبادة الجاهل المقصر موضوعا أو حكماً). فإن قلنا ببقاء النهي بالنسبة إليه لم يصح ان يقع العمل منه عبادياً لعدم الأمر. وإن قلنا بعدمه فلا مانع من الصحة إذ لا مبغوضية لعدم تحقق العصيان منه بتركه للتعلم. كما يمكن ان يبتني على ذلك صحة عمل الناس عن التقصير موضوعا أو حكما.

الوجه الثاني: لفتوى المشهور بصحة الصلاة عند الجهل بالغصب هو بناءهم على إجزاء الأمر الظاهري عن الواقعي وإن كان على خلاف القاعدة إلاّ أنه لا مانع منه مع قيام الدليل عليه ويكفي دليلاً ما دل على صحة الصلاة في الساتر المباح ظاهراً كقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام  ) في وصيته لكميل قال: (أنظر يا كميل فيما تصلي فيه وعلى ما تصلي ان لم يكن من وجهه وحله فلا قبول)([68]) فإن ظاهره ان مجرد كون ما يصلي فيه من حل كاف في الصحة.

الوجه الثالث: أنه حتى لو التزم أحد بالصحة حتى في مورد عدم الأمر الظاهري كالجاهل المقصر فيمكن ان يكون الوجه عنده هو عموم (لا تعاد) بناءاً على جريانها في مثل المورد.

الحكم الرابع
التعارض ليس منه مسألة اجتماع الأمر والنهي

إن تعارض الأمر والنهي إذا كان بينهما عموم من وجه ليس من باب مسألة اجتماع الأمر والنهي، لأن باب اجتماع الأمر والنهي هو ان يكون الشيء الذي تعلق به الأمر والشيء الذي تعلق به النهي اجتمعا في الوجود الواحد اتفاقاً فيعتبر في هذا الباب أمران: أحدهما: تعدد عنوان المأمور به وعنوان المنهي عنه.  والثاني: اجتماعهما في وجود واحد كما في صورة الأمر بالصلاة والنهي عن الغصب فيما إذا وجبت عليه الصلاة في الدار المغصوبة فإنه قد اجتمع موضوع الأمر وموضوع النهي في وجود واحد وهو الصلاة فيها، ومسألة تعارض الأمر والنهي بوجه العموم والخصوص من وجه هو انطباق الشيء الذي تعلق به الأمر على الشيء الذي تعلق به والنهي بأن يكون متعلق الأمر متعلق النهي نفسه بحيث يحصل بينهما التكاذب في مورد الاجتماع كما في صورة ما إذا أمر بإكرام العالم ونهى عن إكرام الفاسق فإن العنوان المنهي عنه والعنوان المأمور به هو الإكرام ولذا العرف يرى ان أحدهما كاذب.

والحاصل ان الدليلين الذين بينهما عموم من وجه تارة يكون بين المأمور به والمنهي عنه كما في صلِّ ولا تغصب وتارة يكون بين متعلقيهما كما في (أكرم العالم) و(لا تكرم الفاسق) فإن كانا من قبيل الأول كانا من باب اجتماع الأمر والنهي وإن كانا من قبيل الثاني كانا من قبيل المتعارضين ولهذا لو ورد (العلم يوجب شرعاً الإكرام) وورد (الفسق يوجب شرعاً الإهانة) فإنه يكون من باب اجتماع الأمر والنهي في (العالم الفاسق) لأنهما طبيعتان اجتمعا في وجود واحد وشخص واحد لا أنهما عنوانان تطابقا في وجود واحد بخلاف عنوان (الإكرام للعالم) و(الإكرام للفاسق) في (إكرام العالم الفاسق) فإنهما عنوانان تطابقا وتصادقا على وجود واحد وشخص فارد، فالميزان في مسألة الاجتماع هو الاجتماع للطبيعتين في وجود واحد لا الانطباق على وجود واحد أو كان مدلول الدليلين أو لازمه حكم وضعي كالصحة والفساد والطهارة والنجاسة والزوجية ونحو ذلك فإن مثل هذين الدليلين يعالج تنافيهما بأحكام التعارض حتى من القائلين بجواز اجتماع الأمر والنهي أو قام دليل من الخارج من علم أو إجماع أو أمارة معتبرة على تكاذبهما وعدم اجتماع مدلوليهما كما لو قال (البيع حلال) و(العقد يوم الجمعة حرام) فإنهما يتعارضان في مورد الاجتماع كالبيع يوم الجمعة لحصول التكاذب فيه. نعم في صورة الأمر بالطبيعة والنهي عن الطبيعة الأخرى إذا اجتمعا في مورد واحد كان ذلك من باب اجتماع الأمر والنهي، وذلك لأنه في صورة الأمر بالطبيعة والنهي عن الطبيعة الأخرى إذا اجتمعتا في واحد كان إطلاق كل واحد من الدليلين كاشف عن وجود المناط لحكمها وأنه مجعول لها سواء وجدت مع الطبيعة الأخرى أم لا، وإنما المزاحمة كانت من جهة عدم القدرة على امتثال التكليفين بحيث لو فرض إمكان إتيانهما لكان ممتثلاً لتكليفين فالعرف لا يرى تكاذب بينهما بخلاف ما إذا تعلق الأمر والنهي بعنوانين انطبقا على موجود واحد بحيث كان ذات أحدهما نفس ذات الآخر فإنه يعلم بأن الجعل للحكمين فيه ممتنع فيكون بينهما تنافي في الجعل في هذا المورد فيحصل بينهما مناط التعارض وهو تكاذبهما في نظر العرف.

والحاصل إذا فهم من الدليلين التنافي والمزاحمة في الجعل للحكم بحيث يكون بينهما تكاذب صارا من المتعارضين وعوملا معاملة المتعارضين، وإذا فهم من الدليلين التزاحم والتنافي في الامتثال دون الجعل كانا من المتزاحمين وعوملا معاملة المتزاحمين. ان قلت ان متعلق الأحكام هو المعنونات، والعناوين إنما تؤخذ في الأحكام بما هي حاكيات مثل سائر التعابير لا بما هي  مستقلة فالأمر والنهي لا يتعلقان بالطبيعة وإنما يتعلقان بالوجود الخارجي لأنه هو فعل المكلف ومن عمله حيث ان القضايا الشرعية ليست طبيعية محضة بحيث لا يستكشف منها حكم الأفراد أبدا نظير قولنا (الرجل خير من المرأة) المنساق لحكم الطبيعة وحينئذ فمقتضى إطلاقها ثبوت الحكم لما في الخارج من الأفراد والفرض ان مورد الاجتماع في الخارج لا تعدد فيه وإن كان منشأ لانتزاع العناوين فلا فرق بين تعلق الأمر والنهي بالطبيعة أو بالأفراد.

قلنا المناط في التعارض هو فهم التكاذب من الدليلين والمناط في تزاحمهما عدم القدرة على امتثالهما دون تكاذبها، مضافاً إلى ان طلب الطبيعة إنما يكون بطلب إيجادها في الخارج المسمى بالبعث نحوها أو طلب تركها المسمى بالزجر عنها وليس الطلب يتعلق بالوجود الخارجي لها أو بالعدم الخارجي لها والإلزام تحصيل الحاصل فالأمر بالطبيعة ليس إلاّ بمعنى طلب تصيرها كذلك بمعنى إيجادها وجعلها في الخارج أو إعدامها  فيه وهما فعل العبد وإن كان امتثال الأمر بها موقوفاً على تحققها ووجودها الخارجي ولا ريب في تعدد الطبيعة باعتبار هذا الإيجاد والانعدام فلم يتحد متعلق الطلب والنهي وإنما اتحدا في الوجود الخارجي لهما الذي كان محققاً لها والطلب لم يتعلق به للزوم تحصيل الحاصل وإنما تعلق بالإيجاد والانعدام فلا يسري التنافي في الامتثال إلى مقام الجعل فلا مانع من جعل الحكمين ويكون الخطاب بهما كاشفاً عن ثبوت ملاكيهما في المجمع فلا محالة يكون زمام الترجيح بيد العقل، ودعوى رجوع هذه الصورة إلى التعارض لأنه في هذا المجمع يتزاحم الملاكان فلابد من ان يكون بيده الجعل بأن يجعل على طبق الأقوى منهما وإلاّ تساقطا كما هو شأن تزاحم الملاكات في مقام التشريع وهو من وظيفة المشرع لا العقل فيكون أحدهما هو المجعول دون الآخر ويحصل التكاذب بينهما في المجمع. قلنا ان الأمر كذلك لو كان ملحوظاً بنفسه في مقام الجعل لكنك قد عرفت بأن الجعل قد كمل من  الشارع لموضوعه في كل من الخطابين وبلغ درجة الفعلية وإنما حدث اجتماعهما في البين والمشرع لم يلحظ هذا الاجتماع فلابد ان يكون قد أوكل حكمه للعقل كما لو تزاحما فردين من الواجب كإنقاذ الغريق، وبعضهم جعل الفرق بين المسألتين ثبوتاً وجود المناطين وعدمه فقال ان في مسألة اجتماع الأمر والنهي لابد من وجود المناطين لهما في مورد الاجتماع وفي مسألة التعارض لا يوجد ذلك وأن ذلك يستكشف من دليلي العامين من وجه فإنه ان استكشف منهما ذلك فهما من باب اجتماع الأمر والنهي وإن أحرز عدم أحدهما فهما من المتعارضين، وفيه أنه قد يحرز المناطين للحكمين ويكون من باب التعارض ولذا بعض المتقدمين رجح أحد الدليلين في باب التعارض بأقوائية المناط ولعله من جهة أنه يستكشف بأقوائية المناط جعله دون جعل المعارض له فيكون الدليلان متعارضين عنده لتكاذبهما وعدم اجتماعهما في الجعل ولكنه استكشف بهما المناط في موردهما ورجح الأقوى مناطاً في جعله دون جعل صاحبه. إلاّ ان الذي ذهب إليه أستاذنا الأعظم الشيخ كاظم الشيرازي ان النزاع في مسألة اجتماع الأمر والنهي بمنزلة تشخيص صغرى النزاع في مسألة التعارض فالمجوّزون يقولون لا تعارض والمانع يجعل الدليلين متعارضين فإن كان ما بينهما ما يخرجهما من إطلاق أدلة الترجيح في باب التعارض لوجود الجمع  الدلالي أو العلم بوجود مناط الحكمين وأقوائية أحدهما بحيث يعلم ان المجعول أحدهما فهو المتبع وإلاّ فالمرجع هو أدلة الترجيح في باب التعارض ثم ذكر (أعلى الله مقامه)([69]) إنا نحن لا نجعل مناط الدخول في إحدى المسألتين وجود المناط وعدمه. نعم مع العلم بعدم أحد الحكمين تجعل المسألة خارجة عن مسألة اجتماع الأمر والنهي وداخلة في مسألة التعارض كان ذلك العلم من جهة عدم المناط أو لقيام دليل من الخارج على عدم جعل الحكمين. ولا يخفى عليك ما فيه فإن النزاع في مسألة الاجتماع إنما يكون بعد إحراز ان المسألة ليست من المتعارضين وإلاّ لو أحرز إنها من المتعارضين فلا فرق بينه وبين المجوز في الرجوع إلى أحكام التعارض، ثم أنه مع وجود الجمع الدلالي بين الدليلين لم يكن بين  الدليلين تعارض عند مجوز الاجتماع وعند المانع من الاجتماع.

 

الحكم الخامس
التعارض ليس منه مسألة الأمر بالضدين

إن الأمر بالضدين إذا كان بنحو التنافي بأن كان التضاد بينهمــــا كليــــاً بحيث لا يجتمعان في مورد كما لو قام الدليل على وجوب صوم يوم الشك من شهر رمضان وقام دليل آخر على وجوب إفطار ذلك اليوم فلا ريب في وقوع التعارض بينهما لتكاذبهما، وأما إذا كان بنحو التنافي الجزئي بأن كانا يجتمعان في بعض الموارد ويفترقان في بعض آخر كما لو قام الدليل على وجوب إكرام العلماء وقام دليل آخر على وجوب إهانة الفساق فإنه يحصل الأمر بالضدين الإكرام والإهانة في مورد اجتماعهما الذي هو العالم الفاسق، ومثله الأمر بإنقاذ الغريق والأمر بإطفاء الحريق فإن كان التنافي بينهما في مقام الامتثال ولا تنافي بينهما بحسب الجعل بأن كان للدليلين إطلاق أو عموم كاشف عن وجود المناطين لهما والمقتضيين لهما ولم يكن  بين الجعلين للحكمين تنافي إذ لا يلزم من تحققهما في نفسهما محال ومحذور بحيث لو  فرض صدورهما منه كان ممتثلاً لهما أو صدوراً دفعة واحدة من شخصين كانا ممتثلين صارا الدليلان من قبيل المتزاحمين وإلاّ لو كان بين الدليلين تكاذب بحيث يعلم بعدم اجتماع الحكمين في التشريع والجعل صارا من باب التعارض فمسألة البحث عن الأمر بالضدين هو ما كان من القسم الثاني لا من القسم الأول.

 

الفصل الخامس

الموارد التي وقع الخلاف في كونها من التعارض

لقد وقع الكلام من القوم في جملة من المواضع في كونها من التعارض بحيث تشملها أخبار التعارض أم لا مع كونها لا جمع عرفي بينها هي:-    

المورد الأول: ما إذا كان بين الدليلين عموم من وجه مع أنه لا جمع عرفي بينهما فهل يدخلان في موضوع المتعارضين بالنسبة لمورد اجتماعهما بحيث يكونان مشمولين للأخبار العلاجية باعتبار العلم الإجمالي بكذب أحدهما في مورد الاجتماع كما يظهر عن جماعة من الفقهاء من طي كلماتهم في الفقه في موارد كثيرة أو يدخلان في موضوع الجمع الدلالي باعتبار إجمال دلالتهما للعلم الإجمالي بكون أحدهما مخصصاً لا على التعيين ولازمه الحكم بالإجمال والرجوع إلى الأصول العملية. ويدل على الأول من كونهما مورد الأخبار العلاجية التي سيجيء ان شاء الله ذكرها أمور:-

الأمرالأول: ان موضوع الأدلة العلاجية هو كــــل خبرين متنافيين متمانعين ولا ريب ان العامين من وجه كذلك في مورد اجتماعهما فيكونان مشمولين للأخبار العلاجية الحاكمة بالترجيح فلابد ان يعامل في مورد الاجتماع ما يعامل به الدليلان المتباينان من التماس المرجح لأحدهما على الآخر، ومقتضى ذلك إنه مع فقد المرجح يرجع إلى التخيير عملاً بالأخبار العلاجية حيث إنها دلت على التخيير بين المتعارضين بعد اليأس عن المرجح مع ان القائلين بهذا القول لم يلتزموا بذلك بل حكموا بالرجوع إلى الأصول. ودعوى ان الظاهر من قوله (عليه السلام  ): ( ودع الشاذ النادر)([70]) وقوله (عليه السلام  ): (وخذ بما اشتهر بين أصحابك) و(الأخذ بالأعدل) هو ترك الخبر بجميع مضمونه فتكون ناظرة للخبر المباين لا للذي بينه وبين الآخر عموم من وجه فاسدة، فإنا لو سلمنا ذلك لكن أكثر الأخبار تشمل المختلفين بالعموم والخصوص من وجه كقوله (عليه السلام  ): (يأتي عنكم الخبران أوالحديثان المتعارضان فبأيها آخذ؟)([71]).

الأمرالثاني: ان أدلة التعبد بالصدور لا تشملهما معا لأن حكم الشارع ظاهراً بالبناء على الصدور متفرع عليه ترتب أثر شرعي على صدوره واقعاً كما هو الشأن في جميع موارد حكم الشارع باعتبار الطرق، ولا ريب إنه قد عرض عليهما الإجمال في مورد التعارض فلا أثر للتعبد بصدورهما في مورده فيكونان متنافيين ومتمانعين في الصدور وهو ملاك التعارض. وفيه ان فرض الكلام ان الحجية ثابتة لهما في حد ذاتهما والتعارض الطارئ عليهما إنما منع من فعليتها فهما كالمتباينين وقد عرفت ان انطباق دليل الحجية عليهما قهري، ثم إنه حكي عن الذين ذهبوا إلى هذا القول إنه في صورة فقد المرجحات حكموا بالرجوع إلى الأصول مع إنه لازم هذا القول هو القول بالتخيير في الصورة المذكورة عملا بالأخبار العلاجية الدالة على التخيير عند  فقد المرجحات.

وأما القول الثاني وهو إنهما ليسا من المتعارضين في مورد الاجتماع ولا يرجع للأخبار العلاجية ويكونا فيه من قبيل المجملين للعلم الإجمالي بتخصيص أحدهما بالآخر فيما إذا علم بإنه لا حكم ثالث غير مؤداهما فيخصص أحدهما الآخر إذا قامت قرينة على إنه هو المخصص بعينه ومع عدم تعيين المخصص منهما فيحكم بإجمالهما ويرجع في مورد اجتماعهما للأصول العملية إذا لم يكن بينهما جمع عرفي وقد استدل عليه بوجوه:-

الوجه الأول: إنه يتعين الأخذ بسند العامين من وجه في غير مورد الاجتماع فلو كانا من موارد الأخبار العلاجية لزم التبعيض في السند بأن يكون كل منهما حجة ومحكوم بالصدور في مورد الافتراق وغير حجة ومحكوم بعدم الصدور في مورد الاجتماع وذلك يوجب التبعيض في صدور العـــــامين من وجـــــــه، والخبر الواحـــد لا يتصور فيه ذلك مع أنه يلزم طرح بعض مدلول اللفظ الواحد والعمل ببعضه الآخر وهو باطل لأنه يلزم التبعيض في مدلول اللفظ الواحد. وجوابه ان ذلك واقع في الأخبار فإن العام المخصص بالمنفصل يكون حجة ومحكوم بالحجة في الباقي وغير حجة ومحكوم بعدم الحجية في مورد المخصص فإن الحجية قد تكون ثابتة بالنسبة لبعض مدلول الدليل دون الآخر لمانع من ذلك إجماع أو قرينة عقلية أو نقلية ألاّ ترى إلى ان عمومات أدلة القرعة ثابتة حجيتها في بعض أقسام القرعة دون البعض الذي لم يعمل الأصحاب به.

والحاصل ان هذا تبعيض في الحجية لا تبعيض في الصدور والدلالة وهو موجود في الفقه أكثر من ان يحصى، على ان دليل الترجيح أو التخيير إنما يدل على حجية الراجح بمعنى إنه كاشف عن الواقع لا على أنه صادر حتى يلزم التبعيض في الصدور وسيجيء في الدليل الثالث ما ينفعك في المقام سلمنا إلى ان هذا إنما يلزم في أعمال المرجحات الصدورية وأما أعمال المرجحات المضمونية أو الجهتية فلا يلزم التبعيض في الصدور فلو كان في مادة الاجتماع واحداً منهما موافقاً للكتاب والآخر مخالفاً له فالأخذ بالموافق والترك للمخالف في مادة الاجتماع ليس تبعيضاً في الصدور، ثم ان هذا الكلام فيما لم يكن جمع دلالي بينهما كما إذا كان عموم كل منهما بالوضع وأما لو كان أحدهما بالوضع والآخر بالإطلاق قدّم ما كان عمومه بالوضع وأما لو كان كل منهما بالإطلاق ففي مورد الاجتماع يطرحان لإنهما يكونان من قبيل المجملين فيه لعدم تمامية مقدمات الحكمة بالنسبة لمورد الاجتماع ويرجع للأصول أو للقاعدة أو لدليل آخر ويتمسك بهما في مورد الافتراق.

الوجه الثاني: ان التأمل التام في الأخبار العلاجية يقتضي عدم شمولها للعامين من وجه فلا وجه للرجوع إلى المرجحات في مورد الاجتماع لأن التنافي بين العامين من وجه في مورد الاجتماع ليس من جهة عدم إمكان صدور كليهما كما في المتباينين بل من جهة عدم إمكان اجتماعهما من حيث الدلالة مع ان الظاهر من السؤال في الأخبار العلاجية هو السؤال عن حكم الخبرين المتعارضين المتحير في صدورهما والتعبد بسندهما لا من جهة عدم اجتماعهما في دلالة ولا أقل من الشك في شمول الأخبار العلاجية للعامين من وجه وهو علة تامة لعدم جواز الرجوع إلى المرجحات الموجودة فيها. وجوابه قد عرفته  من الجواب عن الأول.

الوجه الثالث: ان موضوع الأخبار العلاجية هو تعارض الخبرين ونحن لا نحرز دخول الدليلين الذين بينهما عموم من وجه في موضوعها وهو يرجع للدليل الثاني.

وفيه إنا نحرز ذلك لأن موضوع الأخبار العلاجية كل خبرين وقع التحيّر بحسب فهم العرف في العمل بهما من جهة التعارض بينهما والتمانع والتنافي بين مدلولهما عرفاً فيشملهما موضوعها، وأما إذا كان بحسب فهم العرف لا تنافي بينهما كالأظهر والظاهر والعام والخاص جمع  بينهما بحسب ما يقتضيه فهم العرف.

الوجه الرابع: ان الظاهر من الأخبار العلاجية ورودها  في صورة التحيّر الناشئ من الصدور دون الدلالة، ولا ريب ان العامين من وجه كان التحيّر ناشئاً من جهة الدلالة دون الصدور كما يشهد بذلك جواز العمل بهما في مادة الافتراق فإن اللفظ الواحد المشخص لا يتبعض في الصدق بالنسبة لبعض مدلوله والكذب بالنسبة إلى البعض الآخر من مدلوله نفسه.

إن قلت ان  عدم التبعيض إنما لا يصح بالنسبة إلى الواقع وأما بالنسبة إلى التعبد من الشارع كأن يعبدنا بالنسبة إلى بعض أفراد العام بصدور العام ولا يعبدنا بصدور العام بالنسبة لبعض أفراده الأخرى فهو لا محذور فيه.

قلنا لا فرق بين الواقع والظاهر فلا يصح ذلك منه إذ المفروض إنه لفظ واحد وهو غير قابل للتبعيض من جهة الصدور عقلاً وعرفاً فإن صدور هذا اللفظ الواحد من الإمام (عليه السلام  ) وصدق الراوي في نقله عنه يجب تصديقه فيه بالنسبة إلى تمام مدلوله وإلاّ فلا يجوز تصديقه في شيء من مدلوله. والجواب عن هذا الوجه الرابع بأن الأخبار العلاجية يفهم العرف منها بان المتحيّر يرجع إلى المرجحات أو إلى التخيير سواء كان تحيره من جهة الدلالة أو من جهة الصدور فيرجع لوجود المرجح ومع عدمه للتخيير كما هو مقتضى القاعدة المدلول عليها بالأخبار العلاجية الناطقة بالترجيح مع وجود المرجح أو بالتخيير عند فقد المرجح فهما كالمتباينين بالنسبة لمورد افتراقهما على ان للشارع ان يعبدّنا بالبناء والحجية والتصديق بالنسبة لبعض المدلول. هذا كله إذا لم يكن بينهما جمع عرفي وإلاّ جمع بينهما كما لو كان أحدهما عمومه بالوضع والآخر عمومه بواسطة مقدمات الحكمة كما لو قال المولى (أكرم العلماء) و(الشاعر لا تكرمه) فإنه يقيد المطلق بالعام لأن ظهور العام في العموم تنجّزياً بخلاف ظهور المطلق في العموم فإنه معلق على عدم البيان ولا ريب ان العام نِعْمَ البيان ففي مورد اجتماعهما في المثال المتقدم وهو (العالم الشاعر) يقدم العام على المطلق فيثبت وجوب الإكرام له وسيجيء ان شاء الله تحقيق ذلك في تعداد الموارد التي يجمع العرف بين المتنافيين.

المورد الثاني: ما إذا اجتمع الأمر والنهي المعبر عنه بمسألة اجتماع الأمر والنهي، فقد ذهب جمع إلى أنها بناءاً على الامتناع تكون من باب تعارض العامين من وجه ويعاملان معاملة المتعارضين في مورد الاجتماع من  الرجوع إلى المرجحات السندية ومع التساوي إلى أخبار التخيير، وذهب آخرون إلى أنه بناءاً على الامتناع تكون المسألة من باب التزاحم ويرجع فيها إلى مرجحات باب التزاحم، وأما بناء على جواز الاجتماع في المسألة المذكورة وكفاية تعدد الجهة فليس من باب التعارض ولا من باب التزاحم كما هو واضح.

المورد الثالث:  ما إذا كان التعارض بالعرض كما إذا ورد الخبر بوجوب صلاة الظهر وورد خبر آخر بوجوب الجمعة مع قيام الإجماع على عدم وجوبهما معاً، وكما إذا ورد  عام وورد خاصان بحيث يكون التخصيص بهما للعام مستهجن فإنه يكون بين الخاصين تعارض لتكاذبهما إذ لا يصح التخصيص بهما معاً لاستهجإنه فيكون تعارضهما بالعرض فإنه قد يقال بل قد قيل بعدم شمول الأخبار العلاجية لهما لأن موضوعها منصرف عنهما لأن الظاهر منها هو كون الخبرين متعارضين في حد ذاتهما ولعل لذلك نسب للمشهور الحكم بالتساقط. ولكن لا يخفى عليك ما فيه فإن الظاهر هو كون الخبرين متعارضين بالذات أو بالعرض، وقد يقال في الخاصين المذكورين إنهما يعارضان العام لأن العام يكذبهما معاً وهما يكذبان العام.

المورد الرابع: ما إذا كان للعام مخصص يكون التخصيص به للعام مستهجناً فبعضهم ذهب إلى التعارض بينهما لتكذيب كل منهما للآخر، ولكن  المشهور هو العمل بالعام وتقديمه على الخاص. والحق إنهما من باب التعارض لتكاذبهما.

المورد الخامس: ما إذا كان أحد الدليلين عام أو مطلق والآخر خاص أو مقيد فالأكثر على أنه لا تعارض بينهما وأن الخاص أو المقيد يكون قرينة على تخصيص العام أو المطلق فهما نظير الكلام الواحد المقترن بالقرينة الصارفة له عن عمومه وعن إطلاقه كمثل (أكرم العلماء إلاّ الفلاسفة) لأن السيرة العرفية عند سائر الملل والنحل وحتى قبل الإسلام على الجمع بين العام والخاص المتصلين أو المنفصلين بتخصيص العام بالخاص وتقييد المطلق بالمقيد وكان ذلك هو المتبع في محاوراتهم وهذا التقديم ليس من جهة الأظهرية كما في قولنا (أسد يرمي) فإن ظهور يرمي في الرمي بالسهم أقوى من ظهور الأسد في الحيوان المفترس وإلاّ لحمل يرمي على رمي التراب برجليه، فحتى لو كان الخاص أو المقيد مساوياً للعام أو المطلق في الظهور فهو مقدم عليه أيضاً وإنما هو من جهة الارتكاز والبناء من  أهل العرف على قرينية الخاص للعام والمقيد للمطلق وإن صدرا ممن قوله ليس بحجة كالعادي من الناس هذا هو الحال في العام مع الخاص والمطلق مع المقيد في حد ذاتها. نعم قد يكون لظهور العام أقوائية من الخاص بواسطة إعتضاده بأمر خارج وعنده يقدم العام، ويظهر من المحكي عن صاحب القوانين وصاحب الفصول([72]) وبعض المحدثين وينسب لصاحب الكفاية احتماله ان بين ظاهر العام وظاهر الخاص تنافي وتضاد لأنه لا يمكن الجمع بينهما مع الأخذ بظاهر كل منهما. والتعارض ليس إلاّ عبارة عن توارد الدليلين على موضوع واحد مع اختلاف مؤداهما، ولكن لا يخفى عليك ان  التعارض والتنافي بين الدليلين إنما يكون بعد ملاحظة كل منهما مع الآخر فإن التعارض لا يكون إلاّ بين اثنين فصاعداً وإلاّ لو كان يلاحظ كل على انفراده وفي حد ذاته لم يكن حينئذ له معارض. ومن المعلوم  ان العام إذا لوحظ بالنسبة إلى الخاص لا يكون له ظهور في أفراد الخاص ويكون الخاص في التفاهم العرفي قرينة صارفة عن ظهوره وموجبة لتخصيصه بما عداه عند العرف بالشرائط المذكورة في مبحث العموم والخصوص من اختلافهما بالنفي والإثبات وعدم ورود الخاص بعد وقت العمل به ونحو ذلك ولا يرى العرف بينهما تعارضاً ولا تنافياً. وما يترائى من التنافي البدوي بينهما لا يوجب ثبوت التعارض بينهما وإعمال قواعده لأن ذلك لازم الوجود بين كل قرينة وما قامت  على صرفه من معناه حتى القرائن المتصلة ولذا تراهم افردوا البحث عن العموم والخصوص عن باب التعارض وبحثوا عنهما في مبحث العام والخاص ويرشدك إلى قرينة الخاص على العام ان الجمع بين المتعارضين إذا كانا متباينين يحصل بشاهدين خارجين عنهما، وفي العموم وخصوص من وجه يحصل بشاهد واحد خارج عنهما بخلاف الجمع بين العام والخاص إذا صدرا من شخص أو ما هو بحكمه كالأئمة ( عليه السلام   ) فإنه يجمع بينهما بحمل العام على الخاص بلا شاهد على ذلك وليس ذلك إلاّ لصيرورة الخاص عند العرف قرينة على المراد بالعام فلا تجري أصالة الظهور في العموم فيه مع وجود الخاص ولذا لا يجرون العلماء فيهما أحكام التعارض.

إن قلت ان العلماء يقولون ربما يقدم العام على الخاص بالأظهرية. قلنا الكلام في الخاص والعام مع التجرد عن قرينة خارجية وإلاّ فالعام قد يكون أظهر من جهة كونه موافقاً لحكم العقل أو الكتاب الكريم أو كونه في مقام الامتنان كما قدّم عموم (لا يحل دم امريء مسلم ولا ماله إلاّ بطيب نفسه)([73]) و (لا يحل المؤمن ماله أخيه إلا بطيب نفسه)([74]) على صحيحة سيف بن عميرة أو موثقته الدالة على جواز الاستمتاع بأمة المرأة من دون إذنها([75]) مع أنها أخص لأن العموم كان موافقاً للكتاب وهو قوله تعالى: [ فَانْكِحوُهُنَّ بإِذْنِ أهْلِهِنَّ] ([76]) وكان موافقاً لحكم العقل والنقل بقبح التصرف في الأموال المحترمة من دون إذن أربابها، ومثله ما منع بعض أصحابنا من حق المارة مع ورود الرخصة به. ان قلت قد يرجح العام على الخــاص بالشهرة. قلنـــــا أولاً لا نسلم صحة ذلك، وثانياً لعل من رجّحه بذلك من جهة ان الشهرة قادحة في حجية الخاص وموهنة لها فيكون العام سليماً من الخاص المعتبر فإن إعراض المشهور عن العمل بالخبر ولو كان صحيح السند يسقطه عن مرتبة الاعتبار عند بعضهم. ان قلت ان صاحب الرياض قدّم العمومات المخالفة للعامة على المخصصات لها الموافقة للعامة في مسألة زيادة الركعة في الصلاة المكتوبة معللاً وجه التقديم بالتقية. قلنا ان الخاص يقدم في مثل ذلك على العام عند المشهور إلاّ إذا كانت العمومات قد أعرض القوم عن العمل بها إعراضاً يوجب سقوطها لأن العام صار من ضروريات المذهب وإلاّ فمجرد الموافقة للعامة غير موجبة لحملها على التقية للجمع العرفي بينهما فلا تنافي في البين. ان قلت لو كان الخاص قرينة على التصرف بالعام لاقتضى ذلك في سائر الموارد مع ان الخاص إذا كان موافقاً للعام في النفي والإثبات لا يكون قرينة على التصرف بالعام إذ المفروض وجود القرينة وهي الخصوص في هذه الصورة أيضاً مع ان الإجماع قائم على عدم قرينيته فظهر ان كون الخاص قرينة على المراد بالعام عند العرف ليس لمجرد الخصوصية والعمومية بل من أجل فهمهم التنافي بينهما وقوة دلالة الخصوص بحيث يرجح على دلالة العام ولذا تراهم يحكمون ببناء العام على الخاص في المتوافقين إذا كان للخاص مفهوم كما إذا ورد ( أكرم الرجال) ثم ورد (أكرم الرجل إذا كان عالماً) إذ ليس ذلك إلاّ لمجرد التنافي بين منطوق العام ومفهوم الخاص. قلنا القرينة إنما توجب التصرف في ذي القرينة إذا اختلفت معه في الدلالة اما إذا توافقت معه تكون مؤكدة له فإذا قلنا (جاء أسد يرمي التراب برجليه الأربع) فإن يرمي إذ ذاك موافقة للمعنى الحقيقي ولا توجب التصرف في المعنى الحقيقي فكذا ما نحن فيه فإنه مع موافقة الخاص للعام لا يكون الخاص قرينة ومما يؤكد كون تقديم الخاص على العام من جهة كونه قرينة عليه لا من جهة الظهور ان الخاص لو كان بمفهوم المخالفة يقدم على منطوق العام كالمثال المتقدم مع ان المنطوق أظهر من المفهوم. ان قلت ان في بعض الأخبار حكم الإمام (عليه السلام  ) بالتخيير بين العمل بالعام وبين العمل بالخاص ولم يخصص العام بالخاص ففي التوقيع المروي في الإحتجاج([77]) عن الحميري([78]) حيث كتب إلى الحجة الإمام المهدي بن الحسن عجل الله فرجه (يسألني بعض الفقهاء عن المصلي إذا قام من التشهد الأول إلى الركعة الثالثة هل يجب عليه ان يكبر؟   فإن بعض أصحابنا قال لا يجب عليه التكبير ويجزيه ان يقول بحول الله وقوته أقوم وأقعد فكتب (عليه السلام  ) في الجواب ان فيه حديثين اما أحدهما فإنه إذا انتقل من حالة إلى أخرى فعليه التكبير وأما الآخر فإنه روي إذا رفع رأسه من السجدة الثانية وكبَّر ثم جلس ثم قام فليس عليه في القيام بعد القعود تكبير وكذلك التشهد الأول يجري هذا المجرى وبأيهما أخذت من جهة التسليم كان صواباً)([79]) فإن مع كون الخبر الأول عاماً والثاني خاصا حكم الإمام (عليه السلام  ) بالتخيير ولم يأمر (عجل الله فرجه) بحمل العام على الخاص. قلنا مع ان الرواية ضعيفة فلا ريب ان المتكلم لو بيّن مراده لا وجه للأخذ بظواهر الألفاظ والأئمة ( عليه السلام   ) باعتبار أنهم بمنزلة المتكلم الواحد يبين كل منهم كلام الآخر فلهم ان يخيروا بين العام والخاص وان يقدموا العام على الخاص كما هو حق كل متكلم ويكون ذلك بمنزلة القرينة. نعم لو جرد العام والخاص عن البيان للمتكلم بهما حمل العام على الخاص وهو محل الكلام.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الباب الثاني

التعادل

    وفيه ثلاثة فصول:

 

 

الفصل الأول

تعريف التعادل

المبحث الأول

معنى التعادل لغة

التعادل مصدر مأخوذ من عَدَل فلان بفلان عّدْلاً بفتح فسكون إذا ساواه، فالتعادل معناه التساوي بين الشيئين والتماثل بينهما. والعدل بكسر العين وسكون الدال المثل وزيادة التاء والألف للدلالة على المشاركة نظير التصالح والتشارك فيكون كل منهما مشاركاً للآخر في المعادلة أي المماثلة([80]).

المبحث الثاني

تعريف التعادل إصطلاحاً

عبارة عن تساوي الدليلين في الاعتبار والحجية في الواقع بأن لا يكون لأحدهما مزية وقوة على الآخر، كالخبرين الجامعين لشرائط الحجية المتساويين من جميع الجهات والخبرين المتواترين كذلك وكظاهري الكتاب. فالمراد بالواقع هو حسب الوجود الخارجي للحجتين وليس المراد به هو النفس الامري المطابق لعلم الله تعالى، وبعضهم عرّفه  بتساوي الدليلين بحسب اعتقاد المجتهد. وينسب للعميدي([81]) ولصاحب القوانين ( رحمه الله ) ذلك ولا يخفى ما فيه فإن التعادل كالتعارض والترجيح صفة للدليلين في حد ذاتها لا للمتعلق بهما وهو الاعتقاد، وإنما الاعتقاد والظن يكشف عنه كما هو الحال في سائر الموضوعات الخارجية. ومنه ما هو موضوع البحث عندهم ومستقر الاصطلاح بينهم قال السيد كاظم اليزدي([82]) في التعليق على كلام العميدي (ويمكن إرجاعه إلى ما ذكرنا بأن يكون المراد تساوي الدليلين في اعتقاد المجتهد بمعنى عدم المزية لأحدهما في نظره ويكون الاعتقاد طريقاً للواقع لا جزء موضوع).

 

 

الفصل الثاني

تعادل الأمارتين

إن تعادل الأمارتين قد يكون في حكم شرعي كالأمارة القائمة على وجوب شيء والأمارة القائمة على حرمته، وقد يكون في موضوع الحكم الشرعي كالأمارتين المختلفتين في تعيين القبلة مع تساويهما وقد يكون في الحكم والقضاء كاليدين والبينتين المتساويتين.

والظاهر انه لا نزاع في إمكانه ووقوعه وتعقل وقوعه في الأمور العادية وفي غير الأحكام الشرعية ومحل البحث هنا هو التعادل في أدلة الأحكام الشرعية وموضوعاتها لانه هو الأنسب بعلم الأصول ولو ذكروا التعادل في غيرها من البينات أو الأيدي ونحوها فهو على سبيل الاستطراد كما انه قد تعارف ان يكون بحثهم هو التعادل الأدلة والأمارات، وأما تعادل الأصول العملية فهو يذكر في مباحثها للاختلاف بين المبحثين في الأحكام وكيف كان فمحط البحث هنا هو تعادل الأدلة الدالة على ما هو وظفية المشرع بيانه فيعم أدلة الأحكام وأدلة موضوعاتها التي من شانها ان يبينها المشرع ككيفية الصلاة وأجزائها وشرائطها، وقد ذهب المشهور إلى وقوعه في الأحكام الشرعية، وحكي إنكار وقوعه فيها عن أحمد بن حنبل([83]) والكرخي([84] وأحسن رد عليهم هو وقوعه في فتوى المجتهدين المتساويين المختلفين في الفتوى بالنسبة إلى المقلد لجواز التقليد له لأيها شاء وكيف يمنع وقوعه فإن المقام قد يقتضي الإيهام والإبهام للتقية أو غيرها.

والحاصل انه من الممكن ان تكون الحجتان متعارضتان ومتعادلتان بحسب وجودهما الخارجي الفعلي لعارض طرأ عليهما من نقصان أو زيادة أو لصدورهما من المبلغ للشرع كذلك لأغراض خاصة.

الحكم الأول
مقتضى القاعدة للمتعادلين

لقد وقع النزاع في ما هو مقتضى الأصل في المتعارضين إذا تعادلا وتساويا ولم يكن لأحدهما مرجح على الآخر أو محتمل المرجحية به وعدم انحصار التكليف فيهما كأن دل أحدهما على الوجوب والآخر على الإباحة إذ لو انحصر التكليف بهما كأن دل أحدهما على  الصحة والآخر على الفساد فلا إشكال في التخيير بينهما لدوران الأمر بينهما هذا مع قطع النظر عن الأحاديث والروايات المتضمنة لبيان حكم المتعارضين لانها إنما تكفل بيان حكم المتعارضين في خصوص الأخبار وعلاج تعارضها، وقد بحثوا فيها في باب التراجيح وسيجيء ان شاء الله الكلام فيها. والثمرة في هذا البحث هو معرفة حكم المتعارضين المتعادلين من غير الأخبار من الأدلة على الأحكام الشرعية كالآيات والاجماعيين المنقولين والظنون النوعية المعتبرة المتعارضة ومن الأدلة على الموضوعات الخارجية كالبينات ونحوها إذا تعارضت. إذا عرفت ذلك فنقول:

اختلفوا في مقتضى الأصل في المتعارضين المتعادلين هل هو التساقط كما هو المنسوب لصاحب المفاتيح([85]) بمعنى يكون وجودهما كعدمهما ويرجع الأصل أو القاعدة الموجودة في موردهما ولو كان أو كانت مخالفة لهما كالاستصحاب فيما كان له حالة سابقة أو البراءة فيما كان من الشك في التكليف نفسه أو الاحتياط فيما كان الشك في المكلف به أو التخيير فيما دار الأمر بين محذورين، وهذا القول قد نسب لأهل السنة وللعلامة الحلي في النهاية واختاره من المتأخرين السيد كاظم اليزدي ولكن النسبة غير موافقة للمحكي من كلام العلامة الحلي لانه نقل القول بالتخيير والقول بالتساقط من دون ترجيح لأحدهما فلو كان مرجحاً للتساقط لرجحه على التخيير بل حكى بعضهم عنه في التهذيب انه يقول بالتخيير أو انهما يتساقطان في مدلوليهما المطابقي ولا يتساقطان فيما اتفقا دلالة عليه فلا يجوز الرجوع في موردهما إلى الأصل أو القاعدة المخالفة لهما كما هو رأي المرحوم الآخوند  ( رحمه الله ) صاحب الكفاية ورأي المرحوم النائيني([86]) وإن اختلفا في المسلك كما سيجيء ان شاء الله بيان ذلك، أو انه يتوقف عن تعيين أحدهما للحجية فيتوقف عن ان يفتي بمضمون أحدهما ويعمل بأحوطهما إذا أمكن وإلاّ تخير في العمل بينهما كما هو المنسوب للإخباريين، والمراد بالاحتياط هو الأخذ بأحوط الدليلين بعد فرض ان الحجة غير خارجة عنهما وليس المراد به الاحتياط في المسألة بمعنى انه لو دل خبر على الإباحة والآخر على الكراهة واحتمل الحرمة فلا يلزم عليه الترك كما هو مقتضى الاحتياط في المسألة، بل يتخير في الأخذ بأحدهما بمعنى ان الحجية ثابتة لكل منهما مخيراً في العمل بأيهما نظير الوجوب التخييري في المتزاحمين كما هو المنقول عن الشيخ الطوسي ( رحمه الله ) في العدة والاستبصار وعن المحقق الحلي([87]) في المعارج وعن المعالم عدم الخلاف فيه وهو المشهور عن محققي أصحابنا، وينسب إلى الجبائيان والقاضي أبي بكر([88]) من الاشاعرة وللغزالي([89]) في المستصفى، بل ذكر المرحوم المحقق الشيخ أحمد بن الحسين انه هو المشهور المعروف بين الأصحاب بل نقل الإجماع عليه مستفيض، بل لعله محقق كما ذكره بعضهم إذ القول بالتساقط والتوقف لم ينسب لقائل معروف وظني ان القول بهما في المسالة من أهل السنة فضعفه مما لا ريب فيه كما يظهر من محكي النهاية.

أدلة القائلين بالتساقط

الدليل الأول: هو لابد من توضيح منا من ان الإحتمالات المتصورة في أدلة حجية الأمارات أربعة:-

الإحتمال الأول: ان يكون دليل الحجية شاملاً لكلا المتعارضين وهو غير صحيح لعدم طريقية أحدهما للواقع ولعدم إمكان التعبد بالمتعارضين فإن التعبد بهما يرجع إلى التعبد بالمتناقضين وهو غير معقول، ودعوى تقييد التعبد بكل منهما بترك الأخذ بالآخر أو تقييده بالأخذ به نفسه فاسدة، لانه مضافاً إلى عدم وجود هذا التقييد في أدلة حجية الأمارات فإن لازم التقييد بترك الأخذ بالآخر ان يكون كل من المتعارضين متصف بالحجية إذا لم يأخذ بأحدهما لتحقق شرط الحجية وهو ترك الأخذ بالآخر ولازم ذلك وجوب الأخذ بالمتعارضين معاً وهو باطل، ولازم التقييد بالأخذ به نفسه سقوطهما عن الحجية عند عدم الأخذ بهما معا وهو خلاف المطلوب لأن المطلوب إثبات حجيتهما على ان لازم التقييد المذكور ان تكون الحجية باختيار العبد ولا ملزم له. نعم لو تمت الأدلة الدالة على التخيير بين المتعارضين فهي بنفسها تدل على الأخذ بأحدهما مخيراً ولكن كلامنا مع قطع النظر عن الأخبار العلاجية على انها مختصة بخصوص المتعارضين من الأخبار.

الإحتمال الثاني: ان يكون دليل الحجية شاملاً لأحدهما بعينه دون الآخر وهو أيضاً باطل لبطلان الترجيح بلا مرجح ولأن المتعارضين ما لا يتميز المانع منهما من الممنوع بأن يصلح كل منهما للمانعية والممنوعية. نعم الحجية لأحدهما بعينه تتصور في الحاكم والمحكوم والوارد والمورود.

الإحتمال الثالث: ان يكون شاملاً للفرد المردد أي لأحدهما لا على التعين وهو باطل أيضاً لانه لم يفهم ذلك منه عرفاً ولانه مفهوم انتزاعي من الأفراد الخارجية لا تحقق له في الخارج في قبالها ولأن أفراد العام الخارجية محكومة بحكم العام قطعاً لوضع اللفظ للعموم والفرد المردد عبارة عنها ومنطبق عليها فلو كان مشمولاً للعام للزم الحكم عليه بحكم العام وهو غير مفهوم منه مضافاً إلى انه تكرار بلا طائل وهو تحصيل حاصل، وإن كان بحكم  غيرها للزم المخالفة. وبعبارة أخرى ان الحكم على الفرد المردد ان كان موافقاً للحكم على الأفراد الخارجية فهو غير مفهوم منه ولغواً إرادته من المتكلم وإن كان مخالفاً له لزم المخالفة بين المنطبقي والمنطبق عليه فيتعين عدم إرادته.

الإحتمال الرابع: وهو عدم شمولهما وهو يقتضي سقوطهما عن الحجية والرجوع إلى الأصول أو القواعد وإن كانت مخالفة لهما. وجوابه انه شامل لكل من المتعارضين ولكن العقل يخير بينهما لعدم إمكان العمل بهما معاً كما هو شأن المتزاحمين اللذين هما فردان لواجب واحد كإنقاذ الغريقين وإلاّ فمقتضى هذا الدليل لو تم ان لا يكون المتزاحمان اللذان هما فردان لواجب واحد متزاحمين ويسقط الواجب عنهما لمجيء الدليل نفسه فيهما فيقال ان الإحتمالات أربعة لأن دليل ذلك الواجب كدليل وجوب إنقاذ الغريق أما ان يشملهما معاً وهو غير صحيح لعدم إمكان التعبد بهما لرجوعه إلى التعبد بالمتناقضين وهو انقذ هذا ولا تنقذ غيره وانقذ ذاك ولا تنقذ غيره ولا يشمل لأحدهما المعين وإلاّ لزم ترجيح بلا مرجح ولا للفرد المردد أي لأحدهما لا على التعين لانه فرد انتزاعي من الأفراد الخارجية فيتعين سقوطهما عن الوجوب. فالحق ان دليل الحجية شامل لهما كليهما لأن شمول العام أو المطلق لأفراده قهري لأن شموله من جهة انطباقه عليها والانطباق قهري. نعم تخير بين أفراده غير الممكنة الاجتماع بحكم العقل فإن العقل لما يرى كل منهما جامعاً لشرائط الحجية في الظاهر ولا يجوز طرحهما معاً للدليل الدال على اعتبارهما وإن العمل بأحدهما معيناً ترجيح بلا مرجح يحكم بالتخيير لا محالة وإحتمال بطلانهما معاً في نفس الأمر غير قادح في حكم العقل بعد ثبوت اعتبارهما في الظاهر ووجوب العمل بهما عيناً، ودعوى ان هذا لا يتم فيما تعارضت الأمارتان في التسبيبات والأحكام الوضعية فإن الأحكام الوضعية أما أمور واقعية أو مجعولة شرعية من دون مدخلية لاختيار المكلف في ترتب آثارها فلا معنى لاختيار المكلف بكون المال أرث للزوجة أو عدمه فيما لو تعارضت الأخبار في الأرض التي يملكها الزوج ولا في كون العقد صحيح مؤثر للنقل والانتقال وعدمه كعقد الصبي فاسدة، لانها مجرد استعباد ولا أثر له بعد حكم العقل بالاختيار والتخيير فإن التخيير إنما هو في أخذ الحجة والعمل بها في الحكمين نفسهما الذي دل عليهما المتعارضان. ان قلت على هذا يلزم استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد لانه يلزم منه ان يدل دليل الحجية على الوجوب العيني في الأمارة التي لا معارض لها والوجوب التخييري في الأمارة التي لها معارض. قلنا لما كان وجوب الإطاعة لأوامر المولى مخصوص بصورة التمكن ومقيد بها وحيث ان العبد لم يتمكن من إطاعة أمر المولى بالعمل بالمتعارضين وعجزه عن ذلك وكان تمكنه لأحدهما مخيراً كان دليل الحجية يقتضي التخيير بواسطة حكم العقل فالمقتضي للعمل بهما موجود وهو شمول الدليل لهما وإنما كان هناك مانع من الامتثال لهما معاً مجتمعين وهو العجز وعدم التمكن وذلك يقتضي التخيير بينهما لزوال المانع من التخيير وهو العجز وزوال عدم التمكن منه وليس ذلك لعدم المقتضي لحجيتهما حتى يقال بسقوطهما عن الحجية.

والحاصل ان دليل الحجية يقتضي وجوب العمل بكل منهما عينا وسلوكهما معاً ولا يعذر بتركهما معاً فيكونان نظير المتزاحمين فلا يجب على المكلف بحكم العقل بعد عجزه عن امتثالهما معاً إلاّ العمل بأحدهما مخيراً لانه هو المقدور له نظير الواجب المخير إذا لم يتمكن إلاّ من أحد أفراده فانه يتعين عليه بحكم العقل فالتخيير هنا والتعين هناك إنما هو بحكم العقل من جهة ماطرأ عليه من العوارض الخارجية نظير المكروه والمستحب والمباح بل والمحرم إذا طرأ عليها من العوارض ما يجعلها واجبة عليه فلا يلزم التصرف في خطاب الشرع في دلالته على التعيين لأن التصرف إنما كان في تنجّزه لا في نفسه وهو راجع للعقل. ان قلت ان  هذا إنما يتم بناءاً على السببية في جعل الحجية للأمارات والأدلة بأن يكون قيام الحجية على الحكم سبباً شرعياً لجعله ظاهراً وأما بناءاً على الطريقية والكاشفية فيقتضي سقوط المتعارضين عن الحجية بتعارضهما لانه تزول عنهما الكاشفية عن الواقع للعلم الإجمالي بكذب أحدهما ولا ريب ان الأدلة حجيتها من باب الكشف لا باب السببية. قلنا مرادنا ان أدلة الحجية تدل على وجوب العمل والسلوك بالأمارة وإلاّ فقد لا يكون بين مدلولي المتعارضين تزاحم كما لو دل أحدهما على وجوب الظهر والآخر على وجوب الجمعة فتكون أدلة الاعتبار والحجية بالنسبة إلى الأمارات المتعارضة كأدلة الأحكام بالنسبة لأفرادها المتزاحمة وهذا لا فرق فيه بين البناء على السببية أو الطريقية. وأما دعوى ان العلم الإجمالي بكذب أحدهما يزيل المناط في حجيتهما وهي الكاشفية عنهما فهي باطلة، فإن المناط هو غلبة الكاشفية لا الكاشفية نفسها عن الواقع سلمنا لكن هي حكمة لجعل الحجة ولا ريب عدم اعتبار الاطراد في الحكمة وإنما الاطراد معتبر في العلة على انه لو كان الأمر كذلك لزالت الكاشفية والطريقية عن سائر الأمارات للعلم الإجمالي بكذب الكثير منها والحال ان صفة الكاشفية موجودة في كل واحدة منها فإن صفة الكاشفية متقومة بالحكاية عن الواقع مع احتمال المطابقة وهما موجودان في كل واحد من الأمارتين فلو أخذ بأحدهما كانت حاكية عن الواقع مع احتمال مطابقتها له. نعم العلم التفصيلي بكذب أحدهما مزيل للكاشفية عن الواقع لانه به يزول إحتمال المطابقة للواقع على ان الملاك بناءاً على الطريقية هو غلبة الوصول إلى الواقع عند المشهور ومن المعلوم ان الغلبة المذكورة توجد في النوع وقضية ذلك عدم سقوط الأمارة عن الاعتبار لو وقع التعارض بين الأفراد لوجود مناط الاعتبار فيهما وهي غلبة الإيصال في نوع المتعارضين فكل منهما حين المعارضة متصف بتلك الغلبة باعتبار نوعه فلا وجه للحكم بالتوقف أو السقوط حال التعارض واللازم على المكلف حينئذ العمل والأخذ بكل منهما عملاً بأدلة الحجية الدالة على وجوب الأخذ بهما عموماً أو إطلاقاً لكن لما كان الفرض عدم التمكن من ذلك حكم العقل بالأخذ بأحدهما تخييراً إذ لا معين لأحدهما بخصوصه نظير المتزاحمين ومما يشهد لذلك ما نشاهده من ذهاب العلماء طراً في باب تعارض المجتهدين إلى تخيير المقلد عند تساويهما أو مطلقاً مع عدم ورود ما يدل على التخيير بينهما كما في أخبار التعارض وليس ذلك إلاّ من جهة فهمهم عدم سقوط مصلحة غلبة الإيصال بسبب التعارض. نعم بناءاً على اعتبار الأدلة من باب الانسداد فتكون حجيتها مبنية على حصول الظن الشخصي ولا يكفي الظن النوعي وغلبة الإيصال فبالتعارض يزول الظن وتسقط عن الحجية.

الدليل الثاني: على التساقط: ما ينسب للسيد محمد الطباطبائي صاحب المفاتيح هو ان دليل الحجية أما لبي من إجماع ونحوه والذي يؤخذ به منه هو القدر المتيقن منه، وهو غير المتعارضين لانه ليس فيه عموم أو إطلاق يشمل المتعارضين ليكون مدعي الاختصاص محتاجاً إلى مخصص أو مقيد، وأما لفظي وهو منصرف عن المتعارضين كما يشهد بذلك حسن الاستفهام عن العمل في صورة التعارض في بعض الأخبار فإن حسن الاستفهام دليل على عدم  شمول دليل الحجية للمتعارضين وإلاّ كان اللازم الأخذ به وكان الاستفهام قبيحاً فيتساقطان عن الحجية بالكلية فيرجع في موردهما للقاعدة أو الأصل وإن كان مؤداهما حكماً ثالثاً مخالفاً للمتعارضين. وجوابه منع كون القدر المتيقن  من اللبي غير المتعارضين بل هو من المتيقن حجيتهما عندهم لأن  التعارض لا يعقل ان يعرض على الأدلة  إلاّ بعد ان تكون تامة الحجية في نفسها وإلاّ لكانت من قبيل ضم العدم بعضه إلى بعض لا من قبيل مقابلة حجة بحجة ولا ريب ان  العقلاء يرون التعارض بين الأدلة عندهم ويقفون متحيرين في المراد منها وتوجيهها فلو كانت ليست بحجة لم يروا تعارضا ولا تقابلاً لانه يكون من قبيل ضم عدم إلى عدم.

إن قلت ان  التعارض يزيل الحجية عنهما بعد عروضه عليهما نظير التعارض بين الأصول الموجب لتساقطهما عن الحجية وزوال الحجية عنها بعد التعارض كالتعارض بين  الأصول اللفظية كتعارض أصالتي الحقيقة والتعارض بين الأصول العملية كالاستصحابين. قلنا ان هذه دعوى تحتاج إلى الإثبات ومع ثبوتها لا حاجة لدعوى عدم شمول الإجماع للمتعارضين في إثبات سقوطهما عن الحجية وأما قياس المقام بتعارض الأصول فهو لا وجه له لانه في تعارض الأصول يزول مناط الحجية. أما زوال مناط حجية الأصول اللفظية عند التعارض فلانها كانت حجة من باب الظهور ومع التعارض لا يحصل الظهور بها ولذا العقلاء لا يبنون على حجيتها فهي نظير الأدلة المعتبرة من باب الظن بناءاً على الانسداد في سقوطها عن الحجية عند التعارض لعدم  إفادتها الظن الفعلي عند التعارض فتسقط عن  الحجية. وأما الأصول العملية فكذلك فإن من قال بسقوطها إنما يقول به من جهة العلم الإجمالي بخلافها المأخوذ عدمه في حجيتها إذا لم تكن بعضها مقدمة على بعض كما لو كانت بينها حكومة. وأما فيما نحن فيه فالمناط للحجية باقٍ فيهما وهو انطباق دليل الحجية عليهما وهو يقتضي العمل بهما لكن العقل لما رأى عدم إمكان العمل بهما معاً حكم بالتخيير بينهما كإنقاذ الغريقين، وكإطفاء الحريق وإنقاذ الغريق.

الدليل الثالث: وقد ذكرناه في المجلد الثاني من كتابنا النور الساطع في الفقه النافع([90]) ص(441) ان أدلة حجية المتعارضين إنما تدل على الحجية بشرط القدرة على العمل بهما فيسقط الدليل عن الحجية عند عدم القدرة على ذلك. وقد أجبنا عنه هناك بما حاصله ان عدم القدرة لا يوجب سقوط الحجية على الإطلاق لأن إشتراط القدرة لو سلمنا انه شرط للتكليف لا للعمل به فهو شرط يقتضيه العقل وهو إنما يقتضي شرطيته بمقدار حكم العقل بعدم التمكن من العمل وفي المتعارضين يمكن العمل بأحدهما نظير ما لو كان الخبر بلا معارض ولم يتمكن من العمل به في بعض الحالات فانه لا يسقط عن حجيته في حال التمكن منه. نعم لو كانت الحجية مقيدة بعدم وجود المعارض سقطا عن الحجية.

الدليل الرابع:  انه يستحيل عقلاً جعل طريقين متخالفين في المؤدى للواقع لأن الواقع واحد فيكف يجعل له ما يخالفه. وجوابه كما أشرنا إليه في كتابنا المذكور ان شأن  كل أمارة مجعولة ان تكون بعض أفرادها مخالفة للواقع وهي مع ذلك مجعولة بالجعل العام للمصلحة العامة فتنجعل بذلك تلك الأفراد المخالفة للواقع معها لعدم إمكان اشتراط الجعل بخصوص المطابقة لعدم معرفته ولعدم الفائدة بجعله كذلك لانكشاف الواقع بإحراز المطابقة فلا فائدة في الجعل، هذا مضافاً إلى انه ان أراد بعدم شمول الإجماع للمتعارضين هو من جهة الخلاف في حجية المتعارضين حيث ان بعضهم قال بالتساقط وبعضهم بالتوقف ففيه منع وجود مخالف معتد به في المقام يمنع من انعقاد الإجماع إذ ليس المخالف إلاّ بعض أهل السنة وما نسب إلى العلامة الحلي من القول بالتساقط قد أنكره بعضهم ولو فرض وقوع الخلاف من أصحابنا فهو من قبيل الشواذ مع انه قد ذكر السيد شارح الرسائل([91]) ان هذا الخلاف لا يضر بدعوى الإجماع حتى لو لم يكن من الشواذ لأن الإجماع قائم على حجية كل خبر ما لم يقم دليل على عدم حجيته والقائل بالتساقط معترف بهذا الإجماع وإنما يدعى انه في المقام ان التنافي مانع من الحجية.

وأما القول بالتوقف فهو مؤكد للإجماع على الحجية ضرورة انهما لو لم يكونا حجة لما جاز التوقف بعد فرض الأصول المعتبرة في مورده إذ عدم الرجوع إليها لا يكون إلاّ من جهة وجود الدليل الاجتهادي المعتبر المعارض بمثله المانع من الرجوع إلى الأصول المعلقة اعتبارها على فقد الدليل الاجتهادي. وإن أراد بعدم شمول الإجماع للمتعارضين هو من جهة انه يمتنع العمل بهما فلا يعقل شمول الإجماع على الحجية لهما فيرد عليه ان التمانع في مقام العمل لا يوجب سقوطهما عن الحجية في مقام الجعل بل هو يقتضي حجيتهما الذاتية وإلاّ لما تمانعا في  العمل ويرجع في ذلك إلى حكم العقل في إطاعتهما. وأما دعوى انصراف الدليل اللفظي إلى غير المتعارضين فهي باطلة لأن التعارض لا يكون إلاّ بعد انطباق العنوان في الدليل اللفظي عليهما وانطباقه موجب لشموله لهما قهراً. وأما دعوى حسن الاستفهام فهي لا شهادة لها على المدعى بل هي على خلافه أدل إذ لو لم يكن دليل الحجية يشملهما وكان منصرفاً عنهما لما حسن الاستفهام إذ هما حينئذ ليسا بحجة فانه يكفي في عدم الحجية أصالة حرمة العمل بغير العلم فاستفهام المخاطب عن وظفيته عند التعارض وكيفية علاجه له وما هو عمله يستكشف منه ان المتعارضين مشمولان لدليل الحجية عنده لأن ذلك إنما يكون بعد ان يكون المتعارضان باقيين على حجيتهما عنده.

الدليل الخامس: على التساقط، ان العلم الإجمالي بكذب أحدهما يزيل الكاشفية والطريقية للواقع عنهما والشارع أو المقنن إنما نصبها بملاحظة غلبة كاشفيتها وإيصالها إلى الواقع فملاك حجيتها ودليليتها هو إيصالها إلى الواقع وكشفها عنه ومع التعارض لا يجوز العمل بهما معاً لتنافيهما دلالة ولا بأحدهما تخييراً لخروجه عن الطريقية والكاشفية عن الواقع للعلم بخروج أحدهما غير المعين عن الطريقية للواقع فيكون الطريق منهما مشتبه بغيره ومع اشتباه الطريق وعدم تشخيصه يخرج المشتبه عن الطريقية والكاشفية لعدم انكشاف الواقع به عند المشتبه فيسقطان عن الحجية بالكلية في مدلولهما المطابقي والالتزامي ويرجع للأصل أو القاعدة التي هي في موردهما وإن كانت مخالفة لهما وقد تقدم منا في ضمن دليلهم الأول نظيره. وجوابه ما تقدم منا في ضمن جواب دليلهم الأول على أنا لا نسلم ذلك فإن كل منهما فيه الكاشفية لإحتمال صدقه وجمعه بشرائط الحجية ولو سلمناه فإن العلم الإجمالي بالكذب إنما يمنع عن حجية أحدهما لا بعينه دون الآخر لانه إنما تعلق بأحدهما لا بعينه والمانع إنما يمنع بمقدار ما تعلق به وهو أحدهما لا بعينه فيكون الآخر باقٍ على حجيته وإنما لا يتمسك به في مدلوله المطابقي لعدم تميزه وتعينه وأما مدلوله الالتزامي وهو نفي الحكم الثالث المخالف لهما فحيث انه مدلول لهما فيكون مدلولاً للحجة منهما فيصح التمسك به لنفي الحكم الثالث المخالف.

الدليل السادس: على التساقط، انه لا إشكال في شمول أدلة الحجية للأمارات عند إنفرادها وعدم تعارضها ويراد منه وجوب العمل بها عيناً فلو شمل المتعارضين فلابد ان يراد به غير الوجوب العيني كالتخييري أو التوقف أو نحو ذلك لاستحالة وجوبهما عيناً فيلزم استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد في الوجوب العيني وفي غيره وهو غير جائز، أو يراد من اللفظ العمل بأحدهما الكلي أعني المفهوم المنتزع منها أعني الفرد المردد بين أفراد هذا الكلي وهو باطل إذ هو ليس من أفراد العام لأن أفراده هي الموجودات الخارجية وليس الواحد على البدل فرداً  آخراً بل هو عنوان منتزع منها وليس فرداً خارجياً في عرض سائر الأفراد ليشمله لفظ العام ولذا لا يحكم عليه بحكم الأفراد الخارجية بعد الحكم عليها لا حكماً موافقاً للزوم تحصيل الحاصل ولا مخالفاً للزوم التناقض. ويمكن الجواب عنه انه لا يلزم استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد فإن دليل الحجية إنما يدل على وجوب العمل بالأمارة عيناً في صورة الإنفراد والمعارضة لكن بضميمة دلالة العقل على عدم إمكان الجمع في العمل بهما يحكم بالتخيير أو نحوه فالتصرف إنما جاء من قبل العقل من جهة التنجّز وملاحظة طريق الإطاعة وهو المحكم في ذلك وليس هناك تصرف في دلالة اللفظ حتى يلزم استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد ألاّ ترى ان قوله تعالى: [ أَقِمِ الصَّلَواةَ لِدُلوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ الَّليْلِ ] ([92]) إنما يفيد الوجوب العيني فإذا حصل مزاحم كصلاة الآيات ونحوها حال ضيق وقت الفريضة تخير المكلف بينهما وليس ذلك من جهة استعمال أقم في الوجوب العيني والتخييري بل من جهة ان العقل في مقام الإطاعة بعد استكشافه رضاء الشارع بالعمل بكل منهما يحكم بالتخيير بينهما فيتخير المكلف بينهما، وهكذا مثله لو ابتلى بإطفاء حريق وإنقاذ غريق كانا واجبين عليه وهكذا الحال فيما لو تزاحم الفردان من الواجب العيني كإنقاذ الغريق فيما لو ابتلى بغريقين. وأما دعوى انه يلزم ان يكون المطلوب واحداً مردداً بين أفراد الكلي لو لم نقل بالتساقط فإنما تتم لو أريد بها وجوب العمل بواحد من الكلي مردداً بين أفراده بعد نفي وجوب العمل بكل واحد بعينه فانه غير معقول قطعاً إذ هو نظير ان يقول ان هذا الشيء ليس بجسم وذاك الشيء ليس بجسم ولكن أحدهما المردد جسم فانه لا ريب في عدم تعقل ذلك ضرورة ان أحدهما المردد الذي هو العنوان الكلي غير خارج عن الفردين الخارجيين لانه أمر اعتباري انتزاعي منهما، وأما لو أريد به ان كل منهما يجب العمل به بالذات لكن قد انتفى الوجوب الفعلي عن واحد منهما بالعرض لعدم إمكان العمل بهما معاً كما في إنقاذ الغريقين فيكون الواجب أحدهما على سبيل التخيير فهو أمر صحيح متعقل.

الدليل السابع: انه في صورة التعارض نعلم بكذب أحد الخبرين أما لكذب الراوي أو لإرادة خلاف الظاهر منه أو لصدوره تقية أو لسقوط بعض القرائن المزيلة  لتعارضه أو نحو ذلك ولا ريب في عدم وجوب العمل به في الواقع بل حرمة العمل به فهو خارج عن دليل الحجية فيكون دليل الحجية بالنسبة للمتعارضين مخصص بأحدهما إجمالاً لا لأن الحجة خصوص الصادر الواقعي حتى يقال ان هـــذا التقييد لا يصح وإلاّ لزم ان يحرز في الخبر الذي هو حجة انه صادر واقعاً ومعه لا حاجة للتمسك في حجيته بدليل اعتباره على ان الملاك في الحجية وجود شرائطها لا المطابقة للواقع وإنما الموجب للتخصيص دليل اعتبارهما هو العلم بعدم وجوب العمل بما خالف الواقع منهما إجمالاً بل حرمته فهو نظير دليل اعتبار الأصول العملية فيما إذا تعارضا فانه يكون مخصصاً بالعلم بمخالفة أحدهما للواقع فيسقطان عن الحجية، بل نظير سائر العمومات فلو ورد (أكرم العلماء) وعلمت إجمالاً عدم وجوب إكرام أحد هذين العالمين يسقط العموم بالنسبة إليهما. وأجيب عنه:

أولاً: كما ذكره السيد كاظم اليزدي بما حاصله ان لازم ذلك سقوط سائر أنواع الأمارات المعتبرة عن الحجية للعلم في وجود أفراد مخالفة للواقع في كل نوع منها وإن لم تكن متعارضة بل سائر العمومات لحصــول هــذا العلم الإجمالي فيها مع انه لا يتوقف أحد في العمل بها ولا يعتني العرف بهذا العلم الإجمالي في التمسك بها.

ثانياً: الخبر المخالف للواقع حجة إذا كان جامعاً للشرائط إلاّ إذا علم تفصيلاً مخالفته للعلم بعدم إرادة الشارع للعمل به لأن دليل الحجية إنما جعلها للوظفية ظاهراً ولازمه ذلك.

أدلة القائلين بسقوط المتعادلين في مدلولهما المطابقي وبعدم سقوطهما في نفي الحكم المخالف   

استدل من قال بأن المتعارضين يتساقطان في مدلولهما المطابقي ويؤخذ بما دلا عليه التزاماً من نفي الحكم المخالف لمدلولهما المطابقي فلا يرجع لأصل أو  قاعدة تدل على خلاف مدلولهما المطابقي بوجهين:

الوجه الأول: وينسب للشيخ الأنصاري ( رحمه الله ) ([93]) هو انه مع العلم الإجمالي بأن أحدهما هو الواقع فلا إشكال لأن العلم الإجمالي يمنع من إجراء الأصل على خلافه إذا تنجّز على ما حرر في مبحث الاشتغال وأما مع عدم العلم الإجمالي بذلك كما لو دل أحدهما على الوجوب والآخر على الحرمة واحتمل ان الواقع هو الإباحة فالوجه في ذلك هو ان كل منهما يمنع من حجية الآخر في مورد تصادمهما وتعارضهما وهو المعنى المطابقي لهما، وأما في غير مورد التعارض وهو المعنى الالتزامي فكل منهما يبقى على حجيته  حيث لا رافع لها عنه كما لو كان كل منهما يدل على نفي الإباحة ضمناً كأن قال أحدهما ان العمل الفلاني واجب وليس بمباح وقال الآخر انه حرام وليس بمباح فانهما يدلان على نفي الإباحة ضمناً. والحاصل انهما إنما يتساقطان في مدلولهما المطابقي الذي هو مورد تعارضهما وتصادمهما دون مدلولهما الالتزامي الذي لا تعارض فيه بينهما بل هما متعاضدان فيه بل هما ظاهران فيه لانهما يدلان عليه بالالتزام ولا ريب انهما يدلان بالالتزام على نفي ماعداهما من الأحكام فلا يرجع للأصل أو القاعدة إذا أثبتت حكماً آخر غير دالين عليه إذ يلزم منه المخالفة مطلقاً كما هو مذهب جماعة من ان الأصل أو القاعدة لا يرجع إليهما إذا لزم من ذلك المخالفة سواء كانت عملية أو علمية أو إذا يلزم منه المخالفة العلمية كما عند آخرين ممن يجّوز المخالفة العلمية الالتزامية ويمنع من المخالفة العملية ففي مورد التعارض سواء كانا متباينين أو بينهما عموم من وجه لا يجوز الرجوع إلى الأصل المنافي لمدلولهما لعدم تساقطهما فيه وإنما يرجع إلى الأصل أو القاعدة غير المخالفة لهما ومع عدمهما يتخير بينهما، أما وجه رجوعه إلى الأصل غير المخالف لهما في موردهما  فهو لعدم الدليل على حكمه فيرجع  للأصل فيه، وأما وجه التخيير عند عدم الأصل والقاعدة فلانه لا يجوز له العمل بغير مؤداهما فالعقل يحكم عليه بالتخيير بينهما ويسمى هذا التخيير بالعذري لأن المكلف معذور في العمل بأيهما شاء لأن العقل يضطره إلى العمل بأحدهما، والمنقول عن المرحوم الاراكي جعل الميزان في الأصل المخالف والموافق في الأحكام الخمسة هو ما كان مخالفاً مع القدر المشترك بين المدلولين وما كان موافقاً له فذكر ان المتعارضين إذا دل أحدهما على وجوب شيء ودل الآخر على حرمته فالقدر المشترك بينهما هو الإلزام فتكون الأصول المثبتة للأحكام الثلاثة الترخيصية مخالفة والأصل الموافق هو المثبت للوجوب أو الحرمة وإذا دل أحد المتعارضين على الوجوب والآخر على الإباحة اللاإقتضائية التي تجتمع مع الحكم الإلزامي فالأصول الدالة على الأحكام الترخيصية الثلاثة موافقة فضلاً عن الأصل الدالة على أحد المؤديين إذ القدر المشترك هو الأذن في الفعل وهذه الأصول لا تخالفه. وكذا إذا دل أحدهما على الحرمة والآخر على إباحة اللاإقتضائية فالأصول الجارية في الأحكام الترخيصية توافق القدر المشترك هو الأذن في الترك. نعم لو كان  مؤدى الدليل المعارض هو الإباحة الفعلية كان القدر المشترك هما الحكمين الاقتضائيين فتكون الأصول الجارية في الأحكام الترخيصية مخالفة للطرفين وإذا دل أحدهما على الوجوب والآخر على الكراهة فيكون القدر المشترك بينهما هو الطلب المشترك بين الفعل والترك فيكون الأصل الجاري هو الموافق لأحدهما والأصول الجارية في الإباحة والاستحباب أصول مخالفة للقدر المشترك وهو الطلب للفعل والترك، ولكن لا يخفى عليك ان الأصل وإن كان يسقط عن الحجية بقيام الدليل والأمارة على خلافه لوروده أو حكومته عليه إلا ان  العمل على طبقه إذا كان لا يقتضي المخالفة العملية فيجوز العمل به إذ لا تضر المخالفة الالتزامية كما حقق في محله. وكيف كان فالأصل أو القاعدة الموافق لأحدهما يجوز الرجوع إليه، ومنه ما إذا كان التعارض بالإيجاب والسلب كأن دل أحدهما على الوجوب والآخر على نفيه فإن الأصل أو القاعدة الدال على أحد باقي الأحكام الأربعة أو على نفيها يكون موافقاً لأحدهما وهو الدليل النافي للحكم وأما لو كان أحدهما يدل على الوجوب والآخر على الحرمة فالأصل الدال على الإباحة لا يجري عند من يقول بحرمة المخالفة الإلزامية ويجري عند غيرهما.

ويرد على هذا الوجه:

الإيراد الأول: ان هذا يتم إذا كانا بعد التعارض يبقيان على حجيتهما أو يبقى أحدهما على الحجية حيث يكون مقتضى ذلك هو قيام الحجة على نفي الثالث وهو باطل لانه بعد التعارض لم يبقيا على الحجية لأن كلاً منهما ينفي الآخر فبقاءهما على الحجية لازمه ان يكون كل منهما يسقط حجية الآخر في مدلوله وهو ينافي بقاءهما على الحجية وهكذا لم يبق أحدهما المعين على الحجية للزوم الترجيح بلا مرجح ولا أحدهما غير المعين على الحجية لانه مفهوم انتزاعي لا وجود له في الخارج والعام إنما يدل على حكم الأفراد الخارجية بحسب وضعه ولأن غير المعين لا فائدة في جعل حجيته إذ لا يعرف به الواقع فيكون جعل حجيته لغواً ولانه لا يصح الحكم عليه بحكم العام للزوم المخالفة  في الحكم بينه  وبين أفراد العام الخارجة المتعارضة إذ هي كما عرفت غير محكومة بحكم العام فلو كان هو محكوم بحكمه اختلف معها في الحكم مع انه عينها ومنتزع الحكم عليه من الحكم عليها فيتعين سقوط المتعارضين عن الحجية وإذا سقطا عن الحجية  كانا المورد بمنزلة ما لا حجة فيه فيرجع إلى الأصل ولو كان مخالفاً لهما لعدم  ثبوت أمارة تقتضي خلافه.

ويمكن الجواب عنه بأن الحجية تسقط عن ظهورهما في مورد التعارض دون باقي ظهورهما فإن التعارض هو الذي يرفع حجية ظهورهما وهو إنما يرفعها في مورد وجوده لانه طرأ عليهما وعرض عليهما بعد ان كانت حجيتهما تامة فهو يزيل الحجة في محل وجوده، وأما ظهورهما في نفي الثالث فلا تعارض فيه بينهما حتى يرفع الحجية عنه مضافاً إلى ان الضرورة إنما تقدر بقدرها، ودعوى ان دلالتهما على نفي الثالث التزاميه وهي تابعة للمطابقة فإذا ارتفعت المطــــابقة ارتفعت الدلالة الالتزامية ألاّ ترى لا يبقى حرمة الضرب للأبوين إذا ارتفعت حرمة الـتأفيف في مورد مدفوعة ان الدلالة المطابقية لم ترتفع بالتعارض فهما دالان على معناهما المطابقي وظاهران فيه وإنما المرتفع هو حجيتها فقط بسبب المعارضة، فالمعارضة لا تزيل الظهور وإنما تزيل الحجية عنهما فقط العارضة على الظهور وهي إنما تزيلها بمقدارها، وأما باقي الظهورات فهي باقية على حجيتها لعدم ما يوجب زوالها ألاّ ترى ان ما دل من الأخبار على كفر المجسمة لا يأخذ بدلالتها المطابقة وهي كفرهم لمن يقول لا يجوز العمل بالظن المعتبر في المسائل الاعتقادية الأصولية كما هو المحكي عن المشهور ويأخذ بدلالتها الالتزامية وهي نجاستهم بناءاً على نجاسة كل كافر، وكذا كل ما دل بالمطابقة على المسألة اللغوية كرواية زراره الدالة على كون الباء للتبعيض فانها ليست حجة في معناها المطابقي وإنما هي حجة في لازمها وهي مسح بعض الرأس([94]).

والحاصل ان المتعارضين يكونان دالين على نفي الثالث فهما بمنزلة لو دلا عليه بالمطابقة ولم يرفع حجية دلالتهما عليه أي رافع.

الإيراد الثاني: بما حكاه بعض الأفاضل عن بعض أساتذة العصر دام وجودهم بالنقض بأمور ثلاثة بل أربعة:

الأمر الأول: بالبينة إذا قامت على إصابة البول للثوب وعلمنا وجداناً بأن البينة أخطأت في أخبارها وانه لم يصبه بول ولكن احتملنا نجاسة الثوب بإصابة نجس آخر فلو قلنا ببقاء حجية الدلالة الالتزامية للأمارة عند سقوط دلالتها المطابقية ان نحكم بنجاسة الثوب المذكور فإن البينة كما دلت على إصابة الثوب بالبول بالمطابقة دلت على نجاسته بالالتزام مع انه لم يقل به أحد.

الأمر الثاني: النقض بما إذا كان في يد زيد داراً وقامت البينة على انها لخالد وأقر خالد بانها ليست له وأن البينة أخطأت فعلى القول ببقاء حجية الأمارة في دلالتها الالتزامية عند سقوط حجيتها في دلالتها المطابقية الحكم من الحاكم بانتزاع الدار من يد زيد وتكون من قبيل مجهولة المالك لأن البينة قد دلت بدلالتها الالتزامية على ان الدار ليست لزيد والبينة المذكورة بواسطة الإقرار إنما سقطت في دلالتها المطابقية لأن هو المنافي لها دون الالتزامية مع انه لم يقل أحد بذلك ولا يقتضيه الذوق الفقهي.

الأمر الثالث: النقض بما إذا كان الثوب في يد زيد وأخبر عادل بانه لعمرو وأخبر عادل بانه لخالد فلو قلنا بحجية الدلالة الالتزامية للأمارة عند سقوط دلالتها المطابقية ان نحكم بأن الثوب ليس لزيد لأن كل من الخبرين يدل بالدلالة الالتزامية على ان الثوب ليس لزيد مع انه لم يقل بذلك أحد.

الأمر الرابع: ويلحق بذلك النقض بما إذا كان البعير بيد زيد وقامت البينة على انه لبكر وقامت البينة الأخرى على انه لصالح ان يحكم الحاكم بانتزاع البعير من يد زيــد لأن البينتين المتعارضتين يدلان بالدلالة الالتزامية على ان البعير ليس لزيد، ولا يخفى عليك ما في هذه النقوض الأربعة من النظر.

اما النقض الأول: فالنقض به غير صحيح من جهة انه من قبيل أمارة واحدة من دون معارض علم بكذبها نظير الخبر الجامع للشرائط الذي علم بكذبه من دون معارض فانه يسقط عن الاعتبار والحجية بجميع دلالته المطابقية والتضمنية والالتزامية لأن اللزوم إنما كان من جهة الوجود الخارجي للمدلول فإذا علم بعدمه يعلم بعدم لازمه فهو أجنبي عما نحن فيه بخلاف ما نحن فيه فإن كلاً منهما مشمول لدليل الحجية ولا تزول الحجية الشأنية عنه وإنما زالت الحجية الفعلية عنه من جهة المعارضة وبسببها فتزول الحجية الفعلية عنهما بمقدار المعارضة.

والحاصل انه في صورة  العلم الإجمالي تسقط الحجية الفعلية دون الشأنية  لأن كلاً منهما محتمل الكذب فهما جامعان لشرائط الحجية بخلاف العلم التفصيلي بالكذب فإن الحجية تزول من أصلها وتكون بمنزلة العدم. وربما يورد  عليه بأن المدعى في المقام هو سقوط الدلالة المطابقية نفسها عن المتعارضين لتنافيهما دون الحجية فانها باقية للدليلين نظير المخصص المجمل المتصل بالنسبة إلى العام فانه يسقط دلالته على بعض أفراده دون حجيته ولذا كان حجة في الباقي وما نحن فيه الساقط هو الدلالة المطابقية نفسها للتنافي والتمانع بين الدليلين فيها وإلاّ فالدليلان المتعارضان باقيان على حجيتهما ولذا هما عند القائل حجتان في المدلول الالتزامي. ولكن لا يخفى عليك ما فيه فإن للخصم ان يدعي بأن الدليلين المتعارضين لم تسقط دلالتهما المطابقية وإلاّ لصح الجمع العرفي  بينهما ولكل منهما ظهور فيها وإنما سقطت خصوص حجيتهما فيه لا في المدلول الالتزامي.

وأما النقض الثاني: فهو أيضاً غير صحيح لانه بالإقرار تسقط البينة عن الحجية كلية ولذا لا يلاحظ معه المرجحات فهو نظير ما إذا كان أحد المتعارضين أرجح من الآخر فإنه يسقط الآخر عن الحجية كلية ولا يؤخذ بدلالته الالتزامية.

وأما النقض الثالث: فهو من قبيل ضم غير الحجة إلى غيرها فلم تكن حجة في البين إذ ليس كل منهما حجة ومجموعهما ليس بحجة كاملة لعدم اتحادهما في المؤدى فلا حجة في البين نظير ما إذا أخبر عادل بنجاسة الإناء بإصابته بالبول والآخر أخبر بنجاسته بإصابته بالدم.

وأما النقض الرابع: الملحق فهو من قبيل ما نحن فيه والحكم فيه كما ذكر في كتاب القضاء هو الحكم بأن نصفه لبكر والنصف الآخر لصالح وينتزع من زيد فلو لم يكن للبينتين المتعارضتين حجة في الدلالة الالتزامية لما حكم بانتزاعه من زيد وتنصيفه بينهما.

والحاصل ان في هذه النقوض لم تكن عندنا حجة لا شأنية ولا فعلية ويرتفع فيها موضوع الحجية بالكلية بخلاف باب التعارض فإن الفرض ان كلاً منهما حجة منع من تأثيرها والأخذ بها للتعارض فإن التعارض إنما طرأ على ما هو الحجة.

الإيراد الثالث: بما حكاه بعض الأفاضل عن بعض أساتذة العصر أطال الله  بقاءه ان اللازم الذي يكون مدلولاً هو ما كان لازماً للمدلول المطابقي بمقدار المعنى المطابقي لا ما هو أوسع وجوداً منه نظير الخاص فانه يلازم  خصوص الحصة من العام الملازمة له ولذا الشهادة بتنجس الثوب بالدم من واحد مع الشهادة بتنجسه بالبول من آخر لا تثبت نجاسة الثوب لأن كل منهما يشهد بحصة من النجاسة غير الأخرى فلا يكون المشهود عليه واحداً، فإن الإخبار عن الملزوم ليس إخباراً عن اللازم بوجوده الواسع بل إخبار عن الحصة الخاصة به إذ هي اللازمة له دون غيرها فإذا أخبر أحد بطلوع الشمس وآخر كذّبه وأخبر بوجود القمر لا يثبت بذلك إضاءة العالم لانه كل منهما يخبر عن حصة من إضاءة العالم خاصة بملزومها غير الحصة الأخرى من إضاءة العالم فلا يكون كل منهما مخبراً عن إضاءة خاصة واحدة حتى تكون البينة قد قامت على موضوع واحد، وكذا ما نحن فيه فإن الخبر الدال على الوجوب يدل على حصة من عدم الإباحة التي هي لازمة للوجوب لا عدم الإباحة بقول مطلق والخبر الدال على الحرمة يدل على عدم الإباحة اللازم للحرمة لا عدم الإباحة بقول مطلق فمع سقوطهما عن الحجية في مدلولهما المطابقي للمعارضة والتكاذب يسقطان عن الحجية في مدلولهما الالتزامي أيضاً للمعارضة والتكاذب فيه أيضاً وكذا الحال في باقي الأمثلة.

ويمكن الجواب عنه بأن  اللازم قد  يكون له الوجود الواسع ويتفقان في الدلالة عليه وفيما نحن فيه من هذا الباب فإن محل الكلام هو نفي الحكم الثالث بالمتعارضين دل عليه أصل أو قاعدة لا إثبات أمر ثالث فإن نفي الثالث لازم  مساوٍ للمدلول المطابقي فإن الخبر الدال على أحد الأحكام الخمسة لازمه نفي باقي الأحكام الأربعة ولذا كان معارضاً لكل خبر يدل على حكم غيره فلو دل خبر على الوجوب                       كان اللازم هو انتفاء الحرمة والكراهة والاستحباب والإباحة بالمعنى الأخص لمكان التضاد بينها والخبر الدال على الحرمة لازمه نفي ما عداها من الأحكام حتى الإباحة بالمعنى الأخص لمكان التنافي والتمانع بينهما فالمتعارضان في الوجوب والحرمة لازم مدلولهما المطابقي هو نفي ما عداهما من الأحكام الشرعية لاستحالة وجود الضدين ولذا لو دل الدليل على أحدهما كان معارضاً ومنافياً لما يدل على الآخر في موضوعه نفسه ، وأما مثال البول والنجاسة فإن اللازم للبول هو حصة خاصة من النجاسة لا مطلق النجاسة ولذا لا تثبت به وكذا مثال الوجوب مع الإباحة فإن اللازم له هو حصة من الإباحة بمعنى الأذن في الفعل وإنما اللازم له هو عدم  الإباحة بمعنى تساوي الطرفين في الأذن. والحاصل انهما لو تكاذبا في اللازم كانا كالمتكاذبين في  مدلولهما المطابقي وإذا لم يتكاذبا فيه فهما يدلان عليه.

الإيراد الرابع: ان ما ذكر لا يجيء في المتعارضين بالعرض لأن المفروض ان التعارض بينهما للدليل الذي يدل على انهما لا يجتمعان من إجماع أو غيره كما في وجوب صلاة الظهر ووجوب صلاة الجمعة فالدليلان في نفسهما لا تعارض بينهما بالذات فيمكن ان يكون كل من الصلاتين واجباً فلا يتوافقان في النفي الثالث كوجوب صلاة غيرهما فكل منهما لا يدل على نفي ما عداه فلا يتفقان في النفي الثالث  فيصح الرجوع إلى البراءة منهما. والجواب عنه إنا نلتزم في مورد عدم  وجود الدلالة الالتزامية على نفي الثالث بصحة الأخذ بالثالث حيث لا دليل عليه على ان الدلالة الالتزامية للدليل الأول في المقام هو نفي حكم لصلاة الجمعة غير الوجوب وللدليل الثاني هو نفي حكم لصلاة الظهر غير الوجوب لا نفي واجب آخر كصلاة غيرها ونحوها فهما يتفقان على نفي البراءة منهما معاً فلا يصح إجراءها وهكذا يتفقان على نفي كل حكم  غير وجوبهما كإباحتهما.

الإيراد الخامس: ان ما ذكر لا يأتي فيما كان التنافي بالسلب والإيجاب كأن دل أحدهما على وجوب الجمعة والآخر على سلب وجوبها فانهما لا ينفيان الحكم الثالث وهو البراءة من وجوبها. وجوابه إنا نلتزم بذلك لكون الأصل أو القاعدة الدالة على الحكم الثالث موافقة لدليل الدال على السلب فلم يكن كلا الدليلين المتعارضين يدلان بالالتزام على نفيه حتى يكون نفيه القدر المتيقن منهما. ان قلت انه يكفي في  عدم جريان الأصل أو القاعدة الدالة على الحكم الثالث للدلالة الالتزامية لأحدهما فانها حسب دعوى الخصم ان الدليل المعارض باقٍ على حجيته فيها فيكون الدليل الدال على وجوب الجمعة يدل بالالتزام على عدم البراءة منها. قلنا انه  في هذه الصورة تكون هذه الدلالة الالتزامية أيضاً ساقطة عن الحجية لأن الدليل  المعارض الثاني الدال على السلب يدل بمنطوقه على البراءة من الوجوب لانه يسلب الوجوب. وإن شئت قلت ان الدليل الذي يدل على الحكم يدل بالالتزام على نفي ما عداه والدليل المعارض له الدال على سلب ذلك الحكم يدل على ان ما عداه قد ثبت لعدم خلو الواقع عن الحكم فيكون معارضاً للدلالة الالتزامية للأول منهما فتسقط عن الحجية، ولو فرض عدم جريان الأصل فنرجع إلى التخيير لدوران الأمر بين محذورين على انه لم يعلم بقيام حجة على خلاف الأصل لإحتمال ان الدال على الحكم ليس بحجة. وبعبارة أخرى ان الدلالة الالتزامية لأحدهما فقط دون الآخر لا يؤخذ بها لان من المحتمل انه ليست بحجة وانه هو المعلوم، بالإجمال عدم حجيته.

الإيراد السادس: ان الدلالة الالتزامية على نفي الحكم المخالف للمتعارضين إنما هي دلالة على نفي الجعل له لا جعل النفي له، ومن المعلوم ان نفي الجعل ليس حكماً شرعياً فكان الدال عليه ليس من أفراد الخبر الذي هو حجة فالخبر إذا لم تكن دلالته المطابقية معتبرة والمعتبر هو دلالته الالتزامية على نفي الجعل لم يكن حينئذ من أفراد الخبر الذي قام الدليل على حجيته ولا مشمولاً له لانه خبر دال على حكم غير شرعي وأدلة حجية الخبر إنما تقتضي حجية الأخبار الدالة على الحكم الشرعي. ولا يخفى عليك ما فيه فإن الحكم الشرعي لما كان بيد الشارع فوضعه ورفعه بيده فكانت الأخبار الدالة على نفيه مشمولة لأدلة الحجية ولذا لو فرض خبر يستفاد منه استمرار عدم الجعل من الشارع أخذ به ولذا جري استصحاب العدم الأزلي.

الإيراد السابع: ان في المتعارضين تسقط الدلالة المطابقية نفسها وتزول بواسطة التنافي بينهما ألاّ ترى لو ان شخصاً أخبر بموت زيد أمس ثم أخبر برؤيته اليوم فهل يشك أحد في ان في دلالة كلامه خلل، وإذا  سقطت الدلالة المطابقية سقطت حجيتها وسقطت لوازمها من الدلالة الالتزامية وغيرها لأن التابع يسقط ويزول بزوال المتبوع وهذا الإيراد يرجع للإيراد الأول والكلام فيه عين الكلام في الإيراد الأول.

الإيراد الثامن: ان الدلالة الالتزامية إنما كانت بالتلازم الواقعي بين وجود المعنى المطابقي ووجود المعنى الالتزامي لا بدلالة اللفظ عليه بالذات بحيث إذا ثبت الملزوم بأي طريق كان فيثبت اللازم بتبعه نظير وجود الشمس ووجود النهار فإذا سقطت الدلالة على الملزوم ولم يكن ما يثبته سقطت الدلالة على اللازم ولم يكن ما يثبته. وفيه ان الدلالة الالتزامية إنما يعتبر فيها التلازم في التصور والدلالة. ولا ريب ان الدلالة على المعنى المطابقي موجودة فالدلالة على المعنى الالتزامي أيضاً موجودة وإنما الساقط حجية الدلالة المطابقية لا نفسها. نعم لو قلنا بسقوط الدلالة نفسها كانت الدلالة الالتزامية ساقطة وسيجيء ان شاء الله تحقيق ذلك.

الإيراد التاسع: إنا لو سلمنا عدم زوال الدلالة المطابقية لكن نقول ان الحجية قد زالت عنها وإذا زالت عنها زالت عن الدلالة الالتزامية فإن الفرد لا يعقل ان يتجزأ في فرديته للطبيعة الذي هو فرد لها فإذا كان أحد الخبرين فرداً لموضوع دليل الحجية فهو فرد بمدلوله المطابقي والالتزامي فلا يعقل ان يكون بمدلوله الالتزامي داخل في الحجية دون مدلوله المطابقي وإذا امتنع دخوله بمدلوله المطابقي امتنع دخوله بمدلوله الالتزامي لأن الدخول هو انطباق موضوعه عليه فإذا انطبق عليه ثبت حكمه له وهو الحجية بجميع مدلولاته مع ان مناط الفردية هو انطباق موضوع الدليل على الخبر بمدلوله المقصود بالذات لا المقصود بالعرض فلو لم ينطبق الموضوع للدليل على المدلول المطابقي للخبر لم ينطبق عليه بمدلوله المقصود بالتبع وهو اللازم فمثلاً إكرام  زيد لازمه إكرام زوجته وأولاده وخدمه ونحو ذلك فإذا ورد أمر بوجوب إكرامه فيثبت وجوب إكرام المذكورين فلو فرض ان زيداً أساء للمولى فنهى المولى عن إكرامه فهل أحد يشك في ان الدلالة الالتزامية وهي وجوب إكرام حواشيه تكون باقية، ولهذا نسخ وجوب الشيء يكون نسخاً لوجوب لوازمه الشرعية والعقلية من وجوب مقدماته حتى التي طلبها الشارع ومن النهي عن ضده ونحو ذلك، ودعوى ان الدلالة الالتزامية تابعة للمطابقة في الفهم من اللفظ لا في الحجية مدفوعه بأن حجية الدال في مدلوله الالتزامي لما كانت بتبع حجيته في معناه المطابقي ومتفرعة عليه وفي طوله وليست بمقصوده بالذات وإنما هي مقصودة بالتبع، وإن قصد عدم الحكم الآخر من اللفظ تابع لقصد الحكم من ذات اللفظ فإذا فرض ان ما هو حجة للمولى لم تكن قد قامت على الحكم فلم تكن تلك الحجة حجة له على لوازم ذلك الحكم وإذا فرض انه غير مراد بإرادة جدية ذلك الحكم من هذا الدليل فلم يكن توابعه والمتفرعات عليه مرادة له من هذا الدليل، ودعوى ان المخصص للعام من هذا القبيل فانه يسقط حجيته عن العموم ويكون العام مراداً به بعض الأفراد التي كانت مرادة تبعاً لإرادة العموم منه. فالخاص يسقط حجيته في بعضها ويبقى على حجيته في الباقي فكذا ما نحن فيه فإن التعارض يسقط الحجية في المعنى المطابقي ويبقى في الباقي وهو المعنى الالتزامي على حجيته فاسدة، فانه بالخاص يعلم ان المراد الجدي المقصود بالذات من أول التكلم هو الباقي ولذا كان عند العرف من القرائن ولا يشتبه معه الحال بخلاف التعارض فانه ليس بقرينة عند العرف على المراد الجدي والمقصود بالذات من أول الأمر هو المعنى الالتزامي. نعم لو دل الدليل على المراد الجدي هو اللازم من أول الأمر أخذ به كما في الكناية فانه قامت القرينة فيها على ان المراد الجدي من أول الأمر هو المعنى الالتزامي، وفيما نحن فيه كان المراد الجدي هو المعنى المطابقي والمعنى الالتزامي مراد بالتبع فالمعنى الالتزامي حتى بعد التعارض إرادته كانت تبعية للمعنى المطابقي ولذا كانت الدلالة عليه من جهة الدلالة على المعنى المطابقي.

والحاصل ان المقام من قبيل المنطوق والمفهوم فإنا إذا طرحنا الخبر بالنسبة لمنطوقه من جهة وجود المعارض لا يبقى له مفهوم يؤخذ به بعد ذلك لانه ليس بمدلول مستقل فهو تابع للمنطوق فهماً واعتباراً. وبعبارة أخرى انه ليس المتعارضان أزيد اعتباراً من نطق المولى نفسه فانه إذا علم العبد عدم إرادة المولى للمعنى المطابقي لم يكن اللفظ حجة في المعنى الالتزامي فإذا قال المولى لعبده (اشترى اللحم) وعلم العبد عدم إرادته شراء اللحم فلا يكون حجة في المعنى اللازم وهو الذهاب إلى السوق ولذا يقبح من المولى لوم العبد على عدم ذهابه للسوق. ويمكن الجواب عنه بأن الكلام في اللازم للمتعارضين لا في اللازم لأحدهما ولا ريب ان أحدهما حجة فيكون لازم لما هو الحجة بمدلوله المطابقي، وأما المثال فانه ليس الكلام بحجة وسيجيء ان شاء الله ما يوضح ذلك.

الإيراد العاشر: ان لازم التساقط هو الرجوع إلى الأصل وترك العمل بالدليلين المتعارضين مع انه فيما نحن فيه نعلم بحجية أحد الدليلين. ومع وجود الدليل الاجتهادي لا يجوز الرجوع إلى الأصل سواء كان موافقاً أو مخالفاً لأن الدليل وارد أو حاكم على الأصل كما ذكره القوم. وقد أجيب عن ذلك بأن ذلك صحيح فيما كان الدليل مما يصح التعويل عليه في المورد بالفعل لأن تقديمه على الأصل من جهة انه يرفع الشك عن مورد الأصل ولا ريب ان الدليل عند التعارض لا يرفع الشك عن المورد فلا يصح التعويل عليه فيرجع للأصل، ولكن هذا الجواب مبني على عدم صحة القول بالتخيير بين المتعارضين إذ مع صحة القول بذلك يكون أحدهما المأخوذ به على سبيل التخيير يرفع الشك عن المورد فلا يصح إجراء الأصل.

الوجه الثاني: وينسب لصاحب الكفاية أولوية اختياره في إثبات ان الأصل في المتعارضين التساقط في دلالتها المطابقية وعدم حجيتهما فيها دون دلالتهما الالتزامية على نفي الحكم المخالف لمدلولهما المطابقي وهو أنا نعلم إجمالاً بكذب أحد المتعارضين ولا ريب ان الطريق إلى الواقع إذا علم بكذبه تسقط طريقته لعدم كشفه عن الواقع فيسقط عن الحجية أحدهما لا على التعين ويبقى الآخر على حاله من الحجية لأن المانع إنما يمنع بمقدار ما تعلق به وهو قد تعلق بأحدهما لا بعينه فهو أشبه ما يكون بالخاص المانع من حجية العام في بعض أفراده ويبقى العام على حجيته في الباقي وفي المقام كذلك يكون الدليل الآخر الذي لم يعلم بكذبه إجمالاً باقياً على حجيته لكن لا يمكن التمسك به في مدلوله المطابقي لعدم تشخيصه وتعيينه نظير ما إذا اشتبهت الحجة باللاحجة وإنما يتمسك به في مدلوله الالتزامي وهو نفي الحكم الثالث المخالف للمتعارضين للقطع بدلالته عليه لأن المخالف لهما مخالف لما هو الحجة منهما فهو مشخص ومعلوم. والحاصل ان أحد المتعارضين لا على التعين المعلوم بالإجمال كذبه ليس بحجة لا في مدلوله المطابقي ولا في مدلوله الالتزامي لسقوطه عن الحجية بالعلم الإجمالي بعدم كونه طريقاً للواقع لزوال كشفه عن الواقع ولأن حجيته من جهة كونه طريقاً للواقع والطريقية لا توجد في معلوم الكذب بذاته والآخر منهما الباقي على حجيته لا يمكن العمل بمدلوله المطابقي لعدم معرفته وتشخيصه لانه مردد بين المتعارضين وإنما يعمل بالمدلول الالتزامي لهما الذي هو نفي الثالث لمعرفته وتشخيصه ولانه مدلول الحجة منهما. وبعبارة أخرى ان المقتضي للحجية في المتعارضين موجود في الواقع لأن كل منهما جامع لشرائط الحجية مع إحتمال إصابة الواقع وهو المقتضي للحجية في كل أمارة بناءاً على الطريقية والمانع من الحجية هو العلم بالكذب وهو لإجماله يكون واحداً منهما لا على التعين فيكون واحد منهما ساقطاً على الحجية لا على التعين والآخر باقٍ على حجيته ولكن على هذا يكون باب التعـــارض من باب اشتباه  الحجة باللاحجة لأن التعـــارض اسقط حجية أحدهمـــــا لا بعينه، وعليه فيعمل بالأصل أو القاعدة التي تكون على  طبق أحدهما فيؤخذ بالاحتياط فيما دل المتعارضين على حكم إلزامي لأمرين غير متنافيين كوجوب صلاة الظهر ووجوب صلاة الجمعة لليقين بقيام الحجة على أحدهما بخلافه على المسلك الأول فإن الحجة قد سقطت فيهما وبقيت في المدلول الالتزامي وإلاّ فيتخير في العمل بأحدهما إذا تعلقا بأمرين متنافيين ويسمى هذا التخيير بالتخيير العذري لأن العقل يعذر العبد في الأخذ بواحد منهما وأما إذا تعلق أحدهما بحكم إلزامي والآخر بغير الإلزامي فيجرى أصل البراءة من الإلزامي لعدم إحراز قيام الحجة عليه. نعم على هذا يكون لاشتباه الحجة باللاحجة فردان أحدهما المتعارضان والثاني ما إذا أشتبه الحجة الواقعية بغيرها فانه على هذا المسلك يكون الفرق بين اشتباه الحجة الواقعية باللاحجة و المقام، أن في المقام يكون كل من المتعارضين حجيته في حد ذاته لأن التعارض إنما يعرض للدليلين اللذين يكون كل منهما جامعاً لشرائط الحجية وحجة في حد ذاته بحيث لولا المعارضة لوجب التعبد به لتمام دليليه وحجيته فيكون الساقط هو حجية أحدهما الفعلية والذاتية والحجة منهما غير معينة حتى في الواقع  بخلاف اشتباه الحجة باللاحجة فانه يعلم بعدم حجية أحدهما وانه غير جامع لشرائط الحجية في حد ذاته والحجة منهما معينة في الواقع وهي الجامعة للشرائط في الواقع ولذا قد يكون اشتباه الحجة باللاحجة في مورد يحتمل ان كلاً منهما مطابق للواقع كما لو دل دليل على وجوب العتق والآخر دل على وجوب الإطعام ولكن نعلم بعدم حجية أحدهما إجمالاً وانه غير جامع للشرائط ولكن نحتمل مطابقة كل منهما للواقع بخلاف المتعارضين فانه نعلم إجمالاً بكذب أحدهما ونعلم بجمع كل منهما لتمام شرائط الحجية، وكيف كان فعلى هذا المسلك يكون حكم التعارض حكم اشتباه الحجة باللاحجة وملحقاً به، ثم ان ما ذكرناه جارٍ في المتعارضين سواء كانا نصين كما هو واضح أو ظاهرين من جهة حجية ظهورهما إذ يعلم بكذب أحدهما ومخالفته للواقع بواسطة ظهوره الذي هو حجة كما ان ما ذكرناه جاري في التعارض بالذات وفي التعارض بالعرض حيث يكون أحدهما لا بعينه حجة فعلية ونفي الثالث مستند إليه فإن التعارض إنما أزال حجية أحدهما لحصول العلم بكذب أحدهما بالتعارض ويكون نفي الثالث مستند إليه.

نعم لا يجري فيما كان التنافي بالسلب والإيجاب كأن دل أحد المتعارضين على وجوب شيء والآخر على عدم وجوبه إذ لا أصل يخالفهما جميعاً لانه من المحتمل ان الحجة هو الدال على عدم الوجوب فيكون الأصل الدال على أحد الأحكام الأربعة الباقية لا يحرز قيام الحجة على خلافه لانه موافق للخبر المعارض الدال على عدم الوجوب. وهكذا لا يجري فيما كان حكمان لا ثالث له كالصحة والفساد كما لو ورد دليل على صحة المعاملة والآخر على فسادها فانه ليس هنا حكم ثالث حتى يثبته الأصل فإن الأصل الجاري أما يقتضي الفساد أو يقتضي الصحة.

فظهر لك ان غير الحجة غير معين في الواقع والظاهر وذلك لأن المانع من  الحجية هو العلم بالكذب وهو مردد بينهما فيكون  الحجة منهما أيضاً مردد  غير معين.

ويرد عليه عدة إيرادات:

الإيراد الأول: ما ذكره المحقق الأصفهاني ان حقيقة الحجية سواء كانت بمعنى تنجّز الواقع أو جعل الحكم المماثل من أجل الإيصال للحكم الواقعي بعنوان آخر أي بعنوان الحكم المماثل فكيفما كان فهي سنخ معنى لا يتعلق بالمردد والمبهم بداهة ان الواقع الذي له تعين واقعاً هو الذي يتنجّز بالخبر وهو الذي يصل به بعنوان آخر فكفي يعقل ان يكون المنجّز هو المردد والمبهم، أو الواصل هو المردد والمبهم.

ويمكن الجواب عنه انه لا ريب ان الحجية وصف معين يمتنع قيامه بغير معين ولكن الشارع قد جعلها لأمر معين وهو الأمارة ولما عرض عليها التعارض حكم العقل ببقاء جعله لأحدهما دون الآخر فكان ترددها ليس من جهة جعل الشارع لها كذلك حتى يكون جعله لها منافياً للغرض المقصود منها وإنما أبهمت علينا وترددت وكان مؤداها مبهماً ومردداً من جهة اختلاط الأمور الخارجية نظير اشتباه الحجة باللاحجة بل نظير الأحكام المجعولة بداعي بعث العبد واختفت لاختلاط الأمور الخارجية نظير جعل حكم لصفة مرددة بين أشخاص واقعاً وظاهراً مثل (أكرم عادلاً) وتردد العادل بين أشخاص.

الإيراد الثاني: ما ذكره المحقق المذكور آنفاً من ان الأثر المترقب من الحجية بأي معنى من المعنيين هو لزوم الحركة على طبق ما أدت إليه الحجة، ولا ريب ان الحركة نحو المبهم والمردد واللامتعين غير معقولة فحجية أحد الخبرين المتعارضين بلا عنوان بلحاظ كونها صفة من الصفات وبلحاظ معنى الحجية نفسه وبلحاظ الأثر المترتب منها غير معقولة. وجوابه يظهر من الجواب عن الإشكال الأول فإن ذلك إنما يكون لو كان بتصرف وبجعل من الجاعل نفسه، وأما إذا كان من جهة اختلاط الأمور الخارجية فيرجع إلى العقل في تقرير المصير والأخذ بما يحكم به الفكر البصير.

الإيراد الثالث: ما هو مستفاد من المحقق المذكور آنفاً من ان دليل الحجية شامل لكل من المتعارضين إذ لو كان شموله مقيداً بعدم المعارض لكان كل من المتعارضين خارجاً عن شموله لا ان أحدهما مشمول له دون الآخر ولو كان دليل الحجية مهملاً لم يكن شاملاً لشيء منهما في حد نفسه فاللازم فرض شموله لهما ليكون كل منهما حجة ذاتية ومتمانعين في الحجية الفعلية والعلم الإجمالي بكذب أحدهما ليس بمانع عن الحجية لأن الكذب الواقعي لا يمنع من الحجية فإن دليل الحجية يشمل حتى ما كان كاذباً واقعاً وإذا كان الكذب الواقعي لا يمنع من الحجية فالعلم الإجمالي به ليس بمانع لانه ليس بعلم بالمانع. ولا يقاس بالعلم التفصيلي لانه إنما يمنع من الحجية لانه مزيل لما يقتضي الحجية وملاكها وهو الإرائة للواقع. والجواب ان الغرض من جعل الحجية هو تنجّز الواقع والفرض ان الواقع واحد فجعل الحجية لغير ما يحصل الواقع خلاف الغرض فنعلم ان أحدهما غير المعين غير مجعول له الحجية للعلم بكذبه فالعلم الإجمالي كالعلم التفصيلي بالكذب مانع عن الحجية لإسقاطه كشف الواقع عن المعلوم كذبه إجمالاً أو تفصيلاً. فيكون أحدهما ساقطاً عن الحجية الفعلية.

الإيراد الرابع: ان دليل الحجية لا يدل على حجية فرد واحد لا على التعين لانه ان أريد به القدر الجامع بينهما فستعرف عدم دلالة دليل الحجية على حجية المتعارضين فيه عما قريب، وإن أريد الفرد الخارجي المردد بينهما بأن أريد واحد منهما لا على التعيين فهو باطل لما تقدم من عدم دلالة العام عليه عرفاً ولعدم كونه فرداً مقابلاً للأفراد الخارجية إذ لو ثبت له الحكم للزم ثبوت الحكم مرتين للأفراد الخارجية لانطباق الفرد المردد عليها ولو ثبت له الحكم دون جميع الأفراد الخارجية فلابد لثبوته له من جعل الشارع له بجعل جديد وليس هناك ما يدل عليه وللزوم التناقض لأن الدليل يدل عل نفي الحكم عنه لتضاد الأفراد فإذا كان يدل على ثبوت الحكم للفرد المردد وهو عبارة عن أحدهما لزم نفي الحكم عنه وثبوته له.

ويمكن الجواب عنه ان دليل الحجية لا يدل على حجية الفرد المردد وإنما يدل على ثبوت الحكم أعني الحجية لسائر الأفراد الخارجية له لكن حكم الشارع المستفاد من دليل الحجية مع حكم العقل بكون التعارض الطاري على الفردين المتعارضين أزال حجية أحدهما غير المعين لاستدعاء التعارض العلم بكذب أحدهما غير المعين أوجب الحكم بحجية الآخر غير المعين وهذا نظير الاضطرار لارتكاب أحد فردي الحرام كما لو اضطر لشرب الخمر الموجود في آنيتين فإن الحرام يكون هو الفرد المردد بينهما لا على التعيين بواسطة حكم العقل بجواز ارتكاب أحدهما لا من جهة ان الدليل الدال على الحرمة كان دالاً على الفرد المردد.

الإيراد الخامس: انه لا يجوز ان يجري الأصل أو القاعدة ويترك العمل بالدليلين حيث تقرر في محله انه لا يجوز الرجوع إلى الأصل أو القاعدة مع وجود الدليل الاجتهادي والأمارة سواء وافق الأصل الدليل أو خالفه وفيما نحن فيه قد علم إجمالاً بحجية أحد الدليلين المتعارضين من المخالف للأصل أو الموافق له وأيهما كان حجة كان مسقطاً للأصل عن الاعتبار. وجوابه ان ذلك إنما يكون فيما إذا كان الدليل الاجتهادي أعني الأمارة يصح التعويل عليه في  المورد بالفعل حتى يرفع الشك  عن مورد الأصل أما مع دورانه بين الحجة واللاحجة كما هو المفروض في المقام فلا يصح التعويل عليه بالفعل فلا يرفع الشك عن مورد الأصل فالمعول حينئذ في المقام هو الأصل دون غيره لعدم صلاحيته لذلك. ان قلت الحكم بالرجوع للأصل والإفتاء بمقتضاه مستلزم للمخالفة القطعية للدليلين المتعارضين لأن أحدهما إذا دل على الإباحة الواقعية والآخر دل على الحرمة الواقعية وكان الأصل يقتضي البراءة فالحكم بالبراءة يكون مخالفة قطعية للدليلين المتعارضين لأن موضوعه الجهل بالواقع فيكون حكماً ظاهرياً وهما موضوع حكمهما الواقع نفسه فيكون مدلولهما حكماً واقعياً فيكون الإفتاء بمؤدى الأصل مخالفة قطعية وافتاء بغير الواقع. قلنا أولاً هذا لا يتم فيما كان التعارض بالسلب والإيجاب كأن دل أحدهما على الحكم والآخر على سلبه فإن سلب الحكم لا يتنافى مع إثبات الحكم الآخر الظاهري فلا مخالفة قطعية لإحتمال ان ما دل على سلب الحكم هو الحجة، ولا الإفتاء به افتاء بخلاف الواقع لإحتمال مطابقته للواقع. وثانياً ان المخالفة القطعية للعلم الإجمالي إنما تحرم لو كانت  عملية وفيما نحن فيه ليس كذلك لأن الفرض ان الأصل لم يكن بالعمل به مخالفة عملية لانه يحتمل انه مطابق للواقع من الدليلين فليس هنا إلاّ المخالفة القطعية الالتزامية، وأما الإفتاء بغير الواقع فهو أيضاً غير محرز لإحتمال مطابقة الأصل للواقع عملاً فانه إذ ذاك يتنجّز به الواقع بعنوان الحكم الظاهري مضافاً إلى ان الذي يمنع من جريان الأصل أو القاعدة هو إحراز مخالفتهما للحجة الفعلية، وإلاّ لو تم ما ذكره الخصم للزم عدم إجراء الأصول والقواعد في أغلب مواردها حتى بعد الفحص لإحتمال وجود حجة على خلافها لم يظفر بها الفحص لأن  عدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود.

الإيراد السادس: ان العلم بالكذب كما يسقط المعلوم كذبه عن الحجية لزوال الطريقية والكشفية عنه كذلك المعلوم صدقه يسقط  عن الحجية لزوال الطريقية عنه لأن  الطريقية موضوعها الشك والمعلوم الصدق ليس بمشكوك. وعليه فالمتعارضان ساقطان عن الحجية لانه أحدهما معلوم الكذب إجمالاً والآخر معلوم الصدق إجمالاً. وجوابه  انه مضافاً إلى ان المتعارضين قد يكون أحدهما ليس معلوم الصدق كما إذا كانا متضادين لهما ثالث كالركوع والسجود فلا ريب ان معلومية الصدق إجمالاً لا توجب عدم الطريقية للواقع فإن  الخبر المتواتر طريق للواقع ولذا قسموا الطريق لمعرفة الواقع بالظن المعتبر المسمى بالأمارات وإلى علم اليقين وهو الاستدلال بالأثر على المؤثر كدلالة الدخان على النار وإلى عين اليقين وهو المشاهدة للواقع كمشاهدة النار وإلى حق اليقين وهو التلبس بالواقع كأن يضع إصبعه في النار فالعلم طريق للواقع فلا تسقط به حجية الشيء.

حجة القائلين بالأخذ بالقدر المشترك

إحتج القائلون بالأخذ بالقدر المشترك بين مدلولي المتعارضين بأن كلاً منهما يدل على وجوده وهما حجة فيه لأن دليل الحجية قد كان دالاً على انهما حجة فيما دلاّ عليه فإذا سقطت الحجية عن بعض مدلوليهما للتنافي فتبقى الحجية على حالها فيما لا يتنافيان فيه فلو دل أحدهما على وجوب شيء والآخر على وجوب ضده فهما يشتركان في الدلالة يدلان على الإلزام فلا يجوز الرجوع إلى أصل يقتضي حكم لا إلزام فيه كالإباحة ونحوها للدلالة اللفظية على نفي ذلك وكذا إذا دل أحد المتعارضين على وجوب شيء والآخر على حرمته فهمــــا يدلان على الإلزام بفعلــــه أو تركـــه فلا يصح الرجوع لأصل يقتضي عدم الإلزام بهما كأصل يقتضي الإباحة أو الاستحباب أو الكراهة للدلالة اللفظية للمتعارضين على نفي ذلك ومثله المتنافيان بالعرض كالدليل الدال على وجوب الجمعة والدليل الدال على وجوب الظهر فانهما يدلان على الإلزام بأحدهما نظير تخصيص العمومات وتقييد المطلقات في كونها حجة في الباقي بواسطة معارضة ظهور المخصص وظهور القيد للمقدار من العموم والإطلاق الذي دلا عليه والحاصل ان سقوطهما في  المطابقة لا يقتضي سقوطهما في القدر المشترك. وفيه ان الأمارتين ليسا متفقتين في الدلالة على القدر الجامع نفسه بل كل منهما يدل على وجود الحصة من القدر الجامع الموجودة في مدلوله المطابقي ويدل على نفي كل حصة من الجامع مع غيره فالخبر الدال على وجوب صلاة الجمعة إنما يدل على ثبوت حصة من اللزوم للصلاة التي تكون تلك الحصة في وجوب صلاة الجمعة وينفي الحصة من اللزوم في غيرها كلزوم صلاة الظهر فالخبران لا يتفقان في ثبوت القدر المشترك وهو لزوم الصلاة فطرح دلالتهما على المعنى المطابقي للتنافي بينهما يستدعي طرح دلالتهما  على القدر المشترك للعلة نفسها وهو التنافي بينهما في القدر المشترك بخلاف العام مع مخصصه والمطلق مع مقيده. نعم لو انحل كل واحد من المتعارضين إلى خبرين أحدهما يدل على الفرد والآخر يدل على ثبوت القدر المشترك عند عدم ذلك الفرد كأن انحل الخبر الدال على وجوب الجمعة إلى الدلالة على وجوبها والدلالة على وجوب صلاة ما مع ترك الجمعة وهكذا الخبر الدال على وجوب الظهر كانا متوافقين في ثبوت القدر المشترك فيثبت بهما القدر المشترك للدلالة عليه. ولكن هذا خلاف الفرض من وجود خبر واحد في موضوع واحد يعارضه خبر كذلك.

حجة القائلين بالتوقف

القائلون بالتوقف ويريدون بالتوقف هو التوقف عن الفتوى والاحتياط في العمل إذا أمكن وإلاّ فيتخير دون ان يعمل بالأصول الجارية في المقام لا الموافقة ولا المخالفة. وأدلتهم هي:

الدليل الأول: لهم بتقريب منا بانه بالتعارض حيث يتساقطان في مدلولهما المطابقي أما للعلم بكذب أحدهما أو للتنافي بينهما فيه وتكذيب كل منهما للآخر فيه فيتوقف  في الفتوى بمضمون أحدهما وحيث يدلان بالدلالة الالتزامية على نفي ماعداهما من الأحكام فيتوقف عن الفتوى حتى بمضمون الأصول الجارية في موردهما لعدم حجية الأصل مع قيام ما يدل على نفي مضمونه فلابد من التوقف عن الفتوى عند التعارض والاحتياط في العمل ان أمكن إذ يحرز به الواقع وهو طريق النجاة وإلاّ فيتخير للاضطرار إليه. وبعبارة أخرى انهما تعارضا في شيء وهو المدلول المطابقي فيتساقطان فيه واشتركا في شيء آخر وهو نفي الحكم الثالث فيطرح ما تعارضا فيه لتمانعهما فيه ويؤخذ بما اشتركا فيه وهو الدلالة على نفي الثالث لعدم تمانعهما فيه. والجواب عنه انه بعد شمول دليل الحجية لهما وانطباقه عليهما وجب العمل بهما مهما أمكن وحيث ان العقل يرى ان الممكن هو العمل بهما على سبيل التخيير وجب التخيير بينهما، ثم لو سلمنا انهما يتساقطان في مدلولهما المطابقي لكنه بعد تساقطهما في مدلولهما المطابقي يرجع للأصول المعتبرة أو القواعد المقررة غير المخالفة لهما لانه لم يحرز قيام حجة مخالفة لهما والأدلة الفقاهتية أعني الأدلة الدالة على الواقع لا تدل إلاّ على نفي الأحكام الواقعية المغايرة لها ولا تدل على نفي الأحكام الظاهرية عن موردها لو تحقق في موردها وإلاّ لما صح جريان أصل من الأصول لأن في كل مورد من مواردها يوجد دليل على الواقعة غاية الأمر أنا قد نجهله. نعم بالإطلاع على الأحكام الواقعية يزول مورد الأصول ويرتفع موضوعها وفي  المقام الأصل غير المخالف للمتعارضين لم يحرز وجود حجة على خلافه إذ لعل الموافق منهما له هو الحجة الدالة على الواقع. نعم الأصل المخالف لهما يحرز مخالفته للحجة منهما أو لما دلّ عليه معاً بالالتزام من نفي المخالف لهما ودلالتهما على ذلك حجة فلا يجرى معها الأصل.

الدليل الثاني: لهم بتقريب منا هو ان طرح المتعارضين لا يجوز لأن  العمل بكل دليل واجب بقدر الإمكان وطرحه غير جائز لا سيما ونحن نعلم إجمالاً بحجية أحدهما والعمل بهما معاً لا يمكن والعمل بأحدهما المعين بالخصوص لا يصح لانه ترجيح بلا مرجح والعمل بهما على سبيل التخيير كما هو المحكي عن أرباب الأصول لا وجه له لانه ليس بمؤدى شيء من الدليلين المتعارضين بل هو في الحقيقة طرح لهما فلابد من التوقف في الفتوى. والعمل بالاحتياط لإحراز الواقع. والجواب ان العمل بهما على سبيل التخيير ليس من جهة دلالتهما عليه بل من جهة حكم العقل في باب الطاعة بذلك، ثم لو سلمنا لكن نعمل بهما في دلالتهما على نفي الحكم المخالف لهما لتساقط حجيتهما في المعنى المطابقي لتكاذبهما فيه فنأخذ بدلالتهما على نفي الحكم المخالف لهما ونعمل بالأصل المعتبر أو القاعدة المقررة غير المخالفة لهما على ان من قال بالتخيير ليس مدركه مؤدى الدليلين ليتجه عليه المنع بل مدركه هو العقل كما تقدم ومع حكم العقل لا معنى للتوقف.

الدليل الثالث: لهم هو بناء العقلاء وطريقتهم في إطاعة أوامر مواليهم جارية على التوقف في مثل المقام بل حتى في أعمالهم الخارجية ألاّ ترى انه إذا تردد الطريق للبلد بين طريقين تحكم عقولهم بالتوقف عن سلوكهما كما إذا ورد من الطبيب خبران متعارضان للمريض في شرب الدواء يتوقف منه.

والجواب عنه ان قياس المقام بما ذكر من طريقة العقلاء قياس مع الفارق لأن توقفهم إنما يختص بصورة رجاء انكشاف الواقع لهم وظهور الطريق الموصل عنهم باعتبار تمكنهم من الوصول إلى مواليهم وانكشاف الطريق الموصل بالسؤال عنه وهذا مفقود عنا في الخطابات الشرعية ولذا لو قدر للعقلاء عدم التمكن لم يتوقفوا في ذلك ويعملون بما تقتضيه عقولهم وذموا العبد لو توقف ونحن نقول كذلك من انه لو فرض فيما نحن فيه تمكن المكلفون من الاستكشاف للحجة في الخطابات الشرعية المتعارضة لتمكنهم من الوصول للأئمة ( عليه السلام   ) وجوب التوقف والرجوع إلى الإمام (عليه السلام  )، وبالجملة فالمناط في التوقف والتخيير هو التمكن من الاستعلام على نحو لا يوجب الحرج من غير فرق بين الأمور العرفية والأحكام الشرعية.

الدليل الرابع: لهم الأخبار الواردة عن الأئمة ( عليه السلام   ) في الأمر بالتوقف وهي على قسمين أحدهما ما يدل على التوقف عند مطلق الشبهة، وثانيهما ما يدل على التوقف عند تعارض الخبرين وكلاهما ينهض حجة للحكم بالتوقف في المقام، ولا تعارضها أخبار التخيير لانها ضعيفة السند لا تصلح لمقاومتها. وجوابه ان الكلام هاهنا إنما هو مقتضى الأصل في المتعارضين المتكافئين وانه هل هو التخيير أو التساقط أو التوقف مع الاغماض عن الأخبار والأدلة اللفظية فلا معنى للتمسك بالأخبار في هذا المقام مضافاً إلى ان أخبار التخيير أرجح لانها منجبرة بعمل العلماء وبالاجماعات المنقولة على طبقها على ان أخبار التوقف بعضها مطلقة وبعضها مقيدة بصورة إمكان ملاقاة الإمام (عليه السلام  ) فيحمل مطلقها على مقيدها ويجمع بينها وبين أخبار التخيير بتقيد أخبار التخيير بصورة عدم التمكن من ملاقاة الإمام (عليه السلام  ).

حجة القائلين بان التعارض من باب اشتباه الحجة باللاحجة

إحتج القائلون بأن باب التعارض من اشتباه الحجة باللاحجة بأن  معلوم الكذب منهما ليس بحجة لانه لا طريقية له للواقع فالآخر المردد غير المعين يكون هو الحجة لانه غير معلوم الكذب وجامع لشرائط الحجية. ولا ريب عدم الحكم بينهما بالتخيير مطلقاً لكون أحدهما ليس بحجة وإنما الوظيفة فيما إذا كان قد دل كل منهما على حكم إلزامي لأمرين غير متنافيين وكان يمكن الجمع بينهما هو  الاحتياط كما لو دل أحدهما على وجوب القنوت والآخر على وجوب الإقامة وعلم بكذب أحدهما فانه يجب الاحتياط بإتيانهما معاً، وكذا لو دل أحدهما على وجوب شيء والآخر على حرمة شيء آخر وعلم بكذب أحدهما فانه يجب عليه الاحتياط لأن الاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني وهو بعلمه بحجية أحدهما اشتغلت ذمته بمدلوله وأما إذا كانا متنافيين ولا يمكن الجمع بينهما فالأصل هو التخيير كما لو دل أحدهما على وجوب شيء والآخر على وجوب ضده أو على وجوب تركه كما لو دل أحدهما على وجوب القيام عند القراءة والآخر دل على وجوب الجلوس عندها أو حرمة القيام عندها وعلم بكذب أحدهما فانه يتخير بينهما لدوران الأمر بين محذورين، وأما إذا كان قد دل أحدهما على حكم إلزامي دون الآخر فالأصل البراءة من الحكم الإلزامي إلا ان يكون له حالة سابقة فتستصحب. ان قلت ان  الأمارات لما كانت حجة في لوازمها والدال منها على الحكم يدل بالدلالة الالتزامية على نفي الآخر فلا يجوز الرجوع إلى أصل الإباحة لأن كلاً من المتعارضين دال على عدمها في المورد المذكور إلاّ إذا كان  المعارض الآخر دالاً على الإباحة. قلنا أولاً نرجع في الصورة المذكورة إلى أصالة عدم ذلك الحكم الإلزامي وإلى البراءة منه فانها لا تدل على نفيها الأمارة المعارضة الدالة على حكم غير الإلزامي. وثانياً بأن أصالة الإباحة وإن أثبتت حكم الإباحة إلا ان الرجوع إلى الأصل إذا لم  يلزم منه مخالفة عملية لا مانع منه فإن المخالفة الالتزامية قد تقرر في محله جوازها فإن من علم إجمالاً باستحباب أحد الشيئين يجوز له ان يرجع إلى أصالة إباحتهما. وجوابه ان هذا يتم على مسلك الآخوند ( رحمه الله ) صاحب الكفاية من ان المعلوم بالإجمال كذبه ليس بحجة والآخر يكون هو الحجة لأن على التحقيق يكون باب التعارض من باب اشتباه الحجة باللاحجة دون ماعداها من المسالك كالقائلين بسقوطهما كلية أو  بسقوطهما معاً عن الحجية في مدلولهما المطابقي دون الالتزامي كما هو المسلك المنسوب للشيخ الأنصاري ( رحمه الله ) فلا يتم إذ انهما حينئذ بمنزلة عدم قيام الحجة على مدلول كل منهما المطابقي فلا يجب الاحتياط في مثل صورة تعارض أمارة الجمعة  مع أمارة الظهر أو القصر والإفطار.

حجة القائلين بالقرعة

إحتج القائلون بالقرعة بين المتعارضين بأن (القرعة لكل أمر مشكل أو مشتبه)([95]) وهنا اشتبهت الحجة بغيرها.

قلنا ان الإجماع قائم على ان  القرعة لا مجرى لها في أدلة الأحكام وفي تعيين الحجة منها وانها مختصة بالموضوعات.

حجة القائلين بالاحتياط

إحتج القائلون بالاحتياط في المتعارضين بأن مع العلم الإجمالي بحجية أحدهما يكون الواجب العمل بأحدهما وحيث إنه غير معين فيجب الاحتياط بالعمل بكليهما لأن الاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني. وجوابه أولاً هذا لا  يتم فيما إذا تعارضا في ضدين لا  ثالث لهما أو في الوجوب والحرمة حيث لا يمكن الاحتياط. وثانياً ان التزاحم إنما هو في الطريقية للواقع والحجية ووجوب العمل بهما والأخذ بهما وهو لا يمكن الاحتياط فيه لاختلاف مؤداهما وإن أمكن الجمع بينهما.

حجة القائلين بالتخيير

إحتج القائلون بالتخيير بوجوه:

الوجه الأول: بتقريب منا ان أدلة حجية الأمارات تشمل المتعارضين لانطباق عناوينها عليهما فهي توجب العمل بها وحيث انه لا يقدر على العمل بهما معاً للتناقض ولا طرحهما رأساً للعلم بشمول الأدلة لهما ولا تعيين أحدهما للعمل للزوم الترجيح بلا مرجح وهو قبيح ولا التوقف لعدم الدليل عليه بل هو في معنى التساقط فلا جرم يحكم العقل بالتخيير بينهما ويكون الحجة أحدهما لا على التعيين في الواقع بخلاف اشتباه الحجة باللاحجة فانه أحدهما المعين في الواقع هو الحجة ولذا لا يصح التخيير بينهما وإنما يعمل بالاحتياط لو دلا على حكمين إلزاميين. ان قلت انه يلزم استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد لأن دليل الحجية على هذا مستعمل في وجوب الأخذ بالأمارة على سبيل التعيين والتخيير. قلنا قد عرفت انه مستعمل في  الوجوب التعيني ولكنه بواسطة حكم العقل صار الوجوب التعيني تخييرياً. وقد حكي عن صاحب الإشارات ان هذا النوع من الجمع العرفي في هذا المورد وفيما شابهه من الموارد التي ورد فيها خطاب شرعي عام أو مطلق ثم وقع بين الأفراد تزاحم أو ورد خطابان أوجب أحدهما شيئاً والآخر شيئاً آخر وتزاحما بسبب الزمان كإنقاذ الغريق وإطفاء الحريق فيما إذا كان قد ابتلى بهما في زمان واحد فإن أهل العرف يفهمون في مثل ذلك ان المولى قد خيرّ عبده بينهما.

واجيب عنه أولاً بما عن المرحوم الشيخ الأنصاري ( رحمه الله ) بما حاصله وظاهره:

بأن حجية الأمارات من باب الطريقية كما هو ظاهر أدلة حجية الخبر الواحد بل غيره من الأمارات بمعنى ان المشرع لاحظ الواقع وأمر بالتوصل إليه من هذا الطريق لغلبة إيصاله للواقع ومع الخطأ يتدارك ما فات من مصلحة الواقع فلو عارضه طريق آخر حصل لنا العلم بعدم إرادة المشرع سلوك الطريقين معاً لأن أحدهما مخالف للواقع قطعاً فلا يكونان طريقين للواقع. ودعوى ان الشارع لاحظ كون الخبر غالب الإيصال إلى الواقع فأمر بالعمل به في جميع الموارد لعدم المائز بين الفرد الموصل منه وغيره فيكون الملاك للحجية موجوداً فيهما فاسدة، بانه عند تعارض الخبرين لم يعقل بقاء هذا الملاك والمصلحة في كل منهما للعلم بعدم إرادة سلوكهما معاً لأن أحدهما مخالف للواقع قطعاً فلا يكونان طريقين للواقع.

ويمكن الجواب عنه:

أولاً: بأن  القطع بالمخالفة للواقع إجمالاً لو كانت مزيلة للحجية لأزالت حجية الخبر مطلقاً للعلم الإجمالي بمخالفة كثير من الأخبار للواقع بل لأزالت حجية الأمارات أيضاً للعلم الإجمالي بمخالفة الكثير منها للواقع. فالتحقيق ان الشارع جعلها حجة لأغلبية الإيصال في نوعها لا في شخص واحد منها نظير الكثير من الأحكام الشرعية المرعية فيها المصلحة بالنسبة لنوع أفرادها فلو تزاحمت أفرادها لم تسقط عن الوجوب أو الحرمة الذاتية.

ثانياً: ان عدم تعقل بقاء المصلحة في كل من المتعارضين ان أراد بالمصلحة هي غلبة الإيصال النوعية بمعنى ان هذا النوع من الأمارة كالخبر لما كان غالب الوصول إلى الواقع ولو أخطأ يتدارك به ما فات من مصلحة الواقع فهي باقية قطعاً إذ لم تزول عن النوع بالتعارض بين فردين منه ضرورة عدم انتفاء الغلبة المذكورة بسبب المعارضة عنهما لأن اتصافهما بتلك الغلبة باعتبار نوعهما وإن أراد بها غلبة الإيصال الشخصية بمعنى ان يكون كاشفاً عن الواقع ولو ظناً فهي وإن كانت غير حاصلة فيهما عند التعارض إلا انها غير معتبرة في حجية الأمارات لعدم حصول الظن في أكثرها بالواقع، وإن أراد بها الإيصال نفسه في الخبر فهو غير معتبر وإلاّ لزم إحرازه في الخبر الذي يكون حجة ومع إحرازه لا حاجة لجعل الحجية للخبر. نعم المعتبر هو مجرد إحتمال الإيصال في الخبر ومع المخالفة يتدارك ما فات من المصلحة وهو موجود في المتعارضين وإن قطع بعدم الإيصال بنحو الإجمال في أحدهما لكن هذا القطع لا ينافي إحتمال الإيصال في كل منهما وتدارك الواقع لو خالفه كما هو الوجدان فاللازم على المكلف حينئذ الأخذ بكل منهما لوجود المصلحة المقتضية لحجيتهما ولا مانع منها ولما لم يمكن العمل بهما لتنافيهما وتمانعهما، والمفروض تعادلهما حكم العقل بالتخيير بينهما بحسب الواقع كالمتزاحمين بالتخيير بينهما. ودعوى عدم كون شيء منهما طريقاً إلى مؤداه فاسدة، فإن مقتضى أدلة الحجية كون كل منهما طريقاً لمؤداه بجعل المشرع غاية الأمر انه حدث ما يمنع من سلوكهما معا وهو التعارض كما لو حدث غيره من موانع السلوك كالاضطرار إلى الترك فمع الحكم  بالتخيير والأخذ بأحدهما يزول المانع ويصير كل واحد منهما طريقاً لمؤداه وحجة فيه ومقدماً على الأصول العملية  في المسائل الفرعية كالخبر الذي لا معارض له.

وأورد ثانياً ان المتعارضين قد يكونان غير متزاحمين في الوجود كصلاة الظهر وصلاة الجمعة وعليه فالواجب إتيانهما معاً كما هو شأن المتزاحمين إذا أمكن وجودهما معاً. وفيه ان التزاحم المدعى في المقام ليس بين مدلولي الدليلين المتعارضين بل هو بين الحكم الثابت للدليلين نفسيهما وهو وجوب العمل بهما وسلوكهما الذي دل عليه اعتبارهما. وبعبارة أخرى ان التزاحم في حجيتهما واعتبارهما إذ لا يمكن اعتبارهما حجة لاختلاف مؤداهما وإن أمكن الجمع بينهما.

الوجه الثاني: الأخبار الكثيرة المستفيضة الدالة على التخيير بين المتعارضين. وفيه ان كلامنا في الأصل فيهما مع قطع النظر عن الأخبار مع انه أخص من المدعى لأن الأخبار تخص الأخبار المتعارضة فلا تشمل جميع الأدلة.

الوجه الثالث: ذهاب العلماء طراً إلى التخيير في العمل بالفتوى عند تساوي المجتهدين مع انه لم يرد دليل هناك خاص على التخيير كما في الأخبار. وفيه لو سلم الإجماع فهو حجة في مورده وهي الفتوى فقط ولا يصح التعدي عنه.

الوجه الرابع: سيرة العقلاء والعرف العام فيما إذا تساوت الطرق للواقع هو التخيير ألاّ ترى في رجوعهم إلى أهل الخبرة في معرفة القيمة أو المرض أو نحو ذلك وقد  تعارضت أقوالهم فمع تساويها التخيير.

إن قلت ان  بناءهم على الأخذ بأحوطها فإذا تعارض ما دل على الوجوب مع ما دل على الإباحة ان يؤخذ بما دل على الوجوب لانه هو الأحوط نظير ما إذا كان أحد الغريقين أبن المولى أو أعدل من الآخر. قلنا الأخذ بالاحتياط فيما إذا كان عند المولى أرجح ووجوب العمل نفسه بالخبرين على حد سواء عند المولى لم يكن له أرجحية والمثال المذكور لما كان عند المولى لأحدهما أرجحية لذا العقل حكم بتعينه.

الوجه الخامس: ان الدليلين المتعارضين يحصل منهما الظن الشخصي بانتفاء الحكم المغاير لمؤداهما وانحصار الحجة في الدليلين المتعارضين المتعادلين وهو من الظنون المعتبرة. لأن ما دل على حجية خبر الآحاد يدل على حجية كل ما يستفاد منها ولها ظهور فيه، ولا ريب ان الخبرين المتعارضين متعاضدان في نفي الحكم الثالث فلابد من الأخذ بأحدهما. وفيه ان ظهورهما من جهة الدلالة الالتزامية فهو يرجع إلى الاستدلال بالدلالة الالتزامية وإلاّ فحجية هذا الظن إنما تتم بناءاً على حجية الظن المطلق.

الوجه السادس: ان الشهرة القائمة على القول بالتخيير توجب الظن به وهو حجة ولا يخفى عليك ان هذا إنما يتم على القول بحجية الظن المطلق أو بحجية الشهرة كما ينسب ذلك إلى المرحوم الشيخ محمد تقي([96]) شارح المعالم صهر الشيخ الكبير جدنا الشيخ جعفر([97]) وإلى أخيه صاحب الفصول([98]).

الوجه السابع: ان الأصل عدم التعيين لأحدهما الذي مرجعه إلى أصالة البراءة من التعيين وبهذا يوجه كلام صاحب القوانين حيث قال بالتخيير مع انه قائل بحجية الظن الفعلي فانه عليه يكون المرجع هو الظن الحاصل من أيهما كان بأن يقال إنما ذهب إلى التخيير من جهة كون المرجع عنده في الشبهات حتى المقرونة بالعلم الإجمالي هو البراءة  ففي  المقام يكون المرجع هو البراءة من التعيين لأحد المتعارضين وهذا عين التخيير في العمل إذ ليس مراده التخيير في الفتوى وقد يوجه ذهابه إلى التخيير بأن أخبار التخييري تفيد الظن به وهو حجة عنده فالواجب هو مراجعة أخبار التخيير ولو سلمنا فهي تخص الأخبار المتعارضة لا تعم جميع الأمارات فالدليل أخص من المدعى.

ما أورد على القول بالتخيير

إن المتعارضين لا يمكن القول بالتخيير بينهما عند التعارض فيما إذا كان مؤداهما الحكم الوضعي كتنجس الماء القليل بملاقاة النجاسة وعدمه، وكون نزح البئر بأربعين دلواً مطهراً أو غير مطهر، أو ان الإتلاف موجب للضمان أم لا، وأن الزوجة ترث أم لا، وأن البيع بنحو مخصوص مملك أو غير مملك، وأن سقوط القرص موجب لدخول الليل أم غير موجب، ونحو ذلك من المسببات والأحكـــام الوضعية وهكـــذا لا وجه للتخيير بين وجوب شيء وعدمه ولا بين الحرمة وعدمها إذ لا معنى للتخيير المولى بين وجود الشيء وعدمه إذ كل إنسان لا يخلو من وجود الشيء أو من عدمه، وهكذا لا يجري التخيير بين أمارات الموضوعات كالبينتين المتعارضتين. وجوابه ان المراد التخيير في الأخذ بأحد الأمارتين والعمل بأحدهما على سبيل التعيين حسبما تقتضيه لا التخيير بين مدلوليهما نفسيهما حتى يلزم محذور التخيير بين وجود الشيء وعدمه. وأما التخيير بين  أمارات المواضيع فلا مانع منه بالنسبة إلى القاضي فيحل الخصومة بما يختاره من الأمارات.

الحكم الثاني
مقتضى الأخبار للتعادل التخيير

ما تقدم كان مقتضى الأصل في المتعارضين المتعادلين مطلقاً سواء كان التعارض بين الأخبار أو الأصول اللفظية أو الأدلة الخاصة، وأما مقتضى ذلك في خصوص الأخبار فقد وردت أخبار كثيرة معتضدة بعمل الأصحاب ناطقة بالتخيير عند تعارض الخبرين المتعادلين منها:

1-   رواية الحسن  بن الجهم  عن علي بن موسى الرضا (عليه السلام  ) قلت له: )يجئنا الرجلان وكلاهما ثقة بحديثين مختلفين فلا نعلم أيهما الحق قال (عليه السلام  ): فإذا لم  تعلم فموسع عليك بأيهما أخذت)([99]).

2-   ومنها ما عن الاحتجاج عن الحميري عن الصاحب المهدي بن الحسن العسكري (عليه السلام  ) في استحباب التكبير بعد التشهد في الركعة الثانية حيث قال(عليه السلام  ): (في الجواب عن ذلك حديثان - إلى ان قال - وبأيهما أخذت من باب التسليم كان صوابا(([100]).

3-   ومنها ما روي عن الكافي بعد ان ذكر حسنة سماعة في الخبرين الدال أحدهما على الوجوب والآخر على الحرمة (انه لا تعمل بواحدٍ منهما حتى  تلقى صاحبك فتسأله)([101]) قال الكليني وفي رواية أخرى: (بأيهما أخذت من باب التسليم وسعك)([102]).

4-   ومنها ما عن الوسائل مسنداً إلى صحيحة علي بن مهذيار قال: (قرأت في كتاب لعبد الله بن محمد إلى أبي الحسن (عليه السلام  ) إختلف أصحابنا في رواياتهم عن أبي عبدالله جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام  )في ركعتي الفجر في السفر فروى بعضهم صلّها في المحمل، وروى بعضهم لا تصلّها إلاّ على الأرض فوقع (عليه السلام  ) موسع عليك بأية عملت)([103]).

5-   ومنها ما عن ديباجة الكافي بعد حكمه بالتخيير بين الخبرين المتعارضين مستدلاً على ذلك بقول الإمام (عليه السلام  ) (بأيهما أخذتم من باب التسليم وسعكم)([104]). إلى غير ذلك من الأخبار المفيدة لهذا المعنى وليس لها معارض إلاّ ما يتخيل من أخبار التوقف وما في مرفوعة زرارة المحكية عن غوالي اللئالي من قوله (عليه السلام  ): (فخذ بما فيه الحائط لدينك(([105]).

أما أخبار التوقف هي غير صالحة للمعارضة لأكثرية أخبار التخيير وموافقة الشهرة مع ان في بعض أخبار التوقف ما يشهد بالجمع بينها وبين أخبار التخيير فإن في بعض أخبار التخيير قد قيد التوقف بصورة انفتاح باب العلم بالحجة من المتعارضين حيث انه في بعضها (فأرجئه حتى تلقي إمامك فإن الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في المهلكات) خصوصاً بملاحظة استبعاد إرجاء مثل واقعة الديَن والميراث إلى الأبد فإن المقبولة([106]) الآمرة بالتوقف مختصة بالديَن والميراث فتحمل عليه باقي أخبار التوقف المطلقة وتحمل أخبار التخيير على صورة عدم التمكن من لقاء الإمام (عليه السلام  ) فيرتفع التنافي بينهما. ودعوى عدم صحة الجمع بينهما بذلك حيث انه قد قيد التخيير في بعض أخباره بلقاء الإمام (عليه السلام  ) كرواية الحارث بن المغيرة عن الصادق (عليه السلام  ) قال: (إذا سمعت من أصحابك الحديث وكلهم ثقة فموسع عليك حتى ترى القائم (عليه السلام  ) فتردّ إليه)([107]) فتحمل عليه أخباره المطلقة أيضاً فتصير النسبة حينئذ بينها وبين أخبار التوقف التباين فلا يمكن الجمع مدفوعة، أولاً بأن  هذه الرواية قد أعرض الأصحاب عن تقييد أخبار التخيير بها وأعراضهم يقتضي سقوط حجيتها في  التقيد. ثانياً انه قيد التخيير فيها برؤية (القائم (عليه السلام  )) الظاهر في صاحب العصر الإمام الثاني عشر عجل الله فرجه إذا اطلق. وكون المخاطب من أصحاب الصادق (عليه السلام  ) لا يصير قرينة على إرادة كل إمام من الأئمة ( عليه السلام   ) فانها بيان لحكم كل من يأتي من الشيعة فتدل على التخيير في غير صورة التمكن ضرورة أنا غير متمكنين من رؤية القائم (عليه السلام  ) فيكون الحكم في حقنا هو التخيير، سلمنا ان المراد من القائم هو كل إمام عصر لكن لفظ (ترى) ظاهرة في التمكن  من سؤاله وإلاّ فمجرد الرؤية لا أثر لها مع عدم التمكن من السؤال فهي ظاهرة في التخيير مع عدم التمكن، سلمنا عدم الدلالة في لفظ (ترى) على ذلك لكن نقول مع ان حكم الإمام (عليه السلام  ) بالتخيير مع التمكن من السؤال يدل على التخيير عند عدم التمكن بطريق أولى فلا داعي لحمل المطلق منه على المقيد وليس كذلك الحال في أخبار التوقف لعدم جريان الأولوية المذكورة فيها وعلى هذا فيتجه تقييد أخبار التخيير بصورة عدم التمكن من مراجعة الإمام بملاحظة أخبار التوقف بعد حمل مطلقها على مقيدها، ولو سلم جميع ذلك ووقوع التعارض بينهما فأخبار التخيير هي الأرجح فانها وإن كانت ضعيفة السند إلاّ  انها منجبرة بالشهرة المحققة ونفي الخلاف والإجماع المحكيين في كلام الأصحاب. قال في المعالم([108]): (تعادل الأمارتين عند المجتهد يقتضي تخييره في العمل بهما لا نعرف في ذلك من الأصحاب مخالفاً) وعن الشيخ الطوسي في أول الاستبصار، وكذا عن صاحب نقد الرجال([109]) دعوى الإجماع على التخيير عند تعارض الخبرين، وعن صاحب القوانين أكثرية أخبار التخيير فترجح على أخبار التوقف، وعن صاحب الفصول حمل أخبار التوقف على التوقف في الحكم الواقعي ويعتبر الإرجاء بالنسبة إليه وظاهر أخبار التخيير بالنسبة إلى الحكم الظاهري، أما ما في مرفوعة زرارة المروية في عوالي اللئالي([110]) فقد يستدل بها على تقديم الاحتياط على التخيير لظهورها في ذلك. ورد الاستدلال بها الأنصاري ( رحمه الله )  بضعف الرواية وانه قد طعن المحدث البحراني في ذلك الكتاب وفي المؤلِف قال في رد الرواية: (أنا لم نقف عليها في غير كتاب العوالي مع ما هي عليه من  الرفع والإرسال وما عليه الكتاب المذكور من نسبة صاحبه إلى التساهل في نقل الأخبار والإهمال وخلط غثها بسمينها وصحيحها بسقيمها) قيل ويشهد لذلك ملاحظة كتابه الآخر المسمى بالمجلي فانه مشتمل على أخبار لم يذكرها إلاّ كتاب مشارق الأنوار للحافظ البرسي([111]) أو غيره من كتب العرفاء الذين لا يلاحظون سند الأخبار. ولا يخفى ما فيه فإن طعن المرحوم البحراني فيها لا يضره لانه لا يعمل إلاّ بالأخبار المدونة في الكتب الأربعة([112]) باعتبار انها قطعية في نظره، هذا مع انها وإن كانت ضعيفة في نفسها إلا انها بشهرة نقلها منجبرة. نعم الفقرة المذكورة منها الدالة على الأخذ بالاحتياط موهونة بمصير المشهور بل الإجماع بقسميه على ما ذكره بعض المحققين على خلافها مضافاً إلى الأخبار المستفيضة على خلافها. ان قلت ان  أخبار التخيير موافقة للمذاهب الأخرى على ما قيل وأخبار التوقف مخالفة لهم فينبغي حمل أخبار التخيير على التقية. قلنا ان ليس لهم قول واحد في المسألة مضافاً إلى ان أخبار التخيير فيها ما يمنع من حملها على التقية لاشتمال بعضها على الأخذ بما خالف المذاهب الأخرى.

تنبيهات في التخيير

التنبيه الأول: التخيير بدوي أم استمراري

إن التخيير على القول به هل هو تخيير ابتدائي أو استمراري؟ بمعنى ان الشخص هل يتخير في الواقعة الأولى فقط فإذا اختار فيها أحد الأمرين المتعارضين ليس له ان يختار المعارض الآخر في الواقعة الثانية وهو المسمى بالتخيير الابتدائي، أو انه له الاختيار لأحد الأمرين المتعارضين كل واقعة حتى انه لو اختار في الأول أحد الأمرين له في ان يختار في الواقعة الثانية الأمر الآخر منهما، وهكذا له الاختيار في كل واقعة ابتلى بها وهو المسمى بالتخيير الاستمراري.

حجة القائلين بالتخيير البدوي

إحتج القائلون بالتخيير البدوي بما يلي:

الدليل الأول: قاعدة الاشتغال فإن الأمر دائر بين التعيين والتخيير في الواقعة الثانية لو أخذ في القضية الثانية بما أخذه أولاً لحصل براءة الذمة يقيناً لأن تكليفه كان الأخذ به أما معيناً أو مخيراً بينه وبين الدليل الآخر. والاعتراض عليه بأن قاعدة الاشتغال إنما تجري في الأحكام المجعولة التي ليست حدود موضوعها معلومة أما في الأحكام العقلية كالحكم بالتخيير فلا يعقل الشك والشبهة فيها إذ العقل لا يحكم بشيء إلاّ بعد ملاحظة جميع ماله مدخلية في موضوع حكمه فإن كان باقياً في الزمان الثاني حكم به وإلاّ فلا يحكم فلابد ان يلاحظ ان العقل هل حكم بالتخيير على وجه الاستمرار أم لا؟   مدفوع أولاً بأن الحكم بالتخيير ليس مصدره منحصر بالعقل بل الأخبار ونقل الإجماع. وثانياً منع عدم جريان قاعدة الاشتغال في الحكم العقلي بل هي تجري فيه كما هو محرر في مسألة البراءة عند دوران الأمر بين المحذورين. وفيه ان هذا يتم  على تقدير عدم تمامية أدلة الخصم وإلاّ فهي واردة عليه مضافاً إلى ما قيل من جريـــــان أصـــــالـــــة البراءة من التعين لكـــونه ضيقاً على المكلف والناس في سعة مما لا يعلمون. اللهم إلا ان يقال ان دوران الأمر بين التعيين والتخيير في التكليف والمكلف به يرجع إلى الشك في الكلفة الزائدة والأصل البراءة منها، أما في دوران  الأمر بين التعيين والتخيير في الطرق يرجع إلى الشك في طريقية الآخر والأصل عدمها. ولكن لا يخفى عليك ما فيه فإن هذا في صورة ما إذا كان دوران الأمر في ابتداء الأمر لا بعد ما إذا ثبت التخيير وشك في بقاءه فانه يكون هو المستصحب ويقدم على قاعدة الاشتغال.

الدليل الثاني: استصحاب حكم ما أخذه أولاً فانه يستصحبه إلى الزمان الثاني. وفيه أولاً ما أجبنا به عن قاعدة الاشتغال. وثانياً ان استصحاب التخيير حاكم عليه لانه من قبيل الاستصحاب السببي واستصحاب الحكم الفرعي مسبب عنه إذ الشك في بقاء الحكم الفرعي مسبب عن الشك في بقاء التخيير ولم يكن الأمر بالعكس. وأجيب ثالثاً ان استصحاب التخيير من قبيل الاستصحاب تعليقي لانه عبارة عن استصحاب جواز الأخذ بالآخر على تقدير أخذه بأحدهما فإن بقاء جواز التخيير في  الواقعة الثانية إنما يثبت به جواز الأخذ بالآخر إذا كان المستصحب هو جواز الأخذ بالآخر في الواقعة على تقدير أخذه بأحدهما في الواقعة التي قبلها إذ لو لم يثبت ذلك فلا يجوز له العمل بالآخر بخلاف استصحاب حكم المأخوذ أولاً فانه تنجيزي فيكون هو المقدم فهو نظير استصحاب حلِّية العنب إذا صار زبيباً وغلى فإن الحلّية ثابتة لهذا الجسم فعلاً وبعد صيرورته زبيباً ثم غلى نشك في ارتفاعها عنه فنستصحبها لهذا الجسم، فالحليّة استصحاب منجّز وأما استصحاب الحرمة إذا غلى فهي غير ثابتة لهذا الجسم إلاّ على تقدير غليانه وهو لم يغلِ فعلاً ونحتمل ارتفاعها عنه بصيرورته زبيباً فلم يكن استصحاباً لحكم فعلي له بل استصحاب لحكم معلق على غليانه فكذا ما نحن فيه فإن المستصحب كان جواز الأخذ بالآخر بعد العمل بالأول فكان المستصحب وهو الجواز معلق على العمل بالأول وهو لم يعلم بثبوته سابقاً وإنما المعلوم ثبوته هو جواز الأخذ به قبل العمل بالأول فانه هو القدر المتيقن من ثبوت التخيير بينهما. وبعبارة أخرى ان المتيقن هو مجرد جواز الأخذ بكل منهما أما انه يجوز حتى بعد الأخذ بأحدهما فهو غير متيقن فلا يصح استصحابه فالمراد لمن قال بانه استصحاب تعليقي هو هذا المعنى وإن أبيت إلاّ عن كونه استصحاباً تعليقياً بالمعنى المصطلح وتطبيقه على المثال المعروف له فنقول ان كل واحد من المتعارضين ثابت له جواز تركه على تقدير العمل بالآخر كما ثبت للعنب وجوب تركه وحرمة أكله على تقدير غليانه فيما نحن فيه نشك بعد العمل به هل يثبت له هذا الحكم أعني جواز تركه إذا عمل بالآخر كما في العنب فانه نشك في انه بعد صيرورته زبيباً هل يكون ثابت له هذا الحكم وهو وجوب تركه على تقدير غليانه. ويمكن الرد على هذا الجواب الثالث ان الحكم المستصحب هو الحجية على سبيل التخيير للمتعارضين ونشك في زواله وارتفاعه بالعمل بأحدهما فالموضوع هو الخبران المتعارضان والشك في بقاء الحجية على سبيل التخيير لهما وعروض العمل بأحدهما لا يكون مزيلاً لموضوع هذا الحكم ولا العرف يراه مبدلاً لموضوعه ولا مغيراً له فهو نظير الشك في بقاء الوجوب للجمعة من جهة غيبة الإمام (عليه السلام  ) فهو استصحاب تنجيزي.

وأجيب عنه رابعاً  ان التخيير بينهما حكم عقلي والاستصحاب لا يجري في  الأحكام العقلية لأن العقل يعرف موضوع ما يحكم به إذ الحاكم لا يجهل موضوع حكمه.

وفيه بأن الأحكام العقلية يمكن جريان الاستصحاب فيها بأن يكون العقل قاطعاً بثبوت الحكم لموضوع ويشك في بقاءه عند فقدان جزء منه فيستصحب. وتحقيق ذلك تجده في مباحث الاستصحاب في كتابنا مصادر الحكم الشرعي  في المجلد الأول والثاني. هذا مضافاً إلى ان التخيير ليس منحصراً مدركه بالعقل بل قد دلت عليه الأخبار فيكون حكماً شرعياً. ان قلت ان  الأخبار المزبورة مؤكدة لحكم العقل والمؤكد وإن كان لفظياً تابعاً للمؤكد وإرشاداً إليه والمرشد تابع للمرشد إليه فالتخيير المستفاد منها ليس بحكم شرعي. قلنا ان الأخبار إنما تكون مرشدة لحكم العقل لو كان حكم  العقل بديهياً تدركه العوام وليس الأمر كذلك.

وأجيب عنه خامساً بأن من شرط جريان الاستصحاب بقاء الموضوع عرفاً والموضوع هنا غير باق بل يكفي في عدم جريانه إحتمال عدم البقاء لأن موضوع التخيير هو المتحير، وفي الواقعة الثانية لم يكن متحيراً لأخذه بأحد الخبرين نظير تبدل المسافر بالحاضر وتبدل الأمن بالخوف وتبدل الصحة بالسقم ونحوها. واعترض عليه المرحوم اليزدي ان الموضوع عند العرف وفي لسان الأدلة في المقام هو الشخص المتعارض عنده الخبران ابتداءاً وفي أول الأمر وهو محرز بقاءه ولا ريب ان المعتبر في الاستصحاب هو بقاء الموضوع العرفي. والتحقيق ان يقال ان المقام من قبيل استصحاب الأحكام نظير استصحاب الوجوب للجمعة إلى زمان الغيبة وفيما نحن فيه أما نستصحب التخيير بين الحجتين للحجتين إلى زمان الواقعة الثانية ولا يرى العرف بالعمل بأحدهما تغيراً أو تبدلاً في موضوع التخيير لانه عبارة عن الحجتين المتعارضتين نفسيهما، وأما ان نستصحب التخيير للمكلف الذي تعارضا عنده الحجتين بأن نقول انه كان ثابتاً في حقه التخيير بينهما فكذلك ثابت بعد عمله وأخذه لأحدهما والعرف يرى أيضاً انه بالعمل بأحدهما لم يتغير موضوع الاستصحاب عند العرف فإن العمل بأحدهما لا يوجب زوال التخير في معرفة الحكم الشرعي الواقعي.

وأجيب عنه سادساً ان الموضوع للتخيير هو المتحير ولا تحير بعد الاختيار فالموضوع مرتفع ومن شرط الاستصحاب بقاء الموضوع. وأجاب عن ذلك أستاذنا المرحوم المشكيني([113]) انه ما المراد بالمتحير؟   هو من قام عنده المتعارضان فهو محفوظ وباقٍ بعد الاختيار وإن كان المراد المتحير في الحكم الواقعي فهو ممنوع موضوعيته ولو سلمناها فهو موجود بعد الاختيار، وإن كان المراد المتحير في الوظفية الظاهرية فهو ممنوع موضوعيته ولو سلمناها فهو موجود بالنسبة للواقعة البعدية.

الدليل الثالث: ظهور بعض الأخبار في التخيير البدوي معتضد بدعوى ظهور الاجماعات عليه كما حكي عن  بعضهم مثل ما في ذيل مرفوعة زرارة: (فخذ بما فيه الحائط لدينك واترك ما خالف الاحتياط فقلت انهما معا موافقان للاحتياط أو مخالفان له فكيف أضع؟  قال (عليه السلام  ): إذن فتخير أحدهما فتأخذ به وتدع الآخر)([114]). وهو نص في التخيير البدوي لظهور في دوام الأخذ بأحدهما ودوام الترك للآخر. ومثل قوله (عليه السلام  ) في التوقيع: (بأيهما أخذت من باب  التسليم كان صواباً)([115]). فانه ظاهر في ان بعد ورودهما وعدم الترجيح يكون مرخصاً في أخذ أحدهما لا الأخذ بكل منهما ولو على سبيل التدريج لأن ظاهر مادة (الأخذ) هو الالتزام بالشيء المأخوذ ولا ريب انه لا إلتزام مع استمرار التخيير، سلمنا انه  لا ظهور لمادة (الأخذ) في ذلك لكن سياق الكلام يدل على ذلك لأن الأمر بالأخذ بالراجح يدل على الالتزام به ولانه لو لم يكن المراد بالأخذ هو الالتزام لاكتفى الإمام بالأمر بالتخيير ويقول (فتخير) ولم يأتِ بمادة (الأخذ). وعليه فيحمل باقي إطلاقات التخيير على هذين الخبرين. وقد تقرر في محله تقدم النص وإلاّ ظهر على الظاهر ولا سيما إذا اعتضد بالإجماع المحكي ونحوه مع ان المطلقات غير ظاهرة في التخيير بل هي ظاهرة في الإباحة المطلقة وهي غير التخيير. وربما يتوهم من ان مورد خبر زرارة إنما هو المحظوران لانه مما لا يمكن الاحتياط فيكون أخص من المدعى ولما كان غيره أعم فينبغي ان يخصص به ويعمل بهذا الخبر فاسد، إذ المورد لا يخصص الوارد مع إمكان إتمام القول في غيره بعدم القول بالفصل، مضافاً  إلى ان مورد التوقيع إنما هو غير المحظورين فلا وجه للجمع المذكور المخالف للإجماع المركب. وقد أجيب عنه بانها في مقام بيان مجرد التخيير وسيجيء ان شاء الله تعالى ما يتعلق بالمقام في أدلة التخيير الاستمراري.

الدليل الرابع: لزوم الهرج والمرج من استمرار التخيير لانه قد يختار أحدهما وقد يختار الآخـــر بمقتضى مشتهيــــات نفسه فيكـــون استمرار التخيير قبيحاً والشارع لا يحكم بالقبيح. وجوابه أن الهرج والمرج ليس أزيد من العدول من مجتهد إلى الآخر بموت أو غيره  بل مثل ذلك ليس من الهرج ولا المرج  في شيء. ويمكن ان يجاب عنه ان مقايسة المقام بالعدول عن مجتهد إلى آخر بموت ونحوه لا وجه له لأن لزوم الهرج والمرج في العدول من المجتهد معارض بمفسدة أخرى لولا العدول وهو الخروج عن الدين عند من لا يرى البقاء على الميت على ان  الذي ينبغي ان يقاس عليه هو العدول من مجتهد إلى مثله مع بقاءه على شرائط الإفتاء وهو قليل جداً.

الدليل الخامس: ان مرجع الشك في استمرار التخيير إلى الشك في حجية الخبر غير المأخوذ به في الواقعة الأولى بعد الأخذ بصاحبه، ومن المعلوم كما حقق في محله ان مقتضى الأصل في الشك في الحجية هو عدمها ولا اختصاص لهذا الأصل بالشك في الحجية الذاتية بل يجري حتى في الشك في الحجية الفعلية ضرورة ان الالتزام بالمشكوك حجيته الفعلية تشريع محرم وأخذ بغير العلم ولا ريب ان الخبر المعارض الذي لم يأخذ به لم تثبت له الحجية الفعلية من أول الأمر فيستصحب عدم حجيته إلى ما بعد الأخذ بصاحبه.

الدليل السادس: انه لا ريب ان معنى التخيير هو الأخذ بأحدهما على نحو يكون هو المستند والمرجع في عمله كما هو معنى الترجيح هو الأخذ بالراجح كذلك ومقتضى الأخـــذ به هو العمــل بمفاده مستنداً إليه كما هو مقتضى كل دليل أخذ به ولا شك ان مفاد كل دليل هو ثبوت مضمونه مستمراً فالأخذ بالخبر الدال على وجوب الجمعة المعارض بالدال على وجوب الظهر هو الإتيان بالجمعة في كل جمعة ما دام مكلفاً فلو بدا له قبل العمل ترك الجمعة  لزم ان يكون قد  ترك العمل بالخبر الذي اتخذه طريقاً له ومستنداً لعمله مع انه قد تعين العمل به عليه، وإن بدا له بعد العمل وترك الجمعة بعد ان أتى بها في الجمعات السابقة وصلى الظهر لزم عدم الأخذ بما هو مستنده ومخالفته لما أتخذه وهو يرجع إلى عدم  العمل بما هو حجة فعلية عليه. وبعبارة أخرى ان المقام نظير من قلد أحد المجتهدين المتساويين فانه وإن كان مخيراً ابتداءاً بينهما لكن بعد تقليده لأحدهما لا يجوز له العدول عنه إلى الآخر فيما قلد فيه. وجوابه ان هذا تابع لمقدار الأخذ ومحدوديته فإن كان لا يصلح أخذه إلاّ بنحو التعيين تعيين عليه المأخوذ ولا يصح أخذ الآخر، وإن كان بنحو التخيير كان له الاختيار بأي واحد أخذه. وأما قضية التقليد لأحد المتساويين فهي تتبع لرأي مجتهده.

الدليل السابع: ان التخيير الاستمراري لازمه المخالفة القطعية في الوقائع المتعددة لانه إذا اختار في كل واقعة أحد الخبرين وهو يعلم بكذب أحدهما فيقطع بالمخالفة للحكم الواقعي، وعليه فيكون إذن الشارع بالتخيير الاستمراري إذن في المعصية وهو قبيح لا يعقل صدوره من الحكيم. وجوابه ان  هذا يتم بناءاً على قبح  المخالفة التدريجية القطعية وإلاّ فيمكن ان يقال بل قد قيل بعدم قبحها عقلاً لانها تلزمها الموافقة القطعية. وتحقيق ذلك يطلب من مسألة دوران الأمر بين محذورين. ولو سلمنا لكان أخص من المدعى لانه إنما يلزم فيما لو كان مؤدى المتعارضين حكمين إلزاميين كأن دل أحدهما على حرمة الشيء والآخر دل على وجوبه أو كان حكمين بأمرين متضادين لا ثالث لهما واقعا كالاستقبال والاستدبار أو قطعاً لإجماع ونحوه كالظهر والجمعة. أما لو لم يلزم ذلك كما لو دل أحدهما على وجوب شيء والآخر دل على إباحته أو استحبابه فلا يلزم المخالفة القطعية لو استمر منه التخيير وإنما يلزم المخالفة الالتزامية وهي ليست بمعصية فالدليل لو تم كان أخص من المدعى، ثم أنـــــا لا نسلم قبح المخالفة القطعية إذا جوزها المولى.

الدليل الثامن: مقايسة ما نحن فيه بصورة ما أفتى المجتهدان المتساويــــان فانـــه لا يجوز العدول عن فتوى أحدهما عن الأخرى في خصوص واقعة واحدة لا قبل العمل ولا بعد العمل. وجوابه ان  المقلد عليه ان يتبع رأي مجتهده في هذه المسألة ولا يجوز له العمل برأيه فيها.

أدلة القائلين بالتخيير الاستمراري

واما القول بالتخيير الاستمراري بين المتعارضين كما نسب للعلامة الحلي في النهاية وغيره وحكي اختياره عن المحقق القمي فاستدل عليه بما يلي:

الدليل الأول: استصحاب التخيير فانه قبل الواقعة الأولى كان حكمه التخيير قطعاً فإذا أخذنا بأحدهما وشك في بقائه وارتفاعه فيستصحب بقاءه. وقد تقدم الكلام  في هذا الاستصحاب في أدلة القائلين بالتخيير البدوي.

الدليل الثاني: ان الحكم بالتخيير  إنما كان من جهة حكم العقل بتساوي الدليلين وتمانعهما وحكمه بعينه موجود بعد الأخذ بأحدهما أيضاً. ويمكن  الجواب عنه ان ما ذكر ليس بموجود بعد الأخذ بأحدهما لانه العقل بعد الأخذ بأحدهما يحتمل عدم جواز الأخذ بالآخر فيكون محتمل المرجوحية فتزول المساواة بينهما.

الدليل الثالث: مقايسة ما نحن فيه بالواجبين المتزاحمين كإنقاذ الغريقين لو غرقا مرتين فانه له اختيار أحدهما في الواقعة الأولى واختيار الثاني في الواقعة الثانية.

ويمكن الجواب عنه بأن إحتمال التعيين في المقام  في الواقعة الثانية مرجح لأحدهما على الآخر فلا يستقل العقل حينئذ بالتخيير بعد الأخذ بأحدهما لإحتمال كون المأخوذ واجب الأخذ تعيينا عند الشارع بخلاف المتزاحمين فانه لا يحتمل ذلك ولو احتمل تعينه لرجحه العقل.

الدليل الرابع: إطلاق ما دل على التخيير من الأخبار فانها بإطلاقها شاملة لما بعد الأخذ بأحدهما. وقد أجيب عن ذلك بانه لا إطلاق لها لانها كانت مسوقة لبيان مجرد التشريع وإفادة ان وظفية من تحير من جهة تساوي الدليلين عنده هو التخيير في الجملة من دون نظر إلى اختصاص ذلك بما قبل اختيار أحد الطرفين أو شموله له ولما بعده وليست حالها إلاّ كحال أدلة التقليد ونحوها مما ورد لبيان مجرد التشريع من دون نظر إلى الجهات الأخرى، وهذا نظير ما ذكره الفقهاء في الرد على الشيخ الطوسي ( رحمه الله ) حيث استدل على طهارة موضع عضة كلب الصيد بقوله تعالى: [فكلواْ ِمّمآ أَمْسَكْنَ عليكمْ]([116]) فقد أوردوا عليه من ان هذا الإطلاق وعدم التقييد بتطهير محل العضة وارد لبيان حلية الأكل فلا يصح التمسك به في إثبات الطهارة. نعم لو كان مورد أخبار التخيير هو العالم بأن حكمه التخيير كان الحكم فيها بالتخيير له الإطلاق من هذه الجهة هذا ولكن المنقول عن صاحب الكفاية والسيد كاظم اليزدي وبعض المتأخرين كأستاذنا المشكيني انهم ذهبوا إلى دلالتها على استمرارية التخيير لانها مطلقة في التوسعة كقوله (عليه السلام  ): (فهو في سعة حتى يلقاه)([117]) وقوله (عليه السلام  ): (حتى ترى القائم)([118]) بل هو الظاهر من قوله (عليه السلام  ): (بأيهما أخذتم من باب التسليم وسعكم)([119]).

التنبيه الثاني: التخيير في الإفتاء والقضاء

لا إشكال في كون المجتهد مخيراً في عمل نفسه لأن التخيير حكم لمن تعارض عنده الدليلان والمجتهد قد تعارض عنده ذلك فهو مخير في أخذ أحدهما والعمل بمضمونه، وكذا لا ريب فيه في مقام القضاء والحكومة فيختار أحدهما ويقضي بمضمونه لأن القضاء والحكم عمل له لا للغير فهو المخير لا المتداعيين لمنافاة تخيير المتداعيين لحل الخصومة وقطعها لأن تخيير المتنازعين نقض لغرض تشريع فصل الخصومة بالقضاء لوضوح ان كل منهما يختار ما ينفعه ويطابق دعواه فتبقى الخصومة على حالها. وإنما الإشكال في طريق الإفتاء للمجتهد إلى مقلديه، فحكى بعضهم عن المشهور هو وجوب الإفتاء بالتخيير فبعضهم جعله التخيير في المسألة الأصولية كما في  الكفاية([120]) بمعنى ان يفتي له بالأخذ بأحد الخبرين والعمل بمضمونه كما هو الثابت للمجتهد من الأخذ بأحد الخبرين والعمل بمضمونه فإذا احتاج المقلد إلى معرفة مضمونه رجع للمجتهد، وعمم والدي الفتوى بالمسألة الأصولية للفتوى بالقاعدة الكلية كأن يقول يجوز الأخذ بأي واحد من المتعارضين أو الفتوى بأفرادها كأن يقول ان في هذه الواقعة خبرين أحدهما يدل على كذا والآخر يدل على كذا وأنت مخير في الأخذ بأي الخبرين شئت. والحاصل انه يتعين على المجتهد الإفتاء بالتخير بين الأخذ بأحد الخبرين وحينئذ للمقلد ان يختار غير ما اختاره مجتهده ويعمل بما فهمه من الخبر الذي اختاره ان كان من أهل المعرفة وإلاّ يعينه كما عين له كون المورد من موارد التخيير. وبعضهم جعل الإفتاء بالتخيير في المسألة الفرعية كما هو المعروف بينهم بأن يفتي له بالتخيير في الواقعة نفسها كأن يفتي له بالتخيير بين صلاة الظهر وصلاة الجمعة في المثال المعروف كأن يقول لمقلده لك الخيار في ان تصلي الظهر أو الجمعة. والمحكي عن غيرهم إفتاءه بما أختاره كما يحكى الميل له من الشيخ الطوسي ( رحمه الله )  بعض الميل، وحكي عن العلامة الحلي في التهذيب نسبته للمشهور، والمحكي عن الضوابط([121]) وجه آخر وهو كون المجتهد مخيراً بين الحكم بالتخيير وبين الحكم بما أخذه.

الفرع الأول

أدلة القائلين بالإفتاء بالتخيير

حجة القول بالافتاء بالتخيير في المسألة الأصولية:

استدل القائلون بالإفتاء بالتخيير في المسألة الأصولية بما يلي:   

أولاً: ان الأحكام الشرعية أصولية كانت أو فرعية يشترك فيها العامي والمجتهد ضرورة عدم  تقييد أدلتها بالمجتهدين. ولا ينكر انه في الصدر الأول عمل العوام كالمجتهدين بالأحكام الأصولية والفرعية. والحاصل ان أدلة التقليد تشمل التقليد في المسائل الفرعية الأصولية الشرعية دون الأحكام العقلية فانها لا تشملها. نعم لما إتفق في زماننا هذا وما ضاهاه عدم تمكن سائر المكلفين باستنباط الأحكام الشرعية من أدلتها وعدم قدرتهم على علاج تعارضها واختلال نظم المعاش بالاشتغال باستفادتها على الوجه الصحيح بل الكثير منهم لا يطيقونه وعدم قابلية ذهن الكثير منهم كان ذلك مانعاً من رجوعهم للمسائل الأصولية نظير المتجزئ في الاجتهاد الذي يعجز عن معرفة بعض الأحكام عن أدلتها. وعليه فيكون ما دل على التخيير بين المتعادلين دالاً على ان التخيير حكم شرعي ثابت للمجتهد ولغيره من العوام وعلى المجتهد إفتاءه به فإن أدى نظره للتخيير البدوي أفتى له بذلك وإن أدى نظره للتخيير الاستمراري أفتى له بذلك. وأما تعيين أحد الطرفين فهو ليس بالحكم  الشرعي وإنما هو من رغبات المجتهد ودواعيه النفسية لا لمرجح لأحدهما وإلاّ لما كان حكمه التخيير فلا يكون فيه نائبا عن المقلد حتى يجب على المقلد العمل عليه بعينه.

ثانياً: بأن تعيين أحدهما على المقلد لا دليل عليه فهو تشريع محرم لانه يكون حكماً مسنداً للشارع بلا دليل عليه.

ثالثاً: انه في المقام عندنا مسألة أصولية وهي ( ان الحكم في المتعادلين المتعارضين العمل بمضمون أيهما شاء) فإذا أجراها المجتهد في الدليلين المتعادلين حصل له قياس صغراه (هذان الخبران المتعارضان متعادلان) وكبراه (وكل خبرين متعارضين متعادلان يتخير في العمل بمضمون أيهما شاء) فينتج هذان الخبران يتخير في العمل بمضمون أيهما شاء. وهي مسألة فرعية موضوعها العمل بمضمون أحد خصوص هذين الخبرين ومحمولها التخيير وعلى المجتهد ان يفتي بها لا ان يفتي بعمله بما اختاره ولا ريب ان المقلد يجب عليه ان يقلد المجتهد في فتواه في المسألة الفرعية التي استنتجها المجتهد من الدليل لا ان يقلده في عمله.

حجة المانعين من الإفتاء بالتخيير في المسألة الأصولية لمقلديه:

أحتج القائلون بالمنع من الإفتاء بالتخيير في المسألة الأصولية:

أولاً: بانه لا يجوز التقليد في المسائل الأصولية لأن الخطاب

بالمسألة الأصولية مختص بالمجتهد القادر على الاستنباط المعتبر فلا يعقل ان يتوجه إلى العامي غير القادر عن الاستنباط المعتبر لأن من شروط الاستنباط القدرة على الفحص في موارده وإعمال النظر في الإطلاع على معارضه وناسخه ومخصصه وما تقتضيه اللغة العربية في معرفة معناه والمقصود منه ولهذا المسائل الأصولية كحجية الخبر وحجية الاستصحاب وحجية الإجماع مختصة بالمجتهد لا من جهة اختصاصها به بل من جهة تمكن المجتهد من العمل بها وعجز العامي عن العمل بها نظير وجوب الصوم على الصحيح دون المريض وفيما نحن فيه كذلك فانه لو أعمل المجتهد النظر في الأدلة وشخص ان المسألة موردٌ للتخيير بين الخبرين المتعارضين فليس له ان يفتي لمقلده بالمسألة الأصولية بنحو الكلية بأن يقول له (أعمل بالتخيير في المتعارضين) ولا بالمسألة الأصولية بنحو الجزئية بأن يلقي الخبرين المتعارضين للمقلد ويفتي له بالتخيير بينهما لما عرفت من المقلد العامي لا يستطيع خصوصاً إذا كان من غير أهل اللسان فهم المراد منهما واستنباط الحكم الشرعي من ظاهرهما. نعم للمجتهد ان يفتي بالمسألة الأصولية الجزئية بالنحو المذكور لو كان  المقلد يتمكن من معرفة الحكم الشرعي من الخبر تمكناً يطمئن به من نفسه على استنباط الحكم الشرعي صح لأن يعمل بفتوى مجتهده بذلك وحينئذ له ان يختار أحدهما غير الذي اختاره مجتهده كما تدل على ذلك أخبار التخيير فراجعها، هذا ويمكن ان يقال انه لا دليل على جواز تقليد المجتهد في مقدمات الاستنباط وفي تشخيص موضوع الأحكام  الخارجية فانه لا يحوز للعامي ان يرجع للمجتهد في تشخيص الموضوعات الخارجية كالخمر الواقعي ولا في جهة  القبلة ولا غير ذلك مما يتعلق بالاستنباط، ولا ريب ان الرجوع إلى المجتهد في عدم المرجح لأحد هذين الخبرين وانهما جامعان لشرائط الحجية وجوداً ونحو ذلك يكون رجوعاً للمجتهد في تحقق الموضوعات الخارجية وتشخيصها. وعليه فيكون العمل بأحد الخبرين عند التعارض أو بأرجحهما عند وجود المرجح لأحدهما ليس إلاّ وظيفة المجتهد ولا وجه للعامي ان يقلد المجتهد في مقدمات الاستنباط ويستنبط هو بنفسه وإنما على المجتهد ان يفتيه بمضمون أحد الخبرين المتعارضين.

الفرع الثاني

 الافتاء بالتخيير في المسألة الفرعية

حجة القول بالإفتاء بالتخيير في المسألة الفرعية:

حجة القول الثاني هي ما ذكره الأستاذ الكبير والمحقق القدير الشيخ محمد حسين  الأصفهاني بأن أدلة حجية الخبر وأدلة  الحجية في مورد التعارض تعيناً في موارد وجود المرجح أو تخييراً كما في مورد  فقده مفادها جعل أحكاماً مماثلة لمؤدياتها فجعل الحجية تعيناً للخبر الراجح الدال على وجوب القصر مثلاً ترجع إلى جعل الوجوب للقصر بلسان جعل الحجية لذلك الخبر. وهكذا جعل الحجية تخيراً للمتعارضين المتعادلين للخبرين الدال أحدهما على وجوب الجمعة والآخر على وجوب الظهر يرجع إلى جعل الوجوب لهما بلسان جعل الحجية لهما على سبيل التخيير فالحكم الأصولي لا يختلف عن الحكم الفرعي لباً وإنما يختلفان عنواناً فالفرعي هو وجوب للجمعة والظهر تخييراً بعنوانهما الواقعي والأصولي عبارة عن الحجية التخييرية للخبرين اللذين قاما على وجوبهما. ودعوى ان الواقعة ليس لها إلاّ حكم واحد تعيني لا تخييري فالجمعة أو الظهر لو كانت واجبة فوجوبها تعييني في الواقع وهو منافي لجعل حكم تخيري لها بأن يكون الوجوب تخييرياً والمتنافيان لا يعقل صدورهما من الشارع الحكيم فاسدة، إذ لا منافاة بين ان يكون للواقعة بعنوانها الأولي الواقعي حكماً تعيينياً وبعنوان قيام الخبر عليها المعارض بالآخر حكمها تخييراً وهذا ليس بمستهجن فإن الواجب قد يكون حراماً إذا طرأ عليه عنوان يقتضي ذلك كالصوم الملقي في الهلكة. ودعوى ان الذي يتوجه إليه الحكم الأصولي هو المجتهد لانه هو الذي جاءه النبأ وهو الذي جاءه الحديثان المتعارضان وهو الذي في الاستصحاب يتيقن بالحكم سابقاً ويشك في بقائه لاحقاً فيكون هو المأمور بالتصديق بالخبر العادل وهو المأمور بالترجيح أو بالتخيير أو بالإبقاء للحكم السابق فالحكم المماثل مجعول للمجتهد ولا مساس له بمقلده فلا يصح ان يفتي له به فاسدة، لأن أدلة وجوب الإفتاء ووجوب التقليد يكون المجتهد نائباً عن المقلد في أحكامه فهو محكوم بأحكام المجتهد.

حجة المانع من الإفتاء في المسألة الفرعية بالتخيير:

إحتج من منع الإفتاء بالتخيير في المسألة الفرعية بعدم الدليل على التخيير في المسألة الفرعية إذ التخيير فيها ليس مؤدى أحد الخبرين. وبعبارة أخرى ان الواقعة حكمها تعييني في الواقع فكيف يجوز ان يكون تخييرياً فتكون الفتوى بالتخيير تشريعاً محرماً.

حجة القول الثالث بانه فيتي بما أختاره:

إحتج من  قال بانه يفتي المجتهد بما اختـــــاره لا بالتخيير في المسألة الأصولية ولا في المسألة الشرعية بأمور:

الأول: ان المجتهد إذا أخذ أحد الطرفين فيحصل له قياس مرتب على هيئة الشكل الأول وهو (إن هذا حكم الله في حقي) و(كل ما هو حكم  الله في حقي فهو حكم الله في حق مقلدي) فينتج (إن هذا الذي أخذته هو حكم الله في حق  مقلدي). وفيه ان الصغرى غير صحيحة  فإن الحكم الذي أخذه إنما كان باشتهاء نفسه ودواعيه الخارجية فلا دخل له في حكم الله وإنما حكم الله في حقه هو التخيير بين المتعارضين دون أحدهما على التعيين، والحاصل انه يجب على المقلد تطبيق عمله على رأي المجتهد لا تطبيق عمله على عمله.

الثاني: ان الأحكام العلاجية للتعارض لا تشمل العوام لا من جهة أخذ عنوان المجتهد فيها بل من جهة عدم صدق موضوعها في زماننا عليهم نظير عدم شمول أحكام المسافر للحاضر وعدم شمول أحكام الحيض للرجال فانها مأخوذ في موضوعها المتحير غير الصادق على العامي، أما انه ليس بمتحير لوجود المجتهدين لديه، أو لأن المراد بالمتحير المأخوذ فيها ليس مطلق الشاك في الواقعة ليستظهر شموله للعامي أيضاً بل المراد به هو الشاك في الحكم من جهة تعادل الأمارتين وتكافؤهما عنده مع قابليته لعلاج ذلك وليس هو إلاّ المجتهد كما ان العلاج بالترجيح أيضاً كذلك فإن موضوعه هو المتحير من جهة تعارض الأمارتين عنده مع قابليته لمعرفة الراجح منهما ولذا لو فرض ان العامي يرى ان  راوي أحد الخبرين أعدل أو أوثق من الآخر مع تساويهما في نظر المجتهد أو بالعكس فلا عبرة بنظر المقلد وكذا لو فرض تكافؤ قول اللغويين في معنى الرواية فالعبرة بتحيّر المجتهد لا تحيّر المقلد. ودعوى ان موضوع التخيير ليس هو المتحير بل من تعارض في حقه الحجتان والمقلد داخل في هذا الموضوع غاية الأمر انه غير ملتفت إليه، سلمنا لكن تحير المجتهد بمنزلة تحيره فهو نظير الاستصحاب فكما ان الشك والتحيّر الحاصل للمجتهد في بقاء الحكم الشرعي موجب لبقاء الحالة السابقة له ولمقلده فيه فكذا ما نحن فيه بأن يكون شكه فيما هو الحجة وتحيره فيه موجب للحكم عليه وعلى مقلديه بالتخيير فاسدة. فإن الشك في الاستصحاب في الحكم الشرعي نفسه المشترك بينه وبين مقلديه والشك في المقام في طريق الحكم  فعلاجه بالتخيير يختص بمن يتصدى لتعيين الطريق كما ان العلاج بالترجيح مختص به.

الثالث: ان الحكم بالتخيير إنما هو بالتخيير بين الحجتين ومرجعه إلى التخيير في استنباط الحكم من أيهما شاء بشروطه ولا ريب انه مختص بالمجتهد فإن الاستنباط وأخذ الحكم من الدليل عبارة عن الاجتهاد فيه الذي هو وظيفة المجتهد والمقلد عاجز عنه فلا يعقل تكليفه به فإن طريقه لتحصيل الواقع هو تقليده لغيره فيما استنبطه من الحكم. والحاصل ان المقلد ليس مكلفاً بالأحكام الأصولية كحجية الخبر والأخذ بالراجح لأن ذلك متوقف على  الاجتهاد وهو عاجز عنه فلا يجوز للمجتهد الإفتاء بالتخيير لأن التخيير لم يكن في الحكم الفرعي وإنما كان في حجية الخبر وهي مسألة أصولية لم  يكلف العامي بها لعجزه عن العمل بها وهو استنباط الحكم  من الخبر ويمكن ان يقال في رده ان اختصاص الطريق بالمجتهد لا يوجب اختصاص الحكم المستفاد منه به، فإن الحكم على الخبر بانه حجة ويجب العمل به وإن اختص بالمجتهد لمعرفته المعارض له والمخصص له والناسخ له إلا ان الحكم المستفاد منه حكم  له ولمقلده فالتخيير إنما كان في الطريق إلى الحكم الشرعي وإن اختص بالمجتهد إلا ان المجتهد يستنبط منه حكماً شرعياً تخييرياً بين مدلولي المتعارضين مشترك بينه وبين مقلده. ولو كان  اختصاص الطريق إلى الحكم بالمجتهد يقتضي اختصاص ما قام عليه من الأحكام الشرعية به للزم اختصاص سائر الأحكام الشرعية بالمجتهد حيث انها مستنبطة من الأدلة المختصة دليليتها وحجيتها به. ومن هذا ظهر لك صحة مقايسة المقام بالاستصحاب فإن المراد من الشك في بقاء الحكم هو شك المجتهد لا العامي لكن هذا إنمــــــا يوجب اختصــــــاص حجية الاستصحــــاب في الشبهـــة الحــكمية بالمجتهد لا اختصاص الحكم المستفاد منه به وهذا نظير أدلة أهل الخبرة أو أدلة الأطباء على المرض. والحاصل ان اختصاص الدليل بالمستدل لا يوجب اختصاص المدلول به. وإما ما ذكره المستدل من عدم العبرة بنظر العامي في ما كان مؤدى نظره في عدالة الراوي أو وثاقته مخالفاً لمؤدى نظر المجتهد وكــــذا في تكافؤ قـــولي اللغويين. ففيه مـــا لا يخفى لانه ان أريد بالعامي المذكور من يكون من أهل الخبرة في الرجال واللغة فهو ممنوع تقليده لذلك المجتهد لأن فهمه معتبر في حقه لكونه من أهل الخبرة وقد علم بخطأ مجتهده في مدرك الحكم فلا يجوز له الإتكال عليه لعدم الدليل على لزوم التقليد حتى في هذه الصورة، وإن أريد به من لا خبرة له بشيء من ذلك فلا اعتبار بفهمه أصلاً هذا مضافاً إلى انه لو كان عليه ان يفتي بما اختاره لما صح له الفتوى قبل اختياره لأحدهما لعمل نفسه ولما صح له الفتوى فيما كان ليس له علاقة به كأحكام النساء أو كأحكام المسافر إذا كان حاضراً إذا تعارض خبران في أحكامها. ويمكن الجواب عنه بأن المراد انه يفتي بما اختار الفتوى به لنفسه أو لمقلده. والأحوط في المقام ان يعرف العامي ان الحكم هو التخيير ويعرفه انه اختار الطرف الفلاني ويقول له ان الأولى والأحوط ان توافقني في التعيين والاختيار.

التنبيه الثالث: التخيير البدوي عند العمل

إذا قلنا بالتخيير البدوي هل الملزم له الذي لا يجوز العدول عنه بعده إلى الفرد الآخر عبارة عن مجرد الالتزام بمؤدى أحد الدليلين والبناء على أحد الطرفين ولو كان قبل وقت العمل أو الملزم هو الالتزام وقت العمل وإن لم يعمل بعد زمان الابتلاء به أو الملزم هو العمل نفسه والشروع فيه فلا يتعين أحد الطرفين بمجرد الأخذ والالتزام ولو زمان الابتلاء ووقت العمل إذا لم يصدر العمل نظير اختلافهم في مسالة التقليد؟

قد يستدل للوجه الأول بظاهر قوله (عليه السلام  ): (إذا لم تعلم فموسع عليك بأيهما أخذت وسعك). ومقتضى ظاهر اللفظ هو ثبوت التخيير بمجرد الالتزام والأخذ ولو في غير وقت العمل. وفيه:

أولاً: ان الأخذ هو العمل بأيهما لا مجرد الالتزام من دون العمل سلمنا لكن لا يدل على عدم جواز العدول إلى الآخر بعد الأخذ وإنما يدل على جواز الأخذ أما ان ذلك على نحو الإلزام وعدم جواز العدول قبل العمل فلا دلالة للرواية عليه.

ثانياً: ان المقصود من الأخذ لما كان لحصول العمل في الخارج وإلاّ فهو غير مطلوب بنفسه فلا جرم كان المطلوب هو العمل نفسه ولذا لا يكفي إيجاد الإلزام فقط واللازم هو العمل نفسه بأحدهما.

ويمكن ان يستــدل للوجـــه الثاني ان الالتزام والأخذ ليس مقصوداً بالذات ولا واجباً نفسياً وإنما هو مقدمة للعمل والتوصل به إليه، ومن المعلوم ان المقدمة لا تجب قبل وجوب ذيها فلابد ان يكون وجوب الأخذ في زمان وجوب العمل لا قبله. وفيه ان المطلوب هو العمل نفسه بأحدهما وليس الالتزام والأخذ مقدمة له كما هو شأن سائر الواجبات فإن المطلوب في مقام الإطاعة والامتثال هو العمل بها.

ويمكن ان يستدل للثالث بانه لا دليل على ان الالتزام بأحدهما موجب لحرمة الأخذ بالثاني وإنما المتيقن من الدليل هو التخيير في العمل بأحدهما فالالتزام والأخذ لا أثر له مضافاً إلى ان مقتضى الأدلة التي أقيمت على التخيير البدوي هو ذلك فإن منها لزوم المخالفة القطعية ولا ريب في عدم لزومها بمجرد الالتزام وإنما تلزم بالعمل بأحدهما في الواقعة وبالآخر في العمل مرة ثانية وهكذا الاستدلال بلزوم الهرج والمرج فانه إنما يلزم من العمل بهما لا من الالتزام.

التنبيه الرابع: ان التخيير لا يثبت للتعادل إلاّ بعد الفحص عن المرجح

لا ريب إذا قلنا بأن الترجيح بالمرجحات واجب وأن المرجوح ليس بحجة فلابد من الفحص عن المرجح ولا يجوز له التخيير بين المتعارضين لإحتمال ان ما اختاره هو المرجوح وهو ليس بحجة، ولكن يمكن ان يقال ان الشك في المرجح من قبيل الشبهة الموضوعية لانه شرط لوجوب الأخذ بالراجح نظير الاستطاعة للحج والشك في شرط الوجوب يكون من قبيل الشبهة الموضوعية ولا يجب الفحص فيها ويرجع لأصالة عدمه، كما انه على قول من قال بأن الترجيح بالمرجحات غير واجب وانه له التخيير حتى مع وجودها فالمرجوح لا يسقط عن الحجية فلا يجب الفحص.

وقد يستدل على وجوب الفحص بانه ان كان الدليل هو حكم العقل بالتخيير عند تساوي الأمارتين فلابد من إحراز حكم العقل بالتخيير ولا يكفي أصل عدم المرجح بل ولا الظن المعتبر لانه إنما يرتب على الظن المعتبر الآثار الشرعية والتخيير حسب الفرض حكم عقلي لا شرعي. ويمكن ان يقال عليه ان موضوع حكم العقل هو التساوي بنظر الشارع وهو قد يحصل بالقطع به وقد يحصل بالظن المعتبر بل بأصالة عدم المرجح فانها مثل أصالة عدم المعارض أو أصالة عدم المانع من الحجية للشيء فإن أصالة عدم المرجح ترجع إلى أصالة عدم المانع من حجية الخبر الآخر.

وإن كان الدليل على الحكم بالتخيير هو الإخبار فالحكم بالتخيير مؤخر عن الترجيح بالمرجحات المذكور فيها الحكم بالتخيير ومتفرع على عدمها فيكون مبنياً على عدمها فلابد من إحراز عدمها واقعاً وهو لا يكون إلاّ بالفحص عنها ويثبت هذا الحكم في غيرها بعدم القول بالفصل. وفيه ان الشبهة موضوعية ولا يجب الفحص فيها فيرجع لأصل العدم. ان قلت ان دلالة أخبار وجوب الترجيح بالمرجحات هو وجوب الفحص عنها بطريق اللزوم لأن وجوب الترجيح المذكور فيها مطلقاً لا انه مشروط بالعلم بوجودها فلو بني على عدم وجوب الفحص عنها لزم كون وجوب الترجيح مشروطاً بالعلم بوجودها من دون لزوم تحصيله كاشتراط الحج بالاستطاعة من دون لزوم تحصيلها. قلنا ان وجوب الترجيح بها مشروط بوجودها فمع الشك في وجودها يكون الأصل عدم وجودها، هذا مع ان بعضهم كالسيد شارح الوافية([122]) ذهب إلى استحباب الترجيح بها. ويمكن ان يقال ان الأخبار العلاجية إرشاد لحكم العقل وهو لا يحكم بالوجوب إلاّ إذا اطلع على المرجح وإلاّ للزم تخصيص أخبار التخيير بالأكثر لو خصصناها بأخبار المرجحات حيث من الشاذ النادر ان يوجد خبران متساويين بالمرجحات المذكورة، مضافاً إلى لزوم العسر والحرج في معرفة المرجح من الأفقه أو الأعدل. ونحوها من المذكورات مضافاً إلى اختلافها في عدد المرجحات وفي تقديم بعضها على بعض فيستظهر من مجموع ذلك انها إرشاد لحكم العقل من انه في المتعارضين لو اطلع على المرجح أخذ به وإلاّ فلا يجب عليه تحصيله والبحث عنه كما في سائر الطرق العقلائية وتحقيق ذلك سيجيء ان شاء الله.

حجة القائلين بوجوب الفحص

إحتج  القائلون بوجوب الفحص بأمور:

أولهما: الأخبار العلاجية وقد عرفت بانها لو سلمت دلالتها على وجوب الترجيح بالمرجحات المذكورة فيها فإنما تدل على وجوبه عند وجودها كما لو قال لك المولى: (إختن ولدك أكرم أباك واعطي الفقير في المسجد واكرم المجتهد في دارك) فانها إنما تدل على الوجوب عند العلم بوجودها ولا يلزم الفحص عنها مضافاً إلى إمكان دعوى انها إرشاد لحكم العقل لو اطلع على المرجح.

ثانيها: السيرة المستمرة على عدم العمل بأحدهما إلاّ بعد الفحص والبحث عن المرجح على سبيل الحتم واللزوم. ويمكن المنع منها ولعل القوم كانوا يعملون بالأخبار المتعارضة من دون فحص وترجيح ولعل من أهم أسباب وقوع الاختلاف في الفتوى بين الفقهاء هو عدم التزامهم بالفحص والعمل بالمرجحات حتى ان من المستدلين بالسيرة المذكورة أدعى استقرار سيرة العلماء على المسامحة والمساهلة في الفحص وعلل ذلك بانهم في أغلب الموارد وأكثرها يصلون بأدنى فحص عن المرجح بحيث يحصل لهم العلم بعدم مرجح أقوى منه. ولا يخفى عليك ما فيه فإن الفحص القليل لا يوجب العلم ثم من أين عَلم بانهم يفحصون.

 

 

 

 

 

الفصل الثالث

الأصل في المتعارضين بناءاً على السببية

هذا كله بناءاً على ما هو الحق المتفق عليه من ان المصادر المعتبرة والأدلة الشرعية المتبعة حجيتها من باب الطريقية المحضة بأن يكون المشرع قد جعلها حجة من جهة كشفها عن الواقع ومجرد طريقتها له لمحض التسهيل على نوع المكلفين من دون ان يكون هناك مصلحة للمكلف تحدث بقيامها، والوجه في ذلك هو ظهور أدلتها في ذلك والاتفاق عليه حيث لم يذهب أحد إلى ان الأمارات لم تنصب طرقاً للواقع أو ينكر انه لا حجة معتبرة طريقاً.

وأما بناءاً على السببية والموضوعية بأن كانت حجيتها من جهة انه بقيامها توجد مصلحة للمكلف بالإتيان بمؤداها غير جهة التسهيل توجب حكم الشارع  على طبقها وهي تتصور على أنحاء ثلاثة:

النحو الأول: وهي السببية المنسوبة للمعتزلة ان يكون مؤداها وما قامت عليه توجد فيه مصلحة توجب ان يكون مطلوباً بنفسه عند مخالفتها للواقع نظير العنوان الثانوي العارض على العمل فانه يولد فيه مصلحة جديدة توجب حكماً جديداً فيكون قيام الأمارة مثل ما إذا اضطر إلى الشيء يكــون في الشيء نفســـه المصلحـــة. ولا ريب انه يمكن ان يكون بناءاً على السببية بهذا المعنى ان تكون الأمارة واجب العمل بها حتى مع العلم التفصيلي بمخالفتها للواقع فضلاً عن العلم الإجمالي إذا كان الأمر كذلك بمعنى انها يتدارك بها الواقع لو خالفته، والفرق بين هذا الوجه وبين الطريقية المحضة هو ان المصلحة على الطريقية هو مجرد التسهيل للمكلف وهي موجودة مع الأمارة سواء طابقت الواقع أم خالفته وعلى هذا الوجه هو ان المصلحة تكون في مؤدى الأمارة إذا خالفت الواقع وإذا وافقته يتنجّز الواقع وهذه السببية المنسوبة للمعتزلة وهي وإن كانت باطلة لانها موجبة لانقلاب الواقع عما هو عليه بقيام الأمارة على خلافه والإجماع والروايات قد دلت على ان حكم الله في الواقعة لا يتغير ولا يتبدل بقيام الأمارة عليه (وإن حلال الله حلال ليوم القيامة وحرامه حرام ليوم القيامة)([123]) لا يتبدل بقيام الأمارات  عليه ولكن إذا بنينا عليها فحكم المتعارضين حكمها بناءاً على الطريقية لأن الأدلة على حجيته الأمارات واحدة سواء قلنا بالطريقية أو بالسببية في ان العلم بالكذب موجب لسقوطها عن الحجية. نعم لو قلنا بأن المانع من شمول أدلة حجية الأمارات للأمارة التي يعلم كذبها بناءاً على الطريقية هو ارتفاع طريقتها وزوال كشفها عن الواقع لانه هو الملاك لحجتها بخلافها بناءاً على السببية فإن الملاك لحجيتها هو المصلحة الحادثة في متعلقها وهي يمكن وجودها في الأمارة حتى مع العلم بكذبها فحينئذ يكون تعارض الأمارتين بناءاً على السببية من قبيل طرو العنوان الثانوي على موضوعين لا يمكن إتيانهما معاً كما لو اضطر إلى احترام مؤمن وإهانة آخر ولا يمكنه إتيانهما معاً ويكون المقام من باب التزاحم إذا كانا حكمين إلزاميين قد تعلقا بمتضادين ويكون التخيير بينهما ويسمى هو بالتخيير التنجّزي ولا يتعين عليه العمل بالأصل أو القاعدة الموافقة لأحدهما إذ الخطاب التعيني بكل منهما صار منجزاً بوصوله للمكلف وإنما طرأ العجز في مقام الامتثال. والحاصل ان دليل التعبد شامل لكليهما مع وجود المصلحة الملزمة في كل منهما نظير إنقاذ الغريقين والعقل يحكم بالتخيير بينهما ويكون المقام من باب الاحتياط لو كان قد تعلقا بغير متضادين كالظهر والجمعة ويكون المقام من باب دوران الأمر بين محذورين لو كانا قد تعلقا بفعل شيء وتركه ويسمى بالتخيير اللاحرجي بمعنى انه لا حرج في الفعل أو الترك فانه لمكان العلم بالإلزام المردد بين الترك والفعل لا مجرى للبراءة العقلية ومن أجل عدم خلو المكلف من الفعل المشتمل على المصلحة أو الترك المشتمل على مصلحة أخرى فالعقل يحكم بالتخيير بينهما وعدم الحرج في ارتكاب أيهما شاء ولا يتعين أحدهما. ان قلت ان المورد يكون من باب اجتماع الأمر والنهي في الشيء الواحد بلا تعدد الجهة وهو ممتنع حتى على القول بجواز اجتماع الأمر والنهي. قلنا في المقام اجتمع الوجوبان من جهة شمول دليل التعبد للأمارتين المشتملتين على المصلحة الملزمة نظير الابتلاء بالغريقين وهو من قبيل اجتماع الواجبين في موضوعين وجوب التعبد بهذه الأمارة وجوب التعبد بالأخرى متفرعين من وجوب التعبد بالأمارة نظير وجوب إنقاذ الغريق الذي يتولد منه إنقاذ هذا الغريق وإنقاذ ذلك الغريق. وأما إذ كانا حكمين أحدهما غير إلزامي فالمتعين هو إتيان الإلزامي منهما إذ الحكم الإلزامي فيه اقتضاء لمتعلقه والعقاب على مخالفته بخلاف غير الإلزامي فانه ليس فيه اقتضاء لمتعلقه. نعم إذا كان قيام الأمارة على الإباحة سبباً لحدوث المصلحة في جعل الإباحة فيكون مؤدى الأمارة مباحاً فعلياً ولا يزاحمه اقتضاء المصلحة للحكم الإلزامي الفعلي لأن المصلحة إنما تقتضي الحكم الإلزامي إذا لم يمنع من اقتضائها مانع ولا ريب ان  المصلحة المقتضية للإباحة مانعة من تأثيرها لانها تقتضي عدم الإلزام فعلا وهي في مرتبتها ومساوية لها لانها حدثت بسبب واحد وهو شمول دليل التعبد بالأمارة لها وإذا كان عدم  الإلزام مساوٍ للإلزام حدث الكسر والانكسار بينهما فتحقق الإباحة.

النحو الثاني: ان تكون السببية بمعنى المصلحة في سلوك الأمارة نفسه ومتابعتها يتدارك بها ما يفوت من مصلحة الواقع عند المخالفة حتى لو زالت طريقتها للواقع كما لو علم إجمالاً بكذبها بحيث يكون قيام الأمارة المخالفة مانعاً عن فعلية الحكم الواقعي لكون مصلحة سلوك الأمارة غالبة على مصلحة الواقع. فالحكم الواقعي فعلي في حق غير من قامت عنده الأمارة وأما من قامت عنده الأمارة المخالفة فشأني إذ لو بقى على فعليته لوجب الإتيان به عند إحتماله فيكون الواجب عند قيام الأمارة هو الإتيان بمؤدى الأمارة ومتعلق الحكم المحتمل نظير ما إذا كان في متابعة خبر السلطان مصلحة وهي رضاه وإن كان فيه مخالفة للواقع ونظير سلوك بعض الناس سلوك المتعارف بينهم مع انه لا مصلحة فيه كما يلبس ملابس في الحر متابعة لأهل البلد فالمصلحة في السلوك لا انه مصلحة في العمل نفسه. والسببية بهذا المعنى تسمى بالمصلحة السلوكية والتي يظهر اختيارها على القول بها من كلام الشيخ الأنصاري ( رحمه الله ) في أول مبحث الظن وينسب الذهاب إليها للمحقق النائيني. وهذه السببية وإن كانت مخالفة لأدلة حجية الأمارات لا سيما الأمارات العقلائية التي أمضاها الشارع إلا أنا لو قلنا بها فعند تعارض الأمارتين يكون الكلام مثل الكلام في السببية بالمعنى الأول غاية الأمر ان المصلحة كانت في المعنى الأول في متعلق الأمارة المخالفة وفي المعنى الثاني في سلوك الأمارة. ان قلت ان المصلحة السلوكية في الأمارة فرع كونها طريقاً معتبراً إلى الواقع ولا يمكن جعل المتعارضين طريقين للزوم المناقضة. قلنا جعل الشارع تابع لحدوث المصلحة لا ان المصلحة توجد بجعل الشارع فمع فرض حصولها بقيام الأمارة يتحقق الجعل إلا انه غير منجز. وبعبارة أخرى ان الشارع لما علم بأن المصلحة الملزمة تحدث عند  قيام الأمارة شرع حجيتها وأوجب متابعتها كما يشرع سائر الموضوعات ذات المصلحة الملزمة فإذا تنافت وتعاندت أفرادها بعضها مع بعض بحيث لا يمكن الجمع في امتثالها كانت كما يتنافى ويتعاند أفراد الواجب بعضها مع بعض كإنقاذ الغريقين فيقع بينهما التزاحم فقيام الأمارتين ينطبق عليه الموضوع الذي أخذ في حجيتها بتمامه وحيث ان الإطاعة والامتثال بيد العقل فالعقل في مثل هذه الصورة يلزم بالراجح منهما أو محتمل الأرجحية ويتخير عند تساويهما كما هو شأن كل متزاحمين.

النحو الثالث: انه ليس في الواقع حكم للشارع أصلاً ويكون قيام الأمارة سبباً لفتوى المجتهد على طبقها وفتوى المجتهد سبباً لجعل الحكم على طبقها وهو المنسوب للاشاعرة المعبر عنه بالتصويب([124]) وبناءاً عليه فالحكم تابع لرأي المجتهد فلا تزاحم في حقه لأن ما أدى إليه رأيه هو حكم الله في حقه فعند التعارض أما ان يرجح في نظره أحدهما على الآخر فيكون مؤداه هو حكم الله في حقه وأما ان يؤدي نظره إلى التخيير بينهما فحينئذ يكون الحكم الواقعي هو التخيير الشرعي بين مؤداهما هذا. ان قلت ان الحق ان تعارض الأمارتين بناءاً على السببية لا يكون من باب التزاحم أصلاً لانه في المتعارضين يعلم بموافقة أحدهما للواقع والفرض انه بقيام الأمارة المخالفة للواقع موجب لزوال فعلية الحكم الواقعي وتنجّزه إذ لو بقى على فعليته وتنجّزه لوجب الإتيان به مع إحتمال وجوده نظير الحال فيما قبل الفحص، وعليه فإذا فرض زوال فعليته وتنجّزه فلا يكون ما دل عليه يزاحم ما دلت الأمارة عليه لذهاب مطلوبيته ويكون المتعارضان من قبيل معارضة ما دل على الحكم غير المنجز مع ما دل على الحكم المنجز، وعليه فلا يعلم كون مؤداها حكمين فعليين منجزين فلا يكونان متزاحمين وإنما يعلم إجمالا ان المنجز منهما واحد وهو المخالف للواقع دون الموافق للواقع ولا يكون كلاهما موافقين للواقع لتنافيهما. نعم لو كان كلاهما مخالفين للواقع وقع التزاحم بينهما لكن المتعارضين لا يحرز فيهما ذلك وإنما هو أمر يحتمل فيهما فلا يحرز موضوع التزاحم ويعاملان معاملة اشتباه الحجة باللاحجة قلنا ان الفرض بقيام الأمارة الموافقة للواقع يتنجّز الواقع بمعنى انه بقيام الأمارة على الواقع تتأكد مصلحة الواقع أو تزداد بحيث تجعل الواقع منجزاً ومطلوباً مثل مطلوبية مؤدى الأمارة المخالفة له كان التزاحم بينهما.

وتحقيق الحق

والحق في المقام انه لا فرق بين القول بالسببية وبين القول بالطريقية وما ذكرناه جريا على فهم القوم وإلاّ فالتحقيق ان أدلة الحجية والاعتبار تدل على وجوب السلوك فيتزاحم الطريقان في وجوب السلوك سواء قلنا بالطريقية أو بالسببية فالتزاحم  في الحكم الثابت للدليلين المتعارضين وهو وجوب سلوكهما لا في الحكم الذي دلا عليه حتى يقال لا تزاحم فيما إذا تعارضا بالسلب والإيجاب أو بغير الضدين كالظهر والجمعة أو ان الحكم الدال عليه أحدهما فعلي دون الآخر وينسب لبعض فطاحل العلم الذهاب إلى عدم التزاحم بناءاً على السببية لوجهين:

الأول: ان دليل الحجية لا يشمل المتعارضين فلا يكون فيهما مصلحة تقتضي الحكم على طبقها فلا تزاحم بينهما لانه يكون من قبيل الحجتين غير المعتبرتين. وفيه ما عرفته  من انه شامل لهما قهراً لأن الشمول إنما يكون بانطباق العنوان على الفرد والعنوان المأخوذ في دليل الحجية منطبق على المتعارضين قهراً فهو شامل لهما وإنما نرجع للعقل في بقاء الحكم لهما بعد التعارض أو زواله عنهما أو عن أحدهما.

الثاني: وهو الذي يظهر من المرحوم السيد كاظم اليزدي في كتابه التعادل والتراجيح ص81 وتبعه بعض أساتذة العصر ان شرط التزاحم هو العجز عن الامتثال لا عدم إمكان جعل التكليف وفي المقام لا يمكن جعل التكليف لأن المتعارضين يدل أحدهما على التكليف بالشيء والآخر يدل على عدمه أما بالمطابقة كما لو دل أحدهما على وجوب شيء والآخر على عدمه أو بالالتزام كما لو دل أحدهما على وجوب شيء والآخر على حرمته أو على وجوب ضده والمفروض ان قيام الأمارة على الحكم موجبة لحدوث المصلحة التي تقتضي إنشاءه على طبقها. وقيام الأمارة على عدمه موجب لعدم المصلحة التي تقتضيه فيلزم اجتماع المصلحة وعدمها في شيء واحد وهو محال في نفسه فلا إنشاء للحكم على طبقها لمحالية تحقيق المصلحة التي تقتضيه ويزداد الأمر قوة وتأكيداً في المتعارضين بالوجوب والحرمة لشيء واحد فانه يلزم حدوث المصلحة الملزمة والمفسدة الملزمة في شيء واحد وهو محال لانه اجتماع للضدين وإذا كان تحققهما محال لم ينشأ حكم على طبقهما حتى يكون تزاحم بينهما في مقام الامتثال مضافاً إلى ان التكليف في الصورة المذكورة بفعل الشيء وتركه ان كان مجتمعاً معاً تكليف بغير مقدور وإن كان تخييراً بينهما فهو طلب للحاصل لعدم خلو المكلف عنهما فتكليفه بأحدهما تخييراً بأحدهما لغو فلا تكليف حتى يكون من التزاحم. ويمكن ان يناقش ذلك بأن المشرع بناءاً على السببية لما رأى ان قيام الأمارة موجب لحدوث المصلحة الملزمة لإنشاء الحكم على طبقها فأنشأ الوجوب بالعمل بها وسن القانون بوجوب متابعتها فإذا وجد منها فردان لا يمكن العمل بهما وقع بينهما التزاحم فيكون كل منهما واجباً سلوكه وجوباً فعلياً لأن قضية سببية الخبرين للحكمين كان نظير ابتلائه بموضوعين لحكمين في كونهما سبباً لحدوث حكمين فعليين عجز عن امتثالهما معاً نظير ما إذا حصل عنده إحراق  نار لمؤمن وغرق في ماء لمؤمن آخر فإن كل منهما سبب لحدوث حكم فعلي وهو وجوب الإنقاذ عليه ولكنه عاجز عن امتثالهما معاً. والحاصل انه بناءاً على السببية يكون قيام الأمارة تمام الموضوع للحكم على طبقها نظير حصول الموضوع لحكم شرعي وعلى هذا يكون التنافي بينهما في مقام الامتثال لا في مقام التشريع إذ التشريع كان للطبيعة بوجودها السعي العام ويترشح لكل فرد منها ذلك الحكم ولكن الإطاعة  ليست راجعة للمشرع بل هي يرجع أمرها إلى عقل العبد كيفية وكمية ونظير ذلك إنقاذ الغريق المؤمن فإن الشارع لما رأى فيه مصلحة ملزمة أوجبه على المكلفين فإذا ابتلى بفردين منه كان كل منهما واجباً ويمنع من وجوب الآخر وليس ذلك موجباً لذهاب المصلحة الملزمة منهما لانه منع تبعي لا أصلي وإن شئت قلت ان الأمارة بناءاً على السببية إذا قامت على شيء نظير الاضطرار إليه إذا حدث فيه توجد مصلحة ملزمة له فإذا وجدتا إمارتين متعارضتين كانتا نظير ما إذا اضطر إلى شيئين لا يمكن الجمع بينهما وليس ذلك يوجب سقوط الاضطرار إليهما، ومنع أحدهما عن الآخر منع تبعي للوجود، لا يقتضي مصلحة أو مفسدة مغايرة للوجود، وعليه فالعقل يتخير بينهما لدوران الأمر بين محذورين ففي صورة قيام الأمارتين على أمرين متنافيين بناءاً على السببية يكون الأمر كذلك، وأما كون أحدهما تدل على وجوب شيء والأخرى على حرمته إنما يقتضي وجود المصلحة الملزمة في الوجود والمصلحة الملزمة في الترك فهما سببان  للحكم  في محلين أحدهما وجود الشيء والثاني تركه وهما سببان لحكمين في محلين وطالما يكون الشيء في وجوده مصلحة وفي تركه مصلحة. نعم في هذا الفرض من التعارض أعني ما دل على وجوب الشيء وما دل على حرمته بناءاً على السببية يكون ذلك من اجتماع الأمر والنهي في محل واحد وهو فعل ذلك الشيء فانه يكون محرماً وواجباً  كالفعل المنطبق على عنوان الصلاة وعنوان الغصب لكن هذا بناءاً على السببية في المؤدى، وأما بناء على السببية في السلوك فلا يكون من باب اجتماع الأمر والنهي لانه يكون عندنا وجوب العمل بسلوك الفعل ووجوب عمل بسلوك الترك فيكون وجوبان في محلين مختلفين أحدهما الفعل والآخر الترك، وأما دعوى وقوع التكاذب بينهما لانه قد دلت إحداهما على الحكم والأخرى على عدمه بالمطابقة أو بالإلتزام فهما يدلان على الاشتمال على المصلحة وعلى عدمها فهو مبني على حكاية الأمارة عن المصلحة وهو غير صحيح حيث ان الأمارة بناءاً على السببية يكون بوجودها تحدث المصلحة نظير العنوان الثاني الذي بوجوده توجد المصلحة فالمصلحة من قبيل اللوازم لقيام الأمارة ووجودها لا من قبيل المدلول لها فعند قيامها على الوجوب تحدث المصلحة الملزمة وعند قيامها على عدمه تحدث مصلحة تقتضي عدم الوجوب فيكون المقام من قبيل تزاحم المصلحتين إحداهما تقتضي الوجوب والأخرى عدمه، ومن المعلوم ان الشيء الواحد يمكن ان يعرض عليه ما يوجب المصلحة الملزمة في وجوبه ويعرض عليه شيء آخر ما يقتضي عدم المصلحة في وجوبه كالصدقة فانها قد تعرض عليها شدة الحاجة إليها بحيث نستدعي طلبها ويعرض عليها عنوان آخر يستدعي عدم وجوبها كصرفها فيمن يؤذي نفسه بها، وبعبارة أخرى انها سبب لحدوث المصلحة على طبقها فالأمارة القائمة على عدم الوجوب لا تدل على عدم المصلحة التي سببتها أمارة الوجوب وإنما تقتضي وتسبب مصلحة تقتضي نفي الوجوب، وأما دعوى عدم تمامية ذلك فيما لو كان التعارض بين ما دل على وجوب شيء وما دل على عدمه وبين ما دلا على الضدين اللذين لا ثالث لهما لانه لو أثرت المصلحة لزم الوجوب التخييري بينهما وهو باطل لانه تحصيل للحاصل فهي فاسدة، لأن الوجوب التخييري الإنشائي كوجوب خصال الكفارة يكون لغواً أما لو كان للوجود وجوباً عينياً ترشح عليه من وجود المصلحة فيه وانطباق عنوان قهري عليه فهو يكون واجباً بوجوب ترشحي قهري نظير المقدمة المحرمة، وهكذا الترك يرشح عليه الوجوب عيني من انطباق عنوان عليه فيكون العقل يُخير بينهما فلا قبح فيه لأن العقل حينئذ يزيل العينية نظير الغريقين، هذا مضافاً إلى ان القائلين بالسببية إنما يقول بها بالنسبة إلى معناها المطابقي فليس للمعنى الإلتزامي مصلحة أو مفسدة وراء ذلك وإنما هو تابع للمطابقي بحسب الاقتضاء نظير الاضطرار فانه يولد مصلحة في متعلقه، وأما عدمه فهو تابع له فالمفسدة في ترك متعلقه عبارة عند عدم حصول تلك المصلحة للفعل لاشيء غيره هذا على مسلك القوم. ولكن التحقيق ان التكاذب بينهما موجود سواء قلنا بالطريقية أو بالسببية ولكنك قد عرفت ان التزاحم في الحكم على الدليلين بوجوب السلوك لتنافيهما لا ان التزاحم في الحكم الذي دلا عليه فلا حاجة لإتعاب النفس.

 

 
 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الباب الثالث

الترجيح

    وفيه ثلاثة فصول:

 

 

 

الفصل الأول

تعريف الترجيح

المبحث الأول

معنى الترجيح لغة

الترجيح على وزن تفعيل مصدر من رجَّح بتشديد الجيم كقدّس تقديس وهو في اللغة على ما صرح به غير واحد جعل الشيء راجحاً نظير بوّب الكتاب تبويباً أي جعله ذا أبواب وعلم الإنسان تعليماً أي جعل الإنسان عالماً([125]).

المبحث الثاني
تعريف الترجيح اصطلاحاً

عرف أكثر الأصوليين الترجيح هو (اقتران أحد الأمارتين بما تقوى به على معارضها)، وعليه فيكون المناسبة بينه وبين المعنى اللغوي المصححة لإطلاقه السبب للمسبب لان كون الأمارة ذات مزية سببا لجعلها راجحة وعن المحقق البهائي في الزبدة والشارح الجواد وبعض المتأخرين هو تقديم أمارة على أخرى في العمل بالمؤدى، وعليه يكون المناسبة بينه وبين المعنى اللغوي المصححة للإطلاق هي مناسبة إطلاق الكلي على أحد أفراده لان هذا التقديم هو بنفسه ترجيح، ولا ريب ان التعريف الأول هو الأنسب لعنوان التعارض والتعادل اللذان يستعملان معه في هذا الباب فإنهما صفتان للأمارة وبالتعريف الأول يكون الترجيح من صفات الأمارة بخلافه على التعريف الثاني فإنه يكون من أفعال المجتهد فإن التقديم للأمارة على الأخرى فعل للمجتهد مضافاً إلى ان كلام القوم في هذا الباب إنما هو في بيان حال المزايا والرجحان الموجود في الأدلة المتعارضة وذكر أنواعها والمعتبر منها وغير المعتبر وهو المناسب لعلم الأصول الباحث عن أحوال الأدلة دون فعل المجتهد كما هو الحال في سائر مباحثه وليس فعل المجتهد من العوارض على موضوع علم الأصول لكي يبحثوا عنه. نعم ربما يذكرون ما هو طريق العمل للمجتهد في مقام الاستنباط من وجوب بناءه العام على الخاص وحمله المطلق على المقيد ونحو ذلك لكنه ليس مقصوداً بالذات في هذا العلم وإنما هو بالتبع أو بالاستطراد من جهة كون علم الأصول مقدمة لعلم الفقه الذي لفعل المجتهد مدخلية في استنباط مسائله من تلك الأدلة. وعليه فدعوى كون الترجيح في اصطلاح الأصوليين عبارة عن فعل المجتهد كما هو قضية التعريف الثاني مما لا معنى له قال المرحوم الحجة الشيخ أحمد بن الحسين: ان مما يشهد على ذلك ذكر جماعة الترجيح في أول العنوان بصيغة الجمع ومن المعلوم ان المصدر لا يثنى ولا يجمع إلاّ مع اعتبار قيد الوحدة والتعدد فيه بحسب أفراده أو أنواعه وهو إنما يتم لو أريد به المعنى الأول لصحة إتيإنه بلفظ الجمع  بإرادة أفراد المزايا وأنواع المرجحات بخلاف ما لو أريد به المعنى الثاني فإنه خلاف الظاهر إذ يلزم منه اعتبار قيد الوحدة والتعدد بالنسبة إلى خصوصيات موارد تقديم المجتهد إحدى الأمارتين أو بالنسبة إلى خصوصيات تقديمه أحد الأمارتين بحسب المزايا الموجودة فيها.

 

 

الفصل الثاني

أحكام الترجيح

الحكم الأول

الترجيح بالمزية غير المنصوص عليها من المشرع

نسب إلى أكثر المجتهدين القول بوجوب الترجيح بكل مزية وإن لم تكن منصوصاً عليها من المشرع عدا الفاضل النراقي صاحب المناهج والسيد صدرالدين شارح الوافية وصاحب الوافية وصاحب الحدائق بل إلى الأخبارين قاطبة. وتحقيق الحق هو عدم الوجوب وذلك يتضح بنقل حجج الطرفين.

القول الأول: حجة القائلين بوجوب الترجيح بالمزية غير المنصوص عليها

ما يمكن ان يحتج به أو إحتج به القائلون بوجوب الترجيح بالمزية التي لم يقم الدليل عليها:

 الدليل الأول: سيرة الصحابة على ذلك فقد حكي عن العلامة الحلي ( رحمه الله ) في النهاية: (دعوى الإجماع من الصحابة على ذلك في جميع الموارد حيث قدموا ما ورد من انه (إذا التقى ختانان فقد وجب الغسل)([126]) على خبر أبي هريرة: (إنما الماء من الماء) ومثل ما قدموا خبر أبي هريرة: (من أصبح جنبا فلا صوم له)([127]) على خبر عائشة ان النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم) كان يصبح جنباً وهو صائم) ونحو ذلك من تقديم بعض الأخبار على بعض. وظاهره دعوى الإجماع العملي من الصحابة لاستشهاده بعملهم على ذلك، وقد روي عن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم) انه قرر معاذاً في تقديم الأدلة بعضها على بعض حين بعثه قاضياً للمدينة. ولا يخفى ما فيه فإن عمل الصحابة لا يكشف عن قول الإمام (عليه السلام  ) لاحتمال كون وجه عملهم هو الاستحباب أو نحو ذلك فوجه العمل ليس معلوما.

الدليل الثاني: دعوى الإجماع من صاحب المفاتيح وصاحب الإشارات على وجوب الترجيح لعدم المخالف منا إلاّ ما يحكى عن السيد صدرالدين، وخروجه غير مضر في تحقيق الإجماع ألا ترى ان القوم قدموا الخبر المروي في الكتب الأربعة على الخبر المنقول في غيرها وقدموا رواية الكليني ( رحمه الله ) في الكافي على رواية الشيخ الطوسي ( رحمه الله ) وغيره لكون الكليني أضبط، وقدموا خبر من لا يحضره الفقيه لالتزام الصدوق ( رحمه الله ) ([128]) فيه بإنه لا يروي إلاّ عن ثقة ويعمل به ويفتي بمضمونه وهذه كلها من المرجحات  غير المنصوصه التي توجب الأقربية للواقع رجح بها الأصحاب، كذا ذكره المرحوم فرج الله بن المرحوم ملا محمد التبريزي([129]) ويظهر من المحكي عن المعارج وعن المحقق الشريف ان الخبر يقدم على معارضه إذا كان موافقاً للقياس لانه أقرب إلى الواقع، وكذا صرح جماعة بتقديم أحد الخبرين بعمل أكثر السلف معللين بإنه أقرب للواقع. وبالجملة ان من تتبع كلماتهم يحصل له القطع بأن بناءهم على الأخذ بما هو أقرب للواقع ونقل المرحوم الشيخ أحمد بن الشيخ حسين ان بعض المتأخرين صرح بإنه لو فرض عدم القطع من هذه الكلمات بمرجحية مطلق الظن المطابق لمضمون أحد الخبرين فلا أقل من حصول الظن منها، والظاهر وجوب العمل به في مقابل التخيير وإن لم يجب العمل به في مقابل الأصول. ولا يخفى عليك ما فيه لأن الإجماع يحتمل استناده إلى الأدلة المذكورة في المقام أو للاحتياط فتكون هي المتبعة لانه مع هذا الاحتمال لا يكشف الإجماع عن قول المعصوم (عليه السلام  )، مضافاً إلى مخالفة من هم فطاحل العلم كالسيد صدرالدين والمحقق القمي والمحكي عن رئيس المحدثين في أول أصول الكافي والاخبارين.

الدليل الثالث: ان مقتضى القاعدة في ما شك في حجيته هو عدمها للأدلة الأربعة الدالة على حرمة العمل بما وراء العلم، وخرج عن هذا العموم ذو المزية قطعاً لشمول أدلة حجية الأمارة بخلاف الفاقد لها فإنه لم يعلم خروجه من تلك العمومات فيكون العمل به عملاً بغير العلم. وقد أجبنا عن هذا الدليل في المجلد الثاني من كتابنا النور الساطع عند البحث عن وجوب تقليد الحي ووجوب تقليد الأعلم بأن الدليل الذي أخرج الواجد للمزية يشمل الفاقد لها حيث لم يكن مخصصاً ولا مقيداً بما كان فيه المزية، والفرض عدم دليل آخر على الترجيح بهذه المزية وإلاّ لما كان بينهما تعارض، وعليه فلا مرجح لأحدهما دون الآخر في الخروج والدخول.

الدليل الرابع: قاعدة الاشتغال لان الأمر دائر بين تعيين الأخذ بذي المزية وبين التخيير بينه وبين الفاقد لها فالأخذ بذي المزية موجب للقطع ببراءة الذمة بخلاف الأخذ بالفاقد لها، ولا ريب ان الاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني.

ودعوى انه قد تقرر في محله ان في دوران الأمر بين التعيين والتخيير أصل البراءة يقتضي عدم التعيين-لأن بالتعيين كلفة زائدة والأصل عدمها فاسدة، لان ذلك لو تم إنما يتم في التكاليف الشرعية لا في الطرق الشرعية لان في تعيين الحجية لم يكن كلفة وإنما جعل حكم وضعي، سلمنا انه يرجع للتكليف بالعمل بالمؤدى لكنه تكليف طريقي ليس بمقصود بالذات بل لتحصيل الواقع نظير الوجوب المقدمي. ولا يخفى عليك ما فيه أولاً: فإن التعيين كلفة زائدة وهي الأخذ بخصوص الشيء وبعينه وتجري البراءة منها باعتبار احتمال ترتب العقاب بمخالفتها وإن لم تكن حكماً شرعياً فرعياً فإنه لو كان المطلوب العمل به وكان مطابقاً للواقع حسن المعاقبة من المولى على عدم العمل به. وثانياً: ما ذكرناه في كتابنا النور الساطع ص458   ج2  في مبحث تقليد الأعلم  بأن أدلة الحجية ان كانت شاملة لهما فمقتضى شمولها عدم اعتبار تلك المزية وعدم التعيين بها، وإن كانت غير شاملة لهما فمقتضى القاعدة سقوطهما لا دوران الأمر بين التعيين والتخيير وإن أدعي أنها مجملة والقدر المتيقن منها هو ذي المزية فلازم ذلك ان يكون الفاقد لتلك المزية ليس بحجة حتى لو لم يعارضه دليل آخر قال المرحوم مرزا حبيب الله الرشتي([130]) مجيباً عن هذا الدليل بتوضيح وتنقيح منا: ان احتمال تعيين ذي المزية لا يجعل وجوب العمل بالآخر مشكوكاً إذ المفروض شمول الدليل لهما وانطباقه عليهما على سبيل القطع وإلاّ خرج المقام عن باب التعارض فلا يصح ترجيح أحدهما على الآخر إلاّ بعد قيام دليل آخر على ان هذه المزية موجبة لوجوبه بعينه وفرض كلامنا انه لم يقم دليل على ذلك وإنما نحن ودليل المتعارضين، ودعوى الإجماع على عدم سقوطهما عن الحجية يقتضي الأخذ بالراجح منها للقطع بحجيته والشك في حجية الآخر مدفوعة أولاً: بأن الإجماع يحتمل استناده للأدلة المذكورة في المقام أو للاحتياط. وثانياً: ان كان المراد تعلق الجعل الشرعي فعلاً به دون الآخر فالمفروض جعل كل منهما وإن كان المراد خروج ذي المزية إلى الفعلية دون الآخر بالشرع فالأصل عدمه.

الدليل الخامس: ان ذا المزية أرجح من غيره والعدول من الراجح إلى المرجوح قبيح عقلاً، وقد استدل بهذه القاعدة على المطلوب جملة من فطاحل العلم ومثله الاستدلال بأن ذا المزية أهم من الفاقد لها ويقبح تقديم المهم على الأهم . وفيه ان الأخذ بالراجح إنما هو بعد شمول دليل الحجية لهما وإلاّ لما صارا متعارضين فتقديم الراجح بحكم العقل ممنوع لوجود ما هو الملاك في الحجية  فيهما. وقد أجبنا عنه في كتابنا النور الساطع بإنه ان أرادوا إجرائها بالنسبة إلى العبد المكلف بمعنى إنما يكون راجحاً بالنسبة له فهو يرجح ما كان تهوى نفسه من أي العملين بأي دليل كان وإن أرادوا إجرائها بالنسبة إلى الشارع فلابد من دليل يدل على أرجحية ذي المزية عند الشارع مع ان فرض الكلام عدم وجود الدليل على ذلك وإنما يحتمل الترجيح بالمزية، ومنه يظهر الجواب عن جعل المقام من باب الأهم والمهم ووجه الظهور ان الأهم الذي يقدم هو ما كان وجوبه اكـــد في نظر الـــمشرع واهتمامه به أكثر فإنه الذي لا ريب في وجوب تقديمه، ومن المعلوم ان الأهمية لا تثبت إلاّ من المشرع وفي المقام لم يقم دليل على الأهمية لذي المزية حيث ان فرض الكلام انه لا دليل عليها.

الدليل السادس: ان بناء العقلاء والفطرة على وجوب ترجيح ذي المزية عند التعارض. ولا يخفى عليك ما فيه فأنا قد ذكرنا في كتابنا النور الساطع ان أرباب الصناعات إذا كان الخالي من المزية أقل كلفة أو أقرب تناولاً أو ألين عريكة أو نحو ذلك فإن العقلاء يرجعون إليه وإلاّ لبارت

سلعة المفضولين ولعلك تجد ذلك في رجوع الناس إلى الأطباء المفضولين وباقي ذوي المهن المرجحين لا سيما إذا كان الشخص هو قد جعل طرقاً لمعرفة مطلوبه فلا ريب ان العقلاء لا يعتنون بالمزية المحتمل للترجيح بها. نعم لا يبعد ان يدعى ان ذلك مما يستحسن عند العقلاء وعامة الناس، على انه بعد تساويها في الموجب لصحة الأخذ بهما لا وجه  للإلزام بأخذ الراجح منهما وإنما هو أمر يستحسن كما هو الشأن في امتثال التكاليف فإنهم لا يلتزمون بإتيان الفرد الراجح ويدلك على عدم سقوط المرجوح عندهم انه لو لم يتمكنوا من العمل بالراجح عملوا بالمرجوح مع انه لو كان الواجب هو العمل بالراجح وسقوط المرجوح عن الحجية لما عملوا بالمرجوح.

الدليل السابع: قوله ( صلى الله عليه وآله وسلم): (دع ما يريبك إلى مالا يريبك)([131])  وفيما اشتهر من الروايات فإنه يستفاد منه انه إذا دار الأمر بين أمرين في أحدهما ريب ليس في الآخر ذلك الريب يجب الأخذ به، كما استدل به المحقق الكاظمي في محكي شرح الوافية بتقريب ان الريب المنفي ليس هو الريب الحقيقي ولا الأعم منه ومن الريب الإضافي لان أخذ مالا ريب فيه أصلاً وترك ما فيه الريب ليس محل إشكال وتردد فلا يحتاج إلى نهي الإمام (عليه السلام  ) عنه بل المراد منه هو الريب الإضافي بمعنى ان الخبر الذي ليس فيه ريب مثل الريب الذي في الخبر الآخر يجب الأخذ به فيدل هذا الخبر الشريف على قاعدة كلية في تعارض الأخبار وهي وجوب الأخذ بكل ما فيه نوع أقربية للواقع، وذكر الشيخ الأنصاري في رسائله بعد نقل هذا الخبر انه دل على وجوب الأخذ بالخبر الذي لا ريب فيه مثل ريب المعارض له فإذا فرض كون أحد المتعارضين منقولاً بلفظه والآخر منقولاً بالمعنى وجب الأخذ  بالأول لان احتمال الخطأ والسهو في النقل بالمعنى منفي عن الأول، وكذا إذا كان أحدهما أعلى سنداً لقلة الوسائط إلى غير ذلك من المرجحات. وأورد عليه بإنه قد إعترف في مبحث البراءة بأن الأمر فيه للإرشاد كما حقق ذلك في مبحث الشبهات البدوية ومسألة الأقل والأكثر والأمر الإرشادي تابع للمرشد إليه والمرشد إليه العقل فيما نحن فيه هو التخيير بينهما وإنما يستحسن العقل ذلك فإن المولى بعد ان جعل لمعرفة مطلوبه طريقاً لم يخصصه بتلك المزية فالعقل يرى عدم وجوب العمل بها ونظير الاحتياط في تحصيل مطلوب المولى، مضافاً إلى انه لو دل على الوجوب لكان يقتضي الاحتياط والعمل بما هو الأحوط من مدلولي المتعارضين دون ما فيه المزية، مضافاً إلى انه بعد ثبوت حجية كل منهما عند المشرع لم يكن في الأخذ بالمرجوح ريب بالنسبة للراجح إذا لم يكن له بيان في أرجحيته، مضافاً إلى ان المراد هو مالا ريب في صحته لان النفي يقتضي العموم ويقابله ما فيه الريب في صحته بمعنى التردد والشك في صحته فإن الإمام (عليه السلام  ) يرشده لحكم العقل وطالما في كلماتهم ( عليه السلام   ) الإرشاد لما يحكم به العقل.

الدليل الثامن: ما حكي عن الشيخ الانصاري في رسائله من ان الترجيح بالأصدقية كما في المقبولة والأوثقية كما في المرفوعة يستفاد منه وجوب العمل بكل مزية فإن معنى الصدق هو مطابقة الخبر للواقع ومعنى الوثوق هو الاطمئنان فيكون معنى الأصدقية هو كون احتمال مخالفة الخبر للواقع أقل كما ان معنى الأوثقية هو زيادة الاطمئنان بخبر أحد الراويين فلو فرض كون أحد الراويين أضبط من الآخر أو أعرف بنقل الحديث بالمعنى أو ما أشبه ذلك فيكون أصدق وأوثق من الراوي الآخر لقلة احتمال المخالفة للواقع وزيادة الاطمئنان فنتعدى من صفات الراوي المرجحة إلى صفات الرواية الموجبة للأقربية للواقع صدورها لان أصدقية الراوي وأوثقيته لم تعتبر في الراوي إلاّ من جهة حصول الأقربية للواقع صدوراً من المعصوم. وأورد عليه المرحوم الشيخ موسىصاحب الحاشية على رسائله([132]) بما حاصله بأن هذا إنما يتم لو كانت هاتان الصفتان ملازمتين للأقربية للواقع وليس كذلك لان غايتهما أكثرية صاحبهما تحرزاً عن تعمد الكذب والفرض ان كل منهما متحرز عن الكذب غاية التحرز لعدالته وصدقه ووثاقته. والأولى في الجواب ان يقال:

 أولاً: ان الرواية ناظرة إلى ترجيح أحد الحكمين على الآخر في مورد الحكم لرفع الخصومة والتنازع وهو لابد منه وإلاّ لم ترتفع الخصومة وليس ناظرة لرفع التعارض بين الخبرين بهذه الصفات في مقام الاستنباط للحكم في مقام الفتوى.

وثانياً: لو كان ذلك يدل على الترجيح بكل مزية لما سئل السائل مرة ثانية عن العلاج عند فرض المساواة في تلك المزية ولا قرره الإمام (عليه السلام  ) على ذلك فيجيبه بالترجيح بمزية مخصوصة ولنبهه على غفلته عن استفادة الكلية مما أجابه (عليه السلام  ) به أولاً. ثم ان الترجيح لو كان بكل مزية كان على الإمام (عليه السلام  ) ان يجيب بالكلية ويريح السائل من السؤال مرة ثانية كذا ذكره المرحوم الآخوند ( رحمه الله ).

الدليل التاسع: ان الأمر بالأخذ بالمشهور في المقبولة وتعليله (عليه السلام  ) إياه: (إن المجمع عليه لا ريب فيه)([133]) مما يستنبط منه التعدي إلى المرجحات غير المنصوص عليها وذلك لان معنى كون الرواية مشهورة هو شهرة نقلها لا شهرة العمل بها بدليل فرض السائل كليهما مشهورين، ولا ريب ان المراد بالمشهور بهذا المعنى لا يكون قطعي السند لوجوه:

أولها: تقديم الترجيح بصفات الراوي قبل ملاحظة الشهرة لان غاية ما تفيد هذه الصفات للراوي هو الظن وقد فرض ان الشهرة تفيد القطع.

ثانيها: فرض كون الروايتين مشهورتين.

ثالثها: الحكم بالرجوع مع شهرتهما إلى المرجحات الأخر.

رابعها: ظهور لفظ المشهور في غير القطعي فيكون المراد من نفي الريب بالإضافة إلى الشاذ بمعنى انه ان احتمال المخالفة للواقع فيه تكون أقل من احتمال المخالفة في الخبر المعارض له وتكون الكبرى في هذا الشكل مطوية وهي ان كـــل مـــا لا ريب فيه بالمعنى المذكور فهو واجب الأخذ. ولا إشكال في التعدي من المورد في العلة المنصوصة ومثل ذلك في الدلالة على المقصود وهو التعدي لترجيح بكل مزية تعليل الترجيح بمخالفة العامة بأن الرشد والحق في خلافهم ومثل ذلك أيضاً قوله (عليه السلام  ): (إذا جاءك الحديثان المختلفان فقسهما على كتاب الله وأحاديثنا فإن أشبهها فهو الحق, و ان لم يشبهها فهو باطل)([134]) فإنها تدل على وجوب ترجيح كل ما كان فيه أمارة الحق والرشد والبعد عن الباطل وترك كل ما فيه مظنة خلافهما والقرب إلى الباطل. ولا يخفى عليك ما فيه:

أولاً: المذكورات هي بيان للحكمة والمصلحة لجعل الحكم للترغيب في امتثاله وأما السر في جعلها هو السر في جعل سائر الطرق الموصلة للأحكام والمنع من سلوك غيرها وإن كان ذلك الغير أقرب إليها في نظرنا ألا ترى ان الشارع نصب طرقاً كالأخبار ولم ينصب الأولوية والقياس والاستقراء والاستحسان ونحوها وإن كان الظن الحاصل منها أقرب.

ثانياً: انه لو كان يفهم منها التعدي لكل مزية لما كان السائل يسأل عن صورة تعارض الخبرين المتساويين فيها عن المرجح لأحدهما على الآخر كما في المقبولة([135]) والمرفوعة. ان قلت ان المخالفة للمذاهب المخالفة لهم لا ريب إنها كانت من جهة ان الرشد والحق في خلافهم كما نصت عليه الروايات المتعددة، ومن المعلوم ان مجرد الموافقة والمخالفة لهم ليست سبباً لتغير الأحكام الواقعية وإنما من جهة الأقربية للواقع والأبعدية عن الباطل. قلنا سيجيء ان شاء الله في كثير من الأخبار ان الأئمة ( عليه السلام   ) هم أوقعوا الاختلاف والتعارض للمحافظة على عدم معرفة أتباعهم ومواليهم.

الدليل العاشر: اختلاف الأخبار العلاجية ففي بعضها تقديم بعض المرجحات كالشهرة على بعض كأوصاف الراوي وفي بعضها بالعكس وفي بعضها الاكتفاء بموافقة الكتاب فقط وفي بعضها موافقة الكتاب والسنة وفي بعضها زيادة مخالفة العامة وفي بعضها ذكر مخالفة العامة فقط وفي بعضها الأخذ بما ورد أخيراً وفي بعضها التخيير بين المتعارضين من دون ملاحظة مرجح وبعضها الإرجاء والتوقف حتى يلقى أمامه وفي بعضها التفصيل الطويل كما في المقبولة والمرفوعة، وفي بعضها الأخذ بالاحتياط فإن هذا الاختلاف بين هذه الأخبار العلاجية اختلاف لا يقبل الجمع العرفي في هذا الموضوع الواحد وهو علاج المتعارضين مع كثرتها حتى ذكر بعضهم إنها كادت تبلغ أربعين جزءاً مع ملاحظة ان منشأ الاختلاف ليس هو التقية وملاحظة ان الأئمة ( عليه السلام   ) علومهم متفقة وكل منهم يعلم ما يعلمه الآخر يظهر لك جلياً ان ذكرهم للمرجحات المخصوصة من باب المثال لا من باب الاختصاص. ولا يخفى عليك ما فيه ان هذه التفاصيل منهم بيان للسائل بما يصح الترجيح به وإلاّ فلا حاجة إلى هذه التفاصيل التي ذكرها الأئمة ( عليه السلام   ) في هذا الموضوع الواحد لإمكان إرجاعهم ( عليه السلام   ) للسائل إلى ما يرجح الخبر المعارض بكلمة جامعة واحدة من دون ذكرهم لهذه التفاصيل بأن يقول: (خذوا الأرجح منها) أو يقولوا: (خذوا ما فيه المزية) أو يقولوا: (خذوا ما هو الأقرب  للواقع) ونحو ذلك، فظهر ان مرادهم ( عليه السلام   ) ذكر مرجحات مخصوصة لا الأمر بأخذ كل مرجح.

الدليل الحادي عشر: انه قد ثبت ان حجية الأخبار ليست إلاّ من باب المرآتية والكشف عن الواقع وليس الغرض من الأمر بالسلوك فيه إلاّ من أجل إدراك مصلحة الواقع فإذا دار الأمر في الطريق بين خبرين أحدهما اقرب إلى الواقع بسبب الظن بمطابقته للواقع من الآخر فلا محالة يحكم العقل بالأخذ بالأقرب نظر إلى ان ترك الأخذ به يوجب تفويت المصلحة الواقعية ظناً. ولا يخفى عليك ان هذا يتم على القول بانسداد باب العلم والعلمي فإن المعتبر على هذا القول هو الظن المطلق بالواقع وأما على تقدير القول بعدمه فالمعتبر هو الظنون الخاصة من طرق مخصوصة  فالملاك فيها هو ذلك لا مطلق الكشف عن الواقع ولذا الشارع لم يعتبر القياس والاستحسان والأولوية الظنية ونحوها.

الــدليل الثــاني عشر: قولـــه تعـــالى: [أَفَمنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً  لا يَسْتَوُون]([136]). وقوله تعالى: [هلْ يَسْتَوِى الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ]([137]). إلى غير ذلك فإنه تدل على تقديم ذي المزية على غيره. وجوابه ان هذه الآيات ظاهرة في عدم جواز متابعة هؤلاء ولو في غير صورة المعارضة مع احتمال ان يكون المراد عدم الاستواء في المنازل الأخروية.

الدليل الثالث عشر: ان المتعارضين الصادرين من الحكيم إنما ثبت التخيير بينهما بمقدمات ثلاث مشمول دليل الحجية لهما وعدم إمكان إتيانهما معا وعدم رجحان أحدهمـــا على الآخــــر ولا ريب انه مـــع وجود المزية تنتفي المقدمة الثالثة. ولا يخفى عليك ما فيه فإن المقدمة الثالثة هي عدم الرجحان عند المشرع والفرض انه لم يثبت من المشرع رجحان بهذه المزية والأصل عدمها. نعم يمكن ان يقال ان العقل من باب الأولوية الاستحسانية يأخذ بالمزية غير المنصوصة لا على ان المشرع قد أمر بالأخذ بها وإلاّ لزم التشريع المحرم ولا على ان مضمون ذي الميزة هو الحكم الشرعي الواقعي الذي قام عليه الدليل الشرعي دون مضمون الآخر. نعم لو كان العمل به لا على وجه التدين بأنه حكم الله في حقه لجاز العمل به لكن هذا ليس عملاً يرجع إلى الترجيح بالمزية.

القول الثاني: أدلة النافين لوجوب الترجيح بالمزية التي لم يقم الدليل عليها

الذي يمكن ان يستدل به أو استدل به على عدم وجوب الترجيح بالمزية التي لم يقم الدليل عليها أمور:-

الأمر الأول: إطلاق الأدلة الدالة على حجية الأمارات فإنها لو لم تشمل المتعارضين لما دلت على حجية ذي المزية المذكورة إذ كل من الواجد لها والفاقد لها على حد سواء بالنسبة لتلك الأدلة إذ الأصل عدم تخصيصها وتقييدها بالواجد للميزة، ودعوى إجمالها لو تمت فهي تقتضي عدم شمولها للمتعارضين لان القدر المتيقن منها على تقدير إجمالها هو الذي لم يكن له معارض. وعليه فلا يكون ذو المزية المحتمل الترجيح بها حجة.

الأمر الثاني: عدم الدليل على وجوب الترجيح بالمرجحات غير المنصوص عليها لعموم الأدلة الدالة على حرمة العمل بالظن فإن المرجح يحدث حكماً شرعياً وهو وجوب العمل بموافقته عيناً، فالحكم بوجوب الأخذ بأحدهما معيناً خلاف الاحتياط وتشريع محرم وافتراء على الله وعمل بالرأي والاستحسان، ولعل لهذا الوجه ينظر ما قاله المحّدث البحراني في محكي الحدائق من إنه: (قد ذكر علماء الأصول من الترجيحات هنا ما لا يرجع أكثرها إلى محصل والمعتمد عندنا ما ورد من آل الرسول). والحاصل ان الوجه الجاري لعدم حجية بعض الأمارات جارٍ في المرجحية بعينه. نعم لو أخذ به لا على وجه التدين بأنه حكم الله المعين لجاز العمل به على القول بالتخيير بين المتساويين لكن لا يسمى هذا عملاً بالراجح إذ العمل بالشيء عبارة عن التعبد به فإذا لم يتعبد به لم يكن قد عمل به ولا محصلاً للامتثال به كما ان لو قلنا بالتوقف أو بالتساقط وكان ذو المزية مخالفاً للأصل كان العمل على طبقه معصية ومخالفة للأصل أو القاعدة التي هي المرجع للعمل.

الأمر الثالث: انه ان بنينا على التساقط عند  تعارض الأمارتين والرجوع إلى الأصل الموافق لأحدهما فلا يجوز الترجيح  بالمزية غير المنصوصة لانه يلزم إلغاء الأصل المعتبر بشيء لم يقم دليل على اعتباره, وإن بنينا على التخيير الشرعي بأن يكون سبب التخيير هو الأخبار المطلقة الدالة على التخيير لم يصح الترجيح لانه يلزم منه تقيد إطلاق أدلة التخيير بصورة عدم ثبوت تلك المزية ولا ريب ان الأصل عدم التقيد, وإن بنينا على التخيير العقلي لا الشرعي بأن قلنا ان الدليل الذي دل على حجية المتعارضين يقتضي العمل بهما وحيث لا يمكن العمل بهما معاً وكان الممكن من امتثال هذا الخطاب هو العمل بأحدهما وجب العمل بأحدهما تخييراً لمساواتهما في دليل الحجية. ان قلت ان المتزاحمين إذا كان أحدهما أرجح يحكم العقل بتقديمه مع إنهما متساويان في دليل طلبهما. قلنا المتزاحمين مع العلم بأرجحية أحدهما عند المولى يقدم الراجح حينئذ بطلبه وإرادته للمولى أما مع الشك فلا يحكم العقل بوجوب تقديمه لقبح العقاب بلا بيان، فكذا ما نحن فيه فإن الفرض ان المزية لم يعلم إرادة الشارع الترجيح بها وإنما يحتمل ذلك فالأصل عدم إرادتها ويقبح عقابه على المخالفة بترك العمل بذيها وإنما للعبد ان يرجح ما اشتهت نفسه. وبعبارة أخرى ان حكم العقل بالتخيير من جهة ان الدليل الشرعي يشملهما ويوجب العمل بكل منهما من حيث هو وفي حد ذاته وإن التنجيز ليس من مدلول اللفظ وإنما هو بيد العقل ولا منافاة بين الخطاب الشرعي ووجود المانع من تنجّزه وهو العجز عن إتيانهما معاً وأما الإتيان لأحدهما فهو مقدور له ولا ريب ان التكليف بكل واحد منهما ليس إرتباطياً كالتكليف بأجزاء المركب وإنما هو انفصالي نظير التكليف بالصيام في أيام والتكليف بوفاء الدين فالعجز عن إتيان المجموع لا يوجب سقوط الباقي فالعقل يوجب المقدور من العمل بهما وهو التخيير بينهما ولم نجد من المشرع للقانون الذي جعلهما طريقاً لمعرفة مراده ترجيحاً بالمزية غير المنصوصة منه فالعقل يحكم بالتخيير. نعم لو علمنا ان الدليل الشرعي على حجية الأمارة لا يشمل المتعارضين منها ولكن قام دليل آخر على عدم سقوطهما وشككنا في ان الحجة منهما هو ذو المزية بعينه أو على سبيل التخيير بينه وبين الخالي منها كما لو قام الإجماع على عدم تساقطهما وشككنا في حجية ذي المزية بعينه أو على سبيل التخيير بينه وبين الآخر فيمكن ان يقال ان العقل يحكم بذي المزية للقطع بحجيته والشك في حجية الخالي منها ولكن التحقيق ان المقام يكون من باب معارضة الحجة باللاحجة لانه في هذه الصورة يؤخذ بالقدر المتيقن من الإجماع كما هو الشأن في كل دليل لبي ولا ريب على هذا التقدير يكون القدر المتيقن من الإجماع هو ذو المزية ويكون الخالي عن المزية ليس بحجة لعدم إحراز قيام الحجة عليه ونظيره ما لو كان الوقت ضيقاً وعليه صلاة العصر وشك في وجوب صلاة الآيات عليه في هذا الوقت فإنه يدور الأمر بين وجوب العصر عليه بعينها وبين التخيير بينها وبين صلاة الآيات. فإنه في هذه الصورة وإن كان الأمر دائراً بين تعين صلاة العصر والتخيير بينها وبين صلاة الآيات إلا انه المقدم هو الوجوب التعيني أعني وجوب الصلاة اليومية لأصالة عدم وجوب الآيات، ونظيره أيضاً ما لو علمنا وجوب إنقاذ المؤمن وشككنا في وجوب إنقاذ الكافر فإنه يصدق عليه انه يدور الأمر فيه بين الوجوب التعيني وهو إنقاذ المؤمن وبين الوجوب التخييري بينه وبين وجوب إنقاذ الكافر في صورة المزاحمة إلا ان المقدم هو الوجوب التعيني دون التخييري فإن كلامهم في غير هذه الموارد التي كان الوجوب للآخر مشكوكاً في أصل وجوده وإنما محل كلامهم هو ما كان الشك في المجعول هو الوجوب التعيني لأحدهما أو التخييري لكل منهما كما في مسألة صلاة الظهر والجمعة فيما لو شك في المجعول هو وجوب أحدهما بعينه أو المجعول وجوب كل منهما على سبيل التخيير.

الأمر الرابع: ما رواه الصدوق في عيون أخبار الرضا(عليه السلام  ) عن أحمد بن الحسن الميثمي في حديث طويل قال(عليه السلام  ): (فما ورد عليكم من خبرين مختلفين فاعرضوهما على كتاب الله فما كان في كتاب الله موجوداً حلالاً أو حراماً فاتبعوا ما وافق الكتاب وما لم يكن في الكتاب فاعرضوه على سنن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم) فما كان في السنة موجوداً منهياً عنه نهي حرام أو مأموراً به عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم) أمر إلزام فاتبعوا ما وافق نهي النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم) وأمره، وما كان في السنة نهي إعافة أو كراهة ثم كان الخبر الأخير خلافه فذلك رخصة فيما عافه رسول الله وكرهه ولم يحرمه فذلك الذي يسع الأخذ بهما جميعاً وبأيهما شئت وسعك الاختيار من باب التسليم والاتباع والرد إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم) وما لم تجدوه في شيء من هذه الوجوه فردّوا إلينا علمه فنحن أولى بذلك ولا تقولوا فيه بآرائكم وعليكم بالكف والتثبت والوقوف وأنتم طالبون باحثون حتى يأتيكم البيان من عندنا)([138]).

وحكي عن الوسائل انه ذكر الصدوق انه نقل هذا من كتاب الرحمة لسعد بن عبد الله ونقل عن الصدوق انه من الأصول والكتب التي عليها المعول وإليها المرجع والاستدلال بهذا الخبر بقوله (وما لم تجدوه من هذه الوجوه  فردوا إلينا علمه) إلى آخر الخبر فإنه صريح في المنع من الترجيح بغير المنصوص فإن هذا الخبر يدل على عدم جواز الأخذ بالمزية غير المنصوص عليها.

الأمرالخامس: ان جميع الأخبار المشتملة منها على بيان التخيير بين المتعارضين أو مشتملة منها على بيان المزايا المنصوصة متفقة على عدم الترجيح بالمزية غير المنصوص عليها إذ لو كان ذلك جائزاً لما أمره بالإرجاء في بعضها ولما خص الأخذ في بعضها بخصوص موافقة الكتاب وبعضها بموافقة السنة وإخراج ماعداهما ولما أمر في بعضها بالتخيير ولا وجه إلى سائر المرجحات، ودعوى ان أخبار التخيير واردة في مورد السؤال بصورة التخيير ومع وجـــود المزية وإن كـــانت غير منصوصة لا تحير فهي ظاهرة في خصوص   الصورة المذكورة. وقد أجاب عن ذلك الشارح للرسائل الشيخ موسى ( رحمه الله )  ان مجرد وجود المزية في أحد الخبرين لا يرفع التحيّر لان الرافع له هو معرفة اعتبار الشارع لها لا مجرد وجودها ولذا وقع السؤال عن المتعارضين في مورد أخبار الترجيح مع ظهور السؤال في صورة التحيّر فيعلم من ذلك انه ليس بواجب الترجيح بالمزايا غير المنصوصة مع إنها قد وردت في مقام البيان ولم يرد في خبر منها على كثرتها الأمر بالرجوع إلى المزايا غير المنصوص عليها مع توفر الدواعي إلى ذلك وعموم البلوى على ان ترك الاستفصال في هذه الأخبار العلاجية بأنه يرجع إلى ما هو الأرجح أم لا مع قيام الاحتمال دليل على عدم وجوب الرجوع للمزايا الموجبة للرجحان غير المنصوص عليها. وبعبارة أخرى ان الأخبار العلاجية التي نصت على مرجحات مخصوصة فإن مقتضاها الاقتصار عليها والتعبد بها وعدم وجوب الرجوع إلى غيرها. ومما يؤيد ذلك هو انه لو لم يلزم الاقتصار عليها وكان المدار مطلق المزية لكان مقتضى القاعدة ذكر ذلك بنحو القاعدة الكلية ولم يكن وجه للعدول عنها ببيان بعض المرجحات فبقول الإمام (عليه السلام  ): (خذ بالراجح منهما) كما هو الحال في سائر القواعد الشرعية كقاعدة الطهارة واليد ونحوها. ودعوى ان هذا يوجد في بعض أبواب الفقه كنجاسة الماء القليل فإنه لم يرد فيه قاعدة كلية وكذلك مانعية نجاسة الثوب والبدن عن الصلاة فاسدة، فإنه لو سلم عدم وجود الإجماع ونحوه على ذلك وهو دليل واحد فإنه أيضاً خلاف القاعدة وإنما صرنا إليه للأدلة بلا معارض لها ونحن نتكلم على مقتضى القاعدة. ومما يؤيد ذلك أيضاً هو كثرة سؤال السائل عن فرض المساواة في بعض المرجحات فلو كان يفهم من كلام الإمام الترجيح بسائر المرجحات وإن ما يذكره الإمام يكون على سبيل المثال لما سأله عن المرجح بعد فرض التساوي في المرجح السابق بعد ذلك مرة ثانية والإمام قرر السائل على ذلك وإلاّ لأجاب بأن الميزان هو الأقوائية أو نبهه على غفلته من عدم فهمه من كلامه الترجيح بكل مزية.

الحكم الثاني
الترجيح بالمزايا المنصوصة

القول الأول: عدم وجوب الترجيح بالمزايا المنصوصة

ذهب بعض علماء الإمامية إلى عدم وجوب الترجيح بالمزايا المنصوصة المنقولة عن الأئمة ( عليه السلام   ) وينسب هذا القول للمحدث الكليني([139]) والسيد صدرالدين شارح الوافية، لان أدلة الحجية تشمل المتعارضين قهراً لانطباقهما عليهما موضوعاً، فهي تقتضي وجوب سلوك المتعارضين وحيث ان   في سلوكهما تزاحم كان العقل حاكماً بالتخيير بينهما كما  هو الشأن في المتزاحمين. وأما الأدلة الدالة على طرح المخالف للكتاب أو السنة أو المذهب فهي وإن كان يجب الأخذ بها فهي لا تقتضي كون الموافق أرجح وإنما تقتضي سلب الحجية عن المخالف.

وذهب الكثير من أصحابنا ومن غيرهم من علماء الإسلام إلى وجوب الترجيح  بها مستدلين على ذلك :

أولاً: بالإجماع وفيه انه لا إجماع مع وجود المخالف.

ثانياً: بأصالة الاشتغال فإن الأمر دائر بين ان يكون للمزية المنصوص عليها واجباً تعينياً وان يكون واجباً تخييراً فالعمل به مبرئ للذمة تعينياً. وفيه ما قد عرفت ما في هذا الأصل في مبحث  الترجيح للمزية غير المنصوصة مع انه مبني على ثبوت النص على الترجيح بها وإذا ثبت لا حاجة لهذا الأصل.

ثالثاً: الأخبار الواردة بالترجيح بها وهي العمدة حيث ان الخبر حجة. وفيه ان الأخبار المنصوص فيها على المزايا المرجحة المسماة بالأخبار العلاجية مضافاً إلى ضعفها بما قيل ان المتقدمين لم يعملوا بها وإنما وقف عليها المتأخرون مثل أخبار الاستصحاب حتى ان المحدث الكليني ( رحمه الله ) لم يعتنِ بها ولذا في ديباجة كتابه أمر بالتخيير بين المتعارضين، ومضافاً إلى ذلك إنها معارضة بأخبار التخيير الدالة على التخيير في هذه العصور التي تخلو من الإمام مفترض الطاعة وهي أكثر فتسقطها عن الحجية، مضافاً إلى ذلك كله تعارضها فيما بينها لتقديم بعض المرجحات على بعض واقتصار قسم منها على بعض المرجحات وتقديم بعضها على موافقة الكتاب والسنة بل بعضها يمنع من الترجيح بها كرواية الصدوق عن الرضا (عليه السلام  ) ([140]) المانعة من الترجيح بما سوى موافقة الكتاب والسنة. ولا وجه لتخصيص أخبار التخيير بأخبار الترجيح لانه يلزم منه حمل أخبار التخيير على الفرد النادر.

القول الثاني:وجوب الترجيح بالمزايا المنصوصة

ذهب الكثير من أصحابنا إلى وجوب الترجيح بكل مزية منصوصة، وخالف بعضهم في ذلك فذهب إلى عدم وجوبه. والحق هو الترجيح بموافقة الكتاب الكريم  والسنة الشريفة ومخالفة العامة ولتحقيق الحق نذكر نص المقبولة والمرفوعة ثم نتعرض للحجج من الطرفين وما هو الحق في ذلك.

أولاً: المقبولة

سند ا لمقبولة: أما المقبولة فقد اختلفوا في صحتها وضعفها من حيث السند فعن البحار أنها رواية موثقة([141])، وفي الوافية انه روي في الكافي في الصحيح عن عمر بن حنظلة([142])  ...  إلى آخره، وظاهره ان سند الرواية صحيح إلى عمر بن حنظلة وكيف انه ليس في سند هذه الرواية من يوجب القدح فيه إلاّ راويان: أولهما داود بن الحصين فعن الشيخ الطوسي انه واقفي([143]) وعن النجاشي انه ثقه كوفي، وعن العلامة الحلي التردد  فيه. والترجيح في هذا المقام مع النجاشي لكونه كما قيل اضبط مع ان كونه واقفياً لا ينافي كونه ثقة. ثانيهما عمر بن حنظلة فإنه قيل انه لم يذكره أهل الرجال بمدح أو ذم، وعن الشهيد الثاني في حاشية الخلاصة ان عمر بن حنظلة ان لم يذكره أهل الرجال بمدح ولا بقدح إلاّ أني حققت توثيقه في مقام آخر، وذكر أبنه صاحب   المعالم من انه ورد في توثيقه رواية يزيد بن خليفة عن الصادق (عليه السلام  ) من انه قال للصادق (عليه السلام  ): (إن عمر بن حنظلة أتانا عنكم بوقت أي بوقت من أوقات الصلاة فقال (عليه السلام  ): إذاً لا يكذب علينا)([144]). ودلالتها على توثيقه ظاهرة، ولكن قد حكي عن صاحب المعالم انه ناقش في صحة سندها بضعف يزيد بن خليفة([145])، وحكي عن صاحب الرياض انه قواها وسيجيء ان شاء الله الكلام فيها، وكيف كان فقد رواها ثقة الإسلام في الكافي في باب اختلاف الحديث([146]) والشيخ الطوسي في التهذيب في باب الزيادات من باب القضايا والأحكام([147]) والشيخ الصدوق([148]) والطبرسي في باب إحتجاجات الصادق (عليه السلام  ) وابن أبي جمهور الأحسائي في عوالي اللئالي([149]) والمحدث الحر العاملي في الوسائل في الباب التاسع من أبواب صفات القاضي([150]) بأسانيد عديدة فيها الموثق عن عمر بن حنظلة وقد تلقاها الأصحاب بالقبول ولذا سميت بالمقبولة قال: (سالت أبا عبد الله (عليه السلام  ) عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث فتحاكما إلى السلطان أو إلى القضاة أيحل ذلك قال (عليه السلام  ): من تحاكم إليهم في حق أو باطل فإنما تحاكم إلى الطاغوت وما يحكم له فإنما يأخذه سُحتاً وإن كان حقه ثابتاً لانه يحكم الطاغوت وإنما أمر الله ان يكفر به قال الله تعالى: [ُيريدُون أنْ يَتَحاكَمُوا إلى الطاَّغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا ان يَكْفُرُوا بِهِ] ([151]). قلت: فكيف يصنعان؟ قال: ينظران من كان منكم ممن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فليرضوا به حكماً فإني جعلته عليكم حاكماً فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه بحكم الله استخف وعلينا قد ردّ، والراد علينا كافر راد على الله وهو على حد الشرك بالله. قلت: فإن كان كل واحد اختار رجلاً من أصحابنا فرضيا ان يكونا الناظرين في حقهما واختلف فيما حكما وكلاهما اختلفا في حديثكم؟  فقال: الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث واورعهما، ولا يلتفت إلى ما يحكم  به الآخر. قال فقلت: فإنهما عدلان مرضّيان عند أصحابنا لا يفضل واحد منهما على صاحبه؟ قال: ينظر إلى ما كان من روايتهما عنّا في ذلك الذي حكما به المجمع عليه عند أصحابك فيؤخذ به من حكمنا ويترك الشاذ الذي ليس بمشهور عند أصحابك فإن المجمع عليه لا ريب فيه وإنما الأمور ثلاثة أمر بين رشده فيتبع وأمر بيّن غيه فيجتنب وأمر مشّكل يرد حكمه إلى الله قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم): حلال بيّن وحرام بيّن وشبهات بين ذلك فمن ترك الشبهات نجى من المحرمات ومن أخذ بالشبهات وقع في المحرمات وهلك من حيث لا يعلم. قال قلت: فإن كان الخبران عنكم مشهورين قد رواهما الثقات عنكم؟ قال: ينظر فما وافق حكمه حكم الكتاب والسنة وخالف العامة فيؤخذ به ويترك ما خالف حكمه حكم الكتاب والسنة ووافق العامة قلت: جُعلت فداك ان رأيت ان كان الفقيهان عرفا حكمه من الكتاب والسنة ووجدنا أحد الخبرين موافقا للعامة والآخر مخالفا  لهم بأي الخبرين يؤخذ؟ فقال: ما خالف العامة ففيه الرشاد فقلت: جُعلت فداك فإن وافقهما الخبران جميعاً؟ قال: ينظر إلى ما هم إليه أميّل حكّامهم وقضاتهم فيترك ويؤخذ بالآخر، قلت: فإن وافق حكّامهم الخبرين جميعاً؟ قال: إذا كان ذلك فأرجئه حتى تلقي إمامك فإن الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات)([152]).

سند المرفوعة: وأما المرفوعة فقد  رواها ابن أبي الجمهور الأحسائي في عوالي اللئالي عن العلامة الحلي مرفوعة إلى زرارة بن أعيُن عن  الباقر (عليه السلام  ) وقد رماها غير واحد بضعف سندها كما هو واضح، وفي المحكي عن صاحب الحدائق انه قال: (لم نجدها في غير كتاب عوالي اللئالي مع ما في سندها من الرفع والإرسال وما عليه الكتاب المزبور من نسبة صاحبه إلى التساهل في نقل الأخبار والإهمال وخلط غثها بسمينها وصحيحها بسقيمها) وسيجيء ان شاء الله الكلام فيها وإليك نصها. قال: زرارة سألت أبا جعفر الباقر (عليه السلام  ) فقلت له: جُعلت فداك يأتي عنكم الخبران والحديثان المتعارضان فبأيهما آخذ فقال: (يا زرارة خذ بما اشتهر بين أصحابك ودع الشاذ النادر. فقلت: يا سيدي إنهما معاً مشهوران مأثوران عنكم. فقال: خذ بما يقول أعدلهما عنك وأوثقهما في نفسك فقلت إنهما معاً عدلان مرضيان موثقان فقال: أنظر ما وافق منهما العامة فاتركه وخذ بما خالف فإن الحق فيما خالفهم، قلت: ربما كانا موافقين لهم أو مخالفين فكيف أصنع؟ قال: إذن فخذ بما فيه الحائطة لدينك واترك الآخر، قلت: إنهما معاً موافقان للاحتياط أو مخالفان له فكيف أصنع؟ فقال: إذن فتخير أحدهما فتأخذ به ودع الآخر)([153]). قال: وفي رواية انه قال: (إذن فأرجه حتى تلقى إمامك فتسأله).

أدلة وجوب الترجيح بالمزايا المنصوصة

استدل من قال بوجوب الترجيح بالمزايا المنصوصة بأدلة نذكر ما ظفرنا به منها:

الدليل الأول: نقل الإجماع العلمي والعملي بدعوى انه لا ريب في ان ديدن الفقهاء قد جرى من أول الزمان الذي بني فيه على حجية الخبر بالعمل بالراجح والأخذ على سبيل الحتم واللزوم بالمزية المنصوصة. ولا يخفى عليك ما فيه فإنه من المحتمل ان إجماعهم كان مستنداً إلى الأخبار العلاجية أو غيرها من الأدلة التي أقاموها على وجوب الترجيح بالمزايا المنصوصة ثم كيف يدعى الإجماع مع نسبة المخالفة للمحدث الكليني ( رحمه الله ) والسيد صدرالدين شارح الوافية هذا مع عدم تسليم أخذهم لها على سبيل التحتيم بل لعله على سبيل الاحتياط أو الاستحسان. ودعوى ان بحثهم عن صفات الراوي وعن عدالته وثقته يقتضي ذلك فاسدة، فإن بحثهم إنما كان لمعرفة الخبر الذي هو حجة دون غيره لا من أجل الترجيح. والظاهر ان الإجماع مع الأخبار المتظافرة المعمول بها عن الأصحاب كما تقدم قاما على الترجيح بموافقة الكتاب العزيز أو السنة الشريفة المعتبرة أو بمخالفة العامة فإن من تتبع كتب الفقه  الاستدلالية وجدها مشحونة إلى حواشيها بالترجيح بهذه الأمور الثلاثة. نعم الشهرة قد تكون موجبة لشذوذ الخبر الآخر بحيث يسقط عن الحجية حتى لو لم يكن له معارض ولعل من ذلك على ما ببالي الخبرين الصحيحين الذين دلا على جواز أخذ المولى بنت جاريته التي دخل بها إذا أخذت غيره وولدت منه بنتاً فليراجع من شاء، وهكذا ببالي الخبر الذي دل على مسح  الرأس في الوضوء وقد كانت عليه الحناء([154]) فليراجع. وعليه فأخبار التخيير مقيدة بهذه الثلاثة.

الدليل الثاني: أصالة الاشتغال فإن الأمر دائر بين ان يكون ذو المزية المنصوص عليها واجباً تعينياً وان يكون واجبا تخييرياً فالعمل به مبرئ للذمة يقيناً. وقد عرفت ما في هذا الأصل في مبحث الترجيح بالمزية غير المنصوصة في أدلة القائلين بالترجيح مع انه لا مجال له مع وجود الدليل العقلي والنقلي على التخيير والترجيح بموافقة الكتاب أو السنة المعتبرة أو بمخالفة  العامة.

الدليل الثالث: الأخبار الواردة في علاج المتعارضين الظاهرة في وجوب العمل بالراجح بل الصريحة الآبية على الحمل على الاستحباب الذي قال به السيد صدرالدين شارح الوافية فإن العمدة في تلك الأخبار هي مقبولة عمر بن حنظلة([155]) ومرفوعة زرارة لكونهما جامعتين لجميع جهات الترجيح مشتملتين على جميع المرجحات المنصوصة إلاّ ما شذَّ منها وندر ومتلقاة بالقبول عند الأصحاب، أما الأولى فإليك فقراتها الدالة على  الوجوب:-

الأولى: قوله (عليه السلام  ) فيها: (الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما)([156]) مع قوله (عليه السلام  ) فيها: (ولا يلتفت إلى ما حكم  به الآخر)([157]) فإنه ظاهر في وجوب الترجيح بالأعدلية والافقهية.

الثانية: تعليله (عليه السلام  ) لترك الشاذ النادر بقوله (عليه السلام  ): (فـــإن المجمع عليه لا ريب فيه)([158]) وتعقيبه ذلك بقوله (عليه السلام  ): (إنما الأمور ثلاثة أمر بيّن رشده فيتبع وأمر بيّن غيه فيجتنب وأمر مشكل يرد إلى الله تعالى)([159]).

الثالثة: قوله (عليه السلام  ) فيما بعد: (وترك ما خالف حكمه حكم الكتاب أو السنة ووافق العامة وما خالف العامة ففيه الرشاد)([160]). ويؤكد بطلان التخيير أمره (عليه السلام  ) فيها بالتوقف والإرجاء بعد العجز عن الترجيح وهو مناف للتخيير أو  استحباب الترجيح فإن العمل بالمرجوح لو كان جائزاً لكان بالطريق الأولى ان يجوز عند عدم المرجح.

ولا يخفى عليك ما في الاستدلال بها في المقام فإنه مضافاً إلى ان الأخبار العلاجية قد قيل ان المتقدمين لم يلتفتوا إليها وإنما وقف عليها المتأخرون مثل أخبار الاستصحاب حتى ان الكليني لم يعتنِ بها ولذا في ديباجة كتابه أمر بالتخيير بين المتعارضين فإنه مضافاً إلى ذلك ان في المقبولة منها:

أولاً: ما قد عرفته غير مرة ان المقبولة ليست هي لبيان الترجيح لأحد المتعارضين في مقام الاستنباط للحكم الشرعي والفتوى به وإنما هي لرفع الخصومة والمنازعة وهو لا يعقل معه التخيير ولذا عند فرض السائل تساوي المدركين في المرجحات في آخرها لم يأمره الإمام (عليه السلام  ) بالتخيير وإنما أمره بالإرجاء إلى ملاقاة الإمام (عليه السلام  ).

ثانياً: سلمنا ذلك لكنها مختصة بزمان الحضور والتمكن من ملاقاة الإمام (عليه السلام  ) وهو ليس بمحل ابتلائنا، ودعوى أنها إذا كانت لبيان المرجحات بين المتعارضين في زمان الحضور فبالطريق الأولى ان يكون حكم المتعارضين في زمان الغيبة كذلك مدفوعة، بأنه في زمان الحضور يمكن الاطلاع تفصيلا على هذه المرجحات بسهولة  بخلاف زمان الغيبة فإن الاطلاع عليها فيه من الصعوبة بمكان لصعوبة معرفة رأي العامة في عصر صدور الرواية واشتغال الناس بتكاليف الحياة التي لا زالت تزداد يوماً فيوم حتى شغلتهم عن واجباتهم وقراءتهم للقران الكريم وحفظهم له ليعرفوا ما خالفه وما وافقه وتضيعهم سنة الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم) المعتبرة.

ثالثاً: ان صدرها ظاهر في التحكيم من أجل فصل الخصومة فلا يناسبها التعدد في الحاكم لانه لا يزداد معه غالباً إلا زيادة الخصومة والفساد ولا غفلة أحدهما عن المعارض لمدرك حكمه، مع انه فرض السائل كون الحديثين مشهورين ولا اجتهاد المترافعين وتحرّيهما في ترجيح مستنداً أحد الحكمين ولا جواز الحكم من أحدهما بعد حكم الآخر. ودعوى وقوعهما معاً بعيدة عن ظاهرها مع أنها غير معمول بها عند الأصحاب في موردها وهو التخاصم والمحاكمة فكيف يتعدى عنها إلى غيره وهو استنباط الحكم كما قال المرحوم الشيخ محمد تقي البروجردي في تقريراته للمرحوم اغا ضياء العراقي([161]): (إنه ليس بناء الأصحاب في مقام التخاصم والتداعي ترجيح المرافعين أحد الحكمين على الآخر بالرجوع إلى مداركهما لانه لو فرض أسبقية أحد الحاكمين في الحكم في الواقعة برأيه كان نافذاً حتى بالنسبة للمجتهد الآخر ولو كان في الشبهات الحكمية لان الحكم لا ينقض بالفتوى ولأنه ترتفع الخصومة بحكمه. وأما لو فرض ان الحاكمين اللذين اختاراهما حكما دفعة واحدة فيرجح أحدهما على الآخر بالصفات من الأعدلية والأوثقية والافقهية ومع تساوي الحاكمين في الصفات يتساقط حكماهما ويرجع لحاكم ثالث لا الرجوع لمدارك الحكمين حتى بالنسبة لمجتهد ثالث فضلاً عن المتخاصمين، وقد اشتهر هذا الإشكال على المقبولة حتى ان بعضهم اسقط التمسك بها لعدم عمل الأصحاب بظاهرها وقد أجابوا عنه بعدة أجوبة:

أحدهما: وهو المعروف بين المتمسكين بظاهرها ان ما ذكر إنما هو في القاضي المنصوب وأما القضاء بالتحكيم فيجوز فيه الرجوع لمجتهدين يتفق الخصمان على حكمهما فلا مانع عند الأصحاب من الرجوع إلى مدرك الحكمين. وبعبارة أوضح انه ليس المراد بالتحاكم هو التحاكم بالمعنى المعروف حتى يرد عليه انه لا يناسب الأمور المذكورة بل المراد به هو الاتفاق بين المتنازعين على الرجوع إلى مجتهدين في بيان الشبهة الحكمية من جهة جهل المتنازعين بأصل حكم الواقعة كما لو تنازعا في إرث الزوجة من الأرض، وكما لو تنازعا في إحراج الدين على الميت من الحبوة ففي هذه الصورة يرجع إلى المرجحات المذكورة ولا يقدح في ذلك التعدد ولا حكم أحدهما بعد حكم الآخر كما  لا يقدح في ذلك جواز تحري المتنازعين عن مستند الحكمين  لترجيح أحدهما على الآخر فإن سبب اختلاف الحاكمين من الاختلاف في مستند حكمهما وهو  الخبر كما تشهد به الرواية وهذا كثيراً ما يتفق لكثير من الناس هذا النحو من  الاستفسار عن حكم الواقعة كما لا يضر غفلة أحد الحاكمين عن المعارض لمدرك حكمه بداهة ان عمل أصحاب الأئمة ( عليه السلام   ) وبناءهم على الرجوع إلى الأصل الذي جمعه من الإمام الذي في عصره مع ان الإطلاع على  المعارض غير مستلزم لرفع اليد عما في يده لإمكان ان يكون ما في اصله أرجح على معارضة في نظره من سنده أو دلالته أو احتمال التقية أو نحو ذلك فيقدمه عليه أو مساوياً معه فيأخذ به من باب التخيير. والحاصل ان السؤال عن صورة الرجوع إلى الحاكمين من أجل مجرد استعلام حكم المسألة لا المدافعة وقطع الخصومة. ويمكن  ان يورد عليه بأن ظاهر المقبولة هو القاضي المنصوب لان الإمام (عليه السلام  ) قد نصبه حاكماً والظاهر ان السائل سئل عن اختلاف ما نصبه الإمام (عليه السلام  ) لا عن اختلاف المفتين في الواقعة ومما يدل على ذلك تمسك القوم في كتاب القضاء بالرواية بعدم جواز نقض حكم الحاكم وتعين الرجوع إلى الأعلم ويدل على ذلك بأنه لو تم لوجب الرجوع إلى المرجحــات المذكورة فيهــــا في  تقلـــيد المجتهدين المختلفين في الحكم ولا قائل بذلك. ولا يخفى عليك انه يمكن ان يقال ان سؤال السائل أولاً عن القاضي المنصوب الذي يتعين الأخذ بحكمه لو حدثه أو لعدم المعارض له أو لوجود المرجحات فيه من الأفقهية ونحوها، بعد ذلك سأل السائل عن قاضي التحكيم كما هو ظاهر قول السائل (فإن كل رجل يختار رجلا من أصحابنا) فإنه ظاهر في صورة التحكيم في فتوى المسألة ومعرفة حكمها، وأما دعوى انه لو تم لوجب في التقليد ففيه ان عدم مراعات ذلك في التقليد لان الرواية موردها والسؤال كان فيها عمّا فيه التخاصم والنزاع ولا يوجب ثبوت ذلك في موردها ثبوته في مورد التقليد سلمنا ذلك لكنه لم يثبت في التقليد لدليل خاص وهو الإجماع وعدم الحرج.

وقد أورد بعضهم على  الحمل المذكور بأن الرواية في بيان من يرجع إليه والأذن لمن كان له أهلية القضاء ونصّبه الإمام (عليه السلام  ) لذلك كما يدل عليه طرحه قوله (عليه السلام  ): (فإني قد جعلته حاكماً) فكيف يمكن حمل ذلك على قاضي التحكيم فإن المراد بقاضي التحكيم من لم يكن مأذوناً من قبل الإمام (عليه السلام  ) ولا منصوباً من جانبه لا خصوصاً ولا عموماً  فلا معنى حينئذ لحملها على قاضي التحكيم فإنه مخالفة لصريح  الرواية ولا يخفى عليك ما فيه فإن المراد به ما ذكرناها. والحق ان الرواية من  هذه الناحية لا يمكن القول بعمل الأصحاب بها فلا يحرز كونها مقبولة إلاّ على ضرب من التوجيه ولا يمكن حينئذ التمسك بظاهرها من وجوب الترجيح لعدم إحرازه حتى يحرز قبولها.

رابعاً: إنها لا يصح الأخذ بظاهرها فإن المجمع عليه إذا كان لا ريب فيه وغيره مأمور بتركه  فكيف يقدم عليه الترجيح بالأعدلية التي هي ظنية وكيف يقدم على موافقة الكتاب والمستفاد من الأخبار المتواترة ان العرض على الكتاب مقدم على جميع التراجيح؟  وكيف يقدم على مخالفة العامة مع التعليلات الواردة بأن الرشد في خلافهم وأنه ما هم من الحقيقة في شيء إلى غير ذلك فلابد ان الظاهر غير مراد من الرواية.

بل لا وجه لتقديم الترجيح بالشهرة على موافقة الكتاب والسنة ومخالفة العامة فإن الأخبار الدالة على الترجيح بهما مطلقة غير مقيدة بالمتعارضين المشهورين وهي واردة في مقام الحاجة مع كثرتها واقوائيتها من المقبولة الدالة على التقديم ولأن إطلاقها مؤكد تأكيداً قوياً لأمرهم (عليه السلام  ) بضرب المخالف على الجدار كما في أكثر تلك الأخبار ومعللاً بأن الحق في خلافهم. لما عرفت من أنهم لا يلاحظون الأرجحية في الصفات بل إنما يلاحظون موافقة الكتاب والسنة ومخالفة العامة ولا ريب ان مقتضى ذلك عدم اعتبار تقيدها لتلك المطلقات.

خامساً: إمكان  ان يقال بأن المقبولة بملاحظة ما فيها من التعليلات تكون ظاهرة في الإرشاد لحكم العقل فلابد من ملاحظة حكم  العقل في كل فرد من أفراد المرجح المذكور فيها من انه يرجحه العقل بنحو الأولوية أو على نحو الإلزام لا أنها في الوجوب المولوي.

سادساً: إنها مخالفة  لعمل الأصحاب من جهات:

الأولى: إنها قدّم فيها الترجيح بصفات الراوي على الشهرة وعلى موافقة الكتاب والسنة وعلى مخالفة العامة مع ان من راجع الكتب الفقهية يجد الأصحاب قد قدموا الترجيح بالمذكورات على الترجيح بأفضلية الصفات بل حكي  على ذلك الاجماعات.

الثانية: إنها ذكر  فيها الترجيح بالأصدقية لأحد الحاكمين على الآخر مع ان الأصحاب في كتاب القضاء لم يذكروا الترجيح بها.

الثالثة: إنها ذكر فيها الإرجاء لملاقاة الإمام (عليه السلام  ) مع ان الأصحاب لم يفتوا بذلك.

ثانياً: المرفوعة

وهي المرفوعة وضعفها ظاهر لإرسالها، ودعوى ان عمل الأصحاب بها يرفع ضعفها كما يظهر من المحكي عن الشيخ الأنصاري فاسدة، لعدم عمل الأصحاب بها بوجوه:

الأول: إنها ظاهرة في الأمر بالأخذ  في الترجيح بصفات الراوي قبل الأخذ بمخالفة العامة مع ان الأصحاب يأخذون به من غير نظر إلى صفات الراوي كما هو واضح لما راجع كتب الفقه.

الثاني: الأمر فيها بالأخذ بالحائط مع ان الأصحاب لا يعدونه من المرجحات.

الثالث: عدم ذكرها للترجيح بموافقة الكتاب والسنة مع ان الأصحاب عملهم على الترجيح بها.

وأما باقي الأخبار فسيجيء ان شاء الله الكلام في عدم دلالتها على الترجيح.

ما أورد على أخبار الترجيح:

الأول: ان العمل بالراجح لو كان واجباً للزم العمل بالراجح في البينات المتعارضة واللازم باطل بالإجماع.

وأجيب عنه بأن الإجماع هو الفارق وإلاّ لعملنا بالراجح فيها أيضاً إلاّ إذا قام دليل خاص كما ورد في مسألة الدار الخارجة من تحت يد المدعيين انه يقدم قول من هو أكثر شهوداً على ان هذا وارد عليهم لانه في تعارض البينات  لا يجوز التخيير.

الثاني: هو الاختلاف الكثير بين أخبار الترجيح كما بين المقبولة والمرفوعة في بعض المرجحات وتقديم بعضها على بعض واختلافهما مع باقي الأخبار، واختلاف الباقي بينها بل بعضها تمنع من الترجيح بما هو مذكور في غيرها كرواية الصدوق عن الرضا([162])(عليه السلام  ) المانعة من الترجيح بما سوى موافقة الكتاب أو السنة النبوية مع استبعاد تقييد إطلاق ما اقتصر فيها على بعض المرجحات بالمقبولة لورود تلك المطلقات في مقام الحاجة فيحصل منها ظهور بل اطمئنان بل قطع على انه ليس المقصود منها الوجوب بل الإرشاد إلى ما يحكم به العقل من الأولوية الملزمة أو الراجحة، أو المقصود منها الاستحباب مع ان مقبولة ابن حنظلة واردة في القاضي إلاّ ان يقال بالتلازم بين الراوي والقاضي، كما حملوا أخبار نزح البئر على الاستحباب([163]) لاختلافها لأنها لو حملت على الوجوب لزم طرح بعضها بخلاف ما لو حملت على الاستحباب فإنه لا يضر إهمال بعضها لبعض المرجحات أو المخالفة في ترتيبها ولا يخفى عليك ان ذلك يوجب أظهرية أخبار التخيير وضعف دلالة أخبار المرجحات في الوجوب الشرعي وليس بينها جمع عرفي ولا يصح أعمال المرجحات بينها للزوم الدور لان المفروض إثبات المرجحات بها فكيف يرجح بالمرجحات المذكورة فيها.

الثالث: ان القرينة الحالية دالة على عدم إرادة الوجوب التعبدي بالترجيح من أخبار الترجيح لأنها صادرة عن الإمام  الباقر (عليه السلام  ) ومن بعده من الأئمة ( عليه السلام   ) دون من قبلهم وعليه فأما ان يكون المكلفون قبل الإمام الباقر (عليه السلام  ) مكلفين بالتخيير في المتعارضات وإلغاء الترجيح بالكلية والآن تبدل تكليفهم وتغير إلى وجوب الترجيح بالمذكورات، ولا ريب في بطلان ذلك لانه يستلزم تغير أحكام الله باختلاف الأزمان والأشخاص وأما ان يكونوا غير محتاجين إلى أعمال المرجحات لعدم تعارض الأخبار إلى زمان الإمام الباقر (عليه السلام  ) وهو باطل أيضاً لكثرة الأخبار عندهم وتعارضها لديهم وأما ان يكونوا قد أخرَّ عنهم البيان لوجوب الترجيح وهو باطل أيضاً للزوم تأخير البيان عن وقت الحاجة فلابد ان نقول إنها إرشاد لحكم العقل وليست بياناً لوجوب الترجيح تعبداً أو أنها للاستحباب وفيه ان البيان عن  المرجحات لم يتأخر فقد بين النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم) بمنى الترجيح موافقة الكتاب والسنة والأئمة ( عليه السلام   ) كالخبر الثاني والرابع والثاني عشر والثالث عشر والرابع عشر من الطائفة الثانية التي سيجيء ان شاء الله نقلها. على ان بعضها كان وقت الحاجة إليه من زمان الإمام الباقر (عليه السلام  ) لانه كان يخص أخبار الأئمة ( عليه السلام   ) لكثرة المخالفين لهم والكاذبين عليهم.

فالحق هو الأخذ بالمرجحات التي قام الدليل المعتبر على وجوب الترجيح بها وهي موافقة الكتاب أو السنة وهو قائم من زمان النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم) كما تقدم في الطائفة الثانية ومخالفة العامة كما تقدم في الطائفة الثالثة وإنما تأخر البيان عن هذا المرجح الثالث لانه محل الابتلاء به كان في زمن الأئمة ( عليه السلام   ) دون زمن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم) .

الرابع: إنها لو تمت أدلة الترجيح بالمزايا المنصوصة لزم اختصاص التخيير واقتصارها على الفرد النادر وهو تساوي الخبرين في المرجحات بأجمعها وتخصيص العام بما يوجب اختصاصه بالفرد النادر مستهجن. وجوابه ان التخصيص لأخبار التخيير إنما كان بالترجيح بموافقة الكتاب والسنة وبمخالفة العامة دون ما عداها فهي تكون مقتصرة ومختصة بالمتعارضين المتساويين في موافقة الكتاب والسنة ومخالفة العامة، ولا ريب ان المتعارضين المتساويين في ذلك لهما أفراد كثيرة فإن الكثير من الأخبار المتعارضة غير مصرح بالحكم الذي قد اشتملت عليه في الكتاب أو السنة أو موجوداً عند العامة وكثير من الأخبار المتعارضة ما يكون قسماً منها مخالفاً لطائفة من العامة والآخر منها مخالفاً لطائفة أخرى منهم لاختلافهم في الكثير من المسائل.

الخامس: انه لولا الترجيح بالمرجحات في متعارضات الأدلة لزم اختلال النظام لان جُل المسائل الفقهية أو كلها قد اختلف فيها الأخبار. فإذا قلنا بالتخيير فيها أو بالتساقط في جميعها أو بالتوقف كذلك لزم اختلال نظام الفقه لان الفقيه إذ ذاك له ان يفتي بما شاء أو تسقط عنده جميع أدلة الفقه أو يتوقف ويعمل بالاحتياط. وقد أجاب عن ذلك السيد كاظم اليزدي ( رحمه الله ) بأنه يمكن المنع من ذلك لانه في غالب الموارد يكون هناك جمع دلالي ومع عدمه يكون في الغالب أحد الخبرين ليس بحجة من جهة كونه موهوناً بإعراض الأصحاب.

حجة القائلين بعدم وجوب الترجيح بالمزايا المنصوصة

الدليل الأول:  أخبار التخيير الدالة على التخيير مطلقا

1-   ما رواه الشيخ الطوسي في الصحيح عن علي بن مهزيار، قال: (قرأت في كتاب لعبد الله بن محمد إلى أبي الحسن الرضا (عليه السلام  ) اختلف أصحابنا في رواياتهم عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام  ) في ركعتي الفجر في السفر فروى بعضهم ان صلهما في المحمل، وروى بعضهم لا تصلهما إلاّ على الأرض، فأعلمني كيف تصنع أنت لأقتدى بك في ذلك، فوقع (عليه السلام  ) موسع عليك بأية عملت)([164]) فإن توقيعه (عليه السلام  ) ظاهر في التخيير بين الروايتين المتعارضتين ولابد ان يكون نظره (عليه السلام  ) إلى ضرب القاعدة للعمل بالخبرين المتعارضين وإلاّ لكان على الإمام ان يبين له الحكم الواقعي كما انه يعلم من جوابه عدم وجوب الفحص عن المزية لأحدهما والأخذ بها. ودعوى ان المراد بها التخيير الواقعي كخصال الكفارة بين الصلاتين كما هو مقتضى مقام الإمام (عليه السلام  ) فإن عليه بيان الحكم الواقعي لا الحكم الظاهري للواقعة المعينة فهي أجنبية عن محل البحث – لا تضر بالاستدلال فإن بيان الحكم الواقعي بلسان ضرب قاعدة يعرف منها حكما ظاهرياً من البلاغة بمكان فهو نظير من يسأل عن شيء هو طاهر واقع فيجيبه الإمام: (بأن كل شيء لك طاهر حتى تعلم انه نجس)([165]) فالتخيير بين الصلاتين هو الحكم الواقعي لهما لكن الإمام بينه بنحو ضرب القاعدة لكل تعارض بين خبرين فإن قوله (عليه السلام  ): (بأية عملت) يريد بذلك الرواية لقرينة تأنيث (أي) وإلاّ كان على الإمام (عليه السلام  ) ان يجيب بعبارة واضحة مختصرة (مخير) لا سيما والإمام (عليه السلام  ) على مشارف رغبتهم يريد ان يرشد شيعته للقواعد الكلية التي يرجعون إليها عند التباس الأمور. ودعوى ان الرواية في المستحبات فاسدة فإن الظاهر من ركعتي الفجر هو الصلاة الواجبة لا سيما والمسافر في هذه الحالة يسأل عن واجبة لا مستحبة ويراجع الخبر الرابع وهو مكاتبة الحسين بن روح([166]).

2-   ما رواه المحدث الكليني في الكافي من الموثق عن سماعة عن أبي عبد الله (عليه السلام  )، وفي الوسائل الباب 9 من أبواب صفات القاضي انه قال: (سألته عن رجل اختلف عليه رجلان من أهل دينه في أمر كلاهما يرويه، أحدهما يأمر بأخذه والآخر ينهاه عنه كيف يصنع؟ قال (عليه السلام  ): يرجئه حتى يلقى من يخبره فهو في سعة حتى يلقاه). قال الكليني  في الكافي وفي رواية أخرى: (بأيهما أخذت من باب التسليم وسعك)([167]).

ووجه الاستدلال بها على التخيير بين المتعارضين ان قوله (عليه السلام  ): (يرجئه) فعل مضارع من أرجى، والأمر منه أرجِ يقال:(أرجيت الأمر إذا أخّرته)([168]) قال الله تعالى: [وَاخَرُونَ مُرْجَوْنَ ِلأَمْرِ اللهِ] ([169]) وقوله تعالى: [تُرْجِى مَنْ تَشَآءُ ٍمِنْهُنَّ] ([170]) وقوله تعالى [أَرْجِهْ وَأخَاهُ]([171]) والضمير عائد للأمر وهو ظاهر في إرجاء تعيين الأخذ بواحد من الخبرين لان السؤال عن الخبرين الواردين فيه كما هو صريح السؤال ولذا فرع (عليه السلام  ) على ذلك السعة في الأخذ بأيهما شاء، فإن التفريع لابد وأن يناسب المفرع عليه فهو (عليه السلام  ) لما طلب من السائل تأخير تعيين الأخذ بأحدهما معيناً فرع على ذلك السعة في الأخذ بأحد الخبرين ومعناها هو جواز الأخذ بأيهما شاء. ويؤيد ذلك ما ذكره الكافي من ان هذه الرواية رويت بوجه آخر وهو (بأيهما أخذت من باب التسليم وسعك)([172]) فإن ظاهر قوله: (وفي رواية أخرى) عقيبها هو ان هذه الرواية لهذه الرواية رويت بهذه الفقرة الأخرى، وعليه فتكون الروايتان لها متوافقتين في المقصد والمراد.

وأورد على الاستدلال بهذه الرواية:

أولاً: بأن الرواية إنما تدل على السعة في فعل هذا الأمر وأن المراد ان  المكلف في سعة من الأمر والنهي إلى ان يعلم بالحكم الواقعي نظير قوله (عليه السلام  ): (الناس في سعة ما لا  يعلمون)([173]). ولا يخفى عليك ما فيه فإن ظاهر الرواية السؤال عن الخبرين نفسيهما وكيف يصنع بهما ومقتضى مطابقة الجواب للسؤال هو بيان السعة في الأخذ بالخبرين وعدم تعيين الأخذ بأحدهما على سبيل التعيين.

وثانياً: بأن موردها ما إذا دار الأمر بين محذورين لفرض الكلام في العمل الذي قام الدليل على الأمر به وقام دليل آخر على النهي عنه والتخيير في ذلك تقتضيه القاعدة فليست الرواية دالة على التخيير بين المتعارضين وإنما دلت على القاعدة التي يحكم العقل بها وهو التخيير بين المحذورين. ولا يخفى عليك ما فيه فإن المورد إنما يكون من مورد قاعدة دوران الأمر بين المحذورين إذا علم بثبوت أحد الحكمين أما الوجوب وأما الحرمة وفي المقام لم يفرض السائل العلم بذلك وإنما فرض إطلاعه على الحجتين على الحكمين لعمل واحد، ولعله إنما فرض ذلك لاحتماله ان يكون كلا الخبرين كاذبين وأن الحكم الواقعي للعمل هو الكراهة أو الاستحباب أو الإباحة فيكون سؤاله عن تعارض الحجتين وطلب من الإمام معرفة حكم تعارضهما هل هو التساقط أو الرجوع في تعيين أحدهما للمزايا الموجودة فيهما أو بالتخيير بينهما؟ فجواب الإمام بالسعة يدل على عدم وجوب الرجوع إلى المزايا.

سلمنا ان المورد من موارد القاعدة والعلم بمطابقة أحد الخبرين للواقع لكـــن لا يجوز الرجوع للقاعدة  عند تعارض الأمارتين إذا كان الترجيح واجباً إذ لو كان واجباً لكان على الإمام (عليه السلام  ) ان يرجعه إلى المرجحات الموجودة في الحجتين عليهما ومع عدمها إلى التخيير فمن  ترك استفصال الإمام (عليه السلام  ) لوجود  المرجح وأمره بالتوسعة بالأخذ بأيهما يعلم ان الحكم هو التخيير بينهما حتى مع وجود المزية في أحدهما بل حتى لو فرض انه لم يسأل عن تعارض الأمارتين وسأل عن  علمه نفسه بأحد المحذورين فعلى الإمام (عليه السلام  ) ان يجيب بالرجوع لدليليهما وأخذ ما فيه المزية لو كان الواجب هو ترجيح ذي المزية لا انه يأمره بالتخيير والسعة مطلقاً سواء وجدت المزية لأحد الحجتين أم لم توجد.

وثالثاً: بأنها ناظرة إلى التعارض في الاعتقاديات كصفات الأئمة ( عليه السلام   ) والجبر والتفويض وشؤون يوم القيامة وعذاب القبر، لا في الفروع التي يطلب فيها الامتثال بقرينة التعبير بالأخذ وهو يناسب الأمور الاعتقادية وبقرينة   الإرجاء فإنه يناسب الاعتقاديات لا الفروع فإن الإرجاء فيها موجباً عادة للتفويت وبقرينة فروض الدوران بين المحذورين في الفروع وإذا ثبت أنها ناظرة للاعتقاديات فلا يستفاد من السعة في الحديث التخيير أصلاً إذ لا معنى له في الاعتقادات والمعارف الدينية. وإنما يكون المراد السعة من حيث الاعتقاد والالتزام بمؤداه  فلا يلتزم بشيء منهما حتى يلقي من يخبره بالواقع. ولا يخفى عليك ما فيه الأخبار في هذا الباب يكون نوع التعبير فيها بالأخذ كما في المقبولة والمرفوعة وغيرها لمن راجعها، وفي أخبار الرجوع إلى مخالفة العامة يكون لسماعه نفسه يأمر بالأخذ بما خالف العامة، مضافاً فإنها لو كان المراد بها التعارض الواقع في أصول الدين ونحوها من الأمور التي يطلب فيها الاعتقاد لقال السائل اختلف عليه رجلان من  أهل دينه في اعتقاد أمر أحدهما يأمر به والآخر ينهى عنه   ثم ان الأمور الاعتقادية التي يجب الاعتقاد بها أو يحرم الاعتقاد بها لا يقبل فيها الخبر حيث لا يحصل به الاعتقاد فلا وجه لسؤال التعارض بين الأخبار فيه ففرض السؤال عن التعارض بين الخبرين في أمر اعتقادي من حيث دلالة أحدهما على وجوب الأخذ به والآخر على النهي عنه فرض غير صحيح وكان على الإمام (عليه السلام  ) ان يجيبه بالطرح لهما كما صرح الإمام (عليه السلام  ) عن الحديثين المتعارضين المخالفين لكتاب الله وسنة رسوله ببطلانهما فالرواية قطعاً لم يرد بها الاعتقاديات المطلوب فيها الاعتقاد والمعرفة، ثم ان الأخذ بمشتقاته استعمل في القران الكريم منسوبا للذات أو العمل بأنواعه كقوله  تعالى: [فَأَخَذَهُ الله نَكَالَ الأَخِرَةِ وَالأُولَى] ([174]). وكقوله تعالى: [فأخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ] ([175]) وكقوله تعالى: [وَيَأخُذُ الصَّدَقاتِ] ([176]) وكقوله تعالى: [خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً] ([177]). والحاصل ان الأخذ لغة وعرفاً هو التناول والتحصيل وهو بالنسبة إلى ما وقع عليه كل بحسبه فليس فيه معنى يقتضي اختصاصه بالاعتقاديات([178]). سلمنا لكن الأمر الاعتقادي إذا جاء خبر بالأمر بالأعتقادية وجاء خبر بالنهي عن الاعتقاد به فيكون حاله حال محذورين لانه ان ترك الاعتقاد به        احتمل مخالفته للوجوب الإلهي وإن اعتقد به احتمل مخالفته للنهي الإلهي عنه فلابد ان يكون مراد الإمام بالإرجاء والسعة هو التخيير بين الخبرين حيث لا يمكنه التخلص من ان يوافق تصرفه لأحدهما.

وعليه فأمر الإمام (عليه السلام  ) بالسعة وعدم أمره بالفحص عما فيه المزية والأخذ بما فيه المزية يقتضي التخيير بينهما إذ لا يخلو المكلف من أحدهما وإذا ثبت في الاعتقاديات ذلك ثبت في الفروع كذلك بطريق أولى، هذا مع ما عرفت من شمول الرواية للتعارض في الفرعيات والاعتقاديات. ودعوى ندرة الدوران بين المحذورين في الفروع بخلاف الأصول توجب حمل الرواية على التعارض في الأصول فاسدة.

أولاً: لعدم الندرة ومن لاحظ كتب الفقه وجد الكثير من ذلك خصوصاً الخبرين الذين بينهما عموم وخصوص من وجه.

وثانياً: سلمنا الندرة لكن الرواية لما كانت تشمل الاعتقاديات معها وهي غير نادر التعارض فيها فلا استهجان في ان تشمل الفرعيات أيضاً.

وثالثاً: ان قوله (عليه السلام  ): (فهو في سعة حتى يلقاه)([179]) إنما يقصد به انه لا يجب عليه الفحص عن صحة إحدى الروايتين وأن ذمته غير منشغلة بمضمون إحداهما حتى يلقى إمامه فهو تأكيد لقوله (عليه السلام  ): (يرجيه حتى يلقى من يخبره)([180]) فهي ناظره لعدم وجوب الفحص وإهمال الواقعة بحيث ان الذمة غير منشغلة بمضمون أحدهما فهي غير دالة على التخيير.

ولا يخفى عليك ما فيه فإن هذا المعنى هو يقتضي التخيير بينهما إذ لو كان الواجب هو ترجيح ذي المزية لأمره الإمام بالفحص عنه والأخذ به إذا وجده لانه لما كان حال السائل لا يخلو عن العمل بأحد المضمونين فلو كان الواجب ذا المزية منهما لأمره بالأخذ به معيناً دون ان يجعله (عليه السلام  ) في سعة من ذلك. ويؤيد ذلك ما ذكره الكليني ( رحمه الله ) في عقب هذه الرواية من انه في رواية أخرى (بأيهما أخذت من باب التسليم وسعك)([181]).

رابعاً: أنها مختصة بحال الحضور. وفيه ان قوله (عليه السلام  ): (من يخبره) المراد به من يطلعه على الأصح منهما لا خصوص  الإمام (عليه السلام  ) بل هو كناية عن معرفة الأصح منها. سلمنا لكن إذا ثبت ذلك في زمان الحضور فيثبت في زمان الغيبة بطريق أولى لعدم التمكن من ملاقاة الإمام.

3-   ما حكي عن الطبرسي في الإحتجاج([182]) مرسلاً عن الحارث بن المغيرة، ونقلها صاحب الوسائل في باب 9 من  أبواب صفات القاضي عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام  ) قال: (إذا سمعت من أصحابك الحديث وكلّهم ثقة فموسّع عليك حتى ترى القائم (عليه السلام  ) فرده إليه)([183]).

والدلالة فيها على التخيير هو ما ذكره فيها من التوسعة في أخذ أي حديث ثقة ورد عليك. وقد أورد على الاستدلال بها:

أولاً: بأنها في مقام بيان حجية خبر الثقة وجواز العمل به ولا دلالة لها على حكم المتعارضين. وفيه انه يستفاد من قوله (فموسع عليك) هو التخيير بين المتعارضين من الحديث لان التوسعة ضد الضيق. فإن الخبر الموثق به ليس في العمل به ضيق حتى يوسعه الإمام (عليه السلام  ) وإنما يكون الضيق في العمل به عندما يتعارض مع مثله.

وبعبارة أخرى ان هذه الرواية ليس لسانها لسان جعل الحجية للخبر الموثوق ولا ناظرة لهذا المقام فإن جعل الحجية  للخبر الموثوق في عصر الصادق (عليه السلام  ) مفروغ عنه لاتفاق العقلاء وأهل الحديث على قبوله فلابد ان تكون ناظرة لحال الضيق في العمل به وهو حال التعارض. سلمنا لكنها شاملة لهذه الحال.

وثانياً: إنها مختصة بحال الحضور لأنها مقيدة برؤية القائم. وفيه ان الظاهر من هذا اللفظ هو الحجة (عليه السلام  ) الإمام الثاني عشر. سلمنا لكن إذا كان التخيير ثابتاً في زمان الحضور فبالطريق الأولى ثبوته عند الغيبة.

4-   ما رواه الطبرسي في الإحتجاج ووسائل الشيعة في باب 13 من أبواب السجود، وحكي عن الشيخ الطوسي في كتاب الغيبة([184]) بسنده عن محمد بن عبد الله بن جعفر الحميري في جواب مكاتبة بتوسط الحسين بن  روح إلى الحجة عجل الله فرجه وسهل مخرجه (يسألني بعض الفقهاء عن المصلي إذا قام من التشهد الأول إلى الركعة الثالثة هل يجب عليه ان يكبر فإن بعض أصحابنا قال: لا يجب عليه التكبير ويجزيه ان يقول: بحول الله وقوته أقوم وأقعد فكتب (عليه السلام  ) في الجواب ان فيه حديثين: أما أحدهما فإنه إذا انتقل من حالة إلى أخرى فعليه التكبير. وأما الآخر فإنه روى إذا رفع رأسه من السجدة الثانية وكبّر ثم جلس ثم قام فليس عليه في القيام بعد   القعود تكبير وكذلك التشهد الأول يجري هذا المجرى، وبأيهما أخذت من جهة التسليم كان صواباً)([185]). ووجه الاستدلال بها هو ما تضمنه جواب الإمام من التخيير بالأخذ بأي واحد من الحديثين ولم يأمره بالتفحص والرجوع إلى المزايا المرجحة. ويمكن ان يشكل على الاستدلال بها وبالخبر الأول لهذه الطائفة أعني خبر علي بن مهزيار.

أولاً: بأن الإمام (عليه السلام  ) إنما أمر بالتخيير بهذين الحديثين الذين كان الإمام نفسه مطلع عليهما ولعلهما متساويان في المزايا لا أرجحية لأحدهما على الآخر فلم يعلم من هذه الرواية الحكم بالتخيير مع وجود المرجح لأحدهما. ويمكن الجواب عنه بأن ظاهر الرواية ان الإمام (عليه السلام  ) في  مقام بيان وجه التخيير وعلته وإلاّ فلا موجب لنقله (عليه السلام  ) الحديثين ثم أمره بالتخيير بينهما بل يكتفي ببيان التخيير فقط، وإذا كان ظاهر الرواية هو ذلك فعدم ذكر الإمام (عليه السلام  ) لتساوي  الحديثين مع ندرته وقلته يظهر منه ان التخيير بين الحديثين موضوعه اختلاف الحديثين نفسه دون اشتراط تساويهما، وأنه (عليه السلام  ) في مقام ضرب القاعدة لكل متعارضين.

وثانياً: ان بينهما عموم وخصوص مطلق فالواجب هو تقييد المطلق فالرواية غير صحيحة لأنها غير جارية على القواعد ففيه ان الإمام (عليه السلام  ) لابد انه اطلع على قوة المطلق أو إهماله وعدم تمامية مقدمات الحكم فيه ولذا لم يقيده.

والحاصل ان حكم الإمام (عليه السلام  ) بتعارضهما وعدم حكمه بالعمل بالخبر المخصص وحده أول دليل على أنهما مختلفان اختلافاً لا يمكن الجمع بينهما.

وثالثاً: ان هذا تخيير بين الإتيان بما دل الدليل على استحبابه وعدمه فإن التكبير مستحب بين أفعال الصلاة ولا ريب ان المستحبات يجوز فيها ذلك. ويمكن الجواب عنه بأن المستحب لا يصح التخيير بينه وبين عدمه على حد سواء بل يرجح وجوده على عدمه، مضافاً إلى ان الإمام (عليه السلام  ) جوز الأخذ بكل من الحديثين على سبيل التسليم بأنه الحجة وأنه المطلوب المستحب الواقعي أو عدمه مطلوب واقعي وهذا لا يصح في المستحبات أو إعدامها إذا لم تقم الحجة عليها وإلاّ لزم التشريع المحرم لانه إدخال ما لم يعلم انه من الدين في الدين، فالرواية ظاهرة في التخيير بين أخذ كل واحد من الحديثين على نحو التسليم بأنه حجة على الواقع لا انه في الواقع هو مخير بينهما ولكنه (عليه السلام  ) بين التخيير بلسان ضرب القاعدة للتعارض كما عرفته في الخبر الأول من هذه الطائفة.

رابعاً: بأنها مكاتبة بخط أحمد بن إبراهيم النوبختي وإملاء الحسين بن روح وأحمد المذكور مجهول الحال بل لا ذكر له في كتب الرجال فهي غير نقية السند. وفيه ان الظاهر ان أحمد المذكور مستنسخ للمكاتبة وأن محمد بن عبد الله بن جعفر الحميري هو الراوي لها ويشهد بإملاء الحسين بن روح لها كما ذكره بعضهم، وعليه فالرواية معتبرة. سلمنا ذلك وأنها مرسلة وأن النوبختي المذكور هو الواسطة في النقل عن الحسين بن روح لكنها مطابقة لفتوى المشهور وعملهم فإن المشهور هو التخيير بين  المتعارضين بل نقل الإجماع عليه ولا ريب ان الشهرة أو الإجماع على ذلك لا يختص بالمتعارضين المتساويين فإنهما في غاية الندرة والقلة ومن الصعب والحرج معرفة الأرجح منهما مزية فليس ناظراً إليهما. نعم معرفة المخالف للعامة والموافق للكتاب أو السنة هو السهل وسيجيء منا ان شاء الله تحقيق ان هذين من المرجحات.

وخامساً: ان السائل سأل عن الحكم الواقعي للواقعة ولا يليق بشأن الإمام (عليه السلام  ) ان يأمره بالتخيير في الأخذ بأحد طريقيه المتعارضين لحكمهما. وبعبارة أخرى ان السائل سأل عن الحكم الواقعي للواقعة فلا وجه لعدول الإمام (عليه السلام  ) عن ذلك وبيانه للحكم الظاهري لها. وجوابه ان الإمام(عليه السلام  ) غرضه ضرب القاعدة حتى لا يتكلف بالمزاحمة والاستفسار في مثل ذلك كما تقدم في الخبر الأول لهذه الطائفة أعني خبر علي بن مهزيار.

5-   ما نقل عن الصدوق في كتابه عيون  الأخبار عن أحمد بن الحسن الميثمي عن الرضا (عليه السلام  ) انه قال (عليه السلام  ): في حديث طويل: (فما ورد عليكم من خبرين مختلفين فأعرضوهما على كتاب الله، فما كان في كتاب الله موجوداً حلالاً أو حراماً فاتبعوا ما وافق الكتاب، وما لم يكن في الكتاب فاعرضوه على سنن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم)، فما كان في السنة موجوداً منهياً عنه نهي حرام ومأموراً به عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم) أمر إلزام فاتبعوا ما وافق نهي رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم) وأمره، وما كان في السنة نهي إعافة أو كراهة ثم كان الخبر  الأخير خلافه فذلك رخصة فيما عافه رسول الله وكرهه ولم يحرمه فذلك الذي يسع الأخذ بهما جميعاً وبأيهما شئت وسعك الاختيار من باب التسليم والإتباع والرد على رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم) وما لم تجدوه في شيء من هذه  الوجوه فردوا إلينا علمه فنحن أولى بذلك، ولا تقولوا فيه بآرائكم وعليكم بالكف والتثبت والوقوف وأنتم طالبون باحثون حتى يأتيكم البيان من عندنا)([186]).وحكي عن الوسائل ان الصدوق ذكر انه نقل هذا من كتاب الرحمة  لسعد بن عبد الله وذكر في الفقيه انه من الأصول والكتب التي عليها المعول وإليها المرجع. والاستدلال بهذه الرواية مثل الاستدلال بمكاتبة الحميري([187]) – الخبر الرابع -     غاية الأمر أنها مقيدة للتخيير بعدم مخالفة الكتاب والسنة النبوية وسيجيء ان شاء الله منا البحث في ذلك.

6-   من أخبار ما حكي عن  الطبرسي  في الإحتجاج مرسلاً عن الحسن بن الجهم عن الرضا (عليه السلام  ) قال: (قلت للرضا: تجيئنا الأحاديث عنكم مختلفة، قال (عليه السلام  ): ما جاءك فقس على كتاب الله عز وجل وأحاديثنا، فإن كان يشبههما فهو منا، وإن لم يشبههما فليس منا، قلت: يجيئنا الرجلان وكلاهما ثقة بحديثين مختلفين ولا نعلم أيهما الحق، قال (عليه السلام  ): فإذا لم تعلم فموسع عليك بأيهما أخذت)([188]). والاستدلال بها واضح وإرسالها لا يضر لما عرفته في الخبر الرابع والظاهر ان مراده بـ(لا نعلم انه الحق) هو عدم معرفة ما يجب الأخذ به بالميزان المذكور أعني بالمقايسة على كتاب الله وأحاديثهم. كما ان الظاهر من صدورها ان الجائي بالخبر ليس بثقة بقرينة المقابلة بقوله (يجيء الرجلان وكلاهما ثقة) فيكون السؤال في الصدر عن تعين الحجة لا عن المرجح لها نظير ما روي عن الكافي ومحاسن البرقي عن ابن أبي يعفور قال: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام  ) عن اختلاف الحديث يرويه من نثق به، ومنهــم لا نثق به، قال: إذا ورد عليكم حديث فوجدتم له شاهداً من كتاب الله أو من قول رسول الله، وإلاّ فالذي جاءكم به أولى به)([189]). وعليه فالرواية تدل على التخيير إذا كان الخبران موثوقين حتى لو كان أحدهما لم يشبه ما في كتاب الله ولا يشبه أحاديثهم ( عليه السلام   ).

7-   من الأخبار ما حكي عن معاني الأخبار للصدوق مسنداً وعن الإحتجاج مرسلاً عن الصادق (عليه السلام  ) (أن  رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم) قال: ما  وجدتم في كتاب الله عز وجل فالعمل به لازم ولا عذر لكم في تركه وما لم يكن في كتاب الله عز وجل وكان في سنة مني فلا عذر لكم في ترك سنتي وما لم يكن فيه سنة مني فما قال أصحابي فقولوا به فإنما مثل أصحابي فيكم كمثل النجوم بأيهما أخذ أهتدي وبأي أقوال أصحابي أخذتم اهتديتم واختلاف أصحابي لكم رحمة قيل يا رسول الله من أصحابك قال أهل بيتي)([190]).

ووجه الاستدلال بهذا الخبر هو قوله (وبأي أقوال أصحابي أخذتم اهتديتم) و(اختلاف أصحابي لكم رحمة) فإنه يدل انه عند اختلاف الحديث وتعارضه يصح الأخذ بأي واحد منهما غاية الأمر ان ذلك مقيد بعدم وجود آية من الكتاب أو من السنة تدل على الحكم.

8-   ما حكي عن فقه المنسوب للرضا (عليه السلام  ) من انه فيه: (والنفساء تدع الصلاة أكثره مثل أيام حيضها إلى ان قال وقد روي ثمانية عشر يوماً وروي ثلاثة وعشرين يوماً وبأي هذه الأحاديث أخذ من باب التسليم جاز)([191]).

9-   ما نقل في مستدرك الوسائل باب 19 من كتاب القضاء عن مسعود العياشي في تفسيره عن حماد بن عثمان قال: (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام  ) ان الأحاديث تختلف عنكم فقال ان القرآن نزل على سبعة أحرف وأدنى ما للإمام ان يفتي على سبعة وجوه)([192]). وهذا يدل على ان الأحاديث المختلفة المتعارضة في موضوع واحد يمكن ان تكون صادرة من الإمام (عليه السلام  ) فإذا كانت شرائط الحجية موجودة فيها كانت متساوية. وعليه فيصح الأخذ بأي واحد منها كما في أحرف القرآن ولا ريب ان التخيير هو يحقق مقصود الإمام (عليه السلام  ) من بيانه للمطلب بمختلف الحديث إذ لو لزم التعيين بالمرجح فإن مقصود الإمام (عليه السلام  )  لان مقصوده عدم اجتماع الشيعة على أمر واحد للمحافظة عليه (عليه السلام  ) وعليهم كما دلت عليه رواية الكافي في الموثق عن زراره عن أبي جعفر الصادق (عليه السلام  ) وما دل من ان الإمام (عليه السلام  ) أمرهم بالاختلاف خوفاً عليهم من الأخذ برقابهم كما في رواية الشيخ الطوسي في التهذيب في الصحيح ورواية الكافي بسنده عن موسى بن أشيم، وما دل على ان الإمام (عليه السلام  ) هو الذي خالف بين الشيعة كما في رواية الشيخ في العدة ورواية الإحتجاج وما دل على ان اختلاف أصحابه رحمة كما في رواية معاني الأخبار فإن هذه الأخبار تدل على ان الإمام إنما صدر منه التعارض لانه يريد عدم اتفاق الشيعة في ذلك ولا ريب ان التعيين بالأخذ بذي المزية يوجب اتفاق الشيعة بخلاف التخيير، وإليك نقل بعض تلك الأخبار الدالة على ذلك.

أولاً: مثل ما في مستدرك الوسائل في الباب نفسه المذكورة  عن الصفار في البصائر عن أحمد بن محمد عن أبيه عن عبد الله بن المغيرة عن عبد الله بن سنان عن موسى بن أشيم في حديث له: (أنه رأى الإمام أبا عبد الله (عليه السلام  ) قد أجاب في مجلس واحد عن مسألة واحدة بحضوره بثلاثة أجوبة مختلفة وقد عظم عليه ذلك فقال (عليه السلام  ): يا ابن أشيم كأنك جزعت قلت: جعلني الله فداك إنما جزعت من ثلاث أقاويل في مسألة واحدة. فقال: يا ابن أشيم ان الله فرض إلى سليمان بن داود أمر ملكه فقال تعالى: [هذا عَطآؤُنا فَامْنُنْ أوْ أمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ] ([193]) وفرض إلى محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم) أمر دينه فقال تعالى: [وَمَا ءاتاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهاكُمْ عَنُهُ فَانْتَهُواْ]([194]) وأن الله تبارك وتعالى فوض إلى الأئمة منا وإلينا ما فوض إلى محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم) فلا تجزع)([195]). وهذه الرواية تدل على المطلوب كسابقتها إلاّ انه في الكافي بسنده عن موسى بن أشيم ان السؤال كان عن آية في كتاب الله والأجوبة كانت عنها مختلفة فقال له: (يا ابن أشيم). وعليه فلا دلالة لها على المطلوب ولا مؤيدة له.

ثانياً: ومثله ما حكي عن الكافي في الموثق عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام  ) في حديث له يتلخص في: (أن الإمام (عليه السلام  ) أجاب عن مسألة بثلاثة أجوبة مختلفة فسأل الإمام (عليه السلام  ) عن ذلك فقال: يا زرارة هذا خير لنا وأبقى لنا ولكم ولو اجتمعتم على أمر واحد لصدقكم الناس علينا)([196]) والاستدلال بها كما ذكرناه في الخبر التاسع فالتخيير يقتضي السعة في الأخذ والجهة التي أوجبت تعدد الحكم من الإمام (عليه السلام  ) يقتضي التخيير في الأخذ بها إذ لو كان يأخذ بالمعين كان ذلك خلاف المقصود من  اختلاف الحكم من عدم تصديق الناس والأخذ برقاب الشيعة.

ثالثاً: ما رواه الشيخ الطوسي في التهذيب على الظاهر عن سالم أبي خديجة عن أبي عبد الله قال: (سأله إنسان وأنا حاضر، فقال: ربما دخلت المسجد وبعض أصحابنا يصلي العصر وبعضهم يصلي الظهر، فقال: أنا أمرتهم بهذا لو صلّوا على وقت واحد لعرفوا فأخذوا برقابهم)([197]).

ورابعاً: ما رواه الشيخ الطوسي في العدة مرسلاً عن الصادق (عليه السلام  ): (سأل عن اختلاف أصحابنا في المواقيت فقال (عليه السلام  ): (أنا خالفت بينهم) ومثل ذلك أخبار كثيرة وهي ان لم تدل على جواز التخيير بين الأخبار المتعارضة فلا أقل من التأييد بها على ذلك فإن ظاهرها جواز الأخذ بأيها كان من أجل ان يحصل بذلك الاختلاف بينهم.

10- منها مرسلة الكليني على ما حكي عن ديباجة الكافي حيث قال لقوله (عليه السلام  ): ( بأيهما أخذت من باب التسليم وسعك)([198]). ويظهر أنها عند صاحب الكافي تامة الحجية وإن عمل الأصحاب القدماء عليها وإلاّ لما استدل بها على مدعاه من التخيير بين الأخبار المتعارضة وطرحه الأخبار الدالة على المزايا المرجحة مع أنها موجودة لديه فإنه ذكر قسماً منها في باب اختلاف الحديث من كتابه الكافي.

11- ما عن الكافي عن المعلى بن خنيس قال: (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام  ) إذا جاء حديث عن أوّلكم وحديث عن آخركم بأيهما نأخذ؟  فقال: خذوا به حتى يبلغكم عن الحي فان بلغكم عن الحي فخذوا بقوله، قال: ثم قال أبو عبد الله (عليه السلام  ): إنا والله لا ندخلكم إلاّ في ما يسعكم)([199]). قال الكليني وفي حديث آخر: (خذوا بالأحدث)([200]). ولا يخفى عليك انه من المحتمل قويا عود الضمير في (به) للحديث ويكون المراد خذوا بالحديث، والمراد الأخذ بأي واحد منه ولا يطرحان، ويدل على ذلك قوله (عليه السلام  ): (لا ندخلكم إلاّ فيما يسعكم) فإنه لو كان المراد به هو الأخذ بالأحدث لما كان ذلك إدخال لنا فيما يسعنا لانه يكون تقيداً للأخذ به وقد يكون هو على خلاف التقية فيكون من الضيق الأخذ به. ويؤيد ذلك قول الكليني: (وفي حديث آخر خذوا بالأحدث) فإنه لو كان الضمير يعود إلى (الحديث عن آخركم) لكانت الرواية عين الأولى.

12- ما عن فقه الرضا: (والنفساء تدع الصلاة أكثره مثل أيام حيضها وهي عشرة أيام وتستظهر بثلاثة أيام ثم تغتسل فإذا رأت الدم عملت كما تعمل المستحاضة، وقد روي ثمانية عشرة يوماً وروي ثلاث وعشرين يوماً وبأي هذه الأحاديث أخذ من جهة التسليم جاز)([201]).

والاستدلال بها هو أمر الإمام (عليه السلام  ) بالتخيير بين الأخبار الثلاثة المذكورة  فيها، والكلام فيه كالكلام في الخبر الأول من أخبار التخيير وأما ضعفها من جهة ضعف الكتاب فيجبره الشهرة على التخيير.

وهذه الأخبار متظافرة على العمل بالتخيير   في المتعارضين مطلقاً سواء اقترن أحد المتعارضين بالمزية المنصوصة أولاً، وسواء كان في حال التمكن من ملاقاة الإمام أم لا فتشمل زمان الغيبة وزمان الحضور، غاية الأمر قيد بعضها بعدم مخالفة الكتاب وعدم مخالفة السنة، وسيجيء التحقيق منا ان شاء الله بأن أخبار التخيير مقيدة بغير صورة ما إذا كان أحدهما مخالفاً للكتاب أو السنة أو موافقاً للجمهور فإنه يؤخذ بالآخر. ان قلت: ان أخبار التراجيح تقيدها بصورة فقدان المرجح.  قلنا أخبار التراجيح بالنسبة لأخبار التخيير على قسمين:

القسم الأول: ما صرحت بالتقييد والتي وجدنا فيها مرفوعة زرارة فقط دون ما عداها فإنه بعد ما فرض الراوي تساوي الخبرين المتعارضين في المميزات التي ذكرها الإمام (عليه السلام  ) قال له الإمام: (إذاً فتخير أحدهما فتأخذ به وتدع الآخر). ولا يخفى عليك أنها لا تصلح لتقيدها لوجوه:

أولها: هو ضعفها سنداً ولذا سميت بالمرفوعة على تقييد أخبار التخيير المذكورة التي هي أكثر منها وأصح منها لما فيها الصحيح والموثق.

ثانيها: ان الراوي للمرفوعة قال في عواليه([202]) التي رواها فيه: (وفي رواية انه قال (عليه السلام  ): (إذاً فأرجه حتى تلقى إمامك فتسأله)) أي أن: (إذاً فتخير أحدهما فتأخذ به وتدع الآخر) ليس موجوداً في المرفوعة وبدلها تلك العبارة. وعليه فتلك العبارة المصرحة بتأخير التخيير عن المرجحات المذكورة غير محرز وجودها في الرواية. وعليه فكيف يصح التمسك بها في مقابل تلك الأخبار.

ثالثها: ان الخبر الأول الذي رواه الشيخ الطوسي والرابع من أخبــار التخيير لا تصلح المرفوعة لتخصيصها أو تقييدها لان  الخبرين المذكوران قد أمر فيها الإمام (عليه السلام  ) بالتخيير مع إمكان الاحتياط بإتيان الصلاة على الأرض في الأول وبإتيان الكبير في الثالث. وبهذا ظهر لك ان المرفوعة لا تصلح للتقييد ودعوى جبر ضعفها لعمل الأصحاب بها كما ينقل عن ظاهر كلام الشيخ الطوسي فممنوعة، فإن الأصحاب عملهم على الترجيح بموافقة الكتاب أو السنة وبمخالفة العامة من دون نظر إلى صفات الراوي بعد المساواة في الموافقة والمخالفة وعدم عمل الأصحاب بالترجيح بالأخذ بما فيه الاحتياط أو بالترجيح بالصفات في جميع سلسلة الرواية مع أنها معارضة للمقبولة في ترتيب المرجحات.

القسم الثاني: من أخبار الترجيح الذي يمكن ان يقيد أخبار التخيير بواسطة انه أخص منها وهو باقي أخبار الترجيح. ولا يخفى أنها لا تصلح لذلك لوجوه:

الأول: ان أخبار التخيير واردة في مقام العمل فلا يصح تخصيصها بالمنفصل فلابد من حمل تلك الأخبار على استحباب الأخذ بالمزية المنصوصة أو على الإرشاد لما يحكم به العقل من الترجيح أولوية أو وجوبــاً. وفيه ان بعضهـــا مخصص بــترجيح ما وافق الكتاب أو السنة كالخبر الخامس والسادس والسابع من أخبار التخيير. هذا مضافاً إلى ان العمومات تخصيصها بالمنفصل أكثر من ان يحصى وبناء العرف وأحكام الفقه عليه فإنهم يخصصون العام وإن ورد وقت العمل لمصلحة تقتضي ذلك، ثم ان أخبار الترجيح واردة في مقام العمل الذي لا ينافي التخيير فإن العمل بالمزية لا ينافي التخيير. سلمنا لكن الخصم يدعي احتمال أسبقية أخبار الترجيح على أخبار التخيير وهو كاف في عدم إحراز القبح في تأخير البيان.

الثاني: ان أخبار التخيير لو قيدت بأخبار الترجيح لزم  حمل مطلقات التخيير مع كثرتها على الأفراد النادرة إذ قلّما يوجد خبران متعارضان لم يقترن أحدهما بواحد من تلك المرجحات المنصوصة وحمل المطلق على الفرد  النادر مستهجن عند أهل اللغة.

وفيه أنا إنما نخصصها بالأخبار الدالة على ترجيح الموافق للكتاب والسنة والمخالفة للجمهور فإن الثابت هو تخصيصها بذلك وهو لا يوجب ندرة الأفراد.

الثالث: ان الأخبار العلاجية أوسع ما فيها لذكر المرجحات هي المقبولة وهي لا تصلح لمخصصية أخبار  التخيير لأنها واردة في الحكــومة بين المتخــاصمين وبيـــان ما يفصل به الخصومة بين المتنازعين ووجوب رجوع المتنازعين إلى تلك المرجحات في حل الخصومة وفصلها بنقل الرواية حيث إنها لا تحل الخصومة بالحكم بالتخيير ونظيرها رواية الصدوق عن داود بن حصين عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام  ) في رجلين اتفقا على عدلين جعلاهما بينهما في حكم وقع بينهما فيه خلاف فرضيا بالعدلين، فاختلف العدلان بينهما عن قول أيهما يمضي الحكم قال (عليه السلام  ): (ينظر إلى قول أفقههما وأعلمهما بأحاديثنا وأورعهما فينفذ حكمه ولا يلتفت إلى الآخر)([203]) ونظيرها أيضاً خبر موسى بن أكيل ولعله هو القيسري عن  أبي عبد الله (عليه السلام  ) عن رجل بينه وبين آخر منازعة في حق فيتفقان على رجلين يكونان بينهما فحكما فاختلفا فيما حكما قال (عليه السلام  ): (وكيف يختلفان قلت: حكم كل منهما للذي اختاره الخصمان فقال (عليه السلام  ): ينظر إلى أعدلهما وأفقههما في دين الله فيمضي حكمه)([204]).

وإذا كانت المقبولة واردة في بيان حل الخصومة بالحكم بنحو نقل الرواية فيكون موردها هو الحكم بحل الخصومة وهو غير مورد أخبار التخيير لان أخبار التخيير موردها الخبرين المتعارضين نفسهما، لا ريب ان حل الخصومة لا يكون إلاّ بالترجيح ولا يمكن بالتخيير إذ كل من المتخاصمين يختار ما يوافق دعواه وعليه فالمقبولة لا ينبغي عدها من أخبار التراجيح. هذا مضافاً إلى أنها مختصة بحال الحضور أعني حال التمكن من الوصول للإمام (عليه السلام  ) لان آخرها بعد سؤال الراوي عن كوني  الخبرين المتعارضين موافقين للمخالفين قال (عليه السلام  ): (أرجه حتى تلقى إمامك فإن الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات) فإن أمر الإمام بأرجاء أمر التنازع إلى ملاقاة الإمام (عليه السلام  ) مع ان التنازع لابد من حله يقتضي ان يكون الإمام يمكن ملاقاته وحل الخصومة بالرجوع إليه. ودعوى ان هذه المذكورات ان كانت مرجحات في زمان الحضور فهي تدل بطريق أولى على أنها مرجحات في زمان الغيبة فاسدة، لما عرفت من ان حل الخصومة لا تكون إلاّ بذلك بخلاف معرفة الحكم الشرعي فإنه يمكن معرفته من أي حجة يجعلها الشارع ولو على سبيل التخيير. والحاصل إنها لا إشكال في أنها ناظرة لزمان الحضور ولو كانت عامة لزمان الغيبة أو عدم التمكن من رؤية الإمام لأمر الإمام (عليه السلام  ) بالاحتياط كما في المرفوعة، هذا مضافاً إلى ان الاستشهاد بحديث التثليث يقتضي دلالتها على استحباب الترجيح لكونه محمولاً عند العامة على الاستحباب فاستشهاده (عليه السلام  ) به يوجب استحباب الترجيح. وقد أجاب عن ذلك المحقق القمي بأن الاستشهاد للتبرك والاستئناس بكلام النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم) وبعضهم أجاب بأنه للإرشاد مضافاً  إلى أنها مخالفة لعمل الأصحاب فإن ظاهرها تقديم الترجيح السندي على الترجيح بالشهرة وهو خلاف سيره العلماء كذا قاله الفاضل الجواد، وقد ورد على ذلك بأنه لا نسلم ان سيرة العلماء على ذلك.

 

 

الفصل الثالث

طوائف الأخبار العلاجية التي تخصص أخبار التخيير

وأما باقي الأخبار العلاجية فالنظر فيما يقتضي ان يخصص به أخبار التخيير منها يستدعي نقلها وبيان أي طائفة منها تخصص أخبار التخيير بمؤداها وإليك بيان ذلك.

الطائفة الأولى

الترجيح بالشهرة

وهي ما دلت على الترجيح بالشهرة والذي عثرنا عليه منها بعد الفحص ثلاث روايات:

أولها: ما روي عن الوسائل في باب 9 من صفات القاضي، وعن الإحتجاج للطبرسي انه روي ( عليه السلام   ) أنهم قالوا: (إذا اختلفت أحاديثنا عليكم فخذوا بما اجتمعت عليه شيعتنا فإنه لا ريب فيه)([205]).

وثانيها: في المقبولة من قوله (عليه السلام  ) : (ينظر إلى ما كان من روايتهما عنا في ذلك الذي حكما به المجمع عليه من أصحابك فيؤخذ به من حكمنا ويترك الشاذ الذي ليس بمشهور عند أصحابك فإن المجمع عليه لا ريب فيه إنما الأمور ثلاثة أمر بيّن رشده فيتبع وأمر بيّن غيّه فيجتنب وأمر مشكل يرد علمه إلى الله وإلى رسوله).

وثالثها: ما في مرفوعة زرارة من قوله (عليه السلام  ): (خذ بما إشتهر بين أصحابك ودع الشاذ النادر). وقد استدل القوم بهذه الطائفة على الترجيح بالشهرة في الرواية. ولا يخفى عليك ما فيه لان  الرواية الأولى والثالثة ضعفهما ظاهر للإرسال. ودعوى ان إرسالهما منجبر بعمل الأصحاب مدفوعة بانا لا نسلم ذلك بل عمل الأصحاب على الأخذ بما وافق الكتاب أو السنة أو خالف العامة سلمنا ذلك لكن نحتمل ان عمل الأصحاب على طبقها مستند لغيرها من الأخبار.

وأما الرواية الثانية فهي وإن كانت معتبرة لرواية الكافي لها في باب اختلاف الحديث ولرواية التهذيب لها في باب الزيادات من القضايا والأحكام ولرواية الصدوق والطبرسي لها في باب إحتجاجات الصادق (عليه السلام  ) وابن أبي جمهور في عوالي اللئالي بأسانيد عديدة  فيها الموثق عن عمر بن حنظلة. وقد حكى عمل الأصحاب بها فإن ذلك يوجب اعتبارها وفي وسائل الشيعة الباب العاشر من أبواب مواقيت الصلاة انه روي يزيد بن الخليفة انه قال للإمام (عليه السلام  ): (جاء عمر بن حنظلة بوقت عنك، فأجاب (عليه السلام  ): إذن لا يكذب علينا).

إلاّ انه يشكل الاستدلال بها لما هو المهم في المقام من ان إثبات الترجيح في زمان الغيبة والرواية مختصة بزمان حضور الإمام (عليه السلام  ) والتمكن من الاستفسار منه حيث في آخرها كما تقدم (فأرجه حتى تلقى إمامك) فهي لا تشمل زمان الغيبة ولا تنفعنا فيه. ودعوى أنها كانت ثابتة في زمان الحضور فهي تثبت في زمان الغيبة بطريق أولى فاسدة، إذ من المحتمل هو سهولة الإطلاع على المرجحات المذكورة فيها في زمن  الحضور بخلافه في زمن الغيبة لبعد العهد بالأخبار وظروفها وأحوال رواتها.

وثانياً: إنها تدل على ترجيح الحكم المستند للرواية المشهورة على غيره في مقام التخاصم والنزاع لا على ترجيح الخبر على غيره في مقام الاستنباط ولذا أرجع الإمام (عليه السلام  ) فيها السائل بعد ما فرض التساوي في المرجحات إلى التوقف لا إلى التخيير.

وثالثاً : إنها غير معمول بها عند الأصحاب في موردها فان الحكمين إذا صدرا من حاكمين لا يرجع عند الأصحاب من كان مستنده الرواية المشهورة بل إنما يرجح الأسبق منهما لان حكم الحاكم نافذ حتى على المجتهد الآخر، ولا ينظر لما حكم الآخر لارتفاع الخصومة وزوال النزاع بحكم الأول ولو فرض وقوعهما دفعة واحدة يرجح أحدهما على الآخر بالصفات من الأعدلية والأوثقية والأفقهية ومع تساويها يتساقط الحكمان ويرجع لحاكم ثالث لا انه يرجع لمدرك الحكمين، فالمقبولة ذيلها ساقط من حيث إعراض الأصحاب عنه، هذا مضافاً إلى ان الرواية الأولى إنما تدل على الأخذ بالمجمع عليه وهو ظاهر في السنة المقطوعة فلا دلالة لها في الترجيح بالشهرة. وهكذا يمكن ان يقال في المقبولة فإن  المجمع عليه المذكور فيها ظاهر في الرواية التي اتفق الأصحاب على روايتها مع عملهم بها بقرينة وصف الإمام (عليه السلام  ) له بأنه (لا ريب فيه) وإلاّ لو فرض شهرتها وعدم عملهم بها كان فيها الريب وجعل الإمام (عليه السلام  ) له من البيّن رشده. وأما مقابلة الإمام (عليه السلام  ) له (بالشاذ) ووصف الإمام (عليه السلام  ) للشاذ: (بأنه الذي ليس بمشهور) فهو من قبيل الوصف بالأعم للتوضيح مثل وصف العنقاء بالطائر وسعدانة بنت فلا يقتضي ان يكون المشهور من الجمع عليه، وأما فرض السائل في الرواية ان  المتعارضين كليهما مشهوران فهو فرض لا يقتضي ان يكون المراد بالمجمع عليه هو المشهور لاحتمال ان السؤال عن فرض آخر هذا ويكفيان في إبطال الاستدلال بها باحتمال ذلك فلا يثبت لهذه الطائفة الترجيح بالشهرة في عصورنا هذه حتى لو سلمنا حجية الرواية الأولى والثانية. نعم يثبت بهما حجية السنة المقطوعة، وعليه فتكون مفادها هو الترجيح بالقطع بالصدور ولكن قد عرفت عدم حجية الأولى وعدم دلالة الثانية على ترجيح  الرواية وعدم شمولها لزمان الغيبة، هذا كله مضافاً إلى ان الشهرة الرواتية ليست بأيدينا هذا اليوم لان غاية ما في الباب ان تكون الرواية مروية في الكتب الأربعة وهذا لا يوجب شهرتها بين الأصحاب والأخرى شاذه لا سيما ويحتمل المشايخ الثلاثة أخذوها من أصل واحد. نعم قد يمكن حصول الشهرة الرواتية بأن يحكم أحد المشايخ الثلاثة بأنها مشهورة بين الأصحاب الأربعمائة لكن هذه الشهرة تكون شهرة منقولة كالإجماع المنقول وظاهر الروايات يأبى عن اعتبار الشهرة المنقولة وساكت عنه فإن ظاهرها الشهرة المحققة.

والحاصل ان الشهرة لا تصلح للمرجحية. نعم هناك موارد ذكروا ان الشهرة تصلح للمرجحية:

أولها: ما لو حصل القطع بأن مستند فتاوي المشهور هو ذلك الخبر الموافق لها فتكون الشهرة كاشفة عن وجود قرينة قامت على كون المراد بلفظ هذا الخبر هو المعنى الفلاني الموافق لفتاواهم وفي الحقيقة لا تكون الشهرة مرجحة بنفسها بل المرجح هو القرينة المنكشفة بها.

ثانيها: ما اشتهر بينهم ان معنى الخبر عبارة عن كذا الذي يعبر عنه بعضهم بفهم الأصحـــاب ســواء كــــان هنــاك معارض أم لا كما فهموا من قوله (عليه السلام  ): (لا سهو في سهو)([206]) انه لا اعتبار بالشك في موجب الشك كصلاة الاحتياط لا اعتبار بالشك فيها بين أعداد ركعاتها أو سجوداتها، وفي الحقيقة تكون الشهرة كاشفة عن قرينة على المراد استندوا إليها في فهم المعنى كالأول.

ثالثها: ما لو قامت الشهرة على  العمل بشيء من العمومات الموهونة بكثرة التخصيص كالقرعة وقاعدة الضرر وعموم وجوب الوفاء بالعقد مثلاً في شيء من موادها فيجوز في العمل على مقتضى الشهرة وذلك لان العمومات لما كانت مشروط العمل بها بالفحص عن المخصص حتى يرتفع العلم الإجمالي بوجود المانع عن العمل بها فإذا وجدت شهرة العمل بذلك العام في موردها قامت تلك الشهرة مقام الفحص في الكشف عن عدم المانع عن العمل بالعام فالشهرة كاشفة عن انتقاء القرينة على خلاف مقتضى الحقيقة للفظ فهي أيضاً كاشفة عن المرجح، وذكروا وجهاً آخر لشرط العمل بالعام في مورده إذا كثرت مخصصاته كأدلة القرعة بأن كثرة التخصيص توجب وهن العام في دلالته على أفراده فإذا عمل الأصحاب به في مورد من موارده قويت دلالته عليه، ثم ان المراد بالشهرة ان يكون الخبر مشهوراً في جميع الطبقات أو بعضها بأن يكون الراوي عن الإمام (عليه السلام  ) أو عن بعض الرواة متعدداً بالغاً حد الشهرة سواء علم بعملهم به أم لا، والمراد من الأصحاب أعم من رواة الحديث والعلماء الموجودين في الأعصار المتأخرة إلاّ ان الظاهر ان المراد كون الخبر مشهوراً رواية بنقل العلماء له في كتبهم الاستدلالية إذا كانوا عاملين به أو مؤولين لظاهره، أو كتب الأخبار لان المراد من المشهور الواضح المعروف وهو يصدق بنقل جل الأصحاب له وهو الذي ينبغي إرادته من قوله: (المجمع عليـــه) بقرينة قولــــه: (قلت: يا سيدي إذا كان الخبران معا مشهورين) أما مع عدم عملهم به ولا تأويلهم له أو مجرد عمل المشهور على طبقة من دون استناد إليه فلا يوجب كونه مشهوراً فالشهرة الفتوائية لا توجب ترجيحاً. ان قلت ان قوله (عليه السلام  ): (خذ بما اشتهر بين أصحابك) يدل على الترجيح بالشهرة الفتوائية حيث علق الحكم بالأخذ على وصف الاستشهاد المشعر بالعليّة فيستفاد منه كفاية مطلق الشهرة في الترجيح. قلت: يلزم الحذف في الكلام لانه يكون المعنى المشهور العمل به فيكون المحذوف هو العمل به مع ان الشهرة مسندة للخبر نفسه فيكون المراد الشهرة الروائية لئلا يلزم الحذف والأصل عدمه. ثم انه قد يقال ان الشهرة الفتوائية على خلاف الخبر موهنة له لقوله (عليه السلام  ): (دع الشاذ النادر). فإنه يقال لا قائل بذلك كما ذكره المرحوم السيد كاظم اليزدي ( رحمه الله ) فإن مجرد الشهرة على الخلاف لا توجب عدم الحجية فإنه يلزم منه إسقاط كل خبر كانت الشهرة الفتوائية على خلافه.

الطائفة الثانية

الترجيح بموافقة الكتاب والسنة

الترجيح بموافقة الكتاب أو السنة والذي  عثرنا عليه بعد الفحص:

أولها: ما في المقبولة من قوله (عليه السلام  ): (ينظر ما وافق حكمه حكم الكتاب والسنة وخالف العامة فيؤخذ به ويترك ما خالف حكمه حكم الكتاب والسنة ووافق العامة)([207]).

ثانيها: ماحكي عن الكليني ( رحمه الله ) في الكافي والصدوق في أماليه والبرقي في المحاسن عن السكوني عن أبي عبد الله (عليه السلام  ) قال: (قال: رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم) ان على كل حق حقيقة وعلى كل صواب نورا فما وافق كتاب الله فخذوه وما خالف كتاب الله فدعوه)([208]).

ثالثها: ما عن الكافي للكليني ( رحمه الله ) عن أيوب بن راشد عن أبي عبد الله (عليه السلام  ) قال: (ما لم يوافق من الحديث القرآن فهو زخرف)([209]).

رابعها: ما روي عن الصدوق في معاني الأخبار والطبرسي في الإحتجاج مرسلا عن الصادق (عليه السلام  ): (من ان رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم) قال: ما وجدتم في كتاب الله عز وجل فالعمل به لازم ولا عذر لكم في تركه وما لم يكن في كتاب الله عز وجل وكان في سنة مني فلا عذر لكم في ترك سنتي وما لم يكن في سنة مني فما  قال أصحابي فقولوا به فإنما مثل أصحابي فيكم كمثل النجوم بأيهما أخذ أهتدي وبأي أقاويل أصحابي أخذتم اهتديتم واختلاف أصحابي لكم رحمة قيل يا رسول الله من أصحابك قال أهل بيتي)([210]). وهذه الرواية لا دلالة فيها على عدم الأخذ بالمخالف للكتاب والسنة وإنما دلت على وجوب العمل بالكتاب والسنة وأقوال أهل البيت إلاّ ان يفهم منها من جهة الحصر بأن المخالف لجميع المذكورات لا يعمل به.

خامسها: ما عن الكافي والمحاسن عن هشام ابن الحكم وغيره عن أبي عبد الله (عليه السلام  ) قال: (خطب النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم) بمنى فقال: أيها الناس ما جاءكم يوافق كتاب الله فأنا قلته وما جاءكم يخالف كتاب الله فلم أقله)([211]).

سادسها: ما روي عن الصدوق عن كتابه عيون الأخبار في حديث طويل من قوله (عليه السلام  ): (فما ورد عليكم من خبرين مختلفين فاعرضوهما على كتاب الله فما كان في كتاب الله موجوداً حلالاً أو حراماً فاتبعوا ما وافق الكتاب وما لم يكن في  الكتاب فاعرضوه على سنن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم) فما كان في السنة موجوداً منهياً عنه نهي حرام ومأموراً به عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم) أمر إلزام فاتبعوا ما وافق نهي رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم) وأمره)([212]).

سابعها: ما عن الوسائل للحر العاملي في الباب التاسع في صفات القاضي وعن صاحب الفوائد المدينة عن سعد بن هبة الله الراوندي في رسالته التي ألفها في أحوال أحاديث أصحابنا وإثبات صحتها بسنده عن عبدالرحمن عن الصادق (عليه السلام  ) من قوله (عليه السلام  ): (إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فاعرضوهما على كتاب الله فما وافق كتاب الله فخذوه وما خالف كتاب الله فردوه)([213]).

ثامنها: ما عن جميل بن الدراج عن أبي عبد الله من قوله (عليه السلام  ): (ما وافق كتاب الله فخذوه وما خالف كتاب الله فدعوه)([214]).

تاسعها: ما عن الحسن بن الجهم عن الرضا (عليه السلام  ) من قوله (عليه السلام  ) في الأحاديث المختلفة عنهم ( عليه السلام   ): (ما جاءك عنا فقسه على كتاب الله عز وجل وأحاديثنا فإن كان يشبهها فهو منا وإن لم يكن يشبهها فليس منا)([215]).

عاشرها: ما عن العياشي  في تفسيره عن سدير قال أبو جعفر (عليه السلام  ) وأبو عبد الله (عليه السلام  ): (لا تصدق علينا إلاّ ما وافق كتاب الله وسنة نبيه)([216]). والاستدلال به من جهة عمومه.

الحادي  عشر: ما عن الحسن بن الجهم عن العبد الصالح (إذا جاءك الحديثان المختلفان فقسهما على كتاب الله وأحاديثنا فإن أشبهها فهو حق وإن لم يشبهها فهو باطل)([217]).

الثاني عشر: ما روي عن الإحتجاج عن أبي جعفر (عليه السلام  ) في مناظراته مع يحيى بن أكتم في حديث قال فيه: (قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم) في حجة الوداع: قد كثرت علي الكذابّة وستكثر فمن كذب عليّ متعمداً فليتبوء مقعده من النار فإذ أتاكم الحديث فاعرضوه على كتاب الله وسنتي فما وافق كتاب الله وسنتي فخذوا به وما خالف كتاب الله وسنتي فلا تأخذوا به)([218]).

الثالث عشر: ما روي عن قرب الإسناد عن أبي علوان عن جعفر عن أبيه (عليه السلام  ) قال: (قرأت في كتاب لعلي (عليه السلام  ) ان رسول الله قال انه سيكذب عليّ كما كذب على من كـــان قبلي فما جاء عني من حديث وافق كتاب الله فهو حديثي وما خالف كتاب الله فليس من حديثي)([219]).

الرابع عشر: ما روي عن العياشي عن هشام بن الحكم عن أبي عبد الله (عليه السلام  ): (قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم) في خطبته بمنى أو مكة: يا أيها الناس ما جاءكم عني يوافق القرآن فأنا قلته وما جاءكم عني لا يوافق القرآن فلم أقله)([220]). وروي في المحاسن بسنده عن الهشامين جميعاً وغيرهما قال: (خطب النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم): يا أيها الناس). الحديث نفسه.

الخامس عشر: ما روي عن البحار عن الكشي بإسناده عن يونس بن عبدالرحمن عن بعض أصحابنا سأله وأنا حاضر فقال له: (يا أبا محمد ما أشدك في الحديث وأكثر إنكارك لما يرويه أصحابنا فما الذي يحملك على رد الأحاديث فقال حدثني هشام بن الحكم انه سمع أبا عبد الله (عليه السلام  ) يقول: لا تقبلوا علينا حديثاً إلاّ ما وافق القرآن والسنة أو تجدون معه شاهداً من أحاديثنا المتقدمة فإن المغيرة بن سعيد لعنه الله دس في كتب أصحاب أبي أحاديث لم يحدث بها أبي فاتقوا الله)([221]).

السادس عشر: ما روي عن محمد بن مسلم قال قال أبو عبد الله (عليه السلام  ): (يا محمد ما جاءك من رواية من بر أو فاجر يوافق القرآن فخذ به وما جاءك في رواية من بر أو فاجر يخالف القرآن فلا تأخذ به).

السابع عشر: ما في المحاسن في باب الاحتياط في الدين والأخذ بالسنة ما رواه بسنده عن أيوب بن الحر قال: (سمعت أبا عبد الله يقول كل شيء مردود إلى كتاب الله والسنة وكل حديث لا يوافق كتاب الله فهو زخرف)([222]).

الثامن عشر: ما في المحاسن في باب الاحتياط في الدين والأخذ بالسنة ما رواه بسنده عن كليب بن معاوية الأسدي عن أبي عبد الله (عليه السلام  ) قال: (ما أتاكم عنا من حديث لا يصدقه كتاب الله فهو باطل)([223]).

التاسع عشر: ما في المحاسن بسنده عن علي عن أيوب عن أبي عبد الله (عليه السلام  ) عن رسول الله: (إذا حُدِّثتم عني بالحديث فانحلوني أهنئه وأسهله وأرشده فإن وافق كتاب الله فأنا قلته وإن لم يوافق كتاب الله فلم أقله)([224]).

العشرون: ما رواه في الإحتجاج من قول الحسن العسكري (عليه السلام  ) في رسالته للأهواز: (أصح خبر ما عرف تحقيقه من الكتاب مثل الخبر المجمع عليه من رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم) حيث قال: إني مستخلف فيكم خليفتين كتاب الله وعترتي أهل بيتي)([225]).

الحادي والعشرون: ما عن المستدرك عن محمد بن مسعود العياشي في تفسيره عن السكوني عن جعفر عن أبيه عن علي (عليه السلام  ) انه قال في حديث: (فما وافق كتاب الله فخذوا به وما خالف كتاب الله فدعوه)([226]). وهذه الطائفة لا حاجة للبحث عن سندها فإنها من الأخبار المتواترة على موضوع واحد وهو عدم الأخذ بما خالف الكتاب والسنة النبوية وهي على قسمين:

 القسم الأول: ما دل على ان المخالف للكتاب والسنة ليس بحجة ولم يقله الإمام وليس من حديثه وإن لم يكن له معارضاً فتكون دالة على أنه من شرائط حجية الخبر عدم المخالفة للكتاب والسنة، ولا ريب ان المراد بالمخالف هو الذي لا يكون بينه وبين الكتاب جمع عرفي كما لو كان بينهما (تباين أو عموم من وجه فإنه لا يؤخذ بالأول أصلاً ولا يؤخذ بالثاني في مورد الاجتماع لانه مخالف للكتاب فيه سواء كان في أصول العقائد أو في الفروع، وأما لو كان بينه وبين الكتاب جمع عرفي كما لو كان الصادر منهم مفسراً للكتاب أو السنة بلفظ أي أو ما في معناها أو حاكماً عليهما أو وارداً عليهما أو مخصصاً لهما أو مقيداً لهما أو نحو ذلك مما كان العرف يجمع بينهما فهو ليس بمخالف ويشهد لذلك التبادر العرفي من لفظ المخالفة وما ورد عنهم (عليه السلام  ) من التفاسير والتفاصيل والتخصيص والتقيد للآيات الكريمة والأحاديث النبوية.

و القسم الثاني: ما دل على ان الأخذ بما وافق الكتاب والسنة عند تعارضه مع الخبر الآخر حتى مع وجود الجمع العرفي بين ذلك الآخر وبين الكتاب لو خلا عن المعارض كما لو ورد عام في الكتاب وجاء خبران كل منهما أخص من ذلك العام بينهما تباين فإنه يؤخذ بالموافق للعام ويرجح على الآخر المخالف له فيسقط عن الحجية في سائر موارده  لو كان بينهما تباين ويؤخذ بالموافق للعام في مورد الاجتماع ويرجح على الآخر لو كان بينهما عموم من وجه كما هو صريح المقبولة لو قلنا بشمولها للمتعارضين والخبر السادس والسابع والحادي عشر وكما هو ظاهر البقية، فترجيح الموافق على المخالف له ليس من جهة ما دل منها على طرح المخالف بل من جهة ما دل منها على ثبوت الحجية الفعلية للموافق ووجوب الأخذ به فإن المخالف له قد يكون يحصل الجمع العرفي بينه وبين الكتاب والسنة وإنما طرحناه لوجوب الأخذ بالموافق المعارض له، والمراد بالسنة هي السنة النبوية المعتبرة كما هو الظاهر من السنة وكما قيد بها الخبر الرابع والسادس والعاشر والثاني عشر، وأما ما في بعضها من قوله (عليه السلام  ): (أحاديثنا) فيمكن ان يراد به أحاديث الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم) لأنها هي أحاديثهم فيكون المراد بها سنة الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم) ولذا عطفت على الكتاب ولم تذكر معها السنة. نعم الرواية الخامسة عشر المراد بها أحاديث الأئمة ( عليه السلام   ) إلاّ أنها مرسلة ضعيفة على ان التعبير فيها (بتشبه) ولم يعلم ما المراد بالشبه ولم يعبر بالموافقة. والحاصل ان الطائفة المذكورة دلت على أمرين: أحدهما دلالتها على وجوب الأخذ بالخبر الموافق. وعليه تكون الموافقة من المرجحات ويخصص بها أخبار التخيير. وثانيهما دلالتها على طرح المخالف فتطرح بها الخبر المخالف للكتاب أو السنة الثابتة وإن لم يكن لذلك الخبر معارض.

الإيراد على الترجيح بالكتاب والسنة

لا يخفى عليك ان بعض الفقهاء أشكل على جعل الكتاب والسنة من المرجحات بقوله (إن الكتاب ليس من المرجحات بل هو المرجح والدليل بنفسه عند التعارض ولابد في المرجح ان لا يصل إلى درجة الحجية وإلاّ لصح ان يقال ان الإجماع من المرجحات وفساده واضح.

وأما السنة فإن كان المراد بها السنة القطعية كما يظهر من التأمل في هذه الأخبار فهي ليست بأيدينا اليوم فقد قيل انه ليس في المتواتر عن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم) إلاّ قوله (الأعمال بالنيات)([227]) فلا وجه لعرض الأخبار المتعارضة على حديث واحد، وإن أريد منها الظواهر من الأحاديث كالعمومات والمطلقات فإن أريد منها ما روته العامة فالأمر بالرجوع إليها ينافي ما ورد من الترجيح بمخالفة العامة، وإن أريد بها ما روته الخاصة فتكون هي حجة لا مرجحاً فهي مثل الكتاب تكون دليلاً لا مرجحاً. وفيه ان الكتاب والسنة المعتبرة يتصور الترجيح بهما كما لو كان عموم كتابي وجاء مخصصان متنافيان وكان أحدهما موافقاً للكتاب والآخر مخالفاً له أخذ الموافق وطرح المخالف، وهكذا الكلام في السنة وسيجيء ان شاء الله ما ينفعك في المقام في مبحث ما إذا كان أحد المخصصين موافقاً للكتاب والآخر مخالفاً له ولكنه مخالف للجمهور فانتظر.

الطائفة الثالثة

الترجيح بمخالفة العامة

الترجيح بمخالفة العامة والذي عثرنا عليه بعد الفحص.

أولها: ما في المقبولة من قوله (عليه السلام  ): (ما خالف العامة ففيه الرشاد. قال  الراوي: جعلت فداك فإن وافقاها الخبران جميعاً قال ينظر إلى ما هم إليه أميل حكامهم وقضاتهم فيترك ويؤخذ بالآخر)([228]).

ثانيها: ما في المرفوعة من وقوله (عليه السلام  ): (أنظر ما وافق منهما مذهب إخواننا علماء العامة فاتركه وخذ بما خالفهم)([229]).

ثالثها: ما عن الوسائل للحرالعاملي وصاحب الفوائد المدنية عن أسعد بن هبةالله الراوندي في رسالته التي ألفها في أحوال أحاديث أصحابنا وإثبات صحتها بسنده الذي وصف بالصحة عن الصادق (عليه السلام  ) من قوله (عليه السلام  ) في الحديثين المختلفين: (فإن لم تجدوهما في كتاب الله فاعرضوهما على أخبار العامة فما وافق أخبارهم فذروه وما خالف أخبارهم فخذوه)([230]).

رابعها: ما عن الوسائل في الباب التاسع من أبواب صفات القاضي عن رسالة الراوندي المذكورة بسنده أيضاً عن الحسين بن السري قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام  ): (إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فخذوا بما خالف إخواننا علماء السنة)([231]).

خامسها: ما حكي عن الوسائل في الباب التاسع من أبواب صفات القاضي عن رسالة الراوندي المذكورة بسنده أيضاً عن الحسن بن الجهم قال: قلت للعبد الصالح يروى عن أبي عبد الله (عليه السلام  ) شيء ويروي عنه خلافه فبأيهما نأخذ؟  فقال (عليه السلام  ): (خذ بما خالف القوم وما وافق القوم فاجتنبه)([232]).

سادسها: ما عن الوسائل عن رسالة الراوندي المذكورة بسنده أيضاً عن محمد بن عبد الله عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام  ) من قوله: (إذا ورد عليكم خبران مختلفان فانظروا إلى ما يخالف منهما العامة فخذوه وانظروا إلى ما يوافق أخبارهم فدعوه)([233]).

سابعها: ما عن الإحتجاج بسنده عن سماعة بن مهران قال قلت لأبي عبد الله (عليه السلام  ): (يرد علينا حديثان واحد يأمرنا بالأخذ به والآخر ينهانا عنه قال (عليه السلام  ): لا تعمل بواحد منهما حتى تلقى صاحبك فتسأله، قلت: لابد ان نعمل بواحد منهما قال (عليه السلام  ): خذ بما فيه خلاف العامة)([234]).

ثامنها: ما دلت بعمومها على ذلك منها:

1-   ما حكي عن الشيخ الطوسي في باب الخلع عن عبيد بن زرارة عن الصادق (عليه السلام  ) قال (عليه السلام  ): (ما سمعت مني يشبه قول الناس ففيه التقية وما سمعت مني لا يشبه قول الناس فلا تقية فيه)([235]).

2-   ومنها رواية علي بن أسباط قال قلت للرضا (عليه السلام  ): (يحدث الأمر لا أجد بداً من معرفته وليس في البلد الذي أنا فيه أحداً استفتيه من مواليك قال فقال (عليه السلام  ): أنت فقيه البلد فاستفته من أمرك فإذا أفتاك بشيء من أمرك فخذ بخلافه فإن الحق فيه)([236]). ولا يخفى ان هذا الخبر غير معمول به عند الأصحاب.

3-   ومنها ما في رواية الأرجائي من قول أبي عبد الله (عليه السلام  ): (أتدري لم أمرتم بالأخذ بخلاف ما تقول العامة)([237]) ومثلها غيرها.

ولا يخفى ان هذه الطائفة تكون من الأخبار المتواترة على موضوع واحد وهو الأخذ بمخالفة العامة من الخبرين المتعارضين فإنه هو القدر المتيقن به منها وقد عمل بها الأصحاب في مقام الترجيح بين المتعارضين. نعم حكي عن المعالم([238]) ما يظهر منه نسبة عدم عمل المحقق بذلك.

وعليه فتكون من المرجحات ويخصص بها أخبار التخير، وأما في صورة عدم المعارض فيؤخذ بالخبر الموافق لهم بالإجماع، كيف ونحن مشاركون للجمهور في كثير من الأحكام.

بقي الكلام في المراد من المخالفة فالظاهر هي المخالفة لفتوى العامة في المسألة في زمان الإمام وفي محيطه والوسط الذي يعيش فيه هو (عليه السلام  ) أو السامع العامل بخبر الإمام (عليه السلام  ) التي يخاف الإمام (عليه السلام  ) على نفسه أو السامع من مخالفتها أو من مخالفة فتاويهم في المسألة كما لو كان في المسألة فتوى لمن تقدم منهم وفتوى أخرى لمن تأخر عنه وفتوى ثالثة لمن كان في زمانه فتكون فتواه بغير ذلك مخالفة لفتوى العامة. والحاصل ان الميزان هي المخالفة التي يخاف الإمام منها على نفسه أو على متابعيه فإنها هي الموجبة للتقية في الأخبار عن حكم الله الواقعي ويكون الخبر الآخر المعارض له بياناً له وإنما قيدنا المخالفة بذلك لان العقل حاكم بأن الأخبار بخلاف الواقع الذي تقتضيه التقية إنما هو بدافع الخوف على النفس فلو قدر انه لا خوف على نفس الإمام (عليه السلام  ) ولا على المستمع العامل بكلامه (عليه السلام  ) لم يكن هناك وجه لتقية الإمام (عليه السلام  ) حتى يبين خلاف الواقع فإن العقل يستقل بقبح ستر الحق والإغراء بالباطل إلاّ من أجل عروض ما هو الأهم وهو حفظ النفس من الأذى والظلم، مضافاً إلى ان أصالة عدم التقية غير جارٍ في الخبر الموافق لهم مع ثبوت ما هو مخالف له منه (عليه السلام  ) في هذا الظرف عند العقلاء كما ان أصالة عدم كونه هازلاً لا يجري إذا كان المقام مقام هزل وثبت ما  هو مخالف له منه، أو أصالة عدم كونه ممتحناً إذا كان المقام مقام امتحان وثبت ما هو مخالفاً له (عليه السلام  ) لان المقام حينئذ يكون قرينة حالية عند العقلاء على ذلك فلا تجري أصالة عدمه. وبعبارة أوضح ان الخبرين المتعارضين الموافق أحدهما للجمهور لا تجري أصالة عدم التقية فيه وإن احتمل ان الحكم فيه مطابق للواقع لاحتمال مطابقة قولهم للواقع للظن النوعي بأنه صدر تقية، ولا ريب ان العقلاء لا يجرون هذا الأصل في كلام المتكلم ولا يحكمون بأن كلامه كاشف عن معتقده مع ثبوت ما هو مخالف منه، وأما المخالف للجمهور فأصالة عدم التقية تجرى منه وإن احتمل انه صدر على خلاف الواقع تقية من شخص خاص إلاّ انه لما كان احتمالاً ضعيفاً فالعقلاء لا يعتنون به ويجرون أصالة عدم التقية كما يجرون أصالة عدم الهزل أو عدم الامتحان أو نحو ذلك. وعليه فليس لأحد ان يحمل خبراً على التقية بمجرد انه موافق للشافعي مثلاً وإن لم يعلم حال هذا المذهب في زمان صدور ذلك الخبر، وإنما يصح الحمل على التقية لو وافق الخبر جميعهم أو أكثرهم أو علم ان مضمونه كان هو المعمول به في زمان ذلك الإمام الذي أسند إليه الخبر أو قامت قرائن انه خارج مخرج التقية، وعن مفتاح الكرامة([239]) فيما لو قصد بالسبك الفرار من الزكاة حمل أخبار الوجوب على التقية لمطابقتها لمذهب مالك([240]) لانه هو المشتهر لا مذهب أبي حنيفة([241])، ومن هنا يظهر انه لو كان أحد الرواة في سلسلة الخبر المعارض بغيره أو المجتهد الذي أفتى بفتوى كانت مخالفة لفتواه أو فتوى غيره الواضحة المستند وكان ظرفه أو محيطه يقتضي ذلك حمل كلامه على التقية ولا يكون عندهم كاشف عن معتقده. كما انه يظهر لك لو تعارض خبران وكلاهما موافق لفتوى العامة سقط هذا المرجح إلاّ ان يكون أحدهما يخاف من مخالفتها دون الثانية أخذ بالخبر الموافق للثانية لأصالة عدم التقية فيها وبمراجعتك كتابنا أدوار علم الفقه يمكن الإطلاع على عصر كل إمام والمخالفين له في عصره.

مخالفة صاحب الحدائق

وقد خالف صاحب الحدائق الأصحاب في مقدمة كتاب الحدائق في ذلك فإن أصحابنا حصروا الحمل على التقية بوجود قائل من العامة، ولكن صاحب الحدائق ذهب إلى عدم لزوم ذلك مستدلاً عليه بما يقارب سبعة من الأخبار قد دلت على ان الإمام (عليه السلام  )  هو الذي خالف بين أصحابه في معرفة الحكم للمسألة من جهة أنهم لو اجتمعوا على أمر واحد لأخذوا برقابهم.

ولا يخفى عليك ما فيه إذ لعل الإمام (عليه السلام  ) إنما أوقع الاختلاف لان المسألة عند العامة في عصره (عليه السلام  ) قد وقع فيها ذلك الاختلاف فإن الأخبار المذكورة ليست دالة على ان أجوبة الإمام (عليه السلام  ) المختلفة كانت مخالفة للجمهور، فإن مذاهب العامة متشعبة ومختلفة فلعل جواب الإمام (عليه السلام  ) لأولئك السائلين ما هو الأنسب بحال السائل من تلك المذاهب كيف ولو كان الأئمة ( عليه السلام   ) هذا مسلكهم كما تقتضيه هذه الأخبار لكان على الأئمة ( عليه السلام   ) ان يسلكوا بشيعتهم هذه المسالك في جميع الأحكام مع ان للشيعة أحكاماً متفقون عليها يعرفون بها، مضافاً إلى ان  ما ذكره خلاف اللطف لانه يوجب رفع الوثوق بكلامهم ( عليه السلام   ) لا سيما إذا كان الغالب عليهم ( عليه السلام   ) صدور الأخبار منهم على وجه التقية والكذب مع المصلحة، ولا يقال ذلك في صورة التعارض حيث ان العقل حاكم انه لا مناص من الأخذ بأحدهما كما في إنقاذ أحد الغريقين فلابد من أخذ مالا يحتمل فيه التقية مع ان الغالب يندفع الخوف بإظهار الموافقة لا بإظهار الاختلاف بين الشيعة وإن لم يكونوا متفقين على خلافهم لوضوح عدم التفاوت بعد مخالفة جميعهم للجمهور بين اتحاد الحكم بينهم واختلافه، هذا وإن العمدة في اختلاف الأخبار وتنافيهما ليس هو التقية بل إنما هي كثرة إرادة خلاف الظاهر من وجوه:

منها: اختفاء القرائن الحالية المعلومة للمخاطبين والمقالية المتصلة معها علينا بسبب التقطيع والنقل بالمعنى ونحو ذلك أو اختفيت علينا بالانطماس.

منها: ان يكون لمصلحة يراها الإمام (عليه السلام  ) في بيان الأحكام على التدريج، ويؤيد ذلك ما ذكر انه مستفيضاً من عدم جواز رد الخبر وإن كان مما ينكر ظاهره حتى إذا قال للنهار انه ليل ولليل انه نهار معللا ذلك بأنه يمكن ان يكون له محمل لم يتفطن السامع له فينكره فيكفر من حيث لا يشعر فلو كانت عمدة التنافي بين الأخبار هي جهة التقية لم يكن في إنكار كونها من الإمام مفسدة فضلاً عن كفر الراد.

ثم لا يخفى عليك ان مقتضى هذه الطائفة ان المتعارضين إذا كان أحدهما موافقاً للكتاب والآخر مخالفاً للجمهور يقدم الموافق للكتاب كما هو مقتضى الخبر الثالث من هذه الطائفة الموصوف سنده بالصحة وإذا لم يسلم صحته فمقتضى القاعدة هو التخيير بينهما لعدم ما يدل على أرجحية أحدهما على الآخر لوجود المرجح في كل منهما.

ويظهر من صاحب الحدائق تقديم مخالف العامة على الموافق لظاهر الكتاب والسنة وقد مثل لذلك بما ورد في مسألة الرضاع من الأخبار فإنها صنفان أحدهما مادل على اعتبار الفحل في نشر الحرمة، وثانيهما ما دل على عدم الاعتبار والأول مخالف للجمهور والثاني موافق لظاهر الكتاب وهو قوله تعالى: [وأمَّهَاتُكُمْ التي أَرْضَعَنَكُمْ] ([242]) وقوله (عليه السلام  ): (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب)([243]) فإن ظاهرهما وإطلاقهما يدل على عدم الاعتبار باتحاد الفحل في نشر الحرمة فالصنف الثاني موافق بظاهر الكتاب والسنة. وقد تعجب ملا محسن من ترجيح أكثر القوم للصنف الأول مع ان الأول مخالف لظاهر الكتاب والسنة، وقال صاحب الحدائق ان السر في ذلك ان الصنف الأول مخالف للجمهور وفي دوران الأمر بين تقديم مخالفة العامة وبين تقديم مخالفة الكتاب والسنة يقدم مخالفة العامة، قال المرحوم ملا جواد: (يلزم تقديم مخالفة العامة لان بعد ان حققنا جواز تخصيص الكتاب بالخبر الواحد لا مانع من العمل بالخبر المخالف للجمهور وتخصيص ظاهر الكتاب والسنة به).

والحاصل ان الخبر المخالف للقول الثابت عندهم زمان صدوره أو للمشهور بينهم أو خالف قول أعرفهم أو من كان في البلد المروي عنه أو في بلد الراوي يقدم على ما وافق ذلك ويعلم ذلك بملاحظة كتب تواريخهم وكتب النقلة عنهم فإنهم مختلفون في المسائل جداً وعلى هذا فلابد من ملاحظة أخبارهم المروية في كتبهم ولا يحمل على التقية بمجرد الموافقة لبعضهم على أي نحو يكون.

الطائفة الرابعة

الترجيح بالأحدثية

الترجيح بالأحدثية أعني بالتأخر في الوجود والذي عثرنا عليه بعد الفحص.

أولها: ما حكي عن الكافي عن محمد بن مسلم في الموثق عن أبي عبد الله (عليه السلام  ) قال قلت له: (ما بال أقوام يروون عن فلان وفلان عن رسول الله لا يتهمون بالكذب فيجيء منكم خلافه قال (عليه السلام  ): ان الحديث ينسخ كما ينسخ القرآن)([244]). فإن حكم الإمام (عليه السلام  ) بالنسخ يقتضى الأخذ بالمتأخر وجوداً. ولا يخفى انه لا يدل على الترجيح بالتأخر وجوداً وإنما هو بيان لتصحيح وتوجيه ما خالف من أخبارهم السنة، كما انه لابد ان يكون المراد بها الأخبار المقطوعة الصدور منهم ( عليه السلام   ) وإلاّ فأخبار العرض تقتضي عدم ثبوتها لا نسخ السنة بها.

ثانيها: ما في الحسن عن منصور بن حازم عن أبي عبد الله من قوله (عليه السلام  ): (إن الرجل كان يأتي رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم) فيسأله المسألة فيجيبه فيها بالجواب ثم يجيبه بعد ذلك بما ينسخ ذلك الجواب فنسخت الأحاديث بعضها بعضا)([245]). ولا ريب أنها ظاهرة في الأخبار المقطوعة الصدور عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم) وبيان وجه الاختلاف فيها.

ثالثها: ما عن الكافي بسنده عن الحسين بن المختار عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله (عليه السلام  ) قال (عليه السلام  ): (أرأيت لو حدثتك بحديث العام ثم  جئتني من قبل فحدثتك بخلافه بأيهما كنت تأخذ؟  قال: كنت آخذ بالأخير، فقال لي: رحمك الله)([246]). ولا ريب أنها في الأخبار المقطوعة الصدور مضافاً إلى أنها مرسلة.

رابعها: ما عن الكافي بسنده عن المعلى بن خنيس قال:(قلت لأبي عبد الله (عليه السلام  ): إذا جاء حديث عن أولكم وحديث عن آخركم بأيهما نأخذ؟  فقال: خذوا به حتى يبلغكم عن الحي فان بلغكم عن الحي فخذوا بقوله، قال:ثم قال أبو عبد الله (عليه السلام  ): لا ندخلكم إلاّ فيما يسعكم)([247]) قال الكليني ( رحمه الله ) وفي حديث آخر: (خذوا بالأحدث).

خامسها: ما عن الكليني بسنده عن أبي عمر الكناني قال: (قال لي أبو عبد الله: يا أبا عمرو أرأيت لو حدثتك بحديث أو أفتيتك بفتيا ثم جئتني بعد ذلك فسألتني عنه فأخبرتك بخلاف ما كنت أخبرتك أو أفتيتك بخلاف ذلك بأيهما كنت تأخذ؟  قلت: بأحدثهما وأدع الآخر فقال:قد أصبت يا أبا عمر أبى الله إلاّ ان يعبد سرا، أما والله لئن فعلتم ذلك انه لخير لي ولكم وأبى الله لنا في دينه إلا التقية). وقد حكي عن الوسائل([248]) روايتها بسند مصحح عن البرقي في المحاسن عن أبيه عن محمد ابن أبي عمير عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله (عليه السلام  )بإسقاط أبي عمر الكناني. وأورد عليه بأنه كيف يسقطه مع توجه الخطاب إليه في الرواية مرتين، ولا يخفى ما فيه إذ من الممكن ان يكون هشام حاضراً مجلس السؤال والجواب فنقله بخصوصياته ولا يخفى ان هذه الرواية واردة في الخبر المقطوع الصدور.

سادسها: المرسل المحكي عن الكافي قال وفي حديث آخر: (خذوا بالأحدث)([249]).

فهذه الطائفة من الأخبار بأجمعها واردة في الأخبار المختلفة المقطوعة الصدور ما عدى رواية المعلى بن خنيس ومرسلة الكليني، أما رواية المعلى بن خنيس هي مرسلة وظاهرة في زمان الحضور على ان الضمير في (خذوا به) يمكن عوده لنفس الحديث أي أأخذوا الحديث ولا تطرحه بأن لا تأخذ بواحد منها. وعليه فالرواية تدل على التخيير ويناسب هذا المعنى ذيل الرواية وهو إدخالنا فيما يسعنا فإنه يناسب التخيير وإلاّ فالأخذ بخصوص الأحدث قد يكون فيه ضيق كما لو كان على خلاف التقية بخلاف التخيير فإنه يسعه الأخذ بالموافق للتقية، ويؤيده قول الكليني بعدها، وفي رواية أخرى (خذوا بالأحدث) فإن الضمير به لو كان عائداً للحديث عن آخرهم لما كانت هذه الرواية رواية أخرى بل عينها لدى التحقيق، وأما رواية الكليني وهي مرسلة ولعلها رواية أبي عمر الكناني وليست برواية في قبال الروايات. فلم يثبت الترجيح بالأحدثية عند التعارض ولهذا من قال بوجوب الترجيح بالمزايا المنصوصة لم يعد الأحدثية  في الرواية من المرجحات ولم يعد يعمل بهذه الطائفة أحد من الأصحاب إلاّ ما يتراءى من الفاضل النراقي في مستنده ومناهجه من ترجيح الخبر الأحدث على غيره في مواضع من كتابه سواء كانا نبويين أو مرويين عن الأئمة ( عليه السلام   )، ويظهر أيضاً من الصدوق ( رحمه الله ) في كتابه من لا يحضره الفقيه في باب الرجلين يوصى إليهما فينفرد كل واحد منهما بنصف التركة حيث صرح بأنه يجب الأخذ بأحدث الخبرين.

الطائفة الخامسة

الترجيح بالأسهل الأيسر

ما تدل على الأخذ بالأسهل والأيسر والذي ظفرت به منها ما روي عن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم): (إذا حُدِثتم عني بحديث فأنحلوني أهنأه وأسهله)([250]) فإنه دال على انه إذا تعارض الخبران وكان أحدهما اسهل من حيث العمل فانسبوا الأسهل والأيسر إلي فيعمل به ويطرح غيره. والظاهر ضعفه لإرساله ولم يعمل به أحد من الأصحاب.

الطائفة السادسة

الترجيح بالصفات

الترجيح بالصفات والذي وجدته منها:

أولها: ما في المقبولة من قوله (عليه السلام  ): (الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما ولا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر)([251]).

ثانيها: ما في المرفوعة من قوله (عليه السلام  ): (خذ بقول أعدلهما عندك وأوثقهما في  نفسك).

ثالثها: ما روي عن الصدوق في الفقيه والشيخ الطوسي عن داود بن الحصين عن أبي عبد الله (عليه السلام  ): (في رجلين اتفقا على عدلين جعلاهما بينهما في حكم وقع بينهما فيه خلاف فرضيا بالعدلين فاختلف العدلان بينهما عن قول أيهما يمضي الحكم قال ينظر إلى أفقههما وأعلمهما بأحاديثنا وأورعهما فينفذ حكمه ولا يلتفت إلى الآخر)([252]).

رابعها: ما روي عن موسى بن اكيل عن أبي عبد الله (عليه السلام  ) قال: (سُئِل عن رجل يكون بينه وبين أخ منازعة في حق فيتفقان على رجلين يكونان بينهما فحكما فاختلفا فيما حكما قال  (عليه السلام  ): ينظر إلى أعدلهما وأفقههما في دين الله فيمضي حكمه)([253]).

ولا يخفى عليك ان هذه الروايات ما عدى المرفوعة ظاهرة في الترجيح عند الخصومة وقطع مادة النزاع في الترجيح في الاستنباط للحكم الشرعي كما أنها لا تدل على الترجيح بالصفات للرواة وإنما تدل على ترجيح أحد القاضيين على الآخر من دون نظر للرواية حيث نسب الأعدلية والأفقهية للقاضي لا لرواة الرواية بل مقتضى ذلك هو ترجيح ما يكون أعدل أو أفقه أو أصدق أو أورع ولو كان رواة روايته أضعف من رواة رواية الآخر.

وأما المرفوعة وهي مرسلة غير معروفة حتى قيل إنها غير موجودة في كتب العلامة الحلي فلا يثبت بها الترجيح بهذه الصفات. ودعوى أنها عمل الأصحاب على طبق هذه الفقرة منها فاسدة، فإن الفقهاء إنما يرجحون عند التعارض بموافقة الكتاب أو السنة أو مخالفة العامة في كتبهم ولا يراعون الأرجحية بتلك الصفات.

الطائفة السابعة

أخبار التوقف

أخبار التوقف والذي عثرنا عليه بعد الفحص:

أولها: ما في المقبولة بعد ان فرض الراوي تساوي الخبرين المتعارضين في جميع المرجحات من قوله (عليه السلام  ): (إذا كان ذلك فأرجه حتى تلقى إمامك  فإن الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في المهلكات)([254]).

ثانيها: ما في ذيل المرفوعة فإنه قال صاحب العوالي بعد نقله للمرفوعة وفي رواية انه قال (عليه السلام  ): (إذن فأرجئه حتى تلقى إمامك).

ثالثها: ما في موثقة سماعة عن أبي عبد الله (عليه السلام  ): (عن رجل اختلف عليه رجلان  من أهل دينه في أمر كلاهما يرويه أحدهما يأمر بأخذه والآخر ينهاه كيف يصنع. قال (عليه السلام  ): يرجئه حتى يلقى من يخبره فهو في سعة حتى يلقى من يخبره فهو في سعة حتى يلقاه)([255]). المتقدمة في أخبار التخيير وقد عرفت أنها ظاهرة في التخيير.

رابعها: ما في رواية الصدوق في عيون الأخبار الطويلة عن أحمد بن الحسن الميثمي من قوله (عليه السلام  ): (وما لم تجدوه في شيء من هذه الوجوه فردوا إلينا علمه فنحن أولى بذلك ولا تقولوا فيه بآرائكم وعليكم بالكف والتثبت والوقوف وأنتم طالبون باحثون حتى يأتيكم البيان من عندنا)([256]).

خامسها: ما روي عن ا لوسائل باب 9 في صفات القاضي وعن الإحتجاج للطبرسي([257]) عن سماعة بن مهران قال: (سئلت أبا عبد الله (عليه السلام  ) قلت: يرد علينا حديثان واحد يأمر بالأخذ به والآخر ينهانا عنه. قال:  لا  تعمل بواحد منهما حتى تلقى صاحبك فتسأله قلت: لابد من ان نعمل بواحد منهما، قال: خذ بما فيه خلاف العامة)([258]).

سادسها: ما روي عن محمد بن إدريس عن كتاب مسائل الرجال عن موسى بن محمد قال: (كتبت إلى أبي الحسن أسأله عن العلم المنقول إلينا عن آبائكم وأجدادكم فإن اختلف علينا فكيف العمل به على اختلافه والرد إليك فيما اختلف فيه فكتب ما علمتم انه قولنا فالزموه وما لم تعلموا فردوه إلينا)([259]).

سابعها: ما روي عن الشيخ  أبو الحسن بن محمد بن الحسن الطوسي ( رحمه الله ) بإسناده في أماليه عن جابر عن أبي جعفر محمد بن علي (عليه السلام  ) في حديث طويل (وما جاءكم عنا فإن وجدتموه للقرآن موافقاً فخذوا به وإن لم تجدوه موافقاً فردوه وإن إشتبه الأمر عليكم فقفوا عنده وروده إلينا)([260]).

ثامنها: ما حكي عن الوسائل ان محمداً بن علي بن عيسى كتب إليه يسأله عن العلم المنقول إلينا عن آبائك وأجدادك ( عليه السلام   ) فقد اختلف علينا فيه فكيف العمل على اختلافه؟  أو الرد إليك فيما اختلف فيه؟  فكتب (عليه السلام  ): (ما علمتم انه قولنا فالزموه وما لم تعلموا فردّوه إلينا)([261]).

تاسعها: ما في موثقة عبد الله بن بكير المرسلة عن أبي جعفر (عليه السلام  ) في حديث قال: (إذا جاءكم عنا حديث فوجدتم عليه شاهداً أو شاهدين من كتاب الله فخذوا به وإلاّ  فقفوا عنده ثم ردوه إلينا حتى يستبين لكم)([262]). ولا يخفى أنها ظاهرة في بيان  ما هو الحجة من خبر الواحد ويمكن بإطلاقها تشمل المتعارضين.

العاشرة: ما ذكره شارح الكفاية الشيخ محمد علي ( رحمه الله ) ([263]) من الأخبار الدالة على الوقوف عند الشبهة كقول أبي عبد الله (عليه السلام  ): (الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة)([264]). ولا يخفى أنها ظاهرة في التوقف في الشبهة الحكمية ويمكــن ان يستدل بـــإطلاقهـــا على وجوب التوقف عن التعــارض لانه من المشتبه. ولا يخفى عليك ما في هذه الطائفة  فإن المشهور لم يعمل بمضمونها مع انه من ضم بعضها إلى بعض يستفاد منها اختصاص التوقف بزمان الحضور فلا تنافي دلالة أخبار التخيير على التخيير في زمان الغيبة، مضافاً إلى ان أخبار التخيير والترجيح بموافقة الكتاب ومخالفة العامة مقدمة عليها وحاكمة عليها لأنها تثبت ان المعارض حجة فيكون من العلم المنقول إلينا منهم ( عليه السلام   ) ولا يكون الأخذ بأحد المتعارضين تخييراً أو ترجيحاً بموافقة الكتاب أو مخالفة العامة أخذاً بالأمر المشتبه علينا، بل يكون من الرد في معرفة الحكم إليهم ( عليه السلام   ) قال المرحوم الحائري([265]): (إن أخبار التخيير والترجيح تثبت الحجية الفعلية تخييراً أو تعيناً فيخرج مورد هذه الطائفة عن كونه مشتبهاً).

الطائفة الثامنة

أخبار الاحتياط

أخبار الاحتياط والذي عثرنا عليه بعد الفحص:

أولها: ما في مرفوعة زراره بعد فرض الراوي تساوي الخبرين المتعارضين في المزايا المرجحة التي ذكرها الإمام (عليه السلام  ) من قوله: (فخذ بما فيه الحائطة لدينك واترك ما خالف الاحتياط)([266]). ولا يخفى أنها لا يصح التمسك بها وحدها لضعف سندها سلمنا لكن أخبار التخيير مقدمة عليها لأنها تدل على ان الأخذ بأحد الحجتين ليس من الأخذ بخلاف الاحتياط حيث أمر الإمام (عليه السلام  ): فيها بالأخذ بأحدهما من باب التسليم. على ان الظاهر ان الإجماع قائم على عدم وجوب الأخذ بما فيه الاحتياط عند التعارض.

ثانيها: عمومات أخبار الاحتياط كقوله ( صلى الله عليه وآله وسلم): (إحتط لدينك)([267]) ونحوها. وفيه ما لا يخفى فإنها أعم مطلقاً من أخبار التخيير فتخصص بها ولما ثبت في محله ان أخبار الاحتياط لا تدل على الوجوب وإنما هي للإرشاد.

خلاصة المطاف

إن الأخبار الواردة في هذا الباب تدل على التخيير بين الأخبار المتعارضة في زمن الغيبة إلاّ إذا كان أحدهما موافقاً للكتاب أو السنة أو مخالفاً للعامة فإنه يقدم على المعارض له هذا مضافاً بان أخبار الترجيح لو خصص بها أخبار التخيير يلزم حمل أخبار التخيير على الفرد النادر.

 

 

هذا آخر ما خطه قلمه الشريف (قدس سره)

والحمد لله أولاً و آخراً

 

 
 

 

مصادر التحقيق

  1. القرآن الكريم.
  2. أدوار علم الفقه وأطواره، آية الله العظمى الشيخ علي كاشف الغطاء.

دار الزهراء، بيروت، الطبعة الأولى 1399 هـ – 1979 م.

  1. الإحتجاج، أبو منصور، أحمد بن علي الطبرسي.

نشر المرتضى، مشهد، 1403 هـ.

  1. الإستبصار، الشيخ الطوسي (ت: 460 هـ).

         دار الكتب الإسلامية 1390 هـ.ق.

  1. الأمالي، للشيخ الطوسي.

         دار الثقافة للنشر.

  1. بحار الأنوار، العلامة المجلسي (ت: 1110 هـ).

         مؤسسة الوفاء، بيروت، 1404 هـ.

  1. بصائر الدرجات، محمد بن الحسن بن فروخ الصفار (ت: 2901 هـ)، قم، 1404 هـ.
  2. تاريخ الفرق الإسلامية ونشأة علم الكلام عند المسلمين، الأستاذ علي مصطفى الغرابي.

         مكتبة ومطبعة محمد علي صبيح وأولاده.

  1. التهذيب، الشيخ الطوسي (ت: 460 هـ).

         دار الكتب الإسلامية، طهران، 1365 هـ.

  1. شرح الشيخ جعفر على قواعد العلامة ابن المطهر، الشيخ الأكبر الشيخ جعفر كاشف الغطاء (1156 هـ – 1228 هـ).

         الذخائر، 1420 هـ – 1999م.

  1. صحيح ابن حبان البستي، مؤسسة الرسالة.
  2. طبقات أعلام الشيعة، أغا بزرك الطهراني.

         المطبعة العلمية، النجف الأشرف 1374 هـ – 1954م.

  1. عوالي اللئالي، إبن أبي جمهور الأحسائي (المتوفى في القرن العاشر الهجري).

         الناشر دار سيد الشهداء (ع)، قم، 1405 هـ.

  1. عوامل وأهداف نشأة علم الكلام في الإسلام، يحيى هاشم حسن فرغل.

         مجمع البحوث الإسلامية، 1392 هـ – 1972 م.

  1. الغيبة، للشيخ الطوسي.

         مؤسسة المعارف الإسلامية.

  1. فقه الرضا، منسوب للإمام الرضا (عليه السلام  ).

         المؤتمر للإمام الرضا (عليه السلام  )، 1406 هـ، إيران.

  1. قرب الإسناد، عبد الله الحميري.

         نشر مكتبة نينوى.

  1. الكافي، ثقة الإسلام الكليني (ت: 329 هـ).

         دار الكتب الإسلامية، طهران، 1365 هـ.

  1. كشف الغطاء عن ذرو من أحوال سماحة آية الله العظمى الشيخ علي كاشف الغطاء.
  2. كفاية الأصول، للآخوند.
  3. المحاسن، أحمد بن محمد بن خالد البرقي.

         دار الكتب الإسلامية.

  1. مستدرك الوسائل، المحدث النوري (ت: 1320 هـ).

         مؤسسة آل البيت، قم، 1408 هـ.

  1. معالم الدين في أوليات أصول الفقه، أبو منصور جمال الدين الحسن بن الشهيد الثاني، تحقيق عبد الحسين محمد علي البقال.
  2. معارف الرجال في تراجم العلماء والأدباء، الشيخ محمد حرز الدين.

      الناشر محمد حسين حرز الدين، مطبعة الآداب، النجف الأشرف، 1384 هـ، 1964م.

  1. معاني الأخبار، الشيخ الصدوق (ت: 381 هـ).

         مؤسسة النشر الإسلامي، قم، 1403 هـ.

  1. من لا يحضره الفقيه، الشيخ الصدوق (ت: 381 هـ).

         مؤسسة النشر الإسلامي قم، 1413 هـ.

  1. منهج الرشاد لمن أراد السداد، الشيخ جعفر كاشف الغطاء (1156 هـ – 1228 هـ).
  2. الموسوعة العربية الميسرة، إشراف محمد شفيق غربال.

         مؤسسة فرانكلين للطباعة والنشر.

  1. النور الساطع في الفقه النافع، آية الله العظمى الشيخ علي كاشف الغطاء.

         مطبعة الآداب، النجف الأشرف، 1381 هـ – 1961 م.

  1. وسائل الشيعة، محمد بن الحسن الحر العاملي (ت: 1104 هـ).

         مؤسسسة آل البيت، قم، 1409 هـ.

 

 

 

 

/

 

دليل الكتاب

مقدمة  ......................................................................   3

تمهيد  ........................................................................   5

الباب الأول: التعارض  ......................................................   7

الفصل الأول: تعريف التعارض وجهاته وما يحققه ويزيله  ...................   9

المبحث الأول: معنى التعارض لغة  .....................................   9

المبحث الثاني: تعريف التعارض إصطلاحاً  ............................   10

المبحث الثالث: شرح التعريف  .......................................   12

المبحث الرابع: جهات التنافي بين الأدلة  ..............................   16

المبحث الخامس: ما يتحقق به التعارض  ...............................   17

المبحث السادس: إزالة التعارض بالترجيح  ............................   35

الفصل الثاني: أقسام التعارض  ..........................................   37

القسم الأول: التعارض بين دليلين لفظيين  ............................   37

القسم الثاني: التعارض بين الدليلين اللبيين  ...........................   41

القسم الثالث: تعارض لدليل اللبي مع الدليل اللفظي  .................   45

مبحث: تعارض الأصول الأربعة بينها  ................................   47

مبحث: التعارض بين الأمارات والأصول  .............................   47

خلاصة في أقسام التعارض  ...........................................   52

الفصل الثالث: التعارض بين أكثر من دليلين (إنقلاب النسبة)  ............   53

الفصل الرابع: أحكام التعارض  ..........................................   61

مبحث: موارد الجمع بين الدليلين  ....................................   73

مبحث: شرائط الجمع العرفي  .........................................   89

مبحث: حكم المتزاحمين  ..............................................   98

مبحث: وقوع التزاحم في الواجبات الضمنية  .........................   99

مبحث: مرجحات باب التزاحم  ....................................   101

مبحث: التزاحم الملاكي  ...........................................   106

مبحث: طرق إكتشاف تزاحم الملاكين  .............................   108

مبحث: الثمرة في معرفة الملاك  .....................................   109

الفصل الخامس: الموارد التي وقع الخلاف في كونها من التعارض  ........   117

الباب الثاني: التعادل  ....................................................   127

الفصل الأول: تعريف التعادل  .........................................   129

المبحث الأول: معنى التعادل لغة  ...................................   129

المبحث الثاني: تعريف التعادل اصطلاحاً  ............................   129

الفصل الثاني: تعادل الأمارتين  .........................................   131

الحكم الأول: مقتضى القاعدة للمتعادلين  ...........................   132

الحكم الثاني: مقتضى الأخبار للتعادل التخيير  ......................   172

تنبيهات في التخيير  .................................................   176

الفصل الثالث: الأصل في المتعارضين  بناء على السببية تحقيق الحق  ......   197

الباب الثالث: الترجيح  ...................................................   207

الفصل الأول: تعريف الترجيح  ........................................   209

المبحث الأول: معنى الترجيح لغة  ...................................   209

المبحث الثاني: تعريف الترجيح اصطلاحاً  ...........................   209

الفصل الثاني: أحكام الترجيح  .........................................   211

الحكم الثاني: الترجيح بالمزايا المنصوصة  ............................   226

الفصل الثالث: طوائف الأخبار العلاجية التي تخصص أخبار التخيير  .....   259

الطائفة الأولى: الترجيح بالشهرة  ...................................   259

الطائفة الثانية: الترجيح بموافقة الكتاب أو السنة  ....................   263

الطائفة الثالثة: الترجيح بمخالفة العامة  ..............................   270

الطائفة الرابعة: الترجيح بالأحدثية  ..................................   277

الطائفة الخامسة: الترجيح بالأسهل والأيسر  .........................   280

الطائفة السادسة: الترجيح بالصفات  ................................   280

الطائفة السابعة: أخبار التوقف  .....................................   282

الطائفة الثامنة: أخبار الأحتياط  .....................................   285

خلاصة المطاف  .......................................................   286

مصادر التحقيق  ..........................................................   287

 

 


([1]) لسان العرب / ابن منظور /2/736.

([2]) هو الشيخ المحدث فخر الدين بن محمد علي بن أحمد بن علي بن أحمد الطريحي توفى سنة (1087 هـ).

([3]) سورة البقرة /224.

([4]) زبدة الأصول للشيخ البهائي.

([5]) شرح وافية الأصول للعلامة الفاضل التوني شرحها الفاضل الجواد المترجمة في روضات الجنات.

([6]) هو مربي المجتهدين وشيخ الفقهاء الشيخ الأكبر الشيخ جعفر بن الشيخ خضر المشهور بكاشف الغطاء، ولد سنة 1156 هـ وتوفي سنة 1228 ه ـ.

([7]) هم الفقهاء المستنبطون للأحكام الشرعية من الكتاب والسنة فقط وعدم رجوعهم للاجماع والعقل ويقولون بصحة ما جاء في الكتب الأربعة.

([8]) سورة إبراهيم، آية: (4).

([9]) أنظر وسائل الشيعة للحر العاملي ج5 ص499 ب3 حديث 1،2 .

([10]) أنظر وسائل الشيعة للحر العاملي ج7  ص130  باب 4 حديث 1 . من لا يحضره الفقيه للصدوق ج 1  ص142.  التهذيب للطوسي 3/17، 15.

([11]) وسائل ا لشيعة للحر العاملي ج 18  ص85  باب 9  حديث 34.

([12]) هو الشيخ يوسف آل عصفور البحراني إشتهر بكتابه الحدائق الناظرة في أحكام العترة الطاهرة مطبوع في عشرين مجلداً، توفي سنة 1186 هـ.

([13]) هو الشيخ الأغا محمد باقر الشهير بالوحيد ابن المولى محمد أكمل الأصفهاني البهبهاني، ولد سنة (1118 هـ)  وتوفي سنة (1205 هـ). تقلد الزعامة الامامية في عصره واشتهر بتحقيقه وتدقيقه. انظر طبقات اعلام الشيعة / الكرام البررة ج 2  ص 171.

([14]) شيخ الطائفة ابو جعفر محمد بن الحسن بن علي الطوسي ولد سنة (385 هـ)  وتوفي سنة (460 هـ).

([15]) هو الشيخ محمد بن جمال الدين مكي العاملي الجزيني الشهير بالشهيد الاول ولد سنة 734 هـ وتوفي سنة 876 هـ. 

([16]) هو الشيخ الحاج محمد ابراهيم بن محمد حسن الخرساني الكافي الأصفهاني الكلباسي من أعاظم علماء عصره المشاهير (1180 هـ – 1261 هـ). أنظر طبقات أعلام الشيعة / الكرام البررة ج2  ص14.

([17]) هو الشيخ أحمد بن مهدي بن أبي ذر الكاشاني النراقي ولد سنة (1185 هـ) وتوفي سنة (1245 هـ) من علماء الشيعة ومجتهديهم، له تصانيف كثيرة، منها منهاج الوصول إلى علم الأصول مجلدان وعوائد الأيام في قواعد الفقهاء، ومفتاح الأحكام والمستند.

الأعلام ج1 ص260، روضات الجنات ج 1  ص27، الذريعة ج 7 ص152.

([18]) هو الشيخ  الميرزا أبو القاسم بن المولى محمد حسن الجيلاني الشفتي القمي من مشاهير محققي الامامية ولد سنة (1151 هـ) وتوفي سنة (1231 هـ)، لقب بالمحقق القمي. أنظر طبقـــات أعــــــلام الشيعة / الكرام البررة ج 2  ص52.

([19]) صحاح اللغة  لمؤلفه العلاّمة إسماعيل بن حماد الفارابي الجوهري المتوفي سنة 393 هـ. الكنى والألقاب للقمي ج2 ص147.

([20])القاموس المحيط لمحمد بن يعقوب مجداني الفيروز ابادي توفي سنة 817 والمصدر أعلام العرب الدجيلي ج2 ص228.

([21]) الفقيه أبو منصور الحسن بن يوسف بن علي بن المطهر الأسدي المعروف بالعلامة الحلي ولد سنة (648 هـ) المتوفي سنة (726 هـ).

([22]) رأيت في نسخة المخطوطة هذه العبارة: (اني كتبت هذا الفصل وانا في أشد الأحوال من المرض، نسأله العافية والمعافاة 22 رجب سنة 1401 هـ).

([23]) أبو جعفر محمد بن علي بن ابراهيم المعروف بابن أبي جمهور الاحسائي ولد في مدينة الاحساء سنة 840 هـ وبعد حوالي 70 سنة توفي.

([24]) الشهيد الثاني زين الدين بن نور الدين علي بن أحمد بن محمد بن جمال الدين بن تقي الدين بن صالح الشامي العاملي (911 – 965) هـ وهو من كبار علماء الشيعة في القرن العاشر الهجري.

([25]) هو السيد عبد الله بن السيد محمد رضا بن السيد محمد شبر الحسيني الحلي الكاظمي من أعاظم علماء عصره ولد سنة (1188 هـ) وتوفي سنة (1242 هـ)، وأجيز من الشيخ الأكبر الشيخ جعفر كاشف الغطاء وغيره. ألف عشرات الكتب العلمية. أنظر طبقات أعلام الشيعة / الكرام البررة ج2 ص778.

([26]) المرحوم آية الله العظمى الشيخ محمد رضا الشيخ هادي كاشف الغطاء.

([27]) تهذيب الأحكام – للشيخ الطوسي، ج 1 ص2.

([28]) محمد بن علي الموسوي العاملي المتوفي سنة 1009 هـ. أمل الآمل  ج 1   ص167.

([29]) أنظر وسائل الشيعة للحر العاملي/ 14/126، ب: 40، ج: 1، التهذيب/ الطوسي/2/ 112، الاستبصار / الطوسي/3/56.

([30]) أنظر وسائل الشيعة/ الحر العاملي/ 14/126، ب: 40، ج:2-3، التهذيب/ الطوسي/ 2/112، الاستبصار/ 3/56، الفروع /1/393.

([31]) سورة الأنفال، آية: (75).

([32]) سورة إبراهيم، آية: (4).

([33]) أبو بكر ابن الطيب الباقلاني البصري المتوفي عام (403 هـ).

([34]) وهما أبو علي محمد بن عبد الوهاب بن سلام بن خالد بن حمران بن أبان مولى عثمان بن عفان  ولد سنة (235 هـ) وتوفي سنة (303 هـ) وابنه ابي هاشم عبد السلام بن محمد توفي سنة (321 هـ) قبرهما في بغداد، وكلاهما من رؤساء المعتزلة. أنظر الكنى والألقاب /2/126.

([35]) هو السيد صدر الدين بن السيد محمد باقر الرضوي.

([36]) مسند أحمد بن حنبل ج2 ص508، مصباح الأصول ج2 ص477، بلغة الفقيه ج1 ص129، فتح الباري ج13 ص231، عوالي اللئالي ج4 ص22.

([37]) عوالي اللئالي ج4 ص22.

([38]) صاحب أنوار الفقاهة المرجع الديني الشيخ حسن بن الشيخ الأكبر الشيخ جعفر كاشف الغطاء توفي سنة (1262 هـ).

([39]) سورة إبراهيم، آية: (4).

([40]) سورة إبراهيم ،آية: (4).

([41]) أنظر وسائل الشيعة/  18 / 82، ب 9، ج 22، التهذيب/ 6/ 295، علل الشرائع/ 2/ 218، ج4، عيون الأخبار /1/290 ج39.

([42]) وسائل الشيعة / 18/84/ب9/ ج27، معاني الأخبار /1/ج1.

([43]) وهو محمد حسين الغروي الأصفهاني ابن الحاج محمد حسن ولد سنة (1296 هـ) وتوفي سنة (1361 هـ).

([44]) وسائل الشيعة / 18/77/ ب9 ج5، الكافي /1/66/ج7.

([45]) وسائل الشيعة /الحر العاملي/ 18/87/ ب9/ ج39، الإحتجاج /الطبرسي / 270 ط النجف.

([46]) وسائل الشيعة / الحر العاملي/ 18/88/ ب9/ ج44، التهذيب / الطوسي /3/ 228/ ج92، التهذيب / الطوسي/6 / 301/ ج 51.

([47]) وسائل الشيعة/ الحر العاملي/ 7/35/ ب10، ج1، التهذيب/ الطوسي/ 1/ 411، الاستبصار/ الطوسي/ 2/ 97، من لا يحضره الفقيه / الصدوق /2 / 121.

([48]) وسائل الشيعة/ الحر العاملي/ 3/ 327/ ب5/ ج7، المحاسن /372.

([49]) وسائل الشيعة/ الحر العاملي/ 3/327/ ب5/ ج6، الفروع / الكليني / 1/ 110، التهذيب / الطوسي / 1/ 305.

([50]) وسائل الشيعة / الحر العاملي /3 / 326 / ب5/ ج3، من لا يحضره الفقيه/ الصدوق / 1/ 84.

([51]) سورة الأعراف، آية: (204).

([52]) وسائل الشيعة/ الحرالعاملي/ 2/ 944/ ب 6، ج6، ج12، تهذيب/ الطوسي/ 1/ 31، الاستبصار/ الطوسي/ 1/ 135.

([53]) وسائل الشيعة/ الحرالعاملي/ 2/ 945/ ب6/ ج11، تهذيب الطوسي/ 1/ 321.

([54]) علي بن محمد بن علي الطباطبائي الحائري توفي سنة 1231 هـ.

([55]) عضد الدين الآيجي.

([56]) هو أحمد بن محمد مهدي النراقي المتوفي سنة (1245 هـ).

([57])  وسائل الشيعة / 18/ 88/ ب9/ ج42، الاحتجاج/ 195.

([58])  عضد الدين عبد الرحمن أحمد القاضي العضدي الآيجي توفي سنة 756 هـ.

([59])  بحار الأنوار /2/272/باب 23 ما يمكن ان يستنبط من الآيات.

([60]) هو الشيخ محمد كاظم الخراساني (1255 هـ – 1329 هـ) فقيه من مجتهدي الامامية تخرج على يده كثيرون له تصانيف منها الكفاية في أصول الفقه مجلدان وتكملة التبصرة. أنظر الأعلام /7/11، الذريعة /4/412، أحسن الوديعة /180.

([61]) الشيخ عبد الحسين بن الشيخ محمد تقي بن الشيخ حسن بن الشيخ أسد الله الدزفولي الكاظمي، توفي سنة 1336.

([62]) كفاية الأصول للآخوند / مبحث ترجيح ظهور العموم / ص 450.

([63]) وسائل الشيعة/ الحرالعاملي/1/193/ ب 9، ج9، التهذيب/ الطوسي/ 1/7، الاستبصار / الطوسي /1/44.

([64]) وسائل الشيعة / الحرالعاملي/1/192/ ب 9/ ج3، التهذيب / الطوسي/ 1/7، الفروع /الكليني/1/12، من لا يحضره الفقيه/ الصدوق /1/20، الاستبصار /الطوسي /1/44.

([65]) هو المحدث محمد بن علي المشغري العاملي ولد سنة (1033 هـ) وتوفي سنة (1104 هـ).

([66]) كنز الفوائد /164، المصنف /ح 4984، مسند أحمد بن حنبل /1/200، سنن أبي داود/1178  القواعد والفوائد/1/311، الإحتياط/35.

([67]) الشيخ محمد كاظم الشيرازي ولد في شيراز 1292 هـ وتوفي 1367 هـ.

([68]) بحار الأنوار /80/284/ باب 15 مواعظ أمير المؤمنين (D).

([69]) إنتقل الأستاذ وتلميذه إلى جوار الرفيق الأعلى رحمهما الله وأسكنهما فسيح جنانه.

([70]) وقوله (D) ( ويترك الشاذ الذي ليس بمشهور). وقوله (D) ( المجمع عليه عند أصحابك فيؤخذ به من حكمنا) وسائل الشيعة الحر العاملي/18/75/ب9 ح1، من لا يحضره الفقيه/الصدوق/3/5، التهذيب/الطوسي/6/301/ح52، الكافي الكليني/1/67/ ح10.

([71]) بحار الأنوار / 2 / 245 / باب 29، مستدرك الوســــــائل /17 / 303 / باب 9 وجوب الجمع بين الأحاديث.

([72]) هو الشيخ عبد الرحيم بن الشيخ عبد الحسين بن محمد حسين صاحب كتاب الفصول ولد سنة (1334 هـ) وتوفي سنة (1367 هـ).

([73]) وسائل الشيعة/الحر العاملي/19/3/ ب1 / ح3، من لا يحضره الفقيه/ الصدوق/4 /66/ ح 1، تفسير علي بن إبراهيم /159، الفروع/الكليني/7/247/ ح5.

([74])  وسائل الشيعة /الحر العاملي/14/463/ ب14/ ح 1-2، الفروع/الكليني/2/47، التهذيب/ الطوسي/2/188، الاستبصار/الطوسي/3/220.

([75]) الكافي ج 5  ص464 باب تزويج الإماء.

([76]) سورة ا لنساء، آية: (25).

([77]) الإحتجاج الجزء الثاني ص483 .

([78]) محمد بن عبد الله بن جعفر الحميري.

([79]) وسائل الشيعة /6 / 363 /باب 13.

 

 

([80])  لسان العرب/ ابن منظور/ 2/ 706.

([81])  هو الفقيه السيد حسين الحسيني من فقهاء القرن العاشر الهجري له شرح في تهذيب الوصول.

([82])  هو المرجع الديني الفقيه السيد محمد كاظم بن السيد عبد العظيم اليزدي المتوفي سنة  (1337 هـ).

([83]) أحمد بن حنبل بن هلال الشيباني المروزي ولد ببغداد سنة (164 هـ) وتوفي ببغداد سنة (241 هـ).

([84])  هو أبو الحسن الكرخي (حنفي) توفي  340 هـ.

([85]) السيد محمد الطباطبائي.

([86]) هو شيخ الفقهاء وأئمة التقليد والفتيا حسين الغروي بن الشيخ عبد الرحيم الملقب شيخ الاسلام المولود سنة (1273 هـ) والمتوفي سنة (1355 هـ).

([87]) أبو القاسم نجم الدين جعفر بن الحسن الهذلي الحلي المعروف بالمحقق الحلي، ولد سنة (602 هـ) وتوفي سنة (676 هـ).

([88]) القاضي أبو بكر محمد بن الطيب البصري البغدادي ناصر طريقة أبي الحسن الأشعري توفي سنة (403 هـ). أنظر الكنى والألقاب /2/56.

([89]) هو أبو حامد محمد بن محمد بن أحمد الغزالي الطوسي الفقيه الشافعي توفي بطوس سنة (505 هـ).

([90])  هـــو لآية الله العظمى والدنا المرحوم الشيخ علي الشيخ محمد رضا كاشف الغطاء ولد سنة  (1331 هـ) وتوفي سنة  (411 هـ) وكتاب النور الساطع في الفقه النافع طبع في مطبعة الآداب / (1381 - 1961).

([91]) السيد محمد بن محمد تقي بن عبد المطلب التنكابُني ومصنفه الكتاب الموسوم بإيضاح الفوائد / مطبوع / 1358 هـ / مطبعة الاسلامية.

([92]) سورة الإسراء، آية: (78).

([93]) الشيخ مرتضى بن محمد أمين الدسفولي (ت: 1281 هـ )، عاش في النجف الأشرف ومات فيها واشتهر بالشيخ الأنصاري له كتاب (فرائد الأصول) في الأدلة العقلية ويسمى (الرسائل) وله كتاب آخر يسمى (المتاجر) أو (المكاسب) وهو في فقه المعاملات. روضات الجنات / 637.

([94]) وسائل الشيعة / 1 / 388 / باب 15 كيفية الوضوء.

([95]) (القرعة لكل أمر مشكل ومشتبه) هذه قاعدة وليس حديث، جاء في الروضة البهية (ان هذه العبارة لم تصل إلينا مستندة على وجه يعتمد وإن كانت مشهورة. نعم ورد نص في القرعة بان (كل مجهول ففيه قرعة) الروضة البهية / 6 / 293، وسائل الشيعة / 18 / 191 / ح 18، ب13.

([96]) الشيخ محمد تقي بن محمد رحيم الأصفهاني صاحب الحاشية على المعالم التي سماها (هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين.

([97]) هو فقيه عصره ومرجع الطائفة الامامية في زمانه الشيخ جعفر بن الشيخ خضر المشهور بكاشف الغطاء ولد (1156 هـ) والمتوفي سنة 1228 هـ).

([98]) هو الشيخ محمد حسين الأصفهاني المتوفي سنة 1261 هـ.

([99]) وسائل الشيعة / 18 / 87 / ب9  ح40، الاحتجاج / 195.

([100]) وسائل الشيعة / 18 / 87 / ب9  ح39، الاحتجاج / 195.

([101]) وسائل الشيعة / 18 / 88 / ب9  ح 42.

([102])  وسائل الشيعة / 18 / 88 / ب9  ح 44، التهذيب / 3 / 228 / ح92.

([103]) وسائل الشيعة / 27 / 132 / ب9  ح 77.

([104]) أنظر وسائل الشيعة / 18 / 80 / ب9  ح19، الكافي / 2 / 22 / ح4.

([105]) عوالي اللئالي ج1  ص395.

([106])  وسائل الشيعة / 18 / 75 / ب9 ح2، الكافي /  1 / 67 / ح10، التهذيب / 6 / 301 / ح52، من لا يحضره الفقيه / 3 / ب5, الاحتجاج 194.

([107])  الاحتجاج / 195، وسائل الشيعة / 18 / 87 / ب9 / ح41.

([108]) معالم الدين / خاتمة في التعادل والتراجيح  ص 465.

([109]) أحمد بن حسين التفريشي.

([110]) عوالي اللئالي / 4 / 133، بحار الأنوار / 2 245 / باب 29 علل اختلاف الأخبار، مستدرك الوسائل / 17 / 303 / باب 9 وجوب الجمع بين الأحاديث المختلفة.

([111]) للشيخ رضي الدين رجب بن محمد بن رجب البرسي الحلي. ولد بالحلة ولقب بالحافظ وبالمحدث الصوفي توفي قريباً من سنة (813 هـ).

([112])  هي الكـــــافي للشيخ الكليني ومن لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق والتهذيب والاستبصار للشيخ الطوسي.

([113]) هو العالم الفقيه الأصولي أبو الحسن بن عبد الحسين الأردبيلي ولد سنة (1305 هـ) وتوفي سنة 1358 هـ) له عدة مصنفات منها حاشية الكفاية والفوائد الرجالية وغيرها.

([114]) عوالي اللئالي / 4 / 133, بحار الأنوار / 2 / 245 / باب 29 علل اختلاف الأخبار، مستدرك الوسائل / 17 / 303 / باب 9.

([115]) وسائل ا لشيعة / 18 / 87 / ب9 ح39، الاحتجاج / 195.

([116]) سورة المائدة، آية: (4).

([117]) وسائل الشيعة/ 18 / 77 /  ب9 / ح5، الكافي /  1 / 66 / ح7.

([118]) وسائل الشيعة / 18/ 87 / ب9 / ح41، الاحتجاج / 195.

([119]) وسائل الشيعة / 18 / 80 / ب9 / ح19، الكافي / 1 / 8.

([120]) كفاية الاصول للآخوند / فصل إختصاص قواعد التعادل  ص449.

([121]) للسيد إبراهيم بن السيد محمد باقر القزويني الحائري المدرس الوحيد في عصره ومن أعاظم العلماء المحققين، درس الفقه على يد الشيخ موسى بن الشيخ جعفر كاشف الغطاء، وله تصانيف هــامة أهمها كتـــاب الضوابط في الأصول وقـــد شرحه تلاميـــذه، ولد سنة  (1214 هـ) وتوفي سنة  (1262 هـ). أنظر طبقات أعلام الشيعة / الكرام البررة / 2 / 10.

([122]) محسن بن حسن الحسيني الأعرجي الكاظمي توفي سنة 1227 هـ.

([123]) بحار الأنوار / 11 / 56 / باب 1 معنى النبوة وعلة بعثة الأنبياء.

([124]) نسبة إلى أبي الحسن الأشعري مؤسس المذهب الكلامي الذي ينسب إليه الذي يعارض المعتزلة ومذهب العدلية وأصبح مذهباً لأهل السنة.

([125]) لسان العرب / ابن منظور / 1 / 1125.

([126]) وسائل الشيعة /  1 / 469، التهذيب /  1 /  33،  الفروع /  1 / 15، الاستبصار /  1 / 54.

([127]) صحيح إبن حبان / ج8  ص261.

([128]) وهو العالم الحجة محمد بن علي بن الحسين القمي المعروف بالشيخ الصدوق ولد سنة 305 هـ وكانت وفاته سنة 381 هـ.

([129]) الشيخ فرج الله بن الشيخ فرج الله بن الشيخ إسماعيل بن الشيخ علي تقي التبريزي الخياباني. معارف الرجال ج2 ص156.

([130]) هو الفقيه حبيب الله بن الميرزا محمد علي خان اسماعيل الكيلاني ولد سنة (1234 هـ) وتوفي سنة (1312 هـ).

([131]) كنز الفوائد /  164، المصنف/ ح4984، مسند أحمد بن حنبل /1/200، سنن أبي داود / 1178. وسائل الشيعة / 27 / 167 / باب 12 باب وجوب التوقف والاحتياط.

([132]) أوثق الوسائل في شرح الرسائل ميرزا موسى بن جعفر بن أحمد التبريزي توفي سنة 1305 هـ.

([133]) وسائل الشيعة /الحرالعاملي/18/75/ب: 9، ح: 1، الكافي /   /1/67/ح: 10، من لا يحضره الفقيه / 3 / 5، التهذيب / 6 / 301 / ح52.

([134]) تفسير العياشي / 1 / 9 / ح7، وسائل الشيعة /18 / 89 / ب 9 / 48.

([135]) سبق تخريج الحديث.

([136])  سورة السجدة، آية: (18).

([137])   سورة الزمر، آية: (9).

([138]) وسائل الشيعة / 18 /  81 / ب9 ح21، عيون الأخبار / 2 / 20 / ح 45.

([139]) هو الشيخ أبو جعفر محمد بن يعقوب الكليني المتوفى سنة (329 هـ). وله كتاب الكافي وهو من الكتب الأربعة للحديث المعتمدة عند الشيعة.

([140]) وسائل الشيعة / 18 / 87 / ب9 / ح 40.

([141]) بحار الأنوار / 2 / 221 /باب 29 علل اختلاف الأخبار.

([142])  الكافي/ 1 / 67  ح 10.

([143]) أنظر معجم رجال الحديث/ الخوئي/ 13/ 31/ رقم المحدث (8425).              

([144]) أنظر معجم رجال الحديث /الخوئي /13/31/رقم المحدث (8425).

([145]) قال السيد الخوئي (إن الرواية ضعيفة السند فإن يزيد بن خليفة واقفي لم يوثق فلا يصح الاستدلال بها على شيء). معجم رجال الحديث/الخوئي/13/31/رقم المحدث (8425).

([146]) الكافي /1/67.

([147]) التهذيب / الطوسي/ 6 / 301.

([148]) من لا يحضره الفقيه / الصدوق / 3 / 5.

([149]) الاحتجاج /الطبرسي / 194.

([150]) وسائل الشيعة/ الحرالعاملي/18/75/ب 9، ح 1.

([151]) سورة النساء، آية: (60).

([152]) وسائل الشيعة/ الحر العاملي/ 18/75/ ب 9 ح 1.

([153]) عوالي اللئالي / 4 / 133، بحار الأنوار / 2 / 245 / باب 29 علل إختلاف الأخبار، مسترك الوسائل/ 17 / 303 / باب 29 وجوب الجمع بين الأحاديث المختلفة.

([154]) أنظر وسائل الشيعة/ الحرالعاملي/ 1 /  321/ب 37  ح (3،4)، التهذيب/ الطوسي/ 1 / 102، الاستبصار/ الطوسي/1  / 39.

([155]) وسائل الشيعة/ الحرالعاملي/ 18/ 75.

([156]) وسائل الشيعة / 27 / 106 / باب 9 وجوب الجمع بين الأحاديث المختلفة.

([157]) وسائل الشيعة / 27 / 106 / باب 9 وجوب الجمع بين الأحاديث المختلفة.

([158]) وسائل الشيعة / 27 / 106 / باب 9 وجوب الجمع بين الأحاديث المختلفة.

([159]) وسائل الشيعة / 27 / 157 / باب 12 وجوب التوقف والأحتياط.

([160]) وسائل الشيعة / 27 / 106 / باب 9 وجوب الجمع بين الأحاديث المختلفة.

([161]) الشيخ ضياء الدين علي بن محمد العراقي (ت 1361 هـ) / طبقات أعلام الشيعة / نقباء البشر في القرن الرابع عشر / ج 1 / ق 3 / 956 – 959.

([162]) وسائل الشيعة / 18 / 81 / باب 9 / ح21.

([163]) وسائل الشيعة/ الحرالعاملي/1 / 125/ ب 14.

([164]) التهذيب / الطوسي/ 1 /318، وسائل الشيعة / الحرالعاملي/3 / 240.

([165]) الرواية ليس بهذا النص وإنما بالمضمون، وسائل الشيعة/ الحرالعاملي/2/1053 / ب 1/ ح 1.

([166]) هو أبو القاسم الحسين بن روح النوبختي المتوفى سنة (326 هـ) السفير الثالث من السفراء الأربعة بين الإمام الثاني عشر الحجة بن الحسن (عجل الله فرجه وسهل مخرجه) وشيعته.

([167]) الكافي / 1 / 66 / ح7، وسائل الشيعة / 18 / 77 / ب9 / ح 9.

([168]) لسان العرب/ ابن منظور / 1 / 1123.

([169]) سورة التوبة، آية: (106).

([170]) سورة الأحزاب، آية: (51).

([171]) سورة الأعراف، آية: (109).

([172]) أنظر وسائل الشيعة / 18/77.

([173]) وسائل الشيعة / 24 / 90 / باب 38.

([174]) سورة النازعات، آية: (25).

([175]) سورة النساء، آية: (153).

([176]) سورة التوبة، آية: (104).

([177]) سورة التوبة، آية: (103).

([178]) لسان العرب / 1/ 27.

([179]) وسائل الشيعة / 18/77/ ب 9، ح 5، الكافي / 1 / 66 / ح 7.

([180]) المصدر السابق.

([181]) وسائل الشيعة / 27/ 108 / باب 9 وجوه الجمع بين الأحاديث.

([182]) الإحتجاج / ج2  ص357.

([183]) وسائل الشيعة / 18/ 88/ ب 9  ح 41، الاحتجاج / الطبرسي/ 195.

([184]) الغيبة / للشيخ الطوسي / ص 378.

([185]) وسائل الشيعة / 18/ 87/  ب 9  ح 39، أيضاً وسائل الشيعة / 40 / 967، الاحتجاج / 270، الغيبة / 247.

([186]) عيون  الأخبار / 2 / 20/ ح 45، وسائل الشيعة / 18/ 82/ ب 9، ح 21.

([187]) وسائل الشيعة / 18/ 87/ب 9، ح 39.

([188]) وسائل الشيعة / 18/ 87/ ب 9 ح 40، الاحتجاج /195.

([189]) وسائل الشيعة / 27 / 110 / باب 9 وجوه الجمع بين الأحاديث.

([190]) الاحتجاج / 2 / 355، معاني الأخبار / 156.

([191]) فقه الرضا / 191 / باب 27 الحيض والاستحاضة والنفاس.

(9) مستدرك الوسائل / 17 / 305 / باب 9 وجوب الجمع بين الأحاديث المختلفة، تفسير العياشي / 1 / 12.

([193]) سورة  ص، آية: (39).

([194]) سورة الحشر، آية: (7).

([195]) بصائر الدرجات / 383 / باب 5 فيما فوض إلى رسول الله.

([196]) الكافي / 1 / 65.

([197]) التهذيب / 2 / 252 / باب 13 باب المواقيت.

([198]) الكافي / 1 / 66 / ح7.

([199]) الكافي / 1 / 67 / ح 9، وسائل الشيعة / 18 / 78 / باب 9 / ح 8.

([200]) المصدر السابق نفسه.

([201]) فقه الرضا / 191 / باب 27 الحيض والإستحاضة والنفاس.

([202]) عوالي اللئالي ج4  ص133.ٍ

([203]) ومن لا يحضره الفقيه / 3 / 5 / ح 17، وسائل الشيعة / 18 / 80 / باب 9 / ح 20.

([204]) التهذيب / 6 / 301 / ح 51، وسائل الشيعة / 18 / 88 / 920 / ح 45.

([205]) الإحتجاج / ج2  ص358.

([206]) وسائل الشيعة / 8 / 240 / ب 24 / ح 35.

([207]) وسائل الشيعة / 18 / 76 / ب 9 / ح 1.

([208]) الكافي / 1 / 69 / ح 1، المحاسن / 226 / ح 150، الأمالي / 221 / ح 3، وسائل الشيعة / 18 / 78 / 97 / ح 10.

([209]) الكافي / 1 / 69 / ح 4، وسائل الشيعة / 18 / ب 9 / ح 12.

([210])  معاني الأخبار / ص 156.

([211]) الكافي / 1 / 69 / ح 5، المحاسن / 221 / ح 130، وسائل الشيعة / 18 / 79/ ب 9 / ح 12.

([212]) عيون الأخبار / 2 / 20 / ح 45 ، وسائل الشيعة / 18 / 81 / ب 9 / ح 21.

([213]) وسائل الشيعة / 18 / 84 / ب 9 / ح 29.

([214]) وسائل الشيعة / 18 / 86 / ب 9 / ح 35.

([215]) الاحتجاج / 195، وسائل الشيعة / 18 / 87 / ب9 / ح 40.

([216]) تفسير العياشي / 1 / 9 / ح 6، وسائل الشيعة / 18 / 89 / ب9 / ح 47.

([217]) تفسير العياشي / 1 / 9 / ح 7، وسائل الشيعة / 18 / 89 / ب9 / ح 48.

([218]) الإحتجاج / ج2 / ص 446.ٍ

([219]) قرب الإسناد / ص 44.

([220]) الوسائل / 27 / 111 / ب9  ح48.

([221]) بحار الأنوار / ج2 / ص 249.

([222]) المحاسن / ج1 / ص 229.

([223]) المحاسن / ج1  / ص 221 / باب الإحتياط في الدين.

([224]) المحاسن / ج1  / ص 221 / باب الإحتياط في الدين.

([225]) الإحتجاج / ج2 / ص 450.

([226]) مستدرك الوسائل / ج17 / ص 304 باب وجوه الجمع بين الأحاديث المختلفة.

([227]) وسائل الشيعة / 1 / 48 / ب5  ح 88.

([228]) الكافي / 1 / 67 / ح 10، التهذيب / 6 / 301 / ح 52، من لا يحضره الفقيه / 3 / 5، الاحتجاج / 194، وسائل الشيعة / 18 / 76 / ب 9 / ح 1.

([229]) بحار الأنوار / ج2 / ص 245 / باب علل إختلاف الأخبار.

([230]) وسائل الشيعة / 18 / 84 / ب 9 / ح 29.

([231]) وسائل الشيعة / 18 / 85 / ب 9 / ح 30.

([232]) وسائل الشيعة / 18 / 85 / ب 9 / ح  31.

([233]) وسائل الشيعة / 18 / 85 / ب 9 / ح 34.

([234]) الاحتجاج / 195، وسائل الشيعة / 18 / 88 / ب 9 / ح 42.

([235]) وسائل الشيعة / 18 / 88 / ب 9 / ح 46.

([236]) وسائل الشيعة / 27 / 115 / باب 9 وجوه الجمع بين الأحاديث.

([237]) وسائل الشيعة / 27 / 116 / باب 9 وجوه الجمع بين الأحاديث.

([238]) معالم الدين في أوليات أصول الفقه / أبو منصور جمال الدين الحسن بن الشهيد الثاني ص469

([239]) للسيد محمد جواد بن السيد محمد بن محمد العاملي الشقرائي النجفي من كبار علماء الإمامية وفطاحل فقهائهم ولد سنة (1160 هـ) وتوفي سنة (1226 هـ) درس على السيد مهدي بحر العلوم والشيخ الأكبر كاشف الغطاء والشيخ حسين نجف، وأشهر آثاره كتاب مفتاح الكرامة في شرح قواعد العلامة وهو في إثنين وثلاثين مجلداً ألفه بأمر أستاذه كاشف الغطاء أيام إشتغاله عليه كما صرح به في أوله قال: أمتثلت فيه أمر أستاذي الأمام العلامة الحبر الأعظم الشيخ جعلني فداه ... إلى آخره.

وقد صرح  في آخر بعض مجلداته أنه فرغ والوهابي محاصر للنجف الأشرف وأهلها مشغولون مع سائر العلماء بالدفاع. أنظر طبقات أعلام الشيعة / الكرام البررة / 2 / 286.

([240]) وهم أتباع مالك بن أنس بن مالك بن عامرة الأصبحي ولد سنة (93 هـ) وتوفي سنة (179 هـ)، وكان يعتمد في فتاويه على عمل أهل المدينة بعد الكتاب والسنة الشريفة.

([241]) وهم أتباع أبو حنيفة النعمان بن ثابت بن زوطي بن ماه المولود سنة (80 هـ) بالكوفة تفقه فيها وتوفي في بغداد سنة (150 هـ) وهو إمام أهل القياس.

([242]) سورة النساء، آية: (23).

([243]) وسائل الشيعة / 18 / 247 / باب 4.

([244]) الكافي /  1 / 64 / ح2، وسائل الشيعة / 18 / 77 / ب9 / ح 4.

([245]) وسائل الشيعة / 27 / 208 / باب 64.

([246]) الكافي / 1 / 67 / ح 8، وسائل الشيعة / 18 / 77 / ب9 / ح 7.

([247]) الكافي / 1 / 67 / ح 9، وسائل الشيعة / 18 / 78 / ب 9 / ح 8.

([248]) الوسائل / 8 / 310 / ب 10 ح 50.

([249]) الكافي / 1 / 67 / ح 9، وسائل الشيعة / 18 / 78 / ب 9 / ح 9.

([250]) بحار الأنوار / 2 / 242 / باب 29 علل إختلاف الأخبار.

([251]) الكافي / 1 / 67 / ح 10، التهذيب / 6 / 301 / ح 52. من لا يحضره الفقيه / 3 / 5، الإحتجاج / 194، وسائل الشيعة / 18 / 75 / ب9 / ح 1.

([252])  من لا يحضره الفقيه / 3 / 5 / ح 17، التهذيب / 6 / 301 / ح 50، وسائل الشيعة / 18 / 80 / ب 9 / ح 20.

([253]) التهذيب / 6 / 301 / ح 51، وسائل الشيعة / 18 / 88 / ب 9 / ح 45.

([254]) وسائل الشيعة / 18 / 75 / ب 9 / ح 1.

([255]) الكافي / 1 / 66 / ح7، وسائل الشيعة / 18 / 77 / ب9 / ح 5.

([256]) عيون الأخبار / 2 / 20 / ح 45، وسائل الشيعة / 18 / 81 / ب 9 / ح 21.

([257]) وسائل الشيعة / 27 / 113 / ب9  ح75.

([258]) الاحتجاج / 195، وسائل الشيعة / 18 / 88 / ب 9 / ح 42.

([259]) وسائل الشيعة / 27 / 119 / ب9  ح69.

([260]) الأمالي للطوسي / ص 231.

([261]) وسائل الشيعة / 18 / 86 / ب 9 / ح 36.

([262]) الكافي / 2 / 262 / ح 4، وسائل الشيعة / 18 / 80 / ب 9 / ح 18.

([263]) كفاية الأصول / المقصد السابع ص 435.

([264]) وسائل الشيعة / 18 / 86 / ب 9 / ح 25.

([265]) هو الشيخ عبد الرحيم بن الشيخ عبد الحسين بن محمد حسين صاحب كتاب الفصول ولد سنة (1334 هـ) وتوفي سنة (1367 هـ).

([266]) عوالي اللئالي / 4 / 133، مسترك الوسائل / 17 / 303 / 9 باب الجمع بين الأحاديث المختلفة.

([267]) بحار الأنوار / 2 / 258 / باب 31 التوقف عند الشبهات والأحتياط.

 

 
 
البرمجة والتصميم بواسطة : MWD